مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 04:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-29-2012, 07:11 PM

omer osman
<aomer osman
تاريخ التسجيل: 06-09-2007
مجموع المشاركات: 15218

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين

    مصطفي عبدالعزيز البطل

    العسس هم الشرطة، و في الزمان القديم كانت العسس هى الجماعة التى تجوب الطرقات ليلا، سهرا علي تأمين الناس و ممتلكاتهم و الحفاظ علي النظام. و أول من إستخدم نظام العسس هو الخليفة الراشد أبوبكر الصديق، رضي الله عنه، حيث أمر بطواف العسس في الليل للحراسة. و أول من أسندت اليه هذه المهمة هو سيدنا عبد الله بن مسعود، فهو أول عسّاس في الاسلام، نسأل الله أن يتقبل عِساسته للمسلمين، و أن يثيبه عنها أجزل المثوبة. أما البصّاصون فهم المخبرون، و كبير البصّاصين هو رئيس المخابرات بلغة عصرنا الحاضر. و البِصاصة هي الرقابة و التخابر و مفردها " بصّاص ". و هى غير البصبصة التى مفردها " بصباص "، و تعني في دارجية بعض الدول العربية – كما في عامية السودان النيلى - الرجل المنشغل بالنساء والذى لم يسمع بالأية الكريمة ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ...)، و يُقال في شأنه: ( عينو زايغة )! و فى الرواية الشهيرة " الزينى بركات " التى مزجت بين التخييل التاريخى والتأصيل التراثى، إستفاض القاص جمال الغيطانى فى استخدام و تطويع لفظة البصاصة و مشتقاتها و منحها أبعادا عبقرية شديدة الحيوية بحيث يكاد القارئ يحس و يرى، رأى العين، كبير البصاصين، زكريا بن راضى، و أعوانه و هم مستغرقون في شئون بصاصتهم، التى اتخذها الغيطانى رمزا أدان من خلاله أجهزة القمع و الاستبداد في العهد المملوكى، التى ماثل بها أجهزة المخابرات فى مصر الستينات. و لكن قائد العسس و كبير البصاصين الذى نقلب فى طروسه و أوراقه، و نتداول صفحات مذكراته المعنونة: ( أوراق من الذاكرة )، لا علاقة له من قريب أو بعيد بعسس و بصاصى " الزينى بركات " فى عصرهم المملوكى، إذ هو شخصية ماثلة للعيان، فاعلة فى محيط حياتنا الحاضرة المتلاطم، يُغالب موجاتها و تغالبه، تدافعه بسنن التغيير الغاشية و يُدافعها بحنكة الشيوخ العاتية. و قد صدرت مذكرات الفريق أول عبد الوهاب إبراهيم سليمان عن مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية. تدرج الفريق أول عبد الوهاب إبراهيم، فى سلك العمل الشرطى و الأمن السياسى حتى تسنم ذري السوامق العوالى من المسئوليات فأصبح وزيرا للداخلية، و رئيسا لجهاز الأمن العام، خلال سنوات بالغة الدقة شديدة الحساسية من سبعينات القرن المنصرم. و قد كان آخر وزير للداخلية يجمع على صعيد واحد بين مهام العِساسة و البِصاصة، إذ شغل – كما ذكرنا - منصبى وزير الداخلية و رئيس جهاز الأمن العام في آنٍ معا. و لكن مقتضيات التمييز والتدقيق تفرض علينا أن نبين فى هذا الصدد جزئية ذات مبنى و مغزى، و هي أن البِصاصة، كإختصاص مركزى سيادى، كانت خلال السنوات الأولي للعهد المايوى منقسمة تناصفا بين كيانين، الأول ذلك الجهاز الذى أطلقت عليه سلطة مايو فى أول عهدها مسمى: " جهاز الأمن القومى "، و قد أنحصرت مهامه رسميا فى جمع و تحليل المعلومات. أما الكيان الثانى فكان هو " جهاز الأمن العام " الذى أضطلع بممارسة الجانب الأمنى التنفيذى العملى و التخابرى. و لكن النظام المايوى عاد في نهاية السبعينات فبدل من أمر هذه القسمة الإختصاصية تبديلا، اذ جمع فى حاوية واحدة عرفت بإسم " جهاز أمن الدولة " بين العمل المعلوماتي و الاختصاص التخابرى و الأداة الأمنية التنفيذية. و سنّت الحكومة المايوية " قانون أمن الدولة "، الذى خبره معارضو النظام و اصطلوا بناره و ابتلوا بشناره و شكوا منه مر الشكوى، ليكون بمثابة الغطاء الشرعى لعمل ذلك الجهاز. فأما جهاز الأمن القومى في صورته السابقة الملغاه فقد تعاقب على سُدته كل من الرائد مأمون عوض أبوزيد، الراحل العميد الرشيد نورالدين، و الراحل الرائد على عبد الرحمن النميرى. فلما شبٌ الجهاز عن الطوق و لبس لبوسه التوسعى الجديد، تحت مظلة قانون أمن الدولة، تولى أمره اللواء عمر محمد الطيب، الذى ارتبط إسمه فى مرحلة لاحقة بملهاة تهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا إلي إسرائيل. و ظل الأمر علي هذا المنوال حتى أفل نجم مايو و أشرقت شمس الديمقراطية الثالثة، فأعادت حكومة السيد الصادق المهدى الأمر سيرته الاولى، فأرجعت إختصاص الأمن العام التنفيذى الى وزارة الداخلية، ثم إصطنعت جهازا جديدا بإسم " جهاز أمن السودان " إقتصر تكليفه على جمع و تحليل المعلومات و أعمال الاستخبارات المضادة. و عوضا عن أن يتفرغ ضباط ذلك الجهاز لمراقبة أعداء البلاد والمتربصين بها، فإنهم أوقفوا جل همهم على مراقبة و ( جمع المعلومات ) عن رئيس الوزراء الصادق المهدى، و تتبع حركاته و سكناته، فقد كان الرجل الثالث في ذلك الجهاز، و هو ضابط برتبة عميد، و ربما آخرون، علمهم عند الله و الراسخون في الإنقاذ، عناصر ناشطة فى منظومة العمل التخابرى الجبهوى الاسلاموى الذى توجت مجهوداته بإنقلاب يونيو ١٩٨٩. و من الحق أن جهاز أمن السودان، الذى قام فى ظل الديمقراطية التعددية الثالثة، كان من أضعف الأجهزة الأمنية في تاريخ البلاد، و أكثرها طشاشا و هشاشا و رقة حال. و لذلك الجهاز طرائف و أعاجيب. فمن طرائفه و أعاجيبه، بعد أن جعلت الديمقراطية على رأسه العميد (م) عبد الرحمن فرح من قيادات حزب الأمة، أن إحدى أقسام المراقبة فيه وضعت عنصرا أمنيا يرتدى ملابس حديثة، من قميص لامع و بنطال من الحرير و حذاء فاخر