طال بعدي عنكم، فزاد شوقي لكم، ولصديقي الفحل محمد عثمان.. ولأجلكم كان خلافي وتبايني مع صديق عمري.. قبلته ورفضته في آن!!.. والعجيب أن هذا التناقض زاد من حبي له!!.. هذا الحب هو الذي دفعني لأروي لكم هذه الحكاية، كما عشتها.. ولا أجد دافعاً آخر مهما كان، أكثر قوة وأثراً من الحب.. الأقدار وحدها، هي التي قادت صديقي إلى هذه النهاية البائسة الغامضة!!.. كان عاشقاً للحياة وملذاتها، الحسية منها والعقلية.. ولم يترك جانباً منها، استطاعه، إلا وطرق أبوابه باقتدار وجسارة.. حينما ساقه قدره، ليكون سياسياً، على حين غلفة، وشعر أنه وصل فيما انتهى إليه لطرق متاهية سُدّت منافذها، لم يخنع وإنما ظل يقاوم من منطلقاته الخاصة، مؤمناً أو غير مؤمن، في أن يُحدِثَ أمراً، قد يكون له نفعه وإيجابياته.. التوفيق حقيقة تقديرية من رب العباد.. ولكن على المرء أن يسعى.. وهذا ما يفعله بإخلاص.. هكذا كان يكرر هذه المقولات على مسمعي.. اسمعه، ونحن على طرفي نقيض.. كنت أرى الأمور من زاوية أخرى، غير التي يرى.. ولهذا كان جهدي منصباً على ضرورة تركه السودان نهائياً.. ولكنه آثر ان يبقى حيث هو، وليفعل به الله ما يشاء.. قال من ضمن ما قال: "أن في السودان من هم أحسن منه، وأفضل منه وأكرم.. فلماذا لا ييقى مثلهم!!.." ذلك العناد الذي لمسته منه، كان جديداً عليّ.. وما خَبِرتُه بهذه الصورة منذ أن عرفته.. الشيء الأكيد أنه يحب الدنيا، ويكره المتاعب والحياة الشاقة.. والعيش في السودان أضحى أمراً فوق طاقة البشر، لولا العناية الإلهية.. لكنه رغم ذلك ظل على حاله، بعد الهول الذي عايشه والمجهول الذي طمره!!.. عجبتُ ساعتئذٍ وسألت نفسي: "هل القوة في الصبر؟!.." وحين صالحه النظام، وسعى إليه، لم تدم الحياة الهانئة طويلاً.. شاء حظه العاثر أن يصبح جزءاً من صراع القوى، دون أن يكون لاعباً أساسياً في هذه الصراع.. صحيح، هو لا يخلو من هفوات وسقطات، لكنه في النتيجة النهائية، كان مخلصاً.. أو ربما الدنيا علمته، بأن يتعامل فيها بشيء من الأخلاق، فدخل دون إرادة منه، في دائرة البراكين الخفية، التي تضطرم تحت الأرض.. رفض نصحي بالهرب، وآثر أن يعيش فارساً في الأتَّون المشتعلة، يبحث عن زهاد الدنيا، ليستمد منهم القوة، وليقدم لهم شيئاً، يغلسه من الأدران والجذام والبثور!!.. هناك في الغرب البعيد، الذي يموت فيه البشر بلا معنى ولا سبب، يحتاج الوضع للإخلاص والفعل الإنساني الجاد، دون مَنّ أو أذى.. في تلك الأرض السمراء وبشرة أهلها الداكنة، وجد صديقي ضالته، التي أراحت ضميره.. وأخذ يسعى سعيه الذي اهتدى إليه.. تفكيري فيه لا ينقطع.. حالة خاصة، شاركتني فيها إلسا!.. جاءتني ذات يوم في غرب لندن!!.. كان حضوراً مفاجئاً دون شك.. رأيتها مطمورة بالإنزعاج والتوتر.. لا أدري أين غابت السحنة الريانة المُتقَّدة بالبهاء؟!.. أين الشفتان الشهوانيتان؟!.. بعد السلام والحديث المقتضب، الذي فرضته المفاجأة، كانت عيوننا سباقة لحديث يطول حول الفحل.. وبعد برهة من حزن دفين، ملأ ذاتاً وقيدة الجوانح، نطق لسانها: - صديقك في محنةَ!! سألت بسذاجة: - كيف عرفتِ؟! نظرت إليّ باستغراب.. أجابت: - ألا تعرف أني على اتصال دائم معه؟! قلتُ مستدركاً: - أعرف.. لكن كيف عرفت بليته؟!.. هل ذهبت إلى السودان؟! قالت: - ليس قريباً، لكني ذهبت قبل فترة.. ولمست توهان ذهنه، ومَيْلهِ للصمت دون عادته!!.. سألته مراراً، لكنه لم يفصح.. اعتبرته شيئاً عارضاً.. في اتصالاتي المتعددة معه بعد ذلك، أفصح لي بأنه يعاني متاعبَ في العمل.. شعرتُ أنه فقد حيويته ومرحه وعذوبة طلته!!.. ماذا هناك؟!.. كيف أتحدث إليها عن أشياء شائكة، ذات نكهة محلية خاصة بالسودان وطبيعته؟!.. ولِمَ لا؟!.. فهي ليست جاهلة، بل عميقة الوعي، عالية الثقافة والمعرفة.. جابت الأرض طولاً وعرضاً.. آثرتُ أن أقول حديثاً مختصراً دون إطناب: - عمل بالسياسة.. بعد مدة شعر أن أهدافه لم تتحقق!! قالت منفعلة: - السياسة عمل قذر!! أُغتيل أبي غدراً على قارعة الطريق، لأنه تعامل فيها بأخلاق الفرسان!!.. أخاف أن يكون هذا مصير صديقي العزيز، رغم أن السودان لم يعرف مثل هذه الاغتيالات، ولم تكن جزءاً من ثقافته.. عاش في ظل التسامح.. ولم يعرف أهله البغضاء في اختلاف الرأي.. و... تراجعت!!... شجبتُ هذا الإحساس!!.. داهمتني سذاجته.. كل شيء أضحى ذكرى!!.. إننا نعيش جديداً فُرض علينا!!.. إنه زمن الحق الضائع!!.. قلتُ: - صديقنا طموح!!.. أحياناً الطموح غير المُتبصّر يقود إلى التهلكة!!.. هذا الرجل النبيل الجميل، تخاف أن تمسه نائبة.. لو حدث له مكروه، لا تدري ماذا ستفعل بها الدنيا؟!.. كيف ستتحمل والحال كذلك؟!.. قالت حزينة: - ما ظننت يوماً، أن تعلقي به سيصبح إلى هذا الحد.. هذه لحظة امتحان أفاجأ بها!!.. الدنيا لا تصفو على الدوام!! صمتت قليلاً، ثم متدفقة في سؤال: - لماذا لا يأتِ إلى هنا؟! أجبتُ صادقاً: - طلبت منه مراراً، ولكنه استكبر!! علقت يائسة: - لماذا الاستكبار؟!.. وما الدافع في أمور لا تستحق؟!.. لعل هذه المسكينة لا تعرف أن دواخل الإنسان غابة دغلة مليئة بالأسرار والغرائب العجائبية المثيرة.. صديقنا المشترك ثَمَّن ذاته عالياً.. ومن خلال التعالي، نسي ذاته في الوهم الكبير!!.. الحوار بشأنه أصبح لا يجدي الآن.. قلتُ فاقداً الأمل: - ما عادت المحاولة معه مرة أخرى تجدي!!.. لقد وصل منطقة اللاعودة. نظرت إليّ إلسا بائسة، تحمل هموماً، أحسست بها جاثمة على صدرها الفتي.. وخوفي على صديقي يفوق كل الحدود!! طفحت نفسي من محاوراته المتلاحقة.. جاءني صوت خافت من الداخل: "دع الأيام تفعل ما تشاء".. لم يدم الحديث الذي تلفَّعه اليأس، طويلاً بيننا.. سافرت إلسا بعدها، وعلى سحنتها ألم وأسى.. تركتني لوحدتي وغربتي واجترار ذكرياتي!!.. النسيان نعمة من الله لبني الإنسان.. وإلا لمات هذا الإنسان حزناً لما يداهمه من مآسي وأحزان.. أخذتني الحياة في دواماتها اليومية المتراكضة..نسيت فيها الفحل ونسيت إلسا.. حتى نسيت السودان ومعاناة أهله!!.. مسؤوليات العمل تتزايد وتتراكم!!.. وذات يوم صقيعي غابت فيه شمس لندن كما هي عادتها، داهمتني أخبار تتناقل على كل الفضائيات التي اعتاد دائماً على مشاهدتها.. تذكر أن طائرة سودانية تحمل مجموعة أشخاص بعضهم مسؤولين على مستوى رفيع اختفت في سماء مدينة الفاشر!!.. أزعجني الخبر.. وجاءني إحساس بأن الفحل ضمن هذه المجموعة التي لا يُعرف مصيرها.. سارعت بالاتصال بشقيقه.. فأكد لي إحساسي.. إنه ضمن الطائرة المجهولة.. يا إلهي!! ما هذا الخبر الشؤم؟!.. جلست أنا مع الأخبار هنا وهناك.. الحزن يفترسني.. ليته طاوعني.. قلق إلسا، كان كمن هتك حُجُبَ المجهول!!.. ودعتني كأنه الوداع الأخير!!.. يا إلهي!! وحدتي جبارة قاتلة.. عادت بي الذاكرة، استرجع مع صديق عمري أياماً خلت!!.. كنت من القلة التي تعرف ماضيه منذ حداثته الباكرة، يبثها قلمي إليكم دون توقف!!.. فما عاد شيء يبقى غير الذكرى!!...
تحياتي وأسفي أن لم يسعفنا الزمان بلقياوشاء أن أرتحل.
تباريك خاصة لأستاذنا الحسن محمد سعيدوأشواقناوللكل هناك..
رجاء إيصال سلامي إليه وأشواقي ..وآمالي باللقاء.
واصل فالإمتاع في بساطةاللغة وعمقهاوفي المعاني القائمات في الأسفل والأعلى.
لك الود.
الاخ العزيز جورج تحية طيبة والله فعلا الزمن فراق وفقدناك كثير لكن الحمدالله ما زلنا في هذا الوطن الافتراضي واتمنى ان تكون مبسوط وتحمل في داخلك اليمن وسحرها الفتان واهو نحن بنحاول ندعم الابداع السوداني من اي نقطة في العالم في هذا الفضاء الحر وان شاء يبلغ سلامك للجميع وتلفوني في البروفايل وسلم على عمنا السوداني العجوز ارنست
03-02-2013, 09:28 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
داهمتني أيام المدرسة الأهلية الوسطى في عطبرة.. كنا زميلي دراسة فيها، امتدت حتى الجامعة.. تخرَّج هو في الآداب- لغة عربية وإنجليزي، ودرست أنا القانون... كان الفحل منذ صغره وصباه الباكر يعشق اللغة، ويجتهد فيها.. لهذا كان بيننا بارزاً في العربي والإنجليزي .. عند تسميع الكلمات الإنجليزية (اسبلنج)، كان فذاً قاهراً لكل الصعوبات التي كنا نعاني منها.. أعجب به الأستاذ عمر أفندي، فقربه منه وأخذ يشجعه، ويوجهه بطريقة الاطلاع والقراءة لزيادة معارفه وتوسيع أفقه.. وكذلك الحال في تسميع القرآن.. كان يجوِّد الكلم القرآني، وبصوت جميل لا يلحن مطلقاً.. أغلبنا فعلت بجسده خيزرانة الشيخ جعفر، وهي تلوح وتعوي بصوتها المدوي في الهواء، ما فعلت، لكل من أخطأ في التسميع القرآني ثلاث مرات.. هو الوحيد منا الذي لم تنله تلك الخيزرانة اللعينة..وذات الوضع في اللغة العربية: حفظ القصائد الشعرية، الإملاء، الإنشاء، النحو.. وكان مشهوراً في الجمعية الأدبية التي كانت تحت إشراف الشيخ جعفر أيضاً.. إذ كان شجاعاً جريئاً، ومتحدثاً كثير المعلومات بالنسبة لسننا في ذلك الزمن الباكر.. أما بقية المواد الدراسية فقد كان فيها عادياً، وبالذات مادة الحساب التي كان يكرهها.. شيء آخر كان يميَز الفحل عنا.. الأناقة والنظافة.. حُسن السمْت، وجمال الطلّة.. حتى في لعبة كرة القدم، كان أنيقاً وممتعاً في لعبه.. يكره الخشونة والعراك والخصام.. تقَرّب مني، ربما بحثاً عن الحماية.. فقد كنت خشناً مُعاركاً صعلوك التصرفات.. ما عرفت الخوف يوماً حتى من خيزرانة الشيخ جعفر.. كانت تلهب جسمي، فأتحملها بشجاعة صبيانية جلفة.. وذات يوم خذلتني شجاعتي، فبكيت من الألم... أرتعب الطالب الذي كان سبباً في جلدي من ردة فعلي، فترك المدرسة!!.. عملتُ على حمايته.. كنت معجباً بشجاعته الأدبية وتفوقه عنا بكثرة المعلومات وقدرته الفائقة بالحديث عن أشياء كنا لا نستوعبها.. ذات يوم دعاني لزيارته في منزله، فذهبت.. هالني أن أجد أن والده قد خصص له غرفة خاصة به.. ووقفت فاغراً فمي لنظافة الغرفة وترتيبها، والجو المعرفي الذي يسود فيها.. مجلات: المصور وروز اليوسف وصباح الخير والكواكب.. أما مجلة الصبيان السودانية، فقد وجدتها في مجلدين كبيرين في غاية الأبهة والاتساق.. كل ذلك إلى جانب قصص كامل كيلاني، وجورج زيدان، وعلي الجارم.. هذه الزيارة غيَّرت مجرى حياتي.. فتحولت من صعلوك مشاكس، إلى صبي هادئ يعشق القراءة والاطلاع.. فتعمقت صداقتي به، ونهلت من مكتبته.. ونحن في المدرسة الأهلية الوسطى، زارنا خواجة إنجليزي، قيل لنا، أنه كان مدير المديرية في الدامر أيام الإنجليز.. وقرر زيارة عمدة عطبرة، وتقديم الاعتذار إليه، وزيارة المدرسة الأهلية.. وأصل الحكاية أن العمدة كان يعمل على فتح المدارس الأهلية في المنطقة، لأن الإنجليز كانوا لا يصدقون إلا بالشح لفتح المدارس الأميرية.. فهذا العمدة ونفر من الرجال الوطنيين، قرروا فتح المدارسة الأهلية لزيادة فرص التعليم.. وعند فتح هذه المدرسة رفض ذلك الخواجة الإنجليزي فتحها، وادعى ظلماً أن عدد المدارس يكفي في المدينة وما حولها!! والمديرية لا ترغب في فتح المزيد منها، حتى وإن كانت أهلية، وبمال المواطنين!!.. تصدى له عمدة عطبرة، واحتدَّ الحوار بينهما.. غضب الإنجليزيُ، فصفع العمدةَ على خده.. فما كان من العمدة إلا أن يأخذ الخواجة المدير (صلفحانية) ويطرحه أرضاً، ويلوي يديه ويركب على ظهره، ثم يتناوله بالضرب صفعاً على قفاه.. أنقذ الناس الخواجة من العمدة وغضبه بصعوبة.. وقاده الحرس إلى نقطة البوليس، وفتح فيه الخواجة بلاغاً بالتعدي عليه.. وعندما سمعت الحكومة الإنجليزية في (تن داوننق ستريت)، أمرت الحاكم العام في الخرطوم، بنقل الخواجة مدير المديرية بالدامر إلى لندن فوراً، وأمرت الحاكم العام بالتصديق لفتح المدرسة الأهلية.. وهاهو الخواجة يعود بعد هذه السنين، وقد أصبح كهلاً، ليعتذر لأسرة العمدة الذي تُوفِيّ قبل سنوات، ويزور مدرستنا الأهلية التي كانت سبباً في نقله المهين من السودان.. كتب عمر أفندي كلمة باللغة الإنجليزية.. وكلف الفحل بقراءتها، فكان عملاقاً في نطقه بإنجليزية سليمة، الأمر الذي دفع بالخواجة الكهل، ليقوم من مكمن جلوسه، ويصافح الفحل بإعجاب وامتنان.. تأملت هذه الواقعة.. وقفت عندها طويلاً، بعد هذا الزمن من سنوات العمر.. وقتذاك، في ذلك الزمن البعيد ساعة حدوثها، كانت لا تمثل لنا شيئاً ، غير ما هو ظاهر لأعيننا، وعلى قدر استيعابنا للموقف.. خواجة (كافر)، قوست السنون ظهره، ونال النمش من وجهه، وتهدلت أطرافه، فبات شيخاً عجوزاً، يستحق الشفقة والعطف.. أكرمت إدارة المدرسة وفادته بكلمات طيبات جاءت (بلسان أمه).. وشعرنا ساعتئذِ بالزهو والعلياء لزميلنا القوي الجريء الذي أجاد الإلقاء، وجوّد العبارة، وأبدع في مخارج اللفظ.. أما الآن، فالأمر يختلف.. فأخذت أفكر.. إلى أي مدى كان الاستعمار يسوس البلاد، ويتدبّر أمورها.. كان دون شك- وهذا من دواعي سياسته التي تقف عند حدود المصلحة والجوهر- يتعامل بمصداقية، عندما يتعلق الأمر بكرامة وإنسانية مواطن!!.. وإن أردنا الإنصاف، ألا يجمل بنا التذكير بأن هذه الحكومة النصرانية الاستعمارية، قد حظرت الرِقّ، وجعلته جريمة ضمن جرائم قانون العقوبات، في الوقت الذي روَّجت له وباشرته حكومة الاستعمار التركي الإسلامية!!.. ألا يثبت هذا أن الانجليزي (الكافر) – كما كان يقول جدي رحمه الله – جاء أقرب إلى روح الإسلام وجوهره من الحاكم المسلم ؟! في الواقعة التي نحن بصددها، كان الاستعمار صارماً وحازماً، لم ينْحز ويتعاطف مع الخواجة الإنجليزي السيّد، ولم يتساهل مع الباطل!!.. والخواجة نفسه، وزيارته للسودان، إلى أي مدى، كانت تكشف لنا اعتراف هذا (النصراني) بما اجترحه من خطيئة الظلم، وسقطة سوء التصرف!!.. لم تأخذه العزة بالإثم، فجاء في سن الكهولة تلك، ليُكفّر عن ذنبه، معترفاً بجريرته.. فقدم الاعتذار عن سوء السلوك لأسرة العمدة، ولأسرة المدرسة، ولأهل السودان جميعاً.. سافرت بي الذكريات بعيداً عن ماضي التلمذة، إلى ماضي العمل.. فتذكرت ما تدافع فيضاً!!..
