|
هل جارك " أبوجضوم" شخص فاسد ؟ بابكر فيصل بابكر
|
[email protected] في ندوة نظمتها أمانة المرأة بالحزب الحاكم الأسبوع الماضي دعت القيادية بالحزب الاستاذة هدى داؤود للإصلاح الداخلي, وقالت أنهم أصبحوا "يخجلوا" من الإنتماء للمؤتمر الوطني بسبب ما يسمعونه عن الفساد, وهو ما دفع الدكتور إبراهيم غندور لأن يخاطبها قائلاً : ( ارفعي رأسك وقولي أنا مؤتمر وطني ولم نصل مرحلة أن نخجل من انتمائنا للوطني ). وكالعادة إستنكر غندور (إطلاق تهمة الفساد دون إثبات) وقطع بأن (أي قيادي تثبت عليه تهمة الفساد ستتم محاسبته داخل الحزب ثم تقديمه للمحكمة). قد ظللنا نستمع لمعزوفة "إثبات الفساد" منذ مجىء الإنقاذ قبل ربع قرن , وهى معزوفة تدعونا لمساءلة "المنهج" الذي إختارت الحكومة إتباعهُ لمواجهة هذا الغول المرعب, و ماهية النتائج التي أفضى إليها. إنَّ منهج الإثبات الذي ظلَّت تنادي به الحكومة لم يؤد لإدانة أية شخص أو جهة فهل يعني ذلك أنَّ الدولة خالية من الفساد ؟ بالطبع لا ولكنه يعني أنَّ طبيعة الدولة لم تكن تسمح بتسرُّب الوثائق والمستندات التي تكشف ذلك الفساد, ذلك أنَّها كانت دولة "التمكين" القابضة التي أمسك "بمفاتيحها" أعضاء حزب واحد متماسك. ولكن ما أن بدأت الخلافات تدبُّ داخل صفوف ذلك الحزب, وتشعبت الصراعات بين مراكز القوى والنفوذ حتى بدأت الوثائق تخرج من أضابيرها بدواوين الحكومة للصحف مباشرة, وهو الأمر الذي أضعف حُجَّة "الإثبات" التي كانت تطالب بها الحكومة مما دفعها لإختراع حُجَّة جديدة أخرى وهى أنَّ هناك حملة تشويه تحركها جهات خفية هدفها إسقاط الحكومة. هذا التخبط في التعامل الحكومي مع القضية يوضح أنَّ الإشكال في الأساس لم يكن متعلقاً بكيفية إثبات تهم الفساد وإنما بتوفر "الإرادة" الحقيقية لمحاربته, فإذا كانت تلك الإرادة متوفرة بالقدر الكافي لما إحتاجت الحكومة في الأساس لأدلة مباشرة (وثائق ومستندات ) لإثبات الفساد لأنَّ هنالك "أدلة ظرفيَّة" – وهى الأدلة اand#65247;and#65176;and#65266; and#65175;and#65240;and#65262;م and#65227;and#65248;and#65264; الإand#65203;and#65176;and#65256;and#65176;and#65166;ج واand#65275;and#65203;and#65176;and#65194;لال اand#65247;and#65252;and#65256;and#65220;قي- أقوى بكثير من الأدلة المباشرة. فإذا كنت تعرفُ مسؤولاً منحدراً من أسرة رقيقة الحال, وكان قبل توليه المنصب الحكومي الرفيع يسعى بقدميه بين الناس, ويسكن بيت الإيجار, ولديه كشف ديون عند صاحب الكنتين, فكيف يمكن لمثل هذا المسؤول – بعد سنوات محدودة يقضيها في منصبه – أن يبني منزلين ( وليس بيتاً واحداً) ويمتلك ثلاث سيارات فارهة وأن يبتعث أبناؤه للعلاج و التعليم بالخارج, ويقضي عطلاته السنوية بتركيا وماليزيا, المرتب والإمتيازات الحكومية لا تفعل كل ذلك ! مثل هذه الحالة لا تتطلبُ وثائق ومستندات, فهي تنبني على الإستدلال المنطقي, و في هذه الحالة تلعب "إقرارات الذمة" دوراً عظيماً حتى لا يُظلم الناس ويتهمون بالباطل, فهى تكشف كيف كان حال المسؤول قبل توليه المنصب الحكومي, والحال التي آل إليها بعد تركه للمنصب, ولكن أين إقرارات الذمة ؟ في أحيان كثيرة يُدافع المسؤلون عن أنفسهم بالقول أنهم إنما حازوا تلك الأموال من "أنشطتهم" الخاصة بمعنى أنَّهم يمتلكون أعمالاً تجارية خارج إطار المنصب الحكومي تدر عليهم تلك الأموال, وهذا لعمري أس الفساد لأنَّ الأصل فى تولي الوظيفة العامة "خصوصاً كبار المسؤولين" أن لا يعمل صاحبها عملاً تجارياً تكون فيه شبهة إستغلال النفوذ. وقد كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يحصى أموال الولاة قبل أن يوليهم وكان يأخذ على كل منهم اقراراً بما يملك لكى يحاسبهم على ما زادوه وإذا تعلل الولاة "بالتجارة" لم يكن يقبل منهم ويقول لهم إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجاراً. قال الدكتور غندور كذلك في حديثه الهادف لرفع معنويات القيادية هدى داوؤد : ( الوزراء في الحكومات الفاتت ما سكنوا في العشش شفناهم راكبين عربات وساكنين العمارات والدنيا كلها فيها الفساد والتعميم يعني أي زول في القاعة دي فاسد نحنا نتاج لمجتمع فيهو الفاسد والصالح وما أي واحد يعاين لي جارو يلقاهو عمل جضوم وعمارة يفتكر الدنيا فسدت). إنتهى صحيح أنَّ الوزراء في العهود السابقة لم يسكنوا "العشش", فقد سكنوا منازل حكومية, ولكن الصحيح أيضاً أنَّ غالبيتهم العظمى لم "يمتلكوا" منزلين أو ثلاثة وسيارتين وشركات وقطع أراضي وشققاً خارج السودان, وغادروا هذه الدنيا الفانية وهم لا يملكون "أرصدة" في البنوك, أنظر لمحرِّر البلاد ورافع علم الإستقلال , كان يلبس بدلة الدمور, ومن وزراء هذه الحكومة من يلبس بدلة لا يقل ثمنها عن 5000 دولار. كم كانت "ثروة" المحجوب والفضلي وحماد توفيق ومبارك زروق ونصر الدين السيد وخضر حمد ومحمد أحمد المرضي وعبد الرحمن على طه واحمد السيد حمد وعبد الماجد ابوحسبو وحسن عوض الله وغيرهم ؟ الشعب السوداني شعبٌ ذكي لمَّاح و قادر على التمييز, وعندما ترتفع لديه وتيرة الحديث عن "الفساد والمفسدين" فذلك نتيجة لواقع حقيقي معاش وليس رغبة في تشويه صورة أحد, وأنّ محاولة نفي هذا الواقع أو تبريره بتبني نظرية "المؤامرة" لن تؤدي إلا للمزيد من إستشراء الفساد. أمَّا جاري يا دكتور غندور فلن اتهمه بالفساد فقط لأنه شيَّد "عمارة" ولكنني لا شك سأعلم مصدر الأموال التي نفخت "جضومه", فمن الحلال ما ينفخ كذلك, ولكن ما بالك إن كان مصدر النفخ هو "عطاءات" رست عليه دون وجه حق, او "مرابحات" غير مرجوَّة السداد, أو "عمولات" في صفقات "كتاميَّة", أو تصديقات أو أو أو كثير من الأساليب النافخة للجضوم !! لم يكتف الدكتور غندور بحديثه أعلاه لرفع معنويات أخته في الحزب بل نفى كذلك ابتعادهم عن الشريعة الإسلامية وانحراف الشارع السوداني وقال : ( المساجد ما لاقين حتة نصلي فيها، وفي رمضان التهجد في شوارعها ). إنتهى إنَّ إمتلاء المساجد – يا دكتور غندور- لم يمنع إختلاس المال العام, والرشوة أو إرتفاع معدلات الجريمة و إنتشار المخدرات والأيدز بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان, وهو كذلك لم يمنع إمتلاء دور الرعاية الإجتماعية عن آخرها بالأطفال مجهولي الأبوين, او يوقف التزوير والتهريب وغسيل الأموال. إنَّ إمتلاء المساجد, وإطلاق اللحى ولبس النقاب, ليست سوى إنعكاس لظاهرة أطلقت عليها في السابق إسم "التدين الشكلي", وهو تدين يحصر الدين في الشعائر والمظاهر ولا يهتم بجوهر الدين وقيمه الأساسية. قد