أمام منزل السفير المصرى السابق، أحمد تقى الدين الشربينى، لمراقبة زواره و إتصالاته، ووضعت أمام العنصر الأمني الشاب، المدينى الهندام، كومة من البطيخ كى يبدو و كأنه يبيع الفاكهة للسابلة. و لم يكن المكان أمام منزل السفير مما يصلح أساسا لمثل هذا النوع من البيوع فباعة البطيخ، الذين يرتدون في الغالب ( عراريق) بلدية و ( مراكيب )، يعرضون بضاعتهم فى تقاطعات الطرق الرئيسية لا في المسارات الداخلية المقفرة للأحياء الراقية. ثم أن السفير نفسه كان كادرا مخابراتيا عتيدا فى بلده، تدرج في سلك المخابرات، لا السلك الدبلوماسى، كما ظن الذين لم يعرفوا خلفية الرجل. و عندما جاءت سيارة السفير لتدخل المنزل، لاحظ السفير ما لاحظ، فترجل عن سيارته و توجه رأسا الى بائع البطيخ، و بعد أن قلب بعض المعروض من بضاعته تخير بطيختين كبيرتين، توسم فيهما الحمرة و حلاوة المذاق، ثم توجه الى الشاب الأمنى، وهو يشير بسبابته الى البطيختين، بسؤال مباغت، كاد الشاب يسقط على إثره مغشيا عليه: ( يا إبنى .. بطيخ عبد الرحمن فرح ده بكام ؟؟ )!! بالرغم من أن الكتاب صغير الحجم بصورة ملفتة للنظر، مقارنة بالمسافة الزمانية الشاسعة التى تغطيها المذكرات، والتى تمتد علي مدى خمس عقود متوالية، و بالرغم من أن الوقائع و الأحداث يجرى أستدعاؤها كليا من الذاكرة، دون أستناد إلى مدونات مكتوبة او تسجيلات مسموعة، بحسب إفادة المؤلف، فإنك تجد بين دفتى هذا الكتاب الصغير رتلا من المعلومات المثيرة التى تلقى بأضواء كاشفة على منعطفات محورية فى تاريخ السودان المعاش. و هي معلومات يسردها الفريق عبد الوهاب بصورة مباشرة و موجزة، مشفوعة و معززة بدعائمها من مصادر و شهود ووثائق و قرائن و مقتضيات أحوال. و يقدم الكتاب صورا ناطقة لمشاهد ووقائع و مواقف ذات تأثير عميق في المجرى العام لحركة الحياة السياسية و الاجتماعية السودانية، عايشها المؤلف مراقبا و مشاركا في بعض الإحيان و صانعا فى أحيان أخرى. و تضع ذكريات عبد الوهاب المتداعية فى مجملها بين يدى القارئ تصورا موضوعيا و مترابطا يعين علي تقويم العوامل المتضافرة التى أحاطت بهذه الحادثات، و طبيعة الشخصيات الفاعلة و المحركة لها، فضلا عن طبيعة العلاقات المعقدة بين هذه العناصر. يلمس القارئ بغير عناء شدة إعتداد المؤلف بإنتمائه و تكوينه الأساسى كضابط شرطة، فصفة ضابط الشرطة مقدمة عنده على كل مسمي مهنى أو دستورى إرتبط بإسمه على طول مراحل مسيرته الإحترافية و السياسية. و المذكرات نفسها و أن كانت تحمل العنوان الرئيس ( أوراق من الذاكرة )، فإنها تحمل أيضا في جزئها الثانى عنوانا مكملا وهو: ( محطات في مسيرة ضابط شرطة ). و غيرة الرجل على قبيلته المهنية، في مواجهة كيانات أخرى في الدولة، لم تمحض جهاز الشرطة ودا كثيرا، تكاد تنطق بلسان. فقد جاهر الرجل برفضه دعاوى قادة النظام في السبعينات ممن بشروا بضرورة فصل إختصاص الأمن العام عن كيان الشرطة، بحيث يجد ( الأمن العام ) مجالا لحرية الحركة خارج مظلة العمل الشرطي. و عبّر عن إعتقاد يساوره بأن مثل هذا المخطط إنما إستهدف بالأساس التقليل من دور ووزن الشرطة. و عندما دُعى صاحبنا الى القصر الجمهورى فى أغسطس ١٩٧٨ ليتم إخطاره بنية فصل الأمن العام عن الشرطة توجه بسؤال الي الرئيس نميرى عما إذا كان الأمر مطروحا للبحث و النقاش أم أن القرار قد تم أتخاذه، فأجابه الرئيس بأنه قرار محسوم واجب النفاذ. يقول صاحبنا: ( فسحبت مقعدى للخلف و لم أشارك في النقاش، ولكننى سمعت وزير رئاسة الجمهورية يقول أنه فتح قاموس أوكسفورد ليختار إسما للجهاز الجديد، فعلمت أن الطبخة مكتملة )! و عند إكتمال تدريب قوة كبيرة من الإحتياطى المركزى للشرطة و إقامة إستعراض كبير لها باستاد الخرطوم، و إستحسان الجميع للمظهر و الكفاءة و الإحترافية المتميزة التى تجلت في العرض، فإن أذن الفريق عبد الوهاب لم تخطئ التقاط بعض الأصوات و الهمهمات في المنصة الرئيسية، التى لم يُسر أصحابها و لم يطب بالهم بما رأوا، فتمتموا متسائلين عما إذا كان ما يرونه ( جيش ام شرطة )؟ و لايخفى أن أصحاب هذه الاصوات التى أثارت حفيظة عبد الوهاب كانوا من كبار ضباط القوات المسلحة. و تلمس الامتعاض من مواقف هؤلاء عند صدور قرار من جامعة الدول العربية بتوحيد مسميات الشرطة فى كل البلدان العربية، فقد وافق رئيس الجمهورية على مضض على الالتزام بقرار الجامعة العربية بتوحيد و إستبدال مسميات رتب الشرطة من ملاحظ وحكمدار و قمندان و غيرها بالرتب الجديدة من نقيب و رائد و مقدم و عقيد الي أخر السلسلة. و لكن الرئيس عاد، بناء على إعتراضات و ملاحظات من ضباط الجيش، ليقرر أضافة لفظة ( شرطة ) بعد كل رتبة لتمييزها عن القوات المسلحة. و ذهبت أدراج الرياح جهود الوزير لإقناع الرئيس بأن الدول العربية الأخري لا تضيف تلك اللفظة أذ أنها لا تعدو أن تكون إضافة متزيّدة لا معنى لها. و يُلمّح الفريق عبد الوهاب، تلميحا يقرب من التصريح، بأن قرار الرئيس السابق عام ١٩٧٨ بحل وزارة الداخلية، جاءت تعبيرا عن الضيق بالوزارة ووزيرها، وليس إتساقا مع سياسات الحكم اللامركزى كما سار الإعلان الرسمى. و آيات ذلك عديدة، منها أن أبل ألير رئيس لجنة الحكم اللامركزى قد أكد له شخصيا بأن لجنته لم تناقش أو تُجِز قط توصية بحل وزارة الداخلية. و منها رفض وزير الداخلية المُقال الانصياع لتوجيهات الرئيس بفصل و إيقاف بعض القيادات و منها مدير عام الشرطة. و لكن أنصع الآيات و أكثرها إبانة كانت أجابة الرئيس السابق نفسه، بعد مغادرته مقعد الرئاسة، علي سؤال وجهته اليه صحيفة ( الاخبار ) المصرية فى أطار سلسلة حوارات نشرتها الصحيفة تحت عنوان ( نميرى يتذكر )، جاء السؤال: ( من كان من وزرائك كثير المشاكسة؟ ) فأجاب الرئيس المعزول: ( وزير كان بطبعه متمسكا بما فى ذهنه إذا تلقى تعليمات منى، و قد أقلت ذلك الوزير مما أثار غضبه، و لكن بقينا على صلة طيبة، و هذا الوزير هو عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية السابق )! و هناك رواية تتضمنها المذكرات، ربما ألقت مزيدا من الضوء على طبيعة العلاقة بين الرئيس ووزير داخليته ورئيس جهاز أمنه، وقد دارت وقائعها فى إجتماع مغلق بالقصر الجمهورى، و لكنها على حساسيتها لم تعد سرا علي الكثير من المتابعين والمراقبين، إذ أن الدكتور منصور خالد كان قد أتى بخبرها، و سطّرها بنصّها و فصّها في إحدى كتبه. و منصور، كما هو فى علم الكافة، بصّاص كبير لا يُشق له غبار و لا تخفى عليه شوارد الأسرار. و متن الرواية أن الرئيس السابق كان قد عبّر في جلسة لمجلس الأمن القومى عن ضيقه بأجهزة النظام الإمنية، و قال بأن هذه الاجهزة لو كانت فاعلة حقا لكانت قد تمكنت من القضاء علي الصادق المهدى و الشريف حسين الهندى. و كان مُراد الرئيس و مبلغ مشتهاه أن تضطلع إحدى أجهزته الأمنية بمهمة إغتيال الرجلين، كما تفعل الأجهزة فى بعض الدول العربية، وقد رد الفريق أول عبد الوهاب رئيس جهاز الامن العام علي الرئيس – فى حضور جميع أعضاء المجلس - بأن جهازه لا و لن و ليس من شأنه أن يقوم بهذه الإعمال و نظائرها، إذ أنه جهاز مهنى وطنى يقوم بواجباته المنصوص عليها فى القانون. كما رد بمثل هذا المغفور له على عبد الرحمن نميرى الذى كان على قمة جهاز الأمن القومى. تشتمل المذكرات علي نماذج و صور متعددة لأحداث أمنية و إستخباراتية شارك فيها أو أشرف عليها صاحبنا خلال سنى خدمته الطويلة، تؤشر فى مجملها علي كفاءة و فاعلية العمل الأمنى و الإستخبارى تحت المظلة الشرطية. فعلي سبيل المثال، و أثناء عمله قنصلا بسفارتنا بأديس أبابا، في النصف الثانى من الستينات، تمكن من الحصول على معلومات مفادها أن المخابرات الإسرائيلية ( الموساد ) قد جندت و دربت ضابطا سودانيا متقاعدا برتبة العقيد، و إرسلته الى إثيوبيا ليكون همزة وصل مع متمردى حركة الأنيانيا. و عند مداهمة هذا الضابط المتقاعد و مواجهته سجل إعترافا كاملا في خمسين صفحة فلوسكاب، و تم الحصول على بعض المتعلقات ذات الصلة بنشاطة التجسسى و منها الحبر السرى الذى دُرب علي إستخدامه. و قد أورد الفريق عبد الوهاب إسم هذا الجاسوس على أنه ( ع. إبراهيم )! و الواقع أن رتبة العقيد ( القائمقام ) بين صفوف القوات النظامية فى حقبة الستينات كانت شديدة الندرة والمحدودية بحيث يصعب عمليا إخفاء إسم هذا المتهم. غير أن الكتاب لا يوضح عما أذا كان هذا الشخص قد تمت مقاضاته و إدانته أمام القضاء السودانى، بل أنه يكتفى بالقول ( إستلمه الأمن فى الخرطوم و تابع معه )! و لكننى أعلم عن حالة أخرى من حالات التجسس – لم ترد فى مذكرات الفريق - تم فيها القبض على ضابط سودانى برتبة عالية متهما بالتجسس لصالح أسرائيل، و ذلك في حوالى العام ١٩٥٧ حيث تم تقديمه الى المحاكمة وحكم عليه بالسجن لمدة سبعة سنوات. و قد حاولت استعادة المعلومات المتعلقة بهذه الحالة و تعزيزها، و حادثت فى أمرها عددا ممن توسمت فيهم الدراية بأحداث تلك المرحلة فلم يتذكر أحد منهم تفاصيلها برغم تأكيدهم على أصل الواقعة. لكن أحد الملمين بأطراف منها ذكر لى، إعتمادا على الذاكرة، بأن الاتهام و إن تم توجيهه فعلا للرجل، و إسمه ( ع. ج )، بالتجسس لصالح إسرائيل، فأن الإدعاء والقضاء إكتشفا عند مرحلة المحاكمة إنه لم يكن في السودان ذلك الوقت ثمة قانون يُعرّف التجسس و يجرّمه، و لذلك تمت محاكمة الرجل و إدانته بتهم أخرى غير التجسس! و في سنوات الحكم المايوى كان جهاز الأمن العام، تحت قيادة عبد الوهاب، شديد البأس و الفاعلية في مواجهة النشاط السياسي المضاد الذى كان يباشره تنظيم الجبهة الوطنية الذى تشكل من أحزاب الأمة و الإتحادى والإخوان المسلمين، و ذلك على الرغم أن صاحبنا كانت تربطه روابط إجتماعية وثقى مع بعض رموز و قيادات العمل المعارض، و هى روابط وصلت الى حد تبادل الهدايا و المكاتيب الودية! و سنأتى الى أمر السجال الأمنى بين الجانبين فى الجزء الثانى من هذا الاستعراض. غير أننى – على المستوى الشخصى – وقفت على معلومة لفتت نظرى و أنا أطالع بعض ذكريات الفريق عبد الوهاب في مرحلة نهاية الخمسينات، و هو يتحدث عن ملاحاة بين مدير الشرطة بالإنابة صالح محمد طاهر و القاضى جلال على لطفى، إذ لم تقع بعض حيثيات سطرها القاضى جلال فى أوراق أحد القضايا، و أشار فيها الى عمل الشرطة إشارات سالبة، موقعا حسنا عند صالح فكتب خطابا للقاضى يستنكر الحيثيات، و كان رد القاضى عدائيا. و المغفور له صالح محمد طاهر يمت لكاتب هذه الكلمات بصلة قربى، كما كان صديقا للمرحوم والدى. و لم أكن أعرف أن صالح كان في الأصل عساسا و أنه وصل فى سلك العساسين الى أسمى المراتب. فقد وعيت على الدنيا فى النصف الثانى من الستينات و صالح مدير مديرية، و هى تعادل والى ولاية بمصطلحات اليوم. و فى المذكرات أشارة الى بعض الاحداث التى وقعت أثناء فترة عمله مديرا لمديرية أعالى النيل. و كان إذا زارنا في عطبرة زودته ادارة المديرية الشمالية بسيارة همبر فاخرة و سائق حكومى بملابس بيضاء مميزة. و كانت زيارته و ملابساتها التشريفيه تشيع الفخر فى نفسى و تعزز موقعى بين لداتى و أقرانى. رحم الله عمنا صالح محمد طاهر و تقبل منه عساسته لبنى وطنه، وولايته على حضر السودان و مدره، و أنزله منازل الصديقين و الشهداء و الصالحين.
                  

