|
اتفاقية مياه النيل لعام 1959 وإفادات د. عبد الله علي إبراهيم د. سلمان محمد أحمد سلمان
|
اتفاقية مياه النيل لعام 1959 وإفادات د. عبد الله علي إبراهيم د. سلمان محمد أحمد سلمان 1 نَشَرَ الدكتور عبد الله علي إبراهيم مقالاً بصحيفة سودانايل الالكترونية يوم الثلاثاء 17 سبتمبر عام 2013 بعنوان "سلمان محمد سلمان: وقلنا حنبني السد العالي." وقد كان المقال محاولةً للردِّ على ما أوردناه في سلسلة مقالاتنا "خفايا وخبايا مفاوضات اتفاقية مياه النيل"، وما تبعها من تعقيباتٍ ومقالاتٍ، من أن الأحزاب السياسيّة الرئيسيّة (الأمة والشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي) أيّدتْ اتفاقية مياه النيل علناً بالبيانات والبرقيات مباشرةً بعد التوقيع عليها في نوفمبر عام 1959، بينما أيّدتَها الأحزابُ العقائدية (الشيوعي والجمهوري والحركة الإسلامية) بالصمت. وقد حاول الدكتور عبد الله التشكيك في الجزء الثاني من مقولتنا فيما يخصُّ موقف الحزب الشيوعي السوداني من الاتفاقية. تضمّن مقال الدكتور عبد الله أيضاً نقداً حاداً لمصداقية النهج الأكاديمي الصارم الذي اتّبعناه في بحث وإعداد وكتابة تلك المقالات. وقد امتد ذلك الجهد لأكثر من خمس سنوات، وشمل دور الوثائق والمكتبات في واشنطن ولندن والقاهرة والخرطوم. سنقوم في هذا المقال بالردِّ على بعض النقاط الجوهرية والإجرائية التي أثارها الدكتور عبد الله علي إبراهيم في مقاله. ولا بُدَّ من إضافة وتوضيح أن الظروف التي تمُرُّ بها البلاد هذه الأيام قد حالتْ دون نشرِ هذا التعقيب في وقته، فالمعذرة عن التأخير في نشر هذا المقال. 2 شمل مقالُ الدكتور عبد الله افتراضَ أن المكان الوحيد للتعبير عن معارضة اتفاقية مياه النيل كان هو الصحف السودانية، والتي كانت ممنوعةً إبان حكومة الفريق عبود من نقل أي رأيٍ معارض. فقد كتب: "ما آخذه علي سلمان إفتراضه أن بوسع معارض الإتفاقية، لو وجد، أن يعبر عن معارضته في الصحف التي هي مادة دور الوثائق التي قصدها. ولم يكن ذلك متاحاً. فجاء في كتاب "ثورة شعب" (1965)، الجامع لوثائق الحزب الشيوعي خلال فترة عبود، أن الحكومة منعت الصحف من الإشارة إلى أي خبر عن مشكلة مياه النيل أو مشكلة الحدود في حلايب." وهذا حديثٌ غير موفّقٍ البتّة، وغير مقبول، ويختزل عمل الأحزاب المعارِضة في التصريحات الصحفية، سواءٌ نشرتها الصحف أم لم تنشرها. كما أن هذا الحديث يجد العذرَ للأحزاب السودانية في عدم إبداء رأيها في الاتفاقية (أو في أي أمرٍ آخر مهم) لأنها لم تكن تتوقّع أن تنشر الصحف ذلك الرأي، أو لأن الصحف رفضت أن تنشره. لقد كان من المُتوقّع والمُفترض من الحزب الشيوعي والأحزاب الأخرى التى ادّعت أنها عارضت اتفاقية مياه النيل إصدار بيانٍ إلى الشعب السوداني عن مضمون ونواقص الاتفاقية العديدة، وتوزيعه سراً وعلناً مثل البيانات الأخرى التي قامت بإصدارها وتوزيعها، وتحمّل المسؤولية. لقد جرتْ محاكمةُ عددٍ من قيادات الحزب الشيوعي من بينهم الأساتذة عبد الخالق محجوب، والتيجاني الطيب، وعبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة، وسمير