كنت أطالع عدداً من الملفات خاصة بسكك حديد السودان.. وجدت واقعتين: الأولى متعلقة بعامل وابورات في سنوات الأربعينات، يعمل في البواخر النيلية التي كانت بين كريمة/ دنقلا/كرمة، فأصابته شرارة بعينه من الفحم الحجري الذي كان يُستعمل كطاقة محركة لإحدى هذه البواخر.. لم يكن وقتئذٍ لدى إدارة السكة الحديد قانون بإصابة العمل.. ومع ذلك لم يقل الإنجليز لهذا العامل السوداني البسيط، بأنه بلا حق يقرره القانون، وإنما لجأوا لمفهوم (العدالة الطبيعية المطلقة)، ومنحوه تعويضاً في شكل منحة إكرامية (قراتيويتي).. وكان مبلغاً معتبراً في ذلك الزمن البعيد، عوضه بعض الشيء عن عينه التي فقدها.. فتجلت لي النظرة الإنسانية في تلك الواقعة، وجعلوه يباشر عمله بعينه الواحدة، وكان ذلك أكثر كرماً وتقديراً لحالته.. أما الواقعة الثانية، فكانت لموظف في مكاتب العموم لرئاسة السكة حديد بعطبرة..نشب عراك بين ذلك الموظف ومسؤوله الإنجليزي، وصل درجة التشابك بالأيدي... وظن الكل أن هذه هي النهاية الطبيعية لذلك الموظف.. كيف يتجرأ سوداني على إنجليزي؟! يا للهول !!... اجتمعت إدارة السكة حديد العليا، برئاسة مديرها العام الإنجليزي وضم عدداً من قيادات المصالح من الإنجليز.. وصدر القرار باسم المدير العام المستر/ جي زد نورم، إلى مجلس الحاكم العام في الخرطوم المستر/ هاو، وبحيثيات وأسباب محددة.. وانتهى القرار بفصل الخواجة الإنجليزي المتعارك مع الموظف السوداني الذي كان اسمه علي جمال طه، من خدمة حكومة السودان، ونقله فوراً إلى بريطانيا.. وجاء في الحيثيات، أن المستر/ روك رولاند- مدير إدارة المراجعة في الحسابات، - تصَّرف بسوء سلوك غير منضبط، وبرعونة صبيانية، مع مرؤوسه.. ومثله لا يصلح أن يمثل حكومة جلالة الملكة.. وتعويضاً للسيد/ علي جمال طه الموظف السوداني الذي لحقته الإهانة، تقرر ترقيته إلى درجة مدير إدارة المراجعة في الحسابات، لأنه كان ضحية عنجهية متهورة وغير مبررة من مديره الذي جعل من نفسه سيداً، الأمر الذي دفع به ليفقد الاتزان المطلوب.. وحفاظاً على إنسانية هذا الموظف المرؤوس، فإن قواعد القانون والأخلاق والانضباط، تسري على الكل تأسيساً لمبدأ العدالة المجردة.. ومن ثم لا بد من عقاب من يخل بتلك القواعد وتعويض من يقع عليه الظلم.. وبذلك أصبح ذلك الموظف أول سوداني يتولى منصباً رفيعاً، لا يناله إلا إنجليزي.. تأملت!!.. أنا لا أدافع عن الإستعمار الذي نهب ثرواتنا، ونال من هويتنا السودانية، ووحدتنا الوطنية وعمق تناقضاتنا ، لكني فقط أقارن من حيث الإدارة وإحترام إنسانية الإنسان وأسأل: أين هذا السلوك المتحضّر من حكامنا في المرحلة الوطنية، بعد أن ذهب الاستعمار الإنجليزي (البغيض)!! وضاع عنا أميَز ما تركه فينا هذا (البغيض)!!.. أين تلك الأخلاق من حكام هذا الزمان، الذين تعاون معهم صديق عمري، فكان من الهالكين؟!.. أين نحن، وقد جاءتني حكمة (الحسن البصري) تدق جوانحي ناصعة؟! فقد رأى هذا (الحكيم) بهلواناً يلعب على الحبل، فقال: هذا خير من أصحابنا، فهو يأكل الدنيا بالدنيا، وهم يأكلون الدنيا بالدين.. فتأمل !!... كما يقول الدكتور حسن أبشر الطيب !!... -----------------------
03-02-2013, 09:29 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
تزاملنا في الثانوية... وفي الجامعة افترقت كليتانا..التحق هو بالآداب وتخرَّج فيها لغة عربية وإنجليزية، والتحقت أنا بالحقوق.. طوال فترة الدراسة الجامعية كانت له جريدة حائطية أسماها (الكلمة).. إنحزتُ أنا للجبهة الديمقراطية، أما هو فكان بلا لون.. يشَرِّق ويغَرِّب كما يحلو له.. لكنه كان شديد العداوة للاتجاه الإسلامي.. تأتي جريدته الحائطية، وهو يسلق الإسلاميين بألسنة حداد.. ورغم أنه كان في صغره لا يحب الخصام، لكنه تحوَّل مذ الثانوية إلى محاورٍ شرس، لا يهاب الخصومة الفكرية.. فأصبح له اسم في الجامعة وفي الصحف والمجلات السودانية.. كان أُمةً وحده!!.. ساعده على ذلك لغته السليمة، ومُكنته الثقافية، وشجاعته الأدبية التي تربى عليها منذ المدرسة الوسطى.. سألته يوماً: - لماذا أنت لعَّان وطويل اللسان؟!! ضحك وقال: - وداعتي القديمة، وبعدي عن الملاسنة والعراك الجسدي، تحول بفحولة الكلمة ونبل المقصد إلى مارد كأنما خرج من قمقم منسٍَّ.. إنني بذلك أتجاوز ضعفي القديم.. عقّبت: - لم تكن ضعيفاً!! كنت أشجع الجميع في الحديث والنقاش في الجمعيات الأدبية، والتنافس في المعلومات بين (منازل) المدرسة! رد عليَّ ضاحكاً: - تلك نشاطات وحوارات فكرية تنظمها المدرسة وتحت سيطرتها.. وخلاف ذلك ما كنت تسمع لي حساً!!.. لأن الحوار المطلق بيننا في المدرسة الوسطى، سينتهي بالقطع إلى معركة بالأيدي.. وكنت أتجنب هذا الأسلوب الهمجي.. قلتُ: - ألا تخاف من الإسلاميين وأنت تعرف أسياخهم وعِصِيِّهم ومطاويهم؟ قهقه عالياً: - أخاف دون شك!! لكني لا أهاجمهم هم فقط، إنما أهاجمكم أنتم أهل اليسار أيضاً، وغيركم وغيركم، بما فيهم الجمهوريين!! لهذا تَخِفُّ الخطورة ويَقلُّ الخوف.. فالهجوم موزع على الجميع!! بادرته: - لكن على الإسلاميين أكثر وأقسى!! واصل ضحكه: - أنا لا أهاجمهم بالمنطق الماركسي، إنما أعارضهم بمنطق الإسلام وقوته.. لهذا ربما يتراجعون عن أذيتي!! أنا أكشف (ميكيافيّليتهم) وقناعهم التبريري بالدين!! قلتُ: - لكنك أكثر خطورةً عليهم من الشيوعيين!! قال هازئاً: - لا!!.. هناك فرق!!!.. نحن أُمةٌ تُقيمُها وتُقعدُها الكلمة.. والسحر في كلمتي التي تتخذ العقل سياجاً.. وأنا لا أشتم ولكني أحلل!!. كانت حياة الجامعة حافلة بالجدل الفكري، والحركة السياسية.. وكان المجال مفتوحاً لزعماء الأحزاب، على اختلاف مشاربها، لإقامة الليالي السياسية وإتاحة الفرص للحوارات المفتوحة.. وكانت تلك الليالي عبارة عن جامعة مفتوحة لتداول الرأي والفكر والتجربة.. فكانت رافداً تشربنا منه قضايا السودان ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... إننا إن نسينا، فلن ننسى هاتيك الليالي.. فالخلاف عند زعماء تلك المرحلة لا يفسد للود قضية.. وأذكر ذات مرة، أقيمت ندوة في جامعة القاهرة الفرع، تحدث فيها كل من عبدالخاق محجوب- سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، والرشيد الطاهر بكر، وكان وقتها قد ترك الإخوان المسلمين، ونبذ زعامتهم، وانضم إلى الاتحادي الديمقراطي، وأمسى نجماً فيه.. حضرا معاً في سيارة واحدة.. وتحدث كل منهما، وهاجم الآخر وإتجاهه السياسي بما يقتضيه الاعتدال الفكري والحجة المنطقية، مع طائفة من السخرية المحببة، والمزحة القوية الدلالات، ثم رجعا معاً في نفس السيارة، صديقين حميمين.. أين نحن اليوم من تلك الأيام؟!.. تلك الندوة، لا زالت حاضرة في ذهني، كأنها الأمس.. وقد تجلى فيها الفحل محاوراً عملاقاً للرجلين، فيما طرحاه من أفكار وآراء.. وقد أضفى حواره عمقاً وسعة للأفكار التي انداحت في أذهاننا فهماً وتأصيلاً.. وعند عودتنا معاً، سألته: - بِمَ خرجت من كل هذا الذي طُرِح؟ رد عليّ بما أفجعني، كأنما استشرف الغيب: - السودان مقبل على زمن حالك، ولن ترى الأجيال المقبلة مثل هؤلاء الرجال!! -----------------------
03-02-2013, 09:30 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
تخرَّجنا سوياً في نفس العام.. ظهر وقتئذٍ اختراع سوداني (باهر) يتجاوز كل ما ورثه السودان من علم الإدارة والمحاسبة، وقواعد الخدمة المدنية من الإنجليز.. ابتدعه وزير المالية في الديمقراطية الثانية، لحل مشكلة البطالة من خريجي الجامعة والثانوي.. وهو ابتداع شيطاني لامتصاص غضب الشباب المُتَبطِّل في ذلك الحين.. تم التوزيع عشوائياً على الوزارات والمصالح.. كان نصيب الفحل وزارة الصناعة.. لم تشغل الوظيفةُ الفحلَ عن النشاط الملحوظ في الصحف.. ارتفع صيته، وزادت سمعته، وأصبح له اسم وذكرى.. ومُنح أجراً مقابل كتابته في الصحف.. قال لي صديق يعمل في صحيفة السودان الجديد، أن توزيعها يرتفع بمقالات الفحل.. فاضحى مالياً أحسن حالاً منا.. أجَّرنا معاً منزلاً في منطقة الأملاك ببحري.. كان منزلاً متطَّرفاً لوحده، كالنبت الشيطاني بلا جيران، وأمامه فسحة كبيرة تزيد من عزلته.. الفحل هو الذي اختاره.. وتبريره لي، بأنه يجود علينا بالسرية والخصوصية.. فنحن شباب، ولنا حياتنا الخاصة، بعيداً عن فضول الجيران، وتدخلاتهم بادعاء العفة.. وكان محقاً فيما ذكر.. منزلنا الذي أطلقنا عليه اسم (البيت الأبيض)، كان مرتعاً لذوات الحجال النواضر.. والسبب يعود لشباب الفحل، وجمال هيئته، وحلو حديثه وانتشار اسمه وصورته في الصحف والمجلات السودانية.. وفوق ذلك ملاءة جيبه ونداوة يديه.. إضافة للتأمين والأمن اللذين أسبغتهما أنا على (البيت الأبيض) بصفتي رجل نيابة عامة، في مواجهة كل فضولي متطفل، فالزائرات لنا في حاجة دون شك للشعور بالأمن والأمان..
صديقي الفحل، كان فحلاً حقيقياً، اسما ومضموناً.. وكنت أَعجبُ من تلك القدرات الهائلة في القراءة والكتابة، وحضور الاجتماعات والندوات، وحبه للنساء، بتلك الطاقة التي لا تعرف الوهن.. فلا يرد من تطرق بابنا!! وعندما أتعجب منه، يقول لي مازحاً: (هنَّ نِعمٌ خُلِقنَ لنا)!!
ذات يوم جاءني في المحكمة.. أخذني تحت شجرة ظليلة، وقال لي: - هل بإمكانك أخذ أجازة؟ قلتُ: - نعم!! قال: - أُطلبها، لنذهب للقاهرة!! حاولت مُجادلته.. لأفهم على الأقل.. حسمني بعبارة قاطعة: - لا تسأل!! لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لي.. واجهني النائب العام، باعتراض شديد، مدعياً أن هناك العديد من القضايا السياسية والجنائية التي تنظر المباشرة والمتابعة والفصل.. قال لي معاتباً: - كيف تتركوني في هذه الظروف الحرجة؟! شعرت بأن (الرئيس) يمارس عليه ضغطاً مرعباً، كما هي عادته!!.. فأمن الرئيس وأمن نظامه هما ما يهمانه في المقام الأول، وبعد ذلك فليذهب ما عداهما للجحيم!!.. كنت أعلم من شخص قريب من (الرئيس)، أن الأمريكان حرصوا على تأمين حياة (الرئيس)، خاصة وأن لديهم- فيما يبدو- معلومات أكيدة، بأنه عرضة لأي انقلاب، سواءً من الداخل أو الخارج.. فالسودان عمق تأميني لمصر، خاصة بعد اتفاقية كامب ديفيد.. وقد وقف (الرئيس) ونظامه إلى جانب السادات!! بل سمعت من ذلك الشخص الموثوق به، أن لدى (الرئيس) معلومات باغتياله من متشدّد أجنبي مكلف بهذه المهمة!!.. ولهذا شنت حملة على الأجانب ما عرفها السودان من قبل.. إنه - أي الرئيس - في حالة رعب وتوتر، وحساسية مفرطة الخصومة والمعاداة تجاه كل سياسي يعارضه.. ويتدخل لإنزال أقصى العقوبات!!.. وقد لاحظت أن النائب العام يجلس عنده أكثر مما يجلس في مكتبه.. الحقيقة التي زاد فيها ضغط العمل على الوكيل.. قلتُ بهدوء: - يا مولانا، صدر قرار منكم قبل ثلاثة ايام بنقلي إلى الإدارة المدنية، ومن ثم أصبح لا علاقة لي بأمور الادعاء الجنائي أو السياسي، وإنما ذلك من اختصاص المدعي العام. نظر إليّ ملَّياً، مستغرباً من ردي عليه، وعقّب غاضباً: - هل هذا يعني عدم تكليفك بعمل أخر؟ قلتُ محاولاً امتصاص غضبه: - أبداً يا مولانا، أنت صاحب القرار.. واصل: - ولماذا (المقاوحة)؟ يبدو أنني أسأت التصرف بردي عليه.. ومثله يجد ضالته فينا لينفس عن نفسه، من معاناته مع (الرئيس).. الحكمة مطلوبة في مثل هذه المواقف.. قلتُ متراجعاً: - أسف!! من حسن حظي كان الوكيل حاضراً هذا الحوار الذي دار بيني وبين النائب العام.. تدخل بحكمته المعهودة، وهدوئه الذي يبدد أي سوء تفاهم.. قال: - لقد سبق أن كلفت عدداًَ من المستشارين لأداء المهام المطلوبة، ونحن في غير حاحة إليه.. دعه يخرج في إجازة في هذا الشهر الذي لا تكثر فيه الطلبات.. هدأ توتر النائب العام كثيراً، وظهر ذلك جلياً على قسماته التي بدا عليها الانشراح.. ليس هناك ما يزعجه ما دام سيرجع (للرئيس) بمواقف وإجراءات إيجابية.. لم يجادل بعد ذلك، وإنما وجه الوكيل باتخاذ القرار الذي يراه مناسباً.. خرجت من المكتب وأنا لا أصدق ان الأمر انتهى عند هذا الحد المريح، فأخذت نفساً عميقاً طويلاً، أعْبُر به لحظات التوتر والحماقة.. لعنتُ الفحل في سري، وكنتُ سأرتدّ متراجعاً، لولا عشقي للقاهرة.. -------------------------
03-03-2013, 10:32 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
