شييبون والجنيد وعبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم مقال للدكتور عبدالله على ابراهيم

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-14-2024, 09:54 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة سيف الدين محمد جبريل(Saifeldin Gibreel)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-02-2005, 10:39 AM

Saifeldin Gibreel
<aSaifeldin Gibreel
تاريخ التسجيل: 03-25-2004
مجموع المشاركات: 4084

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
شييبون والجنيد وعبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم مقال للدكتور عبدالله على ابراهيم









    شييبون والجنيد وعبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم
    د. عبد الله علي إبراهيم


    في عصر يوم من أيام سبتمبر 1953 طرق الزميلان سليمان علي ومحمد الهادئ باب الأستاذ أحمد سليمان بأبي رووف بأم درمان مبعوثين من أستاذنا عبد الخالق محجوب لينقلا إليه وفاة الرفيق خليل نصر الدين. وسليمان والهادئ من متفرغي الحزب بالمدينة وسكنا مع المرحوم محمد عبد الرحمن شيبون، بمنزل بحي البوستة. وأسلم خليل، الموظف بالثروة الحيوانية، الروح بمنزل الزميل جعفر أبو جبل ببيت المال. وكان الحزب قد نقله لذلك البيت للعناية به من داء الصدر الذي كان قد أصابه. واصبح هذا المنزل داراً للحزب الشيوعي بعد ثورة اكتوبر 1964. وكان أستاذنا يزور خليلاً بينما يشرف علي علاجه وعلي إجراءات سفره بالخارج المرحوم إبراهيم زكريا السكرتير التنظيمي للحزب. وتقرر نقل جثمانه لبيت أقرباء له بالعرضة. وتساءل الناس عن أهل آخرين له. فقالوا أن منهم المرحوم الرشيد الطاهر بكر الطالب بكلية الخرطوم الجامعية آنذاك. ولم يكن بين الرفاق من يعرف الرشيد. فدلهم عليه الأستاذ عبد الوهاب سليمان الذي كان تعرف علي عبدالله شقيق الرشيد في المدرسة. وعاد أستاذنا لبيته يستعد للفراش نحو مغرب ذلك اليوم. وأخبر أهله بوفاة خليل. ثم بكي طويلاً. وقال الأستاذ محمد محجوب عثمان أنه لم يره يبك لا قبلها ولا بعدها. ودفن خليل بمقابر البكري. وسمي إبراهيم ولده من زميلتنا فاطمة النعيم خليلاً في ذكري الرفيق المات. ومات خليل الابن الذكري في ملابسات حزينة أخري. رحمه الله.

    ليس أستاذنا عبد الخالق ممن يتنصل عن رفاقه وقت الشدة ناهيك عن اغتيالهم كما زعم المرحوم صلاح احمد إبراهيم في قصيدته "أنانسي" . وهي القصيدة التي حمله فيها انتحار الزميل محمد عبد الرحمن شيبون في 1961. ومن عرف أستاذنا عرف فارساً ملتزما بخلق الفروسية السودانية في الشهامة والنجدة. ولهذه الزينة نحو واضح وصعب. ومن ذلك الجلوس علي فروة الصلاة متي ما أدرك الواحد خسرانه للخصم ودنو أجله. وقد فعلها الخليفة عبد الله في أم دبيكرات حتى لغزاة الإنجليز الأنجاس. وقد قضي أستاذنا معنا ليلة الأحد الدامي بعد ثورة اكتوبر في 1964 بطولها بدكان بحي بري اللاماب نفض اشتباكات حذرناها بين أهل الحي وأبناء الجنوب من سكانه. وظللنا نأكل بلحاً من الدكان طول الليل حتى جاء الصباح. وكنا نحف بمن خرج من الجنوبيين من منزله للشغل حتى يأمن إلي نفسه.