جرجس في نوفمبر عام 1959، بعد أيام قليلة من التوقيع على الاتفاقية، وشملت التهم الموجّهة ضدهم إعداد وتوزيع منشوراتٍ معاديةٍ لنظام الفريق عبود. لم تشمل تلك المنشورات التي أشارت إليها بعض الصحف، وتضمّنتها كملاحق التقارير والوثائق التي اطّلعنا عليها، شيئاً البتّة عن اتفاقية مياه النيل لعام 1959. بل ألم يكن مُفترضاً أن يصدر الحزب الشيوعي بياناً داخلياً على أعضائه ينوّرهم فيه بمضمون الاتفاقية ويوضّح موقف الحزب منها؟ ولكنَّ السؤالَ الأكبرَ والأهم هو: لماذا لم يصدر أيٌ من الأحزاب التي تدّعي أنها عارضت الاتفاقية خلال الخمسين عام الماضية أي دراسةٍ عن الاتفاقية لأعضائه وللشعب السوداني وللتاريخ؟ أين العمل الوطني القيادي والفكري والسياسي والثقافي والاجتماعي للأحزاب السودانية، خصوصاً التي تدّعي أنها عارضت الاتفاقية، إذا كان هذا العمل سيغفل حدثاً كبيراً وهاماً مثل اتفاقية مياه النيل لعام 1959؟ أليست هي نفسها الاتفاقية التي جلجلت الأرض في السودان وقتها، ولسنواتٍ طويلة بعد ذلك؟ 3 وفي قدحٍ واضحٍ لمنهجنا البحثي ذكر الدكتور عبد الله "بل لم يظهر من شغل سلمان أنه غشي أكبر مستودع لوثائق الحزب الشيوعي في المعهد العالمي لدراسات التاريخ الاجتماعي بأمستردام." لست أدري على ماذا بنى الدكتور عبد الله هذا الافتراض الخاطئ؟ وعلى ماذا استند ليصل إلى هذا الرأي غير الصحيح؟ لقد دلّني الأخ الأستاذ صِدّيق عبد الهادي مشكوراً عام 2008 على ستودع وثائق الحزب الشيوعي السوداني في مدينة أمستردام في هولندا. وقد قمنا معاً بالبحث في أغواره عن موقف الحزب من اتفاقية مياه النيل لعام 1959، ولم نجد شيئاً يجيب على تساؤلنا، تماماً مثلما فشل الدكتور عبد الله نفسه الآن في ذلك. وبحثنا أيضاً بين صفحات كتاب ثورة شعب بمساعدة الأخ الصديق الدكتور عبد الماجد علي بوب، ولم نعثر على بيانٍ أو رأيٍ للحزب عن اتفاقية مياه النيل. وقد قمنا أثناء ذلك بالاتصال بعددٍ كبيرٍ من قيادات الحزب الشيوعي السوداني داخل وخارج السودان، وساهم معنا الأخ الدكتور الشفيع خضر بالتنقيب في وثائق الحزب الشيوعي داخل السودان لوقتٍ طويل، لكن دون نتيجة. وقد التقيتُ ببعض قيادات الحزب في الخرطوم أثناء ذلك، ولكننا لم نجد من الوثائق أو الإفادات ما يجيب على تساؤلنا عن موقف الحزب من اتفاقية مياه النيل، رغم ذلك الجهد الضخم وغير المسبوق في البحث والتقصِّي. لكن يجب إضافة أن هذا الجهد هو أبجديات ومقوّمات البحث الأكاديمي الجاد الأمين. ونكرّر هنا أننا اتّبعنا نهجاً أكاديمياً صارماً في بحث وإعداد وكتابة مقالات مفاوضات مياه النيل، امتد لأكثر من خمس سنوات. وشمل ذلك الجهدُ البحثَ في دور الوثائق والمكتبات في واشنطن ولندن والقاهرة والخرطوم. وتضمّن البحث مراجعة ودراسة آلاف الصفحات من التقارير التي أرسلها الدبلوماسيون من الخرطوم إلى حكوماتهم في واشنطن ولندن، مشفوعةً بوثائق كان بعضها في ذلك الوقت في غايةٍ من السرّية. وقد شملت تلك الوثائق عدداً من البيانات من الأحزاب السياسية السودانية حول بعض القضايا الهامة، ومقابلاتٍ مع بعض قادتها. وقد اعتمدنا على الصحف السودانية لتعضيد و توضيح مضمون بعض تلك التقارير. عليه فلم تكن تلك الصحف وحدها كما ذكر د. عبد الله خاطئاً "هي مادة دور الوثائق التي قصدناها." 4 ولكن رغم رفض الدكتور عبد الله علي إبراهيم في بداية مقاله لرأينا أن الحزب الشيوعي السوداني قد أيّد اتفاقية مياه النيل لعام 1959 بالصمت، إلّا أنه عاد ووافقنا في منتصف المقال، ولدهْشتِنا، على هذا الرأي. فقد كتب الدكتور عبد الله في المقال نفسه: "وبدا لي مما أعرف كفاحاً أن الحزب الشيوعي لم يكن ضد الاتفاقية. فلم يكن السد العالي في نظرهم مصرياً. كان، في سياقه المعروف، اختراقاً تحررياً معادياً للإمبريالية تهون لأجله كل تضحية." هذه مقولةٌ مدهشة لأنها تنْسِفُ تماماً كلَّ ما انبنى عليه مقال الدكتور عبد الله من نقدٍ لمحصّلةِ بحثنا. فإذا كان هذا الموقف حقيقةً هو موقف الحزب الشيوعي السوداني، والذي أوضح فيه الدكتور عبد الله بلا لبسٍ أو غموض عدم رفض الحزب لاتفاقية مياه النيل، فما هو وجه الخلاف مع موقفنا الذي ذكرنا فيه أن الحزب أيّدَ الاتفاقية بالصمت؟ إن مقولة الدكتور عبد الله هذه، إن صحّت، تجيب على كل التساؤلات، وتُوضِّح أنه قد "قُضِيَ الأمرُ الّذِي فِيهِ تَستفتِيان." بالطبع قبل التعليق على مضمون هذا الإفادة التي أوضح كاتبها أن الحزب الشيوعي السوداني لم يعارض واحدةً من أكبر الكوارث التاريخية التي أصابت السودان، يجب معرفة رأي القيادة الحالية للحزب الشيوعي السوداني من هذه المقولة، والتأكّد أن الدكتور عبد الله لا يُغرِّد خارج السرب. 5 واصل الدكتور عبد الله نقده لنهجنا البحثي الأكاديمي عندما كتب "ولكن وجدته (يعني سلمان) متى ما لم يعثر على وثيقة لجماعة ما تعارض الاتفاقية (وسنتجاوز وجوب المعارضة هنا) تحدث إلى أعضاء فيها ليعرضوا موقفهم بوثيقة أو عَدَّ صمت حزبهم كلاما. وبالطبع عكس سلمان هنا القاعدة الحقوقية: البينة على من إدعى واليمين على من أنكر." لا توجد في البحث الأكاديمي الحقيقي قاعدة المُدّعِي والمُدّعَى عليه، والبيّنة واليمين. الباحث الأكاديمي الجاد شخصٌ محايدٌ أمينٌ يبحث عن الحقيقة والمعلومة بلا لونٍ سياسيٍ أو عقائديٍ أو فكري، وبلا مُسلّمات. وقد كانت هذه هي القاعدة الأساسية والمبدئية التي اتبعناها ونتّبعها بصرامةٍ في كل كتاباتنا الأكاديمية والصحفية، بما فيها بحثنا خلال الأعوام الخمسة الماضية في قضايا مياه النيل والقضايا العامة السودانية الأخرى. وهذه الكتابات موجودةٌ كلها على موقعنا الالكتروني (عنوان الموقع في نهاية هذا المقال). 6 لقد كانت اتفاقيةُ مياهِ النيل لعام 1959 كارثةً قوميةً ضخمة على السودان. فقد قامت حكومة الفريق إبراهيم عبود بموجبها بالترحيل القسري بدون أبسط مقومات التشاور أو المشاركة لحوالى 50,000 من مواطنيها. ووافقت الحكومة على إغراق مساكنهم وممتلكاتهم و27 من قراهم، ومدينتهم الرئيسية، وحوالى ربع مليون فدان من أراضيهم الزراعية الخصبة، وأكثر من مليون شجرة نخيل وحوامض في قمة عطائها. وأغرقت مع ذلك قبور أحبائهم وضرائح أوليائهم وجزءاً كبيراً من تراثهم. وغرقت في بحيرة السد حضاراتٌ لممالك سودانية امتدت يوماً ما حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وآثارٌ تاريخيةٌ سودانيةٌ عمرها آلاف السنوات، لا تُقدّر بثمن، ومعادن من حديد وذهب وأخرى لا ندريها ولا يدري أحدٌ كميتها وقيمتها. واختفت تحت بحيرة السد العالي أيضاً شلالاتٌ كانت ستُولّد مئات الميقاواط من الكهرباء، كافيةً لإضاءة كل المديرية الشمالية وقتها. وكان الثمن الذي دفعته مصر للسودان مقابل كل تلك التنازلات خمسة عشر مليون جنيه فقط. وقد حصلنا عليها بعد جهدٍ، وبعد أن توسّطَ الرئيس عبد الناصر بيننا وبين وفده المفاوض، بناءاً على طلبنا وبعد استجدائنا. لكنَّ تكلفةَ إعادة توطين أهالي وادي حلفا وحدها قاربت أربعين مليون جنيه. ما أضخمها من كارثة، وما أبخسه من ثمن، وما أغربها من وساطة!! ألا يُشكّل الصمتُ عن هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في تاريخ البشرية تأييداً لها؟ أين دور الأحزاب في العمل القيادي الوطني والجماهيري والنضالي والفكري عندما تسكت على كارثةٍ بمثل هذا الحجم؟ أين بياناتها لعضويتها و لجماهير الشعب السوداني العظيم، وأين دراساتها وكتاباتها وتعليقاتها، إن لم نتساءل: أين مواقفها ومعارضتها وتظاهراتها؟ غير أن تأييد هذه الكارثة بالصمت من بعض الأحزاب يجب ألا يُنْسينا بيانات وبرقيات الـتأييد من الأحزاب الأخرى الكبيرة (الأمة والشعب الديمقراطي والوطني الاتحادي) التي قررتْ لأسبابها الخاصة الوقوف بوضوحٍ مع الاتفاقية ومع حكومة الفريق إبراهيم عبود. 7 لكن يبرز الأغرب من كل هذا عندما يقول لنا الدكتور عبد الله: "هناك بينات ظرفية ومُقَارِنة وحدسية تقع للمورخ من جماع تحليل وثائقه يخرج منها بفكرة، ولو مبهمة، عن المواقف يعلنها بالتحفظ المعروف." إن الدكتور عبد الله يريد منا أن نقرأ بين السطور ونبحث بين الكلمات لنعرف موقف حزبٍ أو جماعةٍ (حتى ولو بصورةٍ مبهمة) عن كارثةٍ قوميةٍ تاريخيةٍ بذلك الحجم الخطير!!! إن مثل هذا النوع من المنهج البحثي (إن وُجِد) يقوم بالتنقيب عن العذر بدل الحقيقة، ويحاول الكشف عن جبلٍ ضخمٍ ماثلٍ أمام الباحث عنه بمنظارٍ مُكبّر. 8 نختتم مقالنا هذا بتكرار الارتباك الكبير في مقال الدكتور عبد الله علي إبراهيم. فقد ذكر بالحرف الواحد "أن الحزب الشيوعي لم يكن ضد الاتفاقية." ثم عاد لينتقدنا ويلومنا لقولِنا إن الحزب الشيوعي أيّد اتفاقية مياه النيل بالصمت. وقد انتقد منهج بحثنا الأكاديمي دون درايةٍ على ما استند وانبنى عليه من نهجٍ أكاديميٍ صارم امتد لعدّة أعوام، وشمل عدداً من دور الوثائق والمكتبات حول العالم. إنني آمل أن تدلو القيادات الحاليّة للحزب الشيوعي السوداني بدلوها في بحيرة اتفاقية مياه النيل، وتشرح للقارئ ولجماهيرها وللشعب السوداني وللتاريخ موقف الحزب من الاتفاقية مباشرةً بعد التوقيع عليها (وليس موقفها الآن)، وتوضّح إن كان ما كتبه الدكتور عبد الله علي إبراهيم يمثّل فِعلاً رأي الحزب الشيوعي في هذا الحدثِ الجلل. [email protected] www.salmanmasalman.org
|
|
|
|
|
|