|
Re: من الأبيض ... دعوة للتأريخ (Re: معتز تروتسكى)
|
تحية ندية عطرة وإجلال وتقدير عظيمين يرتبطان بالأبيض والذكرى العطرة لو في الوقت متسع سأعود واعاود بالكتابة عن إنطباعاتي أما الآن فأقتبس موضوعاً للأخ أحمد طه يبدو أنه كتبه من قبل هنا بهذا الموقع
Quote: من أوراق الجمعة : الأبيض .. أبو قبة فحل الديوم *
إضاءة أولى .. بعد ليلة حمدان الدامية .. خرجت قوات هكس من الغابة منهكة و مثخنة بالجراح .. كانت رائحة الموت تلف المكان وعندما سقط عازف البوق (البروجي) من أعلى شجرة التبلدي في غابة شيكان وصمت بوقه إلى الابد , استعدت مدينة الابيض ثاني مدن السودان لإستقبال فارسها المهدي الامام وهي التي كانت قد سقطت في يده بعد شهور أربع من الحصار إثر هجوم ليلي مباغت بالرغم من صمود الكولونيل محمد سعيد (جراب الفول) و عمالة سر تجارها (الياس) .. وبالإستيلاء على الابيض نال المهدي "الكرت البلانش" للزحف نحو الخرطوم بعد ان تفتحت شهيته بالتأييد القومي و العتاد الهائل من الاسلحة والذخائر والمدافع التي غنمها من ترسانة الابيض و(بلت) الخرطوم رأسها إستعداداً للزحف اليها وسقطت بعد ذلك بعامين و قتل قائدها (الغردون) المتعجرف انهارت دولته لترتفع رايات المهدية في مدينة الترك بالوانها الثلاثة .. السوداء والحمراء والصفراء . إضاءة ثانية.. إستحقت مدينة الأبيض في ستينات القرن الماضي (ايام الزمن الزين) لقب عروس الرمال .. كانت دار يسر وقبلة للمهاجرين اليها من طلاب الرزق من كل حدب و صوب لما تميزت به من نهضة تجارية وكان سوقها واحداً من اكبر اسواق المحاصيل في افريقيا , يمور بالحياة ويستقبل اكثر من 80 في المئة من محصول الصمغ العربي في العالم , اما سوق المواشي .. فكان الاكبر من نوعه في السودان , يستقبل الوارد من غربها من دار الفور و ((دار الريح)) لينطلق منها شرقاً إلى ((دار صباح)) .. و ناءت المدينة بكثافة سكانية عالية بسبب الهجرة الوافدة حتى صار اهلها البديرية شريحة صغيرة حفظوا حقهم فيها كحاضرة لهم من خلال مجلس ريفي يقع في قلب المدينة و غير بعيد من مجلسها البلدي و بحوش عمدتهم الرحيب في احد اعرق الاحياء السكنية. و بسبب الطفرة الإقتصادية سعت كل المصارف بحثاً عن موطئ قدم في الابيض بنك السودان .. باركليز .. الاهلي التجاري .. العثماني .. و قامت الحكومة المصرية بإفتتاح قنصلية و مدرسة (النهضة) كما تم بناء واحدة من اجمل الكاتدرائيات في افريقيا و قبلها كان قد تم إفتتاح اكبر مدارس كمبوني في السودان .. كان التسامح قيمة نفتقدها الان .. كان لها صحيفتها ((كردفان)) التي تصدر مرتين في الاسبوع و مطبعة ملحقة اسسها المرحوم الفاتح النور كما ضمت شركات للسيوبر ماركت المملوكة للاجانب و معظمهم من الاغريق متخمة بافخر البضائع الاوربية ( ابو نجمة .. ابو ديك .. ابو تلاتة نجوم ) و اشتهر فيها الخواجة كرياكو و جبنته المضفورة الشهيرة و ضربت في شدته الامثال ((شدة كرياكو الصيفو و خريفو لابس كاكي)) .. اشارة إلى ديناميكيته و حبه للعمل بالرغم من ماله الوفير. كانت دور السينما تقدم عرضين في الليلة الواحدة و احياناً فيلمين في برنامج واحد مما يجعل وسط المدينة ساهراً حتى الساعات الاولى من صباح كل يوم , تقدم كافترياتها (جروبي) و (رامونا) لروادها ما يشتهون و يذهب بعضهم لمطاعمها ((قدري)) .. ((طه البلك)) و ((ود مجالس)) لتناول اشهى الاطعمة و يختار البعض اعواد ((الاقاشي)) يفضلونه على كل الاطباق .. و ما ان تخلو الشوارع من السابلة حتى تبدأ البلدية بتنظيف شوارع الاسفلت بفرش السلك لإزالة الرمال منها و نظافة منطقة السوق من النفايات لتستقبل الصباح باسمة .. زاهية .. بهية. للخريف فيها ملامح متميزة و طعم خاص .. ما ان يتوقف المطر يمكنك إرتداء ابهى ما عندك من ثياب و حذاء جلدي لامع و الخروج إلى الشارع دون ان تخشى عليها من الإتساخ لان الرمال تقوم بإمتصاص المياه من الشوارع و تتكفل المصارف الطبيعية بأخذ الفائض منها إلى ((الفولة)) و هي البحيرة التي في الشمال الغربي من المدينة او فولة نادي الخريجين في وسطها , و هما بحيرتان تستقطبان كثيراً من الناس للنزهة و تستدعيان الاطفال للسباحة و اللعب و تظل مياهها حتى الخريف المقبل و ((تلاقي الحول)) .. و على ذكر الفولة هناك ((فولة المديرية)) و ((ود البغا)) و ((بنو)) و تستخدمها هيئة توفير المياه كمستودعات لتوفير مياه الشرب العذبة بعد معالجتها قبل ضخها في شرايين المدينة .. و يستخدمها المواطنون كمنتجعات يقضون فيها العطلات و يغشون منها حلبات المصارعة قبل العودة في المساء .. يشاركون ابناء جبال النوبة رياضتهم الجماهيرية المفضلة بالقرب من ((التومات)) و هما تبلديتان تحسر عليهما الشاعر محمد المكي ابراهيم في مقال كتبه العام الماضي بجريدة ((الخرطوم)) حزناً عليهما عندما لم يجدهما في مكانهما و لم تعد هناك تبلديتان متعانقتان .. و كتب يقول للتبلدي في نفوس الكردفانيين (الكرادلة كما يسمون انفسهم دعابة) مكانة عظيمة .. فهي اشبه بالكائن الحي منه بالعجماوات , و لكل تبلدية اسمها و نسبها , فهذه تبلدية ابوي فلان و هذه للفكي فلان. بالقرب من التومات في الطرف الجنوبي من المدينة يرقد الشيخ (ود اب صفية) في بنيته التي تحرس بوابتها الجنوبية وهو فقيه فارس يعتزون به هناك و يهتمون بزيارته و يقولون في ذلك (ما تقول مشيت الابيض لو ما زرت ود اب صفية) .. انه احد الاولياء حراس الابيض والاخرون هم الشيخ اسماعيل الولي , و الشيخ سوار الدهب , و للشيخ وداورو بيان في قلب المنطقة التجارية . للمدينة اسواقها الشعبية ,اشهرها سوق أب جهل , وسوق ود عكيفة تتوافر فيهما سلع لن تجدها الا هناك مثل الطباق (المنواشي) المصنوعة من السعف الملون و بروش الحنة المتقنة الصنع و طبول الافراح (الدلاليك) و محاصيل اشتهر بها الكرادلة مثل الكركدي الابيض و الوردي و الاحمر و الكول و القضيم و اللالوب و كل انواع الحبوب و المحاصيل التي تنبت في ربوع كردفان .. اضافة إلى الحليب و مشتقاته و النسانيس و الدجاج و الكانو والحمام الرقاص و القرع المنقوش .. هذه الاسواق مهرجانات و معارض للسلع الشعبية اشتهرت بها كردفان (الغره ام خير جوه و بره) .. البان جديد مكاناً لايمكن تجاوزه عند زيارة عروس الرمال فهي منطقة زراعية وفيرة المياه استثمرت فيها مصلحة السجون مزرعة ضخمة بجانب مزارع المواطنين , تمد المدينة بالفواكه الطازجة و مكان للترفيه يستقبل سيرات الاعراس و الرحلات المدرسية والعائلات يستمتعون فيه بالخضرة والمياه النقية الصافية التي تتدفق في الجداول مما حدا بالشاعر المجيد صاحب الغناء الجذل النضيد محمد عوض الكريم القرشي للتغني بها: اليوم سعيد و كأنو عيد يللا .. يللا حدائق البان جديد عرفت السكة الحديد في السودان قطارات الديزل منذ عهد الفريق عبود ولكن الابيض لم تكن تعرف سوى قطارها البخاري الذي يزورها ثلاث مرات في الاسبوع .. يتحمل عبء الرحلة من آخر محطات القطارات الديزل .. ينوء كاهله بالمسافرين (يبف نفسه) و ينفثه دخاناً اسوداً و هو يتلوى بين الكثبان و اشجار التبلدي والهشاب و حقول السمسم و الانقارا (الكركدي) .. مسرع الخطى و احياناً وئيدها قاصداً حبيبته الابيض يرتاح قبل الوصول اليها قرب اشجار النيم التي تظلل المحطات الكبيرة في الطريق اليها مثل كوستي .. تندلتي .. ام روابة .. و الرهد (ابو دكنة) وماان يقترب من الابيض قبل غروب الشمس بقليل حتى يرسل صافرته لتشق عنان السماء فيستقبله اهلها بالبشر و الترحاب و الاحضان و يودعونه في صباح اليوم التالي و يودعون اهلهم و احبابهم وصية في الذمة ليأخذهم إلى دار الصباح .. يقول الشاعر محمد المكي ابن الابيض في قصيدته قطار الغرب: كل الركاب لهم احباب هذه امراة تبكي هذا رجل يخفي دمع العينين بأكمام الجلباب سلم للاهل و لا تقطع منا الجواب و ارتج قطار الغرب تمطى في القضبان ووصايا لاهثة تأتي و اشارات دخان و زغاريد فهناك عريس في الركبان على مشارف المدينة الشرقية ترقد قرية خور طقت وادعة تضم صرحها التعليمي الشامخ حزني عليه بعد ان آلت تلك المؤسسة العريقة بمنشآتها و قاعاتها و ملاعبها إلى الدفاع الشعبي و لحقت برصيفاتها .. حزني عليهن الثلاث وادي سيدنا بعد ان تعسكرت مبانيها و (حنتوب الجميلة) بعد ان تقيح وجهها الصبوح .. و هاهي خور طقت ما عاد يزين طلبتها وسط المدينة في نهاية الاسبوع ولن يتوقعهم اهلها عندما تشتد بهم الأزمات و الكرب ليقودوا مواكبهم بهتافهم المنظوم و اصواتهم الفتية. وأواصل
احمد طه "ابوعزة" * كان عرب بادية كردفان يطلقون هذا اللقب على مدينة الابيض إعجاباً و تعجباً
|
| |
|
|
|
|