10-29-2012, 07:13 PM

omer osman
<aomer osman
تاريخ التسجيل: 06-09-2007
مجموع المشاركات: 15218

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين (Re: omer osman)

    قبل أن نستطرد فى عرضنا لمذكرات الفريق أول عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية و رئيس جهاز الأمن العام الأسبق، التى ضمّنها فى كتابه ( أوراق من الذاكرة )، نقف هنيهة أمام بعض عقابيل الحلقة الماضية. كتب الىّ صديق عزيز، ذى قدم فى مجال الثقافة، عين نفسه بحكم الصداقة عساسا على مقالى الاسبوعى، يعنفنى على عبارة وردت فى تلك الحلقة، وكنت قد أشرت الى كلمة دارجية معينة و قلت فى شأنها أنها متداولة فى ( عامية السودان النيلى ). و صديقنا يستنكر هذا الاستخدام و يتساءل قائلا: ( لماذا لا يشمل التعبير السودان غير النيلى المتحدث بالعربية؟ عندى أن هذا التعبير مجحف لبعض أهل السودان، و فيه إهمال لهم و إغفال لأولئك الذين يتحدثون ذات الدارجة وهم خارج نطاق الشريط النيلى، فأهل كردفان مثلا أو كل المناطق الواقعة غربى كوستى تشملها الدارجة السودانية، و لا يمكن بأية حال أن نضمهم داخل إطار السودان النيلى، ثم أن" السودان النيلى" ليس ناطقا كله بالدارجة العربية أو المستعربة، فهو يشمل " الشلك و الأنواك " و غيرها من قبائل الجنوب النيلية. وهذه الصيغة الظالمة سار بها كثير من المثقفين مثل كمال الجزولى و أبكر آدم إسماعيل، دون أن يدركوا أنها لا تمثل سائر المتكلمين بالعربية الدارجة..). و قد ركبنى الهم و الغم فى المبتدأ، بعد أن رأيت شخوص الأدلة فى مواجهتى على الخفة و ضعف الحساسية و عدم التثبت فى إستخدام الكلمات و التعابير. ولكننى ما أن رأيت إسم صديقنا الاستاذ كمال الجزولى ضمن لائحة المتهمين حتى هدأ بالى و تنفست الصعداء، إذ زيّنت لى نفسى بأن أمرنا إذا تداعى الى البراءة فحمدا و شكرا، أما إذا تصاعد الى الإدانة فإن السجن مع كمال الجزولى عرس! و لعلنى أضيف أنه لم يسبق لى التعرف على المتهم الآخر الاستاذ أبكر آدم إسماعيل، لا شخصا و لا إنتاجا، بسبب من ظروف الهجرة المتطاولة، و ضعف المروءة والهمة الثقافية. و هناك أيضا بعض ملاحظات حول مادة الاسبوع الماضى فرضتها علىّ سكرتارية تحرير ( الأحداث) و مصححها. الملاحظة الأولى أن العنوان الرئيس للمقال في صياغته و طباعته الأصلية ينتهى بقوسين يضمان الرقم واحد، كناية عن أن المادة المنشورة تشتمل على الجزء الأول من جزئين أو أجزاء متعددة. و لكن المادة المطبوعة في نسختى الصحيفة الورقية والالكترونية جاءتا بعلامة إستفهام بين القوسين، و أحلتها محل الرقم واحد، و ذلك أمر محير حقا! و عندى أن علامة الإستفهام من غير سبب تستوى فى الحُكم التقريرى مع ( الضحك من غير سبب ). ثم أن جميع التواريخ الواردة في متن المقال، ممتدة بين الخمسينات و الثمانينات، إختفت فى الطبعتين الورقية والإلكترونية و ظهرت بدلا عنها علامات إستفهام متراصة مما أحدث لبسا لدى الكثير من القراء. و لأمر ما لم تقم السكرتارية بتدارك هذه الأخطاء و تقويمها فى حينها. كذلك قام مصحح الصحيفة بتغيير كلمة ( همبر ) و هى ماركة لسيارة بريطانية الصنع كانت الدولة تخصصها لقادة وحدات الحكومية في ستينات و سبعينات القرن الماضى. و كنت قد كتبت أن أدارة المديرية الشمالية كانت تخصص للمرحوم صالح محمد طاهر مدير الشرطة بالإنابة و مدير المديرية الأسبق عند زيارته لمدينة عطبرة سيارة ( همبر )، و لكن المصحح أطاح بحرف الباء فصارت الكلمة ( هَمَر ). و الهمر، بفتح الهاء و الميم، سيارة ضخمة تكاد تشبه دبابات القوات المسلحة، ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية في الولايات المتحدة، و تحتازها فى المدن الإمريكية زمرة محدودة للغاية من القطط السمان. ولم أكن أتصور أن مصحح ( الأحداث) قد سمع أساسا بهذا النوع من السيارات، حتى لفت إنتباهى صديق، عاد الى مينيسوتا لتوه من السودان، إلى أن سيارات الهَمَر تجوب شوارع الخرطوم، تماما كما تجوب شوارع سان فرانسيسكو و هيوستون و شيكاغو. فللسودان، كما لأمريكا، قططه السمان، و لا فرق بين قط و قط إلا بالتقوى، و كل الصيد فى جوف ( الهمر )! و مهما يكن من شئ فأن عطبرة الستينات و السبعينات عرفت سيارات الهمبر، ذات الباء الرابضة بين الميم و الراء، و كانت كما ذكرنا مخصصة للقادة التنفيذيين و العسكريين مثل المحافظ و قمندان البوليس و قائد سلاح المدفعية و حكيمباشى صحة المديرية. أما الذين يلون هؤلاء في المسئوليات الحكومية فكانت تخصص لهم سيارات، بريطانية الصنع، أصغر حجما، يُطلق عليها ( هِلمان ستين ). وهذا لعلم مصححنا الأكرم، لأننى أزمع العودة الى هذه السيارات و أنواعها عندما أعود فى وقت قريب أن شاء الله لمواصلة سلسلة ( سباحة حرة فى نهر عطبرة )، و أريد