مئوية الحسن ود بابَكُر..الفاضل عباس محمد علي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-13-2024, 02:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2013م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-14-2013, 08:19 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10844

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مئوية الحسن ود بابَكُر..الفاضل عباس محمد علي


    مئوية الحسن ود بابَكُر
    الفاضل عباس محمد علي :

    قف دون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدةٌ وجهاد ُ

    يزيّن البيت أعلاه الشاهد المغروس بطرف ضريح المرحوم الباشمهندس حسن بابكر الحاج بمقابر الشيخ فرح ود تكتوك بضاحية سنار الشرقية، وكانت وصيته لأبنائه وهو ما زال فى شرخ الشباب أن يكتبوا هذا البيت علي قبره عندما تحلّ المنية، ولعله أراد أن يلخّص حياته وفلسفته فى جملة واحدة لمن يستفسر عن سيرته من الأجيال القادمة، كما أراد فى نفس الوقت أن يذكّرنا علي مدي الدهور بأن الحياة لا تساوي جناح بعوضة...وأن أهم قيمة فيها هي النضال...حتى تلفظ آخر أنفاسك...ولا يبقي منك إلا طيب الذكر...إن كان لك ذكري طيبة من استماتة فى سبيل الحق...فالكلمة أطول من العمر...وهي التي سيتم تعريفك من خلالها...وكل نعيم أو عَرَض غيرها لا محالة زائل.... وهكذا عاش حسن بابكر منذ ميلاده فى يناير 1913 حتى فارق الدنيا.
    وهذه الفلسفة هي التي جسّدها فى كل وجوده حسن بابكر المهندس والمثقف والسياسي الوطني الناصع السيرة والسريرة...وأحد مؤسّسي الحزب الوطني الإتحادي وعضو مجلسه الستيني... منذ أن عرفناه ونحن فى نعومة الأظافر بسنار التى قدم لها عام 1952، بعد أن ترك العمل بالسكة حديد... وعمل بشرق السودان لبضع سنين......ولقد أقام بسنار حتى وفاته عام 1976، إثر حادث هو نفسه دلالة علي شهامة الحسن وتواضعه وتواصله مع الكادحين من أبناء أهله ... فقد جاء من سنار لعزاء أحدهم بمدني فى وفاة قريب له...وهبّت عاصفة مفاجئة هوجاء اقتلعت الصيوان وتناثر حديده فوق الحاضرين...وأصاب أحد الأعمدة حسن فى رأسه...وبعد يومين توفّي بمستشفي ود مدني عن عمر لم يتجاوز الإحدى وستين سنة....بين مصدق وغير مصدق من الذين حوله.
    سكن حسن بابكر بحينا... حي تكتوك، المجاور لسوق سنار.... منذ مجيئه بأسرته: زوجه النعمة، عليها الرحمة، وأبنائه مدّ الله فى أيامهم......وسرعان ما اندمجوا في الحي وفى كل المدينة... وعاشروا الجيران كأنهم يعرفونهم منذ عشرات السنين...ولقد صادق حسن العديد من كبار وشباب أهل المدينة....وليس فقط أبناء رهطه الشايقية أو الإتحاديين...بل كان أكثر ميلاً للمثقفين اليساريين ...ولغمار الناس من عمال وفلاحين... وكان منزله موئلاً لابن دفعته بكلية الهندسة...الأستاذ محمود محمد طه...وهناك التقينا كثيراً بالأستاذ ودارت بيننا حوارات مستفيضة...فبيت حسن كان عبارة عن منتدي سنار الفكري اليومي علي طول الزمن وعبر كل أنواع الأنظمة السياسية...والحق لله كان محمود ذا حجة وبلاغة وعلم غزير...مع تواضع لا يضاهيه فيه إلا حسن بابكر...وكاد أن يستقطبنا للفكرة الجمهورية لولا قوة الفكر اليساري الذي كان سائداً...فى خضم الزخم النقابي الذى كان يسد الآفاق آنئذ. وكان حسن يعمل مقاولاً ومهندساً، وقام بتخطيط ومسح معظم مشاريع النيل الأزرق...فى الوقت الذى كان صديقه محمود يعمل فى التخطيط الطبغرافي لمشاريع النيل الأبيض.
