|
عمر العمر/ البيان الامارتية/وليد سوداني خديج بعد مخاض سياسي عسير
|
Quote: 2005-09-23 00:26:10 UAE التجمع يرفض الاستسلام المهين بعد «سلم تسلم» وليد سوداني خديج بعد مخاض سياسي عسير على قدر التلكؤ السوداني إزاء إعلان حكومة المرحلة الانتقالية الذي كان محبطاً للجميع جاء التشكيل الوزاري مخيباً للآمال الشعبية حسب رد فعل الشارع السياسي في الخرطوم وإجماع قادة قوى المعارضة. الصادق المهدي زعيم حزب الأمة قال: إن الذين أخرجوا هذا التشكيل الحكومي حرموا الناس من الفرح بإمكانية إحداث إصلاح أو تجديد.
الدكتور بشير آدم رحمة المسؤول السياسي في حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي اعتبرها حكومة محبطة ومخيبة للآمال تهيمن عليها ستة من الوجوه التي ظلت ساكنة في السلطة التنفيذية معظم سني الإنقاذ كما أبانت أن الحركة الشعبية هي الشريك الضعيف الذي لا يملك من القوة ما يعينه على بذل جهود في سبيل التغيير. فاروق أبو عيسى القيادي في هيئة تجمع المعارضة قرأ في التشكيل الحكومي إصرار النظام الحاكم على الانفراد بالسلطة. سليمان حامد القيادي بالحزب الشيوعي قال إذا شارك فصيل في التجمع في هذه الوزارة فلا تسألونا من بعد عن التجمع واسألونا فقط عن حزبنا. فالتجمع يرفض قبول الاستسلام المهين بعد رفعه شعار «سلم تسلم».
من يقرأ التشكيل الوزاري بروية يخلص إلى أنه حاول إشباع نهم الذين عمد الحزب الحاكم إلى استرضائهم ولم يركز على بناء سلطة تنفيذية محكمة قائمة على الحاجة والكفاءة فالتشكيل مترهل بالأحزاب الصغيرة والوزارات التي يغلب على بعضها الاصطناع وأسماء مجهولة بالإضافة إلى أنها باتت تحتكر المناصب الدستورية.
وأشار المهدي إلى المشاكل التي سبقت إعلان التشكيل وقال انها كانت خلافات حول الوزارات تعكس في جانب منها صراعاً حول السلطة وفي الجانب الآخر صراعاً على الثروة وخلص إلى القول إن هذا نهج يفرض أولويات حزبية ولا يضع في الاعتبار التفكير في إعادة تأهيل المؤسسات الزراعية والصناعية ويلغي تماماً الأمل في إحداث الإصلاح والتغيير.
الدكتور رحمة القيادي بحزب الترابي أكد على أن التشكيل يعني الإبقاء على السلطة في يد المؤتمر الحاكم بما يملك من أغلبية وقال إن الوزارات التي ذهبت للحركة الشعبية وزارات هامشية وحرص المؤتمر على وضع كوادر متميزة في تلك الوزارات وضرب لذلك مثلاً بوجود علي كرتي وزير دولة في الخارجية وكمال عبد اللطيف في مجلس الوزراء، وركز رحمة على استمرار وجوه محدودة ظلت قابضة على زمام الأمور في عهد الإنقاذ في التشكيل الجديد.
وأضاف رحمة أن هذا التشكيل لم يأت في سياق المشاورات البطيئة التي كانت سائدة وإنما وليد ضغوط خارجية غربية وعربية فرضت ولادة الحكومة بعد ذلك المخاض العسير وأشار إلى زيارة كل من الرئيس البشير ونائبه سيلفاكير إلى عاصمة في الجوار قبيل الإعلان الوزاري.
* شركاء السلام يعترفون بخطأ تغييب المعارضة
لم يكن المولود على مستوى الترقب الذي فرضه المخاض العسير ولا يبدو أنه يتمتع بقدر من العافية يعين على حرق المراحل بعد التلكؤ المتثاقل على رصيف الزمن بانتظار الوليد الحكومي. فقد مضت شهور عدة على الميقات الزماني لإطلاق المرحلة الانتقالية.
