|
نقيقٌ وطنين !
|
نقيقٌ وطنين ! شاذلي جعفر شقَّاق [email protected]
لم تقْلعْ السماء ..ولم تبلعْ الأرضُ ماءَها ، إذ لم يَقْضِ الخريفُ وطَراً بهذه البلاد ..فمنذ اندلاق عيديَّته الغزيرة في ثاني أيام عيد الفطر المبارك وحتى اليوم ..جرَت مياهٌ كثيرةٌ فوق شوارع الأسفلت ، وجرفَت الكثير من الطُرُق والمعابر و (المزلقانات) ..وركدت في أجواف الأنفاق الجديدة (البنات أعَمَّها ما سمعن بيها ) ، كما عنَّستْ داخل المصارف والمجاري التي أرادت لها (محليَّاتُنا) أن تُصبح ناقة سيِّدنا صالح عليه السلام لتشرب مياه المطر والسيول وإنْ كانت تلك المجاري المسدودة مثل شرايين المُصاب بالأنيميا ! وهذا فضلاً -بالطبع – عن نقصٍ في الأنفس العزيزة جرَّاء هذه السُحب المنهمرة و السيول الجارفة واكتساح المساكن وإغراق الأحياء والمناطق لتصبع إثنين وخمسين ألف أُسرة بثمانية وأربعين محليَّة ضمن مناطق الخطر في العراء تفترش الأرض وتلتحف السماء ! وكما هي عادة أجهزتنا الرسمية فقد أفاقت من سُباتها العميق ، وهبَّتْ من بياتها الشتوي ..وطوَّفتْ وحطَّت مثل (النعيجة العاقبة الخريف ) على الأنقاض الغريقة ! بعد أن وقع الفأس على الرأس ، حيث لا ينوب التنظير و (العجِن واللَّتْ ) عن ترتيبات العاقل الذي يجعل للدهر حساباً ، ولفصول العام المعروفة والمعلومة الأوان دريئةً بالوقاية وتوقُّع أسوأ الفروض ، والرؤى الإستراتيجيَّة المبنيَّة على الأساس المسلَّح :( أعقلْها وتوَّكَل ) من لدُنِّ الخُطط الإسكانية وتنظيمها وتصريف مياهها ، إلى المخزون الإستراتيجي إذا ما ألمَّ خطبٌ و بلاء ، أو وقعت كارثة بدلاً من الخوض أو السباحة في سيول تعريفاتها الانصرافية لُغويَّةً كانت أم اصطلاحية !! وخفض سنام الحاجة للمحتاجين وفتح (مطمورات الحوبة )للجوعانين بدلاً من محاولة تبرير إفطار سياحي مُعتَمَدي في زمنٍ كارثي بعذرٍ أقبح من ذنب أبي نُواس في حقِّ هارون الرشيد ! ولاكتمال المسرحية الهزلية أو الكوميديا الساخرة تنقل لنا الصُحُف عن ولاية الخرطوم المتقمِّصة لشخصية البصيرة أم حمد وهي تهرش رأسها وتعضُّ مؤخِّرة قلمها وتهز رجليها عصبيَّةً (كترزي بلدي) غير حاذق ثم تفكِّر وتقدِّر لتُعلنَ عن حظر البناء بالجالوص ! فالجالوص – يا هداكم الله – ليس فعلاً تخريبيَّاً يقوم به الفقراء لتشويه وجه العاصمة الحضارية ..إنما هو ضرورة ثابتة الأركان اقتضاها واقع الحال الاقتصادي الذي لا ينفكُّ إطلاقاً عن رقبة السياسي مهما طالت واستطالت وتهدَّلت واستدارت ! فلو كان باستطاعة ساكني بيوت الطين المتآكلة وأكواخ الحصير والشرقانية والجوَّالات والكراتين المُنهكة أنْ يقطنوا البروج المشيِّدة والشاهقات من المباني ؛ لما اقترفوا جريمة البناء بالجالوص ! ولما انتظروا بلا حولٍ ولا قوَّة رحمةَ مَن لا يرحم ولا يترك رحمة الله تتنزَّل ( عرقلة مجهودات نفير نموذجاً ) ..