كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 11:53 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-01-2012, 11:04 PM

د. عمرو محمد عباس


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (6)

    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل على الرابط (1)
    كتاب الرؤية : من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (1)
    ‎كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (2)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (3)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (4)
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5) على الرابط
    كتاب الرؤية: من انتاج الفشل الى رؤية المستقبل (5)

    الفصل التاسع : الرؤية السادسة: رؤية تيار الدولة الدينية - من يباس الحركة الي انفراط الدولة

    روغان التسمية

    نشات في الاربعينات في بعض مؤرخيها وفي الخمسينات حسب ما اورد الترابي في كتابه (الحركة الاسلامية في السودان -التطور .. الكسب .. المنهج ) ولكن بلورة الافكار وتطور مناهجها ورؤاها السياسية، خاصة كيفية الوصول الي السلطة كانت من انتاج الترابي والقادة السياسيين المقربين منه تطويرا لدعوة الامام حسن البنا ودعوة ابو الاعلي المودودي وفي وقت لاحق الاستاذ سيد قطب.

    هناك تسميتان دارجتان فى الشارع السياسى: الاسلاموية وقد درج عليها الدكتور عبدالله جلاب استاذ الدراسات الافريقية في جامعة ولاية اريزونا الامريكية فى كتابة جمهورية الاسلامويين الاولى: تطور وتحلل الاسلاموية في السودان. وكما يرى مصطفي عبد العزيز البطل فان لفظة "الاسلاموية" لا اصل لها في اللغة العربية الا انها اصطلحت طريقها الي القاموس السياسي العربي بتدرج و تؤدة خلال العقدين الماضيين، ويظن الاستاذ مصطفي البطل ان الدكتور حيدر ابراهيم علي هو صاحب السهم الاوفر في توطين و توطيد ذلك المصطلح في لغة و بيئة الحوار الوطني في السودان فى كتابة ازمة الاسلام السياسي،١٩٩١. و يبدو للاستاذ مصطفي البطل ان لفظة الاسلاموية اطلقت تجاوزا في المبتدا ثم اصطلاحا باخِرة بغرض التفريق بين النهج الاسلامي العام المتعلق بالعقيدة من ناحية، والنهج السياسي الخاص القائم على اختيار ايديولوجية سياسية تقوم على فهم معين للاسلام من ناحية اخري، وقد استتبعت ذلك بالضرورة ظهور الحاجة الي التفرقة بين المسلمين من معتنقي العقيدة الاسلامية كديانة اجمالا، و المسلمين الناشطين في تيارات الاسلام السياسي، كجماعات الاخوان المسلمين، التي تدعو الي اقامة نظام سياسي اسلامي من منطلق رؤي و منظورات الجماعة او الحزب تخصيصا . (مصطفي عبد العزيز البطل: غربا باتجاه الشرق:عبدالله جلاب وجمهورية الاسلامويين)

    ويطرح الاستاذ امين حسن عمر ان استخدام مصطلح الحركة الاسلامية بالمعنى السياسي يشير الى الجماعة السياسية التي نشطت في الساحة السياسية باسم الاخوان المسلمين وجبهة الميثاق والجبهة الاسلامية القومية ثم حركة الانقاذ . ولكن يرى ان مصطلح الحركة الاسلامية بمعناه الاجتماعي اوسع من ذلك بكثير . فهو يشمل الجماعات الاسلامية التي تسعى من خلال المناهج التربوية او الفكرية او السلوكية لتحقيق الامتثال للتعاليم الاسلامية والالتزام بالاحكام الاسلامية . وقد ارتبط تاريخ الحركة الاسلامية من لدن تأسيسها بمشروع مناهضة الاستعمار ثم مناهضة التبعية وطرح خطة العودة للالتزام بالاسلام والاحتكام له طريقا للنهضة الحضارية الشاملة . (الاستاذ امين حسن عمر : مقاربة الانقاذ للمشروع الاسلامي واثرها على مستقبل الاسلام بالسودان: www.sudansite.net )

    ويميل د. حيدر ابراهيم لاستعمال وصف الاسلاموية، اما تيار الدولة الدينية فقد عرفها كحركة اجتماعية تعمل فى شكل مجموعات منظمة تنتسب للاسلام الاصيل – كما تقول – وتفترض امتلاكها نظرية شمولية ورؤية كاملة لكل جوانب الحياة الانسانية حسب المقولة الشائعة " الاسلام دين ودنيا ودولة" (د. حيدر ابراهيم: ازمة تيار الدولة الدينية، الجبهة الاسلامية القومية نموذجا، مركز الدراسات السودانية)

    عرف بشير نافع الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، الاسلام السياسي فى ورقة "الاسلام السياسي: ملاحظات حول الجذور وتعدد التعبيرات" حيث حصرها في المسعى الذي يقوم به الاسلاميون بطرق سلمية من اجل الوصول الى السلطة في بلدانهم. اما الباحثة بمجلس العلاقات الخارجية بواشنطن راشيل شنللر فقد اكدت بدورها في ورقتها "السياسات الاميركية تجاه الاسلام السياسي" على انه لا يوجد تعريف موحد عند الاميركيين للاسلام السياسي. واشارت الى ان الاسلام السياسي كما تفهمه وتعرفه وزارة الخارجية الاميركية هو "التشابك بين الدين والسياسة، بين المسجد والوزارة".( ندوة بحثية 23 – 24 من فبراير/شباط 2010 ،الدوحة تحت عنوان "الاسلام السياسي: خيارات وسياسات".)

    اصطك تيار الاخوان المسلمين السودانى ليطلق على نفسة ما اصطلح علي تسميته "الحركة الاسلامية السودانية" خاصة ما بعد انقلابها الناجح في يونيو 1989. ولكنها حملت تسميات متعددة لكل عصر فمن دمغها بحركة الاخوان المسلمين عند بداية ظهورها، الى جبهة الميثاق الاسلامى بقيادة الترابى بعد اكتوبر الى الاتجاة الاسلامى فى عهد مايو، الجبهة الاسلامية القومية بعد ابريل 1985 والمؤتمر الوطنى بعد حل الجبهة ثم انقسامها الى الوطنى والشعبى. لكن فى كل العصور سار عليهم لقب كيزان " يسمونا بالكيزان .. نعم نحن "الكيزان" لان الدين بحر ونحن كيزان نغرف منه...الدكتور حسن الترابي".

    هذا المقال سيدرج علي اسمائها التاريخية الحركة الاسلامية السودانية او تيار الدولة الدينية او الاتجاة الاسلامى بمعنى واحد حسب السياق. ولكن سيدرج الكاتب على استعمال اسم تيار الدولة الدينية باعتبارهم فصيل ايديولوجي ضمن فصائل قائمة على الاسلام مع قبول الاندراج فى قبول الليبرالية السياسية والدولة المدنية. يوضح الامام الصادق المهدى " المؤتمر الوطني صاحب هذه التجربة هو امتداد للجبهة الاسلامية في السودان وهي احدى تشرنقات حركات النخبة ذات المرجعية الاسلامية في السودان، وقد اطلقوا على انفسهم اسم «الحركة الاسلامية السودانية» ادعاءً محضا، ذلك ان الاسلام عريق في السودان سبقهم وعاصرتهم فيه كيانات اكثر جماهيرية وابلغ صلة بالاسلام من ناحية الاخلاص له ولرفعته". (الامام الصادق المهدى: ميزان المصير الوطنى فى السودان، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة 2010 )

    الجذور الفكرية للاخوان المسلمين

    من المهم ان نحاول الامساك ببعض المتغيرات التى صاحبت نشوء وتطور حركة الاخوان المسلمين منذ بداياتها فى منتصف الخمسينات لانها ستوضح لنا الاقتراب من سؤال من اين جاء هولاء؟ جاءت الحركة اساسا على نسق جماعة الاخوان المسلمين المصرية، لذا فاننا سنبدا بقراءة جذورها الفقهية، القانونية والفكرية من الاصول. صحيح ان الجماعة السودانية قد اختطت طريقها المستقل، خاصة بعد ثورة اكتوبر وتسلم الدكتور الترابى قيادتها، لكن الجذور التى انطلقت منها يمكن ان توضح لنا كثيرا من افاق تطورها فيما بعد.

