|
من لنا في مصابنا الجلل؟
|
حاولت الكتابة مرارا قبل هذه اللحظة ولكن تأبت علي الحروف واستعصى الكلم. كان لابد أن أبحث عن تماسك يسمح للمفردة بالمجئ، ولكن التماسك في مثل مصابنا ترف تحول دونه خطوب. استجديت هذا التماسك من رفاق و أصدقاء كثر ما عرفوا البخل يوما، ولكن فاقد الشئ لا يعطيه. لم أكن أتوقع بأنني سأعيش لأنعى الحبيب الخاتم، لذا لا أدري من أين أبدا ولا ماذا سأقول. عذرا إن جاء حديثي فقيرا و أقصر قامة، فقامة الفقيد لا تطولها المفردات ولا تدانيها أحرف كل قواميس الدنيا. يكفي أنه غادرنا فعلمنا أن الفراق هو أولى محطات الحنين، تاركا في الحلق غصة وفي الفؤاد فراغ لن يملؤه أحد. وددت لو أنني أكتب كآخرين سعدوا بصحبته ردحا من الزمان، ولكنني ووا أسفي قصرت فترات تلاقينا وشتتنا المنافي. وهأنذا أكتب من مواقع الود الذي طاف به الفقيد أقطار الدنيا ولم يمل التطواف. يتملكني هلع المحب حين تدهمه الفواجع، و تتجاذبني نوازع الانكار و أحلام التلاقي المستحيل. كم وددت أن يكون بيننا ليعلم كم نوده ونهفو اليه. وكيف لانوده وهو الذي حين اختلفنا أدبنا بأدب الاختلاف، وأكد لنا معنى وممارسة أن الاختلاف لايفسد للود قضية. أليس هو الكبير الذي تعالى فوق الجراح وجحد ذوي القربى الممض، ولم تنتابه يوما نوازع الرغبة في الانتقام؟ ماكان أسهله السقوط في براثن الغضب والثورة للذات لمن هو في موضعه، ولكنه كان أكبر من كل ذلك و أعلي مراقيا في الانسانية.كان كبيرا بمحبته، شفيفا في مقاربته للالم، عفوا وهو القادر على المقارعة والايلام. كاتبته يوما لأقول بأنه أكبر من الجراح وافتئات قصار النظر، وأن المرارات سوف تمضي لشأنها حين يصفو الجو و تجري مياه غير المياه الآسنة فيستحيل نشاط من يصطادون في الماء العكر. كان بالنسبة لي ومازال وسيظل محطة هامة في تاريخ التطور الفكري لشعبنا و نموذجا للمثقف الموسوعي الحر، الذي طالما تواضع وهو الرفيع المستوى، و طالما أصاخ السمع لمشاغبات فاترة وضحلة فأحالها فكرا وهاجا تتلمسه حتى لكأنه كائنا يمشي على قدمين. كان خلاقا و مدركا لبديع الخلق ومثمنا لاجتراح الجديد الغني بالمعارف والافكار. ومن مواقع التماس المعرفي لا من مواقع المجاملة، عرف قدر ماقدمه الشهيد محمود وحقق مناط الاختلاف فلم يفته ود مدارس التنوير. من لنا في غيابه المجلل بكثافة الحضور، حين تدهمنا جحافل الجهل المتدثرة بالتراث، وهو كان فارسنا الذي يهشها عن حياضنا كما يهش موسي بعصاه على غنمه؟ من لنا حين يتنادى الركب للابحار عميقا في مياه معادية لاقتلاع درر التراث من براثن الأنبياء الكذبة ووضعها في أيادي من مازالوا يجوعون باسم ذاك التراث نفسه؟ من لنا حين ينمو طنين أدعياء المعرفة من أنصاف المثقفين؟ نم يا صديقي هانئا، فقد أديت رسالتك و أجزلت العطاء. ليتنا نستطيع أن نوفيك بعض حقك بتوثيق ماخلفت من أدب رفيع و معرفة سوف تقدرها أجيال قادمة أطول منا قامة وأكثر دراية. فأنا على ثقة من أنها سوف تنهضك لتنداح كما تنهض العنقاء من رمادها. وحتى ذلك الحين سوف تبقى فينا مابقيت الأنفاس، وعهدنا أن نواصل ما بدأت بجهد المقل.
د. أحمد عثمان
|
|
|
|
|
|