    ولقد ترك حسن قسم الدريسة بالسكة حديد عام 1946، إثر خلاف مع أحد المدراء الإنجليز المتغطرسين، وكان قد التحق بها بمجرد تخرجه فى كلية غردون... ولقد حدثنا كثيراً عن أعظم أستاذ مر عليه بالكلية...وهو ابراهيم أحمد الذى كان رئيساً لمؤتمر الخريجين عام 1942...ذلك البروفيسور العالم المتواضع والمنضبط والسياسي الوطني والمتحضر الذى نهلوا من علمه وتأثروا بسلوكه...وحدثنا عن أبناء دفعته الأفذاذ مثل عبدالله عشرى الصديق(الذى كان العم حسن يحتفظ بكراسته الخاصة بالإنشاء)...وحدثنا عن أيامه بالسكة حديد... وكيف أنه مر علي الأرشيف التابع لمكتب المدير العام بعطبرة فى أول أيامه كنوع من التعريف بكل الأقسام...وكيف أنه قرأ خطاباً سرياً من الحاكم العام يوضح فيه سياسة الحكومة التى ترفض مد خطوط السكة حديد للجنوب (لأنها تنوي الاحتفاظ به كحديقة حيوانات بشرية على المدى المنظور)...ومنذ وقت مبكر عرفنا أن الإستعمار البريطاني لديه خطة معينة للجنوب الذى استثناه من أي تنمية إقتصادية واجتماعية، وأعده لكي ينفصل عن الشمال فى الوقت المناسب...وهو الحلم الإمبريالي الذى قامت بتحقيقه الحكومة الحالية.
    وفيما بعد 1946 استقر حسن بين كسلا والقضارف، مهندساً مدنياً من منزله، ومقاولاً أنجز العديد من المشاريع العمرانية بالشرق، مثل مدرسة كسلا الأميرية الوسطى....وكانت له علاقات واسعة وراسخة مع المثقفين ورموز المجتمع بذلك الإقليم...وحكي لنا كثيراً عن أستاذ الجيل القدال سعيد القدال التربوي والشاعر الفذ الذى خدم التعليم بشرق السودان...ومن بعد ذلك فى إمارة حضرموت منتدباً...حيث بدأ معلماً ثم أصبح مفتشاً ثم وزيراً للتربية ثم رئيساً للمجلس التنفيذي...أي رئيساً لوزراء حضرموت... حتى تقاعد فى مطلع الخمسينات وعاد للسودان.
    وفى سنار، كان حسن فى وضع إقتصادي مريح، يدخله فى زمرة البرجوازية المحلية (أي ما يسمون بالجلاّبة...سكان حي تكتوك)...باعتباره مقاول ومهندس وصاحب مزرعة على النيل قرب الخزان...وبني وسكن فى واحد من أفخم منازل المدينة منذ أول أيامه بسنار...ولكنه عاش بين الناس مثل فلاحٍ كادحٍ أغبش...يرتدي بنطالاً من الكاكي وقميصاً من الدبلان وقبعة سعف واقية من الشمس مصنوعة فى مايرنو...وفى المناسبات، تجده متمنطقاً بالزي التقليدي المرتب والعباءة الفاخرة...دون غلو أو تفاخر...وآية ذلك زواج ابنته الأولي نفيسة من القاضي حسن علوب...الذى كان مضرب الأمثال ودرساً فى البساطة والبعد عن البهرج والفشخرة والاستعراض بالثروة والزيطة والزمبريطة والرازمتاز...فلقد تم ذلك العرس بحضور جميع الأهل والجيران والمعارف..الذين تم إكرامهم وإطعامهم بأريحية فائقة...ولكن هنا توقفت المراسم...وودعنا العروسين عندما أزف وقت القطار المحلي الذى حملهما لودمدني... وعند ذاك أهدى حسن لإبنته نفيسه ثلاثة أشياء...عبارة عن رموز عميقة المعني...:أعطاها سلة مصنوعة من السعف (قفة)، وقال لها: هذه تشير لمسؤوليتك التى ستحملينها على الرأس كما تحملين هذه السلة...وأعطاها مكنسة من السعف (مقشاشة)، رمزاً للنظافة...ثم أعطاها ورقة من فئة الخمسة وعشرين قرشاً، قائلاً: "أما هذه فهي سعر التذكرة بالمحلي للعودة لنا إذا لم يطب لك المقام فى بيتك الجديد ..وتقطعت بك السبل."...وكذا الحال بالنسبة لكل بناته الأربع اللائي تزوجن بحياته زيجات سعيدة ولله الحمد...بلا ضجيج أو إزعاج للجيران أو تفاخر أو استعراض للموضات والزينة والعسجد... وسط أهل وجيران يعرف حسن أن معظمهم يكابدون العيش لسد الرمق..وقد لا يملكون قوت يوم.