    جاءت نشأة جماعة الاخوان المسلمين بقيادة الامام الراحل حسن البنا عام 1928فى ظروف غاية فى التعقيد. فقد انفجرت قبلها ثورة 1919 واستطاعت فرض الحياة البرلمانية ودستور 1923 الليبرالى، ولكن الخالى من اى توجهات للعدالة الاجتماعية، الغاء الخلافة الاسلامية فى تركيا كل هذا فى وطن يرزح تحت الاحتلال. وعندما نشأت الدعوة تاثرت بهذة المعطيات كافة من المناخ المنفتح، النزعات الصوفية المنتشرة والممارسة السياسية الديمقراطية. فقامت الدعوة فى بدئها كجماعة دعوية تنزع نحو التربية الثقافية والدينية للفرد والمجتمع، تؤمن بالديمقراطية وبشكل عام تميل نحو الاعتدال . " وقد إنحدر الإمام البنا من مدرسة فكرية ، تؤمن بأن نهضة الأمة الإسلامية، تبدأ بالتربية الأخلاقية، ومعرفة صحيح الدين، وهو تلميذ لرشيد رضا، الذى تتلمذ على يد الإمام محمد عبده، وكلنا يعلم أن الإمام محمد عبده، قد كانت له وجهة نظر، جعلته يختلف مع جمال الدين الأفغانى، ذو الفكر الجهادى، إذ كان الإمام محمد عبده، يؤمن بأن الإصلاح يبدأ بالتربية المجتمعية، وأن الجهاد يبدأ فى البيت والمدرسة، وقد كان قد أنشأ مجلة العروة الوثقى فى باريس. (المفكر الإسلامي جمال البنا : الأستاذ البنا كان ذا نزعة «صوفية» ... و «الإخوان» كانت أفضل ما يلائم المرحلة، الوسط – حاورة وسام السبع)

    " لعل كثيرين من الإخوان أنفسهم لا يعرفون أن حسن البنا كان أشعريًّا، والمذهب الأشعرى مغضوب عليه من السلفيين وينفرون منه ويخطِّئونه، بل ويحاربونه فى أقوالهم وخطبهم، فضلا عن أن كثيرا من أفراد وأعضاء الطرفين، الإخوان والسلفيين، لا يعرفونه أصلا (بالمناسبة الجامع الأزهر أشعرى المذهب رغم غزوات السلفيين والوهابيين له فى السنوات الأخيرة). ثم إن الإمام حسن البنا كان رجلا متصوفا، بل على الطريقة الحامدية الشاذلية (نسبة إلى القطب العلامة أبو الحسن الشاذلى) وقد حثّ البنا أعضاء الجماعة على قراءة الأوراد التى سماها المأثورات، والتى هى فى مجملها مقتبسة من أوراد الشيخ زروق -الشاذلى- كما كان يقرأ للإخوان فى الكتائب من «إحياء علوم الدين» للغزالى ومن حِكَم ابن عطاء الله السكندرى. (إبراهيم عيسى يكتب: الابتعاد عن حسن البنا! جريدة الدستور، Fri، 04/06/2012 - 11:41 ).

    كيف اذن تسرب العنف الى الجماعة " ظهرت في أواخر فترة الأربعينيات «بدعة» القمصان الخضراء والقصمان الزرقاء تقليداً للمجموعات التي كونها هتلر وموسوليني، الوفد عمل الشيء نفسه وكذلك مصر الفتاة، ولكنه (البنا) أنشأ «الجوالة» وهي عبارة عن المرحلة المتقدمة للكشافة، فكشافتنا بالفتيان الصغار وجوالتنا بالكبار، فأسس الجوالة وهو تنظيم رسمي معترف به ويقف ما بين الرياضة وما بين التنظيم العسكري إلى حد كبير، فانتشرت الجوالة. الذي أريد قوله إنه أخذ من هذه الجوالة النخبة وعمل منهم التنظيم الخاص، والذي كان له دوران، دور كان وقته بدأ وهو القتال في فلسطين ومقاومة الصهيونية ومقاومة إسرائيل، ودور ثان لم يشهده لأنه بدأ في سنة 51 وهو مجابهة الاحتلال البريطاني. النتيجة كانت فى انشاء خمسين ألف شعبة للإخوان فى مصر من الإسكندرية إلى أسوان انبثق منها الجهاز السرى العسكرى. (المفكر الإسلامي جمال البنا: مرجع سابق).

    مع تعرض الاخوان المسلمون فى مصر فى الخمسينات من القرن الفائت للقمع والحل والتصفيات وخفوت صوتهم، برز احد كوادر الاخوان المسلمين الباكستانيين ( ابو الاعلى المودودى) وفى ظروف نشوء باكستان كانسلاخ عن الهند ومحاولة عزلها عن التاثير الهندى، صاغ المودودى الحاكمية اى مصدر السلطة. ضمن المودودى فكرة الحاكمية فى كتابة المصطلحات الاربعة وعنى بها تكفير النظام القائم وتكفير حكامة والخروج علية وقتالة. وتبنى ابو الاعلي المودودى نموذج الدولة الشمولية التي يؤسسها افراد او جماعات ملتزمة بقيم الاسلام. (محمد حسنين هيكل: خريف الغضب: بداية ونهاية عصر السادات:مركز الاهرام للطباعة والنشر، مصر، 1988 ).

    تسربت هذة النظرية الى مصر بعد ان تبناها المغفور لة سيد قطب فى كتاب معالم فى الطريق ( كان هذا الكتاب من مقررات المدارس الثانوية فى السودان فى الستينات) فى ظروف تضييق سياسى وقمع. وتوصلت كتاباتة الى تقسيم العالم الى اسلام وجاهلية ولاسبيل الى التعايش، ان مجتمع الاسلام هو مجتمع العدل والحاكمية فية للة. ويرى سيد قطب ان هذا الامر تقوم بة الصفوة المؤمنة ولكنها فرض عين على كل مسلم و سلاحها الانقلاب على الطبقة الحاكمة. صاغ الشيخ الترابي هذة الحاكمية فى دستور1998 " المادة 4 : الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملا للامانة وعمارة للوطن وبسطا للعدل والحرية والشورى، وينظمها الدستور والقانون."

    " أحد أدلَّتى على ذلك هو ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوى نفسه عن نفسه والإخوان فى الحلقة الرابعة من مذكراته بعنوان «الاستعفاء من العمل التنظيمى فى الإخوان»، وهو ما يكشف عن التغييرات والتحولات التى خرجت بجماعة الإخوان من فكر حسن البنا ومنهجه وروحه إلى الاستغلاق والتزمت والتسلف المتشدد المنسحب من العصر. كتب الشيخ القرضاوى يقول نصا: «… فقد بدأت تدخل على الإخوان أفكار جديدة، بعضها من التيار السلفى الذى يغلب على كثير من المنتمين إليه: التشدد والحرفية، حتى أطلقت عليهم لقب (الظاهرية الجدد). على عكس منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، الذين يزعمون أنهم أئمتهم الذين يأخذون عنهم. وأكثر الذين تأثروا بالتيار السلفى: الذين يعيشون فى السعودية والكويت، ويظهر ذلك فى الموقف من قضايا المرأة والتعددية السياسية والأقليات ونحوها. وبعض الأفكار الأخرى رشحات من أفكار الشهيد سيد قطب، رحمه الله، فى كتبه: (معالم فى الطريق)، و(الظلال) فى أجزائه الأخيرة، وفى الطبعة الثانية من أجزائه الأولى، وفى كتبه التى ظهرت فى أواخر حياته، رحمه الله. وهذه الأفكار تحمل بذور تكفير المجتمع، والعزلة الشعورية، والاستعلاء على الآخرين، ورفض الاجتهاد وتطوير الفقه، إلى آخر هذه الأفكار. ((إبراهيم عيسى يكتب: الابتعاد عن حسن البنا! جريدة الدستور، Fri، 04/06/2012 - 11:41 ).

