|
|
 المرأة النوبية وخواطر عن الحبوبات .. لقد عشنا ذلك الزمن النوبي الجميل
|
الشيف ( فافا سيدة المطبخ )
لم يكن هناك وقتاً متاحاً للركض واللعب إلا عند القيلولة تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة التي تغطي كل القرية حتى الفضاءات والازقة بين بيوت وكانت هذه الظلال تمثل لنا مرتعاً خصباً لممارسة كل انواع الشغب والصخب مما كان يسبب الضجر والازعاج لكبارنا وهم في اتكاءة القيلولة بعد عناء دوام الصباح في الساقية وبالدنقلاوية ( فجر تاتي ) .. واستحضر هنا صورة الشاعر النوبي العظيم خليل فرح وهو يصف طفولته في صيصاب خلال رائعته عزه ( عزة ما نسيت جنة بلال .. وملعب الشباب تحت الظلال ) ويقصد بها مرتع صباه بين جنائن نخيل بلال بيرم في صاي .. ما أشبه الحياة على امتداد النوبة وكأن الزمان والمكان لا اختلاف بينهما.. وكما كان خليل في ( بلال إكي ) كنا نحن نمارس هوايات الصبا في ( سواري مار ) ولم يكن يردعنا او يحد من تحركنا اللامحدود إلا حبوبة فاطمة ( فافا ) تلك المرأة ذات الشخصية المميزة والحضور القوي والتي كانت تسكن وحيدة في بيتها او بالاحرى غرفة لا يحدها سور .. وعندما ترتفع وتيرة اللعب والضجيج والصراخ كانت تطل علينا بطولها الفارع ولونها الاسمر الداكن وبظهورها كنا ننزوي الى داخل الازقة او نختبيء خلف سيقان النخيل ثم تعود الى داخل غرفتها لتتمدد في ذلك العنقريب الذي يبدو اصغر كثيراً من امتداد ارجلها المغبرة .. ودارت الايام وتفتحت مداركنا واصبحنا نستوعب ما يجري حولنا وعندها فقط عرفنا ان لهذه المرأة دور اساسي في مجتعنا بل هي سيدة المواقف والمناسبات الكبيرة تشرف على جميع مناسبات الافراح وخاصة في مجال تجهيز الوجبات .. حيث يتم استدعاءها الى مكان المناسبة قبل يوم او يومين لتحضير المواد الاولية وتتولى الاشراف على مجموعة النساء التي تقوم بتجهيز المواد مثل تقطيع البصل وطحن البامية الجافة ( الويكة ) ومراقبة العشرات من النساء المدعوات لنفير العواسة داخل الحوش وتشرف كذلك على عملية ذبح الثور او العجل وتراقب الوضع بصرامة ووعي حتى لا يقوم الشباب بتهريب اللحم الى مواضع اخرى ولمآرب مختلفة .. وعند بداية مراسم الطبخ في ساعات الصباح الاولى كانت تقوم بتوزيع السيدات على القدور كل واحدة حسب اتقانها لنوعية الطبيخ .. فهذه سيدة (الكمونية ) والمعروف عن هذه الطبخة انها واحدة من اصعب الطبخات والتي لا تجيدها إلا المرأة ذات المهارة العالية والذوق الرفيع في الطبخ .. وتلك سيدة (الفاصوليا) أما أمهرهن صناعة فهي المرأة التي تشرف على طبخ قدر ( الويكة ) وفي ذلك الوقت كانت الطبخة تختلف حيث يتم خلط (الويكة) بما يسمى بـ (إيلين قاريد) وبالعربية ( الجريش ) او القمح المجروش بالرحى ( الرحاية ) وهي بمثابة خلطة سرية تتم بين طحين البامية وجريش القمح مما يجعل لها طعم آخر ومذاق مميز .. وأكاد أستحضر شخصيتها تماماً وهي تقوم بتذوق عينة من كل قدر وتبدي ملاحظاتها بكل حزم وجدية ولا تقتصر نفوذها على المطبخ فقط بل تمتد لتشمل نقطة توزيع اللحم المحمر والارز وهي من الاطعمة ذات القيمة والتميز في ذلك الزمان .. والغريب في الامر ان مهمة توزيع الارز واللحم المحمر كان يشرف عليها الرجال وليس ببعيد عن ذهني ( عوض بهارة ) رحمه الله الذي كان يقوم بعمل لفائف من رقاق القمح بداخله كمية من الازر واللحم وبقدر معين ومعلوم ويتم ارسالها الى المرأة التي لم تحضر المناسبة لعذر معين وتكون قد دفعت مايسمي ( كسييه ) اقصاها عشرة قروش وادناها سبعة قروش في كشف الدفعيات كمشاركة منها .. وكانت هذه لفافة تسمى ( كتيه ) بتشديد التاء .. أما الارز واللحم المحمر فكان لا يشاهد إلا في المناسبات .. وكنا ننتظر رجوع امهاتنا بتلك اللفائف ( كتيه ) ومن ثم بتوزيعها علينا بقدر ما تحمله اطراف الاصابع مع مراعاة أن للذكر مثل حظ الانثيين .. رحم الله الحاجة فاطمة ولقبها ( سولون برو ) .. ورحم الله ذلك المجتمع الذي كان كل فرد فيه يعي دوره تماماً ..
