|
عثمان حميدة ...ناشط حقوقى هميم ومثثقّف مُتعدّد المعارف والإهتمامات .. كيمياء وديالكتيك العام والخاص
|
بقلم : فيصل الباقر أوّل ما ألتقيت عثمان حميدة ، فى العمل العام ، كان ذلك فى براح أزمنة ومناخات إستعادة الحُريّات لشعبنا العظيم ، عقب إنتصار إنتفاضته المجيدة فى مارس/أبريل 1985 ، كان عُثمان- وقتها - ناشطاً سياسيّاً ، مُنخرطاً بقوّةٍ وصبرٍ دؤوب فى النضال الجسور، ضمن الشباب المُتوثّب لتحقيق أهداف الإنتفاضة التى أسقطت الدكتاتوريّة المايوية ، كما كان باحثاً إقتصاديّاً، مُتّقد الذهن، ومتمكّناً من كثير من المعارف الإنسانيّة ، التى أكتسب بعضها - بلا شك- عبر الدراسة الأكاديميّة ، فى جامعة الخرطوم ، وجُلّها عبر التثقيف الحزبى والتثقيف الذاتى والمُثاقفة مع الأصدقاء والآخرين المُختلفين .. يومها كان الزميل عثمان يُسهم بجهده الفكرى فى جبهة الإقتصاد والإقتصاد السياسى الماركسى ، عبر وجوده الفاعل فى هيئة حزبيّة، تعنى بشئون الإقتصاد وقضايا الإصلاح الإقتصادى فى السودان ، وكنت يومها صحفيّاً شابّاً فى (الميدان )، ألتقيه بصورة راتبة ، فى إجتماعات الهيئة البرلمانيّة ، المُخصّصة للمسألة الإقتصاديّة ، حيث كان يسهم بجهده الفكرى، ضمن كوكبة من المناضلين من بينهم د.عزالدين على عامر ومحمد إبراهيم نقد ومحمد صالح إبراهيم، وثلاثتهم أعضاء فى الهيئة البرلمانية للحزب ، وعدد من أعمدة اللجنة الإقتصاديّة ، ومنهم ، د. فاروق كدودة و د. صدقى كبلُّو وأبوزيد محمد صالح وآخرين ، وقد كان عثمان- وقتها- أصغرهم سنّاً، ويسهم بجهدٍ مُقدّر فى تسيير الأعمال اليوميّة للهيئتين ، إلى جانب زملاء آخرين. ظلّ عثمان حميدة مُحبّاً للمعرفة والقراءة المُتعمّقة ، وبقى يتمتّع بفضيلة العقل النقدى ، الذى لا يستسلم فى المعرفة ، للثوابت والوصفات الجاهزة ، والمُسلّمات والجمود الفكرى ، وقد حافظ - على مدى أكثر من عقدين ونيف - عرفته فيها عن قُرب- على فضيلة مراعاة أدب الإختلاف الفكرى والسياسى و" المزاجى " ، كما حافظ على عاداته الجميلة فى الإطلاع ونشر المعرفة والكتاب الجديد ، فهو موزّع جيّد ، وناقل مخلص للكتب الجديدة ، عبر البلدان والقارّات، إذ لا تخلو حقيبته - فى كُل أسفاره - من جديد المطبوعات، وبخاصّة جديد المكتبة السودانيّة ، التى يُنتجها باحثون وأكاديميون سودانيون وناشطون فى الدياسبورا السودانية ، وقد كان شديد الإعتناء والإنتقاء فى عمليّة إدارة توزيع الكتب ، بحيث يوصلها لمن يتعشّم فيهم/ن الإستفادة منها ، وليس من يكتفون بمجرّد وضعها زينة فى أرفف المكتبات المنزليّة ..