    التزم أستاذنا بأعراف تلك الفروسية والموت قد نصب علي بروج المدينة في يوليو 1971. فبينما تمرغ الجبناء المايويين السكارى في الدنس كان أستاذنا يلح أن يأتوه بغيار من الملابس حتى يرفع زينته أنيقاً في لقاء الموت الشائن والقتلة الذين بلا أعراف. وهذا من أخص قيم الفروسية. فقد صام الشيخ التوم علي التوم، زعيم قبيلة الكبابيش، عن الطعام حين علم دنو شنقه بواسطة المهدية الثائرة في مدينة الأبيض. فقد خشي أن يعيب وهو بين أيدي قاتليه. وسمعت من جنود من جيراني في حي جبرة بالخرطوم اشتركوا في قتل سياسيين علي عهد نميري عن ضروب من مثل هذا العيب. وهى فروسية لم يمارسها أستاذنا فحسب بل حلل عناصرها في ما كتب. فقد فخر بها في دفاعه أمام المحكمة في 1959 قائلاً أنه لم يقبل بأمر ما لأن " لي وازع من مبادئي ورجولتي." وقال أنه خلافاً لمن يحصر التقاليد السودانية في حرب الشيوعية فإنه يراها "متركزة في حب الحرية والكرامة والصراحة والشهامة، وفوق ذلك، في قولة الحق." وهذه زبدة الشيوعية عنده لا أكلت ولا شربت. وعاد إلي هذه القيم في كتابه (إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، 1963) ليقول لزملائه أننا نحن الذين في امتحان الإجازة والقبول أمام شعبنا وحسابه لا الشيوعيين الأندنوسيين أو السوفيات. وبالنظر للروابط القبلية والقروية التي تشد الناس بعضهم إلي بعض فهم يتوقعون منا التزاماً بقيم النجدة والاستقامة والأمانة. وقال في دفاعه أمام المحكمة أن هذه القيم انحدرت إلينا من المجتمع القائم علي الملكية الجماعية للقبيلة. وهي إرث عربي "ضمته أرض افريقيا وغذته." وقال أنها قيم ستؤول للانهيار متي سلكنا الطريق الرأسمالي، طريق الأنانية والفردية.

    وقد جربت بنفسي شفقة الرجل الفارسة. سبق أن كتبت عن جلستنا معه علي عشاء لحم من جزارة الرفيق المرحوم محجوب حمد وبنت حان قبرصية المنشأ. جئناه والزميل عثمان جعفر النصيري نحتج علي اجتياح السوفيات لربيع براغ في 1968. وقد أستسخفنا الغزو جداً وغالطناه فيه حتى انتصف الليل. وحين انفض المجلس أذكر أنه لم يقبل أن نودعه عند الباب بل أخذ يقدمنا ونحن نطلبه أن يرجع توقيراً له وحرصاً عليه. ولما استنفدناه قال عن جيرانه مضطراً : هذه شوارع خطرة في مثل هذا الوقت من الليل. فبيته كان يقع في "زقاق" مقصود لطلاب الشهوة من النساء إياهن. وربما لاحظ فينا شيئاً من تخليط السكر وخشي علينا من أنفسنا أو من آخرين. وأخذنا بالزقاق يساراً ثم يميناً حتى هلت محطة البنزين علي شارع الاسفلت. وأوقف عربة الأجرة بنفسه، ودفع ما تيسر. واستدار الرجل عائداً وحده إلي الشوارع الخطرة. . . كعادته.

    كان أستاذنا أريحياً. وسبق أن تعرضنا إلي كيف رتب مقابلة للزميل المرحوم الأمين، المتفرغ الحزبي ممن سكن مع المرحوم شيبون بحي البوستة، بعيادة المرحوم الدكتور التيجاني الماحي ليبدأ علاجاً لحالة نفسية اعترته. وأستاذنا كان يعلم مع ذلك علم اليقين عسر استرداد الرفيق القيادي متي غيب وعيه بالإفراط في الشرب أو متي انحل زمام نفسه. فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أن النضال من اجل قضية الكادحين فيه شفاء للناس. فقد كرر أستاذنا في اكثر من موضع أن اكتشافه للماركسية أخرجه من تناقض أن يكون من أهل الرجعة إلي التراث أو الانكباب علي الحداثة لأنها زاوجت بين النازعين الفكريين مزاوجة "طاب مراحها والمشرب." وقد وجد فيها "بلسماً شافياً للتناقضات التي عشنا فيها وعاملاً حاسماً للتكامل الشخصي والارتواء العاطفي والفكري ورابطة شديدة بين نمو الفرد والمجموعة، تلك المشكلة التي وقف دونها الكثير حيارى وسلكوا فيها دروباً وعرة دامية."

    وقد علمت مقدار قناعته بذلك في موقفين له معي. في الموقف الأول سألته يوماً عما فعل الحزب للرفيق الجنيد علي عمر. وقد رأينا بأسي وحزن الرفيق يشق تلك الدروب الوعرة الخطرة في رابعة نهار الخرطوم ونحن علي العتبة الأولي في الحزب والمدينة عام 1960. وأحصي لي أستاذنا المرات التي بعث فيها الحزب الرفيق الجنيد إلي مصحات بأوربا الاشتراكية بغير عائد. وحدثني عن التقارير الصحية التي نصحتهم بلا جدوى تطبيبه بالخارج وأن علاجه في أن يعزم ويسترد عنان نفسه في بيئته وبين صحبة عاطفة. أما الموقف الثاني فقد كان خلال لقاء لأستاذنا بالسيدين بكري وجعفر محي الدين شقيقي رفيقنا الراحل عبد الله من سكان المنزل 187 بالداخلة الجديدة كما كان يقدم الرفيق المليح نفسه. وكان عبد الله متي جاء الخرطوم نزل أولا بمنزل أستاذنا ليفرغ ما بنفسه ثم يأتني في عربة رفيق مكلف بتوصيله إلي بيتي. وكان عبد الله عاني من صداع غامض أودى به في 1989.رحمه الله وأنزله داراً للشهداء والصديقين. جاء بكري وجعفر لمقابلة أستاذنا بخصوص تفاقم ذلك الصداع ورغبة الأسرة في أن يرتب الحزب بعثة علاجية له. واستمع أستاذنا لهم جيداً حتى قال بكري أن مرد صداع شقيقهم هو إفراطه في النشاط الشيوعي. وهنا قال له أستاذنا أن الزميل عبد الله عزيز علينا جميعاً ونحن نعرف ما يسديه للحزب والطبقة في عطبرة وقد شرعنا فعلاً في ترتيب البعثة له بعد زيارته الأخيرة لنا. ثم ألقي من بعد ذلك عليهما محاضرة عن أن النضال بلسماً تبرأ به الجراح ويزول السقم وأنه صحة وعافية. ولاحظت أنه لم يقبل بتشخيص بكري لسقم أخيه بالمرة بقدر ما ردده عليه. وسافر المرحوم عبد الله إلي بلد من بلاد الله الاشتراكية.

    والشيء بالشيء يذكر. فقد تحول بكري وجعفر في هجراتهما الروحية الكبرى إلي العلاج النبوي. وراج سوقهما بعطبرة حتى بالغا وزعما علاجات للسرطان وغيرها. فعلق رفيقنا المرحوم أحمد عجيب، المشاغب المرح شديد الهمة في خدمة الناس، أن طبهما هو طب الأطباء بلا حدود. وأسرة المرحوم أحمد ما تزال تشكو أنه مات متأثراً بضربات تلقاها علي رأسه خلال اعتقال ما. آمل أن تعينهما السلطات لكشف جلية الأمر. فمن عرف احمد وقف علي بؤرة الشغف في الدنيا. مات في ريعانه. رحمه الله.

    لم يكن أستاذنا عقدياً في قناعته أن النضال شفاء. فلم يحتج بها ليغلق بابه في وجه متاعب الرفاق . . . وكانت يا عرب. فقد سبق أن كتبت عن ملابسات صدور كتاب "الماركسية والثقافة" للمفكر الإيطالي أنطونينو قرامشي (1891-1937) بترجمة للزميل الجنيد علي عمر من دار الفكر الاشتراكي التي كنت محررها في 1969-1971. فقد جاءني المرحوم الجنيد بالنص المترجم. واعترف بأنني فوجئت بالكراسات وأناقة خطها وهوامشها من رجل سلك الدروب الوعرة الدامية. ومن يومها لم أشفق علي الجنيد فعل آخرين. فلقد رأيت منه صحواً عجيباً لا يراه المشفقون العجالي. ولم يسفر إشفاقهم مع ذلك عن شيء جدي سوي البحث عن "المجرم" الذي ساقه في طريق الإدمان. وربما ظلموا قوماً من فرط العجلة.

    وظللت أتساءل بعد أن تعرفت أكثر وأكثر علي منزلة قرامشي من الماركسية والثقافة كيف أهتدي الجنيد الي قرامشي عام 1968 في نفس الوقت الذي كانت أوربا قد بدأت تفيق لخطر الرجل. وقد خلصت من طول التفكير إلي أنه ربما كان أستاذنا عبد الخالق محجوب هو الذي نبه الجنيد الي مؤلف قرامشي. فقد كان أستاذنا بعامة أكثر متابعة لما ينشر بالخارج . وكان أصدقاؤه يهادونه الكتب التي يعشقها كقاريء نهم. أما اقوي حيثياتي فهو تعلق أستاذنا بمفهوم "المثقف العضوي" الذي هو اصطلاح من وضع قرامشي. وتلك قصة أخري. ولكن لو صح أن أستاذنا هو الذي دل الجنيد علي قرامشي يكون قد واده وبره بما هو موقن أن به العافية والشفاء. وهذا خلاف أهل الشفقة العقيم بالجنيد الذين فرغوا من إدانة أستاذنا عبد الخالق بتضييعه. ويستثقل هؤلاء المشفقون الكتب و لا يظنون التهادي بها من آيات الحب والمودة.

    قال المرحوم خالد الكد أن الجنيد طلب منه يوماً ما بعد اغتيال أستاذنا في يوليو 1971 أن يغشى بالسيارة منزل آل محجوب بالشهداء. وهى دار كان أحد أهلها حين سكن حيناً بها مع أستاذنا. ولما بلغ الدار نزل واخذ قطعة فحم وكتب علي الباب: "الأخ عبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم." وعاد للسيارة وركب بهدوء كأن لم يحدث شيء. كأن لم يمت أحد. كأن القتلة مجرد أدعياء. كأن الصديق عبد الخالق قد خرج لعقد زواج أو عزاء أو لحديث الأربعاء في دار للحزب. وسيعود.



    تصويب:

    ورد اسم الحاج عبد الله القطي ك "محمد عبد الله القطي". وقلت أن شيبون هو عم صلاح شيبون المقيم بكندا وصحيحه هو أنه ابن عمه. وصوبنا تاريخ وفاة المرحوم خليل نصر الدين بفضل ما قاله لنا الأستاذ عبد الوهاب سليمان.



    د. عبد الله علي إبراهيم


    في عصر يوم من أيام سبتمبر 1953 طرق الزميلان سليمان علي ومحمد الهادئ باب الأستاذ أحمد سليمان بأبي رووف بأم درمان مبعوثين من أستاذنا عبد الخالق محجوب لينقلا إليه وفاة الرفيق خليل نصر الدين. وسليمان والهادئ من متفرغي الحزب بالمدينة وسكنا مع المرحوم محمد عبد الرحمن شيبون، بمنزل بحي البوستة. وأسلم خليل، الموظف بالثروة الحيوانية، الروح بمنزل الزميل جعفر أبو جبل ببيت المال. وكان الحزب قد نقله لذلك البيت للعناية به من داء الصدر الذي كان قد أصابه. واصبح هذا المنزل داراً للحزب الشيوعي بعد ثورة اكتوبر 1964. وكان أستاذنا يزور خليلاً بينما يشرف علي علاجه وعلي إجراءات سفره بالخارج المرحوم إبراهيم زكريا السكرتير التنظيمي للحزب. وتقرر نقل جثمانه لبيت أقرباء له بالعرضة. وتساءل الناس عن أهل آخرين له. فقالوا أن منهم المرحوم الرشيد الطاهر بكر الطالب بكلية الخرطوم الجامعية آنذاك. ولم يكن بين الرفاق من يعرف الرشيد. فدلهم عليه الأستاذ عبد الوهاب سليمان الذي كان تعرف علي عبدالله شقيق الرشيد في المدرسة. وعاد أستاذنا لبيته يستعد للفراش نحو مغرب ذلك اليوم. وأخبر أهله بوفاة خليل. ثم بكي طويلاً. وقال الأستاذ محمد محجوب عثمان أنه لم يره يبك لا قبلها ولا بعدها. ودفن خليل بمقابر البكري. وسمي إبراهيم ولده من زميلتنا فاطمة النعيم خليلاً في ذكري الرفيق المات. ومات خليل الابن الذكري في ملابسات حزينة أخري. رحمه الله.

    ليس أستاذنا عبد الخالق ممن يتنصل عن رفاقه وقت الشدة ناهيك عن اغتيالهم كما زعم المرحوم صلاح احمد إبراهيم في قصيدته "أنانسي" . وهي القصيدة التي حمله فيها انتحار الزميل محمد عبد الرحمن شيبون في 1961. ومن عرف أستاذنا عرف فارساً ملتزما بخلق الفروسية السودانية في الشهامة والنجدة. ولهذه الزينة نحو واضح وصعب. ومن ذلك الجلوس علي فروة الصلاة متي ما أدرك الواحد خسرانه للخصم ودنو أجله. وقد فعلها الخليفة عبد الله في أم دبيكرات حتى لغزاة الإنجليز الأنجاس. وقد قضي أستاذنا معنا ليلة الأحد الدامي بعد ثورة اكتوبر في 1964 بطولها بدكان بحي بري اللاماب نفض اشتباكات حذرناها بين أهل الحي وأبناء الجنوب من سكانه. وظللنا نأكل بلحاً من الدكان طول الليل حتى جاء الصباح. وكنا نحف بمن خرج من الجنوبيين من منزله للشغل حتى يأمن إلي نفسه.

    التزم أستاذنا بأعراف تلك الفروسية والموت قد نصب علي بروج المدينة في يوليو 1971. فبينما تمرغ الجبناء المايويين السكارى في الدنس كان أستاذنا يلح أن يأتوه بغيار من الملابس حتى يرفع زينته أنيقاً في لقاء الموت الشائن والقتلة الذين بلا أعراف. وهذا من أخص قيم الفروسية. فقد صام الشيخ التوم علي التوم، زعيم قبيلة الكبابيش، عن الطعام حين علم دنو شنقه بواسطة المهدية الثائرة في مدينة الأبيض. فقد خشي أن يعيب وهو بين أيدي قاتليه. وسمعت من جنود من جيراني في حي جبرة بالخرطوم اشتركوا في قتل سياسيين علي عهد نميري عن ضروب من مثل هذا العيب. وهى فروسية لم يمارسها أستاذنا فحسب بل حلل عناصرها في ما كتب. فقد فخر بها في دفاعه أمام المحكمة في 1959 قائلاً أنه لم يقبل بأمر ما لأن " لي وازع من مبادئي ورجولتي." وقال أنه خلافاً لمن يحصر التقاليد السودانية في حرب الشيوعية فإنه يراها "متركزة في حب الحرية والكرامة والصراحة والشهامة، وفوق ذلك، في قولة الحق." وهذه زبدة الشيوعية عنده لا أكلت ولا شربت. وعاد إلي هذه القيم في كتابه (إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، 1963) ليقول لزملائه أننا نحن الذين في امتحان الإجازة والقبول أمام شعبنا وحسابه لا الشيوعيين الأندنوسيين أو السوفيات. وبالنظر للروابط القبلية والقروية التي تشد الناس بعضهم إلي بعض فهم يتوقعون منا التزاماً بقيم النجدة والاستقامة والأمانة. وقال في دفاعه أمام المحكمة أن هذه القيم انحدرت إلينا من المجتمع القائم علي الملكية الجماعية للقبيلة. وهي إرث عربي "ضمته أرض افريقيا وغذته." وقال أنها قيم ستؤول للانهيار متي سلكنا الطريق الرأسمالي، طريق الأنانية والفردية.

    وقد جربت بنفسي شفقة الرجل الفارسة. سبق أن كتبت عن جلستنا معه علي عشاء لحم من جزارة الرفيق المرحوم محجوب حمد وبنت حان قبرصية المنشأ. جئناه والزميل عثمان جعفر النصيري نحتج علي اجتياح السوفيات لربيع براغ في 1968. وقد أستسخفنا الغزو جداً وغالطناه فيه حتى انتصف الليل. وحين انفض المجلس أذكر أنه لم يقبل أن نودعه عند الباب بل أخذ يقدمنا ونحن نطلبه أن يرجع توقيراً له وحرصاً عليه. ولما استنفدناه قال عن جيرانه مضطراً : هذه شوارع خطرة في مثل هذا الوقت من الليل. فبيته كان يقع في "زقاق" مقصود لطلاب الشهوة من النساء إياهن. وربما لاحظ فينا شيئاً من تخليط السكر وخشي علينا من أنفسنا أو من آخرين. وأخذنا بالزقاق يساراً ثم يميناً حتى هلت محطة البنزين علي شارع الاسفلت. وأوقف عربة الأجرة بنفسه، ودفع ما تيسر. واستدار الرجل عائداً وحده إلي الشوارع الخطرة. . . كعادته.

    كان أستاذنا أريحياً. وسبق أن تعرضنا إلي كيف رتب مقابلة للزميل المرحوم الأمين، المتفرغ الحزبي ممن سكن مع المرحوم شيبون بحي البوستة، بعيادة المرحوم الدكتور التيجاني الماحي ليبدأ علاجاً لحالة نفسية اعترته. وأستاذنا كان يعلم مع ذلك علم اليقين عسر استرداد الرفيق القيادي متي غيب وعيه بالإفراط في الشرب أو متي انحل زمام نفسه. فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أن النضال من اجل قضية الكادحين فيه شفاء للناس. فقد كرر أستاذنا في اكثر من موضع أن اكتشافه للماركسية أخرجه من تناقض أن يكون من أهل الرجعة إلي التراث أو الانكباب علي الحداثة لأنها زاوجت بين النازعين الفكريين مزاوجة "طاب مراحها والمشرب." وقد وجد فيها "بلسماً شافياً للتناقضات التي عشنا فيها وعاملاً حاسماً للتكامل الشخصي والارتواء العاطفي والفكري ورابطة شديدة بين نمو الفرد والمجموعة، تلك المشكلة التي وقف دونها الكثير حيارى وسلكوا فيها دروباً وعرة دامية."

    وقد علمت مقدار قناعته بذلك في موقفين له معي. في الموقف الأول سألته يوماً عما فعل الحزب للرفيق الجنيد علي عمر. وقد رأينا بأسي وحزن الرفيق يشق تلك الدروب الوعرة الخطرة في رابعة نهار الخرطوم ونحن علي العتبة الأولي في الحزب والمدينة عام 1960. وأحصي لي أستاذنا المرات التي بعث فيها الحزب الرفيق الجنيد إلي مصحات بأوربا الاشتراكية بغير عائد. وحدثني عن التقارير الصحية التي نصحتهم بلا جدوى تطبيبه بالخارج وأن علاجه في أن يعزم ويسترد عنان نفسه في بيئته وبين صحبة عاطفة. أما الموقف الثاني فقد كان خلال لقاء لأستاذنا بالسيدين بكري وجعفر محي الدين شقيقي رفيقنا الراحل عبد الله من سكان المنزل 187 بالداخلة الجديدة كما كان يقدم الرفيق المليح نفسه. وكان عبد الله متي جاء الخرطوم نزل أولا بمنزل أستاذنا ليفرغ ما بنفسه ثم يأتني في عربة رفيق مكلف بتوصيله إلي بيتي. وكان عبد الله عاني من صداع غامض أودى به في 1989.رحمه الله وأنزله داراً للشهداء والصديقين. جاء بكري وجعفر لمقابلة أستاذنا بخصوص تفاقم ذلك الصداع ورغبة الأسرة في أن يرتب الحزب بعثة علاجية له. واستمع أستاذنا لهم جيداً حتى قال بكري أن مرد صداع شقيقهم هو إفراطه في النشاط الشيوعي. وهنا قال له أستاذنا أن الزميل عبد الله عزيز علينا جميعاً ونحن نعرف ما يسديه للحزب والطبقة في عطبرة وقد شرعنا فعلاً في ترتيب البعثة له بعد زيارته الأخيرة لنا. ثم ألقي من بعد ذلك عليهما محاضرة عن أن النضال بلسماً تبرأ به الجراح ويزول السقم وأنه صحة وعافية. ولاحظت أنه لم يقبل بتشخيص بكري لسقم أخيه بالمرة بقدر ما ردده عليه. وسافر المرحوم عبد الله إلي بلد من بلاد الله الاشتراكية.

    والشيء بالشيء يذكر. فقد تحول بكري وجعفر في هجراتهما الروحية الكبرى إلي العلاج النبوي. وراج سوقهما بعطبرة حتى بالغا وزعما علاجات للسرطان وغيرها. فعلق رفيقنا المرحوم أحمد عجيب، المشاغب المرح شديد الهمة في خدمة الناس، أن طبهما هو طب الأطباء بلا حدود. وأسرة المرحوم أحمد ما تزال تشكو أنه مات متأثراً بضربات تلقاها علي رأسه خلال اعتقال ما. آمل أن تعينهما السلطات لكشف جلية الأمر. فمن عرف احمد وقف علي بؤرة الشغف في الدنيا. مات في ريعانه. رحمه الله.

    لم يكن أستاذنا عقدياً في قناعته أن النضال شفاء. فلم يحتج بها ليغلق بابه في وجه متاعب الرفاق . . . وكانت يا عرب. فقد سبق أن كتبت عن ملابسات صدور كتاب "الماركسية والثقافة" للمفكر الإيطالي أنطونينو قرامشي (1891-1937) بترجمة للزميل الجنيد علي عمر من دار الفكر الاشتراكي التي كنت محررها في 1969-1971. فقد جاءني المرحوم الجنيد بالنص المترجم. واعترف بأنني فوجئت بالكراسات وأناقة خطها وهوامشها من رجل سلك الدروب الوعرة الدامية. ومن يومها لم أشفق علي الجنيد فعل آخرين. فلقد رأيت منه صحواً عجيباً لا يراه المشفقون العجالي. ولم يسفر إشفاقهم مع ذلك عن شيء جدي سوي البحث عن "المجرم" الذي ساقه في طريق الإدمان. وربما ظلموا قوماً من فرط العجلة.

    وظللت أتساءل بعد أن تعرفت أكثر وأكثر علي منزلة قرامشي من الماركسية والثقافة كيف أهتدي الجنيد الي قرامشي عام 1968 في نفس الوقت الذي كانت أوربا قد بدأت تفيق لخطر الرجل. وقد خلصت من طول التفكير إلي أنه ربما كان أستاذنا عبد الخالق محجوب هو الذي نبه الجنيد الي مؤلف قرامشي. فقد كان أستاذنا بعامة أكثر متابعة لما ينشر بالخارج . وكان أصدقاؤه يهادونه الكتب التي يعشقها كقاريء نهم. أما اقوي حيثياتي فهو تعلق أستاذنا بمفهوم "المثقف العضوي" الذي هو اصطلاح من وضع قرامشي. وتلك قصة أخري. ولكن لو صح أن أستاذنا هو الذي دل الجنيد علي قرامشي يكون قد واده وبره بما هو موقن أن به العافية والشفاء. وهذا خلاف أهل الشفقة العقيم بالجنيد الذين فرغوا من إدانة أستاذنا عبد الخالق بتضييعه. ويستثقل هؤلاء المشفقون الكتب و لا يظنون التهادي بها من آيات الحب والمودة.

    قال المرحوم خالد الكد أن الجنيد طلب منه يوماً ما بعد اغتيال أستاذنا في يوليو 1971 أن يغشى بالسيارة منزل آل محجوب بالشهداء. وهى دار كان أحد أهلها حين سكن حيناً بها مع أستاذنا. ولما بلغ الدار نزل واخذ قطعة فحم وكتب علي الباب: "الأخ عبد الخالق: حضرنا للمرة الألف ولم نجدكم." وعاد للسيارة وركب بهدوء كأن لم يحدث شيء. كأن لم يمت أحد. كأن القتلة مجرد أدعياء. كأن الصديق عبد الخالق قد خرج لعقد زواج أو عزاء أو لحديث الأربعاء في دار للحزب. وسيعود.



    تصويب:

    ورد اسم الحاج عبد الله القطي ك "محمد عبد الله القطي". وقلت أن شيبون هو عم صلاح شيبون المقيم بكندا وصحيحه هو أنه ابن عمه. وصوبنا تاريخ وفاة المرحوم خليل نصر الدين بفضل ما قاله لنا الأستاذ عبد الوهاب سليمان.

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de