دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
أنا إنسان مغامر وجسور.. يمكنني تشبيه نفسي بحصان ضخم في ميدان عام، ويمكن لهذا الحصان ان يكون مسليا لبعض من البشر الذين يحبون المتعة الموقتة.. الضحك بتأمل أو معاينة أحصنة تزهو بخيلاء في عروض ميتافيزيقية كتلك التي يسمونها عروض التاتو.. حيث تعزف الموسيقى ويأتي صف من الرجال الزاهين بملابسهم العسكرية ذات اللون الكاكي.. وهم يعزفون بالآلات الموسيقية المنفوخة.. كأنهم يسيرون في موكب جنائزي ومن وراءهم يأتي صف من الكلاب نعم.. كلاب صغيرة بهية الطلة ومهذبة وجميلة جدا.. مربية على الدلع والوله ولها لياقات حمراء كالتي التي يربطها في أعناقهم صبية الفنادق الليلة من النوع الذي يتخنث كالأناث. ووراء الكلاب تأتي الأحصنة وهي تسير بزهو كأنها خلقت هذا الميدان. أنا واحد من تلك الاحصنة لكني أسير منكسرا، مذلولا.. بائسا.. سقيما.. لست قادرا على مواجهة نفسي بخيبتي كحصان مكسور.. مجروح.. مفتقد للرعونة والبطش والقسوة.. تلك المواهب التي تمكن المرء من العيش رغم أنف الزمن في البلد الذي انتمي إليه.. والذي هجرته منذ خمس عشرة سنة بحيث أن علاقتي معه باتت الآن كعلاقة بمكان افتراضي لم يعد له وجود في أي مكان سوى خواطري، أو في هذا الفسحة التي يسمونها "السايبر".. حتى أن الأشخاص الذي ينتمون لجلدتي واقيم معهم علاقات "افتراضية" تظل هي افتراضية وكأنهم غير موجودين في واقع الأمر.. هم مجرد كائنات تشبه الظلال والأشباح التي تعشق التجول في الليالي المحاطة بسحب كثيفة تحجب ضوء القمر تحت اشجار النخيل والنيم والمسكيت.. تلك التي تركتها ورائي هناك في صحارى العتامير..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
درست هندسة العمارة بجامعة الخرطوم وأعمل في الصحافة.. معادلة يصعب على الكثيرين ممن التقيت بهم تفسيرها.. أنا نفسي أقف عاجزا أمامها كثيرا.. مثلما أعجزعن تفسير سبب تغربي وسبب وحشتي في هذا العالم وانكساراتي وأوجاعي وأناتي.. وسبب انتسابي لبلد لم يعد مفخرة يحكمه رئيس أرعن وحثالة من الغوغائيين من ذوي النفوس المركبة على الشر والضغائن وأكل السحت.. أما السؤال الذي يظل يحيرني هو قدرة المكان "الافتراضي" الذي ولدت فيه أو جئت منه على الاستمرار والمقاومة رغم كل التصدعات والقيح والصديد الذي يخرج أطنانا كل دقيقة من نوافير حية.. بحيث صار .. يمكن لهذا البلد أن يصدر منه لكل دول الدنيا.. ويعجن بعض من الصديد ويصنع منه كسرة وخبر وزلابية كالتي كانت تصنعها حاجة رضينة.. أتذكرها الآن.. ولا أعرف سببا لذلك.. فهي جزء من حنيني واشتياقي لمدن العتامير التي يتجول فيها كل من هب ودب الآن في سبيل الاشتياق لشيء ضائع، حلم بالثروة المستعجلة.. في أودية يقال أنها مسكونة بالجن الذي يحرس التبر.. هذه اللعنة التي خرجت فجأة من باطن الأرض لتشغل الناس بما فيهم الحكومة.. ومن سينشغل بذلك أن لم يكن هي.. هذا الجن الذي كان سببا في التفريق بين المرء وأخيه.. أعرف كم الأخوة فقدوا أخوانهم في تلك الأودية بسبب الموت بالأفاعي أو الموت المباشر بأن يقتل أحدهم الآخر أو يرديه برصاصة موجهة إلى صدره. أو يسوقه إلى مكان قصي بين جبلين شامخين ويقص رقبته قصا بسكين. إنها اللعنة التي تسكن الآن ذلك المكان الذي ولدت فيه وجئت منه قبل أربعين سنة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
أتذكر رضينة وسطوتها وقوتها وقدرتها على مقاومة كافة مصائب الزمن وأنواع الشرور التي يبتلي بها الناس بعضهم بعضا. كانت أمي ترسلني أو نذهب معا لإحضار الزلابية مع أول قسمات الصباح الباكر في المدينة الصغيرة المطلة على النيل، الذي يقع بيت جدي بالقرب منه، لا يفصله عنه سوى مساحة خضراء يسمونها بالجزيرة.. ووراءها يوجد البانطون، المعدية التي تحمل الناس شرق وغرب النهر. وإذا كانت رضينة تكون في بيتها صباحا ففي العصر وأول المساء تكون هناك بجوار البانطون حيث تبيع الشاي بالحليب "اللبن" مع الزلابية لعابري النهر. كان لها زبائن كثر.. والبعض كان يعبر النهر من الغرب إلى الشرق ليس لهدف سوى شاي رضينة.. أو تأمل وجهها الصبوح ومشيتها المتكاسلة التي تبدو معها كما لو أنها جنيفر لوبيز بسمرتها المنعشة للأرواح. كانت تلك الهوساوية التي لايعرف لها أب ولا أم ولا أهل مصدرا للإلهام والجذب والسعادة المؤقتة لمن أراد أن يسلي نفسه عن رهق الأيام المتقاعسة عن توليد الجديد. فما أن تفرغ من مشاوير العصاري وتعود إلى بيتها مساء حتى تبدأ رحلة الليل، كنت أرى الرجال يدخلون ويخرجون من عند باب بيتها القصير القامة.. المصنوع من الدوم.. لا أحد يطرق الباب أو يستأذن.. فقط يحنون ظهورهم ويدخلون يقفون صفوفا.. وكم تلصصت لأسمع أنات الجماع والوصال، لتلك المرأة التي لا أنكر أنها كانت مصدرا ملهما لي في تفريغ الشحنات الزائدة في مراهقتي الأول. ساعة أراها تعبر الزقاق الصغير المعطر برائحة البخور والصندل.. لأهرع إلى الحمام وأعيد صورتها محاولا تركيبها من جديد في مخيلتي لأختلي بها وأهدي من روعي وأتنفس بهدوء في النهاية ثم أسرع إلى أحد دفاتري الصغيرة لكتابة الشعر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
Quote: مثلما أعجزعن تفسير سبب تغربي وسبب وحشتي في هذا العالم وانكساراتي وأوجاعي وأناتي.. وسبب انتسابي لبلد لم يعد مفخرة يحكمه رئيس أرعن وحثالة من الغوغائيين من ذوي النفوس المركبة على الشر والضغائن وأكل السحت.. |