ويعود لعثمان حميدة ، الفضل الأكبر والأوّل ، فى أن تيسّر لنا ولغيرنا من أصدقاء المنافى القريبة والبعيدة ، قراءة جديد الدكتورة فاطمة بابكر محمود ( الجنس والجنسانيّة وإستغلال المرأة السودانيّة ) " إصدار: معهد البديل الأفريقى – لندن– المملكة المتحدة – 2012 " وجديد الدكتور محمد محمود (نبوة محمد – التاريخ والصناعة – مدخل لقراءة نقدية ) إصدار " مركز الدراسات النقدية للأديان - 2013 " ، إلى جانب عشرات الكُتب والمطبوعات الجديدة - دوماً - فى مجالات معارف حقوق الإنسان ، وبخاصّة المرتبطة بجوانب فلسفة وعالمية حقوق الإنسان ، وبقضايا الديمقراطية والسلام والعدالة الوطنية والإنتقالية والدوليّة. بعد إنقلاب 30 يونيو 1989، أخذ المُعتقل عثمان حميدة ، مثل مناضلين كثيرين ، نصيبه وحظّه من التعذيب فى بيوت أشباح النظام ، و ذاق طعم مرارة الفصل التعسُّفى والتشريد من العمل ، ولكن ، ذلك القهر والقمع المتواصل ، لم يفت من عضده ، إنّما واصل نضاله فى الداخل، ثمّ فى الخارج - لاحقاً- حينما قذفت به الأقدار، للمنافى البعيدة ، فى المملكة المُتّحدة ، وبقى مرتبطاً بالوطن وبقضيّة حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب .. و حين إلتحاقه بالعمل الإدارى الإحترافى فى مجال حقوق الإنسان، بالعاصمة البريطانية لندن، مديراً تنفيذيّاً فى المجموعة السودانية لضحايا التعذيب ( إس فى تى جى) ، والتى أصبحت - لاحقاً - المنظمة السودانية لمناهضة التعذيب (سوات ) ، وجدنى - وقتها - راصداً للإنتهاكات ، وناشطاً مُتطوّعاً من السودان ، فتواصلت رحلتنا الثُنائيّة فى العمل المُباشر مع بعضنا البعض ، لسنوات طوال ، كان الفاكس وقتها وسيطنا والهاتف الثابت حليفنا ، إلى أن دخل فى بند مُعينات العمل ، الموبايل والكمبيوتر على خطوط التواصل اليومى بيننا ، وكان عثمان ، هو بالفعل مهندس إنشاء مركز الخرطوم لحقوق الإنسان ومركز الأمل لعلاج ضحايا العنف والتعذيب ، ثُمّ أسّس لاحقاً، المركز الإفريقى لدراسات العدالة والسلام ، فى 6 أبريل 2009 ، فى اللحظة التاريخيّة المناسبة ، وهذا يُشير إلى ذكائه وقدرته العالية فى صناعة وخلق المُبادرات ، التى تنفع الناس ، وحُسن إدراكه للحكمة اللينينيّة القائلة " التنظيم أرقى أشكال الوعى " . ظلّت تربطنى بعثمان حميدة ، زمالة عمل صعب وكفاح مشترك ، وصداقة حقّة ومُتجذّرة ، وعلاقة عمل قويّة لا تعرف المُجاملة ، فقد كان " حقّانيّاً " ، بكل ما تعنيه الكلمة ، لا يعرف المُحاباة ، ومُنصفاً للجميع ، ومع ذلك ، يعرف المحافظة على الصداقة والوُد المُشترك ، ويُدرك قيمة الإلتزام بأُسس علاقات العمل النضالى ، وعلاقاته الشائكة ، ويفهم و يستوعب - تماماً - أسرار كيمياء وديالكتيك العام والخاص ، فقد كُنّا نعمل معاً فى ظروف صعبة ، وقد كان يتمتّع بطاقة مُذهلة ، لا مثيل لها ، يعمل ليلاً ونهاراً ، بلا كلل ولا ملل ، ويبدأ - دوماً - من حيث إنتهى " السابق " ويفهم علم وفن إقتصاديات اللغة ، فيوصل أفكاره للأخرين ، بأيسر العبارات وأقصر الطُرق .. وقد تعلّمت منه الكثير، ومن بين ما اكتسبت من العمل معه وعن قُرب ، أُصول وفنون العمل الإحترافى ، فى مجال حقوق الإنسان ، وأدركت بعض أسراره ، بفضله ، كما تعلّمت منه الكثير، " بيان بالعمل " ، فى معرفة مناهج المُناصرة وبناء التحالفات والتشبيك ، وغيرها