|
يا رب طاحـونة ومرا مجنـونة!/فيصل الدابي المحامي
|
منذ نعومة أظافره، كان يوسف محتاراً في ذلك الدعاء الغريب الذي يقول: (يا رب طاحونة ومرا مجنونة)، لم يفهم يوسف الحكمة الكامنة وراء ذلك الدعاء حتى بعد تعرضه للعديد من المواقف العجيبة ذات الصلة بالطواحين المزعجة والنساء المجنونات! في عشية أحد الأعياد ، دعاه أحد أصحابه إلى تناول العشاء والمبيت في منزل أسرته والذي كان يقع على مقربة من إحدى الطواحين، انتهى برنامج العشاء وفاصل الثرثرة ثم حان موعد النوم، بعد دقائق قليلة لاحظ يوسف أن صاحبه قد غطّ في نوم عميق رغم الدوي الشديد المنبعث من تلك الطاحونة المزعجة! همس يوسف لنفسه: يبدو أن صاحبي هذا قد اعتاد على النوم على إيقاع هذه الطاحونة الصاخبة وأن جلبتها قد أصبحت بالنسبة له مثل هدهدة الأم الحنون، ولعله سوف يستيقظ من نومه مذعوراً لو توقفت هذه المخلوقة الآلية البشعة عن إصدار طقطقاتها اللعينة! في تلك الليلة الطاحونية الطويلة، ظل يوسف يتقلب على الفراش دون أن يغمض له جفن حتى صباح اليوم التالي فقد كان ضجيج الطاحونة يرج باطن الأرض بعنف ويخرق طبلة أذنه بعناد ميكانيكي مريع! ذات مرة ، اطلع يوسف على تفاصيل قضية عجيبة مفادها أن رجلاً قد اعتاد على أصوات القعقعة المستمرة الصادرة من طاحونة جاره العزيز ومن ثم ضبط ساعته البيولوجية على تلك الخبطات المزعجة، فصار لا يعرف كيف يأكل أو ينام مع زوجته أو يمارس أي نشاط حيوي آخر إلا على إيقاع تلك الطاحونة التي لا تتوقف أبداً عن الضجيج! وذات يوم ، أوقف الجار طاحونته بسبب تقدمه في السن ، وعندها انقلبت حياة الرجل رأساً على عقب، فقد عجز عن ممارسة حياته المعتادة وتدهورت حالته النفسية وكاد أن يصاب بالجنون! في نهاية المطاف، رفع الرجل دعوى قضائية ضد جاره مطالباً بتعويض كبير عن جملة الأضرار المادية والمعنوية التى تعرض لها من جراء توقف ضجيج الطاحونة ، بعد سماع دعوى الرجل الغريبة ورد الجار الذي كان مصعوقاً من فرط الدهشة ، حكمت المحكمة الموقرة بتعويض مناسب للرجل بعد أن أثبت أن إيقاف هدير الطاحونة قد تسبب بشكل مباشر في إصابته بضرر بالغ تمثل في حرمانه من جميع متع الحياة! بدأ يوسف يدرك بشكل أو بآخر أن الانسان كائن غريب الأطوار فهو لا يدمن سوى الأشياء المزعجة، كل إنسان لديه طاحونته المفضلة والتي تختلف حسب مزاج صاحب الطاحونة، هناك من يصنع من دماغه طاحونة شخصية يديرها بالكحوليات أو المخدرات، البعض يعشق الطواحين الرياضية فيدمن مشاهدة مباريات كرة القدم أو المصارعة، البعض الآخر يفضل الطواحين السياسية فيهوى المشاركة في الندوات أو المظاهرات حسب ظروف الحال ، هناك عشاق الطواحين الاجتماعية مثل طاحونة الزواج التي يجربها أغلب الرجال والنساء فلا يستطيعون منها فكاكاً رغم ضجيجها المتواصل، وهناك العديد من الطواحين الأخرى التي تحقق قدراً كبيراً من الضجيج المحبب والصخب المرغوب فيه مثل الطاحونة الفضائية المسماة بالتلفاز والذي يشاهده الكثيرون لساعات طويلة ويصيحون في وجه من يحاول تشتيت أنظارهم عن تلك الشاشة المتخصصة في بثّ سائر أنواع المزعجات البشرية! ذات يوم ، تناقش يوسف مع زميلته في العمل بشأن ذلك الدعاء العجيب فردت قائلة: هذا دعاء ذكوري سخيف، لماذا ينسب الجنون إلى المرأة وحدها ألا يوجد رجال مجانين؟! كل الحروب العالمية، التي قُتل فيها ملايين البشر، أشعلها وخاضها رجال مجانين ، حتى الرجال العاديين هم مجانين بشكل أو بآخر ، فلماذا لا يُقال مثلاً: يا رب طواحين ورجال مجانيـن؟! هل تعلم أن إحدى صديقاتي تفكر جدياً في الحصول على الطلاق لأن زوجها العزيز لا يستمع إليها قطّ أثناء جلوسه لساعات طويلة أمام جهاز الكمبيوتر في كل ليلة؟! إنها تعتقد، وهي على حق، أن الإزعاج الصادر من تلك الطاحونة الالكترونية البغيضة هو أكبر من أي إزعاج يصدر من أي طاحونة على وجه الأرض! ضحك يوسـف ثم علق قائلاً : خلاص يا ستي كلنا مجانين ، كلنا في الهوا سوا ، لكن يبقى السؤال قائماً ما علاقة الطاحونة بالمرأة المجنونة؟! ولماذا دعا ذلك الرجل ربه ليمكنه من الحصول على شيئين يتنافسان في إصدار أكبر قدر من الإزعاج؟! ذات ليلة ، التقى يوسف بصديقه صلاح المشهور بسخريته اللاذعة ثم سأله: يا أخي إن الدعاء الذي يقول (يارب طاحونة ومرا مجنونة) يقرقع في رأسي ويثير حيرتي منذ سنوات طويلة، فما العلاقة بين الطاحونة والمرأة المجنونة؟! أجاب صلاح قائلاً: قديماً قيل للرجل: تزوج ، فإذا تزوجت اِمرأة عاقلة فستصبح سعيداً وإذا تزوجت اِمرأة مجنونة فسوف تصبح فيلسوفاً، ويبدو لي أن صاحب هذا الدعاء العجيب لا يرغب في أن يصبح سعيداً بدليل أنه لم يطلب الحصول على اِمرأة عاقلة، ولا يرغب أيضاً في أن يصبح فيلسوفاً بدليل أنه يطلب الحصول على طاحونة واِمرأة مجنونة في ذات الوقت، والسؤال الجوهري هو لماذا قدّم الطاحونة على المرأة المجنونة؟ الأجابة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وهي: حتى يطغى ضجيج الطاحونة على صراخ المرأة المجنونة ويبطل مفعوله فلا ينزعج الرجل منها وينام بارتياحٍ شديد على إيقاع القرقعة الحلوة الصـادرة من طاحونته المفضلة هل هناك جنـون في الحياة أكثـر من هذا؟! لا أعتقد ذلك! ضحك يوسف ثم علّق قائلاً: حسناً ، لقد فهمت الآن معنى ذلك الدعاء المريب، لكن أليس من الأجدى أن يتم استبدال ذلك السؤال المزعج عن الهواية المفضلة بهذا السؤال الأكثر إزعاجاً : ما هي طاحونتك المفضلة؟! فيصل الدابي المحامي
|
|
|
|
|
|