هذا الوليد الشائه القادم بعد البيات السياسي المشرب بالضجر يذكر المرء بالفقد الفادح المتمثل في غياب الدكتور جون قرنق الذي اختطفه الموت في توقيت سوداني قاتل. فالجدل العقيم الذي دار في شأن المحاصصة الوزارية فضح عورات الساسة الذين أداروا اللعبة على نحو يؤكد عجزهم عن استيعاب دروس التاريخ المعاصر إذ غرقوا في لجة الخصومات الحزبية الضيقة متجاهلين مصلحة الوطن العليا.
ليس الشعب السوداني وحده الذي شاهد رهاناته المستقبلية تحترق في تلك النزاعات الجوفاء بل الدول التي ساهمت في صناعة اتفاقات السلام أحست هي الأخرى بالخيبة إذ اعترف عدد من المسؤولين في بعض عواصمها بارتكابهم خطأ فادحاً عندما عمدوا إلى تغييب قوى المعارضة عن طاولات المفاوضات وتوقيع الاتفاقيات. يظل الاعتراف بالخطأ فضيلة ولو جاء متأخراً على حسب تعبير أحد القياديين السودانيين المعارضين الذي كشف ذلك.
عزا بعض أولئك المسؤولين في تلك العواصم ذلك الخطأ إلى استسلامهم للإرادة الأميركية التي ركزت جهدها على عدم إضعاف النظام الحاكم في ظل استراتيجية تتبناها في المنطقة. تلك النظرة الأميركية ليست مفصل الأزمة فواشنطن ترفع دائماً مصالحها فوق الجميع لكن نقطة الضعف في الرؤية الأميركية كانت ترى قوى المعارضة السودانية «هزيلة» بحيث لا ينبغي إدراجها في الحسابات. ومكمن التناقض وفق هذه الرؤية أن «هزال» المعارضة لن يؤثر على قوة النظام ومن ثم لن يحدث تغييراً فيما تطمع إليه واشنطن في المقابل من الخرطوم.
من جانب آخر لم تدرك قوى المعارضة القاعدة الذهبية البسيطة التي تقول إن «القوة في الاتحاد». وبدلاً من رص الصفوف لفرض إرادة كانت ممكنة ذهب كل حزب في طريق. ثمة قوى حسمت خياراتها بعد قليل من المراوحة فأراحت الجميع. فقرر كل من حزب الأمة بزعامة المهدي والمؤتمر الشعبي بزعامة الترابي اعتزال مؤسسات المرحلة الانتقالية والالتزام بمقاعد المعارضة دون أن يعلن الصهران بناء ائتلاف أو تحالف معارض.
ربما كانت هذه المبادرة الواضحة مرتقباً صدورها من تجمع المعارضة الذي ظل يناصب النظام الخصومة والعداء ويحمله أوزار عقد ونصف العقد من التخلف السياسي وتبنى التجمع في مواجهته جميع أسلحة الرفض والخصومة.
* بورصة المساومات
غير أن فصائل التجمع فتحت جبهات للمساومة بغية الحصول على غنائم ولا نقول مكاسب. فتعددت طاولات التفاوض وفرق المفارضين أو المساومين وتباينت الصفقات والمبررات. تارة نسمع الرفض القاطع للمشاركة في مؤسسات المرحلة الانتقالية وتارة يرتفع صوت القبول بالدخول في السلطة التشريعية ورفض السلطة التنفيذية.
يحدث ذلك دون إسدال الستار على المساومات فيتحدث البعض عن زيادة حصة التجمع مرة وتنازل الشريكين عن بعض حصتهما مرة أخرى دون أن يعلن فصيل رفض هذه «الزكاة» السياسية غير الملزمة. ويبرر عن فصيل قبوله المقاعد البرلمانية بالرغبة في إسماع صوته المعارض مع أن الشارع أكثر انفتاحاً لإسماع ذلك الصوت من كل المجالس البرلمانية. هذه اللجلجة السياسية تفضح بالفعل هزال القوى السياسية وعجزها إزاء الوفاء بالرهانات المستقبلية للشعب السوداني.
الخلافات إزاء التشكيل الوزاري مسألة مشروعة غير أن هدر كل ذلك الزمن قبالتها مؤشر خطير يثير القلق، فهناك مواجهات لقضايا أكثر إلحاحاً وتعقيداً. كما أن الأسلوب العقيم الذي أديرت به الخلافات ينم عن انيميا في القدرات لإدارة أزمات آتية لا ريب فيها إبان المرحلة الانتقالية.