    وكان حسن مع الناس فى أفراحهم وأتراحهم، بحضوره المحسوس وبمساهمته المادية والعينية، وكانت هداياه تذهب لكل معارفه بسنار وغير سنار، وكان معظم إنتاج مزرعته الصغيرة بجوار حلة الجنينة ...من الموز والمانجو وقصب السكر...يذهب لأولئك المعارف والأصدقاء. ولقد صحبته عام 1967 عندما كنت معلماً ببحري الثانوية وكان هو عضواً بالبرلمان (الجمعية التأسيسية)...صحبته من سنار للخرطوم بعد إحدي العطلات...وكان اللاندروفر محملاً بخيرات المزرعة...وغشينا عشرات البيوت بمشروع الجزيرة ...خفراء الترع وعمال الري من أبناء عمومة الحسن وزملاء عمله السابقين بمشروع الجزيرة...وكان يوزع عليهم سبائط الموز ومعها (غمتة)...مروراً بشقيقته فى الحصاحيصا التى عمّ خير الحسن معظم جيرانها...وتجد حسن صديقاً (للناس اللي تحت) وكذلك (الناس اللي فوق)...فلقد توقفنا فى تلك الرحلة بمنزل صالح محمد صالح مدير مشروع الجزيرة الذى أكرم وفادتنا...وكانت تلك أول مرة فى حياتي أرى منزلاً به حوض سباحة...كما توقفنا بمنزل أحد كبار متنفذى "التجارب - أي البحوث الزراعية" بمدني...وكان حسن يتعامل مع الكبير والصغير بنفس المستوي من الاحترام المتبادل والمودة والفكاهة والمرح والعفوية وعدم التكلف.
    وفى تلك الأيام دعاني حسن "لعشاء الثلاثاء" – بالشوكة والسكين - بدار الثقافة بالخرطوم بشارع الجامعة، وقد كان عضواً مؤسساًً بها...دعاني ذات ثلاثاء كان ضيف شرفها الصادق المهدي رئيس الوزراء...فاجتمع الرواد الذين يقارب عددهم الخمسين...فى نصف دائرة بباحة النادي...يسألون ضيف الشرف وهو يرد بلباقة ولغة سلسة...تتخللها كلمات انجليزية كفصوص ماس فى عقد من الذهب...مما أدهشني كثيراً...وأذكر أنني التقطت كلمة transcend من الصادق فى تلك القعدة...وأعجبتني انجليزيته لدرجة بعيدة...بغض النظر عن خلافى السياسي معه...وعجبت للعم حسن الذي يتبسّط معنا فى سنار كأنه واحد منا تماماً...وهو فى الحقيقة نجم المجتمع فى الخرطوم...أصدقاؤة علية القوم، مثل داود عبد اللطيف الذى عرفه منذ أن كان نائباً لمدير مديرية كسلا...ومحمد عثمان يس وأحمد خير ومحمد عمر بشير وعلي حسن عبدالله...إلخ...وكنت أجلس بجواره بملابسي المتواضعة...كإقليمي ضل طريقه بين أروقة المدينة...وكان يشجعني على الإدلاء برأيي وكأنه يلقنني درساً عملياً فى الشجاعة الأدبية ومقارعة الخطوب...وكنت أعجب لهذا الإهتمام بحتة مدرس هلفوت مؤدلج.. (وأذكر أن العم حسن كان واحداً من إثنين فقط كانت تصلني رسائلهم باستمرار وبانتظام فى ذلك العام 1966 الذى قضيته معلماً منتدباً بليبيا...وكان ينقل لى معركة حل الحزب الشيوعي وصمود جبهة الدفاع عن الديمقراطية أولاً بأول).
