كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
|
|
 كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا
|
عروس اليوم .. والامس
مع اطلالة مساء الخميس من كل اسبوع تتحلق عائلتي الصغيرة امام شاشة التلفزيون لمشاهدة برنامج ( افراح .. افراح ) وهي حفلات زواج تنقل عبر قناة النيل الازرق ، وتعتبر من البرامج الناجحة التي يقبل عليها المشاهدون .. ومن مشاهداتي المتقطعة لهذا البرنامج كان اول ما لفت نظري كمية الالوان والاصباغ التي تغطي وجه العروس والصراحة والجرأة التي تتمتع بها لدرجة انها تهنيء العريس بل وتمسك بيده امام الحفل عكس طابع الخجل الذي كان يميز عروس زمان.. وفي غمرة اندهاشي من هذا التغيير والتحول الذي طرأ على جيل اليوم من بناتنا ، ضاعت مني بوصلة المكان والزمان ورجعت بذاكرتي الى الوراء لأستحضر مناسبات الزواج في الماضي .. أذكر انني كنت يافعاً عند اول مناسبة زواج في منزلنا وهي زواج اختي فاطمة التي كانت ترعاني وتهتم بشئوني اكثر من الوالدة وكنت متعلقاً بها ألازمها احياناً في بعض المشاوير القريبة لزوم الحراسة الرجالية .. فجأة لاحظت أن اختي لم تعد كما في السابق فقد اصحبت مرتبكة شاردة الذهن كثيرة الهمس مع رفيقاتها تتخلل احاديثهن الغامضة ابتسامات خجولة وتبادل اللكمات الخفيفة لظهور بعضهن على سبيل المداعبة .. وبدأت تهتم اكثر في ترتيب مقتنياتها من بروش الزينة ولياسة المنزل وطلائه باللون الابيض (الجير) بمساعدة مجموعة من رفيقاتها.. وغير بعيد وفي ظل شجرة النيم حيث البروش الكبيرة ( سرو نبد ) واكياس من القمح تفرغ عليها .. وجاءت العمات والخالات في حملة نظافة العيش وبدأن في انشاد المدائح ( السلاد) التي تردد في مثل هذه المناسبات وخاصة المدحة المشهورة ( النبي عبدالله نتود) .. عندها عرفت ان هناك مناسبة زواج في بيتنا .. غابت اختي من منزلنا ولا أكاد أراها كما في السابق لقد أخذوها الى خلوة خاصة ( بوكر كا ) لزوم التجميل والمكياج من المشاطة والحنة .. الخ . وخصصت غرفة كاملة في بيتنا لاقامة العريس القادم وتم فرشها وتزيينها بالبروش التي قضت اختي زمناً طويلاً في تجهيزها لعرضها في هذا اليوم المنتظر واشهرها ذلك البرش المطرز بالنقوش والذي كان يسمى ( بلال تركييه ) وهو ما يتكيء عليه العريس اثناء جلساته .. بعد أيام من التجهيزات جاء اليوم الموعود وزفة العريس الى باب منزلنا .. عشرات الناس من كل الاعمار وهم يرددون الازاهيج ويهزون بجريد النخل كفأل خير ويتبادلون رش العطور والزغاريد حتى استقر بهم المقام داخل الحوش .. وفي الجزء الآخر احضرت فاطمة من مخبئها تصحبها رفيقاتها وتقودها تلك المشاطة ذات الشخصية القوية والكلمة النافذه على الجميع .. ووقفت فاطمة وسط الجمع من النساء تكاد تذوب من الخجل وقد توشحت بتلك الاثواب الفاخرة من ( الفركة والقرمصيص ) وبدأت مراسم ( النومكيرد ) وهي تعطير العروس وتجهيزها للدخول على عريسها .. بعدها لم اشاهد اختى الا بعد اسبوعين تقريباً لأنها كانت تغطي وجهها وهي معزولة مع زميلاتها في جزء خاص بهم لقد تغيرت فاطمة واصبحت في غاية الجمال والروعة وكأنها ملاك وازدادت حياءاً ووقاراً لم تعد تركض خلفي كما كان في السابق ولا ترفع صوتها لتزجرني اذا تجاوزت حد اللياقة .. واكتملت الصورة يوم ان جاءت تلك المرأة من غرب النيل بأدواتها الى منزلنا لزوم ( دق الشلوفة ) وقد كنت هناك اشاهد ذلك المنظر المقزز كمية من الابر مثبتة مع بعضها كأسنان المشط وتسيل كمية الدماء وهناك طحين اسود في زجاجات لتلوين الشفاه وبعد ايام من المعاناة رأيت ان فاطمة اضيفت لها قيمة اخرى من قيم الجمال آنذاك .. أما فقد صارت هذه الممارسات ذكرى جميلة لاخواتنا وامهاتنا من ذلك الجيل الذي كان يستحي من ذكر اسم الزوج حتى بعد وفاته وكانت تنادي عليه فقط بكلمة ( هووي) .. هذه ليست ملاحظة تسجل على بناتنا من جيل الحداثة والعولمة ولكن هي فرصة لتوثيق هذا التراث من الاندثار .. وللحديث بقية
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
عمتي زينب تنادي على الوالدة من السور الفاصل بين منزلنا ومنزل عمي احمد .. ( عبدالسلام قي لبييك اووسكو ... عبدالسلام ناداه اللبيك ) .. وهذه الصورة كانت تكرر في كل عام لأحد افراد الحي .. وتبدأ إرهصات نية الحج بإلاشهار عن الرؤيا التي دائماً من تكون تفاصيلها متشابهة ( يأتي في المنام رجل ابيض الثياب وبلحية كثة ناصعة البياض ايضاَ .. فيقول انا اللبيك .. وانت حاج هذا العام ... الخ .. تلك القصة المحفوظة للجميع ..) ربما يتولد هذا الاحساس في حالة شعور بالشوق يفوق مدى التحمل للاراضي المقدسة وقبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم .. او تأتي هذه الصورة الى من لهم قوة استحضار وخيال خصب من خلال احلام اليقظة والانغماس في معايشة ما كان يروى ممن سبقوه الى مكة .. ويكاد هذا المتأمل ان يحفظ كل ما يحدث في الحج عن ظهر قلب زماناً ومكاناً .. وعند سماعها الخبر خطفت امي ثوبها الكرب الاسود من على العنقريب من مظلة راكوبة كان والدي قد بناها لتدعيم ظلال شجرة النيم التي لم تكن تتمدد لتكفي المساحة المطلوبة .. كنت قد رجعت لتوي من المدرسة الاولية بعد نهاية اليوم دارسي وركضت نحو منزل عمي وفي خيالي تلك اللحظة .. أن منزل عم عبدالسلام سوف يتحول خلية من النشاط والذبائح ومادحات ( السلاد ) وسوف يتهأ لنا جو خصب من الفوضى والتحرك والتجمع الذي سيكسر روتين القرية إنضابطه الرتيب .. سيأتي بص خيرالسيد وسوف تتجمع العشرات من النساء والرجال لوداع عمنا .. كل هذا في خيالي وأنا اركض نحو بيت عمي وكأنه قد بشر بالجنة ونعميها .. جمهرة داخل حوش عمي وهو ممدد على عنقريب صغير بدون برش يتوسد عمته الصغيرة القاتمة اللون بفعل العرق والغبار ورجليه النحيلتين ترجفان دون توقف .. لم اصدق عيني .. هل هذا عمي .. ذلك الرجل الذي لم يكن يحب الدلال ولا يستيغ عبارات الشفقة .. كان معروفاً بقوة الشكيمة وعدم الشكوى وتحمل ما لا يطيقه احد رغم ضآلة بنيته الجسدية .. اصبح منزل عمي عبدالسلام خليه نحل وغرفة عمليات لجمع ما تيسر من المال لاعانته على عباء الحج .. لم يكن لديه غير حمار ابيض في ركن الحوش ونصف في بقرة شراكة مع احد الاعمام .. وبدأت التبرعات تنهال من افراد الساقية نقداً وعيناً ومع مضي الوقت تم جمع النصاب الذي يكفي عمي عبدالسلام لاداء مناسك الحج .. وجاء اليوم الموعود .. والنساء يرددن قصائد الحج ..
حاجي جبلو ..
أوولي منو مسلو ..
ولا مال قي ويمنقو ..
ولا بتنا قي وينمقو ..
حاج بودوسا ..
وصف لحجيج والحج مع ذكر طبيعة مكة الجبلية ، والعناء الذي سوف يتكبده الحاج في شمس مكة الحارقة .. لم يسأل عن المال ولا البنون .. لقد هرع الى بيت الله ..
أتت الراحلة .. بص عمنا خيرالسيد .. وبكاء ونحيب شوقاً الى مكة والمدينة . وعمي يذرف الدموع .. التيلم أراها في عينيه حتى عندما وفاة اقرب الناس اليه ابنه الوحيد ولكنه الشوق الى الارض المقدسة .. مرت الايام .. وسمعت الزغايد ينطلق من منزل عمي لقد وصلت البرقية .. وكانت تسمى ( هجي سليم ) وهو مصطلح يطلق على تلك الورقة الحمراء ( التلغراف ) بأن الحج قد تم بسلام .. والحجيج بخير ..
وفي ليلة مقمرة ونحن نكاد نأوي الى الفراش انطلقت الزغايد تشق سكون الليل .. لقد وصل عمي .. وهو اشعث اغبر من وعثاء السفر .. واكثر ما لفت نظري ودهشتي هي تلك الشنطة الحديدية التي نقشت عليها صور المآذن والمساجد بلون جذاب وبألوان لم أرى مثلها فصارت هوياتي المفضلة ان اشبع رغبتي كل مرة بالتسلل الى منزل عمي لمشاهدة تلك الشنطة الحديدية وتلك النقوش البارعية .. والجميل ان نوع هذه الشنطة ما زالمتوفراً الى اليوم في متاجر باب مكة التي اتعمد المرور بها لاستحضار ذلك الزمن الجميل ..
لقد تغير عمي صفة وسلوكاً .. لم نعد نسمع ( الدوبيت والنم ) الذي كان يهتك استار الليل بصوت عمي الجميل عندما يعيش لحظات المتعة مع كؤوس الدكاي .. لقد صار عمي هادئاً وديعاً لفترة طويلة ولكنه رجع لسطوته وقوة حضوره والفاظه الحادة .. لكن اختفت تلك الليالي الملاح من حياته ..
ومر الزمان وتغيرت الاحوال وتبدلت وسائل الحياة .. فكان مناسبة حج خالي النور عن طريق دعوة من ابنه في الرياض .. لم يكن حجه بنفس زخم عمي عبدالسلام وكان صديقين حميمين وبل نديمين تربطهما التوأمة في تفاصيل الحياة اليومية .. وبعد ان رجع خالي النور من الحج وفي اول صلاة جمعة وجدته يلبس عبائة بأطراف مذهبة ربما اثار غيرة عمي عبدالسلام الذي صار في ارزل عمره .. وكنت قد بلغت من عمر ما يجعلني اشاركهم الجلسات .. فكان يسخر عمي من حج خالي النور ويقول له (( بعد ما حجيت انا وعمدة صلاح الدين الحج بقى للناس الكرور .. )) ..
رحم الله عمي عبدالسلام .. وخالي النور هؤلاء الانقياء الاصفياء ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
اهي علي عبدالوهاب انبابتود سلام من الله عليك
تحدني في غاية السعادة وانا اتابع مقالاتك الخاصة بالتراث النوبي
واليك ما كتبته في الفيسبوك عن الزواج وربما فيه الشبع بين عاداتنا
مراسم الزواج النوبي
البنجاد: (قولة الخشم)
والتي غالبا تكون محددة مسبقا باختيار كبير العائلة بأن فلانا سيتزوج فلانة، او يقوم اهل العريس بالاتفاق مع اهل العروس لطلب اليد وبعد القبول وقراءة الفاتحة يتم اشهار الزيجة في العلن وبعدها تقوم العروسة على خدمة اهل العريس اظهارا لطاعتها لاهل زوج المستقبل وفي اغلب الاحيان تكون من داخل الاهل. وتظل قريبة من اهل العريس حتى اعلان موعد الزواج من قبل العريس متى ما توفرت له المال اللازم والوقت المناسب وغالبا تكون في ايام الصيف والتي غالبا تصادف اجازات المدارس والعطلات الصيفية للموظفين.
ما ان بلغ العريس اهله بأن جاهز يقوم الاهل بالاعلان عن موعد العرس ويتم التبلغ بيوم الحناء ويوم العقد (اي يوم النكاح)، فيقوم شباب وشابات الحي بالخدمة لاقامة هذا الحدث الهام ويتفرغون تماما لتلبية اي طلب من تجهيز وقود الطهو وطحن الدقيق وتقوم الشابات باخفاء العروس في احد بيوت الحي الذي يمنع ارتيادها من قبل الشباب ومن عيون الحساد وفيها يتم تجهيزها فيما يسمى بالدخان والامور النسوية الاخرى.