تحولت المساجد نفسها – ومنها ذلك المسجد الكائن بشارع الستين – لأماكن للتظاهر والتفاخر الإجتماعي أكثر منها بيوتاً لله تقام فيها الصلاة ويذكر فيها إسمه كثيراً, وأعرف كثير من الناس يقطعون إليه عشرات الكيلومترات حتى يقولون في مجالسهم الخاصة أنَّ "فلانا" صلى بجواري في مسجد كذا وكذا. إنَّ العبرة – يا دكتور غندور – ليست في إمتلاء المساجد, ولكنها في صلاح النفوس والاخلاق, وفي إنعكاس ذلك على المجتمع والحياة العامة, و هو الأمر الذي يرى كل إنسان منصف أنَّ السودان قد تراجع فيه كثيراً, ليس داخل البلد ولكن حتى في المهاجر حيث لم تعد سمعتنا كما كانت في السابق. أشرتُ مراراً إلى أنَّ أحد أدواء الآيديولوجيا يتمثل في أنها تزوِّد صاحبها بقناع يحجب رؤية الواقع كما هو, و يخلق لديه وعياً زائفاً بحيث يرى واقعاً آخراً "مرغوباً فيه" ولكنهُ غير موجود على الأرض, هو مُجرَّد وهم وأمانٍ وأحلام, و بمرور الوقت, و الإنغماس في وحول الآيديولوجيا وزيفها يتحول هذا القناع إلى "جدار" عازل يفصل الشخص بصورة كاملة عن رؤية الحقيقة كما هى. وفي إطار الصراع مع معطيات الواقع الحقيقية يوفر " الإنكار" أحد آليات الدفاع المُهمَّة التي تمنح الشخص راحة نفسية في عزلته المجيدة أو - إن شئنا الدِّقة - في غيبوبته عما يدور حوله من شواهد ماثلة و وقائع ملموسة غير قابلة للجدال والنفي والرفض. وإذا كان أهل الحكم قد ركنوا لنظرية المؤامرة, وقنعوا بأنَّ الحديث عن الفساد إنما يصدر من جهات تهدف لإسقاط الحكومة, فقد كان هنالك تعليق صدر في وقت ماضي من رئيس اللجنة الوطنية الزراعية السعودية المهندس "عيد المعارك" حول الإستثمار في السودان, حيث قال لصحيفة الشرق السعودية إنَّ : ( المستثمرين السعوديين في السودان يتعرَّضون إلى مضايقات في مواقع الاستثمار الزراعي. هناك مواقف لا تشجع على الاستثمار ، نظراً لما يُعانيه المستثمرون من مشكلات مستمرة مع حكام الولايات في السودان. إنَّ حكام الولايات يفرضون على المستثمرين السعوديين رسوماً معينة يتحصل عليها والي الإقليم نفسه مقابل تقديم خدمات مميزة للمستثمر تتمثل في منحه موقعاً مميزاً قريباً من مصادر المياه ومتوفرة به الخدمات الضرورية، مبيناً أنَّ من لديه علاقة مع الوالي من المستثمرين فإنَّ استثماراته تسير بشكل طبيعي ولايواجه مشكلة، في حين من يمتنع عن دفع هذه الرسوم فإنه يواجه مضايقات تهدِّد استثمارهُ ). إنتهى هذا التعليق لدهشتي لم يجد أية رد من المسؤولين على الرغم مما تضمنهُ من إتهام صريح للولاة بالفساد وإستغلال النفوذ, فهل هدف هذا المسؤول السعودي لإسقاط النظام أيضاً ؟ يورد الشاعر الكبير عزيز أباظة في الفصل الأخير من مسرحيته الشعرية "غروب الأندلس" حواراً بين شخصيتين ( عائشة وإبن سراج) يصوِّرُ حال الشعب في غرناطة فيقول : عائشة : ما الحالُ يابنَ سِراج ؟ ابن سراج : أظنّها شرَّ حالٍ الشعبُ قد ضاق ذرعًا بهذه الأحوالِ هَوَى به الجوعُ روحًا عائشة: هذا نذيرُ الوَبالِ ابنُ سِراج: لا تيأسي إنّ فيه خلائقَ الأبطالِ لولا خيانة رَهْطٍ منه شديدِ المِحالِ عائشة: بل قـُلْ خيانةُ والٍ دكـّـتهُ كالزلزالِ قـُلـْها، فمَنْ قالَ حقـًا دوّى به لم يُبالِ إنْ تفسد الرأسُ دَبَّ الفسادُ في الأوصال
|
|
|
|
|
|