    التحولات الفكرية للاخوان المسلمين السودانية

    هناك اتفاق عام وسط من يتناولون تاريخ السياسة في ان الاحزاب السودانية -التي نشات معظمها في نهاية الاربعينات- خرجت كلها من رحم مؤتمر الخريجين والتي صاحب تكوينها فترة النهوض الوطني للانعتاق من قبضة الاستعمار، ويهمنا في هذا المجال من الاتجاهات الثلاثة التي برزت انذاك، كما توصل اليها د. جلاب الاتجاه الذي توسم في نفسه معاني ومفاهيم الحداثة في اطار روئ وتوجهات ايدولوجية علمانية او دينية، وقد تجسد ذلك في جانبة الاسلامى في الاتجاهات، الاخوانية الاسلامية و الجمهورية وفي شكله العلماني في اتجاهاته اليسارية ذات المرجعيات الماركسية والعروبية. ويفسر د. جلاب الحركة الاسلامية كاحدي افرازات فترة الاربعينات وتطورها الي ثلاثة اتجاهات، الاتجاه الاول جاء كامتداد لجماعة الاخوان المسلمين المصريين والتي تطورت للاتجاه الثاني حركة التحرير الاسلامي والتي تطورت لاحقا الي تنظيم الاخوان المسلمين بعد تسلم الشيخ الترابي لقيادته فى العام 1964. فكيف قرأت الحركة الاسلامية ظروف نشاتها وبررت بروزها كقوة في المجتمع السياسي السوداني. مثل بقية الحركات كان خط الاخوان المسلمين في بداياته اتحاديا مساندا تقوية الروابط مع مصر باعتبارها الرافد الأساسي لتقوية الهوية العربية الإسلامية في السودان لكن هذا التوجة مالبث ان تبدل بعد الصراع الدامى مع ثورة يوليو والانتقال الى الحركة الاستقلالية.

    اولا: نشأت الحركة فى مجتمع اغلبة تسودة الصوفية ويتفق احمد صبحي منصور ان الحركات السياسية الاسلامية التى تقبل الديمقراطية وتتعامل معها ايجابيا تنتمى الى التدين الصوفى المنتشر فى بلادها من تركيا الى ماليزيا واندونيسيا وسنغافورة وبنجلاديش. قلنا ان المسلمين طواف ثلاث كبرى سنة وشيعة وصوفية. السنة أكثرهم تشددا والوهابية هم الأكثر من السنيين تشددا. الصوفية المسلمون اكثر مسالمة واكثر اعترافا بالتعددية ، بل ان التصوف يقوم على اساس التفرق الى طرق صوفية تتفرع وتتفرع الى طرق أكثر وأكثر. ولهذا فالديمقراطية واردة فى تدين التصوف الذى يعترف بالتعددية ويتسامح مع المختلف فى الدين (احمد صبحي منصور: ويسألونكم عن الاخوان المسلمين ، خاص لمركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، 2007-11-18 ). وبذلك انخرط الاخوان فى النظام الديمقراطى الذى جاء بعد الاستقلال وسيظل هذا ديدنهم حتى انقلاب الانقاذ.

    ثانيا: كانت فى نشأتها الاولى اقرب الى حركة عدالة اجتماعية " قامت بإعداد دستور نموذجي يتكون من ستة أبواب، والدستور المقترح يعكس الموقف الفكري للحركة الإسلامية في ذلك الوقت، فقد دعا الى جمهورية رئاسية إسلامية مفضلاً صيغة الدولة الموحدة، بيد أن أهم السمات الاخرى تتمثل في المبادئ الاقتصادية والتي حددت الملكية وظيفة اجتماعية ترعاها الدولة وتصونها.. كما نصت على تكوين مجلس للتخطيط الاقتصادي يقوم بالآتي: 1/ منع تركيز الثروة في أيد قليلة. 2/ تأميم المصارف. 3/ التخلص من الربا. 4/ منع الاحتكار. 5/ تنمية الإنتاج المحلي لرفع مستوى المعيشة. الإشارة الى المبادئ الاقتصادية في الدستور تقود الى إثارة مسألة مهمة وهي رؤية الإسلاميين للمسألة الاجتماعية وتوزيع الثروة وحول هذه القضية دار حوار داخلي كبير. تبلور في اتجاه وسطي داخل الحركة الإسلامية يدعو لتأميم التجارة من أيدي الأجانب وتأميم المصارف وتخطيط الاقتصاد لمصلحة الطبقات الأكثر فقراً والتعامل بالمعاملات الإسلامية التي تحرم الربا والاحتكار والضرر والاستغلال. كما دعوا الى تدخل الدولة لقيادة التنمية في البلاد لرفع مستوى المعيشة. http://alakhbar.sd/sd/index.php?option=com_co...w&id=1916&Itemid=315

    ثالثا: سيادة روح التسامح سمحت للحركة بالتاثر بما حولها وظهور تيارات مختلفة من داخلها "وهكذا تجاوبت الحركة انطلاقاً من خلفياتها الإسلامية مع الروح الاشتراكي الذي كان طاغياً في أوساط الطلاب (الجماعة الإسلامية) التي انشقت بزعامة بابكر كرار الى إعلان برنامج اقتصادي اشتراكي متطرف مما دعا الصحافة السودانية آنذاك أن تطلق عليهم لقب (شيوعيو إسلام) ثم تخلت الجماعة الإسلامية عن هذا الاسم الى اسم جديد يبلور خطها الاشتراكي وتسمت باسم الحزب الاشتراكي الإسلامي. http://alakhbar.sd/sd/index.php?option=com_co...w&id=1916&Itemid=315 )

    هذا هو الجو العام الذى اشار الية الشيخ الترابى " وفي هذا العهد التكويني الأول كانت الأشكال التنظيمية أشكالًا محدودة جدًا بقدر حاجة الوظائف المحدودة والتجربة الأولية. فكان الهيكل في إجماله تدرجًا من الأسرة – وحدةً أساسية لإحاطة الأعضاء- حتى الشعبة- نظامًا لمجموعة الأسر في منطقة معّينة. ولقد انبثت خلايا تنظيمية في المدارس، وخرجت التنظيمات من الإِطار الطلابي إلى بعض مدن السودان بمبادرات غالبها من الطلاب. أما القيادة فكانت بسيطة التركيب بدرجة لم تَستوعِب حتى مهام المرحلة ومشكلاتها المحدودة. وفي هذه المرحلة شرُع التأسيس الدستوري الأول. ذلك أن هذه المرحلة بكونها مرحلَة تأسيسٍ أولى شهدت نزاعات تنظيمية حول اسم الحركة، ونتجت في الجماعة توتراتٌ كثيرة متعلقة بوحدتها ووجهتها، دعتها لعقد مؤتمرها التأسيسي ووضع دستورها الأول الذي جاء ليفصل في هذه القضايا الخلافية حول تسمية الحركة [الإِخوان المسلمون ] وطبيعتها حركة تربوية ذات دعوة إسلامية إصلاحية شاملة (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان، التطور .. الكسب .. المنهج )

    حدث نفس التطور الذى اصاب حركة الاخوان المسلمين فى كافة العالم وتاثرها بالافكار المتشددة للمودودى وسيد قطب، خاصة فى عهد الكمون الأول (الأعوام 1959م إلى 1964م) هذه فترة سلطة الفريق عبود وزمرته العسكرية التي وليت على البلاد فساستها سياسة محافظة معتدلة، فلم يُفرِطوا في القهر السياسي ولم يُعنوا بالقضية السياسة، بل ركزوا على الإدارة والتعمير بغير ادعاءٍ مذهب أو ثوري. وهي فترة كُمُون، لأن الحركة واجهت لأول مرة ما توهَّمته خَطَرَ محِنَةٍ وابتلاء. والحقيقة أن الحركة فزعت إلى حذرٍ بالغ دون أن تُلاقي ابتلاءً، وذلك من فرط اعتبارها بما حدث في مصر. فانفعلت انفعالًا شديدًا بالخوف كمونًا حادًا لأول عهد حتى كادت تجمّد نفسها. ولكن ظلت الحركة الطلابية – شذوً من هذا الانزواء- تجاهر وتعمل وتجاهد النظام، وكانت هذه مرحلة بركة ونمو الحركة الطلابية حتى أصبحت من كبريات الاتجاهات الطلابية (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان، التطور .. الكسب .. المنهج )

    تكوين الجماعة فى اغلبها من الطلاب، صغر سن قادتها والصعاب التى كانت تواجهها فى العمل فى ظل احزاب اسلامية ذات وزن جماهيرى وكونها " ومهما كان فقد كانت الحركة في هذه المرحلة أقرب إلى أن تكون عالَةً في زادها الفكري والتنظيمي على الخارج، وكانت تتناول غالب أدبها من كتب الأخوان المسلمين في مصر أو كتابات المودودى، وكذلك كانت أشكال التنظيم البسيطة السائدة فيها هي تقريبًا من التجارب التنظيمية في مصر"، ادى هذا بالضرورة الى الفصام الذى سيلازم تنظيم الأخوان المسلمين طوال تاريخها حتى انشقاقها فى 1999 .

