|
الصديق الرَاحِل الأُستاذ مدنِي العُرضِي الحسين المُحامي د. سلمان محمد أحمد سلمان
|
الصديق الرَاحِل الأُستاذ مدنِي العُرضِي الحسين المُحامي د. سلمان محمد أحمد سلمان التقينا طلاباً جُدد في كلية الآداب بجامعة الخرطوم في بداية شهر يوليو عام 1967، قبل ما يزيد عن 45 عاماً. شاء القدر أن تكون المواد التي اختارها كلٌ منا في عامنا الأول في الكلية هي نفس المواد. لذا فقد كثرتْ لقاءاتنا منذ الأسبوع الأول للدراسة. تحادثنا وتعارفنا. وجدنا أن ما يجمعنا في حقيقة الأمر كان أكبر من المواد الأربعة التي اخترناها ذلك العام. كان مدني العرضي الحسين من قلب الجزيرة، وأنا من شرق الجزيرة. وجمعتنا أفكارٌ سياسيةٌ ساميةٌ: إيماننا بالحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والوقوف ضد الظلم بكافة أشكاله، دون انتماءٍ حزبيٍ أو عقائديٍ يحِدُّ من حرية التفكير والنقد والحركة وتناول الأمور بصورةٍ إيجابية. وفوق كل ذلك كان الأثنان منا في كلية الآداب كخطوةٍ أولى لدراسة القانون. فقد كانت شروط القبول لكلية القانون في ذلك الوقت تقتضي الدراسة لمدة عامين في كلية الآداب أو الاقتصاد قبل الالتحاق بكلية القانون. وكان حلمنا وهدفنا هو استخدام القانون من أجل العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة ومحاربة الظلم. وهكذا بدأت رحلة الصداقة والزمالة التي استمرت لأكثر من 45 عاماً. ما أروعها من رحلة، وما أحلاها من سنوات، وما أجملها من أخوةٍ وصداقة إنسانيةٍ وفكرية. التحق مدني فور تخرجه بالمحاماة. رفض عروض العمل بالقضائية أو النائب العام واللتين كانتا توافران قدراً كبيراً من الأمان الاقتصادي وقتها. ورفض حتى فكرة العمل بالخرطوم. أراد أن يكون في الحصاحيصا، كما قال، وسط أهله مزارعي مشروع الجزيرة ليساعدهم في حلِّ تظلماتهم ونزاعاتهم مع إدارة المشروع، ومع حكومة ولاية الجزيرة، ومع حكومات الخرطوم المتعاقبة والتي اتصفت جميعها بعدم المبالاة تجاه المشروع ومزارعيه. كانت حماية حقوق أهله وأصدقائه وآبائه وإخوانه المزارعين هي غاية ما يتطلّع إليه. تحدّثنا كثيراً بعد عدّة أعوام عن عمله في الحصاحيصا وضرورة أن يقضي بعض الوقت في إحدى دول الخليج حتى يستطيع أن يوفر قدراً من المال يساعده على تربية أبنائه. لكنه رفض في إصرار، وظلّ يذكّرني أن أبناءه وبناته هم حواشات مشروع الجزيرة، وأن مزارعيي المشروع هم حياته وسعادته، وأنهم لا يقلّون مكانةً وأهميةً عنده من أسرته. وحتى عندما ألغت حكومة الإنقاذ في سنواتها الأولى مهنة المحاماة ووضعت العراقيل في طريق من امتهنوا المحاماة ظلّ مدني في الحصاحيصا لبعض الوقت يبحث عن مصدر رزقٍ غير الخروج من السودان. في الأشهر الأخيرة من مرضه كنا نتحادث لساعاتٍ طويلة عبر الهاتف عدّة مراتٍ في الأسبوع. كان كما عرفته خلال 45 عاماً - حبوراً مرحاً مليئاً بالحياة والأمل والتفاؤل. يسألني عن أحوالي وأحوال الأصدقاء قبل أن أسأله عن حاله وعن صحته. وحتى عندما يجيبني، كان يعود بسرعة ليسأل عن الأصدقاء وزملاء الدراسة وعن أحوالهم. لم يلين المرض من عزيمته وتفاؤله وحبه للآخرين. كان صديقي مدني كريماً يجود بما في يده وبما يتوقع أن تجود به مهنته حتى قبل أن يدخل جيبه. كان حبوراً مرحاً لا تفارق الابتسامة وجهه ولا التفاؤل كلماته، حتّى في أيامه الأخيرة وهو يصارع مرضاً كان يعرف أنه سوف ينهزم أمامه في نهاية المطاف. كان مدني إنساناً متواضعاً، يحادث المزارعين ويؤانسهم ويمشي بينهم ويجلس على أرض الحواشة معهم حتى لتظن أنه واحدٌ منهم. كان، وظلَ حتى فارق الحياة في شهر نوفمبر عام 2013، كما عرفته في شهر يوليو عام 1967، لم يغيّره الزمان ولا المكان ولا الأحداث ولا العمر ولا الوظيفة أو المال. الا رحم الله الأخ الصديق الأستاذ مدني العرضي الحسين وألهم أسرته – السيدة محاسن والأبناء أبو اليسر وأمين وساره – وأهله وأصدقاءه ومزارعي مشروع الجزيرة الذين عاش من أجلهم الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
|
|
|
|
|
|