.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كانت صباح تصر على أن اسمي مدثر.. لانني كما يقول أهل الحي كثير التخفي.. والبعض كان يسمني الضب.. خاصة عندما أسرع من بيتنا إلى بيت جارنا حسب الله الذي كان متقاعدا بالمعاش عمل معظم حياته متنقلا في ربوع السودان داخل القطارات، حيث كانت مهنته مفتش قطار.. في الواقع كانت تلك هي المهنة التي تقاعد عندها.. فهو كما حكي لنا قصة حكايته مررا.. كان صبي لا شغل له.. جرب ما جرب من الأشغال.. من حمل الطوب في القمائن المجاورة للنهر والتي يصنع فيها الطوب الأحمر.. إلى مهنة الزبال في بيوت ميسوري الحال في البلد.. إلى مهنة بائع الطواقي وإن كانت لاتليق به كما يقول.. لأن من كانوا يمارسونها "سودانيين غير أصليين" بحسب زعمه.. وهو أمر كان صعب علي أن أفهمه وقتذاك.. من هو السوداني الأصلي ومن هو المزيف؟ وسألته مرة فأوضح لي بطريقة زادت المسألة تعقيدا.. "السوداني الأصلي مثل أمك وغير الأصلي مثل رضينة". قلت لنفسي هل يعني ذلك أن الأصلي هو الذي لايبيع شرفه.. فالشرف هذه المفردة كانت كثيرا ما تتردد بجواري دون أن أكون مرئيا في المكان المعين.. لكن لاحقا فهمت أن القضية تعنى بفيزياء أخرى متعلقة باللون، بالقبلية، بالعرق، بالهوية ذلك اللون الغامض الذي كنت أخاله اللون الثامن في قوس قزح سماوي يلون سماء بلدتنا في أول الخريف.. ساعة أقف واحاول أن ارسمه في ورق مقوى كانت جارتنا صباح تحضره معها من المستشفى، في الواقع تسرقه من هناك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: مها عبدالمنعم)
|
Quote: امييييييييييييييييييين بس قصر حقيقي مامارق من قلب روايه وبس مساحته الف متر كفايه |
بس أنت يا مها صدقي القصر المارق من الخيال بكره بجيك ان شاء الله الطالع من الواقع
لانو أي واقع كان في البداية خيال..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
والله يا عماد قدرت تكتفنا وتبركنا وتقرينا كل هذا الكلام الرائع
مع انه في ظروفنا التي نعيشها وبهذه النفس لا يستطيع حتى يوسف السباعي أن يفعل
كن مواصل وكن بخير..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
Quote: ان الشيخ الفلسطيني الذي باع لي الأرض أهداني نصف المساحة التي اشتريتها.. والسبب في غاية البساطة انه قرأ أحد رواياتي فأعجبته وقال لي هذه مكافأة لك.. فالرجل مغرم بالقصص والروايات. |
حيرني هذا المقطع كثيرا يا عماد
لدرجة بت اقتنع جازما بأن له ابعاد اخرى بين السطور اكثر من المعنى الظاهر للقصة ..
ما الذي جعل فلسطيني يمتلك ارضاا في سوبا وليس في بيت المقدس ويبيعها ويهدي منها جزء مقابل قصة او رواية .. لمجرد اعجاب ؟؟؟؟
على حال لازلنا ننتظر اللمحات النهائية لهذه اللوحة السريالية الرائعة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كتبت
Sloom Ibrahim
في صفحتي على الفيسبوك تسأل:
يعني مُصر على رأيك لازم تبيعه؟ .. ياباشا استهدى بالله شوية فكر مرة ثانية .. لو "الفلسطيني" سمع حا يزعل منك هذه الأرض *كانت غالية* عنده و لأنك أنت *غالي* عنده أهداك إياها
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كتبت: intisar Mansour
في صفحتي على الفيسبوك تسأل:
imad is this a real sale for a palace or a novelist talk
كتبت:
دي رواية يا انتصار
كتبت انتصار:
i was going to make an offer
وعلقت:
looooooool
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
Quote: ي أقف عاجزا أمامها كثيرا.. مثلما أعجزعن تفسير سبب تغربي وسبب وحشتي في هذا العالم وانكساراتي وأوجاعي وأناتي.. وسبب انتسابي لبلد لم يعد مفخرة يحكمه رئيس أرعن وحثالة من الغوغائيين من ذوي النفوس المركبة على الشر والضغائن وأكل السحت.. أما السؤال الذي يظل يحيرني هو قدرة المكان "الافتراضي" الذي ولدت فيه أو جئت منه على الاستمرار والمقاومة رغم كل التصدعات والقيح والصديد الذي يخرج أطنانا كل دقيقة من نوافير حية.. بحيث صار .. يمكن لهذا البلد أن يصدر منه لكل دول الدنيا.. ويعجن بعض من الصديد ويصنع منه كسرة وخبر وزلابية كالتي كانت تصنعها حاجة رضينة.. أتذكرها الآن.. ولا أعرف سببا لذلك.. فهي جزء من حنيني واشتياقي لمدن العتامير التي يتجول فيها كل من هب ودب الآن في سبيل الاشتياق لشيء ضائع، حلم بالثروة المستعجلة.. في أودية يقال أنها مسكونة بالجن الذي يحرس التبر.. هذه اللعنة التي خرجت فجأة من باطن الأرض لتشغل الناس بما فيهم الحكومة.. ومن سينشغل بذلك أن لم يكن هي.. هذا الجن الذي كان سببا في التفريق بين المرء وأخيه.. أعرف كم الأخوة فقدوا أخوانهم في تلك الأودية بسبب الموت بالأفاعي أو الموت المباشر بأن يقتل أحدهم الآخر أو يرديه برصاصة موجهة إلى صدره. أو يسوقه إلى مكان قصي بين جبلين شامخين ويقص رقبته قصا بسكين. إنها اللعنة التي تسكن الآن ذلك المكان الذي ولدت فيه وجئت منه قبل أربعين سنة.. |
لسان حال ومقال كل الشرفاء السودانيين الذين عبرت عنهم بابلغ ما امكن جني
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
أخي الكريم عماد قرأت ما كتبت حتى الآن ثلاث مرات وفي كل مرة يدهشني هذا السرد الجميل تلقائية و عفوية تذكرني بالرائع زيدان حينما يغني بلا تعب كأنه يتكلم أزداد حسرة لأن إبداعنا الجميل هذا لايعرفه الناس و مثلي ومثل الكثيرين غيري أردد سراً و جهراً هل من مزيد هل من مزيد وهل من مزيد؟ و لك و لقلمك الراقي كل الود و الاحترام
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: ALWALEED ALSHEIKH)
|
الاخ وليد
لك الحب ان منحت روحي هذه الطاقة التي يندر مثلها في هذه السنوات القاحلة.. أن تجد من يقول لك أنت فعلت شيئا يستحق أن يقرأ أو يتأمل أو يعاش على الأقل في خواطرنا هذه الطاقة هي التي نحتاج إليها بيننا لنوقد حياتنا من جديد.. كشعب يستحق الحياة..