ومع التسليم بأن قرنق ترك فرغاً مهولاً على خشبة المسرح السياسي يصعب إيجاد بديل لملئه إلا أنه من الظلم كذلك التقليل من الدور الذي يسعى سيلفاكير جاهداً لأدائه. إحقاقاً للحق فإن وضع كير في كفة الموازنة مع قرنق يظلم الرجلين. فقرنق قائد وسياسي يصعب إيجاد بديل له، فقد كان يتمتع بسطوة لا تقاوم وسط أقرانه من السياسيين في الجنوب والشمال. تلك سطوة صنعها قرنق برؤيته الثاقبة وحنكته الرصينة وشخصيته الساحرة وبراغماتيته العقلانية.
صحيح أن سيلفاكير لا يتمتع بتلك القدرات غير أن رجلاً يقفز إلى زعامة الحركة الشعبية ليس بالرجل الغر إذ تم اختياره خلفاً لقرنق في وجود قامات جنوبية فارعة تمتشق مؤهلات رفيعة وتختزن طموحات كبيرة منها المشروع وبينها غير المشروع. يخطئ من يتوهم أنه تم اختيار سيلفا زعيماً لأنه آخر الرجال المؤسسين السبعة الباقي منهم على قيد الحياة. تلك بالضرورة ميزة لصالح الرجل لكنها ليست العنصر الحاسم. قد يظن بعض ذوي الطموحات الكبيرة أنه رجل مرحلة ولا نعتقد أن قائداً بتجربة سيلفاكير يغفل عن مثل هذا الاعتقاد. وحتى إذا غفل عنه فإنه لا يفوت على ذكاء رجال هم أقرب إلى سيلفاكير ان لم يكونوا أخلص إليه.
* محاولة التعملق بعد قرنق
كما أنه لابد من الاعتراف بأن الدخول إلى دهاليز السلطة في بلد مثل السودان من تخوم العالم الثالث بالنسبة لقائد ميداني من طراز سيلفاكير يصبح أشبه بإجراء تجربة علمية في مختبر كيميائي يتعرّض أثناءها المرء كما العناصر الكيميائية إلى تغييرات ضرورية في سياق التفاعل مع عناصر مواتية ومضادة.
ومن ثم فإن أي ارتباك يبدر من سيلفاكير يصبح مبرراً وإن كان غير مقبول. فحتى على صعيد الإقليم الجنوبي يواجه الرجل تعقيدات لا حصر لها، منها ما هو قبلي ومنها ما هو جهوي ويغلب عليها الشخصي الملتبس بهذه أو تلك أو الاثنتين معاً، بينما يتطلب الموقف إرضاء طبقة من السياسيين النهمين المتطلعين إلى أنصبة من قطعة لا تزيد على 1300 منصب دستوري ووظيفة.
من المؤكد، في ظل ذلك التشابك، أن أداء سيلفاكير لم يكن مبهراً، لكن ذلك لا يقلِّل من النجاحات التي حققها في ظل كل تلك الضغوط، إذ أبدى قدراً من الحكمة في تجسير هوات مع أطراف جنوبية دعماً للحوار الجنوبي ـ الجنوبي الذي يمثل حجر زاوية أساسياً في المرحلة الانتقالية.
صحيح أن وجوهاً كانت متألقة في حياة قرنق قد خبت أو توارت وبرزت وجوه ليست بالجديدة لكنها لم تكن تملك البريق نفسه، وهذه ظاهرة طبيعية في منعطفات التغيير، بل يمكن فهمها على قدر التعمُّق في تركيبة الحركة الشعبية إذ كان قرنق رجلاً قاهراً على قدر ما كان عملاقاً. ومن الطبيعي أن يسعى البعض بعد رحيله إلى استحواذ مساحة في الصف الأمامي.
ومع أنه من غير المنطقي إصدار أحكام قاطعة على توجهات سيلفاكير إذ لا تزال اللعبة في طور الإحماء، إلا أن هناك سلسلة من المواقف التي تستوجب التوقف والتأمل.