ولما ارتفعتْ عقيراتُ مخاوفهم على الغوْثِ الذي يتعثَّر في أوحال الضمائر الغائبة والأفعال المبنيَّة للمجهول ..ولما احتاجوا لوعيد البرلمان بقطع رقبة كلّ مَن يسرِّب مواد الإغاثة إلى الأسواق .. ولما امتعضوا من دعوة البرلمان لعدم الخوض في موضوع تسريب الإغاثة خوفاً من تسريب فكرة فقه السُترة من دواوين الحكم إلى سوق الكوارث الطبيعية والصيد في مياه التُرع الآسنة ذات النقيق والطنين ! ولما تزعزعت عند البعض تلك السلوى العجيبة في رائعة الراحل المقيم عوض جبريل (طبيعة الدنيا زي الموج ..تجيب وتودِّي ) لأنها أصبحت مثل (قطر عجيب يودِّي ما يجيب )! عوداً على بدءٍ فإنَّ مخلفَّات الأمطار والسيول البيئيَّة لم تعُدْ ممَّا يُحذَّر منه قبل حدوثه ..فها هي وزارة صحَّتنـا على ذمَّة صحيفة اليوم التالي الأحد الماضي تقول بانخفاض مناعة السودانيين وتحذر من كارثة بيئية !! فنسأل الله ألاَّ نطالع مانشيتاً في مُقبل الأيام يستبدل كلمة (انخفاض) بـ (فُقدان) ! فقد تخوَّف – في الخبر – مصعب برير مدير إدارة تعزيز الصحة بالوزارة من حدوث كارثة بيئية حال عدم التعامل مع الآثار السلبية للسيول والفيضانات بفاعلية عالية ، كما حذَّر من انهيار برنامج مكافحة الملاريا ، بينما حذَّرت لجنة البيئة بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس من وبائيات وكشفت عن انخفاض مناعة السودانيين في السنوات الأخيرة !! ورغم ذلك فإنَّ وزير البيئة والغابات والتنمية العمرانية لا يزال في خانة (سوف) القولية المُفضية إلى لا شئ حتى الآن ..فإنَّا نسمع جعجعةً ولا نرى طحيناً على الواقع البيئي ..فإن سمعنا من فوقنا أزيزاً فبين أيدينا نقيقٌ وطنين يصلان الليلَ بالنهار لا يقلاَّن أبداً عن ثرثرة المذياع والتلفاز لتكون النتيجةُ الآنيةُ إقبالاً ملحوظاً على الحوادث بأمر الإسهالات والتايفويد والتهابات الكبد الوبائي (كمان) بجنوب الخرطوم كما أفادت الانتباهة الإثنين الماضي ..ولعل أكثر فئة عرضة لحميَّات هذه الأوبئة وحمَّياتها وتشنُّجاتها هم الأطفال ، لتستقبلهم تكاليف العلاج مكشِّرةً عن أنيابها دون إلاًّ ولا رحمة !! لكم الله يا أطفال بلادي وأنتم تحاولون النشأة في زمانٍ تقلُّ فيه مناعة أهله ..وتسكنون بيوتاً لا تقيكم المطر ولا تثبت أمام سيوله ..ومع ذلك ولاةُ أمرِكم يحرِّمون الجالوص ! وعندما تنهشكم الحُمَّى وتعتريكم تشنُّجاتها ؛ يفتح نُطُسُ الاستثمار وأطبَّاء الجيوب (آذان آباءكم) الملهوفين الجَزِعين تذكرةً بتكاليف العلاج وأنتم لا تزالون جاحظي الأعين في لا وعي (سهراجتكم) بينما لا تقشعرّ أبدانُ قومٍ في غيِّهم يعمهون !!!
الوفاق - اليوم الأربعاء 28/8/2013م
|
|
|
|
|
|