طلبه لاقى هوىً في نفسي.. القاهرة لها طعم خاص ومذاق لا تجده في عاصمة أخرى... علمت فيما بعد، بأننا سنقابل صديق صبانا وشبابنا (معاوية) الذي التحق بالخارجية، ويعمل بسفارة السودان بالمملكة المتحدة.. جاء القاهرةَ لمهمة رسمية كُلّفَ بها.. جهز الفحل حقيبة ملأها بقطع من الصوف الإنجليزي (هلدر) وشاي، وأمواس ناسيت، فيتامينات مقوية، وأقلام تروبن وكمية كبيرة من (التسالي).. سألته: - ما هذا؟!! ضحك ساخراً: - جاهل!! كررت سؤالي بإصرار.. قال: - هذه الشنطة ستعود علينا بالمال لنصبح ملوك زماننا في القاهرة!! أيها العطبراوي الجاهل، ولو قُدّر لك أن تتاجر في هذه الأشياء بين السودان ومصر، لأصبحت من الأعيان ولامتلكت هوانم قاردن سيتي!! - ما هذه الكمية الكبيرة من (تسالي القرع)؟ - هذا هو اليقطين الذي نزل في القرآن، وله شأن عند المصريين!! عجبت!! هذا الشيطان يعرف كل شيء.. من أين له بهذه المعلومات التي يوظّفُها بهذه الكفاءة؟! من صغرنا أجده يعرف الدنيا أكثر مني!!.. قال لي نأخذ الطائرة الإثيوبية، وحينما سألته عن السبب، نظر إليَّ مستهزئاً.. وأردف: - أنت تعرف أنني أتيه هياماً في بنات المرتفعات!! هذا أولاً، أما ثانياً وهذا هو المهم، كرماء، لديهم ما يسمى (بريفلدج)، وبموجب هذا الامتياز يمنحونا (الإسكوتش) مجاناً، يا أعراب الشمالية!! كان له ما أراد.. فأنا لا حيلة لي أمام هذا الكم المعرفي الهائل من أمور العصر ودروبه.. وقد رأيت في هذه الطائرة العجب!! جمال في كل شيء، حتى في شكل (البشكير) المغموس في الماء الدافيء وعطر الياسمين الفوّاح، لأغراض الإنعاش وتهدئة الأعصاب.. بعد أن تناول كأسه الأول، وانفردت دواخله، أصبح قادراً على إزاحة الحواجز بينه وبين المضيفة الفارهة الطلعة، فأسرها بلغته الإنجليزية الساحرة.. وفي النهاية أخذ منها موعداً في القاهرة، لأنها ستجلس فيها 48 ساعة.. ومن مفاجآت القدر أن تكون إقامتها في فندق (شبرد) في القاهرة، وهو نفس الفندق الذي حجز فيه صديقنا، وسيقيم فيه، عند وصوله من لندن في نفس اليوم.. وصلنا القاهرة، واقمنا في فندق (أمبسدور) بالقرب من دار القضاء العالي.. كان علينا أن نبيع أشياءنا التي جئنا بها من الخرطوم.. الفحل كان يعرف الدروب والأماكن التي يُصرِّف فيها هذه الأشياء، في منطقة العتبة.. أخذني إلى مكان منزوٍ في شارع نجيب الريحاني.. تحدّثَ مع رجلٍ خمسيني، كان يتناجى مع (شيشته) في استرخاء وتناغم.. طلب منه الرجل أن ننتظهر في المقهى المجاور، فانتظرنا.. وبعد قليل من الوقت، جاء وسلّمَ الفحل حزمة من الجنيهات وأخذ الشنطة بما فيها.. كان مالاً كثيراً.. عجبت لهذا الجِنّي الماكر!! وبعد أن عدَّ المال، وتأكد من صحته، قال مع ابتسامة تربعت على مُحيّاه: - أفضنا إليكِ يا قاهرة المعزّ من الجنوب، كما يفيض إليكِ النيل!! فافتحي أبوابك لمن افترسه الشوق والجنون!! قلتُ: - ماذا سنفعل بهذا المبلغ الخرافي؟! كعادته عندما يكتشف سذاجتي، يجد لذة في تهزئتي: - أيها العطبراوي الإقليمي، ما عليك إلا أن تتبعني، ولا تسألني عن شيء حتى أُحدِثَ لك منه ذِكراً.. ثم انفجر ضاحكاً.. شعرت أنه سيمارس عليَّ أستاذية.. فهو إن وجد يده، يصبح جباراً في المكايدة والمكر.. لا لن أدعه يتمادى.. افتعلت حالة الغضب.. فقلتُ: - لا لن أتبعك! ولن تُجَهّلني.. أعرف ابتداءً!! واصل ضحكه وملاحته، وقال: - إذا كان العطبراوي الجلف فيك قد انفجر، فإنني اقول لك يا مولانا وكيل النيابة، القاهرة لن تغزوها إلا بالمال.. فإن جئتها غازياً، فهذا هو عتادك!!.. كنا ملوك زماننا في فترة ما!!.. وتاريخ ما!!.. حينما سطع فيه خط الاستواء املاً واعداً!! قبل ثروات "البترودولارز".. أخذت الدنيا من حولنا تتطوّر وتنمو، ونحن نتقهقر ونتراجع.. كنا عند الجارة الشقيقة، محل الحفاوة والتقدير، وبلدنا هدفاً لمن أراد الستر والتسامح الديني ونَعَم العيش الكريم، فجار الزمان علينا... وحينما هانت علينا نفوسنا وذواتنا، تلقفتنا الهوامش، وتوارت ربوعنا إلى دنياوات النسيان، وما برحت النوائب تنوشنا بسهام الفتك والزوال!!!.. الخرطوم التي جمعت العرب، ووحَّدت بينهم في اغسطس 1967!! أين هي اليوم؟! تلك الأيام، لا تزال حية في وجدان جيلنا والأجيال التي سبقته، فأضحى أهلنا من بعد ذلك في ذيل الأمم وضمن صميم قائمة الفقر والفساد وغياب حقوق الإنسان.. ولم نعد للراغبين مزاراً!!.. (فتأمل)!!.. ( ثانية ) كما يقول الدكتور حسن أبشر الطيب.. -------------------------
03-03-2013, 10:34 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
انتقلنا من (الأمبسدور) إلى شقة مفروشة في العجوزة.. فالسكن الفندقي، كان مرحلة مؤقتة حتى نجد الخصوصية في شقة مريحة.. كل ذلك تم خلال نصف يوم من وصولنا.. سألته: - لماذا السكن في العجوزة، وكان يمكن أن نسكن في القاهرة في (نص البلد)؟ قال: - الفنان فريد شوقي يسكن في العجوزة، ونحن الآن على مقربة من سكنه فقد نقابله، ونتعرَّف إليه، أو قد نقابل ممثلة، وهذا في حد ذاته انتصار، وفتح كبير في المعرفة يا جاهل!! أنا أعرف تعلقه بالأسماء الكبيرة والمشاهير.. يعرف أغلب الفنانين والكتاب والساسة في السودان.. ويجالسهم، ويكتب عنهم، وقد يهاجمهم بكل قوة وشجاعة..ولا يرسل الحديث على عواهنه، وإنما يجتهد في التسبيب والحيثيات.. له سطوة شيطانية في أن يجعل الناس تحبه.. شكله، حديثه، طرافة تعليقاته.. ومع ذلك فهو عند الخصومة لعَّان لَسِن.. تساعده مُكنتهُ اللغوية، التي يمزج فيها الفصيح بالعامي بمهارة متفردة لا يجاريه فيها أحد.. ولكنه لا يذهب وراء المنطق الساخر.. دائماً يتوسل بالعقل والموضوعية..قلتُ: - إيه يعني لما نقابل فريد شوقي (وللا) حتى هدى سلطان؟ نظر إليَّ باشمئزاز.. وبعد برهة علّق: - هذا هو الفرق بين المثقف والمتعلم الذي ما برح أمياً!! شقة العجوزة كانت شقة فاخرة، واسعة، ذات أثاث باهر.. والفحل يحب الفخامة والراحة والتفاخر.. يعشق الدنيا عشقاً خرافياً.. يفتح لها كل نوافذه.. ويعمل ما وسعت استطاعته أن يَعُبَّ من ملذاتها ومباهجها وعطائها السخي في العلوم والمعارف والثقافة.. وهي جميعها في نظره مُتَعٌ ونِعَم.. في طرفة عين تعرَّف إلى البواب، وأقام معه علاقة ودودة كأنما يعرفه قبل زمن.. والمصريون يَعجبوا في التعامل مع الغير.. لهم أسلوبهم الذي يرفع من شأنك، ويشعرك بأهميتك، حتى وإن كنت ########اً!! قلتُ: - لماذا كل هذه التصرفات مع البواب؟ قال متعمداً عدم الالتفات: - ألم أقل لك، إنك لن تستطيع معيَ صبراً!! ذهبنا لفندق (شبرد) لمقابلة صديقنا معاوية، والمضيفة الحبشية الفارهة الطلعة ، حلوة الابتسام.. وما إن دخلنا بهو الفندق بديكوره النحاسي المميَّز، حتى وقعت عين الفحل على مضيفته التي لم تخلف الميعاد.. التقت عيونهما مع الابتسامات الوضيئة.. أخذني من يدي واتجه بي نحو الفتنة الشاهقة.. بلوزة بيضاء مخططة بالأزرق التركوازي، يبرز منها صدر جبلي متحدٍ في توثُّب، وتنتهي بمهرجان عند الخصر.. وبنطال كحلي يلتصق باتساق مغناج بالجزء الأسفل من القامة الطاغية.. خَلتْ ثيابها من البهرجة والمغالاة في الاستعراض، فجمّلتها بساطة العرض لتفسح المجال للإبداع الرباني في أبهى صورة.. عندما رأتنا وقفت، لتعلن عن وجودها.. هذه الهالة السامقة التي تصافحنا بوجه شقيق البدر، الآتية من الجارة الشرقية أثيوبيا، حيث ينبع منها النيل الأزرق، ماذا تقول عنها الكلمات؟! إنها كل هذه المهرجانات التي تتدفق عطاءً يتلاقى في جميع المسارات.. حينما سلمت عليها، غاصت يدي في بحر الليونة السمراء، المرتوية بتربة الخصوبة والنماء.. أي سحر هذا الذي يأتينا من شرق حدودنا؟! قالت وهي تغرس فتنة عينيها في جوفي المتصحِّر: - اسمي إلسا.. قالتها بلكنة إنجليزية معجونة بلهجة أمهرية في غاية العذوبة والدلال.. تعارفنا بعد أن استقبلت الفحل بأحضان باذخة بالمودة والشوق.. ماذا فعل فيها هذا الساحر الماكر في الطائرة؟! كيف سباها إلى هذه الدرجة التي ذاب فيها الزمن؟! جلستُ قليلاً استمتع بحلو حديثها.. والفحل ماهر في طَرْق المواضيع وفتح مصاريعها.. في النهاية استأذنتُ، لأعلن معاوية بأننا في (اللوبي).. ذهبت إلى الاستقبال وتحدثت مع معاوية في غرفته.. أخبرته بأننا في الفندق، وفي انتظاره.. لم يغب طويلاً.. هلَّ علينا من الزاوية الجنوبية.. إنه كما هو، لم يتغير، بخلاف لحية خفيفة محلوقة بعناية.. تعانقنا باشتياق، تُعمقّهُ وتُعطّرهُ أيام التلمذة وعلاقاتها.. قدم له الفحل صديقته معرِّفاً: - إلسا.. صافحها بأدبه المعهود.. رطن معها رطانة الخواجات.. ثم قال لنا بلهجته السودانية الساخرة: - الله يرحم زقاق (الاسبتالية)!!.. (كمان) معاكم حبشية في مصر!!.. ضحكنا لخفة تعليقه.. سألته وبقايا ضحكة عالقة في حديثي: - كلمنا متى أسلمت؟!! وأشرت إلى لحيته.. زاد من قهقته وهو يجيب: - صديقتي الخواجية، هي التي شكلتني بهذا المنظر!!.. قالت إني جميل، أعجبها بهذه الهيئة!!.. وأنا (مالي)، إذا كانت هي تريدني (كده)!!.. تدخل الفحل: - يبدو أنك فسقت في لندن؟!.. استمر في ضحكته الممَّيزة.. لم يرفض الاتهام.. عقّب باقتضاب: - يعني!! ثم واصل: - إذا كان (لقيتكم) في القاهرة (ومعاكم) حبشية، معنى كده، لو (لقيتكم) في الخرطوم، سألقى (معاكم) تكرونية؟؟! كانت إلسا تتابع حوارنا السوداني رغم أنها لا تفهم منه شيئاً.. ومع ذلك رسمت على وجهها ابتسامة عذبة أضفت على فتنتها الطاغية شعاعاً يدفع بالأبصار لتديم عليها النظر.. قال الفحل متباهيا: - أتحداك!! هل رأيت جمالاً في بلاد الفرنجة مثل هذه الموناليزا الأفريقية؟! عندها تحوَّل نظرنا إليها بطريقة آلية وفجائية، تأكدت هي بأن الحديث يدور حولها، فزادت ابتسامتها إشراقاً.. غضّت طرفها استحياءً، فأبى الحياء إلا أن يكمل البهاء شموخاً.. لم يكن هناك مجال للمكابرة، فأجاب معاوية: - الحق يقال، إنها فوق التصوُّر!!!.. دائماً أنت محظوظ رغم (هيافتك)!! زاد إزعاجنا الضاحك في بهو الفندق.. وبدأت الأنظار تتجه إلينا.. لم نكترث.. فالأفارقة معروفون بأنهم أهل صخب ومرح!!.. علق الفحل موجها خطابه لمعاوية: - هذا من حقد الحاقدين!! سألته: - مهمتك طويلة إن شاء الله.. نحن في إجازة.. رد متحسراً: - أبداً والله.. كلها 72 ساعة.. ومزحومة بالعمل.. سفيرنا يتهرب رغم أن هذا العمل مسؤوليته!! انزعج الفحل لِما سمع.. كان يظن زمن المهمة أطول.. بادره: - يعني ما (حنشوفك)؟! يا زول نحن أجّرنا شقة في العجوزة.. توهمنا أن تكون في رفقتنا!! ابتسم ابتسامته الرزينة. صمت قليلاً.. حاول تقليل الصدمة علينا: - طبعاً.. كان بودي.. هذه أمنية.. أين أجدكم؟!.. لكن في جميع الأحوال سأبذل جهدي لأكون معكم.. المهم نذهب الآن لأعرف مكانكم.. في هذه الأثناء لفتت إلسا نظر الفحل.. أخبرته بأن المرأة التي تجلس في التربيزة المجاورة لنا، لم ترفع عينيها عنه مطلقاً.. انتبهنا لحديث إلسا.. نظرنا تلقائياً في اتجاه المرأة.. وجدناها فعلاً تنظر إلينا، وتُركَّز على الفحل بطريقة جرئية لا كسوف فيها.. هي سيدة أوروبية في الستين من عمرها تقريباً.. ومع ذلك متماسكة البنية.. ممتلئة في اتزان.. أنيقة المظهر.. لا تخلو من مسحة جمالية، لم تفلح السنون في قهرها.. قال معاوية هازئاً: - مقبولة!! فيها (كدَّة) باقية!!.. تطاولت ضحكاتنا وصخبنا.. فجأة رأينا تلك السيدة تتحرك نحونا.. تجمدنا!! اتجهت نحو الفحل مباشرة.. قالت بنبرة إنجليزية لا تخطئها الأذن: - سوداني؟؟! رد عليها الفحل باستغراب وتوتر: - نعم.. هل هناك خطأ؟!! خاطبته بلهجة قاطعة وبقسمات صارمة: - يا عزيزي، ستكون رئيساً للسودان!!! ولكن هذه الرئاسة ستكون نحساً عليك!!! قالت عبارتها تلك، بقسماتها الصارمة الجادة، وانصرفت خارج الفندق، ونحن نتابعها مذهولين، حتى غابت عن أبصارنا.. نظرنا إلى بعضنا في حيرة واستغراب.. وبعد أن انقشعت عنا غشاوية الذهول التي غمرتنا، انفجرنا ضاحكين في ضجيج.. شاركتنا إلسا الصخب من غرابة القول وجرأة تحديه!!.. وما كدنا نعود إلى طبيعتنا، حتى فاجأنا الفحل بما هو أغرب: - لا تستغربوا كلام الكاهنة النصرانية!!.. فما قالته يداعب طموحي.. لدي أحلام تطاول النجوم!! لي رغبة جامحة في أن أكون رئيس الجمهورية.. ولا (يكتر) على الله!! ولا يهمني النحس بعد ذلك!! فأنا والله أهل للمعالي!!.. كان جاداً في حديثه.. هل يعقل هذا هو الفحل الراجح العقل؟! هل سحرته هذه الشمطاء؟! صمتنا.. وقفنا في النقطة الفاصلة بين الجِدّ والهزل!! السودان بلد العجائب!! تحدث فيه الأشياء من غير مقدمات منطقية.. ربما تتحقق نبوءة العجمية!!.. خاطبتُه ساخراً: - أعرف فجور طموحك!! لكني ما تخيلتُه فاجراً إلى هذه الدرجة!! انفجرنا ثانيةً في قهقهة بنفس الضجيج.. بعدها أشار الفحل إلينا بأن نشرك إلسا معنا في الحديث، كي لا تشعر بالعزلة.. قال معاوية معلّقاً: - (الونسة) بالإنجليزي (مسيخة).. وجه الفحل حديثه لإلسا: - لنذهب خارج الفندق.. ما رأيك؟!.. ردت عليه إلسا بأن زميلتها خرجت قبل مدة تتسوّق.. وهي الآن على وصول.. وهي تريد أن تتعرف إليكم.. افترسني الفضول.. سألت: - ما اسمها؟! من فورها أجابت: - ألمظ.. قلتُ في غزل مكشوف: - اسم جميل.. هل هي مشرقة مثلك؟! جاءتني ضحكتها الخاطفة اللافحة كسناء الضياء: - أجمل!! انتظرنا.. وبعد هنيهة أشرقت ألمظ.. أمهرية الطلعة.. حنطية البشرة.. طويلة القامة.. ثرية التقسيم.. تأملت!! أمهريتان تتجاذبان تنافسا سابياً.. سبحانك أحسن الخالقين.. من لا يدفعه الجمال للتوحيد فقد هوى!! تعارفنا.. الابتسامات تملأ الفضاء. واجه الفحل معاوية: - ما قولك يا صديقي في مهرجان فاتنات أهل المرتفعات؟؟ هل لهن مثيل في الغرب؟! ابتسم معاوية وهو يعيش هذا المهرجان السابي.. لعله لا يريد أن يفسد تأمله بحديث جانبي!! آن وقت مغادرة الفندق.. انحشرنا جميعاً في سيارة السفارة المخصصة لمعاوية.. وجهتنا كانت العجوزة... ----------------------
03-04-2013, 09:42 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
وصلنا شقة العجوزة.. استقبلنا عم (دندراوي) البواب بكل ابتسامات الترحاب، وحديثه الذي يكاد يعانقك.. طلب منه الفحل أن يأخذ الأشياء التي جئنا بها معنا، خلال تجوالنا بعض الوقت في مناطق القاهرة ونحن في طريقنا .. حينما وصلنا الشقة، رأيت عجباً!!.. شقة في غاية النظافة والترتيب والانسجام.. الزهور المختلفة الأنواع والألوان، موضوعة بعناية في اركان الصالة والممر الذي يقود إلى غرف النوم.. عطرها يريح النفس.. لا أعرف من أين جاء عم دندراوي بتلك الزهريات التي تجّمل المنظر؟!..
