|
خطيئتي الكُبرى !
|
خطيئتي الكُبرى ! شاذلي جعفر شقَّاق
رائحةُ البلاط ِالُمعقَّم بالديتول .. الأضواءُ التي تعزِّز من موقفِ البَياضِ الناصع ..الظلال العملاقة كعفاريت مخمورين تتسلَّق الجُدُر لتحتلَّ مساحةً مقدَّرةً من الأسْقُف .. الغشاوةُ التي تلوح كبرْقٍ في أفْقِ الرؤية ثم لا تلبث أنْ تنجلي .. أصوات نسائيةٍ ورجالية تتقاطع .. تتمازج .. تتناسل كيفما اتَّفق لتولِّدَ غمغماتٍ مشوَّهة ، فيها قرقعةُ مأدُبة شيطانية تنبعث من وادٍ سحيق ..فيها هديرُ ليلةِ ذكْر ٍفي أعقاب ليلٍ ساجٍ ..غليان مِرجَل ..أزيز عربة تئنُّ في أوحالها ..جعجعة طواحين ..صرير مروحة متهالكة .. طنين مملكة نحل في وضعية الدفاع عن خليَّتِها ..طقطقة أريكة عجلى تلقفُ كلَّ هذه الأصواتَ لتجعلَ عَيْنَيْ (هُدى) الناعستين أصلاً نصفَ مفتوحتين على ناصيةِ نصفِ ابتسامة وميدان صمتٍ فسيحٍ وفصيح ، تظلِّله نظرةٌ حانيةٌ من خلف عدسةٍ وقورة يدعمها الرجلُ الأصلعُ بتربيتةٍ خفيفةٍ على ذراع (هدى) المستلقية على ظهرها ليقول : (يُمكنكِ أن تستريحي هنا قليلاً يا مدام ) ! مدام ؟ يا إلهي .. إذن هذه هي الكلمة التي أخرجتْ (هدى) من غيبوبتِها أو إغمائتها ..هذه هي اللحظة التي أفاقتْ فيها فعلاً وإن ظنَّ أهل الاختصاص غير ذلك ! الهدوءُ الذي يعقب عاصفةَ الصدمة الأولى يُنصِّبُ السكونَ الجسديَّ أميراً يستنفر سائرَ الحواس التي ستعمل بجِدِّ مَنْ كان في أجازة ! تُعاودُ الأصواتُ من داخل صالة الطوارئ ، ولكن هذه المرَّة بصورةٍ واضحة : الفرحةُ يُمكن أن تفعل أكثر من ذلك ..هه ..أين زوجُها ؟ ..بَرِي !! ..لا أثر للحنَّاء أو دُخان الطَّلح على يديْها أو رجليها .. لا أرى (دبلة) في بنصر يُسراها .. هاهاهاي ، ولا يُمناها حتى ! ..استغفر الله العظيم ! يعبُر أمامها الرجل الذي لم تُعْيِهِ مطاردةُ هرمون (البروجسْترون)في بوْلِها ، بل لم يكلِّفْه إثبات وجوده أكثر من نصف ساعة قبل أن يقول لها وقد كانت واقفةً على رجليها وقتها: مبروك يا مدام ..بوستف! تلتقي عيناه بعيْنيها ، تغضُّ طرْفاً ذليلاً خاسئا وكسيرا ! لا بدَّ أن أغادرَ هذا المكان المُميت بأسرع ما يُمكن أو لا يمكن ..ساتحيَّن الفرصةَ المُلائمة ..سانسحب دونما ضوضاء كما انسحب الولد (مُودي) أين أنتَ يا (مودي) ؟ ليتكَ بجانبي الآن ! أين أنتَ يا عشقي المجنون ..يا دليليَ الحائر .. ويا محجَّتي العنقاء ..يا هُداي ويا غوايتي .أين أنت يا هوْدجي العُريان ويا مطيَّتي العرجاء ؟ يا سَلْسلي النمير ويا سرابي الظمآن ..أين أنتَ يا بعضَ إيماني ويا خطيئتي الكُبرى ؟! تُرى هل انشقَّت الأرضُ وبلعتك يا (مودي) أم تبخَّرتَ مع الهــواء ؟!أنا لازلتُ أذكر صوتَكَ الدافئ وأنت تحدّثني عن رباطةِ الجأش ومواجهة المصير وكُفْركَ المُبين بمنهج النَّعام ..ووعدك القاطع أنْ لو لو تزحْزح الجبلُ الأصمُّ لما تقهقرتَ عني قيدَ أنْمُلة .. وكيف أنَّك أتبعتَ القولَ العملَ – كما قلتَ – وأنت تغرس في يدي- ذاك الأصيل – شريطاً لأغرسه – بدوري – في بولِ الصباح ، وعلى ضوء نتيجته نواجه مصيرنا ،ولكن الشريط اللعين يا (مودي ) لم يَبِنْ عن شئٍ ، إمَّا لجهلٍ أو لخوفٍ أو كليهما معاً ! وكيف أنِّي دسسْتُ في يدكَ – ذاك الضُحى – عينةَ (بوْل) أُخرى فصدَّتْك إدارةُ المختبر مشفوعاً بالتقريع والتوبيخ !ما هذا ؟ منذ متى وأنت تحمل هذا الشئ؟ بل أين صاحبة الشأن ؟ أين أنت أيُّها الهاربُ مني رغم أنَّك تُقيم في أحشائي ! الله ..ثمَّة جلَبة قُربَ المعمل ..يبدو أنَّ هناك حالةً أٌُخرى مثل حالتي انصرفتْ ناحيتها أنظار الفضوليين من المرضى والمرافقين وطاقم الطوارئ . تخرج (هُدى) من المستشفى كالشعرة من العجين ، ولكن هل ستخرج من محنتها وعارِها الوشيك الانتشار كما خرجت من المستشفى ؟تترك لخُطاها أمرَ الوُجهة ..تعاود الاتصال بـ (مودي) ..تجعل معاودة الاتصال آلية ..يصمت الهاتف بُرهةً .. يا ربّ ياربّ ..وهي تتوقَّع ردَّ المُجيب الآلي : عفواً هذا المشترِك لا يُمكن الوصول إليه حالياً ! ولكن يأتي صوته هذه المرَّة على غير العادة : خطأ في الاتصال ، هذا الرقم غير موجود في سجِّلاتنا ! تمزِّق نتيجة الفحص بعصبيَّة لا بُدَّ أنها بائنة ..تسير دون هُدىً وفي خاطرها سيناريو زميلتها (رحمة) التي آلتْ قيمةُ حاسوبها وهاتفها المحمولَيْن وخاتَم ٍ لأُمِّها - كانت تضعه في إصبعها- إلى قابلةٍ عجوزٍ شمطاءَ في أقصى الطرف الغربي للعاصمة الوطنية ذات محْنةٍ مشابهة ، ولم تفعل القابلةُ بالمقابلِ شئياً سوى أنْ قضتْ على رحم المسكينة (رحمة) ، بل كادت أن تودي بحياتها عندما حشرتْ في عُنق رحمها سيْراً من كرسي بلاستيك قديم ومهترئ! هذا فضلاً عن تفجير الفضيحة ببيِّنةٍ مكتملة الأركان ! الأمر الذي حدا بـ (رحمة) أن تقذف بنفسها في النهر من فوق سور الكُبرِي القديم، ولكن لكي تظلَّ عالقةً في براثن عارها حتى الآن ؛ فقد أخرجوها كمن يخرج من حوض سباحة لتدريب الأطفال ! أين أنتَ يا (مودي) ؟ تلك كانت لازمة شفتي (هدى) التي تحدِّق في وجوه العابرين دون أن ترى أحداً .. دون أن تعي شيئاً !ولم تكن المسكينة تدري أنها قُربَ مشرحة مستشفى الخرطوم وهي تعبر شارع السيد عبد الرحمن قبل أن تأتي عربةٌ مجنونةٌ وتدهسها في حين لا يزال المُجيب الآلي الأرعن يردِّد : خطأٌ في الاتصال ، هذا الرقم غير موجود في سجِّلاتنا !!
* نُشر بالوفاق اليوم الخميس 11/10/2012م
|
|
|
|
|
|