مودتي..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
غابرييلا.. قرنفل وقرفة، ذكرى تلك المرأة الخلاسية التي تقفز في الذهن كطائر حديقة منسية في أحلام الطفولة والذكريات المشردة مع وعثاء الزمن وأسفاره اللامتناهية.. كان نبينا الكريم ساعة ينوي السفر يقول وهو مستويا على ظهر بعيره قبل أن يشق الفيافي: "اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل".. وهكذا سافرت من بلد إلى بلد.. أتنقل من وعثاء إلى دعة ومن هموم إلى صفاء، أعاين تارة مناظر تسرني ومرة أخرى أكحل عينيي بمرواد الانكفاء على الذات، بعيدا عن الأحياء، مسترجعا تلك الأيام القصية في مكان مجهول في ركن من أركان دماغي الشريد. بعد أربعين سنة في هذا العالم، أقف اليوم على مقربة من ربي حيث وصلت إلى بيت الله لأداء فريضة الحج، أنا التائه المنكسر الجناح.. اتبتل إليه أن يغفر لي خطاياي ويكفر ذنوبي ويقبل توبتي.. فأنا أعلم كم أنني من المثالب قد ارتكبت في هذه الدنيا الدنيئة. وقلت إنني بعد زيارة قبر النبي عليه السلام سوف أعود إلى بلدي، عسى أن أبدا مشروع حياتي هناك، فالحياة لم تبدأ بعد.. فكفى جراحا وغربة وتوهانا في البلدان.. كانت رغبتي بالعودة كبيرة.. لكنني كنت أخشى على نفسي من نفسي.. أخاف أن يأخذني وحل السنوات المستحدثة وضجيج بلدي الذي ما عاد مطمئنا ولا ميسور الحال.. كل السنين التي مضت وأنا أنتظر ذلك اليوم لكي أقول لنفسي صادقا.. "جاء الحبيب المنتظر".. والحبيب هو ذلك "الأنا" الذي يسكنني.. الأنا القديم الذي دفنته هناك بين رمال العتامير، دفنته وسط أحبائي القدامى، مع الذين كانوا حقيقة ذات يوم وتحولوا إلى ما يشبه الافتراض في عالمي لطول الرحلة¬¬¬¬، أكاد أعثر عليهم بصعوبة وأنا أحاول لملمتهم في أضغاث المساءات الملعونة في ديار المهجر وأنا أتقلب كمن يعاني ألم في جهة ما في القلب.. والقلب سليم.. كان الطبيب الأمريكي الذي أجرى الفحص علي، قد قال لي: "وضعك الحالي مطمئن .. لكن ينبغي أن تأخذ قسطا من الراحة". قلت لنفسي: "إذن هو الحج.. الرضا.. تلك الطاعة التي نتقرب بها إلى المولى لنغسل القلوب ونعيد بناء الشروخ التي بدواخلنا.. نرى العالم من جديد.. نستقبل الأحبة والأحلام وطموحاتنا في هذه البسيطة مهما كانت الأقدار.. نكون نحن المغامرون الذين تأخذنا الرأفة بأنفسنا.. نحن المعذبون في الأرض.. المكتوين بجراح لاتندمل.. وقلق لاينتهي.. وفوضى لاتجد لها نظام أبدا.. ساعة يكون على الروح أن تغلي كمرجل يفتقد للتوازن معلق بين السماء والأرض.. نحسبة شهاب يهوي فنخاف على أولادنا". قال لي الأمريكي ذو الستين عاما ليس أقل.. وهو يسترجع السماعة عن صدري يضعها على الطاولة البلاستيكية ثم يشعل سيجارة.. ضاربا بقواعد المهنة وباللياقة الصحية والأدبية عرض كل ذوق.. قال ساعة بدأت أنا في الكحة: "Iam sorry" يقوم بإطفاء السيجارة في المطفأة الجرانتية أمامه.. بعصبية يزيحها ثم يقول لي: "أهتم بنفسك.. لاحظ أن وزنك يتناقص كل مرة عن المرات السابقة التي زرتني فيها.. خفف من الغضب والقلق.." سكت هنيهة وكأنه تذكر أمرا مهما قال لي: "لدي طلب..!!" انتظرت لأسمع.. وحركت رأسي دلالة على الموافقة المسبقة لطلبه.. أدركت أنه أمر متعلق بصحتي.. قال لي: "توقف عن التدخين.. هذا أولا.. الأمر الثاني..." ابتسمت وقبل أن أتكلم فهم مقصدي.. أنه يتحدث عن طلب واحد.. والآن طلبان... ضحك بطريقة مخجلة.. لا تليق بطبيب لاتربطه علاقة بضحيته، سوى أنه جاءه يبحث عنده عن أمل في الحياة بشكل أفضل.. الواقع أنني احتقرته وتخيلته كأحد أبطال رواياتي الذين أزج بهم في مصائر أنا نفسي لم أكن أتوقعها ساعة أبدا في الكتابة.. ولا أدري هل كان يقرأ ما يدور بخلدي أم لا.. هل لديه قوة سحرية لاكتشاف ما يتحرك في أذهان ضحاياه من المرضى.. ليس هذا هو السبب قطعا.. هي صدفة لا أكثر.. كان قد قال لي: "طلبي الثاني أن تتوقف عن الكتابة.. اعرف انك لا ترى العالم بغير هذا المنظار.." كان يعلم أنني أكتب من خلال اللقاءات السابقة ومن خلال حوارات مبتسرة دارت بيننا، وأخبرته كم أنني شغوف بأن أكتب شيئا عن مهنة الطب ذات يوم.. وقال لي وقتها: ".. جميل أنك ستكتب عن مهنة إنسانية عظيمة".. الآن أقرر أنني سأكتب نعم.. ولكن سأكتب ليكون بطلي روايتي القادمة هذا الطبيب الأمريكي الأخرق.. لا أدري إلى أين سأقوده بالضبط.. هذا الذي يريدني أن أتوقف عن الكتابة.. إنه يريدني أن يقتلني قبل يومي.. لا لن أفعل.. كدت أن أصرخ فيه..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
سرحت بل غصت بكل تركيزي بين حنايا هذه الحروف الرائعة ، وأعجبت وإنبهرت بهذا التركيب البلاغي المتفرد . لم أنتبه إلا عندما لم أجد مواصلة للقصة وأعجبيت جدا بإنتهائها بالتوبة وطلب المغفرة من الكريم الجبارز
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
فكرة أن أكتب رواية عن طبيب أمريكي مختال سرعان ما انقطعت علاقتي به، لم تستمر طويلا، لأنني كثيرا ما ترد بخاطري أفكار عن موضوعات تصلح لأن تكون روايتي القادمة، أقوم بالتنازل عنها فور انغماسي في تفاصيل الحياة اليومية.. فالعمل اليومي المضن والشاق في مهجري يأخذ مني الكثير من الوقت.. وشؤون العائلة والبيت تستغرقني.. فأنا رجل متزوج وأب لطفلة جميلة هي في الثالثة عشرة من عمرها الآن، لاتعرف عن السودان الكثير.. ولم تولد فيه.. تجيد العزف على آلة الكمنجة وتغني لمحمود عبدالعزيز وطه سليمان وأمير حلفا وعبدالعزيز محمد داؤود ونانسي عجاج.. صوتها جميل.. غنت أكثر من مرة بالنادي السوداني في مسقط بسلطنة عمان، في مناسبات اجتماعية.. كانت تسألني عن مسقط رأسي.. عن الصحارى والعتامير وأيام طفولتي وذكرياتي القديمة.. وعن رحلات الصيد في الأرض شرق النيل المسماة بالخلاء حيث كان عمي يصحب بعض من العرب القادمين من السعودية ودول الخليج العربية لصيد الغزلان، وهم يتبخترون بسياراتهم العالية ذات الدفع الرباعي بأصواتها المزعجة في الليل وأدخنتها العجيب، ينصبون خيامهم بلا رقيب.. يعودون إلى بلادهم يكون عمي قد عاد إلينا بالهدايا التي هي بقايا ما ترك القوم من مأكولات معلبة وعصائر وبسكويت وحلويات وأشياء لم نرها من قبل.. والتفاح والكمثرى والعنب وفواكه لاتنضج في أرضنا.. تقول أمي لم نكن نظن إننا سوف نأكلها إلا في الجنة.. أما أبي فيصرخ ساعة يرى هذه "الفضلات" كما يسميها.. ويحذر أمي، ويكون قد ركل المخلاة والأكياس البلاستيكية التي تحتفظ بها جدتي في البترينة كأعجوبة.. وتستعرض بهن أحيانا أمام رفيقاتها.. وهي تتهجأ الحروف الإنجليزية المكتوبة.. أم .. أي .. إل .. إل .. Mall.. كانت تعرف الحروف لكنها لاتمضي أكثر من ذلك.. ومرة طلبت من حسب الله أن يسلفها قاموس دكشنري.. فاستغرب من طلبها.. ولم يرفض.. وأخذته لتقضي يومين كاملين في الهجأ بصوت عال.. لكنها لم تفعل شيئا ولم تتعلم سوى تضييع الوقت الذي لا تعرف كيف تقضيه.. بعد أن فقدت زوجها.. صحيح أن الرفيقات مسليات بالنسبة لها.. لكن جدتي لأمي امرأة ضجرة لا تحب إلا نفسها.. أحكي ما أحكي لماجدولين.. ابنتي.. عن تلك الأيام التي تطل وراء نافذة التاريخ المنسي لذلك البلد البعيد.. كأنها تستغرق معي.. ومرة قالت لي: "بابا ليش ما تكتب عنهم ديل ناس اكسبشنل" أحترم أفكارها جدا.. وكثيرا ما أتعلم منها.. أرد عليها بالإيجاب.. وفي اليوم التالي أتركها تجلس أمامي اللابتوب لتبدأ في قراءة ما كتبت ليلة أمس.. لقد ظللت سهرانا إلى الفجر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
استيقظ من أحلام اليقظة على صوت جارتنا صباح تناديني من وراء الحائط: "يا ولد يا مدثر.. قول لي أمك طهارة أولاد جبارة بكره". تسرع ماجدولين لسؤالي: "بابا.. جبارة دا منو.. ما حكيت لي عنو أبدا".. جبارة.. ماذا سأقول لها عنه.. يمكنني أن أحكي عن رضينة أو حسب الله أو صباح أو حتى أولاد النعسان.. لكن أن أكلمها عن جبارة فأي لغة سأتكلم بها.. ماهي هذه المصيبة التي وضعتني فيها.. وكيف لي أن أتحرر من مأزقي... هل أؤلف لها قصة كما أؤلف القصص.. أم أقول لها الحكاية الحقيقة عنه.. كانت تتأمل حيرتي.. وسكوني.. وكانت تقرأ أفكاري.. فقالت لي: "بابا أنسى.. استمع معي للموسيقى لكي تنسى" وبدأت العزف على الكمنجة.. وغنت بصوت هامس في ذلك الصباح.. لا أعرف ماذا كانت تدندن بالضبط.. لكنني عشت تلك الهنيهات التي استمرت لدقائق، لنصف ساعة تقريبا.. كنت كمن يعيش حلما جميلا.. أتأمل ابنتي وروحي بكبرياء ونشوة أب فرح بدوره في الحياة.. أسرع لاحتضانها وهي تضع الكمنجة في جيبها ومن ثم على الرف أسفل لوحة الخشخاش لفان كوخ.. ودمعة فأخرى فثالثة تنكسب من محجري.. وأنا أرى أمامي صورا لست قادرا على فرزها بالضبط.. ماذا تكون؟ كأنني أقف أمام ظلال باهتة لبيوت الطين التي عشت فيها طفولتي.. أو عربات الكارو التي قدتها في النهارات الحارة لأترزق بها.. وأنا أجري وراء والدي وهو يحملني معه من زقاق لآخر ومن فسحة لشارع.. ننقل الرمل والحجارة للبيوت تارة.. وأحيانا يفتح الله علينا بأن نحمل جوالين من الفحم إلى بيت أولاد النعسان.. فيغمروننا بالمال هذا إذا لم تحمّلنا أمهم بعمود طعام يكون هو هدية مع ما فيه.. هؤلاء أكرم ناس رأيتهم في حياتي.. لكن الحياة ليست مضمونة دائما.. فقبل أيام أخبرتني هند وهي تدردش معي بالشات في صفحتي على الفيسبوك أن أولاد النعسان لم يبق منهم واحد إلا ودخل السجن.. ربما أصغرهم ذهب إلى وديان الذهب يبحث عن نصيبه مع الباحثين.. ذكرت لي ما ذكرت وهي قادرة على التصديق.. كيف تلاشت ثروتهم التي كانت توصف بأنها كالجبال. كتبت لها: "علينا أن نصدق.. هذه هي بلادنا!!".. أرسلت لي ردا في شكل وجه يبدو عليه الحيرة يضع أصبعه على خده! ... وفتحت عيني على المكان الذي فيه أنا الآن في بيتي بالمهجر.. وماجدولين ترتب بعض أغراضها لأنني قد نويت السفر إلى الحج.. وهي ستذهب في رحلتها الأولى إلى السودان.. وبعدها سوف استقل أنا الطائرة من المدينة المنورة إلى الخرطوم لنلتقى بعد أسبوعين على الأكثر.. أما والدتها فقد سبقتنا لترتب حال أحد قصورنا قبل أن نقرر بيعه نهائيا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كانت رواياتي.. قصصي.. تمثل نوعا من الحنين إلى الديار التي جئت منها.. وكنت أكتب لكي أسلي نفسي وبعد أن جاءت ماجدولين كنت أكتب لها.. عن هؤلاء الناس "الاستثنائيين" الذين هي أحبتهم كما تقول قبل أن تراهم.. أحبتهم كشخصيات روائية وهي غير متأكدة إن كانت سوف تحبهم في الواقع أم لا.. صعب على أن أحكم.. فثمة مساحة فاصلة دائما بينن ما تصوره لنا أذهاننا وتخيلاتنا وما نعيشه في الحقيقة. كان علي أن أخبرها عن أولاد جبارة.. وعن الغضب الإلهي الذي حل بهم كما يقول الناس هناك.. حل بسبب أبوهم وعمهم وعمتهم.. فأولاد جبارة في الأصل هما حسن وحسين وحسونة.. وثلاثتهم أولاد سفاح.. يعني "أولاد حرام".. ثلاثة توائم أنجبتهم أمهم في يوم واحد.. خرجت البنت أولا ومن ثم خرج الولدان في الماعون أسفل العنقريب.. كانت القابلة بت النبي تضع الواحد منهما في الصحن الملئ بالماء نصف الحار.. تغمسه ثم تخرجه بعد أن تكون قد غسلته من مابقي من مشيمة الرحم وبعض من الدم الآثم لامرأة سوف تموت في تلك الولادة، تفعل بنت النبي ذلك وهي تلعنهم.. ويهرب الأب.. الوالد إلى جهة غير معلومة.. لأن أهل البنت التي حملت سفاحا.. أهل حرم الله، قرروا في ذلك المساء واستجمعوا أمرهم على أن يقتلوه إن بقي بينهم.. فكان قراره أن فر بليل ولم يعد له أثر.. سمعت أخيرا أنه عاد وهو قد تجاوز الستين من عمره.. بلحية كثة بيضاء ويقال إنه قضى أربعين سنة في الإسكندرية المصرية يعيش متخفيا هناك عن أي من بنى جلدته.. ويقال إنه تزوج من مصرية غلفاء وأنجب منها خمس من الأبناء.. لكنه عاد ليموت في أرضه وبين أهله.. فلم تمض سوى أيام قليلة إلا وقد حمله المشيعون إلى مقبرة البلدة التي باتت في وسطها بعد أن كانت أقصى الشرق.. والتي أحاطت بها المساجد بدلا عن بيوت الحواري القديمة التي شهدت زنقات العصاري والمساءات في المناوشات بين رجال الشرطة والسكارى. وربى أبناء جبارة، أهل أمهم.. كانوا يتعاملون معهم كعار.. بيد أنهم ماذا يفعلون.. لكنهم تركوهم بلا تعليم أو وصاية.. تركوهم يتعلمون من الحياة والشوارع.. وبقدرة الله حدثت المعجزة، فقد أصبحوا مشائخ وأنوارا زكية، والآن إذا ذهبت إلى هناك ودخلت أحد البيوت مابعد ميلاد أو ختان فسوف تأتي إليك أصوات مديح بهي للرسول الكريم.. وستدخل إلى صالة معروشة بمروق الدوم لتجد رجلان وامرأة هم المادحون.. تحمل المرأة الطارة تدق عليها.. رغم أنها لاترى فقد أعمتها السنوات والإهمال والفقر.. قلت لماجدولين: "هؤلاء هم أولاد جبارة يا بنتي" وسألتني: "..والطهارة كانت لمنو؟" ابتسمت.. فالقصة طويلة إذن.. غير أني اكتفيت بالإجابة على سؤالها: "الطهارة كانت لأولاد حسن.. فحسين لم يتزوج إلى أن ألتهمته الحياة على عجل.. وحسونة تزوجت مرة واحدة وتطلقت" كانت حسونة ذات جمال باذخ في صغرها.. أتذكر أنني رأيتها مرة شبه عارية وهي تقف أمام بئر أولاد النعسان تملأ الدلو بالماء.. لأن الشبكة الرئيسية كانت معطلة.. وبئر النعسان وقف وحلال لكل من أرادها.. رأيت نصفها الأسفل من المؤخرة.. كانت قد انحنت مع الحبل الذي حمل الدلو إلى أسفل البئر.. بيضاء بردفين سريعي الاهتزاز كأنما تريد أن ترمي بهما وتهرب.. كان سروالها واسع شفاف بحيث يمكن رؤية أشياء أخرى.. لكن الجمال ينهزم أمام "بنت الحرام" كما أخبرني حسب الله.. إلى أن جاء اليوم الذي تزوجها فيه إبراهيم المصري.. ذلك الرجل الذي قضى خمس سنوات وسطنا يدرس اللغة العربية بالمدرسة المتوسطة.. كان المدرسون المصريون في تلك الأيام في كل المدارس تقريبا.. وأعجب بها وأسرّته ولاحقها وسط الجزيرة والجنائن قريبا من النهر في العصاري.. إلى أن فاز بها.. كانت تذهب لتملأ قفتها بالنجيلة والسعدة تقلعها بيديها القوتين دون أن تستخدم المنجل.. لتعود بها إلى غنمها.. أنتهت تلك المساسقات بينها والمصري بالزواج.. وفي النهاية قبل أن تمضي أشهر كان قد طلقها وبعدها غادر الرجل إلى دياره.. ولم يعرف أحد عن سبب الفراق.. قيلت أمور كثيرة.. وذهب السر بين صاحبيه.. ولأن حسونة كانت هي التي تؤلف أغلب المدائح لأخويها.. وهي.. إن لم يمدحا للبرعي أو حاج الماحي.. فقد كانت تستحضر في بعض مدائحها ألغازا من سيرة زواجها بطريقة تبدو غامضة، تعيد فيها ذكرى مصر بالكلام الحسن على شاكلة "مصر المؤمنة بأهل الله".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: حامد محمد حامد)
|
شكرا يا حامد
مازلت أتذكر سؤالك لي في عام 2009 عن رواية "دماء في الخرطوم" والتي قلت انها تنفع فيلم سينمائي وان اعرض الفكرة لمنتج مصري.
المشكلة ان تلك الرواية لم تدخل السودان فقد طبعت في الخارج.. في بيروت ومعارض الكتب في السودان ضعيفة.. كما ان قنوات التوزيع مشكلة.. هذا اذا لم تصطدم بعقبة الرقابة..
شكرا لك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
في مطار الخرطوم تهبط الطائرة المثقلة بجراح المغتربين والمشردين وأنات الحجيج العائدين إلى بلدهم بعد أن غسلوا أدرانهم وأوجاعهم.. وإن لم تخلوا من أناس من مختلف الجنسيات ومشارب الأرض.. عرب الخليج.. إيرانيون.. هنود.. صينيون.. فلبينيون.. روس.. بنغال.. مصريون.. شوام وعراقيون.. والرجل الأوزبكي.. من أوزبكستان الذي جلس بجواري.. والذي ايقظني من النوم ورحلتي مع محمد النور ودضيف الله.. هاقد وصلت أخيرا إلى أرض الوطن.. الرجل يبدو مرتبا ومهندما بلحيته الصغيرة البيضاء.. هو تقريبا في منتصف الخمسينات من عمره.. كان يحمل مسبحة قصيرة ذات حبات صغيرة فضية.. كان يتمتم مع نفسه ويراقب الأشياء بتحريك عينيه يمنيا ويسارا على عجل.. أخبرني والله أعلم إن كان صادقا أم كاذبا.. إنه يعمل مهندسا في مجال البترول.. ونحن في ساعات الهبوط الأخيرة.. في فصل الخريف.. حيث بدت الخرطوم معشوشبة على ضفاف الأنهار من عل.. كلمني الأوزبكي عن خيرات بلدي.. وقال لي: "انتم شعب يعيش في نعمة لا تدركونها.. لماذا تهاجرون يا ولدي وتهربون عن الأخذ بيد هذه الأرض الطيبة.." قلت لنفسي: "هذا الرجل إما أنه يسخر مني أو أنه صادق يجهل الحكاية برمتها".. كنت أقول لنفسي ذلك.. وأنا لا أفهم ماهي الحكاية بالضبط.. التي فرضت على الملايين مثلي.. الهجرة والتسكع في بلدان الآخرين.. تارة أكون ضيفا ثقيلا وأحيانا يحترموني على مضض وفي بعض المرات يجاهرون بعدواتي وأنني كـ "ابن السفاح" بلا أم ولا أب.. ماهو الوطن وما هي الأرض إن لم تكن الأمومة التي ترضعك من ثديها الحنون.. وماهو الوطن إن لم يكن الوالد الذي تتكئ على ظله في ظهيرة قائظة وأنت في أشد الحاجة إلى قلب يحمل الشفقة والحب والاحتمال.. كيف أشرح له ذلك وهو مشغول برواية الأرقام يخبرني عن حجم اكتشاف نفطي جديد في المربع رقم 17 ورقم 25 وفي منطقة الامتياز العاشرة.. وعن حفريات تجريبية للغاز في المنطقة الفلانية.. هل هذا حقيقي أم وهم يارب.. وأين تذهب أموال النفط؟ ولماذا يعاني الناس ويتمردون ويقاتلون بعضهم البعض.. ولماذا يكون شظف العيش والرهق والخوف من المجهول.. أصابني صداع شديد لم أشعر به حقيقة إلا ساعة اقترب مني رجلان أحدهما ممتلئ الجثة يلبس بدلة زرقاء والآخر بعمامة وقالا لي بصوت واحد جهور: "السيد عمادالدين.. تفضل معنا.." "نعم.. ماذا تريدان؟.. ما أنتما.." لم يسمحا لي بالسؤال أو الحديث.. وتركاني دون أن أودع مهندس النفط الأوزبكي.. الذي هبط من الطائرة لتقله سيارة ليموزين كانت تقف بجوار المهبط تماما.. وانطلقت بسرعة جنونية اتجاه صالات المطار المخصصة لكبار الزوار..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كتب الصديق قسورة إمام في الفيسبوك معلقا
Quote: خيال تشكل في بربر ،،، والرواية معطونة في أزقتها وريحتها بربر بربر :) ، وأنا أقرأ هذا الأبداع أراني أتبسم وأسترجع الأمكنة والشخصيات ، يا له من سرد مبهر يستعين بصور واقعية ممزوجة بالخيال والمقدرة على إمتاعنا ،، رواية تجتر ذكريات الثمانينات في تلك الربوع ، وكابن منطقة أقرأها بصورة مختلفة :) شكرا ياعماد يارائع. |
شكرا ليك يا قسورة.. وفعلا بربر لها حضور.. فهي مسقط الرأس الذي به نلتحف أيامنا القديمة والجديدة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
كمن أخضع لتنويم مغناطيسي أو أدخل في عوالم أخرى مفقودة لاتنتمي لهذا العالم الأرضي الذي نعيش فيه بقوانينه الكلاسيكية.. كنت قد وجدت نفسي استيقظ بعد كم من الوقت الله أعلم.. كنت عاريا كما خلقت.. وليس بجواري من أحد سوى نفسي المنهوبة الخارجة من ظلماتها.. وهي تشعر بضيق شديد لاتعرف له سببا سوى ان أمرا ما قد حدث.. شيء من قبيل الأشياء التي يجب ألا تكون وكانت.. فكل العقائد واليقين الكلي الذي ظل يهيمن علي طوال حياتي الماضية قد انفرط عقده الآن في هذا المكان الذي لم أفهم سره بعد! هذه الغرفة.. التي حولتني إلى فضيحة لنفسي.. وواجهتني بحقيقتي المخاتلة أنني مجرم حقيقي.. أخون من أحبتني.. وأعيش في العار.. لا أقدر على الفكاك منه.. ماذا سأفعل الآن وبأي لغة سوف اعتذر.. ومن سيقبل اعتذاري.. والله أعلم أيضا ماذا فعلوا بي.. لربما دبجوا الآن صوري ونشروها في مواقع الانترنت وصفحات الفيسبوك وتويتر.. يجب علي أن أفهم مقصدهم.. وصرخت لكن لا أحد يسمع لي.. لا أحد في المكان.. أين هي تلك الـ ع ا هـ ر ة.. صرخت بصوت مسموع.. صوت عال.. لا مجيب سوى الصدى في الغرفة التي ضاقت أو هكذا تخيلتها فقد انطفأت الكاميرات والشاشة التي كانت معلقة هنا.. وذابت موسيقى بوب مارلي في مكان مجهول.. ولم يعد ثمة أثر لسوى ذكريات عما كان هنا.. عما أتذكره قبيل استيقاظي.. لا أتذكر إلا تلك اللحظة الأخيرة التي كانت فيها هي قد ضغطت علي بقوة في موضع ما من جسدي الهش.. وقالت لي: "تأوه يا حمار.. لا تعرف كيف تتأوه.. تأوه مثلي .. آه منكم أيها الرجال الأغبياء". وبعدها لا أتذكر أي شيء.. ربما كنت أتمشى في ساحة ما في عاصمة أوروبية وحولي مناطق خضراء وتماثيل لنساء عاريات من الفضة وأخريات كاسيات متنقبات يحملن مصاحف وأناجيل.. ومرة أخال نفسي أطير فوق برج إيفل وأبدو طويلا جدا أطول من ناطحة سحاب.. تخيلوا رجلا يطول مثل جمل يحمل شيخا ترغب نساء في تقبيل يده.. ومن جديد كان شيخي ودضيف الله.. صديقي يطاردني في تلك الهنيهات المفارقة للزمن الأرضي المدرك.. زمن هذا الكوكب الملعون الذي أعيش أحواله شئت أم أبيت.. وفجأة أسمع صراخ.. تأوه.. أنين.. رجل يرفس كديك مذبوح وسيدة تنام بجواره كأنها تخرج من قبر أدخلت فيه للتو وهي تهرب يطاردها ملاك قبيح المنظر يحمل في يده آلة حادة يريد أن يجتز أماكن حساسة من جسدها.. ومن ثم رأيت براقا سماويا يهطل منه مطرا لكن لا أحد يشتري المطر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
استيقظت بعد يومين.. ثلاثة.. أربعة.. أسبوع.. لا أدري.. كان صعب علي أن أدرك كم مضى من الوقت.. كنت في كهف تحت الأرض على ما تخيلت حيث لم يكن ثمة بصيص من الضوء.. دعك عن أمل.. وكانت نار هادئة تنبعث في المكان مع أصوات بعيدة نوعا ما كأنها تخرج من باطن الأرض.. هل أنا داخل بيت للجن والشياطين.. أم في بيت أنس.. ومن جاء بي هنا.. وكيف تركت الغرفة التي كنت فيها هناك مع تلك السيدة الراستافارية.. هل هو مشهد جديد من روايتي يتكرر الآن بحذافيره.. أي هذا الواقع السمج الذي يحاكي رواية.. بدلا من أن تحاكي رواية للواقع. في مناقشة جرت في النادي الثقافي بمسقط.. قال لي صديقي العماني يوسف الهنائي: "يا عماد هؤلاء الراستافاريون.. يحبون حياة الكهوف.. يعشقون الحياة البرية.. الحياة على علاتها وكما أوجدها الله منذ الأزل.. يبدو أن قيمة الإنسان في تتبع تكوينه البدائي وعاداته التي هجرها منذ قرون طويلة" لم أعلق على يوسف.. أعرف أنه قد يذهب في تفسير الأمور كثيرا.. وبعيدا عن مغزاها الأساسي بحيث أنه في نهاية الأمر يكون قد رسم صوره الخاصة به وليست الصور التي كانت في ذهن الكاتب. لكن وبوصفه صديقا فقد أجبته: "ببساطة يا يوسف.. الراستافارية هي محاولة للعودة إلى طبيعتنا نحن الأفارقة.. وأنت أيضا فيك هذا البعد الأفريقي.. أنت أساسا جدتك لأمك من زنجبار.. ما زلت أتذكر قصتك عن هروبها مع العائلة من المجزرة الشهيرة في الستينات" ضحك يوسف كثيرا يومها.. وكان النادي الثقافي قد انقسم لفريقين في رؤيته للنص.. هناك من يرى أن الراستافارية كدين وكفكرة هي قائمة وموجودة.. لكن كثيرا من القصص حولها في الرواية هي من اختلاقي.. لم أعلق.. تركت لهم حرية التفكير في النص كيفما شاءوا.. وكنت أسرح بخيالي في تذكر المرة الوحيدة في حياتي التي التقيت فيها برجل حقيقي في هذا العالم معتنق لهذه الديانة الغريبة ومؤمن بها أشد الإيمان.. كان يحج سنويا إلى أديس أبابا ويصلي هناك على إيقاع الريغي.. ويجلس في شقته المؤجرة أمامه صورة كبيرة للأمبراطور الأثيوبي هيلاسلاسي.. حدثني أن هيلاسلاسي في بعض المرات وفي آخر الليل بوجه خاص كان يغادر الإطار ويكبر حجمة شيئا فشيئا حتى يقف أمامه بكامل أبهته وأحيانا يرقص مع موسيقى بوب مارلي إلى حين قريب من الفجر.. ثم يمضي إلى اللوحة وينام بهدوء بعينين مفتوحتين.. كانت حكايات ذلك الرجل مدهشة بالنسبة لي.. كان لقاء عابرا في مطار خليجي ومن ثم اختفى عني.. حتى رقم الهاتف الذي وضعه معي كان مزيفا.. ولم أعثر له على أثر.. كأنه كان من نسج خيالي أو جاء في ضغثة من أحلامي في ذلك المطار الكبير.. حيث يكون على المرء الانتظار طويلا حتى يتم تبديل الطائرات ليواصل المسافر مثلي الرحلة من بلد إلى آخر. وحاولت أن استجمع ذكرياتي عنه في ذلك اللقاء.. لكن لم يكن ثمة ما يمكن إعادة تذكره سوى ما حكيته لكم.. لم يكن أمامي من مفر للتسلى بهذه القصة وجعلها واقعية بالنسبة لي سوى المضي في كتابتها.. وبالفعل حدث ذلك.. وصدرت الرواية.. الآن لا أملك مقاومة لمصيري سوى بالانتظار أن يفرج الله همي.. وأنا أجني شر ما فعلت.. ما سطرته يداي عن هؤلاء الناس.. هل جاءوا لينتقموا مني بهذه المهزلة التي لا أفهم أي من تفاصيلها إلى اللحظة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أحد قصوري معروض للبيع (Re: عماد البليك)
|
حتى لا تكون الأشياء من حولنا كلها ألغازا يجب الاعتراف بأن الحياة فيها مساحات لبعض الحقائق.. لقد ظللت أؤمن بهذه القاعدة رغم أنها ليست صحيحة في كل الأحوال. وعندما أكتب فإنني أحاول أن أجمع بين الخرافة والمتعة.. كيف يحدث ذلك؟ لا أفهم.. أيضا لا يمكنني أن أفسر بشكل واضح معنى الخرافة.. أو معنى المتعة.. لأن الفعل في حد ذاته.. فعل الكتابة هو ذاتي.. هو مغامرة الكاتب ساعة يحاول إنجاز نصه من خلال حوار مع الأنا المتعالية التي تتزل في السطور.. وغالبا فإن كثيرا من الفراغات تظل موجودة.. ويحدث أن يكون الغموض مقصودا أو بسبب العجز أحيانا.. وربما بسبب الغفلة.. كل التأويلات ممكنة. كنت قد أخبرتكم عن تلك السيدة اليونانية التي أهدت لي اللابتوب ماركة توشيبا.. هي قالت إن التيجاني يوسف بشير اكتسب تفرده من الغموض.. "" طبعا لا يوجد جديد في هذا".. كلنا نعرف أن الغموض سمة من سمات شعر التيجاني.. لكن المهم ما قالته السيدة بعد ذلك.. ".. كان التيجاني غامضا لأنه كان يبحث عن ذاته.. عن من يكون هو في هذا العالم.. وكان قد عجز... كان مهووسا بأشياء كثيرة في الدنيا .. أشياء كالحب والشهرة والمتع الذاتية.. وايضا التنزه في الطبيعة.. وربما السفر إلى القاهرة.. ليس كما أشاعوا أنه كان يريد أن يذهب من أجل العلم وأن ابيه لحق به في محطة القطار وأعاده.. بل لأن الفتاة التي أحب من بنات الأقباط كانت قد هربت إلى مصر مع أسرتها.. كان يريد اللحاق بها.. كان أهله يفهمون جيدا أن كان يريد أن يغسل روحه بأن يسافر لأجلها.. لكنهم وقفوا ضد ذلك لأن وضعه الصحي كان بائسا لا يسمح بذلك أبدا.. كان منهوكا ومتعبا ويقترب من الموت.. ولهذا كان بقاؤه بجوار العائلة ضروريا.. وقد ساعدته هذه الحالة فيما بعد أن يكتب أجمل القصائد المتأملة في الذات بوصفها معادلا للكون كما في الصوفي المعذب وعبدناك يا جمال.. وغيرهما.. كان الغموض عنده لأنه أصيب بتلك الحالة التي جعلته غير قادر على التمييز بين حقيقته كذات وحقيقته كمحب وكعابد وكروح آدمية أو شيطان متمرد على طقوس العادة.. الصلاة والصوم والتبتل لله.. كان التيجاني روحا شفافة وسرعان ما أصبح شقيا وعنيدا.." كانت السيدة اليونانية قد كتبت أشياء كثيرة في دراستها تلك.. ولئن أتذكرها اليوم وأنا في سرير الاستشفاء تنتابني حالة كتلك التي كان يعيشها التيجاني.. حالة الكائن الراستفاري الذي لا يعرف ما هي حدود الألم وأين تجاور حد المتعة؟ كيف للإنسان أن يكون صحيح البدن أو عليلا؟!.. ليس ثمة مساحة فاصلة بين هذا وذاك طالما كانت الروح معذبة.. عذاب لانهاية له سببه الأشواق لعوالم مفقودة قد يكون البحث عنها ولو حين في الكتابة أو الرسم أو سماع الموسيقي أو تأليفها أو على الأقل تأمل الطيور في الصباح وهي تغادر أوكارها تبحث عن معنى وجودها من خلال الروتين.. هذا هو العالم الذي كان نعرفه جميعا.. تحديدا أعرفه أنا الآن في هذه الغرفة.
| |
|
|
|
|
|
|
|