من فنون وعلوم رصد الإنتهاكات ، وتوثيقها والإبلاغ عنها، بصورة أكثر إحترافيّة ومهنية ، جعلت من ( سوات ) وأذرعها المُساعدة ، فى عهده ، الأولى والأجدر فى مجالها. مع عثمان حميدة ، دخلت لأوّل مرّة فى حياتى ، مبانى لجنة حقوق الإنسان ( أصبحت لاحقاً ، مجلس حقوق الإنسان) بجنيف، وتوهّطت فى مُداولاتها ، وبصحبته ، جُلت فى ردهات البرلمان البريطانى ، وقابلت معه ، العشرات من الشخصيات العالميّة، ونلت بفضله أهم الدورات التدريبيّة والتأهيليّة فى مجال حقوق الإنسان ، ومناهضة التعذيب ، وبجهده إستلمت وزميل آخر ، جائزة ( الوردة الفضيّة ) ، فى بروكسل ، عن منظمة ( سوات ) بإسم مُدافعى وحركة حقوق الإنسان فى السودان ، وقد ظلّ - دوماً وأبداً- نِعم القائد و" الكادر القيادى " ، وظلّ حريصاً على إستشارة أعضاء الفريق العامل معه، فى الكثير من الإنشطة التى ينوى إقامتها أو يكون طرفاً فيها ، ويصل لخطط العمل ، عبر آليّة ممتازة من التشاور والمُشاركة الجماعيّة ، كما ظلّ يُرشّح - عن ثقة ودراية - زملاء وزميلا ت العمل والنضال المُشترك ، وغيرهم من الناشطين والناشطات ، للمُشاركة فى أنشطة عالمية أو إقليميّة فى كثيرٍ من البلدان . وقد كان هذا المنهج الراقى والفهم المُتقدّم ، فى تدريب وتأهيل " الكادر " أُسلوباً مُتّبعاً فى منهجه ، و لم يكن حكراً على نفرٍ بعينه ، إنّما كان ينطبق على كُل أعضاء وعضوات الفريق الذى يعمل معه ، وكان يوزّع فرص التدريب والتاهيل وبناء وتطوير القرات ، بالقسطاط المُستقيم ، وبمعرفة حقيقيّة ودقيقة ، بمقدرات وخبرات الكادر، وعلى " خير و بركة " ، ( من كُلّ حسب .... ولكلٍّ .............. ) ، .فيله من قائدٍ حكيم ومستنير. مواقف وطرائف كثيرة ، جمعتنى مع عثمان ، إذ كان معروفاً عنه ، أنّه حريص على " التامين " ، و فنون " الخُطّة والخُطة البديلة ".. وما زلت أذكرذلك اليوم الذى ، كان فيه عثمان عائداً للسودان فى أوّل زيارة له ، بعد سنوات ، وكُنت قد رتّبت بالإتفاق معه ، خُطّة إستقباله فى مطار الخرطوم ، وكُنت ومعى آخر ، من أُسرته ، فى إنتظاره ، خارج الصالة ، فى اليوم والزمان المُحدّدين ، وقد كلّفت أحد " مصادرى " / معارفى من العاملين فى المطار بإحسان إستقباله وإستلامه بمُجرّد دخوله، صالة الوصول ، وتسريع إجراءات خروجه، حتّى لا يحدث ما لا نتمنّاه ولا يُحمد عقباه ، وبالفعل عرفه الشخص وذهب نحوه وسأله هل أنت عثمان حميدة ؟، وليطمئنه ، قال له " أنا قريب فيصل "، فآثر عثمان " الإنكار " ، وعاد الرجل إلىّ بخُفّى حُنين ، وما أن أخبرنى ، بالقصّة ، خرجت مُتشكّكاً ومذهولاً ، فإذا بى أُفاجأ بأنّ عثمان قد " عبر الجسر" ، و كاد أن يُكمل ، إجراءات تاجير عربة أُجرة ، لتقلّه ، إلى منزل الاُسرة بأحد أحياء الخرطوم . من عادات عثمان ، الإنغماس و " السرحان " فى بطون الكُتب والروايات ، فى المطارات ، فكان فى بعض الأحايين ، يسرقه الوقت ، حالة كونه " غاتس " فى كتاب، فتتركه - أحياناً - الطائرة المُغادرة ، ضيفاً على الترانزيت ، ليبدأ مُعاناة اللحاق ، والسباق مع الزمن ، حيص تكون فى إنتظاره مهاماً وترتيبات نضالية فى مكانٍ آخر من العالم الفسيح. ظلّ عثمان مُحبّاً مُخلصاً للطرب " النضيف " والغناء والموسيقى وعاشقاً ولهاً بالفنون والآداب ، فإلى جانب علاقته الراسخة بالغناء العالمى والسودانى الحديث ، ظلّ عثمان حميدة " قُشابيّاً "، حافظاً ومُردّداً فى ساعات الصفاء ومجاس الأُنس اللطيف، لأشعار وغناء منطقة الشايقيّة ،يُجيد الحديث بلكنة شايقيّة حبيبة إلى نفسه ، المُحبّة للفنون والآداب ، وكان لا ينسى أبداً أن ينادينى مُحيّياً فى كُلّ مرّة نلتقى فيها بما فى ذلك اللقاءات التى تتم عبر التلفون ، بمحبّة عالية بعبارة ( القصيّر.. خيت الشلّة )، ولا ينسى أبداً أن يسألنى عن حال البلد وحالى وأحوالى وأحوال إبنى عمّار وزوجتى منى شاشوق ، وكان يناديها - دوماً- بعبارة " بت شاشوق " ، هذا اللقب العائلى الودود ، وكُنت وظللت أرد على تحيّته بمثلها ( حباب قُرام الطير ) ، وأساله عن " عزُّوز والشباب " كما يحلو له مُناداة زوجته عزّة مالك ، وإبنيه ( نايل ) و (راين ) . إلتقيته آخر مرّة فى أبريل 2014، فى نيروبى ، التى وصلها فى مهمة عمل ، وكالعادة، إستعدنا ذات فصول المؤانسات الحبيبة إلى النفس ، وقد دخل فى واحدة من ليالي البرد الكينى، مستشفى ( أغا خان)، يشكو من علّة أصابت قلبه الكبير ، وقد شرّفنى بأن بقربه منذ لحظات إحضاره المستشفى برفقة زملاء وزميلات النضال المُشترك ، تحفُّه كوكبة من الأصدقاء والصديقات المُشتركين ، وحتّى إتخاذ القرار الطبى الصعب ، بالذهاب به إلى مستشفى ( سن...... ) بجوهانسبرج / جنوب إفريقيا، حيث فارق الحياة هناك . ونُقل منها إلى لندن ، و قد وورى جُثمانه الثرى هُناك ، فى 26 أبريل 2014 ... فيا له من فقدٍ كبير وعظيم . كان عثمان حميدة كائناً قلقاً ، ومسكوناً بالقلق النبيل ، وكان كثير التفكير فى ما العمل ؟، لا يهدأ له ، بال إلّا بعد أن يُنجز المهمّة الصعبة ، ليدخل أُتون مهام أُخرى ، مكلّلة بالنجاح .وينطبق عليه قول أبو الطيب المتبنبىء " قلقٌ كأنّ الريح تحتى "..و ظلّ من أروع المحبّين للحياة ، يتحلّى بالشجاعة والبأس القويين فى مواجهة الألم ، وكان - حتّى - وهو فى أصعب اللحظات فى مستشفى( أغا خان ) بنيروبى ، عظيم الروح المعنويّة، مُشرقاً وقابضاً على الأمل فى المستقبل ، وكما عهدته ، كان يطرح المقترحات ويجترح الحلول ، وهو فى سرير المرض ، وتحت الكمّامات ، وهكذا ، تعلّمت منه درساً أخيراً ، فى الشجاعة الفائقة والتمسُّك بالحق فى الحياة ، غلى ىخر رمق ..فياله من رفيق وصديق نبيل. وها أنذا أُحييه مُجدّداً ، معزّياً أُسرته الصغيرة والكبيرة والمُممتدة وأُسرة مدافعى حقوق الإنسان فى كُل مكان وأقول : وداعاً عثمان حميدة ، وداعاً قُرام الطير . فقد جاء – الآن – يوم شكرك يا رفيق.
فيصل الباقر نيروبى – أبريل 2014
|
|
|
|
|
|