فبعد كل الإصرار من قِبل الحركة الشعبية على الفوز بوزارة الطاقة أو المالية في حالة خسارة الأولى، جاء نصيب الحركة خالياً من الوزارتين. والقبول بالتنازل عنهما ينفي أن تمسك الحركة بإحداهما كان من منطلق مبدئي. وما كان الجدل العقيم المروّج إزاء وزارة الطاقة ليعرقل إعلان التشكيل الوزاري لو كان الشريكان يتبادلان الثقة المطلوبة والالتزام بروح الفريق والعمل بشفافية، فالخلاف المثار يفضح الافتقار إلى تلك المميزات التي يشكل غيابها تهديداً مباشراً لمسار الأداء إبّان المرحلة الانتقالية وتلك هي القضية المحورية.
والكلام المعلن أن الشريكين اتفقا على تصنيف الوزارات إلى ثلاثة مستويات: سيادية واقتصادية وخدمية، وارتضيا قسمة وزارات السيادة وقطاع الخدمات دون جدل واختلفا على وزارتي المالية والنفط، وقيل إن الحركة رفضت بقاء الوزارتين في يد المؤتمر الذي اعتبر من جانبه أن الوزارتين لا تقبلان القسمة. وبلغ الأمر في الخلاف المعلن أن وصف رياك مشار شريكه بـ «الجشع والطمع» لتصلّبه في التنازل عن إحدى الوزارتين.
ربما يكون الخطأ في الاتفاق على التصنيف الثلاثي للوزارات إذ هناك وزارات في قطاع السيادة والخدمات لا تقل أهمية عن الطاقة أو المالية. غير أن الخلاف حول الوزارتين والطاقة خاصة يفتح الباب على قضايا بالغة الأهمية والحساسية ويدحض مزاعم النظام المتداولة. فالحديث عن تمسك المؤتمر بالطاقة نابع من رغبة في إتاحة المجال أمام الوزير الحالي لاستكمال المشاريع الجديدة يجافي المنطق وفيه استخفاف بالعقول.
ذلك أن الأصل في العمل التنفيذي المؤسّس أن يتعاقب عليه مسؤولون، كما ان هذه الممارسة تصبح فريضة لمن يؤمن بترسيخ التحوُّل الديمقراطي والمنصب الوزاري لا يصبح احتكاراً بحكم التقادم وليس ثمة مسؤول تنفيذي يملك أسراراً تضيع بذهابه، والأهم من ذلك أن ليس لمشاريع النفط السودانية سقف زمني مرئي.
والأكثر أهمية هو المأمول في عمل التشكيل الوزاري الجديد بروح الفريق أكثر من أي وقت مضى بغض النظر عن انتماء الوزير لهذا الحزب أو ذاك. تكريس هذه التقسيمة يقعد بالعمل الجماعي ويضرب الآمال الوطنية المعلقة على التحوُّل الديمقراطي والوحدة ويهدِّد المصالح العليا للوطن والسلام.
غير أن الأكثر خطورة من ذلك أن إصرار النظام الحاكم على إبقاء النفط في يده يمثل تشدداً على مواصلة نهج دولة الحزب ورفض الانتقال إلى دولة الوطن، وتلك قضية محورية من أدبيات أسمرة.
غير أن الحركة الشعبية التي كانت تشكل الفصيل الأكبر في تجمع المعارضة صاحب تلك الأدبيات لم تعد حريصة عليها، فحتى عندما هددت باللجوء إلى شركاء اتفاقات السلام والمجتمع الدولي لحسم الخلاف حول وزارة النفط لم تشر إلى شيء من ذلك القبيل كما أن أياً من حلفائها لم يلفت انتباه الحركة لأدبيات أسمرة بل لم يحذر أي من فصائل التجمع الحركة عندما هددت باللجوء إلى الخارج بغية تسوية الخلاف الحكومي مع أن هذا أخطر من الخلاف نفسه إذ أن تصدير الخلافات الداخلية إلى الخارج يبقي المسألة السودانية برمتها رهينة التدويل.
أحد أبرز جوانب الاتفاق السوداني المشرقة يتمثل في القناعة بإدارة الأزمات على المستوى الذاتي وإمكانية حلها في المحيط الداخلي. وإبقاء خيار التدويل مفتوحاً يتجاوب مع رغبات جهات خارجية متعددة المشارب والأطماع فوق كونه يعري ضعف الإرادة السودانية وجوهر القضية هنا لا يرتبط بالتدخل الدبلوماسي إنما يتجسد في التواجد العسكري على الأرض السودانية وهذه مسألة تهين السيادة الوطنية.