منه أن يترك سياراتى في حالها. و من الخير لنا أن نعود الآن الى المذكرات، و قد صرفتنا عن مدارها الصوارف، و حرفتنا عن مسارها الحوارف، و العود أحمد. و نعايش فى أوراق الفريق عبد الوهاب مواقف تاريخية عميقة الدلالة، شارك فيها بحكم وظيفته كضابط شرطة، ففى الأول من يناير من عام 1956 ، و هو يوم مائز في تاريخ الوطن، كان صاحبنا قد تلقى تكليفا تشرف به أيما شرف، إذ أختير ليكون مرافقا للإمام عبد الرحمن المهدى أثناء مراسم الإحتفال بإستقلال السودان. و قد إنفعل الإمام بالموقف إنفعالا شديدا فإجهش بالبكاء، الإمر الذى حمل مرافقه الضابط الصغير عبد الوهاب على مغادرة الحفل و العودة بالإمام الى سرايته. و خلال مسيرته في خدمة الشرطة نقف على تفصيلات شديدة الإهمية لأحداث لم تجد من يصوّب عليها ضوءا كافيا، و من ذلك ما نقرأ عن محاولة للإستيلاء على مدينة واو بكاملها قام بها الرقيب برنادينو ماوقير فى العام ١٩٦٤. و يقول الفريق أن هذه المحاولة ( أوشكت أن تنجح ) لولا أن طلقة طائشة أصابت الرقيب الطموح فى قدمه و سهلت أمر القبض عليه. و قد إستنتجت مما قرأت أن هذه المحاولة الجريئة كانت عملا منفردا و لم تكن جزءاً من خطة لحرکة أوسع تحت رعاية منظمة أنيانيا التى كانت ضالعة في التمرد آنذاك. و كنت أود لو أن الفريق توسع بعض الشئ فأفادنا – و هو الذى تولى التحقيق مع الرقيب برنادينو و رفقته من المتآمرين – عن حقيقة أهداف الرجل و تصوره لكيفية إدارة مدينة واو فى حال نجاح خطته للاستيلاء عليها. و بين فترة عمل عبد الوهاب في الجنوب و إنتقاله للعمل بالعاصمة أحداث و روايات عديدة جاذبة للانتباه، و لكن قضية واحدة يصفها صاحبنا بأنها عبارة عن ( تصفية حسابات ) شغلت عقلى لبعض الوقت. فبعد ثورة اكتوبر 1964 تم تعيين كلمنت أمبورو وزيرا للداخلية، وكان من أول قرارات الوزير الجديد إبعاد مساعد مدير البوليس السر محمد أحمد من موقعه و نقله الى وزارة المواصلات. و فى تفسير هذا القرار يشير عبد الوهاب الى حادثة بطلاها الوزير كلمنت امبورو و الضابط المعزول السر محمد أحمد، عندما عملا جنبا الى جنب فى المديرية الإستوائية، الأول مساعدا لمدير المديرية و الثانى قمندانا للبوليس. و كان قد صدر أمر من مدير المديرية للقمندان بالتحقيق مع كلمنت أمبورو فى بلاغ فتحته ضده زوجته، وكان من نتيجة التحقيق أن تمت معاقبة كلمنت امبورو بتخفيض رتبته. و أستنتاجنا، الذى هو من جنس إستنتاج الفريق عبد الوهاب، هو أن الوزير أمبورو لم يستطع، حتى بعد تقلده الوزارة، تجاوز مرارات الماضى و التعالى عليها! ثم نجد بعد ذلك الكثير المثير خلال فترة توليه مهام حكمدار مدينة أم درمان فى أواخر العام ١٩٦٥. فالعداء و الشحناء بين القيادات السياسية خلال عهد الديمقراطية الثانية ينعكس بصورة أو بأخرى على الأداء الأمنى. و مثال ذلك أن يقوم رجال الأنصار و الختمية معا بإطفاء مصابيح سرادقى الطائفتين فى وقت متزامن، مما يؤدى الى أظلام مناطق واسعة من ساحة المولد النبوى الشريف عند لحظة دخول الرئيس أسماعيل الأزهرى مكان المولد في ميدان الخليفة، واللحظات الصعبة و الحرجة التى يواجهها، نتيجة لهذه الممارسات و مثيلاتها، بصفته الحكمدار المسئول عن الأمن. من أعقد المواقف التى مرت على الفريق عبد الوهاب أثناء توليه حكمدارية شرطة أم درمان، و أكثرها حساسية، كانت عندما قام المحامى كمال الدين عباس برفع دعوى قضائية ضد وزير الداخلية السيد أحمد المهدى متهما إياه بأنه ضربه بعصا على رأسه خلال اجتماع حزبى. وقد سلم قاضى ام درمان عبد الرحمن التوم للحكمدار عبد الوهاب أمرا قضائيا بالقبض على وزير الداخلية. و تقول المذكرات أن الحكمدار عندما دخل سراى المهدى لتنفيذ الأمر تجاوب معه حفيد المهدى ووزير الداخلية فأقتيد الى مركز الشرطة حيث أخذت أقواله و صودرت منه العصا و أستبقيت كمعروضات. و لكن القضية تمت تسويتها بين أطرافها وديا بعد ذلك فزال الحرج الذى كان من شأنه أن يتسبب فيه تقديم وزير الداخلية الى المحاكمة. و من أكثر المشاهد تعبيرا عن أحترام قادة النظام السياسى الديمقراطى للقانون ما ترويه المذكرات عن القبض على الوزير محمد أحمد المرضى فى أعقاب حادث سير تسبب فيه بسبب إخفاقه في التوقف عند علامة مرور حمراء، ثم حضور رئيس الدولة أسماعيل الأزهرى و قيامه بنفسه بإستيفاء جميع أجراءات الضمان اللازمة قبل أطلاق سراح الوزير من حراسة الشرطة. و عند قيام أنقلاب 25 مايو 1969 تبدأ مرحلة جديدة فى حياة صاحبنا، و كان وقتها نائبا لمدير الأمن العام و لم تكن صلته بالرائد فاروق عثمان حمد الله، أول وزير للداخلية بعد الإنقلاب، خالية تماما من بعض التعقيدات. فقد كان فاروق، بعد فصله من القوات المسلحة قبل الانقلاب، قد الحق بالعمل مساعدا لضابط بلدية أم درمان، حيث عهدت اليه مسئولية إزالة السكن العشوائى بمنطقة أم بدة، وكانت طبيعة عمله تقتضى التعامل مع عبد الوهاب الذى كان مسئولا عن الشرطة، و لم يكن فاروق فيما يبدو مرتاحا لطريقة تعامل عبد الوهاب معه. و قد تجلى ذلك – بعد تولى فاروق منصب وزير الداخلية - فى حديث دار بينه و بين و اللواء زيادة ساتى عبر فيه وزير الداخلية عن إعتقاده بأن (التعامل والتعاون مع عبد الوهاب صعب). و تستعرض المذكرات بعد ذلك – وبدرجة عالية من الشفافية – الصراعات التى دارت فى وزارة الداخلية بين محاور متباينة المواقف والرؤى، نتيجة لإستقدام الحكومة لبعض أعضاء الحزب الشيوعى السودانى للوزارة و إسناد مهام أمنية اليهم. قد كان موقف صاحبنا من هذه الصراعات واضحا منذ البداية فقد جاهر برأيه من أن كادرات الشرطة كادرات مهنية وطنية وليست حزبية، و أنها قوة نظامية لا يرأسها من لا ينتمى إليها. و فى أجتماع عام لضباط الشرطة أعترض عبد الوهاب على وجود كوادر حزبية. و قد كان من مؤدى هذه المواقف أن تم نقله الى ادارة الجوازات بناء على إيعاز من رجل الحزب الشيوعى القوى داخل الوزارة محمد أحمد سليمان. و بخلاف توقعات الكثير من زملائه فإنه استمر في العمل و لم يتم فصله و يعزى عبد الوهاب ذلك لشخصية الرائد فاروق عثمان حمد الله الذى يصفه بأنه كان شخصا (مرنا و معقولا و يتفهم الرأى الآخر). و تتناول المذكرات بشئ من التفصيل الإتهامات التى طالت عبد الوهاب من قبل بعض تيارات و شخصيات المعارضة السياسية للنظام المايوى، والتى وصفته بأنه كان من أشد معارضى المصالحة الوطنية التى عقدها الرئيس جعفر نميرى مع تنظيم الجبهة الوطنية خلال عامى 1977-1978، و هو ما ينفيه صاحبنا كما سيرد. و الذين أطلعوا على الوثائق الإعلامية لتلك الفترة لا بد أنهم لاحظوا قسوة و ضراوة الهجوم الذى دأبت على توجيهه للفريق عبد الوهاب، سواء بصفته الشخصية أو بصفتيه الرسميتين كوزير للداخلية و رئيس لجهاز الأمن، مجلة ( الصباح الجديد ) التى كانت تصدر من لندن خلال السبعينات ناطقة بلسان تيار متميز فى المعارضة قاده الراحل الشريف حسين الهندى، و كان يرأس تحريرها المغفور له حسين عثمان منصور. و من ثوابت ماكيت تلك المجلة صورة دائمة، كانت تظهر فى كل عدد من أعدادها، للفريق عبد الوهاب يغطيها خطان متقاطعان فى شكل علامة ( خطأ ) و تحتها عبارة واحدة لا تتغير وهى: ( عبد الوهاب إبراهيم وزير الداخلية الفاشيستى المغرور)! و لا غرو أن عبد الوهاب كان فى طليعة المستهدفين يوم دخلت الخرطوم طلائع قوات الغزو فى يوليو 1976، و لم يتنبه قادة الغزو و منفذيه أن الرجل كان يومها خارج البلاد، فجهدوا فى تعقب مظانه داخل الخرطوم دون جدوى، ثم وقعوا على شخص أسمه عبد الوهاب إبراهيم سليمان، كان يعمل مهندسا بجامعة الخرطوم، فأقتحموا داره و ألقوا عليه القبض. وقضى المهندس فى الأسر ساعات عصيبة حتى تمكن من أثبات أنه ليس رئيس جهاز الأمن ووزير الداخلية. و قد آثر هذا الرجل أن يُبقى على وقائع المحنة التى تعرض لها سرا مطويا لعهد طويل، غير أننى إستأذنت فى نشرها إبنة شقيقته، صديقتنا الدكتورة نهلة عبد المنعم عباس، أختصاصية الأطفال فى إحدى مستشفيات بريطانيا. و كان بعض قادة المعارضة الذين آبوا الى السودان بعد المصالحة قد أدلوا بتصريحات وفيرة منشورة تصف الفريق عبد الوهاب بأنه يشكل مركزا من أقوى مراكز القوى عداءً للمصالحة. و فى معرض الرد على هذه الدعاوى يقول عبد الوهاب أن نظام مايو لم يعرف مركز قوة بخلاف جعفر نميرى. ثم يؤكد أنه لم يضمر العداء للمصالحة و عناصرها، كما ردد هؤلاء بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير. غير أن القارئ يلمس، بعض مشاعر الرجل الحقيقية من سطور متناثرة هنا و هناك فى أوراق المذكرات. و قد خلصت من جانبى الى نتيجة عمودها أن الفريق لم يكن فى خويصة نفسه راضيا عن المصالحة. و لكن ذلك لم يكن لسبب يتصل بنظرة سالبة لقيادات و عناصر الجبهة الوطنية أو تشكك فى جدوى المصالحة و نتائجها، و أنما كان الدافع الرئيس يتخلق من واقع رؤية أمنية استراتيجية احترافية. و هو أمر يتجلى فى أوضح صوره عندما نتأمل وقائع أجتماع لمجلس الأمن القومى تساءل فيه الفريق عبد الوهاب عن سبب إبعاد الحزب الشيوعى السودانى من المصالحة، وقد ورد على لسان الفريق: ( إنها لو كانت مصالحة وطنية حقا فإنها يجب أن تضم كل المعارضين ). و قد كان رد فعل جعفر نميرى فى مواجهة هذا الحديث هو الغضب العارم و مغادرة مكان الإجتماع. و يتضح من ذلك جليا أن صاحبنا كان يعتقد أن إطلاق سراح الإسلاميين و عناصر الأحزاب التقليدية من السجون و إدغامهم فى برنامج مصالحة قومية يتضمن إشراك هذه القوى في السلطة، ينبغى أن يوازيه من المنظور الأمنى الإستراتيجى معاملة بالمثل للتيار اليسارى المضاد و المعارض المتمثل فى الحزب الشيوعى و كوادره التى كانت موزعة بين السجون و المنافى. و لكن المصالحة الوطنية لم تأت من فراغ، والواقع أن حركة الغزو العسكرى المسلح، الذى شهدته البلاد فى الثانى من يونيو 1976، والنجاح النسبى الذى حققته فى السيطرة على العاصمة لبعض الوقت كان لها القدح المعلى فى بلورة قناعة الرئيس نميرى بضروة التوصل الى حل سلمى تصالحى مع الجبهة. و قد يصح السؤال هنا: كيف ولماذا نجحت الجبهة فى تنظيم و شن ذلك الهجوم المروع على العاصمة؟ و ما هو تفسير الفريق عبد الوهاب الذى كان المسئول الأول عن الأمن العام في البلاد لذلك؟ نجد عند الرجل معلومة ساطعة تتصل بعملية الغزو وقفت عليها للمرة الأولى و أنا أطالع المذكرات، و جوهر المعلومة هو أن جهاز الأمن العام كان على علم شبه تفصيلى بمخطط غزو العاصمة، فقد تقدم الى السلطات المواطن حامد الناير، الذى يملك و يدير ورشة حدادة بالخرطوم، بمعلومات مفادها أن بعض عناصر الجبهة الوطنية كلفته شخصيا بمهمة تأجير و تجهيز منازل لإستقبال مقاتلين سيشاركون فى عملية غزو مسلح للعاصمة فى موعد قريب، و ذلك فضلا عن تفصيلات أخرى تتعلق بهذا التدبيرات. و بطبيعة الحال فأن التساؤل المنطقى الذى يتولد عن كل هذا هو: لماذا أذن نجحت قوات الجبهة الوطنية فى اختراق العاصمة بقيادة العميد محمد نور سعد طالما أن خططها و نواياها كانت مكشوفة للحكومة و جهاز أمنها العام؟ و الإجابة التى نستشفها من إفادات الفريق عبد الوهاب هو أنه برغم كل المجهودات التى يقوم بها جهاز الأمن فإن الدفاع عن العاصمة يظل مسئولية أصيلة للقوات المسلحة، غير أن الإستخبارات العسكرية – لسؤء الحظ أو لحُسنه، بحسب موقع القارئ من النزاع - لم تأخذ مأخذ الجد المعلومات التى تقدم بها المواطن حامد الناير و أستهانت بها، و قد شاءت أقدار الله أن يكون قائد الاستخبارات العسكرية العميد محمد يحى منور من أول القتلى غداة الغزو. تغمده الله برحمته. و هناك مواقف عديدة تبعث على التأمل حول طبيعة العمل الأمنى والتخابرى الذى أشرف عليه صاحبنا سنوات طويلة. فقبل عملية الغزو المسلح فى يونيو 1976 مباشرة كان الدكتور حسن الترابى قد كتب مذكرة مستفيضة ناقش فيها نشاط و فاعلية الجبهة الوطنية و تضمنت المذكرة نقدا عنيفا لحزبى الأمة و الإتحادى الديمقراطى. وبرغم أن المذكرة كانت على درجة عالية من السرية بطبيعة الحال فإن نسخة منها أنتهت الى حوزة جهاز الأمن العام بعد ساعات من كتابتها. و بعد الإطلاع على محتوياتها قام الجهاز بتسريبها الى قادة و كادرات حزبى الأمة و الاتحادى بعد أن قدّر أن مثل هذا التسريب سيؤدى الى إحداث شرخ بين هؤلاء و حليفهم الترابى. و بعد سنوات بعث الترابى – الذى لم يستطع نسيان هذه الواقعة - بصديق مشترك، هو الدكتور مبارك على كرار أبو الزينة، عميد كلية الصيدلة الأسبق، الى الفريق عبد الوهاب ملتمسا أن يُنبئه بالوسيلة التى حصل بها الأمن على تلك المذكرة. و لم يقم صاحبنا بتقديم إجابة محددة فى حينها، و أكتفى بالقول أنه ( لا جدوى من جهاز أمن لا يخترق التنظيمات المعارضة ). غير أنه يقدم فى الكتاب إجابة مباشرة، لا لفّ فيها و لا دوران، و هى أن أحد أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين سلم المذكرة لجهاز الأمن بدون مقابل مادى. ثم يضيف ( و مثل هذا كثير فى مختلف الإتجاهات السياسية )! أما على مستوى العمل الإستخبارى المضاد، أو ما يُعرف بالاستخبارات المضادة، فأن و احدة من النماذج اللافتة التى سلط عليها الفريق ضوءا كثيفا هى واقعة ضبط واعتقال ثم أطلاق سراح عميل للمخابرات السوفيتية كان يعمل تحت صفة دبلوماسية عام 1975 بالخرطوم. و قد تمت عملية المداهمة و الإعتقال فى بار إسكرابيه بالخرطوم بينما كان الدبلوماسى الاستخبارى مستغرقا فى مهمة تجسسية مع مصدر سودانى ويقوم بتسليمه مبلغا ماليا، و لم يكن العميل الروسى يعلم أن شخصية المصدر كان يتقمصها المرحوم الضابط الرشيد مكى من جهاز الأمن العام. و بالرغم من أن المذكرات يغلب عليها طابع الجدية الشديدة فأنها لا تخلو من مشاهد و مواقف غاية في الطرافة. ومن ذلك موقف المهندس صديق يوسف إبراهيم النور، الذى كان فى زمن مضى كادرا شيوعيا نشطا. و عند إستدعائه فى إحدى المرات الى جهاز الأمن لاستجوابه فى أمور تتصل بنشاطه الحزبى سأله المحقق عن عضويته فى الحزب الشيوعى فأكدها، ثم سأله عن كيفية تجنيده و دخوله فى الحزب، فلم يتردد الرجل و لم يطرف له جفن، و أجاب بكل ثقة: ( الذى جندنى لعضوية الحزب الشيوعى هو عبد الوهاب إبراهيم سليمان )، و هى إفادة غير صحيحة. ولكن الضابط المحقق أرتج عليه و هرول منزعجا مضطربا الى رئيس جهاز الأمن، الذى هدّأ من روعه و ووجهه بمواصلة التحقيق و تسجيل كل إفادات المحقق معه طالما كانت هى أقواله!
                  

10-29-2012, 07:45 PM

محمد عمر جبريل
<aمحمد عمر جبريل
تاريخ التسجيل: 08-27-2009
مجموع المشاركات: 2263

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين (Re: omer osman)

    عمر عثمان يا ابن أم ...
    أحسن الله عزاكم وربنا يتقبل الوالد ويسكنه فسيح جناته
    ويغسله من الخطايا كما يغسل الثوب من الدرن ...

    كنت خارج السودان عندما حدثت الوفاة .. وأقسم بالله لم أتمكن حتى من الحصول على رقم هاتفك

    أعذرني أخي ..
    فلم أستطع القيام بالواجب ..

    ____

    أشعر بالخجل وأنا أكتب هذه المداخلة
                  

10-30-2012, 04:45 AM

omer osman
<aomer osman
تاريخ التسجيل: 06-09-2007
مجموع المشاركات: 15218

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين (Re: محمد عمر جبريل)

    Quote: عمر عثمان يا ابن أم ...
    أحسن الله عزاكم وربنا يتقبل الوالد ويسكنه فسيح جناته
    ويغسله من الخطايا كما يغسل الثوب من الدرن ...

    كنت خارج السودان عندما حدثت الوفاة .. وأقسم بالله لم أتمكن حتى من الحصول على رقم هاتفك

    أعذرني أخي ..
    فلم أستطع القيام بالواجب ..

    ____

    أشعر بالخجل وأنا أكتب هذه المداخلة



    هلا يا محمد عمر ... وكل عام وانت بخير

    ياااخ مافي اى خجل ولا تقصير والناس ظروف ...

    وربنا يرحم الوالد ويسكنه فسيح جناته ...

                  

10-29-2012, 11:12 PM

عبد الحكم ابراهيم الحاج
<aعبد الحكم ابراهيم الحاج
تاريخ التسجيل: 10-22-2012
مجموع المشاركات: 278

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين (Re: omer osman)

    اها الشافع جاب لى البنبر وقاعد متحكر
    - جنابو العسعس الزمان وعسعسس اليوم شتان بين هذا وذاك
    - واصل يا اخوى
    رحم الله الوالد
    وكل سنة وانت طيب يا حبيب
                  

10-30-2012, 04:49 AM

omer osman
<aomer osman
تاريخ التسجيل: 06-09-2007
مجموع المشاركات: 15218

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مطالعة فى طروس كبير العسس و البصّاصين (Re: عبد الحكم ابراهيم الحاج)

    Quote: اها الشافع جاب لى البنبر وقاعد متحكر
    - جنابو العسعس الزمان وعسعسس اليوم شتان بين هذا وذاك
    - واصل يا اخوى
    رحم الله الوالد
    وكل سنة وانت طيب يا حبيب


    حبابك عبدالحكم وكل عام وانت بخير ....

    شتان الهينة دي ... ثم ضاع الامس منا وانطوت في القلب حسرة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de