شعرت بالزهو!!... فالزهو مرتع الشيطان وزاد من يقبل على الدنيا.. سألت نفسي: هل هذه فعلاًَ شقتنا التي استأجرناها، وخرجنا منها قبل بضع ساعات؟!.. تعجبت داخلي من هذا الجني الذي يدعى الفحل!!... قدراته خرافية في أن يتعرف إلى الناس بسرعة مذهلة.. يزيل الحواجز بأسلوبه الودود، الذي لا يخلو من بهلوانية!! خلالها يعرف الاسم.. وينشئ العلاقة التي يرغب فيها هو!! كيف استطاع أن يجذب إليه البواب، يعرف اسمه، ويأمنه على أشيائنا، ويترك مفتاح الشقة ينظفها، وينسقها، كأنما يعرفه سنوات؟! أين أدار الحديث معه حول كل ذلك؟! وأين كنت أنا؟! أهي لحظة استحمامي؟! كانت فترة قصيرة، لا تغطي مساحة زمنها، كل ذلك الحوار الذي يقود إلى هذا الترتيب والتغيير الذي أرى!! تذكرت ذات أسلوبه مع المضيفة إلسا في الطائرة.. أزال الحواجز وعرف الاسم وأدار الحوار وأخذ ميعاداً.. إنسان يستطيع أن يتعايش مع الكل.. جاءت إلسا طوعه.. وكذلك فعل البواب.. ترك العمارة ونزلاءها وركز على خدمتنا.. واضح أنه حريص على إرضائنا بأي شكل.. علق معاوية على جمال الشقة ورفاهيتها.. شاركته إلسا الرأي، وكذلك ألمظ.. جاءنا الإطراء الباذخ.. حياة الترف تأتي بشياطين الإنس والجن!! وشياطين الفحل تنتظرنا في شوق. قال معاوية مذهولاً: - إيه ده؟ إنتو أولاد بشوات؟! رحم الله داخليات الجامعة!! ضحكت عالياً.. قلتُ هازئاً: - هذه تجارة الفحل!! إنه يتاجر بين الخرطوم والقاهرة!! اندهش معاوية لقولي.. أخذ ينظر إلى الفحل كأنما يستنكر حديثي.. سأله: - من أين لك؟ سارعت بالكلام: - أصبح تاجر شنطة مثل جارتنا الحاجة (كتيرة) عندما تذهب كل سنة للحج!! وانفجرتُ ضاحكاً!! ضحك معاوية وهو يسأل الفحل: - إيه حكايتك؟! الفحل لا يمهه مثل كلامي ولا هجومي.. إن أراد أن يصبح بارداً، كان له ما يريد..لم أر شخصاً يسيطر على انفعالاته مثله!! وجّه حديثه لمعاوية، كأني لا أعنيه في شيء: - دعك من هذا الفاسق.. الفرق بيني وبينه أنني أُعمل عقلي، أما هو، فهذا الجزء من الجسم معطل تماماً.. كل ما هناك اشتريتُ بعض الأشياء من السودان، التي أعرف قيمتها في مصر.. وبعتها وجاءت لنا بمال وفير، وسيتمتع هذا الجاهل به.. وبدل ما يشكرني يهزئني!! قال معاوية ضاحكاً: - والله أنت من زمان عقلك أكبر من سنك.. ثم سأله: - كيف عرفت هذه الطريقة؟! لم يتردد: - لي قريب يعشق مصر.. يسافر إليها كل عام.. هو الذي اشترى لي تلك الأشياء ووضعها في شنطة، وأخبرني أين أذهب بها.. هذ كل ما في الأمر.. وأنت تعرف أنني لا أريد أن أفارق هذا الحقير، ولذلك أخذته معي، ليجعلني في النهاية مثل جارته العطبراوية الحاجة كتيرة!! قال معاوية: - أعدتم لي ذكريات الجامعة وأيام الخرطوم ولياليها الجميلة.. أين لي كل تلك البهجة؟! لكني مضطر مع الأسف لأغادر بهجتكم الليلة.. وكما أخبرتكم لدي مهام كثيرة عليّ السهر عليها لإنجازها.. لم نجادله، لأننا عرفنا أنه مزدحم بأعمال تنتظره، على أمل أن نلتقي مرة أخرى قبل أن يعود إلى المملكة المتحدة.. خطا نحو إلسا وألمظ وبلباقته المعهودة، ورقيق أدب الإنجليز الذي تشَرّبه، أطرى جمالهما، برفيع الإطراء وأعذبه، ثم قبل كلاً منهما في خدها وودعهما على أمل اللقاء.. التفت إليّ مازحاً: - أحسدكم على هذه الليلة، الله يرحم أيام (أبو صليب)!! ثم إلى الفحل، وكأنما عمره رجع به إلى أيام الثانوي، فداعبه: - سنلتقي غداً يا حجة (Too Much) وكان وداعاً ضاحكاً، عذب اللحظات.. وخرج على أمل اللقاء.. فأخذت ألمظ تتحدث عن لطفه ورقته وأدبه.. في هذه الأثناء كان عم دندراوي قد جاء بكل ما لذ وطاب من مأكل ومشرب، لإعداد (قعدة) خرطومية في قلب القاهرة.. وقام بكل طيبة نفس بإتمام الترتيبات اللازمة.. فأشعرنا بأنه من أهل الخبرة والثقة في هذا الميدان، الذي هو مقصد أغلب السياح من أمثالنا.. ما أذهلنا، هو المسجل (الميكرو) الذي جاءت به إلسا في حقيبة يدرها، ومعه أشرطة لفنانين سودانيين.. أدهشتنا حقيقة ميول هذه الحسناء الأمهرية.. وعند السؤال، قالت بأنها تعشق الغناء السوداني، وإن كانت لا تفهم من لغته شيئاً.. لكن اللحن والموسيقى تميل إليهما لدرجة العشق.. ثم تمادت في حديثها فقالت بأنها تحب السودانيين ورقتهم، وأدبهم في التعامل.. قطعاً مثل هذا القول يطربنا، فقد أصبحنا لا نملك غيره.. وأخاف أن يكون سبب محنتنا!!.. كان عم دندراوي قد جهز الصالة بضوء حالم خافت.. وبعد أن جهز كل اللوازم، ودعنا بأدبه الجمّ، وبلهجته الحلوة، ثم خاطب الفحل بصوت خافت: - يا باشا، أنا أمشي، تحت الخدمة في أي وقت.. ناديني بالجهاز.. أصبحنا الأربعة لوحدنا في هذه الشقة الباذخة في كل شيء.. ليلة لم أحلم بها في خيالي.. والفضل دون شك يرجع للفحل ورفقته الممتعة.. قالت إلسا إنها تميل لإثنين من الفنانين السودانيين: عبدالعزيز محمد داؤد وعثمان حسين.. ومن الطريف أن لديها مجموعة من أغانيهما.. قالت كناقد فني مُتبحّر: - عبدالعزيز داؤد يملك صوتاً قوياً، ومَلَكة تطريب بالتلاعب بهذا الصوت.. لا أفهم الكلمات، لكن الصوت يشجيني... أما عثمان حسين فإن موسيقاه الرائعة في حالة تنافس وتجاذب مع صوته الجميل!!.. هذه الغادة ما زالت تدهشنا بين لحظة وأخرى.. تلك الواقعة لو لم أشهدها بعيني رأسي، لكذّبت ما أسمع.. جمال وثقافة، وحديث كالشهد... جاء جهاز التسجيل بأجمل ما في أعماقه.. تُزكيه حواء الإثيوبية بفتنتها الأخاذة، وهي تنداح مساحة متوهجة مع الطرب.. لعبت (الإستلا) بواحات الخدر في النفس، فأشرقت (المرتفعات) بأحلى ما يجود به الزمان.. يا إلهي.. ما هذا الجسد الذي يكاد يتخلى عن جزئه الأعلى، من كثرة التدافع الحركي في الرقص.. يطفح الصدر كفيضان النيل المتدفق.. وهذا الكفل المتكوّر كقبة الشيخ في قريتنا، لا يملُّ التحدي من الشموخ والاعتداد.. لعله يستدعي مريديه، فيهرعوا إليه.. ومن منا لا يجنح للهرولة؟! ... إنني من المهرولين.. أين هو الصبر؟!..... يا مُغيث!! أخذتُ ألمظ جانباً، وقد ذابت فيَّ كلية.. شرعت أصابعي تجوس في ليل الشَعر الكثيف.. أصابع شقية تعرف أنها لن تضل.. تنزلق إلى العنق الأمهري الناعم، فأشعر بالذوبان يحتويني.. اختفى الحياء وترك الميدان لغيره.. أضحيتً أكثر جرأة ونهماً.. تبحث شفتاي عن شيء تعيه ولا تعيه.. مجهول لذيذ يقودني لياقوت النبع.. أصابعي اللعينة وصلت واحة الرمان.. لها ارتجافات واهتزازات، يغيب فيها ومعها الوقار.. يدي المتوسلة وصلت منطقة الرمال المتحركة.. توقفت حركتي، كأنما تسترد أنفاسها المقطوعة، وتأخذ شحنتها الدافعة.. تباطأتُ وأنا أمتص رحيق مُنايَ اللاهث، ثم يبدأ الرحيل المتمهل إلى ما هو اسفل.. واحات نديانه يكتنفها سحر غابات استوائية.. وفي لحظة غاب فيها كل شيء هطل غيث الهضبات.. وأمسى الجسدان كتلة واحدة.. وكان... وكان العناق حتى الصباح.. ما يكتمل إلا ليبدأ من جديد!! لم أنم!!.. أخذت أعيد حلمي اليقظان في اجترار متكرر.. كأنني لم أعرف النساء من قبل.. وكازينو النيل الأرزق يشهد أني لكاذب!! خرجت إلى الصالة، وحالات من الراحة والرضا تملؤني.. تركت ألمظ نائمة.. وقبل أن أغادر، وقفت لبرهة طويلة أتمعن في حقل الحنطة الذي تجولت في هضابه وسهوله.. تساءلت كمن يُكذّبُ نفسه: أَكُلُّ هذا البهاء كان تحت سطوتي؟! عجيبة أنت أيتها الأقدار!!.. تذكرت النائب العام في الخرطوم، ذلك البائس المغلوب على أمره، لوعرف بالنعمة التي أنا فيها، لحقد عليَّ وهو تحت مذلة الرئيس، ولطلب منه الإذن بمنحه صلاحياته ليفصلني إيجازياً حقداً ونقمة.. في الساعة الثانية عشرة ظهراً جاء الفحل من غرفته.. اتجه صوبي.. ابتسامة هانئة تعلو قسماته.. جلس إلى جواري على طرف الكنبة.. حالهُ يقول: أن لديه الكثير من الحديث في أعماقه، يريد أن يفرشه أمامي.. أحسست بذلك من تنهيدته الريانة.. أعرفه جيداً عندما يريد أن يثرثر، وحينما يرغب في الصمت أيضاً.. حالنا مُترع بالأحداث والتفاصيل!!.. تثاقلت!! رغم أني أكثر منه توقاً لبثّ أحداث الليل وهمساته.. لم يمهلني استمتع بتثاقلي.. علق ساخراً: - مبروك يا عريس.. بيت مال وعيال!! فتح أنبوب مُتعي المرتوية!! أصبحت كماء الخزان المفتوح!! لم أُخفِ عنه شيئاً.. نقلت ما حدث كأنما أعيشه من جديد.. لم أقرأ مجلد ألف ليلة وليلة، ولكني لا أظن أنه كان أكثر سحراً من ليلتي الفريدة.. واضح أن قولي أمتعه.. استرخى وتمدد في جلسته.. أسند ظهره إلى قائم الكنبة، بعد أن كان يجلس على طرفها متقوساً على ركبتيه.. جاء بثُّه طوفاناً: - لقد عرفت النساء في السودان شرقه وغربه، شماله وجنوبه.. وعرفتهن في القاهرة ولندن ولوساكا.. وفي الخرطوم عرفت الإغريقيات والأرمن والهنود.. ولكن يا صديقي أحلف لك صادقاً، لم أرَ مثل هذه الأمهرية التي فاقت نساء الأف ليلة وليلة التي سحرتني يوماً.. كان الليل سجالاً بيننا في سحر لا ينضب حتى خيوط الفجر الأولى.. أشعرتني أن الجنس ثقافة.. كنت أمام محاضرات، فيها شتى أنواع الفنون والإبداع.. باقات من التنوع الذي يجافي الملل.. كانت غجرية على الفطرة، ثم نمرة فتية الشبق، فدوحةً تجمعت فيها كل النساء.. إنه سيد الحديث.. طفقت أستمع إليه، وهو يضاعف شعور الرضا الذي يحتويني.. هو أكثر حصافة وبياناً مني.. إنه حكاء مبدع.. لاتمله، وبالذات في لحظات المغامرة والجنون.. تركت له الحديث.. لم أقاطعه، فقال: - أذكر، وانا طالب صغير في المدرسة الوسطى، قرأت في مجلة الكواكب، عدد قديم وممزق، من ضمن مجلات قديمة، كنت أحرص على شرائها، كلما وفرتُ خمسة قروش، شلن..كنت أشتري تلك المجلات القديمة من عم سعد اليماني، صاحب البقالة الشهيرة عند زنكي الجزارة.. في تلك المجلة، قرأت حديثاً لممثل إيطالي، ذكر فيه مقولة لرحالة عربي (أظنه ابن بطوطة، إن لم تخني الذاكرة) جاء فيها: أن النساء في نظره ثلاث: فارسية، فرعونية، حبشية.. فالفارسية شحيحة في المائدة كريمة في السرير.. والفرعونية كريمة في المائدة شحيحة في السرير.. أما الحبشية فهي كريمة الإثنين.. والآن ثبتت لي مقولة ابن بطوطة، على الأقل في الجانب المتعلق بالمرأة الحبشية.. تصور في لحظة ما، وأنا مع إلسا جاءتني تلك المقولة كالقذيفة، وهي تخرج من أعماق الذاكرة البعيدة!! وشرع هاتف في جوفي يردد: صدقت.. صدقت يا شيخ الترحال والأسفار!! قلتُ: - لكنك جربت الجزء المتعلق بالفراش، ولم تجرب بعد الجزء المتعلق بالمائدة!!.. قال مازحاً: - ذلك الجانب أعرفه جيداً.. فقد شاهدت بأم عيني حبشية في (نمرة ثلاثة) في الخرطوم تطعم صديقها الذي هو ابن خالي في فمه.. ومائدتها زاخرة بالحَمَام والبيض والشيَّة والسلَّطات، إلى جانب الفول الذي كان يصر عليه.. بل أكَّلتني أنا أيضاً إكراماً لصديقها.. ثم إن الذي عايشته بالأمس لا يصدر عن سيدة بخيلة على الإطلاق.. ضحكت من قوله.. سألته: - يا ترى أين السودانية من هذه النوعيات النسوية؟ تعالت صيحات قهقهته ومن بينها أجاب: - إنت عارف وانا عارف!! (خلينا بس)!! ألا تتذكر (الشايقية) قريبتك التي بطحت زوجها يوم الدُّخلة وركبت على ظهره حتى الصباح، لأنه أخطأ وادعى القوة ؟!
من المؤكد ضحكاتنا العالية تزعج مدينة.. أدركنا ذلك عندما خرجت إلسا من الغرفة.. وبعد قليل تبعتها ألمظ من الغرفة التي كنا نشغلها.. اعتذرنا.. علقت إلسا: - نضحك سوياً!! همس لي الفحل بالعربي: - كان المفروض أن يكون الفطور جاهزاً!! أخطأنا.. نحتاج شغالة!! قمت من مكاني بهمة وأعلنت: - سأعمل لكم بناً حبشياً!! لحقت بي ألمظ، وتعلقت بظهري وهي تضحك: - أنا سأجهز الفطور!! ذهبنا إلى المطبخ، وأنا أحملها على ظهري، نتهادى في الصالة الكبيرة إلى المطبخ الذي كان في أول الممر.. سحبتها من ظهري لتكون في مواجهتي.. احتضنتها وقبلتها.. تذكرت أن وجودهما معنا محدود.. توترت أعماقي.. سألتها بانزعاج: - متى ستغادران؟! شعرت بقلقي من لهجتي المتوترة.. واضح أن انزعاجي أسعدها.. ردت مبتسمة: - غداً مساءً.. قلتُ بالعربي دون شعور مني: - الحمدلله!! ضحكت كثيراً.. ورددت العبارة بلسانها العجمي، حيث قلبت الحاء هاءً.. ربما سمعت هذه العبارة من قبل.. فكما عرفت هي كثيرة السفر للخرطوم والقاهرة.. قلتُ فرحاً: - ستكونان معنا اليوم وطول نهار غدٍ.. لن تذهبا للفندق إلا قبل ساعة من موعد التحرك للمطار.. قالت في سخاء وكرم: - كما تريد!! اكتشفت أن الثلاجة عامرة بأشياء كثيرة.. الفحل لا ينسى شيئاً.. هذه الأمور لا تخطر لي على بال.. لكن الفحل يدير مؤسسة!! واضح أنه كلف عم دندراوي، يُعمِّر الثلاجة بهذه المواد.. أما ما جئنا به أمس فقد أتينا عليه في ليلته.. جئنا بالساندوتشات والقهوة.. رائحة البن تنعش العليل.. ظهرت علامات الارتياح على قسمات الفحل.. إنه يحب النظام، والإعداد المكتمل.. أخذت إلسا مع ألمظ في توزيع الساندوتشات والقهوة.. وبعد أن جلستا قالت لألمظ: - أخذت تلفون الشقة، وتلفون الفحل في الخرطوم.. التفتُ إلى الفحل وسألته عن الموضوع.. عرفت منه أنه اتفق مع إلسا أن تأتي مع ألمظ إلينا في الخرطوم.. وحتى هنا في القاهرة خلال إجازتنا هذه متى سمحت ظروف عملهما، مثل هذه الرحلة.. شعرت بأنها بادرة طيبة لعلاقة ستطول.. رحبت بحماس.. وهل نطول؟! بعد فترة جاء عم دندراوي.. دعاه الفحل للحضور.. طلب منه أن يبحث لنا عن شغالة، لأن فترتنا ستمتد لشهر او يزيد.. ونحتاج لمن يخدمنا.. رحب عم دندراوي، ولكنه قدم اقتراحاً أن تقوم زوجته بأعمال التنظيف والطبخ وترتيب الشقة، وهو سيقوم ببقية الأعمال الأخرى.. قَبِلَ الفحل، وبالضرورة أنا من بعده.. لقد أصبحت علاقتنا مع عم دندراوي علاقة تجاوزت حدود العمل.. أصبح صديقاً حلو الحديث والتعليق.. * * * جاء معاوية في الساعة الثالثة بعد الظهر بسيارة السفارة.. اقترح من فوره أن نذهب جميعاً لبورسعيد في رحلة قصيرة.. دعاه صديق مصري دبلوماسي في السفارة المصرية بلندن، من أهالي بورسعيد لزيارته وأهله، وقضاء بعض الوقت.. رحبنا جميعا بحماس.. وشعرت أنها فرصة لي لرؤية هذه المدينة الباسلة، التي ترتبط في ذاكرتي بالعدوان الثلاثي على مصر.. ومجد عبدالناصر حينما بدأ يسطع.. كانت رحلة في غاية الإمتاع.. دون شك، أسعدتنا جميعاً، وبالذات فتاتَيّ (المرتفعات)... من يباشر مهنتهما يعشق المدن والتجوال فيها، والرغبة في الإلمام بكل شيء: الشجر والحجر والبحر والأرض والإنسان!!.. عدنا من بورسعيد في ساعة متأخرة من الليل.. ودعنا معاوية.. داعب الفتاتين.. قدم لهما دعوته لزيارته في لندن.. قال: - السفارة السودانية بلندن في انتظاركما.. بادرت إلسا.. جاء ردها كسيول الهضبة المتدفقة: - وعد علينا.. وسترانا!!.. كانت ليلتنا الأخيرة معهما.. وكان ما كان!!.. وكان سحر تلك الليلة امتداداً لعلاقات أُخَر في منزل الأملاك ببحري.. وكان زماننا زماناً جوَّاداً كثير العطاء.. -----------------------
03-04-2013, 09:47 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
انتهى زمان وجاء زمان.. غمرتنا الحياة بمشاكلها المتعاظمة.. الأيام رتيبة مملة.. والحركة آخذة دوماً في التسلل إلى الوراء.. لا نفعل شيئاً ونجد لذة في التذمر والشكوى.. وحينما نفعل يكون الفعل مدوياً!!.. سقطت العسكرية الثانية.. جاءت نسمات الحرية.. الأمل الذي ظنناه مات، عاد ثانية ليتجدد في دواخلنا.. على المستوى الشخصي شغلنا مناصب رفيعة وبالذات الفحل.. أصبح مساعد وكيل في وزارة الصناعة.. قُطع الخيط الرفيع بين الديمقراطية والفوضى!!.. الكل يهاجم الكل!!.. صارت الصحف ساحة لصراع مُهلك!!.. تخطى السدنة عقبة تعاونهم مع الطغيان.. كان الفحل أكثر الكتاب هجوماً عليهم.. ظل يصارعهم.. ويكشف الأقنعة.. قال الخيّرون: لتستمر الديمقراطية بفوضاها، فهذه مظاهر صحة وعافية!!.. وكأنهم بقولهم هذا، يحذّرون ويُنذِرون!!.. وذات صباح لئيم الملامح (دقت المزيكة).. وبدأت دائرة الحكم الجهنمية في الدوران.. اختفى الفحل فجأة.. ابتلعه جُب مجهول!!.. فُصلتُ أنا من العمل.. وجدتُ نفسي ضمن صفوف من المطرودين.. استفحل الرعب.. تمدد الطرد والحبس والاختفاء والموت.. أصبح المجهول نازلة على أهل السودان كنازلة عاد وثمود!!.. تمطى الخوف كابوساً، اعتلى قلوب البشر!!.. العسكرية الثالثة جاءت مسربلة بالدين.. واختفى عن سماء المليون ميل مربع، اليقين والإيمان.. وجاءت الجائحات العوادي، تنال كل بيت وكل كوخ وكل عِشّة، بل الفضاء الواسع!!.. بحثت عن الفحل في كل مكان!!.. في كل ركن!!.. في كل زاوية!!.. في كل جحر ونفق!!.. تحت كل حجر ونبتة!!.. سألت من رعبي الأرض والسماء والبحر!!.. الجبال والسهول والوديان!!.. صرتُ كالتائه في صحراء المجهول!!.. يئست.. أمسى ما نطالعه ونعيشه لا يطاق.. اتسعت رغبة الهروب في دواخلي.. لكن أين المدخل والمخرج معاً؟!.. سطع (روني) في ذاكرتي كالشهاب.. صديقنا القنصل الإنجليزي.. زائنا المقيم في (البيت الأبيض) في الأملاك.. التقينا.. فاتحته بحقيقة أمري.. طلبت اللجوء السياسي، فكان كريماً.. عمل اللازم وحقق رغبتي.. وأخبرني باقتضاب أن الفحل في مكان ما!!.. مكان مجهول داخل الخرطوم.. قال لي أن معلوماتهم تؤكد بأنه وزملاءه يعانون أقسى أيام حياتهم.. ذهبت لشقيق الفحل.. أخبرته بما قاله القنصل الإنجليزي.. وأخبرته أيضاً بغايتي كلاجئ سياسي في بريطانيا.. سافرت لندن.. صرتُ ضمن سرب اللاجئين.. ومرت الأزمنة عليَّ كئيبة حزينة..الصدف وحدها هي التي تحرك مصيري!!.. خلال تأملاتي جال في خاطري مكتب (مكملان) وشركاه للمحاماة.. تعاملنا مع مكتبه يوماً في قضية تخص حكومة السودان، ممثلة في سكة حديد عطبرة مع شركة (اللوكوموتِفز) الإنجليزية وبنك ميدلاند.. كنت أباشر القضية معهم.. أخذتْ هذه القضية زمناً.. ومع الأيام نشات بيني وبين محاميي المكتب علاقة طيبة.. عرفتهم وعرفوني شخصياً.. ذهبت إليهم.. 4 شارع شاندوز بلندن.. ومن حسن حظي وجدت المستر (روس) أحد كبار الشركاء.. فقد كان أكثر من تعاملت معه مباشرة في قضية السكة الحديد.. كانت لقاءاتنا كثيرة في عطبرة والخرطوم ولندن.. ذلك إلى جانب المكاتبات العديدة في هذا الشأن.. أخبرته بحالي، وما صرتُ إليه كلاجئ سياسي.. اندهش لما يحدث عندنا!!!.. علق ببعض الكلمات المؤدبة كما هي عادة الإنجليز.. أدرك مطلبي من زيارتي وحديثي بطريقة غير مباشرة.. رحب بي كمتعاون بالمكتب.. سعدتُ كثيراً لهذا الانتساب.. حُوّلت لي ملفات متعلقة بقضايا في الكويت وأبي ظبي والقاهرة للمتابعة والمشاركة بالرأي.. يا سعدي!!.. ظلت اتصالاتي بشقيق الفحل مستمرة.. عرف الكثير عن أحوالي.. لا يزال وضع الفحل كما هو.. المجهول يسود!!.. بعد أشهر طالت، وأنا في مكتب أبي ظبي خابرت شقيق الفحل.. علمت منه أنه جاء من المجهول.. كان في مكان لا يعرفه.. لا يستطيع وصفه ولا الذهاب إليه!!.. ذكر ما ذكر من الهَوْل وأصنافه.. فرحتُ لظهوره حياً.. تحدثتُ إليه.. كان معلولاً سقيماً!!.. معنوياته في الحضيض!!.. طلبت منه أن يقابل (روني) فرفض قبل أن أكمل حديثي ودون أن يبرر!!..
حزنت عليه كثيراً.. انتهى زمن (البيت الأبيض) وبهجة أيامه.. أصبح مقيماً مع شقيقه في حي الملازمين بأم درمان.. تغيّرت الدنيا وتبدل حالها!!.. لم تعد الأشياء هي الأشياء!!.. لا أدري ماذا قرر أن يفعل؟!.. تمنيت صادقاً أن يأتي إلى لندن.. كنت مخلصاً لعلنا نعيد الذي مضى!!.. --------------------------
03-05-2013, 09:25 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
بعد فترة لم تمتد زمناً جاءني تلفون من الفحل.. عجبتُ!!.. لم يحدث قط أن (تلفن) لي.. كنت أنا الذي أحادثه، وأطيل حديثي شوقاً إليه.. علمت- ويا للعجب!!- أن نظام الخرطوم تصالح معه، بل اعتذر له عن الحبس والقهر والمعاناة والظلم الذي حاق به.. جاءه أحد قادة النظام، زيارة في بيت شقيقه بأم درمان.. وبعد حديث طويل عرض عليه التعاون مع السلطة.. سأله عن كيفية التعاون، شرحها له.. طلب منه الفحل فرصة للتفكير..واضح أن من يطلب مثل طلبه بعد العداوة والبغضاء، سيقبل في النهاية.. وقد قبل!!.. عُيّن من فوره مديراً عاماً للخطوط البحرية السودانية (سودان لاين).. وسافر بورتسودان.. وابتدع نظاماً فيها ليتَنقَّل بين بورتسودان والخرطوم.. لم أجادله طويلاً.. شعرتُ به سعيداً.. حمدتُ الله أن معنوياته التي أعرف، عادت إليه.. واسترد صحته.. لم أشأ إفساد سعادته!!.. إنه رجل يحب الحياة ويكره العنف والمتاعب.. مسكين!! كان في غفلة، فغدرت به الظروف!! لم يتوقع ما حدث له من حبس وقهر وتعذيب!!.. لو كان يعلم ذلك لآثر السلامة وابتعد عن معاداتهم!!.. ونأى بنفسه عن الشر.. من المؤكد أنه الان يحمد في أعماقه، العلي القدير، الذي أكرم الغلابة بمفاصلة صراع المصالح الكبرى والتي دوّت كانشطار جِرْم سماوي!!.. واضح من تحسن نفسياته أن ظروفه المعيشية تطورت أيضاً إلى قمم ما كان يحلم بها!! تحول من النقيض إلى النقيض.. أصبح في الفضائيات والصحف المحلية والعربية والعالمية، المدافع الأوحد عن النظام، كأنه أحد المنظّرين والقدامى المؤسسين!!.. و.. عجبتُ لك يا زمن!!.. تدافعت رسائله الإلكترونية.. يُعَرِّفني بكل صغيرة وكبيرة في حياته مع النظام.. وبفضل عقله المتّقد وقلمه السيّال ولسانه الذرب، أصبح قريباً من سلطة القرار العليا.. وتمكن في الأرض، حتى أنه أخذ يدعوني للعودة!!.. الهذا الحد تجذّرت يا (صديقي اللدود)؟!.. وفي رسالة إلكترونية عاجلة وهامة، طلب مني التواجد في لندن في تاريخ محدد.. وركز على أهمية وجودي، كي أكون معهم في اجتماع هام مع شركة إنجليزية، متخصصة في التجارة البحرية.. يريدني لأغطي لهم الجوانب القانونية.. حينما التقينا في لندن، بعد كل تلك السنوات من اختفائه المفاجئ، وغربتي في لندن، رأيت آثار النعمة طافحة عليه.. بدا لي أصغر سناً مني!!.. أضحى ذا هيبة ناطقة!!.. يا إلهي!!.. أهذا صديق عمري الفحل؟!.. كنت سعيداً به.. أما هو، فقد شعر بأنه وجد جزءه الذي كان ضائعاً!!.. ترك زملاءه في الفندق الفاخر في قلب العاصمة البريطانية ليسكن معي في شقتي المتواضعة في غرب لندن.. في الليلة الأولى حكى لي العجب!!.. قال أن الفقر الذي كان يشاهده يمشي فوق أناس نعرفهم بسيماهم ونعرف واقع أسْرَهم، تحول ذلك الفقر عليهم الان، إلى ثراء ما عرفه أهل السودان من قبل!!.. قال لي: في بادئ الأمر كان يبحث عن الأمن والأمان!!.. كل ما يطمح فيه أن يتركه النظام في حاله.. ذلك غاية الغايات.. لقد عرف أصنافاً من العذاب، ما خطرت على بال بشر!!.. وما ظنَّ يوماً أن في السودان قساوة كتلك التي طحنته، تلغي كل ذلك الإرث النبيل من الوداعة والتسامح!!.. ولكن السلطة لم تتركه.. ظلت تلاحقه، لا ترغب في سلبيته، وإنما تريده فاعلاً ومؤثراً.. وكل شيء بثمنه.. ارتبط التعاون بإغراءات لا يختلف العطاء فيها عن عطاءات البلاط الأموي!! ولك أن تقارن!!.. وشتّان بين وضعين!!.. وفي وضع التباهي، أخبرني بأنه يملك الآن أسهماً معتبرة في شركات كبرى، بعضها خارج الحدود، ومساحات شاسعة جنوب الخرطوم وعمارة في بورتسودان، أسماها عمارة (إلسا) تخليداً لذكرى مجد قديم!!.. كنت وهو يحدثني كمن في حلم!!.. وحينما سألته السؤال التقليدي، حول هذه الثروة، أجابني بألاَّ أسأله، لأنه هو نفسه لا يعرف الإجابة تحديداً!!.. هذه أرزاق تأتيه وهو جالس في مكانه.. لا يعرف حتى ميكانيكية هذا الأسلوب!!.. قلتُ: - أيعقل؟ أجابني ساخراً: - هو لا يعقل!! لكنه الواقع!! ثم زاد من سخريته: - إنهم يتوهمون أنني أقدم لهم أعمالاً كبيرة، لا تقدر بثمن!!.. والغريب أنني لا أحس بذلك!! اعترضت: - إنك تدافع عن النظام في الداخل والخارج، وفي كل وسائل الإعلام!! رغم إنهم خارج الزمن والعصر.. إنهم يريدون تعطيل حركة التاريخ!! ماذا يريدون منك أكثر من ذلك وأنت تغض الطرف عن كل تلك الحقائق؟!.. هذا ما يحتاجونه.. لا شيء يقدمونه غير الإعلام!! وكيف لا تحس؟! شيء غريب!! حاججني مكابراً: - ما أقدمه لا ابذل فيه جهداً يُذكر.. هو أمر يأتيني بالسليقة.. وعلى كل أنا لم أسع لأحد ولكنهم هم من سعى!! وفي موقعي العام أنا أخدم البلد!! قلتُ غاضباً: - أي بلد هذا؟! وأنت تحدثني عن ثروتك!! أنت جزء من الفساد! جاء تعليقه حاسماً: - مستحيل البعد عمّا تحدثني عنه!! إما أن تكون كما يجب أو تذهب إلى الجحيم!! واصلت: - هم يلوثوك!! عَقّب ولا تزال سخريته عالقة: - هذا نظام، لا بد أن يكون موقفك منه محدداً وقاطعاً.. لا يتقبل خلط الألوان.. ما فيش لون رمادي أو بين بين!! عادت بي الذكرى إلى زمن الجامعة وما بعدها.. حماس الفحل الوطني.. وكتاباته الملتهبة ومواضيعه التي كان لا يترك فيها ذرة إلا أحصاها تحليلاً وتعليقاً.. أين هو الان من ذلك الذي أعرف؟!.. هاجمته: - أنت تخون تاريخك وتخون وطنك!! ضحك متوتراً من هجومي.. باشرني بدفاعه: - خليك من حماس اليساريين الفارغ بتاعك ده! لازم نفكر بعقل!!.. قلتُ مؤنباً: - هذه قضية وطن!!.. زاد توتره.. علق غاضباً: - أين هذا الوطن؟! وأين الشعب؟! وأين أنتم عندما زجوا بي وراء الشمس؟! دفعت ثمناً من عمري في المجهول والرعب والإهانات!!.. لا زلت في هجومي عليه: - يعني إيه!! في ناس بتموت موت أحمر في سبيل الوطن.. هناك أناس أحياء وأنت تعرفهم ضحوا أكثر منك، ولا زالوا عند مواقفهم، وما طالبوا بثمن هذه التضحيات!!.. ما تقوله لا يصلح مبرراً للاستسلام.. بقي على توتره الغاضب: - شوف يا صديقي المناضل.. نحن مثقفو السودان نوعان، ما فيش نوع ثالث.. نوع مثلي انتهازي حقير، يرى مصلحته فقط.. ويذهب التاريخ والوطن إلى الجحيم!.. ونوع أخر مثلك، يهرب ويترك الجمل بما حمل، وينجو بجلده.. وهذا النوع من أمثالك، يذهب معه أيضاً التاريخ والوطن إلى الجحيم.. وكلنا في الهم أراذل المثقفين.. لا فرق بين حقير وحقير.. والنتيجة لا فرق بيننا يا صديقي.. بل ربما أنا أفضل منك، لأنني على أسوأ احتمال، أخدم البلد بعلمي وجهدي، حتى وإن لوثته بعض المطامع الشخصية.. ولا ينال من خدمتي لوطني، أنني أجد بعض المنافع!!.. قلت ، وقد تكدرت نفسي: - هذا منطق غير سليم.. بلدنا أصبح مشهوراً بقوة طرد هائلة لمثقفية ومفكريه.. صار فريد زمانه وعصره.. إذا كانت هجرتي غواية، فإن نظام الخرطوم، هو الذي دفعني لتلك الغواية لأنه حاربني في رزقي!! فبدلاً من أن تكون لي إهتمامات خارج حدود ذاتي ، أتجه بها نحو الآخرين، أجبرني قسراً ، لتكون إهتماماتي في حدود مصلحتي الشخصية، لأنني يجب أن أعيش!! فرض علىَّ غريزة البقاء وحدها وصادر مني حُلم الحياة.. نظام جعل أهل السودان يعيشوا في همومهم الذاتية، فصرفهم عن الشأن العام.. وهذه مصيبة المصائب ؟ قال مكابراً: - هذه مبالغات، تريحكم نفسياًً!! غضبت من هذا الفجور في لوي الحقائق: - أنت تسرق ضمن جيش من الفاسدين!!.. تصورت بعد هذا الاتهام الخطير أن تكون هذه أخر مرحلة لعلاقتي به.. لقد قسوت عليه كثيراً، في الوقت الذي كان فيه صادقاً معي.. لم يخفِ عني شيئاً.. عرَّى حقيقته أمامي.. لكنه بروحه المتسامحة ابتلع كل إهاناتي.. قال مغيّراً الموضوع: - سيبك من كلامك (الهايف)!! وجئني.. أين الاسكوتش؟! أنا (جيتك) ليس حباً فيك، ولكن لرغبة جامحة في هذه الصفراء التي لا تنزل الأحزان ساحتها!!.. أغثني بها!!.. رغم غضبي وانفعالي، ضحكت.. تلك من ميّزه.. واصلت في إغاظته: - أنت تعمل مع نظام إسلامي؟! قال ساخراً: - تهاجمني قبل قليل للحرام!! وحينما تمارس أنت الحرام تسعى لتحرمني منه وبلا حياء!!.. على الأقل خلينا نلتقي في منطقة وسط.. -----------------------
03-05-2013, 09:26 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
تم الاجتماع بين الوفدين البريطاني والسوداني.. وحضرت كما طلب مني الفحل.. يبدو أن الموضوع شائك.. للخواجات تحفظ غامض ولكن على استحياء!!.. من حوارهم تشتم قبول التعاون والرفض معاً!!.. الأمل يأتي ولا يأتي!! لا أدري، ربما هناك أجندة خفية!!.. كان الفحل راغباً بشدة في نجاح الاجتماع والوصول إلى حلول عملية.. والبدء في التنفيذ.. فهو غير مستعد لجولة أو جولات أُخَر.. ظهر لي أن مثل مساعيه الجادة هذه، هي التي قربته من قمة النظام.. شعرت به متحفزاً كوحش، يريد أن ينقضَّ على فريسته.. يتولى زمام الأمر.. شرع يتحدث عن (سودان لاين) بثقة اذهلتني وبلغة إنجليزية رفيعة البيان.. أخذتُ أتفرس في وجوه الوفد البريطاني.. ألتمس انعكاسات حديث هذا الساحر، على تلك السحنة البيضاء.. وجدتُ أن هذه الوجوه التي كانت صارمة أمامي، بدأت في الارتخاء والتبسّط.. انفسحت المساحة للابتسامات النديانة المليئة بالرضا والقبول.. يبدو أن تردد البريطانيين وعدم وضوحهم، فجَّر فيه مُكنات كانت خاملة، فهبت من مرقدها.. وتجلى هذا الداهية في حديثه الذي جعل من (سودان لاين) مؤسسة لا نعرفها، ولم نسمع بها.. قلتُ في نفسي هذا الجني، أيتحدث عن بواخر سودانية معروفة لنا أم يتحدث عن (تايتنك) أخرى، غير تلك التي ابتلعها الأطلسي؟!.. لكزته في رجله حتى يخفف من مبالغاته، لكنه لم يكترث.. ظل سادراً في غواية هؤلاء الخواجات.. فاجأهم باحصاءات غريبة، كنت على يقين أنه فبركها بطرقه الشيطانية.. وحينما انتهى من كلمته، كان قد سحر البريطانيين في عقولهم، وأسدل غشاوة على عيونهم.. زال التجهم، وتحول الحوار إلى حديث ودود.. وخلص الاجتماع إلى النتيجة التي يريدها!! خرج الفحل من الاجتماع سعيداً يعلوه الحبور.. وعندما التقينا مساءً في غرب لندن، كما حدث بالأمس بادرته بأسئلتي التي عجبتُ، كيف صبر عليها كل هذا الوقت: - ما هذا الذي تقول؟ من بين ابتسامته المتعالية: - مالك؟!.. هل هناك غلط؟!. تعجبتُ: - كلك غلط!!.. ابتسامته المتعالية لا زالت عالقة: - من قال لك؟!.. قلتُ بلا تردد: - أنت سحَّار.. مَجِشَن!!.. قال بعد ضحكة طويلة: - هناك مقولة بأن سحرة فرعون استجلبوا من السودان من (ناوا) قرية الشاعر الدبلوماسي الحردلو لأمه.. وأنا يشرفني أن أنتمي لهؤلاء المؤمنين الذين سجدوا لله عندما رأوا آياته من نبيه موسى عليه السلام!!.. عقبتُ منفعلاً: - ومتى تكون أنت من الساجدين؟ واصل ضحكته واستفزازه: - أحمد الله إني من الموحّدين!! استفزتني ردوده.. قلتُ حاداً: - من اين لكم بالاحصائيات التي ذكرتها؟!.. اشتدّ قهقهةً: - سرالمهنة يا صديقي!!.. - هل أنت جاد؟! - ولِمَ لا أكون؟! عجبتُ.. سألته: - تفتكر الخواجات ما عندهم معلومات حقيقية؟! زاد ضحكه قهقهة: - أتحداهم!! هذه معلومات إحصائية.. ولغة الأرقام هي المنطق!! تضايقت: - والله (إنتوا) تحيروا الجن!! ابتسم ساخراً: - شطارة!! قلتُ صادقا: - أنا يهمني السودان.. وأتمنى أن يجد المساعدات التي ترفع من شأنه من الغرب كله، وأولهم أمريكا.. وأن يكون ذلك على أساس من الصدق والشفافية.. وأنا خوفي أن الخواجات الإنجليز يكتشفوا كذبكم، وهنا المحنة!! عاد يتلاعب بي: - أنت ما دخلك؟!.. انفعلت: - دخلي السودان!! امتعض ليشعرني بأنني أرهقته: - يا صديقي كل منا يحب السودان!!.. ولكن كل واحد يحبه بطريقته!! لا زلت في انفعالي: - الإنجليز تجاوزوا، لأنهم ما تخيلوا واحد (عبْ) زيك تكون عنده لغة إنجليزية رفيعة تسحرهم!! هم يحبوا لغتهم، كما يحبوا بلدهم!! ضحك عالياً ثم مباهياً: - هذا مجدي الشخصي.. يا أخي (هويني) أين الكُميت؟! بعد أن تناول جرعته الأولى في لهفة من طال حرمانه، توَّردت دواخله.. وحين تمددت نشوته، حلق بأجنحة الراح في الفضاء العالي و قال من بين ضحكاته: - تعرف من يوم ما عمل نميري مهرجانه الزائف، وأزهق الراح من زجاجات الويسكي المعتق وصَبّها في النيل ليس صدقاً، وإنما افتراءً على الله، أضافة لقوانين سبتمبر 1983 وتبعاتها، السودان ما (ضاق) عافية بعد (كده)!! ياخي عجبني الوزير (اللي قاله) الويسكي أحب إليَّ من وزارتك.. والهداية تأتي من الله عزّ وجلّ، وليس بقرار جمهوري!! أليست هذه كلمة حق أمام سلطان جائر؟!.. كان في تلك اللحظات قد وصل قمة النشوة.. هو كالوزير الذي رفض نميري ونظامه ووزارته، هياماً في هذه الكُميت الإسكوتلندية..ومن بين الرشفات التي امتصها جوفه، وجعلته يجوب السحب فاجأني: - هل تتذكر الكاهنة النصرانية في شبرد القاهرة؟ قلتُ: - نعم.. وهل تلك واقعة تنسى؟!!.. أخبرني وقد بلغ قمة النشوة: - قبل سفري، علمت بأنني عُيّنت في منصب كبير.. مساعد رئيس الجمهورية للولايات.. ضحكتُ وأسرعتُ بالتعليق: - لا أستغرب في زمن تُخلَق فيه وظائف وهمية!!.. واليوم أنت حققت نصراً كبيراً.. ومعناه وظيفة وهمية أخرى عالية تنتظرك.. الخوف على من جاء بك!! سيندم العمر كله!!.. واصلت ضحكي.. وقلتُ: - ستصبح عمَّا قريب (هامان) العصر!!.. رغم سخريتي، اسعده تعليقي.. قال: - طبعاً!! سيكون لذلك الانتصار ثمنٌ له شأن!! فترقبني!! قلتُ: - لا شأن لي بشؤونك الوظيفية.. قال مقهقهاً: - كيف؟! وستكون النائب العام!! قلتُ مغتاظاً: (.........) !!! ----------------------
03-06-2013, 10:23 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
شغلتني أعمالي.. وانقطعت عني أخبار الفحل.. ربما هو الآخر شغلته أعماله الكثيفة في موقعه الجديد، أو مواقعه الجديدة.. بخلاف فترة اختفائه لم ننقطع عن أخبار بعضنا البعض.. توسع العمل، فتقاربت سفرياتي إلى فروع المكتب في الكويت وأبي ظبي والقاهرة.. غبت عن السودان طويلاً.. منذ أن خرجت، لم أعد إليه.. انتهزتُ فرصة مجيئي إلى القاهرة فعرَّجت على الخرطوم، في إجازة قصيرة.. لم أخبر أحداً.. جئت لأفاجئ الجميع: أهلي ومعارفي وأصدقائي وعلى رأسهم الفحل.. الكل لم يصدق أني بينهم.. من حسن حظي أنني جئت في نفس اليوم الذي جاء فيه الفحل من دارفور مع وفد أممي.. هكذا أخبرني شقيقه بعد يومين من حضوري.. قال: لو بدَّرت قليلاً في هذه الزيارة لانتهت أجازتك القصيرة قبل أن تلقاه.. هو الآن يجتمع مع الرئيس.. كان لقاؤنا مثيراً.. لم يصدّق أني في الخرطوم!! وكما هي العادة أجلس لأسمع منه.. فالجديد دائماً عنده.. أما أنا، فحياتي تسير على وتيرة واحدة.. حياة رجل كان لاجئاً، ثم تحول إلى محام مركزه الرئيسي لندن.. أما الفحل، فهو فحل في كل شيء، حتى في مصالحته مع النظام.. أخذني إلى مكتبه، في إحدى البنايات التي شُيّدت على بيوت (المقرن) القديمة.. عمارة فاخرة، ومكتب أكثر فخامة في الطابق السابع.. ترى منه (مقرن) النيلين، على مقربة منك كأنما تستطيع ملامسته بيديك!!.. قلتُ له: - ما هذا؟!.. قال مازحاً: - هذا من فضل ربي!! ضحكتُ وقلتُ: - تعلمت لغة الكيزان!! جاراني بهزله المعهود: - صديقك أصبح زيراً كبيراً!! وجدتُ فرصتي: - ما أنت زير نساء من زمان، إيه الجديد؟! انفجر ضاحكاً وقال لي محذراً: - ما تفضحنا يا فاسق!!.. نحن في حضرة السلطة العامة.. في هذه الأثناء، كان مدير مكتبه يدخل ويخرج يحمل أوراقاً.. أراقب الفحل... رغم حديثه معي، لم يتوقف عن عمله.. يقرأ ما يُعرض عليه من أوراق.. يُوقّع على بعضها، ويزيح بعضها ويضعها جانباً.. في إحدى المرات قال له مدير المكتب: بعض ولاة الولايات في الخارج في انتظار مقابلتك.. استاذنت منه لأتركه لعمله، ونلتقي فيما بعد، لكنه رفض وأصر على بقائي معه.. قال لي، الأمر لا يستحق!! دخل الولاة، وعددهم خمسة.. سلموا عليه باحترام زائد، وسلموا عليَّ بالضرورة.. ماذا هناك؟!.. ماذا يريد هؤلاء المسؤولون الكبار من الفحل؟!.. ولماذا هذا الاحترام وذاك الأدب الجمّ، من حكام الولايات أولئك؟!.. أذهلني ما أرى وما أسمع!!.. كل واحد منهم يقدم إليهم طلباً مكتوباً، لزيادة مخصصات مالية.. ويسبق هذا الطلب تزلُّف ورجاء وتودد!! ماذا أرى؟! هل حلَّ الفحل محلّ رئيس الجمهورية؟! والأغرب من ذلك حديث الفحل ورده عليهم بالرفض الصارم!!.. تأبَّى بقسوة لا رحمة فيها، ولم يعارضه او يهاجمه أحد!!.. وعند إلحاحهم قال لهم متأففاً: - سأنظر في الأمر!! خرجوا مكسوري الخاطر!!.. وعند خروجهم، دخل مدير المكتب مباشرة فأمره أن يغلق الباب، مع عدم السماح لأي شخص بالدخول.. تفرغ لي.. سألته: - ما هذا؟!.. هل فعلاً أصبحت رئيس جمهورية كما قالت الخواجية؟!.. علق ضاحكاً: - جننوني!! كل فترة والثانية عاوزين زيادة اعتماد.. زيادة اعتماد!! عقبت ساخراً: - وأنت ما دخلك؟ نظر إليَّ، وقد وجد ضالته: - كيف؟!! ألا تعلم بأن لي صلاحيات رئاسية؟! اعتلاني شيء من الفضول: - لا والله، لا علم لي، أطربني!! اعتدل في جلسته، وأزاح بعض الأوراق ثم بدأ يحدثني جاداً: - سيبك من الموضوع ده!! أنا حقيقة أصبحت قريباً جداً من الكبار الذين يحكمون البلد.. وكلفوني بملف دارفور.. وهذه ثقة يا صديقي أعتز بها.. فدارفور الآن صارت (إشو) دولي.. وعلينا أن نعالج الأمر بكل روية وحكمة.. ومُنحتُ صلاحيات واختصاصات بلا حدود!! واقع الأمر، اندهشتُ من حديثه.. شعرت أننا لا نزال في ضلالنا القديم.. أيعقل أن يُتركَ لشخص مشكلة كارثية بهذا الحجم، مهما كانت قدراته وإمكاناته؟!.. سمعنا وقرأنا في وسائل الإعلام والصحافة العالمية، أن إسرائيل خصصت جلسة خاصة لمجلس وزرائها لمناقشة أزمة دارفور.. وعند حكومتنا السنية تترك هذه المشكلة الكارثة لشخص واحد ليعالج أمرها بكل حكمة وروية!!.. من أين؟!.. قلتُ: - ألا يوجد فيكم رجل رشيد، يوجه سلطة الخرطوم بأن تشكل لجنة على الأقل من أهل التخصص في مختلف المجالات، لوضع حلول لقضية دارفور؟! قال مستدركاً: - حقيقة يوجد (تيم) يعمل معي، وتحت إشرافي.. أنا أعلم أن القضية أصبحت أكبر مني ومن معي، وأكبر من حكومة السودان.. ولكن مهما كان يجب أن نعمل ونسعى لإيجاد حلول!!.. قرارات مجلس الأمن على الرقاب.. علقت: - عندما بدأت المشكلة، ألم تكن أزمة محلية؟! كانت كذلك!! لكن الخرطوم لا تعرف غير أسلوب القمع والبطش العسكري.. حينما بدأت لم تكن حرباً أهلية، وإنما صراع قبلي بين الرعاة والمزارعين.. بين الرعاة العرب والمزارعين الأفارقة.. كان هذا يحدث في الماضي، ويحل بالأعراف والعادات القبلية.. كان الصراع يحل بالاجتماع الأهلي (الجودية).. بالمعروف والحسنى.. وتستمر الحياة.. السلطة تجاهلت كل ذلك، لأنها منذ جاءت على ظهر دبابة، لا تعرف وسيلة لحل الأزمات غير القمع.. ونَسِيت أن الحال لن يظل هو الحال!!.. والأفظع أنها حيال الأطراف عموماً، تغابت عن وعي أبناء تلك المناطق بالظلامات الاجتماعية والاقتصادية التي وقعت على أهلهم.. الظلم اللاإنساني الذي قاد إلى التهميش والنسيان، منذ الاستعمار وحتى الآن.. هذا النظام لا يعرف غير البندقية.. يُباهي بها فهي التي جاءت به.. ومنهم من يقول على رؤوس الأشهاد من أراد السلطة فلْيشحذ بندقيته!!.. لم يعترض على تعليقي.. أضاف: - أنا اتفق معك.. ولكن المؤسف أن السلطة أدركت تلك الحقيقة بعد فوات الأوان.. بعد أن تدوّلت المشكلة.. التدويل جاء نتيجة صراع خفي، وأجندة أخرى غير معلنة لحرب باردة جديدة بين الصين- التي ظهرت فجأة كقوة عالمية اقتصادية- وأمريكا التي كانت حتى وقت قريب القوة العالمية الوحيدة بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي.. التاريخ يعيد نفسه بالنسبة لأفريقيا.. القوى الكبرى تنظر لأفريقيا نفس نظرتها القديمة لها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.. وأكاد أرى (مؤتمر برلين) أخر، لاستعمار هذه القارة بأسلوب جديد.. أفريقيا، هي مصدر الثروة والطاقة البترولية الجديدة، البديلة لبترول الشرق الأوسط.. من ضمن أفريقيا السودان بالطبع، ودارفور على وجه خاص.. فهذه الدارفور، إلى جانب بترولها ومخزونها المائي الهائل، فهي من أكبر وأنقى ثلاثة حقول عالمية لليورانيوم.. وأحد أكبر أربعة حقول نحاس في العالم.. أمريكا هي التي صعدت الوضع ضدنا في مجلس الأمن، لأنها في حالة جنون نتيجة لدخول الصين في استثمارات في السودان، بالذات الاستثمارات البترولية، إضافة إلى إحلالها محل شركة شفرون الأمريكية التي اكتشفت بترول السودان.. قاطعت: - ما قولكم في حرب الإبادة وانتهاك حقوق الإنسان، وممارسات الجنجويد البشعة من قتل واغتصاب وتدمير ونهب؟! عقب بحماس: - لا تصدق ما يُقال من حرب إبادة وغيره.. لجنة الأمم المتحدة برئاسة القاضي الإيطالي، نفت وجود حرب إبادة، وإن كانت قد قالت بالأفعال التي تمس حقوق الإنسان والممارسات غير الإنسانية.. أمريكا حقيقة غير منشغلة بحرب الإبادة التي ركز عليها وزير خارجيتها الأسبق كولن باول، ولا حتى بحقوق الإنسان أو الديمقراطية.. الذي يعنيها هو بترول دارفور والثروات المعدنية الأخرى.. قلتُ: - هذا وارد.. قطعاً تحركها مصالحها قبل المواقف الأخلاقية والإنسانية، لكن نظام الخرطوم، هل تُغفل سياسته ومسؤوليته؟!.. تجاهل سؤالي ، وأستمر في طرحه، فأضاف: - أقول لك، الحرب في الجنوب مشتعلة منذ عام 1955، ولم ينته حريقها إلا ببروتوكول مشاكوس 2002، ثم اتفاق نيفاشا 2005... وخلال هذه المدة الطويلة الممتدة لنصف قرن من القتال والتدمير وانتهاك حقوق الإنسان، لم يتدخل الغرب، ولا أمريكا، في الوقت الذي أقامت فيها الدنيا ولم تقعدها، بجبروتها الإعلامي الطاغي وهيمنتها على مجلس الأمن ضد السودان في أزمة دارفور في أقل من سنتين!!.. إذا كان الأمر متعلقاً بالفظاعة اللاإنسانية، فتلك حدثت في الحرب الأهلية في الجنوب، بطريقة تتضاءل أمامها أزمة دارفور!!.. وأمريكا.... تدخلت مقاطعاً: - أمريكا لا تريد إسقاط هذا النظام، رغم العداوة الظاهرة!! هذا النظام حقق غايتها وغاية اللوبي الصهيوني وإسرائيل، بانفصال الجنوب.. ومع ذلك تريد من هذا النظام المزيد.. قبل أن تسطو الحركة الإسلامية على السلطة في عام 1989، كان النظام الديمقراطي على وشك توقيع اتفاقية سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، دون تقرير مصير ودون وانفصال.. وعندما استلم الإسلاميون السلطة قالوا من ضمن ما قالوا في بيانات الإنقلاب الأولى: تحقيق وحدة السودان!! وما حدث الآن هو العكس تماماً.. انفصل الجنوب، واشتعلت الحروب في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.. وعندما أصرت الدول الأوروبية على المحكمة الجنائية الدولية في أزمة دارفور، اعترضت أمريكا لأن هذا الوضع قد يطال بعض جنودها في العراق وأفغانستان وجوانتانامو.. كانت صارمة وقاطعة عند طرح المحكمة الجنائية ولكنها تراخت في موقفها عند محكمة العدل الدولية.. ووقفت من هذه المحكمة موقفاً سلبياً، فامتنعت عن التصويت، وكان بإمكانها استعمال الفيتو لكنها لم تفعل، لتكون ممسكة بالعصا والجزرة كما يقال أمام حكام السودان.. ويظل السيف مسلطاً على رقابهم.. فهي لا تزال تريد المزيد منهم.. قاطعني: - قوى الضغط الصهيوني واللوبي الزنجي، إضافة إلى ملوك وأباطرة البترول في أمريكا، يريدون تفتيت السودان والاستيلاء على بترول دارفور وتشاد، والسيطرة على منطقة البحيرات، خاصة بعد انفصال الجنوب، لخنق السودان ومصر عن طريق تشكيل تجمع إقليمي يضم بروندي ورواندا ويوغندة وكينيا وإثيوبيا وإرتريا إلى جانب جنوب السودان.. وبذلك تتم السيطرة على منابع النيل.. قلتُ غاضباً: - كل الذي نعيشه الآن من محن ومصائب في الحاضر والمستقبل، سببه هذا النظام الذي تعمل معه!! بادر مدافعاً: - ما يعانيه السودان الان، سببه تراكمات من زمن الاستعمار.. وعندما جاءت الحكومات الوطنية بعده، لم تلتفت إلى تلك المشاكل وهي قنابل موقوتة.. أول انفجار لها جاء في عام 1955.. وكان مروعاً، ولكن لم تتم المعالجة.. نحن بلد كبير وعظيم وغني بموارده وأراضيه وإنسانه المتعدد الثقافات والإثنيات والأعراق والديانات.. غير أن إهمال الحكومات الوطنية للتنمية والخدمات، وعدم معالجة الاتجاهات العنصرية البغيضة القائمة على سيادة وتعالي ثقافة معينة، وعِرق بذاته، خلفت سلوكيات اجتماعية أضرت بمقومات الوحدة الوطنية.. وهذا قاد بالضرورة إلى ما يُعرف الآن بالتهميش والإهمال والعزل.. وانفجرت الاحتقانات في شكل حروب وفتن، و... لم أتركه يواصل: - (شوف) إنسان السودان المتعدد الثقافات وغيره، هاجر إلى الخارج، بحثاً عن الأمن والأمان.. والنظام الذي تنضم وتعمل فيه وتدافع عنه، هو الذي أشعل حرائق تلك السلبيات، التي تقولها، نتيجة لسياسة القوة والتمكين والجهاد، ليجعل من أهل السودان كلهم مسلمين وعرباً.. ووسيلته هي الحروب الجهادية والقهر والعنف والتعذيب والبطش والقتل.. فجاء بعنصرية تفوق عنصرية جنوب أفريقيا وأمريكا.. والغريب في ذلك، أنه مارس هذه العنصرية داخل تنظيمه الإسلامي.. فأهل دارفور المسلمين الذين ينتمون للتنظيم، لم يجدوا في التنظيم عدالة ومساواة.. كل صقور الثروة والسلطة من أهل الوسط والشمال العربي.. لا يوجد صقر دارفوري واحد!!.. انفصل الجنوب.. الرئيس السوداني مطلوب دولياً.. السودان هو البلد الوحيد في العالم، الذي لا يستطيع رئيسه حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. في حين أن رئيس إيران يحضر هذا الاجتماع الدوري السنوي، ويلعن فيه أمريكا والغرب!!.. البلد الذي يلعن أمريكا والغرب يحضر اجتماعات الجمعية العامة والسودان الذي يتزلف لأمريكا والغرب، محروم (يا عيني) من الحضور!!... كل ذلك سببه نظامك الذي تدافع عنه.. قال ممتعضاً: - طيب ما هو الحل في نظرك؟! أجبت صادقاً ومخلصاً: - نعتذر نحن أهل الشمال العربي المسلم لكل أهل السودان الأفريقاني بما في ذلك الجنوب الذي انفصل.. ويعتذر هذا النظام لكل أهل السودان عربهم وزنوجهم.. وللأمة الإسلامية قاطبة في كل ركن في العالم.. ويترك السلطة .. ويعيد الأموال التي نُهبت.. وتشكل حكومية قومية مؤقتة.. ويدخل أهل السودان في حوار وطني جاد من خلال مؤتمر وطني شامل، يصلون من خلاله إلى وضع عقد اجتماعي يمثل الدستور الذي يقبل به الشعب في استفتاء عام.. وينشئون بموجبه نظاماً ديمقراطياً، يقوم على الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والمواطنة وحرية الدين والعقيدة، وحكم فيدرالي يمنح أقاليم السودان سلطة حكم حقيقية.. وتحديد منهج عملي توزع فيه الثروة والسلطة. يبدو أنه ملَّني، للدرجة التي شعرتُ معها، كأنما ندم على لقائي ومقابلتي، وفتْح حوارٍ معي أحرجه.. وكره أنه ناقش معي أزمة دارفور، التي قادت إلى كل هذا الهجوم.. قال في بؤس: - هذه طوباوية تعيش في رومانسية الفروسية الوهمية التي لا علاقة لها بواقع الإنسان، ولا مجال لها في هذا الزمن الذي نيعشه!!.. - صمت قليلاً ، ثم أضاف: - مونتسكيو حكيم فرنسا العظيم قال: لا توجد ديمقراطيه سواء الآن أو في الماضي أو في المستقبل!! أشاح بوجهه عني.. وأخذ يتشاغل بأوراق مبعثرة كانت أمامه، مما أشعرني، كأن المقابلة انتهت.. صمتُّ أنا بدوري، ولم أعقب عليه.. لكني شعرتُ أن المسافة بيني وبينه أخذت تبتعد في كل دقيقة تمر.. نظرتُ إليه، فإذا بي أراه في غبش.. ضاعت فيه عني ملامحه.. ورغم حبي له، لا أدري في تلك اللحظات من الحوار، أين ذهبت كل تلك المودة؟!.. هل أصبح صدري ضيقاً؟! أم أن لعنة النظام أصابت حتى أخلص الأصدقاء، وفرَّقت بينهم؟!.. ما عهدته كذلك، كما أشعر به اللحظة!!.. كان صبوراً، منفتحاً، متسامحاً، مرحاً!!.. اين ضاع كل ذلك الجمال النفسي؟! أتفتيت النفوس أصبح جزءاً من تفتيت السودان؟!.. أسئلة كثيرة جعلتني أتيه في غياهب بعيدة، ضاعت فيها نفسي عني!!.. وفي متاهتي تلك سافرت في دنياوات غريبة غامضة دون وداع!!.. ---------------------
03-06-2013, 10:26 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
طال بنا الزمن منذ ذلك اللقاء في الخرطوم!! انقطعت الأخبار.. لا أدري، ماذا أسمي ما حدث؟! أرهقني التفكير والتحليل.. غابت عني النتائج.. غير ان الوطن أصبح هو الحاجز بيني وبينه.. لمست قيماً ومفاهيم جعلتني لا أتجاوز أو بالأحرى لا أنسى.. ربما هذا هو ما هداني إليه عقلي.. صديقي فقد القدرة على التمييز بين الأشياء.. لعله أصبح بوقاً ذا مصالح!!.. بعدت الشقة.. مع الوقت خفتْ وطأة الذكرى، واجتراراتها الحامضة.. سارت بي الأيام في دوامات الحياة المتقلبة.. طالت غربتي وطال غيابي.. وغطش النسيان ما تبقى في النفس من مرارات شخصية.. ولكن السودان كيف أنساه وهو ذاتي، هو وجودي الذي تؤكده سحنتي ولساني وتصرفاتي وتاريخي وانتمائي؟!.. إنه كرامتي التي تعلي قدري وشأني.. وكان يوم............!! بعد هذه المدة التي طالت، فاجأني الفحل بحضوره إلى شقتي في غرب لندن.. كانت واقعة مذهلة.. ما تصورتها، لأنني اعتقدت أنه مسح تاريخ علاقاتي وقفل تلك الصفحة إلى الأبد.. وعندما رأيته، وقفت للحظات متجمداً في مكاني، لا أصدق!!.. أهو الفحل، أم خُيّل لي؟!.. أما هو، فلم يدع لذهولي فرصة إشباع وامتلاء.. أخذني بحضنه القديم الودود، وبإحساسه الصادق الذي أعرف.. تكسرت في داخلي كل قلاع الجفاء والصدّ.. شعرت بضآلة نفسي..احتقرت حماقتي وتكبري.. مرّ بي شريط سريع لعلاقتنا.. ظل دوماً، يتجاوز هفواتي وسقطاتي.. فلماذا لا أتجاوز وأصبح مثله؟!.. لكن خلافي معه، وغضبي منه كانا مسألة وطن!!.. وطن؟! عجبي!!.. ماذا فعلت أنت للوطن؟!.. تركته ونجوتَ بجلدك!!.. حتى وأنت في مأمن من سطوة النظام، في بلد الحريات والديمقراطية الراسخة، كالمملكة المتحدة، لم تفعل له شيئاً تكشف فيه انتهاكات حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني!!.. كنت وما زلت، في وضع تستطيع أن تعمل فيه الكثير، من مداخل ثقافتك القانونية، ومكتب المحاماة الرفيع الذي تنتمي إليه.. أصبحت الدنيا قرية صغيرة.. وكان ولا يزال بإمكانك تجميع قانونيي السودان في بلاد المهجر، لفضح ما يجري في السودان من ممارسات غير قانونية.. حتى أحكام القضاء في السودان، يمكن دراستها وتحليلها وإبراز عوراتها وعوارها.. هو يستطيع أن يجادل الآن، بأنه يوظّف علمه وخبراته وجهده لحل مشكلة عاصفة كمشكلة دارفور.. ومن خلال مواقفه في السلطة، قد يبذل الكثير للتقليل من غلواء النظام وانحرافاته. وهذه محمدة، وليست مسبة.. عند التحليل الموضوعي، لن تصمد حجتك طويلاً!!.. لا!!!.. هذا تحليل انهزامي يدعو للخنوع.. هو لوّثه النظام.. أصبح جزءاً من قادته.. وعبقرية الشعب السوداني ستأتي بثورة نوعية مختلفة عن نتائج ثورات الربيع العربي.. ذلك شيء.. والشيء الآخر، إنه صديق عمرك.. ولم يعرف أهل السودان الخصومات الفاجرة!!.. علّمنا السلف هذه الوسطية الرفيعة.. السيد عبدالرحمن المهدي، أكرمَ وفد الشيوعيين السوفييت، الذي زار السودان، خوفاً من أنَّ شيوعيي السودان قد لا يقومون بواجب الضيافة، والندَّى السوداني.. غار على سمعة السودان وأهله، رغم بعد المشرقين بينه وبين من استضاف.. تجاوز خلفيته وإرثه الديني وخلافه السياسي لأنه يعلم أن هذه هي أخلاق الإسلام الحقة.. أعان بني وطنه لأنه يعلم تواضع حالهم المالي.. الأيام تعيد زمنها الجميل.. تجاوزنا ما حدث في الخرطوم في أخر لقاء لنا.. جاءني في إجازة ليقضي معي وقتاً طيباً، من عناء العمل ومشاقه.. قال لي صادقاً: صرتُ جزءاً من النظام.. لا فكاك لي منه.. أخلاقياً أصبحت لا أستطيع.. إقبلني على علاتي!!.. ولن أكون بخلاف ما صرت عليه!! لم أتركه.. قلتُ: - حينما يستنفدوا أغراضهم منك، ستُلفظ!! ربما هو يدرك هذه الحقيقة.. عقب: - ليس الآن على الأقل!! أمامهم وقت ممتد، ومشوار أطول لتلك النهاية!!.. أشفقت عليه: - اجلس هنا ولا ترجع.. وهذا أكرم!.. اعترض: - لا كرامة في الهروب!!.. لن أتجاوز قدري!! وعلى كلٍ، تقديرات الأشياء تتباين وتتفاوت من زمن لزمن.. ومن شخص لأخر.. أنا لم أضر أحداً.. ولم أسرق جهد أحد.. ولم أخبث في أحد.. ولم أعادِ أحداً.. ما أنا متأكد منه، أنهم سجنوني وعذبوني لاختلاف الرأي معهم.. ثم هم الذين جاءوا إليّ لقدراتي.. هم يعلمون جيداً أنني لست منهم.. ولم أزيّف حقيقتي.. أضاف ضاحكاً: - الدليل، قدوم إلسا إلى هنا، في أية ساعة من اليوم!!.. صعقني حديثه عن إلسا.. سألت: - ألا زالت علاقتك بها قائمة؟! أجاب بطرافته المالوفة: - أتظن أنها انقطعت؟! - طبعاً لأن فترة اختفائك كافية لقطع هذه العلاقة العرضية!! - من قال أنها عرضية؟! أنت تعرف هؤلاء الناس وإخلاصهم.. وبالذات الأنثى فيهم!!.. - كيف لم تيأس طوال تلك الفترة، ونحن يئسنا منك!! ضحك.. وقال: - هذا هو الفرق بين إخلاص وإخلاص.. قلبها الياسميني حدثها بأنها ستجدني يوماً.. وظلت على هذا العهد!! سألته مندهشاً: - هل أهل (الإسلام الاستوائي) الجدد يعرفون؟!.. لم يستغرب من سؤالي.. وغالباً ما توقعه: - قطعاً يعرفون.. وأنا أعلم أن الأمن يراقبني ويراقب غيري.. ثم كان هذا شرطي في التعاون معهم.. أن أعيش حياتي بطريقتي.. ربما قدروا فيّ هذا الوضوح وهذه الصراحة.. فأنا لست بحاجة للنفاق.. قلتُ لهم تقبلوني كما أنا، فقبلوا!! ثم أردف ضاحكاً: - تصور أني أعيد نفس (الفيلم) معك.. أن تقبلني كما أنا.. تخيل الزمن!! السجن حولني وأجبرني لأقايضهم، والسطلة حولتني وأجبرتني لأقايضك!!.. قلتُ ساخراً: - أصبحت مثلهم تملك الثروة، فلماذا لا تكون مثلهم في الزواج، ليكون عندك أكثرمن واحدة؟!!.. في عتاب: - كأنك لا تعرفني!!.. مؤسسة الزواج لا أطمئن لها.. بل أخافها، أتذكر صديقنا (عمسيب)، عندما طلب منه أهله الزواج، قال معترضاً وساخراً: معقول (أجيب) واحدة تشاركني في (ماهيتي)!! وقد صدق.. عاش حراً ومات حراً.. تذكرت ألمظ.. سألته عنها.. قال: - أخبرتني إلسا بأنها ماتت في حادث مروري مروّع، وهي تقود عربتها في الطريق من قريتها إلى أديس أبابا.. دهستها شاحنة نقل في مُنحنى يسمونه.. مُنحنى الموت!!.. حزنت عليها.. كانت جميلة ورائعة.. ولا زالت قولة ابن بطوطة الخالدة، التي ذكرها الفحل في شقة العجوزة، في ذلك الصباح، (تعشعش) في ذاكرتي.. جاءت إلسا بالفعل إلينا في غرب لندن.. فاتنة الطلعة والبهاء كما عهدتها في أخر لقاء قبل سنوات في (البيت الأبيض) بأملاك بحري.. لم تغيرها السنوات.. وإنما زادتها سحراً معتّقاً وجلالاً.. امتلأت قليلاً، ولكنها فارعة متماسكة كشجرة استوائية وفيرة الظلال.. ضحكتها الريانة تملؤنا براحة نفس لا تعرف الملل.. تضاعف حنيني لرفيقتها التي ماتت، عندما رأيتها.. تجسدت في الذاكرة لحظاتي الخاصة معها.. ماهذه الذكرى الطاغية التي تتداعى الآن، كأني لم أعرف النساء قبلها ولا بعدها؟!.. حنين يصادر الأنفاس، ويغمّ الفؤاد.. فاجأتنا إلسا وهي توجه خطابها للفحل: - ألم تصبح رئيساً للسودان بعد؟!!.. عبارة أخذتني من عالمي الباطني، وأعادتني لما يدور حولي.. كلماتها أبحرت بنا بعيداً، ومخرت عُباب السنوات ورست بنا في مرفأ أيام خلت.. عند فندق شبرد القاهرة وكلمات العرّافة الإنجليزية للفحل!!.. وما كدنا نستوعب، حتى انفجرنا في مرح صاخب وتعليقات مازحة..
03-06-2013, 10:28 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
جلس معي الفحل كل أيام إجازته.. وقضت معه إلسا أيامها المقدّرة، وسافرا، كلٌ منهما في اتجاه.. صرتُ بعدهما وحيداً.. ألفت هذه الوحدة.. عادت أيامي إلى كرورها المعتاد.. غير أن مقتضيات العمل، التي تجعلني أتنقل بين المدن التي فيها فروع المكتب، تدفع بي لأعيش لحظات تغيير تكسر الرتابة والملل، وتزيل عني الضجر والسأم دون شك، خاصة تنوّع المسؤوليات.. لعل في هذا بعض السلوى التي تعين على الصبر.. عادت علاقتي بالفحل إلى طبيعتها.. وبدأ تواصلنا القديم يأخذ مكانه، عبر (النت) مراسلات، وثرثرة مباشرة.. ولم ينجُ التلفون بدوره.. عرفت منه أن جهابذة السلطة يقربونه إليهم بشكل ملحوظ ومتسارع.. هو شخص تألفه النفس بطبعه.. حباه الله بشيء غامض، يسحر به الناس دون تكلف.. حتى الصراع الخفي بين صقور النظام، يتوارى إلى وحدة عنده.. شيء يحيرني عندما يحكي لي ما يدور من وقائع، فأصل من خلال تحليلي إلى خلاصات تلك الحيرة.. إنه دوماً لا يصدر أحكاماً، ولكنه يسرد ويحكي.. في واحدة من مؤتمرات النظام وتجمعاته، كانت الأضواء تسلط عليه.. وبما أنه رجل يعشق الحياة ومُتَعها، فإنه يعشق الأضواء.. وحينما شعر أنه مركز الاهتمام، تجلى!!.. ومن سماحة نفسه، ظهر كمِصَدّ للعواصف والزوابع.. وفوق هذا لا يهاب المناظرات الفكرية.. فوجدت فيه السلطة متكأً مريحاً.. طغى نجمه وسطع.. أمسى قريباً من الرئيس.. في إحدى جلساته الخاصة معه، طلب منه الرئيس طلباً مفاجئاً، جعله يفقد توازنه!!.. وجهه بأن يترشح لرئاسة الحزب.. وعندما استفسر منه على استحياء: كيف ذلك وهو الرئيس؟!.. وضح له بأن هذه سياسة جديدة.. وهذه السياسة الجديدة تقتضي، الفصل بين رئاسة الدولة ورئاسة الحزب لإحداث التوازن والتوازي بين سلطة الدولة وسلطة الحزب.. إضافة إلى خرس الألسن التي ما برحت تهاجم النظام الذي يدمج بين الدولة والحزب السياسي.. تهيب الموقف.. غير أن الرئيس أقنعه.. ناقش الرئيس بأدب جمّ.. وبتواضع شديد، قال له: يوجد من هو أحق مني بهذا المنصب، من القيادة التاريخية للنظام، وبحكم الإرث النضالي والعمل والجهد المبذول، بيد أن الرئيس قال له: الحزب يحتاج لقيادة شابة واعية، وذات تأهيل ومقدرات علمية وتنظيمية.. وأنت أكثر من غيرك استحقاقاً لهذا الموقع.. ثم أضاف من الحجج والمعلومات، ما جعله يتوقف عن المعارضة والمحاججة.. وحينما جاءت الساعة الحاسمة لترشيحه للرئاسة، تمَّ اننتخابه رئيساً للحزب.. بعد ذلك، طفحت الخلافات، وفقد هو مركز الإجماع عليه كشخص مقبول من الجميع.. تناقضت الطموحات وتقاطعت.. وبدأ الصراع بين مراكز القوى يأخذ طريقه للسطح.. عندما اختير الفحل رئيساً للحزب، وجاءت الأخبار، ووصلني بريده الإلكتروني بالخبر الصاعق، لم أصدق!!.. لكنها الحقيقة التي تأكدت بعد ذلك.. عجبتُ!! ايكون هذا الساحر الوافد، ابن (ناوا) سحر أعين الناس برُقيَةٍ لا قبل لهم بها؟!.. تذكرت العرّافة الإنجليزية.. أيكون ما قالت به، إبصاراً في الغيب، قد يتحقق مرحليا؟!.. ربما!!.. من يدري!!.. الفحل عندما يتولى مهمة، يتعامل فيها بمسؤولية.. ويعطيها جُلَّ وقته وثاقب فكره.. لكنه ما كان يدري أن هذا المنصب الجديد، سينزل عليه بعظيم المصائب.. وفادح الأزمات!!.. في بادئ الأمر، وحسب حديثه معي، ظن سذاجة، أو بحسن نية، ما تعوَّدت المكائد، بأنه طارئ يمطره، وسيزول بعد حين.. ولكن الثابت أنه قد زُجّ به في أَتّون معركة لا قبل له بها.. ما فطن لصراع الأفيال الذي كان يجري أمامه، وسيطوله حتماً... ظن أنه يحتمي بما يلقاه من احترام وتقدير الجميع.. يبدو أن تعارض المصالح لا يعرف وداً ولا رحمة.. التكالب على عرض الدنيا الزائل، لا يعرف غير طريق واحدة.. أنا ومن بعدي الطوفان!!.. قال لي، بأنه كلما سعى في طريق للإصلاح والتنظيم، حفروا له هوة يرتدّ فيها.. قال لم يتركوا له قامة مستقيمة.. وإنما ظل مُقوّسَ الظهر يبحث عن الخلاص من الأخاديد التي ملأت أفقه.. ومع ذلك قاوم.. غير أن سعيه لم يره أحد.. كانت عندما تشتد به المحن من حالات العجز والضعف يهرب إلى دارفور، ليتابع ما قد نجح في إنجازه.. هناك في ذلك الغرب البكر، تغتسل روحه بطهارة لم يعرفها من قبل.. خدمة أولئك البسطاء الأنقياء، تعيد إليه الثقة والقوة والأمل، فيعود إلى الخرطوم، ليفعل المفيد النافع في الحزب.. لكنه يجد الحال أشد شراسة واكثر عُتوّاً وغطرسة، فيكون الهروب مرة أخرى لتلك الديار بحثاً عن طهارة الروح والقلب.. وجد ذاته هناك، في تلك الديار البعيدة.. أحبها فأحبته بدورها.. وعندما تشتد عليه نوازل الخرطوم، يهرع لأولئك الذين زهدوا في متاع الدنيا الزائل.. العمل بينهم ومن أجلهم يجعلك تشعر بقيمتك الإنسانية.. العطاء في تلك الديار له طعم أخر.. أين هذا الإحساس الطاعم في غارب الزمان؟! شعرت أنه أخطأ التقدير.. وكان هذا رأيي فيه من قبل.. لكنه كان يمازحني ويكابر.. طلبت منه أن يأتي، ويقيم في لندن!!.. رفض بتصميم رغم معاناته!!.. أخبرني بأنَّ شيئاً داخله يتضخم، يمنعه من الهرب!!.. لا يدري، أهي بقايا قيم من الوفاء، أم هو خوف من مجهول يتجهمه؟!!. ذات يوم، احتدّ حواري معه فقلتُ: - متى كنت سياسياً؟! طول عمرك كنت بعيداً عن الأحزاب والمذاهب.. ضحك في أسى وقال: - هذا قدر صديقك.. قادته الأيام وهو معصوب العينين في طريق كان يخافها.. وعندما وعى حقيقة الحكاية كلها، كان الزمن قد امتدّ.. فعاب على نفسه الرجوع!! ثم واصل ضحكته الأسيانة: - قال نجيب محفوظ على لسان أحد أبطاله: (السياسة عالم رحيب، مفاتنه موزعة على جميع المذاهب).. هل صدق نجيب محفوظ؟؟ وهل السياسة حياة، ولا فكاك من فتنة الشيطان فيها إلا بالتوبة أو بالموت؟؟ هل أصابتني فتنتها الملعونة في لحظة غواية؟؟!!.. وهل حوارك معي، فيه شيء من السياسة وشيء من فتنة الشيطان؟؟!!.. قيل يا صديقي قديماً (أن الإنسان حيوان سياسي).. وأنا أقول (الإنسان حيوان في ورطة).. قلتُ متضايقاً: - أنا أجادلك في حياتك الشخصية.. في كيفية خلاصك من وضع أنت الآن أصبحت تعاني منه!!.. قال: - صعب!! الرجوع صعب!! صمت قليلاً، ثم أردف هازئاً من نفسه: - تعرف أنا وضعي كالجاسوس، مصيره الموت، إما من أولئك الذين عمل عميلاً لهم أو من هؤلاء الذين عمل ضدهم وكشف خباياهم!!.. أنا يا عزيزي عرفت أسراراً خطيرة، وتعمقت فيها تحليلاً وتفسيراً.. ولا منجاة لي أبداً، لا من النظام ولا من خصوم النظام!!.. قلتُ حزيناً: - هذه مأساة!! - أكاد ألمسها!!.. - وماذا تنتظر؟! - قدري!! وهل هناك مهرب من القدر؟! - ماذا تعني؟! - لا شيء.. هي النهاية!!.. أفزعني هذا الخنوع!! قلتُ: - ألا يوجد مخرج؟! بدت لي صورته في (النت) مشبعة بحزن طاغٍ، ذهب معه ماء الحياة وحيويتها.. قال بابتسامة تغالب شعوره باليأس: - يوجد!!.. - ما هو؟!.. جاء رده كأنما يسخر مني: - النضال!!.. قلتُ والضيق يفترسني: - أي نضال!!.. قال، كأنما لا يريد للرمق الأخير أن يفلت منه: - النضال داخل الحزب!! عجبتُ!! وسالته: - أتسخر مني أم من نفسك؟!.. - وما الفرق؟!.. آثرت الصمت، ولم أعقب.. واصل وهو يسأل: - ألا تظن أنني أؤمن بالحرية والديمقراطية؟!.. قلتُ صادقاً: - قبل حياتك الجديدة، نعم!!.. قال في انكسار: - وهل تصدق أن صديقك الذي تعرف، يساوم في هذه المبادئ؟! - صديقي اعتلته متغيِّرات.. العقل يقول هكذا!!.. ابتلع ريقه، وسكت لبرهة.. قال: - هناك خبايا لا تعرفها!! - جائز.. ولكني لا أظن أنك تخفي عني شيئاً!!.. - من أين جاءك هذا الإحساس؟!.. - من صداقتي وحَدْسي!! - في هذه، خِفْتُ أن ترميني بالمغامرة والجنون!! قلتُ مشفقاً: - إن كنت تقصد بالنضال، أن ترسي في الحزب والنظام قيم الحرية والديمقراطية فهذه مغامرة وجنون!! قال: - وإن أضفت لك قيمة أخرى، تتمركز في أن الزمن تجاوز فكرة الحزب الواحد الحاكم، ماذا ترى؟!.. - أرى أن جنونك تأكد لي!! ضحك ضحكة باهتة، كأنما يحمل جبلاً على ظهره، وهمس: - لماذا لا ترى فيّ (مانديلا) جديداً، يصارع عنصرية حزب ونظام؟! - ما عهدت فيك صلابة وعزماً!! - ألا تظن أن زمن اختفائي، هو نقطة تحول جذرية في حياتي؟! - ربما!! فدواخل الإنسان غابة غامضة!! - أنا أطمع في الذكرى!! قلتُ مدهوشاً: - ماذا تقصد؟ بعد برهة قال: - ألا استحق أن يذكرني التاريخ؟! - التاريخ سيذكرك ضمن فترة نظام فُصِل فيها الجنوب!! - أكل من انتمى للنظام من الأشرار؟! - الحكم للتاريخ!! ثم أردفتُ قائلاً: - البطل أو القائد يجب أن يكون نظيف اليدين!! عند هذه النقطة توقف حواره معي.. لا أدري هل شعر باليأس من حواري، أم شرع يفكر فيما قلتُه له!!.. ظلت ذاكرتي حاضرة لكل ذلك النقاش الذي جرى بيننا.. أعيشه في كل سانحة.. وكانت السوانح كُثُر.. ندمت على قسوتي عليه.. هل سيتحول الفحل إلى مناكف شرس للمبادئ التي ذكرها، أم سيتوقف عند الحوار معي؟! هل سينجح؟!.. وهل سيذكره التاريخ كما يريد ويرغب؟!.. من يدري؟!.. فللدهر تصاريفه الخاصة وتقلباته المفاجئة التي لا يمكن التكهن بها.. فأبعد الظن قد يتحقق!!.. وهيِّن الطبع قد يأتي بمعجزات!!.. علمت فيما بعد أنه رفع شعارات التعامل مع الواقع بعقلانية وانفتاح.. وطرح بقوة مبادئ الحوار الوطني الجامع، وتشكيل حكومة وفاق وطني لمرحة انتقالية، تضع أسس سودان جديد، ينادي بـ (الكونفدرالية) مع جنوب السودان.. أحسست انه دخل مناطقَ خطرةً.. وذات مساء صقيعي في لندن، جاءني الخبر على حين غرّة، أن الفحل محمد عثمان، الشخصية السودانية الدولية، قد اختفت طائرته المتجهة إلى الفاشر، ولا يُعرف مصيرها حتى الآن!!.. ................تمت.................................