مع كل ذلك جاء التشكيل الوزاري دون أن تبدي الحركة إيماءة لجشع النظام أو اللجوء الى المجتمع الدولي. اذا كان البعض يتهم النظام من وراء الاحتفاظ بالطاقة فلابد أن يطال اتهام مماثل الحركة بهذا النكوص المريب.
* أزمة الاتحاديين تنعكس على التجمع
غير أن إدارة التفاوض بين التجمع والنظام أبانت أن مشكلة التجمع ليست في غياب قرنق وحده وإنما تتعزز بانفراد الميرغني في إدارة شؤون التجمع ليس باعتباره الزعيم بل لأن حزبه هو الفصيل الأكبر. فالحزب الاتحادي الديمقراطي وضح إبان هذه المرحلة انه غير قادر على أداء دور القاطرة المفترض لفصائل التجمع فبالإضافة إلى تعدد أجنحته ظل الجسم المتماسك منه داخل التجمع يتبنى مواقف متعددة ويتحدث لهجات عدة في وقت واحد إزاء المشاركة في مؤسسات الحكم الانتقالي.
كان سيلفاكير أكثر وضوحاً وجرأة عندما اعترف لعدد من أعضاء قيادة التجمع عقب دخوله قصر الرئاسة أنه لا يلم بأدبيات التجمع وآليات عمله لكنه يعتزم الوفاء بكل التزامات الحركة تجاه ذلك التجمع. من المؤكد أن الرجل يحتاج إلى زمن لاستيعاب تلك الالتزامات وفهم آليات وأدبيات التجمع وهي مهمة لم يعد له متسع من الوقت لإنجازها، غير أن الميرغني أثبت حنكة لا تجارى في الوصول بالتجمع إلى النقطة التي يشارف فيها حالياً على التفكك وربما بقيادة الميرغني نفسه.
فإزاء المشاركة في مؤسسات المرحلة الانتقالية تتشظى مواقف الحزب من الخرطوم إلى القاهرة ثم لندن ويفاوض الحزب الطرف الآخر في الخرطوم على أكثر من طاولة ولدى الحزب غير ناطق واحد. ربما باعتباره حزب الوسط التقليدي فإنه يموج بالتناقضات ويلجأ للمناورات التي تجنبه الصدام وتحاول إرضاء الجميع. تلك أمنية مستحيلة في السياسة.
وربما لأنه حزب الوسط التقليدي فإنه يضم شريحة كبيرة من أصحاب المصالح التي تستعصي على الصبر وتتعجل المكاسب، وهؤلاء يشكلون مصدر ضغط على دائرة صنع القرار الحزبي وهي دائرة أصبحت غير قادرة في الوقت نفسه على تجاوز تأثير الحلفاء في الخارج الذين يشكلون في الأوقات الحرجة عبئاً على نحو أو آخر، إذ لا يتركون ماكينة صنع القرار تعمل بطلقها الداخلي فقط.
* الميرغني واللعب بالتناقضات وعليها
وسط هذه العناصر المتشابكة تكتسب شخصية زعيم الحزب أهمية قصوى، ذلك أنه لم يعد قادراً فقط على الإمساك بزمام تلك العناصر التي تبدو أحياناً متناقضة، بل فوق ذلك يحذق غزل قماشة سياسية تثير الدهشة وربما تستأثر بالإعجاب. فالميرغني أصبح يتمتع بمهارة اللعب بالتناقضات ليس داخل حزبه فقط، وإنما على المستوى السوداني دون أن يفقد اتزانه وتوازنه أو احترام المعجبين به. وإحدى مزايا الميرغني المحببة أنه يلعب أوراقه على المكشوف.
فبينما كان وفد من هيئة قيادة التجمع ذهب من القاهرة إلى الخرطوم بغية وضع اللمسات الأخيرة لـ «اتفاق القاهرة» كان مفاوضون من الحزب الاتحادي الديمقراطي يحاورون على طاولة منفصلة فريقاً من المؤتمر الوطني نفسه. وكان وفد التجمع يعلم ذلك، وكان يدرك أن من شأن ذلك النهج إضعاف موقفه التفاوضي. لكن أحداً من فصائل التجمع لم يحتج على ذلك النهج الذي يمثل خروجاً واضحاً على إجماع التجمع.