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: المرأة النوبية وخواطر عن الحبوبات .. لقد عشنا ذلك الزمن النوبي الج (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
( يوميات .. زوجة تربال )
يعتبر ( كهيك ) من ابرد شهور السنة حيث الشتاء وزمهرير الرياح الشمالية المشعبة بالرذاذ وخاصة في الجزر الواقعة على النيل .. ويقال في المثل ( شهر كيهك يخلي ال###### السعران زي الكعك ) وفعلاً كنا نلاحظ ان الكلاب تحتمي خلف الحائط وترقد في شكل نصف دائري اتقاءاً للبرد وهكذا الكثير من الحيوانات المنزلية وغيرها .. وفي منزل الجد او البيت الكبير الذي يجمع كل افراد العائلة ومن تحت الفروة التي كنا نتدثر بها في ليالي الشتاء ونحن في مقتبل العمر يجمعنا (العنقريب) الكبير .. والفروة لمن لا يعرفها كانت من الصناعات المحلية وتصنع من جلود الخراف بعد دباغتها بطريقة خاصة وهي دافئة وعازلة للبرد ولكن يصعب التحكم في جوانبها التي تتسرب من خلالها الموجات الباردة الى اجسادنا النحيلة وعندها تتداخل الارجل والايادي مع بعضها فتضل الاصابع والاطراف طريقها الى فتحات الانوف والافواه وترتفع وتيرة الشكوى والصراخ ثم يستقر الامر اخيراً ويذهب الجميع في سبات عميق متشابكي الاجساد .. ومع ساعات الصباح الاولى كنت اصحو على صوت عمي احمدون ومن ثقب الفرو أرى زوجته الخالة آمنه التي تسرع في اشعال النار ووضع المزيد من الحطب لزوم التدفئة وأحمدون جالس بالقرب من الموقد وقد لف جسده ( بملفحة) من القماش الثقيل او ( المتلوك) بالنوبية.. وعندما يشتد به البرد ينتصب واقفاً ويحيط موقد النار ( بالمتلوك ) حتى يتسرب الدفء الى كل اجزاء جسده .. ثم يتبع ذلك بكوب من الشاي الساخن يرتشفه بنهم مصحوباً بنغم وتلذذ أما خالتي فلا تتوقف حركتها النشطة حتى تهييء الامر لاحمدون الى ان يغادر الى الساقية وفي يده المنجل واكياس من تقاوي الخضار الشتوية .. وأعرف ان احمدون لن يسلك طريقه مباشرة الى الساقية ولا بد له ان يعرج الى منزل أحد اصدقائه وندمائه ليتناول قرعة واحدة من ( النبيذ ) الذي تم صناعته وتخزينه تحت الارض منذ فترة لا تقل عن ثلاثة اشهر .. والغرض منه ليس لزوم اللهو والعبث ولكن لبعث الحيوية والدفء الذي يساعد احمدون ويمده بالمزيد من القوة في فتح المجري بين النيل والساقية لينساب الماء من خلال ( الكوديك ) الى حيث ال########يس ولانجاز هذه المهمة لابد لأحمدون النزول الى الماء لازالة الحواجز الطينية وتشغيل الساقية على أن تتم كل هذه العملية قبل شروق الشمس وفي درجة حرارة اقرب الى التجمد .. ومن حكمة أهلنا وتجاربهم انهم كانوا يعرفون كيف يتم توظيف الممنوع واخراجه من دائرة شهوة المزاج الى عنصر نافع له اثر ومردود ايجابي مستصحبين الموروث النوبي ( ان النبيذ يجلب الدفء في فصل الشتاء ) .. ومع مرور الوقت يكون التعب قد سرى في جسد احمدون وبدأ يتهيأ الى إتكاءة القيلولة ويتجه الى حيث مرقده ويتمدد متوسداً يده في الفرش الذي اعده من جريد النخل داخل الحظيرة وهو يراقب بعين نصف مغمضة صغار العجول التي تلعق اوراق اللوبيا الخضراء .. ولم يقطع سكونه هذا إلا وقع خطوات الخالة آمنة وهي تحمل صرة الطعام لتضعها امامه في رقة ودلال .. ثم تبدأ في تجهيز الوجبة وهي (قراصة بالسمن) من الوجبات المحببة لاحمدون الذي انهمك يتناولها بشراهة .. ولحين فراغه من الاكل تنتقي بعض حبات التمر لزوم التحلية مع تسخين الشاي وتبادل الحديث الودي الذي يذهب عن احمدون وعثاء الارهاق والتعب ومع كل هذا الزخم العاطفي فإن الخالة آمنة لا تشاركه الطعام بل تجلس في مقابله وتستحضر كل حديث جميل يحبه احمدون حتى يفرغ م الامل ويتناول كوب الشاي ويتمدد مرة اخرى في غفوة القليولة .. وبعد ان تلقي بنظرة اطمئنان على زوجها تتجه الى حيث العجول لتنظيف المراح وتبيدل العلف وغسل مواعين شربها وتغيير الماء الاسن بآخر طازج وهكذا تكون منهمكة في عدة مهمات حتي ينهض احمدون من غفوته وقد بدا عليه من النشاط ما يكفيه لمواصلة ما تبقى من عمله .. أما الخالة آمنة فتستعد الى رحلة العودة لتكمل المهام الاخرى التي في انتظارها وهي عناء ترتيب البيت ورعاية الاطفال بعد ان جمعت بعض الحطب للتدفئة وحزمة من علف اللوبيا الخضراء لزوم ( غنماية اللبن ) .. حقاً انها مثال للزوجة المخلصة لأنها نشأت في بيئة تورث فيها كل فضائل وقيم جيلاً بعد جيل ... هيرو ... ووو ... آمنة .
| |
|
|
|
|
|
|
| |
علي عبدالوهاب عثمان
عبداللطيف شريف على
فقيرى جاويش طه
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست