|
عنقاء الخوف و .. طب السوبرماركت
|
عنقاء الخوف و .. طب السوبرماركت
درسنا في الجامعه أن الامراض النفسيه نوعان : امراض عصابيه (neurosis) وامراض ذهانيه (psychosis) ، مايهمني هنا هو العصابيه ، فأحاسيس مثل الخوف والقلق هي شيء طبيعي في تكوين الإنسان ، ولكنها تصبح ذات طابع مرضي عندما تصبح اكثر مما يجب وتعطل حياتك وعملك ، وتسبب لك الاحراج والمشاكل مع الآخرين .. الخوف من الأماكن المظلمه لازمني حتى المرحله الدراسيه المتوسطه (اعتراف خطير) ، ولست أدري حتى الآن كيف تغلبت عليه بعد تلك الفتره بحمد الله ، ولكن الخوف من الكلاب لازال يلازمني (اعتراف آخر) . هناك أنواع أخرى من الخوف ظهرت بعد بداية الالتحاق بالعمل مثل الخوف من الإختصاصي او الاستشاري ( بالعربي كده ال Boss ) الذي تعمل في وحدته أو قسمه ، أو النائب ، فتخاف أن يبطش بك (طبعا إذا لم تقم بملء ملف المريض ، أو لم تسجل نتائج فحوصاته المعمليه ، أو لم تحضر للمرور المسائي ، أو جئت متأخرا للمرور الصباحي ، أو سئلت عن شيء يخص مريضاً تحت مسئوليتك ولم تعرفه ... الخ ) ، والبطش هنا أنواع على حسب الشخص ، فمنهم من يكتفي بنظرة حاده ومؤنبه لك ، ومنهم من يمطرك بأنواع الشتائم والتقريع ، ومنهم من يطردك من المرور ، والقليل منهم يمد يده بضربة أو ( بونيه ) . أحد النواب ، وكنت حينها طبيب امتياز ، حين غضب مني لاختلاف طفيف في وجهات النظر اكتفى بتهميشي أثناء المرور اليومي ، كان يكتب في الملفات بنفسه ويستفسر من المرضى مباشرة ولا يسألني ، ويكتب (الروشتات) بنفسه وذلك لعدة أيام ، عادت المياه بعدها لمجاريها (طبعا هو كان مفتكر إنو بعاقب فيني ، ماعارف إنو ده أحلى عقاب لطبيب امتياز !) . ما يدهشني هو أن بعض الزملاء لا يزيدهم العقاب الا غياً ، فأذكر كان أحدهم يوبخ تقريبا يوميا ويظل يكرر الاخطاء نفسها كل مرة ، وطبعاً بسببه نوبخ جميعاً فتود لو أن الأرض تنشق لتبتلعك في حينها . أما الخوف الذي رأيته في هذا البلد فهو أمر آخر .. الخوف هنا له بذرة تنمو في أرض خصبه ، بها كل مقومات تضخيمه وتأصيله في نفوس الذين غادروا أوطانهم وقدموا إلى هنا بحثاً عن عيشٍ كريم صعب عليهم إيجاده هناك .. الخوف هنا كائن يمشي على قدمين .. الخوف هنا كالعنقاء ، ذلك الطائر الخرافي الذي يبعث من جديد بعد موته .. تُبعث عنقاء الخوف هنا مع شروق كل شمس .. المزعج جداً في هذا الأمر هو مدى تأثيره على الاداء المهني لبعض الزملاء من الاطباء خاصة غير الناطقين بالعربيه وبعض الناطقين بها (خاصة إخواننا من دولة صديقه) ، فالخوف من الدخول في أي مشكله أو شكوى أو حتى مجرد النقاش الحاد مع المريض أو مرافقه يجعلهم يمارسون ما أطلقت عليه إسم : طب السوبرماركت ! يدخل المريض الى المستشفى لمقابلة الطبيب ، ويشكو ما به من علة ، يسمعه الطبيب ويقوم بالكشف عليه ، ثم يصف له العلاج المناسب أو يقدم له النصح المطلوب حسب حالته ، وللمريض (أو لأبويه إن كان طفلا) الحق في قبول أو رفض العلاج حسب القوانين الساريه في كل بلد على حده .. هذا هو الشيء الطبيعي عموما .. يأتي المريض هنا وهو قد حدد (مسبقاً) تشخيصه وحدد أيضاً الفحص و العلاج المناسب ، وإنما قد أتى فقط ليكتب له الطبيب الروشته (الوصفه الطبيه) ويصرفها من الصيدليه ثم يذهب في سبيله .. فهنا يمكن للمريض أن يطلب السوائل الوريديه كأنها زجاجة بيبسي ، والحقن كذلك ، ورذاذ الفنتولين Nebulized ، والتصوير بالأشعه وغيرها .. أما الحبوب والأدويه التي تؤخذ عن طريق الفم فهذه تطلب بشكل روتيني يومي وكأنها مجرد مياه معدنيه أو حلويات .. ! والويل كل الويل للطبيب (خاصة غير الناطقين بالعربيه) إن رفض ذلك أو حاول أن يناقش ، عندها ينعته بأنواع الشتائم مثل – بتصرف طبعاً وليس كما تقال - : (يلعن ابوك من وين جابوك إنت) ، (إنت دكتور إنت ! إنت دكتور بهائم) ، (إنت هنا عشان تخدمني وتسوي اللي اقوله) ، (والله إنت ماتدري شي) ... الخ ، وغير ذلك من اللهجه الحاده الآمره (للاطباء والممرضات) .. هذا غير التدخلات من بعض الإداريين وغيرهم .. أما الطامة الكبرى فهي التفرقه في التعامل بين المرضى مواطني البلد والمرضى (الأجانب) بشكل لا أخلاقي Non-ethical ، يبدو هذا جلياً في طريقة استقبال الطبيب للمريض وكيفية علاجه ، والتفاعل معه ، فإن كان من أهل البلد وجد كل العنايه (المحروسه بعنقاء الخوف) ، وإن كان غير ذلك فلا خوف هنا لأنه لن يتقدم بشكوى أو ماشابه ذلك وحتى إن مات فهو مجرد أجنبي !! (أين أنت يا أبوقراط) ! .. كان نتاج كل ذلك أن فقدت المهنه هيبتها المهنيه ، وصار الطبيب مجرد كاتب لاحول له ولا قوه ، يؤمر فيطيع ، بالله عليكم كيف تفيد الأشعه السينيه في تشخيص التهاب المعده Gastritis ؟ ، وما فائدة الاستيرويدات Dexamethazone في علاج نزلة البرد Common Cold ؟ ، وما دور مضاد التتنس في علاج لدغة العقرب ؟ ، وما فائدة مضادات التحسس Antihistamines في علاج الحمى المصحوبه (بالقشعريره) Shivering ؟ - حلوه قشعريره دي مش؟- ، هذه مجرد أمثله غيرها كثير .. يفسر هؤلاء الزملاء الأمر بأنهم لايريدون الدخول في مشاكل ، وأن عدم معرفتهم باللغة العربيه يشكل حاجزاً بينهم وبين النصح الصحيح للمريض وتوجيهه ، ويحذرونني دائماً بأنني يوما ما سأقع في مشكلة .. أما الإخوة الاطباء العرب فيفعلونها من باب التملق وإظهار الحرص للحصول على الرضا الإداري .. اختم حديثي هذا بمقولة للشيخ جمال الدين الأفغاني :
( أيها الدرويش الفاني : مم تخش ؟! .. إذهب وشأنك , لا تخف من السلطان , ولا تخش الشيطان !! . كن فيلسوفا , يرى الدنيا ألعوبه ! ولا تكن صبياً هلوعاً ؟! .. إنه سيان عندي , طال العمر أو قصر .. فإن هدفي أن أبلغ الغاية , وحينئذ أقول : فزت ورب الكعبة! ) ..
________ Posted by Hani Gowai (هاني قوي) at 11:16 PM http://hani4ever.blogspot.com/2012/01/blog-post_17.html
|
|
|
|
|
|