    ولقد كان حسن نجماً بحق وحقيق فى تلك الأيام لأنه صاحب الموقف التاريخي المعروف بالجمعية التأسيسية عام 1965 عندما وقف ضد حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه الأحد عشرة من الجمعية...وكان النائب الوحيد الذى وقف مع ذلك الفريق...عبر كل مراحل التصويت...وتحدث كثيراً داخل وخارج الجمعية رافضاً لتلك الخطوة المنافية للديمقراطية...ومشيداً بدور الحزب الشيوعي فى كافة مراحل النضال من أجل الاستقلال... وبمساهماته فى بناء وترسيخ منظمات المجتمع المدني والمؤسسات النقابية العمالية والفلاحية والنسائية والشبابية والطلابية التى ليس لها شبيه فى كل العالم، إلا فى غرب أوروبا وأمريكا....ولقد ساهم حسن بابكر فى الحملة الشعبية لمناصرة الحزب الشيوعي، وكان أحد قادتها ورموزها...مما جعله يساهم فى العديد من الندوات التى نظمت بدار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وغيرها...ويهز المنابر هزاً...ولقد قال فى إحدى تلك الندوات...إنه سيناضل من أجل الديمقراطية إلي أن يستشهد....ولا يطمع فى أن يقال عنه أكثر من كونه شهيد حرية الرأي.
    وبالطبع لم تعجب قادة الحزب الوطني الإتحادي مواقف حسن بابكر التقدمية...ولم يسمحوا له بالترشيح فى أي انتخابات بعد ذلك...ولم يؤثر فيه موقف القيادة التى كان يحذّرها بأن مشايعة الإسلام السياسي العميل للمخابرات الأمريكية ستقود لفقدان الديمقراطية برمتها ...بل لضياع الوطن نفسه...... ومضى حسن مرفوع الرأس يمارس دوره الوطني ونشاطه التنويري ومعايشته للأهل والمعارف ..وكدحه فى الأرض من أجل العيش الشريف...وكان حسن فى الواقع سليل السلف الصالح الوطني بالحركة الإتحادية...خضر حمد ومبارك زروق والمرضي وعلي عبد الرحمن والشريف حسين الهندي ومحمد جبارة العوض وصالح محمود اسماعيل ومحمد توفيق....الذين كانوا يمثلون يسار الوسط...والذين كانوا يعطون ولا يأخذون...ويضحون فى سبيل القضايا الوطنية...ويعفوّن عند المغنم...ولم يكونوا من نوع السياسيين الذين يلهثون وراء الواسطة والكمّشنات ورخص الاستيراد والتسهيلات والإعفاءات من الضرائب والجمارك كما هو الحال عند معظم أفراد النخب السياسية التى حكمت البلاد منذ الاستقلال...وأمثال حسن لم يجدوا أذناً صاغية إلى أن توفوا جميعهم قبل يومهم...وإلي أن تردّت بلادنا لما نراه اليوم....من غياب للديمقراطية..وتآكل فى أطراف الوطن... وصوملة وتشظّي لا مفر منهما طالما ظلت البلاد ترزح تحت الدكتاتورية الراهنة....وهي بالفعل تسير نحو الهاوية التى حذر منها حسن يوم وقف ضد حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان.
    وعندما كانت الظروف مواتية.. وكان معظم الوزراء والقادة من أصدقائه، مثل اللواء حسن بشير نصر وأحمد خير وعبدالحليم شنان، وحماد توفيق مدير البنك الزراعي، أيام حكومة الفريق ابراهيم عبود، ورغم رفضه للدكتاتورية العسكرية، فقد سخّر حسن تلك المعارف، ليس لمنفعة شخصية، ولكن لخدمة المنطقة بأسرها – من كريمة إلى كرمة...إذ تبنّي فكرة إنشاء جمعيات تعاونية من قري تلك المنطقة ومنحها مشاريع بمنطقة الدالي والمزموم للزراعة المطرية الآلية، مساحة الواحد منها ألف فدان، وتبرع بمسح تلك المشاريع الموعودة، بالتعاون مع الجهات الرسمية المعنية، فوق أراض تابعة للحكومة.... فمن ميزات الإنجليز القليلة أنهم جعلوا أراضى السودان جميعها ملكاً للحكومة، باستثناء الحيازات الصغيرة المتاخمة للنيل (السواقي) المتوارثة أباً عن جد والمدرجة بإدارة الأراضي والسجلات....وطاف حسن على حسابه الخاص بكل منطقة المناصير والشايقية والبديرية...إلي تخوم الدناقلة والمحس... حاثاً المزارعين على الانضواء فى الجمعيات المقترحة، وشارحاً فكرة العمل التعاوني، وضرورة تنويع مصادر الثروة.. والبحث عن بدائل من أجل التقدم الاقتصادي المستقبلي، فى ظل ضيق الأرض على أهلها بالشمالية، وفى ظل التفتّت المتنامي للرقعة الزراعية بسبب التوريث.....وشارحاً كيفية الاستفادة من التمويل الذى سيقدمه البنك الزراعي لكافة مراحل العملية الإنتاجية، من حيازة الجرار بمحراثه ذى الأربع وعشرين صاجة، حتى الزراعة ثم الكديب ثم الحصاد والترحيل وإمكانية التخزين بمستودعات البنك الزراعي...تفادياً للبيع فى الموسم الخطأ...أو البيع "تحت الحضور" للسماسرة ومصاصي الدماء (الذين ظهروا فى فترة لاحقة، خاصة فى العقدين المنصرمين... وقادوا المزارعين للإفلاس والسجون.. وقادوا الزراعة الآلية نفسها للخراب والدمار). وبالفعل قامت الجمعيات التعاونية بتلك المنطقة عام 1959 ... وجاءوا كلهم لودمدني ، وسلمهم الأميرالاي عبدالرحيم شنان وزير الحكومات المحلية وبصحبته وزير الزراعة ومدير المديرية، بحضور حسن بابكر، تلك المشاريع بمنطقة الدالي والمزموم، وأذكر منها جمعيتين من قرية أهلي البديرية الدهامشة – جمعية أبناء قنتي وجمعية الحصاية – وكل أصحاب تلك الجمعيات كانوا من الكادحين المزارعين والعمال سائقي الجرارات واللواري، من لا واسطة لهم.. ولا ظهر يحسب له حساب...أي من عامة الشعب.
    وحلّ أصحاب تلك المشاريع بسنار...ومنها توجهوا لمنطقة الدالي والمزموم...وبسرعة تأقلموا مع الظروف الجديدة عليهم تماماً...وثبتوا كالرجال الصناديد فى وجه البروق والرعود والسيول والعقارب والثعابين...وانتجوا إنتاجا خرافياً طوال السنوات الأولي...كان متوسطه سبعة جوالات ذرة للفدان... حتى بداية السبعينات...وجربوا زراعة السمسم (فى مساحة تبلغ عشرة بالمائة من المشروع) الذى وفر لهم نقداً كان بمثابة القرش الأبيض في اليوم الأسود... قبيل موسم حصاد الذرة...فلم يحتاجوا لأن يسرفوا فى الاقتراض من البنك الزراعي...وكانوا أصلاً يتعاملون مع البنوك عامة بحذر شديد..,.ولقد تبين سر ذلك الحذر عندما انهارت تلك المشاريع فى آخر الأمر وغرق أصحابها فى الديون المصرفية التى لا ترحم. وشهدت سنوات الستينات والسبعينات ثروات طائلة تناهت لقرى مركز مروى، وقامت بتلك المناطق العديد من المشاريع العمرانية كالمدارس والمساجد والأسواق والمنازل، وتطورت الزراعة نفسها بالإقليم الشمالي بإدخال أساليب الري الحديثة، أي طلمبات السحب (اللستر)، وبالتوسع فى زراعة الحمضيات كالبرتقال.
    ولا يستطيع أي إنسان أن يتحدث عن الجمعيات التعاونية التى أتت من الإقليم الشمالي وحققت كل تلك النجاحات بمنطقة الدالي والمزموم فى الستينات والسبعينات دون أن يذكر الدور المفصلي لحسن بابكر... صاحب الفكرة والمروج والمنفذ لها بمفرده تقريباً، مع الاستعانة بما لديه من صداقات هنا وهناك. ......وليس لدي مرجع وأنا فى غربة استمرت لثلاث وعشرين سنة.. سوى الذاكرة، ولو كنت فى السودان لبحثت عن واستدللت بالبيانات التى تروى هذه القصة بتفاصيلها، كأسماء الجمعيات والقرى التى جاءت منها... والدخول التى حققتها فى تلك السنوات... والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التى أحدثتها بالمنطقة....... وعموماً، لو لم يكن للحسن أي انجاز علي الصعيد السياسي والاجتماعي سوى تلك المشاريع... لكفته، ولدخل بها الجنة من أوسع أبوابها.
    وعاد حسن بابكر لسنار، مهندساً بمنزله... ومزارعاً يفلح أرضه بيديه...وناشطاً وطنياً وسط الجماهير...ومثقفاً راسخاً بين الصفوة...وصديقاً صدوقاً لأبناء البلد العاديين...ملح الأرض.
    ولقد كنت أدرّس إبنه زهير بالمرحلة الوسطى...ثم بالثانوية..وكنت معجباً به أيما إعجاب لأنه كان يصحو مع الفجر ويتوجه للمزرعة بدراجته، مسافة تبلغ أربعة كيلومترات، ويعود مصطحباً البرسيم بعربة يجرها حمار، ويقف علي بيع البرسيم، ثم يهرع للمدرسة، ولم يتأخر دقيقة واحدة فى أي يوم من الأيام، وكان من أنبغ التلاميذ الذين مروا علي فى حياتي، جامعاً الشطارة بالاجتهاد والعمل الدؤوب وانجاز الواجبات المنزلية على أفضل وجه...ولما حدثت أباه عنه قال لي إنه كان يقطع النيل من الغرب للشرق سباحة للذهاب للمدرسة..والبحر بمنطقة كريمة كان يعج بالتماسيح التى كثيراً ما رآها على مقربة منه...ولكن المولي عز وجل حرسه منها لأربع سنوات متواصلة....ولقد علم نفسه بنفسه حتى أكمل الجامعة (كلية غردون)... إذ كان يكدح فى الإجازات المدرسية ليكسب قوت يومه ومصاريف دراسته.
    وطوال إقامته بسنار، كان حسن حاضراً فى كل محفل به خير للناس، ولقد ساهم بنشاط وهمة منقطعة النظير ،مثلاً، فى إنشاء جمعية تعاونية من نوع آخر، ليست كجمعيات المشاريع الزراعية، إنما جمعية استهلاكية لذوى الدخل المحدود وربات البيوت الكادحات، وبالفعل قامت تلك الجمعية وازدهرت واستفاد روادها من ريعها، فتأصل عندهم مفهوم العمل التعاوني الجماعي، وترسخت مبادئ الوطنية الخالصة... والتفاني من أجل الآخرين، فكما يقول أهلنا: "الداب نفسه مقصّر حتى لو نجح."...والمثقف الوطني الأصيل هو من يقضى عمره فى خدمة الناس.
    وعندما توفى الحسن، وقفت سنار علي رجل واحدة، وتداعت لها شتي مناطق السودان...وكانت أيام العزاء استفتاءاً لشعبية الحسن وتواصله مع الناس...إذ جاء المواسون من كافة أرجاء البلاد..ومن جميع الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية...من القمة... ومن أسفل السلم...جاء قادة الأحزاب وكبار الساسة والمثقفون...وجاء حراس القناطر ومزارعو الشمالية والجزيرة، وأهل الدالي والمزموم...وبكاه الرجال كأنهم أطفال...وأذكر صديقي محمد عثمان كشول عليه الرحمة الذى أجهش ببكاء عميق لما قابلني..وقال لي : "الغريبة أن حسن بكاه الناس مع بعضهم البعض...رغم أن الأسرة نفسها قد لا تعرف عن هؤلاء الباكين شيئاً...فهو ملك للجميع...وأنا شخصياً مدين له كثيراً علي حرصه وإصراره علي جمعية سنار التعاونية وعلي الدور الذى لعبته... خاصة عندما تشح المواد التموينية...ولا شك إن الانقطاع لخدمة الكل فى إطار الجمعية...بتجرد ونكران ذات...درس فى الوطنية عمّقه حسن فى نفوسنا."
    رحم الله حسن بابكر الحاج، إبن الحاجة كمير، بقدرما أحب وطنه وأهله وبقدرما سعي لسعادتهم ورفاهيتهم، وبقدرما ما مـتّع أصدقاءه وجلساءه بطلاوة أنسه وبشاشة وجهه وبساطته وكرمه وتواضعه وغزير علمه... وجعل كل الخير فى ذريته الذين علمهم وأدبهم وأحسن تأديبهم، فكانوا خير خلف لخير سلف. والسلام.
                  

01-16-2013, 08:23 AM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10844

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مئوية الحسن ود بابَكُر..الفاضل عباس محمد علي (Re: Nasr)

    up
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de