03-06-2013, 10:35 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
هذه القصة تحمل رؤية ...نسعى لينال صاحبها عضوية البورد لاثراء النقاش حولها ومتروكة في ساحة النقاش وللمشاركين من خارج البورد [email protected] او الاتصال على تلفون الحسن محمدسعيد/مستشار بنك اليمن الدولي
للكاتب رؤيته وللكتابة سطورها وللناقد البحث عن الجمالايات بحرفته الادبية ولكن في مجال الادب السياسي يظل الكاتب والسياسي يصطرعان داخل نفس الروائي الذى يتنفس عبر شخصيات روايته المتناقضة. عن رؤيته السياسية.وقد شخص الحسن سعيد الازمة السياسية التي تعاني منها المعارضة التقليدية من جهة التي يمثلها الرواي وعبر حديث النفس المقتبس ادناه....
Quote: شعرت بضآلة نفسي..احتقرت حماقتي وتكبري.. مرّ بي شريط سريع لعلاقتنا.. ظل دوماً، يتجاوز هفواتي وسقطاتي.. فلماذا لا أتجاوز وأصبح مثله؟!.. لكن خلافي معه، وغضبي منه كانا مسألة وطن!!.. وطن؟! عجبي!!.. ماذا فعلت أنت للوطن؟!.. تركته ونجوتَ بجلدك!!.. حتى وأنت في مأمن من سطوة النظام، في بلد الحريات والديمقراطية الراسخة، كالمملكة المتحدة، لم تفعل له شيئاً تكشف فيه انتهاكات حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني!!.. كنت وما زلت، في وضع تستطيع أن تعمل فيه الكثير، من مداخل ثقافتك القانونية، ومكتب المحاماة الرفيع الذي تنتمي إليه.. أصبحت الدنيا قرية صغيرة.. وكان ولا يزال بإمكانك تجميع قانونيي السودان في بلاد المهجر، لفضح ما يجري في السودان من ممارسات غير قانونية.. حتى أحكام القضاء في السودان، يمكن دراستها وتحليلها وإبراز عوراتها وعوارها. الفصل12 صفحة129.
تعقيب وفعلا ده نوع المعارضة في العالم الحر العاجزة عن القيام بعمل ثورة قضائية او دستورية لتعرية الاساس الزائف للنظام وبقيت الانقاذ حتى يومنا هذا سادرة في غيها..وازمة اهل القضاء والقضاة الاخلاقية مستمرة من قوانين 1983 وحتى الان وكانهم لم يستفيدو من الدروس التي قدمها لهم قضاة مصر و وظلت المحكمة الدستورية العليا التي تقبع ديكور في دستور 2005 الانتقالي..واستمرت الانقاذ تقطع الناس من خلاف كمان واستمر مسلسل الازلال.. ولان هؤلاء المعارضين العاجزين لم يقدمو شيئا ملموسا خلاف الولولة التي في هذا البورد والاسقاط السياسي العقيم،تخلى عنهم الشعب الذي يتحدثون باسمه منذ فراراهم من افضل استحقاق في نيفاشا وهو انتخابات 2010..وكل قطيع بما لديهم فرحون... اين الثورة الدستورية السودانية التي لطالما حلم بها الاستاذ الحسن وروج لها بين سطور روياته المتعددة (رواية ابو جنزير)يا اهل الاعلام و القانون في الخليج والعالم الحر,ام هو الاحساس بالضاءلة مع عدم التصالح مع النفس ؟؟
Quote: ظلت ذاكرتي حاضرة لكل ذلك النقاش الذي جرى بيننا.. أعيشه في كل سانحة.. وكانت السوانح كُثُر.. ندمت على قسوتي عليه.. هل سيتحول الفحل إلى مناكف شرس للمبادئ التي ذكرها، أم سيتوقف عند الحوار معي؟! هل سينجح؟!.. وهل سيذكره التاريخ كما يريد ويرغب؟!.. من يدري؟!.. فللدهر تصاريفه الخاصة وتقلباته المفاجئة التي لا يمكن التكهن بها.. فأبعد الظن قد يتحقق!!.. وهيِّن الطبع قد يأتي بمعجزات!!.. علمت فيما بعد أنه رفع شعارات التعامل مع الواقع بعقلانية وانفتاح.. وطرح بقوة مبادئ الحوار الوطني الجامع، وتشكيل حكومة وفاق وطني لمرحة انتقالية، تضع أسس سودان جديد، ينادي بـ (الكونفدرالية) مع جنوب السودان.. أحسست انه دخل مناطقَ خطرةً.. وذات مساء صقيعي في لندن، جاءني الخبر على حين غرّة، أن الفحل محمد عثمان، الشخصية السودانية الدولية، قد اختفت طائرته المتجهة إلى الفاشر، ولا يُعرف مصيرها حتى الآن الفصل 13 صفحة160!!
وهذه ايضا خواطر الراوي التي ضمن فيها طريق ونفاج لاهل النظام ايضا..ويبدو ان الفحل الذى اختار التغيير على الطريقة الصينية(راجع تجربة الصين بوست قديم منشور في البورد) وهي ان يعمل تجديد updattingللحزب الحاكم من راسو لي ساسو كما شهدنا في معرض الرواية وان يضع برنامج جديد من مبدا(( الواقعية السياسية)) وهو اعادة الجنوب عبر الكونفدرالية حتى نتخطى وصمة الانفصال المقيت بازالة اسبابه التي لم تعد مجدية الان والعودة الي الديموقراطية الحقيقية عبر حوار جامع يضع دستور جديد ويقود حتما الى انتخابات حرة ونزيهة ، هذا يجعلك تتعاطف مع الفحل دون اي اسقاط لاواعي ناجم عن كراهية للحزب الحاكم..
ولكن النهاية الفاجعة للفحل والمعروفة لدى العديد من السودانيين..تجعل الكاتب..يضعنا في المصير الاسود الذى ينتظر النظام والسودان والذي يهيمن عليه الحرس القديم ويمنع تماما اي فرصة للاصلاح او التغيير..بوسائله الرخيصة والمعروفة واذا ما اصطدم بالمجتمع الدولي والامم المتحدة والعراق وليبيا ليس عنكم ببعيد..وتظل سفينة الانقاذ المثقوبة/تاتيتنك سادرة في غيها وحتى تحقق حتمية اصطدامها بجبل الجليد العائم وغرق من فيها سواء كانو ركاب الدرجة الاولى/مترفين المركز او الدرجة العامة ناس الاقاليم..المخدرين منذ عقود...
ونخلص من ذلك ان ان الكاتب اراد ان يوضح لنا بالضبط مكامن الازمة في المعارضة والنظام معا..وقد افلح في ذلك ولكنه فقط زاد من فرض رؤيته في ازمة دارفور عبر بعدها الاقليمي والدولي..وايضا اسهب في شرح مشكلة الجنوب التي هي اصلا مشكلة الشمال/المركز وهذا يفيد في التعريف بقضايا السودان للقاريء غير السوداني ولكنه قد ياتي بسهام من من هم لهم راي غير ذلك في ازمة دارفور المفتعلة من 2003 ويتربصون الدوائر بكل من يكتب عنها دون هواهم.. وقدم جرعات مركزة من الوعي فيما يتعلق باسباب انفصال الجنوب،فمعظم النخب العربية التي تدعي الوعي والثقافة تعرف ان الجنوب انفصل ولكنها لا تريد ان تعرف(لماذا انفصل جنوب السودان) وعلاقة" السائس والحصان "المشوهة التي ذكرها العلامة د.منصور خالد في كتابة(تكاثر الزعازع وتناقص الاوتاد2010). المتمددة من 1947 -مؤتمر جوبا...سنعود لتفصيلها لاحقا..ان دعا الامر او يمكن متابعتها فيما نكتبه هنا باستمرار وصدق المثل الاسباني الذي قال:عندما تغرق السفينة اول من يصعد على سطحها الجرذان"...وهذا ما سيحدث اذا مات المركز بالسكتة الدماغية دون خارطة طريق واضحة تنقلنا من دولة الريع وفلان وعلان الى دولة المؤسسات التي فارقناها من 1964 وهبي هبي يا اكتوبر ..فراق الطريفي لي جملو.. والحديث ذو شجون ....
(عدل بواسطة adil amin on 03-07-2013, 09:33 AM) (عدل بواسطة adil amin on 03-07-2013, 09:39 AM)
03-07-2013, 09:54 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
ما اراد الروائي الحسن محمد سعيد صياغته ادبا..صاغه النبي الكوشي محمد حسن سالم حميد شعرا..وكلاهما من احفاد زرقاء اليمامة التي قال عنها المعري سبحان من قسم الحظوظ ولا ملامة....اعمى واعشى وذو بصر وزرقاء اليمامة المزمور الرابع لحميد..
حكومات تجي وحكومات تغور
تحكم بالحجي بالدجل الكجور
مرة العسكري كسار الجبور
يوم قسم النبي تحكمك القبور
تعرف ياصبي مرة تلف تدور
ولا تقول بري او تحرق بخور
هم يالفنجري يالجرف الصبور
كل السقتو ما باقي على التمور
وارضك راقدة بور..
لا تيراب وصل ..
لا بابور يدور ..
والماهية اف عيشة هاك وكف
في هذا الزمن تف يا دنيا تف
يالعبد الشقي ما اتعودت شكي
لكن الكفاف فوقك منتكي
والسوق فيك يسوق حالاً ما بتسر
الا كمان في ناس فايتاك بالصبر
ساكنين بالايجار ... لا طين لا تمر
واحدين بالايجار ما لاقين جحر
سلعتهم الضراع والعرق اليخر
عمال المدن .. كلات المواني .. الغبش التعاني ..
بحارة السفن .. حشاشة القصوب .. الجالبة الحبال ..
الفطن الفرن .. الشغلانتو نار والجو كيف سخن ..
فرق شتى بين ...
ناساً عيشا دين ...
مجرورة وتجر
تقدح بالاجر ومرة بلا اجر
عيشهم كمهو وديشهم هان قدر
وناساً حالا زين ..
مصنع مصنعين
طين في طين وين
ما مرابا مر بارد همها
لا بعرق جبين ولا وشا يصر
عين والله عين .. كلها كمها وعزها هان قدر
دي الجنة ام نعيم دي الجنة ام قصر يا عبد الرحيم الا ورا القبر
لا تسرح كتر فتاح يا عليم
وان كان الفقر يا عبد الرحيم اشبه بالكفر .
03-08-2013, 01:35 PM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
هذا الديالوكتيك داخل الرواية..وهي تعالج ازمة السودان الحقيقية والتي هيا في نخبة -الانتلجنسيا - التي افرزتها حقبة ما بعد الاستعمار المباشر يمكن رؤيتها عن قرب في طيات المقال ادناه ايضا
Quote: صدام ثيران البايسون
عادل الامين الحوار المتمدن-العدد: 3774 - 2012 / 6 / 30 - 15:38 المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
التناقضات المتطاحنة وغير المتطاحنة Antagonistic and non antagonistic contradictions التناقضات المتطاحنة هي التناقضات الأساسية التي تميز تطور المجتمع تحت ظروف تاريخية مختلفة والتناقضات المتطاحنة تصدق في كل العلاقات الاجتماعية في المجتمع المستغل وهي ترجع إلى المصالح التي لا يمكن التوفيق بينها الخاصة بالطبقات والجماعات والقوى الاجتماعية المتعادية وتحل التناقضات من هذا النوع عن طريق الصراع الطبقي الثوري والثورة الاجتماعية التي تغير النظام الاجتماعي ومما يميز التناقضات المتطاحنة إنها تصبح أكثر حدة وعمقا كلما تطورت ويصبح الصراع بينهما صداما حادا وتتحدد الأشكال التي تحل بها هذا الصدام بالظروف التاريخية لنوعية للصراع ومن الأمثلة الواضحة للتناقضات المتطاحنة التناقض بين البرجوازية والطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي وذلك التناقض بين الدول الرأسمالية الناشئ عن التنافس بين الدول الرأسمالية وصراعاتها من اجل الأسواق ومناطق النفوذ وليس هذا التناقض طبقيا ولكنه يؤدي إلى صراعات عنيفة بين الاستعماريين في مختلف البلاد وهذه التناقضات أسباب الحروب الاستعمارية من اجل إعادة تقسيم العالم ومن اجل الأسواق،وهذا يجسده أيضا الصراع الرئيس في السودان بين الهامش بجهاته الأربع المركز عبر العصور أما التناقضات غير المتطاحنة فهي تلك التي توجد لا بين الطبقات العادية وإنما بين الطبقات والجماعات الاجتماعية التي بينها-إلى جانب التناقضات- مصالح مشتركة ومما يميز هذه التناقضات أن تطورها لا يؤدي بالضرورة إلى العداء كما أن الصراع بينها لا يؤدي إلى الصدام..كما هو الحال بين المزارعين والرعاة في دارفور وبين دينكا نقوك والمسيرية في جنوب كردفان ولا تحل التناقضات غير المتطاحنة بحرب طبقية ضارية وإنما تحل بالتحويل التدريجي المخطط للظروف الاقتصادية وغيرها التي تؤدي إلى خلق هذه التناقضات،كذلك يقضي على التناقضات غير المتطاحنة، شانها شان التناقضات الأخرى بصراع الجديد ضد القديم والتقدمي ضد المتخلف والثوري ضد المحافظ وتؤدي التغيرات في الطبيعة وفي مضمون التناقضات إلى تغيرات في شكل حلها ..أما التناقض كقانون للتطور فانه لا يختفي في ظل المجتمعات سواء كانت رأسمالية –صراع راسي- أو اشتراكية-صراع أفقي..وتكمن الأزمة السياسية في السودان الآن في عدم تمييز هذه التناقضات..والخلط المستمر للأوراق..رغم انه اتضح تماما أن التناقض المتطاحن الآن في السودان أضحى بين مشروعين فقط ..مشروع السودان الجديد والدولة المدنية الفدرالية الديمقراطية وبين مشروع السودان القديم الممتد من الاستقلال وهو الدولة المركزية الفاسدة والفاشلة والفاشية وعبارة عن مشروع غوغائي مستورد من خارج الحدود(الاخوان المسلمين)....والمخزي في الأمر أن التناقضات غير المتطاحنة هي التي سببت ولا زالت تسبب الموت الرخيص والتردي المريع في الخدمات في الهامش والمركز أيضا وأدخلتنا عالم مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية المعروف المآلات..حيث يشكل حزب المؤتمر الوطني الحاكم قمة سنام الرأسمالية الطفيلية التي خرج الانجليز وسلموها البلادفي وضع متطور لمشروع لدولة مدنية ديمقراطية...فقط كان ينقصها الفدرالية التي طالب بها أبناء الجنوب الأذكياء من 1947 لتعيد توزيع السلطة والثروة بين المركز والهامش فلبث أهل السودان القديم في مكانهم جاثمين ..وان عداء أحزاب السودان القديم المركزية الحزب الشيوعي و حزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة نموذجا للحزب الحاكم المؤتمر الوطني..عداء غير متطاحن..بل عملية تمويه وغوغائية سياسية..فقط ستسهم في إعاقة التغيير القادم وحسم الصراع المتطاحن الحقيقي بين المركز والهامش..فأين ذهب ذكاء أبناء حضارة رماة الحدق؟؟!!..هذه الحضارة التاريخية التي تميزت بالدقة والإتقان ولا زال أبناؤها يؤدون أعمالهم ويقدمون خبراتهم في دول مجلس التعاون الخليجي بنفس الدقة والعمل الخلاق...
والان نحن في 2013 التناقض الاخير بين السودان الجديد×السودان القديم وهذا الامر يجب ان تعقله اذن واعية اما يتحرر الحزب الحاكم من اصر الحركة الاسلامية المزعومة ويقبل الحركة الشعبية.ش كامر واقع..ويعمل تجديد حقيقي كما اراد الفحل في الرواية او تنهار الدولة..قبا ان يعاد تفكيكها وتركيبها باسس جديدة وينتظرنا فصل طويل جديد من المعاناة
03-09-2013, 10:48 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38125
وذكرت الرواية في معرض المقارنة بين حكام الامس و حكام اليوم القصة الشهيرة للرجل الاسطورة السيد عبدالرحمن المهدي ابو الليبرلية السودانية -عندما اكرم ضيافة الوفد الشيوعي السوفيتي وهذا الامر يجب على الاقل ان يدعو الجيل الحاضر المغييب بوسائل مبهرة بواسطة النخبة السودانية وادمان الفشل ..عند قراته الرواية ان يذهب لبحث عن سيرة الشخصيات التي تناولته االرواية للمقارنة بين عصرين
Quote: لو ان الامام عبدالرحمن المهدي صاحب مقولة (السودان للسودانيين) اذا جاء ليبصرنا في هذا العصر ماذا كان سيكون موقفه من مشروع السودان الجديدة واتفاقية نيفاشا ومن مالا ت السودان الان
ولا زلت اقرا في السطور واستبين عن النخبة السودانية وادمان الفشل التى عبرت عنها هذه الرواية ولازال هناك روايات وروائيين خارج نطاق التغطية في المشهد الثقافي السودان لمازوم طالما مصفوفة ابوريا مخيمة على السودان في المركز واجهزة اعلامه البائسة والهامش يتساقط كمريض الجذام والسودن بين رؤيتين السودان الجديد×السودان القديم
Quote: مصفوفة ابوريا تتكون خمس عناصر متسلسلة الفكرة العاطلة تقود الى تشويه المشهد الثقافي للقطر والثقافة المشوهة تشوه السياسة.والسياسة المشوهة تدمر الاقتصاد.والانهيار الاقتصادي يدمر اخلاق المجتمع والمصحلة النهائية تحلل وتفسخ الدولة القطرية.. وهذا ما حدث في السودان وسيحدث في كل الدولة التي لم تكتمل وتنضج فيها المواطنة اذا ما لم يتم تفكيك وازالة العنصر الاول في المصفوفة وهو(( الفكرة العاطلة)) التي هي واحدة من قضبان ابوريا السبعة...وليس التعامل المضلل مع نتائجها كما نرى الان في كل مكان
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة