|
الأستاذ محمود محمد طه: بصيرة إنسان (سوداني) نادر مرّة أخرى راية قطر
|
بقلم/ عوض محمد الحسن: كتب الأستاذ محمود محمد طه، شهيد الفكر في السودان، خطابًا مدهشًا آخر لا يقلّ عن خطابه لمدير عام اليونيسكو، (الذي أوردناه في مقال سابق)، في نفاذ البصيرة، والحكمة، وفهم أمور السياسة والدنيا والدين. في 18 أغسطس من عام 1952، (أي أقل من شهر على قيام الثورة المصرية التي أنهت الحكم الملكي)، وجّه الأستاذ محمود محمد طه، المهندس الذي كرّس حياته للدعوة للفكر الجمهوري وللحوار المستنير ونبذ العنف في السودان، خطابًا مفتوحًا للواء محمد نجيب، قائد ثورة 23 يوليو المصرية، ابتدره بقوله: "أمّا بعد، فإن مسألة خلع الملك عن العرش، بالطريقة التي تمّت بها، توفيق كبير، ولكن ينبغي ألا تُحمّل من دلائل النجاح، وإنما يجب أن يُنظر إليها على أنها مسألة لها ما بعدها، وسيكون الحكم لها، أو عليها، على ضوء ما يحصل عليه العهد الجديد من نجاح، أو من إخفاق. وإنه لحق أن العهد القديم قد بلغ حدًّا من الفساد يكاد يجعل أي عهد يأتي بعده، مهما كان حظّه من الإصلاح ضئيلاً، عهدًا مقبولاً. ولكنه حق أيضًا أن الملك السابق، رغم فساد حكمه، قد كان عامل استقرار ضدّ الفوضى. وسيكون هذا الانقلاب شرًّا على مصر إن استجرّ بها إلى عدم الاستقرار. والحزم يقضي بألاّ تستبعد هذا الاحتمال بدافع التفاؤل، وحسن الظن، ذلك بأن الانقلاب ثورة، وفي كل ثورة قدر من التفريط والإفراط يتداعى بأمور الناس إلى الفوضى، في يُسر، وسرعة، وهم لا يشعرون". لم يغب عن الأستاذ محمود أهمّية ثورة 23 يوليو التي أتت بأوّل مصري ليحكم مصر منذ عهود الفراعنة، ولكن لم يجرفه الحماس الطاغي الذي لقيته الثورة من أن يرى مخاطر ومزالق الثورات والانقلابات (رغم أن "انقلاب" 23 يوليو كان الأوّل من نوعه في المنطقة العربيّة)، وهو ما خبرناه في العقود التي تلت كتابة ذلك الخطاب. تأتي الانقلابات بوعود بالحرية والديموقراطية والتنمية، وسرعان ما تنتهي إلى البطش والقمع والفساد والإفساد. ثم مضى يُسدي النصح لمحمد نجيب: "ولا يدرأ عن مصر سوء المنقلب إلاّ أمران: الحزم، والفهم "وهو ما أسميته أنا في مقال سابق الحكمة". أمّا الحزم فيقضي بأن تتولى كل أمور مصر بنفسك وأن تكون أنت، في غير مواربة، ولا رياء، المسؤول الأوّل والأخير، أمام الشعب المصري، وأمام العالم أجمع، عن استقرار العهد الجديد في البلاد، وأن تستخدم من الساسة من شئت، والفنيين، والمصريين والأجانب، من استطعت، على أن يكونوا مُستشارين، وأعوانًا، ومنفذين، مسؤولين أمامك أنت، وتُحاسب على سيّئات أعمالهم، أكثر مما يُحاسبون". في هذه الأسطر، دحض الأستاذ محمود الحجّة (والتبرير) الذي سمعناه مرارًا عن فشل الحكومات: أن الرئيس- الزعيم- القائد رجل مخلص ولكن بطانته سيّئة. "أمّا الفهم فيقضي أن تكون لك رسالة تُبلغها الشعب، وتأخذه بها، وتجعل كل مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وسيلة إلى بلوغها.....فإن أردت أن تلتمس أسباب الفساد، فالتمسها في هذه الحياة المصرية في جميع طبقاتها، وجميع أقاليمها، تلك الحياة التي أقامت أخلاقها، إمّا على قشور الإسلام، أو على قشور المدنية الغربية، أو على مزج منهما. وأنت لن تصلح مصر، أو تدفع عنها الفساد، إلاّ إذا رددتها إلى أصول الأخلاق، حيث يكون ضمير كل رجل عليه رقيبًا". ولا يتأتّى ذلك إلى بالعودة للإسلام الحقّ الذي يُهذّب النفوس. ويختم الأستاذ محمود خطابه بهذه الأسئلة الكاشفة: " من أنت؟ هل أنت صاحب رسالة في الإصلاح فتسير بشعب مصر إلى منازل التشريف؟ أم أنت رجل حانق، جاء به ظرف عابر، ليقلب نظامًا فاسدًا، ثم يضرب ذات اليمين وذات الشمال، حتى ينتهي به المطاف، إمّا إلى الخير، وإمّا إلى الشر؟" أدرك الأستاذ محمود، في ذلك الوقت الباكر، بثاقب فكره، وجلاء بصيرته، وسعة اطلاعه، أن الانقلابات تلقى القبول لتبرّم الشعوب بالعهد السابق لها، ولكنها في معظم الأحيان تأتي خالية الوفاض من فكر مفيد، ومن قدرة على الفهم والتخطيط والتنفيذ، ومن مناعة تحميها من مفاتن السلطة وإغوائها. غير أن عظمة الأستاذ محمود تتبدّى جليّة في تشخيص العلاقة بين مصر والسودان. لخّص الأستاذ محمود في بضعة أسطر ما فشلت الحكومات والنخب (والعامّة) في مصر، على مرّ العصور، في إدراكه، فقال مخاطبًا اللواء نجيب في خاتمة خطابه: "وشيء آخر نُحبّ أن نُشير إليه، وهو علاقة مصر بالسودان، فإنها قامت، ولا تزال تقوم، على فهم سيّئ. فإن أنت استقبلتها بعقل القوي فتستطيع أن تُبرئها مما تتسم به الآن من المطمع المستخفي، والعطف المستعلن، فإن السودانيين قوم يُؤذيهم أن يطمع طامع في ما يحمون، كما يُؤذيهم أن يُبالغ في العطف عليهم العاطفون". يا ألطاف الله! تأمّل النجابة والفصاحة التي لخّص بها الأستاذ محمود لبّ وعقدة العلاقات مع مصر. أسماها "المطمع المستخفي والعطف المستعلن"، لتُقابل كلمات أربعة يقولها المصريون، نُخبًا وعامة: "حق الفتح، و(دول طيبين)"! لا عجب في أن أعدم نظام نميري والإسلاميون المتحالفون معه آنذاك، الأستاذ محمود محمد طه. أعدموه في عام 1985 بتهمة الردّة وهو شيخ سبعيني، زاهد، متفقه، غزير المعرفة في أمور الدين والدنيا، لا سلاح له إلا قلمه ولسانه، وصاحب فكر أصيل، تحترمه، اتفقت معه أم اختلفت. أعدموه آنذاك، وأسموه الآن "النبي الكاذب". أَوَتُسمّي من كتب مثل هذا الخطاب في عام 1952 "نبيًّا كاذبًا" بعد أن تقتله بتهمة الردّة في نهايات القرن العشرين؟ رحم الله الأستاذ محمود. كان سابقًا لزمانه. لم ألتق به قط، ولكن عزائي ما تركه لنا من مثل هذا الخطاب.
http://www.raya.com/news/pages/5d68432b-4114-...c8-b56a-3e2dbea9524f
|
|
|
|
|
|