هنادب Hinna Dibb (الكوفريه) (ليلة الحناء)
وهو اليوم الذي يسبق يوم العرس وهو يوم احتفالي يجتمع فيه اهل الحي والقرى المجاورة وهو اليوم الذي يرتفع فيه عقيرة الفنانين وغالبا ما يكونون من شباب الحي حتى ساعات الصباح الاولى من اليوم التالي وفي هذا الاثناء يتم وضع الحناء على يدي ورجلي العريس ويقوم اصدقاءه بتخضيب الايدي ايضا للذكرى ثم يتبعه ذبح الثور الاقرن الاملح لاطعام الضيوف الذين سيفدون من ارجاء المناطق البعيدة.
النكاية (يوم النكاح) اي يوم العقد
هذا اليوم يتوافد الضيوف المدعووين من الاماكن البعيد (الشوقار) ويتم استضافتهم في بيوت الحي القريبة من مكان العرس على ان يقوم الشباب والشابات بخدمتهم طوال فترة بقائهم وكذلك اهل الحي المدعوين ويتم تقديم طعام الغداء وبعد الغداء يتم عقد القران في المسجد. ويقوم الضيوف بعمل كشف مالي يسمى الكاسي Kassaeويعتبر هذا نوع من التكافل الاجتماعي الذي اوجده النوبيون في البشرية . وعند المساء يتوافد الضيوف واهل الحي الى بيت العريس حيث يقوم الجميع بالسيرة بالاغاني والاهازيج الى منزل العروس ويعرجون الى النهر حيث يقوم العريس بقطع سطح الماء بعلامة الصليب بسيف يحمله خصيصا لهذا الغرض وتقوم النسوة برش بعض الحلوى والحبوب والاسلي (الفشار) على سطح البحر وهنا تقوم احدى النساء بالغناء (بلال يا بلال يوي اجب بلال .. ساير قدموك يوي اجب بلال ) وعندما يقترب المسير الى منزل العروس تقول المعنية ( اريس تارونان اسككن دومي اسكمينكانقون ويترون دينجي) Arees taronan eskikan dummy eskimainkangon weetirodenchae ويعني (العروس بطرفكم لو قادرين امسكوه واكرمو وفادته وان لم تستطيعوا ارجعوه لينا).
يقوم اهل العروس بتكريم الضيوف حيث يقدم الدكاي والعشاء لاهل الحي والقرى المجاورة وبعد العشاء وبعد القيام بواجب Kassae يقام الحفل الغنائي وبعد المباركة للعروسين يتم وضع الجيرتق لهما ويتطيبان ببعض العطور المحلية. ثم يتم اخفاء العروس ويكمل العريس باقي اليوم مع الضيوف مع بعض المحاولات الفاشلة لرؤية عروسه التي تكون محمية من قبل صديقاتها مع الغناء المتواصل طوال النهار.
وعندما يقبل المساء وينتهى مراسم الحفل ويغادر الضيوف يتم ترتيب اللقاء بين العروسين في مكان معد لليلة الدخلة وفيها يبدأ مشوار الحياة الزوجية المديدة
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
نموذج لتجار زمان .. خواطر من سوق البرقيق ..
طويل القامة حتى احدودب ظهره قليلاً عندما يركب حماره تكاد رجليه تلمس الارض رجل جاد وفكه في نفس الوقت يغضب ويسامح في نفس اللحظة يحمل كل سجايا وطيبة اهلنا الحلفاويين اكثر تجار السوق مرونة في البيع والشراء وتقديم الضمانات والبيع بالمؤجل فكره التجاري كان عاليا ً لذا كان هو اكثر التجار دخلاً في السوق لأنه يعرف كيف يكسب الزبون منفتح حتى تظن ان الرجل خرج من وقاره مزحاً وضحكاً ولكن سرعان ما يعود الى الجدية كل شيء عنده بمقدار إلا الكرم والصدقة فكان كما قالت الخنساء في اخيها طويل النجاد كثير الرماد اذا ما شتا عند شرح هذه القصيدة ايام الدراسة ترسخ عمنا محمد انقي في ذهني لأنني عرفته عن قرب ولم نكن نفارق منطقة دكانه ابداً من ايام صبا حتى بدايات الرجولة كان الاب الروحي لكل اولياء البرقيق (الدراويش) محمد ابوسفه وعثمان سعيد ابونخرة والشيخ محمد الصامت العابد وشيخ وراق القادم من منطقة السير كلهم كانت مؤونتهم لدى عمنا محمد انقي هل تذكرون تلك البطاطين الحمراء بخطوط سوداء على اطرافها كانت صناعة يوغسلافية حسب اعتقادي كان الرجل كلما اتى الشتاء يقوم بتوزيعها على هؤلاء القوم وأذكر ان قيمتها كانت اربعون قرشاً ورغم ان الرجل كان ينفعل بسرعة وببراءة لا تغضب احداً كان سمحاً مع هؤلاء يمازحهم ويحادثهم كنت اعجب ان هؤلاء الدراويش لا يتحدثون مع احد بأريحية وحب وتقدير إلا مع عمنا محمد انقي تنقل الرجل في عدة محلات في السوق من شرقه الى غربه الى شماله ففي كل هذه المواقع كان دكانه بمثابة منتدى ومكان لقاء واجتماعات لوجهاء المجتمع كان هناك الرجل صاحب السطوة الجبروت مؤسس البرقيق بكل تفاصيله العمدة عباس الذي امتدت عموديته من ارقو حتى مشروع البرقيق والرجل النقي السهل والطيب عمدة ارتقاشا صلاح الدين الملك والشيخ ارصد شيخ ارتقاشا الشيخ محمود ارصد شيخ كرمة البلد وكان لديه وقت مستقطع عند منتصف النهار لا بد من الاستراحة حتى ولو كان هناك ضيوف او زبائن تجده ممداً وقد زادت امتداد ارجله عن العنقريب الهبابي لا يتحرك منه مهما كانت قيم البيع والشراء لم نكن نزعجه حتى يأخذ راحته بالكامل ومن تجرأ على غير ذلك فكان نصيبه كلمات قوية كعادة اهلنا الحلفاويين وكان الحل دائماً وجود عمنا حسن بوكيل العتالي الاول في السوق والذي كان بمثابة سكرتير خاص له مما اكسبه ممارسة بعض الصلاحيات عمنا محمد انقي في بيع والشراء ودكان عمنا محمد انقي لعب دوراً مهماً في الجانب الاجتماعي والثقافي والسياسي للمنطقة الكل يتجمع هناك المدرسين والنظار والموظفين والعمد والمشايخ والرأسمالية الوطنية واعضاء اللجان والاحزاب كانت حلقة وصل بين جميع فعاليات المنطقة كانت بيني وبين الرجل معزة خاصة وود ومصلحة من جانبي كنت احياناً اكون مراسلاً له في مليء الابريق ومياه السقي مقابل مصلحة مادية لا تخلو من انانية الاطفال وهي بعض الحلاوة المحشوة بالسمسم هكذا احبه الجميع لأنه كان التاجر الوحيد الذي يتعامل معه اهلنا واعمامنا عبر دفتر الجرورة وهذا النوع من المعاملة كانت متاحة لذوي الدخول او الرواتب آنذاك كان يوماً مشهوداً عندما رفع لاقتة كتبها عمنا الخطاط صبري بإسم محمد عبدالرحمن ابوعوف تجمع الناس وكأن الحدث جلل ولأنهم عرفوا الاسم الحقيقي للرجل والذي اشتهر بإسم (محمد انقي) ولفظ انقي بالمحسية ( الرائحة الطيبة ) فهو كان طيباً كحامل المسك واكثر ما كان يعجبني فيه عندما يتكلم بالدنقلاوية مع اهلنا لأنه لم يكن يجيدها بحكم حلفاويته وكانت المفردات تخرج من فمه بطريقة هزلية خاصة ونحن في منطقة تمازج سكانها يجيدون النوبية بكل تفاصيلها وانواعها فكان حقاً ابوفقراء ونموذحاً لرجل البر والاحسان ألا رحم الله عمنا واسكنه فسيح جناته .
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: عبد الحفيظ فخر الدين)
|
حمزاو ي أمبس ..
أعرف انك تذكر مكان وزمان هذه الخواطر ..
هل يمكن ان ترجع مثل تلك الايام .. هل يمكننا إستحضار مثل هؤلاء الشخوص ..
حمزاوي بالنسبة للمناطق الاخرى ومقارنتي من الواقع في البرقيق وكرمة في كثافة سكانية وفي ايقاع سريع ..
مصيرنا نرجع هناك عشان كده لا بد من استحضار الماضي لنعايش الواقع الاليم ..
إيلو .. مبارك أننقا ..
صدقني كرمة بخير وارتقاشا بخير والبرقيق احسنهم
بتاني سلمجمي
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: جمال ود القوز)
|
تحياتي جمال امبس ..
جمال ود القوز ..
يا جمال كدي خلينا نستخرج مفردة نوبية من عبارة ( ود القوز ) ..
القوز له معاني كثيرة بالنوبية ( دوكيي ، كوتيي ، اوبول ) الفرق بين هذه الكلمات دقيق جداً ..
دوكيي : هي المنطقة المرتفعة قليلاً وتكون اعلى المناطق عما حولها وهي اساساً المناطق المرتفعة التي لم تصل اليها مياه السواقي .. وهي اماكن مهمة اذا كانت بالقرب من النيل لأنها تعصم الناس من الغرق .. كما قال سيدنا نوح ( سآوي الى جبل يعصمني من الماء ) .. وفي الغالب هي غير حجرية وتكون من التربة المتماسكة الطينية او رملية تختلط بالطين وتصبح صلبة نوعاً ما .. وأكاد اجزم ان كل القرى النوبية فيها مثل هذه المساحة المرتفعة وتكون متنفساً للشباب في الليالي المقمرة لأن القرى والسواقي القريبة من النيل كانت مزدحمة بالسكان وكان لابد من استثمار أي قطعة خالية للزراعة او السكن إلى ان جاءت موجة الهجرات وتفريغ القرى والسواقي ..
دوكيي أيضاً مفردة تستخدم عند ظهور الهلال ( القمر) وهذا بحث آخر ..
كوتيي : هي الاعلى قليلاً والغريب ان نفس الاسم يطلق على ( ماء الضحل ) او الجزء الضحل من النهر والذي يبلغ فيه منسوب الماء الى الركبة او أعلى قليلاً .. وهي احدى معجزات اللغة النوبية ان تعنى الكلمة في حالة صلابة شيء وفي حالة السيولة شي آخر .. وهي اقرب لكلمة دوكيي .. ولكني لاحظت أن كوتيي بها الكثير من نباتات الحلفا وتكون رملية اكثر واعلى من دوكيي .. ( هذا بإختصار) ..
اوبول : وهي المنطقة المرتفعة التي تحاذي النيل مباشرة وللتوضيح هي المنطقة التي تكثر فيها الهدام والانهيارات .. وهي اضخم من كوتيي ودوكيي ومنظرها مخيف جداً خاصة في مواسم الهدام والانهيارات وشكله لا يوحي بأي نوع من الشاعرية بل أقرب الى القبح لذا يشبه الشخص البدين السمج بأن يقال له ( اوبول كليي ) بالمحسية أو ( اوبول كوتي ) وكوتي هنا الحجم وتختلف عن كوتيي التي ذكرناها وقد جئت بهذه المفردة الاخرى للتعبير عن حلاوة وجمال اللغة النوبية ونغعها وتنغيمها ومخارجها الخالية من الغلظة .. عشان كده .. في وردي والبلابل وخليل فرح .. الخ
اشكرك كثير اخي جمال ود القوز .. فتحت لي مجال للاندياح من خلال لقبك الجميل ود القوز ..
قوز ( دوكي ) وود ( تود ) ..
هل تستطيع تركيب لقبك بالنوبية
تحياتي يا زول يا جميل ..
مع حفظ الحقوق لاسمك ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: عبد الله فقير)
|
دوكي تود ..........
يأخ اتـا زول روعة ..
عارف الـ ( اوبول ) ده ..
ايام النيل يشرد وايام الدميرة ..
بيكون مرعب ..
يعني ياتن وقعت كسرت رقبتكـ ..
وجيت من واقع من عاشر طابق ..
ياطمست ورحت تحت طين الدميرة ..
ايام الهدام ...
غايتو يمرقك العوم وبس ..
وحتى في عز الدميره كنا نروض هذا النيل ونقطع أنفاسه ..
ذهاباً واياباً .. من الضفة الغربية الى الشرقية ..
غير آبهين بذاكـ العرق الذي يجرفكـ ..
ولا بالهدام ولا بي أي حاجه..
ولا بتلكـ الأمواج العالية التي تمنعكـ من التقاط انفاسك داخل المياه ..
كانها تصارعكـ وتستكثر عليكـ أن تتحدى عنفوان النيل ..
كل يوم حكاية من قرية نوبية ..
قراءه في سفر الاجداد ..
قراءه ..
تمتشق كل سحر النوبه ..
وتتباهى بكل ذاكـ ..
الجمال الذين يزين أرضها ..
من اسوان والى تخوم القولد جنوباً ..
محبتي لاهلي الناطقين بغيرها ..
اهل الانداندي والاوشكر ...
أقول ليكـ كلام ..
الناطقين بغيرها ديل الناس المانحن ...
ونحن قلب الدنيا ديا................
قريبي يا امبيس /
حأجيكـ تاني يا حبيب ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
فقيرتود .. أمبس ..التحية ليك وللامورة الحلوة ( بورونتود ) ما شاء الله .. ما شاء الله .. أصل النوبة مرتبطين بالنيل في كل حياتهم الاقتصادية والاجتماعية وفي السابق وصلت الى درجة القداسة .. ونحن في قرانا في منطقة النوبة النيل هو الحياة بكل تفاصيها .. عندما نحزن نذهب الى النيل .. عندما نفرح نذهب الى النيل .. عندما نعود من الاغتراب في الاجازات بعد السلام على الأهل لوزوم الفاتحات يجد المرء من تلقاء نفسه متجه الى النيل للسلام على النيل .. رغم انك تكون قد شاهدت النيل خلال رحلتك من العاصمة او الميناء قريتك عشرات المرات وفي اماكن كثيرة جداً ولكن لكل واحد منا نيله في قريته فالنيل عندنا يختلف بإختلاف المنطقة ففي كل مكان له رمزية خاصة به تماماً مثل النخلة .. فترى النيل في الخرطوم او المدن الاخرى لا يشكل لك أي عمق او انتماء تراه غريباً عنك ولا يوجد أي انجذاب نحوه وكأنه مفرغ من معناه العميق وبنفس القدر ترى النخلة في شوارع المدن حائرة لا يعيرها أحداً أي اهتمام وكأنها غريبة الوجه واليد واللسان .. لا تعرف لها اصلاً ولا مرجعاً واسماً ولا غرساً .. أما النخلة عند أهلنا فهي بالاسماء بل لها كنيات واسماء دلع كما للفتانات من النساء .. أما الاحساس بالدميرة فناتج من هذا الارتباط العضوي والجيني بين اهلنا والنيل .. فمع بواكير الدميرة وتعكير المياه يكون اتجاه الرياح جنوبية (النو) وهي رياح ساخنة جداً وتكون بطيئة وغير ذات جدوى وتساعد في التخمير وتصاعد بعض الروائح ولكن هذه الروائح تكون في الصباح والليل مختلفة عن منتصف النهار وتأتي بدايات الفيضان بكل ما حول النهر من مواد غير مرغوب فيها لأن النهر يتمدد في اليابسة وتنظف المناطق القريبة من الشاطيء حيث الكاويق وفضلات الابقار والحمير والغنم ولكن هذه الروائح غير مزعجة لأهلنا كثيراً لانها في الاخير بشائر الطمي والخير والمزارع لا يفكر في المنتج الصيفي لأنه غير مهم وخاصة الذرة لأن اهلنا لا يحبون أكل الذرة بل يفضلون القمح .. ونجاح الفيضان هو عندما يكون الى حد الجروف معناه ان الموسم ناجح ولكن التوجس ان يفيض حتى يصل البيوت والاملاك الخاصة وخاصة النخيل لأن النخلة لا تحب المياه كثيراً .. فتجد هناك قلق في النفوس وأهم ما يصيب المزارع هو علف الحيوانات لأن مخزون القصب الجاف على سقف المنازل بل كاد تكفي الغذاء الابقار والحمير والمشكلة تكمن في غذاء الاغنام .. نعم يكون الجو فيه نوع من الاحباط والتوجس كل ما امتد النيل خارج النطاق المتوقع وعندما يجرى الماء في العراء تجد عشرات العقارب والهوام والثعابين تخرج من احجارها هرباً من الغرق ...
للموضوع بقية ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
من صعب جداً ان تجد فيها حروف غليظة مثل ( خاء والحاء والظاء والضاد والعين والزاي والذاء والصاد ..الخ ) ومثل هذه الحروف احسب انها تسبب اللوز وانتفاخ في الحلق لذا تجد ان النوبية مهما تحدثت بها لا تصاب بأي نوع من الملل .. بالاضافة الى التنغيم في دنقلاوية كلما اتجهنا جنوباً مثل تحويل ( الكاف الى الهاء ) مما يزيد لغة جمالاً .. والمحسية كلما اتجهنا شمالاً حتى نصل الى ( شنشنة اهل السكوت ) وهي تحويل ( السين الى شين ) بطريقة جمالية لا تخلو من الاعجاز ( كما كانت شنشنة اهل اليمن في اللغة العربية حيث كانوا يرددون التلبية .. لبيش اللهم لبيش ) فالتنغيم عند أهلنا في حلفا ايضاً يفوق الوصف .. فكانت اللغة النوبية لغة الترانيم في الكنائس زمان كما قال الباحثون chatting language وما جمال الاصوات النوبية في الغناء إلا انعكاس لتلك الترانيم الكنسية التي كانت تردد في كنائس فرس ودنقلا وعجوز .. وهل هناك اجمل من اأنغام الكلقيه.. وهناك ألحان خالدة عبر نوبة فتجد عند الدناقلة ( أغنية مثل آمنة بروشوت ) وعلى امتداد المحس والسكوت وحلفا تجد ( اغنية سبو الليل ) وهي اغاني مثل الاهرامات لا تفنى ولا تنقضي عبر الزمن ومسحة الحزن التي تتكحل بها الاغنيات النوبية اتت من الترانيم الكنسية التي كانت تردد في السابق ومن اصوات السواقي ، وتجد عندنا اصوات في غاية الجمال مثلاً عبداللطيف توسي ( مشو ) في رائعة نوري سيد علي ( تونجيلا ) وهناك دهب وخليل فرح ووردي والبلابل وخاصة بالنوبية وهل هناك اروع من ملحمة ( بابور كوسونا ) بصوت البلابل ؟ اورع غناء سمعته على اطلاق .. وقيل ان عثمان الشفيع من عرب صورادة واستقروا في شندي ، وبالاضافة الى ذلك فإن اللغة النوبية خالية من مفردات التنابذ ليس بها مفردة تدل على النبذ واذا أراد شخص أن يمارس التنابذ لا بد له من الرجوع الى العربية او اللغات الاخرى ( أمثال : و س خ ، ثقيل ، ملعون ، يلعن أبوك او امك ، ع ب ي ط ، غ ب ي .. الخ ) ولكن هناك فقط بعض المفردات التي تطلق على الشخص حسب صفته ( فمثال .. ويل بالدنقلاوية او موق بالمحسية تطلق على الشخص الذي يحفظ حقه ويطمع في حق الاخرين ) ليست هي مفردة ولكنها صفة تشبيه للشخص .. مثل لفظ ( هنو .. او .. كج) فهذا تشبيه وليست مفردة شتيمة ..
ذهبت الى جمعيتنا في جدة يوم الخميس ووجدت احد الاخوان يتصل مع احدى قريباتنا عن طريق الجوال ولاحظت ان أخي هذا يبذل مجهود كبير لشرح الموضوع باللغة العربية رغم انهما من الطرفين يتقنان النوبية.. وبعد انتهاء المكالمة جلست معه وفأهمته أن الحق لا يوضح إلا بلغة واضحة مفهومة للطرفين .. فبدل ان يدخل المرء نفسه في مذكر ومؤنث وضمائر اناث والذكور افضل له ان يتحدث بلغة النوبية فهي اسهل وافضل .. في بداية لم يقتنع ولكنه اقتنع تماماً بعد ان تطرقت الى مركز التكلفة في المكالمة cost centre لأن المكالمة بالنوبية تكلف اقل وفترة اقصر وبدل عشرة ريالات مكالمة بالعربية يمكن ان يبلغ رسالته بالنوبية بخمسة ريالات لأنها لغة الام ويمكنك اختصار المكالمة في مصطلحات بدلاً من صفحات .. ومادام الحكاية دخلت في المصاريف لا بد من مراعاة ذلك ..
للحديث بقية ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
لأول مرة نشاهد ( الساندويتش ) ..
يا سلام با عبود مستشفى في ضواحي الدنيا عام 1961م
أقترن اسمه بمستشفى البرقيق طبقت شهرته الافاق وسمي معظم المواليد في تلك الفترة بإسمه تيمناً به .. هو ( الدكتور امين صقر ) كان يسكن في المنزل المخصص للاطباء ( ياسلام يا عبود) و كان منزل به حديقة كبيرة وخضراء مليئة بالزهور وكنا ننظر الى الداخل في فضول من كوة الباب الى ونتعجب لجمال المنزل واكثر ما كان يبهرنا تلك العجلة الصغيرة التي كان يقودها ابنه وربما كان في الرابعة من عمره وكانت تبدو لنا وكأنها من عجائب الدنيا كيف تكون هنالك دراجة بهذا الحجم .. الى يأتي غفير المستشفى ويبدأ في مطاردتنا عندها نركض بعيداً عن المنزل وكان هذا الصغير هو ابنه وقد التحق بمدرسة البرقيق الاولية .. وأول ( ساندويتش بالجنبة والطعمية ) شاهدناه في يده رغم اننا كنا في مرحلة متقدمة من العمر .. كان امين صقر مصرى الجنسية متوسط القامة ممتليء الجسم قليلاً قصير الشعر كله حيوية ونشاط احب اهلنا فأحبوه كثيراً عيادته كانت مجهزة في منزل العمدة العباس وكان مكتوب على حائط الخارجي بخط عم / صبري ( عيادة الدكتور أمين مختار صقر ) وعمنا صبري هذا كان أحد اليهود الذي هربوا وإلتجأوا الى منطقتنا وعاش فيها وتزوج حتى قضى باقي عمره بكل هدوء وبدون أي منغصات .. والصيدلي كان عمنا / عوض ادريس ورغم أنه امي لا يقرأ ولا يكتب إلا انه كان خارق الذكاء تعلم الكثير بذكائه الفطري مثل قراءة روشتات الدواء المكتوبة ( امد الله في ايامه ) ولكن لا ننسى أن الادوية كانت محدودة جداَ في ذلك الزمان . واكثر ما كان يبهرنا وننتظره حتى يخرج من عيادته بعد المغرب هي تلك الميدالية التي كانت معلقة من الخارج في البنطال ربما كان نوع من الكهرمان الذي يضيء ليلاً وهو عبارة عن ميدالية مفاتيح وكنا نقترب منه كثيراً لنرى ذلك الشيء العجيب عن كثب ولكن الاخ / عوض كان يقف حائلاً بيننا وبين اكتمال تلك المتعة . .
وحتى نخرج من حي الممرضين لا بد من الاشارة الى ان ذلك المجتمع الليبرالي الذي كان يختلف عن مجتمع اهلنا تماماً ولا مقارنة من حيث التحرر الاجتماعي والزي والاكل والسلوك .. أما الممرضات فلم يكن لهن ذلك الحظ من الجمال ولكن قليل من الحرية والتحرر من القيود التي كانت مضروبه على مجتمعنا والتي كانت تحرم على الانثى حتى التعليم الا من رحم ربي .. وما ان نسمع ضربات ( الدلوكة ) وما اكثرها في ذلك الحي كنا نركض متتبعين مكان انبعاث الصوت وانني كنت نوعاً اكثر وعياً حتى من زملائي من هم اكبر مني سناً ربما كان نضوج مبكر ... . تسللت مرة بين الجمع وكنت نحيل الجسم سريع الحركة كانوا يحسبونني على انني صغير العمر لقصر القامة ونحافة الجسم لقد انطلت عليهم فكنت استوعب كل ما يجري حولي .. لا أدري ما هي المناسبة ولكن دهشتي كانت من منظر ذلك ( رجل ) الجالس على كرسي وفوق فخذه (دلوكة ) يقرع عليها ويغني اغاني تلك الايام ورغم أننا كنا لا نجيد العربية نطقاً ولكننا كنا نستوعب المعاني ونستطيع النطق بحروف غير سليمه وأحسب ان الاغنية كانت :
ياعلب السجاير ** كمان في الحفلة داير
ويرفع عقيرته بالغناء ويفتح فمه وتظهر تلك الاسنان الذهبية لزوم الزينة وليس العلاج كما هو في الوقت الحالي وكان استغرابي كيف للرجل مكتمل يصل به الامر الى هذه الدرجة ولم مصطلح ( إينجيلا) بالدنقلاوية بعيداً عنه .. ثم جاء شاب وسيم واصبح يردد اغاني ابراهيم عوض الذي كان معروفاً في انحاء السودان .. كل هذه الاحداث في قرية نائية وكأن هذه البقة كانت قد اسقطت علينا هذا الصرح الانساني الضخم .. لأننا لم نكن نستوعبها في ذلك الزمان .. ومع انتهاء تلك المناسبة يقفز الى خاطرنا تلك الجلسة التأديبية التي ستعقد لنا والتي ستنتهي حتماً بالعقاب البدني بالجلد والعمل لساعات طويلة في الساقية ..
رحم الله عبود .. وحقاً ضيعناك وضعنا وراك .. واليوم صار هذا المستشفى منقذا لأهلنا من دلقو حتى البرقيق وحتى قرية السير .. جعله الله في ميزان حسناته ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
دنقلا .. قبل البكسي والزلط والكبري (1)
تبدأ الرحلة الى دنقلا من كرمة النزل يجتاز خلالها البص محطات من القرى وعند كل محطة يمعن في اطلاق ابواق التنبيه ( البوري ) الذي كان يختلف عن البصات السفرية التي كانت تمتاز بنغمات احدث الاغاني آنذاك ولكن عمنا طه ابوزيد وكان رجلاً مربوع القامة ممتليء الجسم وتعلو وجهه وسامة ظاهرة والمطارق الستة على خديه زادته وسامة ووقاراً .. لم يكن متهتكاً خارجاً عن السياق مثل (السواقين) في تلك الايام ولكنه كان وقوراً وتقياً يقيم صلواته عندما يحين أوقاتها .. أما نحن فعندما يتناهى الى مسامعنا صدى ابواق ذلك البص المتهالك كنا نصاب بنوع من الاكتئاب والحزن لفراق القرية وفضاءاتها الواسعة الى الداخليات وفصول الدراسة .. ومنذ وقت مبكر اصابتنا عقدة يوم السبت لأنه دائماً يوم الفراق والسفر والاجازات غالباً ما كانت تنتهي يوم السبت ولا انسى ايام المدرسة الاولية وتفتيش الملابس الداخلية في طابور السبت وكان العقاب حتمياً لأن هذه الملابس تكون داكنة اللون بفعل مياه النيل ناهبك ان كانت سليمه وخالية من بعض الثقوب .. وهكذا كان يحلو لنا تسميته ( سمتن كافر ) وربما الى يومنا هذا .. الوقت هو الهزيع الاخير من الليل ربما الثالثة صباحاً والقرية صامتة إلا من زئير هذا الوحش الهادر .. امي واقفة في منتصف الحوش لا أكاد اتبين وجهها لم تخرج لتودعني بالقرب من البص لانها تعرف أنني لا أريدها ان تثير الشفقة امام زملائي من ركاب البص وهذا الموقف مثار احراج وحياء حتى أن ذكر اسم الام كان عيباً في ذلك الزمان .. ناولت المساعد شطنتي الحديدية الصغيرة بمحتوياتها المتواضعة عبارة عن قطع ملابس والمجلات مثل صباح الخير والمصور وهنا لندن وبعض الكتب وخاصة كتاب (كوبا الجزيرة التي احببت) وكان سبباً في توجه سياسي مبكر لم تستمر طويلاً والشنطة اخرى نصف صفيح بها بعض الخبيز من ( القرقوش الجاف ) وصعدنا الى سقف البص تاركين كبار السن والاناث بالداخل ومن بينهم مجموعه لا بأس بها من المرضى وذوي العاهات العقلية من قاصدي منطقة السير طلباً للعلاج لدى الشيخ ودغالب وبعدها يتنفس الركاب الصعداء ويذهب الخوف عن بعض من كانوا يتوجسون من أي تصرف غير طبيعي من المرضى .. وهذا مسيد تورالشرق وتلك القبة التي تزيد المكان رهبة وقداسة وفي رحابها تكون الاستراحة لحين بزوغ الفجر ثم تبدأ رحلة المتاعب مع البنطون وتحتدم المنافسة بيننا وبين تلك الحمير المحملة بخيرات السليم من انواع الخضار وأهلنا في السليم مشهود لهم بالنشاط المتدفق والجدية وحسن ادارة مواردهم وإذا كان ربع سكان الوطن مثل هؤلاء الاشاوس لتفوقنا على اعتى الامم من حيث التطور والانتاج حتى حميرهم تعرف كيف تتصرف لتأخذ مكانها داخل البنطون بدون قيادة او توجيه من احد .. كلما اقتربنا من دنقلا زاد الشوق اليها فهي اجمل نغمة سمعتها اذني واجمل كلمة نطقها لساني هي الاصالة والانتماء هي تاريخ والجغرافيا والزمان والمكان .. قفزنا من البنطون نتلهف مسرعين لنصل الى السوق وتركنا متاعنا لسائق الكارو بعد أن دفع كل منا قرشان فقط والحق يقال أن هؤلاء القوم قمة في الامانة ونعرف أن متاعنا في الحفظ الصون وسوف نجدها داخل سور المدرسة عندما نرجع اليها مساءاً وهذه احدى فضائل هذه المدينة الطاهرة .. في مدخل السوق كشك ( توتو كورة ) يديره ( السر توتو كورة ) وكان شاباً وسيماُ في غاية الاناقة وعلى بعد خطوات منه صورة معاكسة تماماً حيث مجلس تلك المرأة العجوز (زينب قاسم ) التي كانت مصابة بلوثة عقلية .. بشعرها الابيض المنكوش وجسمها النحيل وثيابها الرث وعشرات الحلقات الحديدية وبالبلاستيكية حول معصمها ممدة رجليها النحيلتين أمام مقهى عمنا صديق الذي كان مميزاً بحسن الخلق والعطف على هؤلاء الاولياء وخاصة تلك المرأة التي لم تكن تستكين ابداً ولو للحظة وهي تسخط وتلعن المارة بصوت مرتفع يطغى على كل ضجيج الشارع وكل هذه الثورة لأنها سمعت من أحد المارة لفظ ( حبوبة ) وتظل هكذا الى ان يصيبها الاعياء والتعب ثم تواصل على نفس المنوال .. وقهوة عمنا صديق كان المكان المفضل للشيخ حسن احميدي امام مسجد دنقلا وهو في ذلك الوقت ممتليء بالشباب الحيوية ولم يكن يتقلد أي منصب رسمي .. هذه شريحة صغيرة من مجتمع دنقلا تمثل جانب من التناقضات التي كانت تتعايش في تناغم فريد ونادر ( السر الشاب الانيق) وثنائية الفوضى الجميلة لدى زينب قاسم وحبوبة وهدوء العم الصديق في حضرة العالم الجليل حسن احميدي رحمهم الله .. قادم اليكم بالمزيد .. والى اللقاء ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
بلأمس ذكرت سيرة عمنا طه ابوزيد سواق البص وصاحبه في ذلك زمان وكنت وسط بعض الاخوان في القهوة ..
وعرفت انه توفي الى رحمة الله .. رحم الله عم طه رحمة واسعة ..
فقد كان اخاً اكبراً ووالداً بالنسبة لنا في ذلك الزمان ..
وكم كان حريصاً في المحافظة على اخواتنا الطالبات حتى وصولهن الى مدرسة دنقلا الثانوية آنذاك ..
رحمه الله ..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
| Quote: بينهم مجموعه لا بأس بها من المرضى وذوي العاهات العقلية من قاصدي منطقة السير طلباً للعلاج لدى الشيخ ودغالب وبعدها يتنفس الركاب الصعداء ويذهب الخوف عن بعض من كانوا يتوجسون من أي تصرف غير طبيعي من المرضى .. |
اخى عبدالوهاب توود
عشت الجمال بين حروفك وسرح الخيال وتذكرت الرواية النوبية (الشمندورة)
التمس ظل اهلى المحس وصمدنا الرائع ياتى بالخبر اليقين ...
والاسكلا حر الضفاف للنوبة عنوان الاصالة ...
بلهفة وشغف انتظر مزيد دلق مدادك ...
عافيلقو ...
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: عبداللطيف شريف على)
|
اخي شريف تود ..
عبداللطيف امبس ..
ووو عبداللطيف اننقا ..
استاذنا إنت حرفك فخيم واسلوبك فخم وجميل .. واصعب شي الدنيا التعليق الموجز البليغ ..
لك التحية على المرور الكريم .. ارض مليئة بالجمال والخواطر والتاريخ والذكريات والاصالة حتى ملايين الصفحات لا تستطيع وصف تلك القيم وذلك الجمال ..
أسلوبك بليغ ووو شريف تود ..
آفيالقوا
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كل يوم حكاية من قرية نوبية ... هناك من ضواحي الدنيا (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
وو .. شريف تود ..
تعال سوف خالتنا دي كانت كيف .. ناس على الطبيعة والسليقة ..
يعتبر ( كهيك ) من ابرد شهور السنة حيث الشتاء وزمهرير الرياح الشمالية المشعبة بالرذاذ وخاصة في الجزر الواقعة على النيل .. ويقال في المثل ( شهر كيهك يخلي ال###### السعران زي الكعك ) وفعلاً كنا نلاحظ ان الكلاب تحتمي خلف الحائط وترقد في شكل نصف دائري اتقاءاً للبرد وهكذا الكثير من الحيوانات المنزلية وغيرها .. وفي منزل الجد او البيت الكبير الذي يجمع كل افراد العائلة ومن تحت الفروة التي كنا نتدثر بها في ليالي الشتاء ونحن في مقتبل العمر يجمعنا (العنقريب) الكبير .. والفروة لمن لا يعرفها كانت من الصناعات المحلية وتصنع من جلود الخراف بعد دباغتها بطريقة خاصة وهي دافئة وعازلة للبرد ولكن يصعب التحكم في جوانبها التي تتسرب من خلالها الموجات الباردة الى اجسادنا النحيلة وعندها تتداخل الارجل والايادي مع بعضها فتضل الاصابع والاطراف طريقها الى فتحات الانوف والافواه وترتفع وتيرة الشكوى والصراخ ثم يستقر الامر اخيراً ويذهب الجميع في سبات عميق متشابكي الاجساد .. ومع ساعات الصباح الاولى كنت اصحو على صوت عمي احمدون ومن ثقب الفرو أرى زوجته الخالة آمنه التي تسرع في اشعال النار ووضع المزيد من الحطب لزوم التدفئة وأحمدون جالس بالقرب من الموقد وقد لف جسده ( بملفحة) من القماش الثقيل او ( المتلوك) بالنوبية.. وعندما يشتد به البرد ينتصب واقفاً ويحيط موقد النار ( بالمتلوك ) حتى يتسرب الدفء الى كل اجزاء جسده .. ثم يتبع ذلك بكوب من الشاي الساخن يرتشفه بنهم مصحوباً بنغم وتلذذ أما خالتي فلا تتوقف حركتها النشطة حتى تهييء الامر لاحمدون الى ان يغادر الى الساقية وفي يده المنجل واكياس من تقاوي الخضار الشتوية .. وأعرف ان احمدون لن يسلك طريقه مباشرة الى الساقية ولا بد له ان يعرج الى منزل أحد اصدقائه وندمائه ليتناول قرعة واحدة من ( النبيذ ) الذي تم صناعته وتخزينه تحت الارض منذ فترة لا تقل عن ثلاثة اشهر .. والغرض منه ليس لزوم اللهو والعبث ولكن لبعث الحيوية والدفء الذي يساعد احمدون ويمده بالمزيد من القوة في فتح المجري بين النيل والساقية لينساب الماء من خلال ( الكوديك ) الى حيث ال########يس ولانجاز هذه المهمة لابد لأحمدون النزول الى الماء لازالة الحواجز الطينية وتشغيل الساقية على أن تتم كل هذه العملية قبل شروق الشمس وفي درجة حرارة اقرب الى التجمد .. ومن حكمة أهلنا وتجاربهم انهم كانوا يعرفون كيف يتم توظيف الممنوع واخراجه من دائرة شهوة المزاج الى عنصر نافع له اثر ومردود ايجابي مستصحبين الموروث النوبي ( ان النبيذ يجلب الدفء في فصل الشتاء ) .. ومع مرور الوقت يكون التعب قد سرى في جسد احمدون وبدأ يتهيأ الى إتكاءة القيلولة ويتجه الى حيث مرقده ويتمدد متوسداً يده في الفرش الذي اعده من جريد النخل داخل الحظيرة وهو يراقب بعين نصف مغمضة صغار العجول التي تلعق اوراق اللوبيا الخضراء .. ولم يقطع سكونه هذا إلا وقع خطوات الخالة آمنة وهي تحمل صرة الطعام لتضعها امامه في رقة ودلال .. ثم تبدأ في تجهيز الوجبة وهي (قراصة بالسمن) من الوجبات المحببة لاحمدون الذي انهمك يتناولها بشراهة .. ولحين فراغه من الاكل تنتقي بعض حبات التمر لزوم التحلية مع تسخين الشاي وتبادل الحديث الودي الذي يذهب عن احمدون وعثاء الارهاق والتعب ومع كل هذا الزخم العاطفي فإن الخالة آمنة لا تشاركه الطعام بل تجلس في مقابله وتستحضر كل حديث جميل يحبه احمدون حتى يفرغ م الامل ويتناول كوب الشاي ويتمدد مرة اخرى في غفوة القليولة .. وبعد ان تلقي بنظرة اطمئنان على زوجها تتجه الى حيث العجول لتنظيف المراح وتبيدل العلف وغسل مواعين شربها وتغيير الماء الاسن بآخر طازج وهكذا تكون منهمكة في عدة مهمات حتي ينهض احمدون من غفوته وقد بدا عليه من النشاط ما يكفيه لمواصلة ما تبقى من عمله .. أما الخالة آمنة فتستعد الى رحلة العودة لتكمل المهام الاخرى التي في انتظارها وهي عناء ترتيب البيت ورعاية الاطفال بعد ان جمعت بعض الحطب للتدفئة وحزمة من علف اللوبيا الخضراء لزوم ( غنماية اللبن ) .. حقاً انها مثال للزوجة المخلصة لأنها نشأت في بيئة تورث فيها كل فضائل وقيم جيلاً بعد جيل ... هيرو ... ووو ... آمنة .
| |
|
|
|
|
|
|
| |
علي عبدالوهاب عثمان
Zomrawi Alweli
عبد الحفيظ فخر الدين
جمال ود القوز
عبد الله فقير
جمال عبد الناصر محمد
nabielo
نزار عباس
عبداللطيف شريف على
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست