|
تداعيات ـ اللافتــة
|
تداعيات ــــــــــ يحيي فضل الله ـــــــــــــ اللافتــة ــــــــــــــ
صباح لا يراهن إلا على التعاسة ، هكذا كان هذا الصباح بخطوات تحاول أن تجد لها مبرراً من الذهاب في الاتجاه الذي سجنه الملل وافقده التكرار معنى أن يتجدد ، بهذه الخطوات المرغمة جداً على فعل متكرر خرج " يوسف " من المنزل متجهاً إلي حيث يعمل ، على شارع متسع وفي ركن يتميز بحسن تجاري يوجد كشك الجرائد الذي يديره شراكه مع صديق قديم لم يفعل شيئاً سوى أنه تخلى عن جزء من ماله كي يكون " يوسف " سجيناً مثالياً لهذا الكشك الذي أعلن عن نفسه بلافتة متواضعة تقول " مكتبة الأمل " . اكثر ما يغيظ يوسف هو اختياره هذا الاسم .
عادة ما يضحك " يوسف " ضحكة مكتومة كل صباح حين يفتح الكشك وتلقائياً تقع نظراته على هذه اللافتة ، يضحك تلك الضحكة المكتومة لانه يتذوق بلسانه حروف كلمة "الأمل" بينما تتذوق دواخله اليائسة تناقضها مع هذا المعنى المشرق ، يفكر " يوسف " في أنه ستتبدل كلمة " الأمل " بكلمة أخرى تعمل على الأقل على نفي هذا العكس وتذوقه الداخلي لمعنى النقيض .
لم ينس " يوسف " أن يضحك ضحكته المكتومة تلك وهو يفتح باب الكشك هذا الصباح ، ألقى نظرة عميقة على اللافتة الجديدة التي تقع في زاوية من زوايا الكشك بالداخل ، رتب بعض الترتيبات ، نفض الغبار ، رفع باب الكشك . وثبت عليه القوائم بحيث تسلل الضوء إلي الداخل ، أعاد مرة أخرى نفض الغبار تلك العملية التي فعلها من قبل كعملية سابقة لأوانها مستسلماً إلى مهمته الصباحية المعتادة ، رفع اللافتة الجديدة ونظر إليها ملياً وكأنه يتحسس خروجه المنفلت من سجن ذلك المعنى ، معنى الأمل الذي فقد الرغبة في أن يتالف معه ، ارتاحت نظراته على اللون الأخضر الذى سيطر على اللافتة الجديدة ، أشعل سيجارة " برنجي " اشتراها بـ "150" جنيهاً ، إنها سيجارته الوحيدة خلال اليوم وهذا ليس اقتناعاً بتلك الحكمة الصحية التي تقول أن التدخين ضار جداً بالصحة ولكن لأسباب تتعلق بضيق ذات اليد ، تلك التي فقدت مساماتها روح الاحتفاء بالحياة ، هكذا تخلص " يوسف " من إدمانه الممتع للتدخين واكتفى بسيجارته الصباحية المكلفة جداً ، ومن بين فتحة أنفه يخرج دخان " البر نجي " متمهلاً حذراً من مغبة أن تضيع منه متعته المختزلة كلها في سيجارة واحدة فقط
في اليوم ، عادة ما يحس " يوسف " حين يطفئ هذه السيجارة أنه سيواجه صداعه الخاص بالحرمان حتى يأتي صباح جديد بسيجارة جديدة .
زحمة قراء الصحف الرياضية على باب الكشك ، عادة ما تتواري الصحف السياسية خجلاً أمام الصحف الرياضية خاصة حين يكون الدوري في حرارة التنافس
· " أخبار الرياضة لو سمحت "
· " الشبكة من فضلك "
· " احجز لي نجوم الرياضة بمر عليك بعدين "
· " حوار كاريكا نزل لو سمحت "
زحمة لا تفعل في دواخله سوى الغثيان ولا يملك إزائها إلا وضع ابتسامة زائفة على فمه لزوم مواجهة " الزبائن "، من بين زحمة هذا الصباح لمحه " يوسف " بزيه الكاكي على كتفيه علامة تعلن عن رتبة " صول " في البوليس ، وجه وقور تدل ملامحه على تجاوزه الخمسين ، يقف بعيداً عن الزحمة بصرامة عسكرية معروفة ، حاول " يوسف " ان يخصه باحترام خاص :
· " أيوة يا حضرة الصول "
· " معليش يا بني مش الناس ديل "
· " ما في مشكلة ينتظروا "
· " أنا عايزك أنت "
ورجع " يوسف " إلي زحمة الطلبيات بينما ازدحم عقله بالتساؤلات تلك التي تحاول ان تفسر أن يقف صول في البوليس ويطلب شخصاً بعينه وسط زحمة المشترين في هذا الصباح وان يكون هو ذلك الشخص ، كان يلبي طلبات الزبائن بالية مألوفة ذهنه يمارس شروده الذي يتحد مع الخوف من حالة كونه مطلوبا من البوليس ، تتقاطع أصوات المشترين مع تساؤلات " يوسف " الداخلية
· " النجوم لو سمحت "
· " يا ربي في مشكلة ولا شنوا ؟ "
· " خليك معاي بقولك الكورة "
· في زول اشتكاني للبوليس "
· يابني آدم بقولك الهدف تديني ألوان ؟ "
· " أكون عامل مشكلة وما عارف ؟ "
· " خفف يدك يا ابن العم نجوم الرياضة "
· " معقول بس ، بوليس عديل كدة "
· أنا ما عايز الأنباء ، أديني القون ، القون يا راجل "
· " منو الممكن يشتكيني للبوليس ؟ "
· " ما تفوتني يا أخوي ، أي الكورة "
وتختلط الطلبات ويفقد يوسف " تركيزه والصول لا يزال يقف هناك محرضاً " يوسف على التساؤلات الداخلية التي أورثته هذا الشرود ، ينظر "يوسف " خلسة إلي وقفته العسكرية الصارمة ، ويلاحظ أن الصول يحمل في يده اليمنى ملفاً يعلن عن ضخامته فيزداد شعوره بالخوف من أن يكون ملفا للقضايا ، يحاول " يوسف " مرة أخري أن يخرج حضرة الصول من جمود هذا الانتظار المخيف .
· " طلباتك يا حضرة الصول "
· " معليش عايزك براك "
وتضج دواخل " يوسف " بالخوف ويتصبب منه العرق ، ترتجف أصابعه وهو يناول الزبائن ما يريدون ، يستسلم لفكرة واحدة وهي أنه مطلوب للذهاب إلى القسم ، تعزيه رغبته في معرفة أسباب ذهابه إلي هناك . حين بدأت الزحمة
في التلاشي ، لم يبق أمام " يوسف " سوى ثلاثة أشخاص ، حاول يوسف الصول مرة أخرى كي يخرج عن هذا الانتظار المخيف .
· " وقفت كثير يا حضرة الصول "
· " ما في مشكلة ، أنا عايزك براك "
ألان لم يعد هناك أحد أمام الكشك ، نظر " يوسف " إلي حضرة الصول نظرة لم تستطع التخلص عن معان متعددة للخوف والتساؤلات ، اقترب الصول بهدوء نحو " يوسف " حاول أن يتكلم لاذ بصمت مريب لبرهة قليلة " يوسف " يتكثف الخوف في دواخله كنتيجة حتمية لهذا الصمت ، الصول ينظر إلى " يوسف " وتتراجع نظراته عنه بطريقة غريبة .
· " أبوة طلباتك يا حضرة الصول "
· " معليش يا أبني بس "
· " ما في مشكلة . عايز حاجة "
· " بس الحقيقة يا أبني أنا "
· " عايزني في القسم ولا حاجة "
· " لا أبدا .. بس لو سمحت يعني . لو ممكن بس .. أنا عايز .. معليش ب أنت عارف الظروف .. أنا يعني .. عايز ..
آسف للإزعاج يا ابني ، لكن .. أنا .. محتاج .. بس معليش أوع أكون أزعجتك ؟ "
· " ما في إزعاج أبدا ما في إزعاج "
· " شكرا يا أبني . الحقيقة أنا انقطعت وعايز لو ممكن يعني .. ألف جنيه "
· " جداً ما في مشكلة "
ببقية ارتجاف في اليدين ناول "يوسف " حضرة الصول ورقة من فئة الألف جنيه ، وتبدد ذلك الخوف الغريب ليحتل مكانه وبكثافة متناهية وممتدة ذلك الأسى
العميق ، نظر "يوسف " إلي حضرة الصول وهو يذهب متباعدا ويتلاشى في تقاطع ذلك الشارع البائس بؤس هذا الصباح ، طاقة غريبة تلك التي دفعت بـ يوسف كي ينزع تلك اللافتة التي تقول " مكتبة الأمل " وبطاقة أزيد وتقترب من الحماقة يعلق في مكانها لافتة تقول " مكتبة الشتات "
في صباح البوم التالي استطاع " يوسف " أن يتخلص من ضحكته تلك المكتومة وذلك حين مر به أحد الأصدقاء ، لاحظ الصديق اللافتة الجديدة وضحك بمتعة وصرخ في وجه " يوسف " بنفس تلك المتعة قائلاً :"-
* " شتات يا فردة "
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: تداعيات ـ اللافتــة (Re: Yahya Fadlalla)
|
الرائع دوما
الأستاذ يحيي فصل الله
لك التحية وانت تترجم معاناة السودان فى هذا الصياغ الدرامى
الشبق...
و اتنمي ان لا ننزع الا مل من قلوبنا ..ويوم بكرة جميل
وتأخر المخاض لا يعنى العقم...
ولك خالص ودى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: تداعيات ـ اللافتــة (Re: WALEED YASSIN)
|
الأستاذ الأخ يحي تحية صباحية كعادتك تنقل لنا صورة في قالب جميل صدقني : لقد عشت مع خوف صاحب الكشك و الصول يقف بملفه الضخم ثم عشت لحظات الحرج و الصول يطلب ألف جنيه من بين ( عزة نفسه ) و ( حاجته الملحة ) ،، قطبان يتجاذبان كل ( عزيز قوم ذل )
تسلم و دمت لنا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: تداعيات ـ اللافتــة (Re: Yahya Fadlalla)
|
تعرف يا يحيى الموقف من البوليس لا يخلو من رواسب الخوف والارهاب. دي مسألة أساسية و غير متغيرة حتى في المجتمعات الرأسمالية المتشدقة بأمن المواطن و..و.. قبل فترة أتصل بي البوليس الكندي وقالوا عايزين تبرع ولما كان بالتلفون فانتهزتها فرصة اتفاصح مع الراجل. قلت ليهو: ياخي انا بكره البوليس. انت عارف البوليس عمل فينا شنو؟ وحكيت له حكاوي كتيرة من مطاردته لنا أيام المراهقة عند شاطئ النيل الى اقتحاماته لبيوتنا أيام الانتفاضات الى أيام الطوارئ 1984 ارتاح الرجل وكف عن الحاحه علي التبرع عندما علم أنني أتحدث عن بوليس السودان وليس بوليس كندا!!!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: تداعيات ـ اللافتــة (Re: mustafa mudathir)
|
الاخ وليد ياسين اشكرك علي المتابعة والتعليق مع كثيف الود والتقدير ــــــــــــــــــــــــــــ الاخ ابوجهينه شكرا ، ولك كثيف ودي وتقديري ـــــــــــــــــــــــــــــ الاخ عمر الماحي اشهر سعادتي بتواصلك مع التداعيات عارم التحايا وحميم الود والاحترام ــــــــــــــــــــــــــــــــ الاخت الصديقة الجندرية دافق التحايا و الاشواق وشكرا علي طلتك المرمزة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاخ ودشندي يا عمدة ، حماد منو؟ هل تقصد حماد ود امبكول القبلوهو في البوليس نفر والذي قتله بص شمبات كماحكي ذلك شعريا عمنا الشاعر عوض فضيل والراديو بعد الكافنيول يعلن عن الجثة يقول زول بي شنب و حواجبو مفصدة وفي الجيب خمستاشر قرش و حجاب عشان عين العدو و لاحماد الكالو رماد ؟ ارجو ان تحكي لي عن هذا الحماد شكرا يا عمدة ، مع عارم الاشواق والمودة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ صديقي مصطفي مدثر و ها قد تشابه علينا البوليس يا صديقي مع مراعاة فروق الفوبيا و الهواجس و ما يتماهي من حنين اشتاق لتسكع معك علي شوارع اتاوا و قد تحررت الان انهارها من عقالها الجليدي تحياتي لمني والعيال السيف والنار يا مصطفي
| |
|
|
|
|
|
|
|