الأكثر غرابة أن قيادة التجمع بأسرها قبلت خروج الاتحاديين وتفاوضهم المنفرد بعدما برر الميرغني ذلك السلوك بحجة تحسين حصص التجمع في مؤسسات الفترة الانتقالية.
وأدهى من ذلك، فقد ذهب المفاوضون الاتحاديون حد توقيع اتفاق منفرد مع المؤتمر الوطني دون أن يجرؤ قيادي من الحزب الاتحادي على الاعتراض لتلك الخطوة بادئ ذي بدء، ثم تناقضات تصريحات القياديين الاتحاديين من الاعتراف إلى الانكار. فبينما أكد أحد الموقعين الخمسة توقيع الاتفاق أبلغني قيادي رفيع في الحزب في مخابرة هاتفية أن المفاوضين ذهبوا أبعد من التفويض الذي منحه لهم زعيم الحزب، إذ لم يكونوا مخولين بالتوقيع. وأكد رفض الحزب للاتفاق، وهو الموقف ذاته الذي أكد عليه ممثل زعيم الحزب في اجتماع هيئة القيادة الذي كان ملتئماً يومها في العاصمة المصرية. غير أن القيادي الرفيع نفسه عاد فتصدى صيحة المخابرة الهاتفية للدفاع عن الاتفاق المنفرد.
الأنكى من ذلك أن قيادة التجمع تجرعت الخروج على إرادتها الجماعية وقبلت الاتفاق وضمنته أجندتها وشكلت لجنة رباعية لبحث وإعداد مشروع قرار في شأنه. ربما لأن الاتفاق حقق بالفعل تحسيناً في الحصص بغض النظر عما إذا كان المقصود منها الحزب الاتحادي وحده أو التجمع كله، فقد حصل المفاوضون الاتحاديون على 19 منصباً دستورياً و50 مقعداً برلمانياً على المستوى الإقليمي، بالإضافة إلى الوزيرين ووزير الدولة و20 مقعداً برلمانياً على المستوى المركزي، وهي الحصة المتفق عليها بموجب اتفاقات نيفاشا. كما أن الصفقة أبقت الباب مفتوحاً للمساومة على عدد غير محدد من المستشارين والمفوضيات.
من يدرك تركيبة الحزب الاتحادي الديمقراطي يعلم جيداً أنه ما كان لوفده المفاوض أن يكسر إشارات الزعيم فيذهب أبعد مما ينبغي دون تفويض. من ثم، فإن تحميل الوفد المفاوض المسؤولية يجافي الواقع.
وفي هذا الصدد، قال سكرتير الحزب الشيوعي: يستحيل أن تباشر مجموعة اتحادية مفاوضة السلطة دون موافقة الميرغني، ولكن هذا التفاوض لم يتم باسم التجمع، وإذا كان الميرغني يرغب في اللحاق بالسلطة، فليذهب فهو لديه أسبابه.
وتساءل المهدي مستنكراً كيف يسير الميرغني على الطريق التي ذهب عليها الشريف الهندي والذي استنكره الميرغني بنفسه؟
غير أن الرجل يعرف لهف أصحاب المصالح الذين لا يرفضون الانتظار على أرصفة المعارضة أربع سنوات عجاف كما أن بعضا من الحلفاء يريدون الحزب مشاركاً أو على الأقل شاهداً على ما يدور في أروقة صنع القرار.
لكن الميرغني يدرك أن الوزارتين اللتين خصصتا لحزبه ـ التربية والعلوم والثقافة ـ لا تشبعان نهم الخلصاء في الداخل والحلفاء في الخارج لذلك لا يرغب في استبدال رصيد «سلم تسلم» بـ «الاستسلام» البخس خاصة إذا كان استسلاماً انفرادياً. وهناك تيار اتحادي غاضب يرفض هذه الصفقة الخاسرة.
وطلب الميرغني وزارة الصناعة لكن شراكة على المستوى الشخصي في النظام أثبتت أنها أكثر أهمية من الشراكة السياسية لذلك لم ينل الميرغني وزارة الصناعة.
وقد استدعى مسؤولون في عاصمة مجاورة قياديين في التجمع قبل يومين للتفاكر ويبدو ان المسؤولين اقتنعوا بنزع الضغوط عن الميرغني من أجل المشاركة لكن المشاورات غير الدؤوبة التي يجريها زعيم التجمع مع أجنحة حزبه انعكست سلباً على التجمع الذي لم يبادر لإعلان رفضه للصفقة. وحدهم الشيوعيون تبرأوا من الحرج وبادروا لإعلان الرفض ربما تردد الآخرين فرضته رغبة أخرى في المساومة.
وهناك موقف اتحادي صارم رافض يقوده علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب والذي يتمتع بمساندة قوية من الشيخ عبدالله أزرق طيبة وهو زعيم روحي يحظى باحترام قاعدة عريضة من الاتحاديين وأعلن انه ليس من مصلحة الحزب الدخول في هذه الحكومة.
ربما يكون أفضل درس خرج به الميرغني من تجربته في المنفى هو أهمية ابقاء الأبواب مواربة مع الجميع فرغم المنعطفات القاسية التي عبرها التجمع ولا يزال نجح الميرغني في مد الجسور مع كل القيادات السياسية في معسكري المعارضة والنظام في حقبتي الحرب والسلام ولذلك فانه لا يفضل إغلاق أي من الأبواب المفتوحة أو المواربة. لكن يجب الاعتراف بان رياح المرحلة الانتقالية لن تؤمن له ذلك.
ونجح الميرغني في إقناع حلفاء الخارج برفض الوزارتين باعتبارهما لا يناسبان ثقل حزبه وطلب من التجمع إرجاء إعلان موقفه النهائي إلى اليوم وأوفد الحلفاء مبعوثاً إلى الخرطوم لتحسين حصة الحزب وهو أمر مستبعد وسيتم إعلان الموقف النهائي للتجمع والحزب الاتحادي اليوم.
أيا كانت قدرة الميرغني على اللعب بالتناقضات أو عليها فإنه لن يكون ساحر المرحلة الانتقالية القادر على حلحلة عقدها ذلك أمر يتطلب برنامج عمل محدد الفقرات والواجبات تتلاقى عليه الإرادات الوطنية فإن لم يكن أهل الحكم يرغبون في ذلك فإنه لا سبيل أمام قوى المعارضة غير التوحد على برنامج من هذا الطراز تتقاسم الأدوار في انجازه من أجل ضمان مهام التحول الديمقراطي والسلام والوحدة.
* المؤتمر يستثمر البيان السياسي
فاللافت أن الحزب الحاكم استثمر البيات السياسي الذي فرضه التلكؤ بانتظار الحكومة الانتقالية واصدر سلسلة من القوانين المناقضة تماما لمرحلة التحول الديمقراطي من ذلك تعديل قانون الإجراءات الجنائية وقانون منظمات المجتمع المدني وقانون النظام القضائي واستهدفت تلك التعديلات سد الثغرات التي فتحتها اتفاقات السلام.
ويعرف حراس النظام القانونيون المطاولات البرلمانية التي من شأنها إعادة أبطال أو تعديل تلك القوانين في المرحلة الانتقالية التي يملكون فيها الأغلبية المريحة وينهض عدد من الحقوقيين لتنظيم ندوات وجمع توقيعات احتجاجية ضد تمرير تلك القوانين. يحدث ذلك تزامناً مع صمت مطبق من قبل الحركة الشعبية وصدور تصريحات على جبهات أخرى من شأنها إحكام قبضة الشريكين على السلطة. من ذلك الحديث عن مهمة «لواء الشرف» الذي بات يتمركز قرب الخرطوم باعتبار مهمته حماية اتفاق السلام وهو حديث يذهب على طريق حماية النظام. وهذا هو دور الشريك وليس مهمة احد فصائل تجمع المعارضة أو هكذا ينبغي أن يس��وعب الذين يراهنون على استمرار تحالف الحركة وفصائل التجمع.
فمع أن التجمع ظل ينادي منذ سنين عددا بتحويل دولة الحزب إلى دولة الوطن لكن لا أحد من كل أحزاب المعارضة يطالب بفصل الدولة عن الحزب على الرغم من أن هذا هو المطلب الملح في هذه المرحلة. فالإصرار على الاحتفاظ بوزارة الطاقة يتضمن في احد جوانبه الأساسية الحصول على مصادر تمويل لم تكن في الحسبان وهناك حالة تماه كاملة بين خزينة الدولة وخزينة الحزب على حد تعبير محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي الذي يشدد على أن نظام الإنقاذ تفوق على النظامين العسكريين السابقين «عبود ثم نميري» بأنه لم يستول على السلطة فقط كما فعل الانقلابان السابقان.
فكما يرى نقذ فإن نظام الإنقاذ احتكر أجهزة الدولة الرئيسية الثلاث، الجهاز المصرفي والخدمة المدنية والقوات النظامية فأفرغها من كوادرها المؤهلة واستبدلها بكوادره الخاصة واعتمد «اقتصاد الريع» في تمويل تلك الجيوش الجرارة من الكوادر غير المدربة فاستخدم نظام الجبايات على الطريقة الإقطاعية وذهب أبعد من ذلك فباع مؤسسات القطاع العام بثمن بخس وفرض احتكاراً صارماً على حركة التجارة وتمويلها يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.
وفي ظل الاشتباك حول وزارة الطاقة تسربت تقارير عن وجود حسابات سرية وعمولات شخصية من وراء ظهر المصرف المركزي ودون علم وزارة المالية كما تسربت تقارير عن وجود صفقات في حقائب القادمين الجدد من ذوي الشهيات المفتوحة لجني الأرباح غير المشروعة. وتكبر أحلام أولئك وهؤلاء مع تسريب تقارير تتحدث عن وجود احتياطات نفطية ضخمة تفوق التوقعات في بحر الغزال وقال البعض إن تلك التقارير كانت أقوى الدوافع التي عجلت بدفع قضية ابيي إلى الواجهة قبل عام ونصف العام على موعد حسمها المقرر.
وقال الدكتور بشير آدم رحمة إن الخلاف بين النظام والحركة في شأن وزارة الطاقة تم تأجيله إلى لجنة ترسيم الحدود التي ستشهد حتماً خلافاً شرساً ذلك أنها ستحدد خط انسحاب القوات الشمالية وقوات الحركة لكن الأهم من ذلك أنها ستحدد قسمة البترول التي تمنح الحركة بموجبه 50% من كل نفط في الجنوب و0% في كل نفط في الشمال لذلك كان سيلفاكير يرى في الجدل حول وزارة النفط إهداراً للوقت والطاقة لا جدوى من ورائه وينبغي تجاوزه فوراً.
؟ الفاضل الخاسر الأكبر
ليس في التشكيلة الوزارية ما يستوجب التأمل إذ لا يزال المؤتمر الحاكم يمارس سياسة الخصخصة السياسية في سوق الأحزاب بما دأب عليه من إحداث انشقاقات داخلها واستمالة اجنحة وإغراء شخصيات. ومارس لعبته المعتادة في هذا التشكيل الحكومي وفيها لعبة لا تخلو من طرافة إذ أوعزت مصادر داخل النظام لشخصية داخل أجنحة حزب الأمة للتجديد والإصلاح المنشق بقيادة مبارك الفاضل من حزب المهدي للعمل بغية عزل الفاضل مقابل منحه وزارة ذات ثقل محببة إلى تلك الشخصية.
ونجحت تلك الشخصية بالفعل في خلق تكتل ضد الزعيم المنشق ونالت الشخصية الوزارة وحصل المتكتلون ضد زعيمهم المنشق على وزارتين فأصبح في رصيد هؤلاء المنشقين 3 وزارات بينما خرج الزعيم نفسه خالي الوفاض.
المفارقة أن قادة الأجنحة الوهمية نالوا أكثر من نصيب فصائل التجمع.
تلك لعبة خطرة يحترف أساطين النظام ممارستها ولا يتورعون في إعادة رجل من طراز اللواء عبدالرحيم محمد حسين إلى وزارة الدفاع وقد غادر قبل أشهر وزارة الداخلية تحت غبار فضيحة سياسية. وهم الذين ينجحون في إغواء رجل بقامة الدكتور منصور خالد يتحول من مستشار للراحل العظيم قرنق فيصبح واحداً بين 12 مستشاراً للبشير دون أن يشعر في ذلك تقليلاً من قدره أو خيانة للشعارات النبيلة التي حملها مع قرنق وألف فيها كتباً.
متابعة: عمر العمر |
|
|
|
|
|
|