    فهى تبنت خطابا لطبقات المثقفين " من القضايا العملية التي أرثها تاريخ السودان وتناولها فكر الحركة متفاعلًا بتوجهه ومنهجه مع الواقع: تصور دستور إسلامي للسودان [1956- 1965 م]، وكيفية تحرير المرأة المسلمة ونهضتها بالسودان [1974 م]، ومشروع نظام للمعاملات الاقتصادية الإسلامية [1977 م]، وسياسة تطبيق القوانين الشرعية [1983 م]، واقتراح لعلاقات الجنوب السوداني وأوضاع أهله من غير المسلمين [1986 م]، والتصور الديني لتعاطي الفن الحديث [1982 م]، وفقه السياسة الشرعية في العلاقات الخارجية وفي شئون الأمن والدفاع فيما يخص السودان [1987 م". وخطابا اخرا تبنت فية مفاهيم المودودى وسيد قطب فى تجنيد الاتباع والحملات السياسية ضد مخالفيها وتعالت النبرة التكفيرية، جاهلية المجتمع والاستئصال الذى بدأ من الاتجاهات العلمانية والليبرالية فى بادى الامر ثم شمل حتى الاحزاب التقليدية. (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان )

    ويرسم الدكتور الافندى صورة بارعة عن هذا الخطاب المزدوج "وقد أدي هذا بدوره إلي ازدواجية في الخطاب. فقد كانت للشيخ الترابي حلقة داخلية صغيرة من الأنصار يخاطبها بصريح آرائه الفقهية، بينما كان يدخر خطاباً آخر لـ عوام الخلق . وقد نتجت عن هذا الوضع عدة نتائج، أولها بروز عقلية صفوية بين أعضاء هذه الحلقة الداخلية تشبه إلي حد كبير ما انتقد الإمام أبوحامد الغزالي عن فلاسفة عصره الذين كانوا يعتقدون التميز عن الأقران بفهم خاص للأمور يرتفع كثيراً عن فهم العامة. وأخذ يسود وسط هذه الصفوة المدعاة استخفاف كبير ببقية المسلمين وفهمهم للدين، بل وبكثير من تعاليم الدين. وهذا بدوره سلب الحركة الإسلامية سلاحها الأمضي في وجه خصومها من العلمانيين، والمتمثل في قدرتها علي تعبئة الجماهير وراء مواقفها بتوسل الشرعية الدينية. ولكن إذا كانت الحركة الإسلامية ترفض الموروث الديني كما هو فإنها تواجه نفس إشكال العلمانيين، بل إشكالاً أكبر، لأن العلمانيين علي الأقل لا يتدخلون في أمور الديــن ولا يسعـــــون إلي تغيير عقائد الناس بل يكتفون بتجاهل الدين ومقولاته أو التظاهر نفاقاً بالقبول بها. وهناك شواهد كثيرة علي أن العلماء التقليديين والجماهير الإسلامية تتقبل الإعراض عن الدين أكثر من تقبلها لما تري أنه تحريف للدين أو تغيير له.
    ولهذا واجهت الحركة الإسلامية بقيادة الترابي عزلة مزدوجة لأنها كانت تحارب العلمانيين والتقليديين في نفــس الوقت. ( د. عبدالوهاب الافندي عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة، 2006/04/25 ) .

    عندما واجهت الجماعة ثقل الفكر الفقهى والقانونى التقليدى "وقد تعرضت الحركة ثم سلمت من اتجاهات كثيرة راودتها نحو الإيغال في التفيقه والولع بتعاطي الفقهيات التقليدية لأكثر مما يستدعي العمل. ومن أمثلة ذلك أنه عندما كبت النشاط السياسي والتنظيمي في عهد مايو فرغت عناصر من طلبة الحركة للتتلمذ على آخرين فرغوا للعكوف على كتب الفقه والتبحر فيه اختصاصا، حتى زين لهم أن الدين كله في احتمال الفقه المكتوب وتناقله، وأن تدبير شأن الحركة جميعًا يرجع إلى فتاوى من نصوص ذلك الفقه، وأن ما خرج من المتن والشارح ليس يرجي منه صالح، وان ما ليس في حرف النص الظاهر ليس وراءه طائل. فنشأت مدرسة فقهية تقليدية بمشيختها وتلمذتها وأنماطها وآدابها المعهودة، وبلغ بها العجب بأمرها أن تمثلت نفسها السلطة الدينية الحقة التي يمكن أن تتحدي مختلف الأطر التنظيمية في الجماعة وأن تزدهر سائر المهام الحركية الراتبة. إن تقاليد الفقه التاريخي قد جمدت بحرية الاجتهاد إما بسد أبوابه حكمًا أو حبس العقل المسلم دونها فعلًا بتغليظ الضوابط لأهلية المجتهد لدرجة التعجيز وتأكيد المحاذير من الفتنة والخلاف لدرجة الترهيب، كأن ليس لأحد أن يصدر بعد السلف عن رأي غير منقول أو أن ليس في الحرية إلا خطر الضلال والفرقة. وكان الجمود في أصول الفقه الاجتهادية أشد منه في فروعها، لأنها أخطر شأنًا. لكن الحركة الإسلامية بالسودان- بما قدمنا ذكره من استعداد للاجتهاد- اتجهت لأن تكون حقًا حركة تجديدية لشأن الدين بعثًا لإيمان القلوب وفكر العقول وحركة الحياة جميعًا. فهي تجديدية من حيث أنها تجاوزت بروح تدينها المواقف الإيمانية السلبية القاصرة التي عهدها المتدينون، وتجاوزت بفقهها الأطر المعروفة للتفقه والآثار المنقولة في الفقه، وتجاوزت بحركتها الحدود المألوفة للإسلام أو المفروضة على المسلمين. ولئن كان دفع الاجتهاد قد نحا بالحركة نحو تجاوز القديم وارتياد الجديد، فإن التجديد ما كان ليتيسر لها لولا خصيصة في بيئة السودان الدينية. ذلك أن ليس في السودان فئة محافظة متمكنة تحمل التراث كطبقة العلماء والموالي المشهورة في بعض البلاد الإسلامية، والتاريخ الكثيف قد يكون ملهمًا للخلف ومؤسسًا للنهضة، وقد يكون معوقًا يبطئ حركة التقدم بأثقاله ويقمعها بإنكاره لكل جديد. ومعروف ما شكلته بعض الطبقات الدينية التقليدية من عائق لصحوة الإسلام ونهضة فكره وحركته بسبب جمودها وعصبيتها بل أحيانًا بسبب منافعها وأهوائها التي تزين لها الاستمساك بالقديم". (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان )

    اذا كان لابد لها ان تختط مخارجا وتنظيرا تواجة بة هذا الثقل فتستعين الحركة بالفقة القانونى الذى يحملة الدكتور الترابى والمأخوذ من الفكر الغربى " وإذا تجوز المرء فميز طيفًا من ألوان الفكر وطائفة من مذاهبه تمثيلا لمدي المرونة في بناء الحركة الفكري، فيمكن أن يلحظ اتجاهًا فكريا أقرب إلى الذرائعية الحركية السياسية- لأنه يقدر ظروف الواقعات وحيثياتها وأسباب المصالح والمفاسد الواردة، ثم يحرر في ضوء قيم الشرع ومقاصده وأحكامه ما هو مقتضاه في الموقف المعين ولو ظنًا أو تقريبًا أو تجريبًا. وذلك هو فقه الحكمة الذي يقدر الواقع تقديرًا، ثم يقومه بالشرع تقويمًا، ثم يقضى بالتي هي أقسط وأوفق. وهو فقه ذو نسب في مسالكه الاستنباطية بالأصول الفقية التي عرفت بالاستصلاح أو الاستحسان أو «الرأي»، والتي نشطت قديمًا لتوجيه الحياة العامة بهدي الإسلام قبل أن تنحسر من بعد روح التدين والاجتهاد فتعقم تلك الأصول وتقيض منابعها الفكرية. ثم إن الحركة الإسلامية بالسودان إنما عاشت في القطاع الحديث من الحياة. وهذه الحداثة تؤهلها وتضطرها إلى أن تقدم فكرًا دينيًا متجددًا. وكان من أشهر محاور الجدل الفكري بين القديم والجديد، قضايا الفن في الدين، وقضايا الحرية في الإسلام، وقضايا أوضاع غير المسلمين، وقضايا تحرير المرأة. ولعل من أخطر ذلك القضايا المتعلقة بتجديد أصول الفقه وتطوير صورها الواردة في كتب الأصوليين السلف. (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الإسلامية في السودان ) .

    كان هذا الانفصام الحاد بين فكر التجديد والتأصيل الذى تبناة الشيخ الترابى من جهة وفكر الاستئصال، الانغلاق والفكر التكفيرى الذى مارستة جماعتة فى التربية السياسية من جهة ثانية سمة عامة ومشتركة وان اختلفت الاحداث فى جميع حركة الاخوان المسلمين فى اغلب الدول. فقد قادت الانشقاقات منها فى اغلبها الى حركات جهادية عنيفة بتاثير الجانب التكفيرى اوالى حركات اقرب لليبرالية . وسوف يقود هذا الى اقسى المواقف التى تواجة الزعيم فقد تواجة المنظوران ، حديث الخاصة الاقرب الى الاعتدال والمفاهيم الكلية للاسلام التى توسل بها الشيخ فى صراعة مع تلاميذة وحديث العامة الذى تربى علية تلاميذة منذ كانوا فى المدارس الثانوية من حفظ كتاب معالم فى الطريق " التوجه الجديد للصفوة المحيطة بالترابي كانت له انعكاسات عملية، منها التنكر لتقبل الحركة الإسلامية التقليدية للديمقراطية، لأن الاحتقار للجماهير، بما في ذلك الجماهير المتدينة، يستتبع بالضرورة رفض الديمقراطية كمنهج. وقد ولدت هذه النظرة كذلك استخفافاً بكثير من القيم المتمثلة في الصدق مع الناس أو احترام حقوق العباد، ولعلها كانت مسؤولة إلي حد كبير لما وقع من انتهاكات وتجاوزات ميزت عهد ثورة الإنقاذ تحت رعاية الترابي. وهي بلا شك مسؤولة عما وقع للترابي علي يد تلاميذه الذين تعلموا منه الاستخفاف بالناس وبالقيم دون أن يكون لديهم ما كان له من العلم، فلم يجدوا بأساً في الإيقاع به وإنكار سابقته، لأنهم أصبحوا يرون أنفسهم فوق كل شريعة وعرف. ولا نزال نسمع من بعضهم تصريحات يستخفون بها بالعباد أفراداً وأحزاباً وأمة، إضافة إلي ما نعلمه مما يتداولونه في مجالسهم ويتناجون به من آراء خلاصتها أنهم قادرون علي حكم الشعب بالحديد والنار والكذب والنفاق وشراء الذمم، وأن الأمة بكل من فيها من شمال وجنوب وشرق وغرب ليس فيها فرد أو جماعة تستطيع تحديهم، وهو غرور أورد الترابي ما هو فيه، وسيكتشف تلاميذه قريباً أن شيخهم كان محظوظاً، لأن مصيرهم سيكون أسوأ بكثير. . ( د. عبدالوهاب الافندي: عن الشيخ الترابي وأزمة الحركة الإسلامية المعاصرة، 2006/04/25 ) .

    الاسلاميون والسلطة

    عندما واجة الاسلاميون سؤال كيفية الوصول للسلطة، واجههم السؤال حول طبيعة التنظيم والبرنامج السياسي والقوي التي يعمل وسطها. وكانت لديهم تجارب طويلة سواء من التراث الاسلامى او تنظيمات تيار الدولة الدينية المماثلة. استقرت الحركة علي اسمها الاخوان المسلمون كحركة تربوية ذات دعوة اسلامية اصلاحية شاملة ولكنها واجهت اول الاسئلة المتعلقة بنظرية السلطة اثناء الحكم العسكري الاول اذ دار السجال حول ماهية الحركة "هيئة للضغط السياسي او حزبا يطلب السلطان" وقد وضحت الرؤية عند تبوء الدكتور الترابي لقيادة للحركة بعد 1964 بتآسيس تنظيم للوصول للسلطة.
    الطريق الى انقلاب الانقاذ يونيو 1989

    مع خروج جماهير مليون شهيد لعهد جديد فى ابريل 1985 لاسقاط النظام، والتحرك النشط لصغار الضباط المؤيدين للثورة المستعرة، جاء الى سدة الرئاسة المجلس العسكري الانتقالي المكون من 15 ضابطا من اكبر رتب القوات المسلحة، ضباط عملوا مع الحكم المايوي وضمنهم اسلاميين والمؤيد بشكل عام لتوجهات الحركة الاسلامية، وقد كان هذا الناتج النهائي لسنوات من العمل وسط القوات المسلحة سواء بشكل مباشر اي عن طريق الدورات التدريبية في افريقيا العالمية.....الخ. عدة عوامل اثرت على مسيرة االانتفاضة واجهاضها بالكامل.

    اولا: خرج الشعب وانجز انتفاضتة ثم عند استلام المجلس العسكري الانتقالي عاد الى بيوتة وبذلك انتهى دور الشارع وعامل الضغط الذى هو العامل الحاسم فى انجاز اجندة الثورة، كما تثبت الثورات العربية.

    ثانيا :المجلس العسكري الانتقالي جاءتة سلطة لم يسع لها ولا كان مهيئأ لها وبطبيعة العقلية المحافظة فقد عطل كافة اطروحات الثورة.

    واخيرا : استطاعت الجبهة القومية الاسلامية بنفوذها الكبير على هذا المجلس ان تفرض كثيرا من تصوراتها حول الغاء قوانين سبتمبر، تصفية اثار مايو، المحاكمات والانتخابات خاصة القوي الحديثة.

    عندما انعقد المؤتمر التاسيسي للجبهة القومية الاسلامية بعد انتفاضة ابريل 1985 وفي ظل عداء كبير من القوي السياسية المختلفة والجماهير الشعبية التي اسقطت النظام والمنتظمة في التجمع الوطني (انعكس هذا في تعرض ندواتهم للقذف بالحجارة في الجنوب وجبال النوبة ودارفور والتي اتهم فيها التنظيم بالتجارة في قوت الناس اثناء مجاعة 1985 في دارفور) كما استطاعت القوي السياسية (المنظمة فيما عرف بتحالف قوي االانتفاضة) اسقاط ممثلي الحركة الاسلامية في انتخابات كافة النقابات.

    تم بعد انتفاضة 1985 الاتفاق على العمل بالدستور الانتقالي لعام 1964م المعدل في 1985م. وبعد الانتخابات قرر حزب الامة والاتحادي الديمقراطي واخرين تكوين ائتلاف بينهما في حكومة الوحدة الوطنية واتفقا على ميثاق ليحكم سياسات وبرامج تلك الحكومة. ” قبل الوصول لحل حاسم للقوانين البديلة اتفق على المبادئ الاتية: الحوار الديمقراطي هو السبيل الاوفق والطريق المعبد لحل المشكلات لا المواجهة والعنف. في اطار ذلك يعطي المؤتمر الدستوري اولوية قصوى لتحديد السمات العامة للمجتمع والدولة وشكلها. التنوع الحضاري والثقافي حقيقة ماثلة في السودان يتحتم الاعتراف بها ومعالجة مشكلاتنا الوطنية على ضوئها. الوفاق يقوم على كفالة فرض النمو والتعبير المتكافئة لكل ثقافة او حضارة تمارسها المجموعات الوطنية. لا مكان لفرض الاسلام على غير المسلمين او لقسر المسلمين على التخلي عن عقيدتهم. القوانين السارية (قوانين سبتمبر) يلزم استبدالها لانها غير مبراة من الشوائب اسلاميا ومعيبة فنيا وشرعت في غيبة الديمقراطية والشورى. تتحدد الاسس الدستورية والقانونية للبلاد عبر المؤتمر الدستوري”. (الامام الصادق المهدي: الديمقراطية في السودان : مرجع سابق ).

    وصل السودان لوضع متأزم فى اواخر الثمانينات، مع دخول السودان الى مناقشات اجازة الدستور الاسلامى والحرب لازالت دائرة، مما ادى الى استقطابات حادة فى الشارع السياسى. لعبت الجبهة الاسلامية القومية دورا تصعيديا فى دق طبول الحرب وشحن الشارع السياسى ضد كل ملامح العمل السلمى ورفعت شعارات الجهاد وثورة المصاحف وثورة المساجد وانسحاب نوابها من الجمعية التاسيسية لتعطيلها وكان واضحا انهم يفكرون في بديل للنظام الديمقراطي.

    برغم ذلك فان القوى السياسية السودانية استطاعت الوصول الى اتفاقين مهمين الاول وهو اتفاق كوكادام والذي تم التوقيع عليه في 26 مارس 1986 ومبادرة السلام السودانية التي وقعت في 16 نوفمبر 1988 والتى توصلت لحل بعض المسائل التي لم يحسمها اعلان كوكادام وهي: تجاوز الاختلاف حول الدستور واعتماد دستور 1985م المؤقت، وضع صيغة مرنة للقوانين وذلك بتجميد الاحكام الاسلامية لحين القرار بشانها في المؤتمر الدستوري. كتداعيات لمذكرة القوات المسلحة تكونت حكومة جديدة من تحالف عريض عدا الجبهة الاسلامية (مذكرة القوات المسلحة السودانية ــــ 20 فبراير 1989 ارسلها المغفور لة الفريق اول فتحى محمد على القائد العام للقوات المسلحة الى حكومة السيد الصادق المهدى المنتخبة كانذارً مبكرً يحذر من الانقلابات، اكدت الوقوف مع خيار الشعب في الحفاظ على الديمقراطية ونبهت لمحاولات اختراق القوات المسلحة من جهات سياسية في الداخل والخارج) . ادت الاتصالات المكثفة والمكوكية بين القوى السياسية والحركة الشعبية لاتفاق على اجتماع في 4 يوليو 1989م في العاصمة الاثيوبيه لمراجعة ما تم بشان المبادرة. وتم الاتفاق ايضا على موعد المؤتمر القومي الدستوري في 18/9/1989م.

    كانت الحركة الاسلامية تتصور انها قد تمكنت من بناء البنية التحتية اللازمة للسيطرة علي السلطة فماذا كان الوضع انذاك. يعطى بروفيسور مصطفى ادريس البشير (عميد كلية الطب بالجامعة سابقا مديرا لجامعة الخرطوم عامل فى صفوف حركة تيار الدولة الدينية منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي) صورة كاملة عن الاوضاع داخل الجبهة الاسلامية القومية و النجاحات التي حققتها فى التغلغل في اجهزة الدولة الحساسة كالقوات المسلحة وجهاز الامن والشرطة، واقامة اجهزة سرية تتبع مباشرة للامين العام لمتابعة استيعاب شباب الحركة في الكلية الحربية وكلية الشرطة والانخراط في الاجهزة الامنية . ويرى الكاتب ان الجبهة الاسلامية القومية كان بمقدورها ان تدبر انقلابا ناجحا ابيضا على حكم النميري منذ عام 1983 ولكنها لم تفعل، بل كانت على العكس تماما تنبه امن النظام بصورة غير مباشرة على كثير من النشاطات الانقلابية ويتم اخمادها في مهدها. وتقدم هذة الصورة نمطا نموذجيا من التفكير الانقلابى الذى تغلغل فى روح التنظيم منذ نهاية السبعينات والذى حفة الكاتب بغلالات من الغموض والخطورة تدل على ان التنظيم كان يفكر فى استلام السلطة وليس ماذا يفعل بها. (الحركة الاسلامية والانقاذ.. التقمهما الحوت فهل من مسبِّح؟ دعوة مفتوحة لجمع الصف الاسلامي للمحافظة على مكتسبات الامة بروفيسور مصطفى ادريس البشير).

    في كتاب انيق من دار مدارك في العام 2010 وفي 443 صفحة جاء مؤلف الاستاذ المحبوب عبدالسلام الحركة الاسلامية، دائرة الضوء، خيوط الظلام تاملات في العشرية الاولي لعهد الانقاذ، ليبتدر هذا النوع من الكتابة، ورغم ان اخرون قد مارسوا نوعا مماثلا من التناول من داخل النظام، ولكن كان هذا اول كتاب من موقع المتفق فكريا والمختلف سياسيا وهو ينحو مثل الكتابات الغربية المماثلة لتتبع الشخصيات الرئيسية المؤثرة في الساحة السياسية في التاريخ المعني ويحلل مواقفهم واتجاهاتهم وسلوكهم، وحتي سكناتهم الدقيقة كما يفصل في الاحداث الكبري التي واجهت النظام طوال العشر سنوات التي هو بصددها، ويورد كثيرا من المعلومات التي اتاحت له ظروف تواجده معرفتها او حضورها شخصيا، ورغم ان كثير منها صعب التحقق من ادلتها الحاسمة وشكك كثيرون في صحة بعضها، الا ان منطقها التي ابرزت به فى الكتاب وتسلسلها الموضوعي يشي بان كثير منها قد حدث فعلا ، لكن، المهم ليس الحدث نفسه بل قراءته فاي حدث تاريخي يقرا من جوانب كثيرة ومتعددة ومنهج التحليل هو الذي يفرق. وليس غرضى هنا ان اصدق او اكذب اي من الاحداث، سوي التي اورد فيها راي في الحدث، ولكن ما يهمني هو منهج الكتاب ككل . (الاستاذ المحبوب عبدالسلام: الحركة الاسلامية دائرة الضوء خيوط الظلام، تآملات في العشرية الاولي لعهد الانقاذ، دار مدارك، 2009 )

    واود ان اظن – وشكى لة مبررات كثيرة طوال عمرى فى السياسة السودانية منذ خرجت عام 1964 وانا لم ازل طالبا فى المدارس الوسطى اهتف بسقوط نظام عبود من اظهارغير المبطن مما فصل فية الكاتب كثيرا- ان هذا الكتاب هو جزء من محاولات النخبة السودانية ان تستعيد استقامتها ومسئوليتها في النظر الي دورها بنقد وتقديم شهادتهم مهما كانت دوافعها للتاريخ ، ليس بغرض تحسين الصورة او تبرئة الذمة او غسيل الاحوال – كما اشار مصطفى عبد العزيز البطل في عمله الصائب والشيق في قراءة الكتاب ولكن من اجل الخروج من شرانق الانكفاء علي التنظيم "وتامين الجماعة" "وخلوها مستورة". هذا السلوك الذي ساد في حياتنا السياسية ما بعد الاستقلال وسمم حياتنا ومزق جوانبنا وفتق رتقنا وفرط في الوطن. سلوك لم يعد ببساطة ممكنا بعد الان . (مصطفى عبد العزيز البطل: المسيح المصلوب فى لوح المحبوب: الحركة الاسلامية، دائرة الضوء وخيوط الظلام- 3 اجزاء)

    مقاربتى تود ان تناقش الكاتب في رؤيته السياسية. ولاوضح هذة المقاربة سابدأ بنقاش نظرية السلطة عند الحركة الاسلامية السودانية من حيث تنزلها في الواقع المعاش وفي تنظيرها وفكرها خاصة فكر مؤسسها وشيخها الاكبر الدكتور حسن الترابي وهي اذا تفعل ذلك ستبعد بالتاكيد عن الفضاء الفقهي والعقدي وتنحصر في فضائها السياسي، ان هذا الفضاء هو الذي يؤثر في معايشنا ومستقبل ابنائنا وبناتنا وعلي مصير دولتنا واكل عيشنا. الكاتب القي بحجره في البركة وله مطلق الحرية في الدفاع المستميت عن رؤيته ورسالته ونحن القراء وذوي الفكرة المخالفة المؤمنة بالديمقراطية الاجتماعية والليبراليه السياسية نحاوره – كما فعل اخرون- لنستن فينا افقا جديدا في الحوار الايجابي والمنتج والمفيد، علنا وهذا دور النخبة ومسئوليتها نصل لعقد اجتماعي جديد يحترم خيارات جميع مكونات الامة ويلبي اقصي مطالب كل مجموعة بدون التغول علي حقوق اي منها. سوف نتناول تفصيلا اقوال الكاتب المنبثة في صفحات كتابه لنحاول اثبات ان نظرية المثال والواقع اوالنظرية والتطبيق لن تصمد امام تحليل نظرية السلطة لدي الحركة الاسلامية السودانية القائم علي فرض نموذج ارشادي سلطاني و حياكة قميص حديدي محكم يحشر فيه المجتمع كما كان المآمول من وزارة التخطيط الاجتماعي .

    ولنلج هذه المراجعة من مدخل مصطلحي محكم ، نوضح فيه اطارنا النظري الذي نناقش فيه نظرية السلطة من وجهة نظر تيار الدولة الدينية. الاطار المعرفي الذي نحتكم عليه هو جماع ما تعارفت عليه الانسانية – بمختلف اديانها وثقافاتها واوطانها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية ونظرياتها الاقتصادية في هذا الوقت من التاريخ واودعته في وثائق اساسية وهو عقد اجتماعي بين اطراف الامة يرتكز علي الديمقراطية التمثيلية (النيابية) بكافة اشكالها وحرية القضاء والاعلام وحقوق الانسان . هذه القيم الحاكمة والمبادئء الاساسية لنظرية السلطة تتجاوز الاديان الغالبة في الدول مثل ماليزيا (60% مسلمين) اندونسيا 96% مسلمين و مصر 70% مسلمين ولبنان ودول كثيرة اخري او الهند اقلية كبيرة من المسلمون تستوعب بداخلها كافة انواع التنوع والتي اتفقت عليها البشرية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط نظرية الحكم العسكرى في اصلها البروليتاري او المستبد العادل او الطائفي او العسكري. وقد تواضعت الوان الطيف السياسي السوداني من احزاب وتنظيمات ومجتمع مدني ونخبه سياسية الي الوصول الي عقد اجتماعي اساسه الديمقراطية السياسية القائمة علي دولة مواطنة مدنية وحرية القضاء والاعلام وقومية الخدمة الوطنية والقوات النظامية.

    لنستطيع ان نقارب بشكل مثمر ومفيد وحواري كما طرح الكاتب المحبوب عبد السلام " دعوة للجميع ان يتاملوا في تاملاتنا ويفحصوا صوابها وخطئها ويكملوا نقصها " فان مدخلنا سيبدا بمراجعه وتفحص نظرية السلطة التي مثلت توجهات تيار الدولة الدينية وذلك عبر اهم اطروحات الدكتور حسن الترابي الواردة فى ورقة " الشوري والديمقراطية" قدمت عام 1984 والعمل الثاني كتاب الحركة الاسلامية في السودان )التطور .. الكسب .. المنهج، 1990 (ثم ننثني الي كتاب المحبوب علي ضوء قراءتنا للكتابين ونري مدي تطابق رسالة الكاتب مع الافكار الاساسية وبعدها نتناول العمل الثالث ونمضي قدما في مراجعة نقدية (السياسة والحكم :النظم السلطانية بين الاصول وسنن الواقع) والذي جاء بعد ما اطلق عليه المفاصلة ( اسم الدلع لاكل ابناء القطة لوالدهم) .

    نظرية التمكين لدي الاسلاميين

    بعكس الشيوعيين الذى فضلوا العمل كحزب ولف مناطق التآثير حولهم اتجة الدكتور الترابي ببناء التنظيم على الشكل الجبهوي (جبهة الميثاق الاسلامي ) المكون من جماعات وافراد وفى قلبها جماعة الاخوان المسلمين المنظمة مؤسسةً على منهاج مكتوب وضعته الجماعة وجمعت حوله الجماعات الاسلامية والافراد في حركة سياسية موحدة " سوى انها حفظت لنفسها احتياطًا في خاصة امرها بالاستقلال عن الجبهة والتحكم فيها. واقامت حول الجبهة المنظمات الفئوية وحركات نقابية وواجهات " وفي ذات الاتجاه لتجميع الولاء، قامت منظمة الشباب الوطني و الجبهة النسوية الوطنية، وقامت حركات نقابية وطنية وتنظيمات وواجهات لاغراض اسلامية شتى" " وطَوَّرت الحركة ما اعدت من خطط جبهوية، بقوة ما اورثها دفعُ الثورة وكسبُها فيها. فلم تعد الحركة ترضى بالحملات التعبوية الشعبية عفوًا في المناسبات والمواسم، بل طمحت الى ان تصبح محورًا لولاء شعبي منتظم لاول مرة، فاقامت «جبهة الميثاق الاسلامي» المشهورة،. "اما جبهة الميثاق الاسلامي فعلى الحذر في منهج تشكيلها وعملها اصبحت واجهةَ العمل الاسلامي وحاملة الدعوة للدستور بل لكل معاني الاسلام. واما المنظمات الاخرى فقد كانت وطنية الواجهة، نافست التحرك الشعبي الشيوعي، واتاحت للحركة منابرَ عملٍ غير مباشر حتى حيثما لم تكن لديها القوة لتجعلها اسلامية خالصة. (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الاسلامية في السودان -التطور .. الكسب .. المنهج، 1990 ).

    اما في تعاملها مع المنافسين في الفضاء السياسي والذي بدات تنفيذه منذ الستينات فقد تبنت الجبهة ما اصبح رؤيتها المستقبلية في اقصاء الخصوم من دائرة العمل السياسي من حل الحزب الشيوعي، تطوير العلاقة مع الاحزاب الوطنية، منافستها علي الشعب ومن ثم وراثتها بالكامل . ولكن اكبر الحملات السياسة في عهد اكتوبر كانت حملة الدستور الاسلامي التي هيأت للحركة، على تواضع حجمها النيابي، ان تحمل الاحزاب على مسودة دستور 1967م ذات الملامح الاسلامية الواسعة.

    جاء انقلاب مايو 1969 ليشكل الخطر الاكبر علي الجبهة الاسلامية، فقد استطاع خصومهم في الحزب الشيوعي وكافة اطراف اليسار السيطرة علي السلطة ولديهم نفس الرؤية في استئصالهم من الحياة السياسية بالاجراءات السياسية والقانونية والعنف ومن ثم بدات اجراءات منع الاحزاب من العمل واغلاق الدور واعتقال القيادات وعزلهم من جهاز الدولة والخدمة المدنية وابعادهم من قيادة الاتحادات والنقابات ثم العمل الفكري والسياسي المنظم في وسائل الاعلام. طوال السته عشر عاما استطاع الدكتور الترابي تطوير حركته خلال سنوات عاصفة في بداياتها ونهايتها ويمكن ان نلخص اهم تحولاتها اذ توفرت الظروف لبناء التنظيم خلال المواجهات مع نظام مايو سواء معارضة الطلاب للنظام او الانقلابات الفاشلة التي شاركت فيها سواء عام 1973 وعملية 1977 او في اطار التحالفات مع القوي الوطنية الاخري. وفي هذه المرحلة وفي الفترات ايضًا فرغت الحركة لنفسها ونظامها. بدات ثورةٌ تنظيمية هائلة طوَّرت التنظيم، من حيث تقسيم وظائف العمل الاسلامي وترتيب ادارات الجماعة التي تتولاها، ومن حيث تعميم الهيكل الكلي لنظام الجماعة وصياغة الخطط الكلية السنوية لحركتها. وكانت هذه هي النهضة التنظيمية الحقيقية للجماعة، لان غالب ما سلف من تدابير مراجعة للتنظيم انما انصب على التعديلات الدستورية. اما هذه المرة فقد طُوِّر التنظيم ليستدرك تخلفه عن استيعاب المستجدات في حركة الجماعة ونضجت النظم الادارية الحركية. فى هذا الوقت بدا انشاء المنظمات الاسلامية المختلفة مثل منظمة الدعوة الاسلامية، والجمعية الطبية السودانية . (الدكتور/ حسن الترابي: مرجع سابق ).

    كما قدم اليساريون الغطاء النظرى للعسكر والذى ادى فى النهاية الى ديكتاتورية النميرى قدم الاسلاميون و مفكرهم البارز الدكتور حسن الترابى التبرير الايديولوجى لنظام الانقاذ والتى تطورت بشكل مشابة. برغم من اسطورة تيار الدولة الدينية "البنيان المرصوص" فقد حدث لها كما حدث في كل الانقلابات السابقة منذ عبدالناصر في الخمسينيات، النميرى واليسار في نهاية الستينيات فقد انتهي المآل الي تفكك التنظيم الذي بني علي مدي اربعة عقود لهذا الوعد – استلام السلطة – وآلت الامور الي عصبة الدولة ذات الشوكة باتحادها الاشتراكي او المؤتمر الوطني او كما تشاء ان تختار من صنوف التسميات التي شغلت الناس ثم ذابت في شمس الصقيعة، وبرحيل النجم الساطع فى الحركة الاسلامية السودانية الدكتور حسن الترابى فيما عرف بالمفاصلة 1999، رفع الغطاء الايديولوجى عن سلطة انقلاب الانقاذ فى تحولة الى سلطة نخبة اسلامية اقصائية انتهى بها المآل الى احدى صور دولة الفساد والاستبداد فى محيط الثورات العربية.

    مقاربة نظرية السلطة لدي الاسلام السياسى

    سنعتمد في اول مقاربتنا لنظرية السلطة لدي الحركة الاسلامية علي ورقة الدكتور حسن الترابى: الشوري والديمقراطية: اشكالات المصطلح والمفهوم وهي ورقة قدمت بمعهد الدراسات والسياسية الاستراتجية بالخرطوم 1984. في هذا البحث يطرح الدكتور الترابي ملامح نظرية السلطة كما تبلورت علي ضوء تجربة الحزب طوال اربعة عقود وظهرت ملامح اسلوبه المميز الذي يميل لاستعمال لغة تراثية ستزداد ايغالا في التراث في كتاباته اللاحقة وصولا للاحكام السلطانية الذي يكاد يحتاج الي مصاحبة لسان العرب لابن منظور للوصول لبعض مكنوناته، وبالرغم من انه يحمل دكتوراة في القانون من جامعة السربون فالاسلوب يميل الي التداعي والترادف والجمل الانشائية المطولة والتكرار لشرح الفكرة ويبعد بمقدار كبير عن اللغة العلمية الصارمة للكتابات التي تتناول هذه القضايا المحددة

    قدم د. الترابي عرضا وافيا وموضوعيا لتطور نظام الحكم الغربي منذ بداياته الاغريقية والرومانية ويرجع الدكتور الترابى التنظير الدستورى للديمقراطية باثر اتصال الغرب بالفقة الاسلامي والسياسي والتى جاءت من ان الاجماع عند المسلمين هو اصل السلطة الارضية (بايمانهم يتبع الشريعة) واصل اسناد السلطة للولاة عقد البيعة السياسية. هذا وجد اثرة فى مفهوم العقد الاجتماعى كاساس للمجتمع السياسى الذى يتوالى (لاحظ استعمال التوالى التى اراد فرضة بديلا عن التعددية) فية الشعب والسلطة. فى تناولة لتطور الديمقراطية يتناول نقائصها وينتقد الديمقراطية الليبرالية- في نفس موقع ضعفها كما الماركسية- بعجزها عن تحقيق عدالة المشاركة لتركز الثروة والمال فى طبقة معينة وحرمان الشعب منها. وكذلك لانها تؤدي للاستقطاب وتمزيق الوحدة وفراغ السلطة التي تؤدي الي الانقلابات العسكرية. ثم تناول تطور مفهوم الشوري في استعمالها الدارج في الفقه السياسي الاسلامى من اول استعمالها في قصة فرعون وموسي الي شورى النبي (ص) في القرارات اليومية والالتزام براي الجماعة . والتي قادته مباشرة الي ربط نظام الحكم بالدين، اى تحكم الدين بالسياسة والدولة والمجتمع ليست كنظام اخلاقي يتمثله القائمين بامر السياسة في البلد ولكن ان الخلافة لله وبالتالي فان الخلفاء يقومون بامر الله اي حركته التي بناها في العقود الاربعة. انتهي الامر اذن الي ان الشوري من اصول الدين واعطي تبريرا لتقلد النميري امامة المسلمين في السودان كاحد انواع الشورى الدارجة .

    وفرق بين الديمقراطية والشورى: اولا ان الديمقراطية تمارس غالبا فى سياق حكم لا دينى (اى ان فصل الدين عن الدولة كفر)، ثانيا: الشورى نظام حياة ولكن يمكن لها ايضا ان تتحول الى وسيلة للاستغلال بواسطة الاكثر ثروة، ثالثا: السيادة فى الديمقراطية للشعب وفى الشورى سلطة الشعب وقفا على الالتزام بالشريعة ورابعا ان فى الديمقراطية الهوى والشهوات السياسية متجردة من قيود الاخلاق ( وستثبت تجربة الانقاذ منذ يومها الاول و ماجرى بين فرقاء الانقاذ قول الامام المغفور لة محمد عبدهـ عندما زار اوروبا : وجدتُ في اوروبا مسلمين بلا اسلام ووجدتُ في بلدي اسلام بلا مسلمين ).

    تبلورت هذه النظرية التي قدمت مختصرة في مبحث نتاج نظرية السلطة التي تبنتها الحركة وطورتها منذ الخمسينات وصيغت كاستراتيجية شاملة في كتابه اللاحق الحركة الاسلامية في السودان والتي سنوضح اهم مكوناته وعناصره. يجيء اسلوب المولف في هذا الكتاب محافظا علي اللغة التراثية لكنها اكثر عصرية ومباشرة ذات جمل سريعة و قصيرة لحدما وهذا طبيعي فهذا المؤلف هو البرنامج السياسي للجبهة الاسلامية القومية للوصول الي السلطة وفرض برنامجها . وتجيء المخاطبة لكافة اعضاء التنظيم ودائرة تاثيرهم والمتابعين من الخارج ، لذا فهي اقل حدة وتحدي وتميل للتنازلات بعد ان اتهمت الحركة من كثيرين بالابتداع والخروج عن النص. فالكتاب مهم لوصل الخلف من الاجيال التي انقطعت بهم الصلة بالتنظيم في السنوات الاولى للمايوية ورصد مساهمة السلف، ثم هي تخاطب الاسلاميين خارج السودان لان الحركة عرفت بكثرة مبادراتها الفكرية والعملية التي يجدها الاخرون مبدعة او غريبة مبتدعة شاذة او توكلية رائدة . لكنها رغم ذلك بلغت من تمكين الدين اكثر من سائر الحركات وربما الاشارة لموقف بعض الاسلاميين من تطبيق قوانين الشريعة - ما عرف في التاريخ السياسي السوداني بقوانين سبتمبر 1983 في ظل نظام دكتاتوري، خاصة ان الاطراف الاسلامية الاخري في السودان ( حزب الامة والاتحادي) كانت لديها تحفظات شديدة علي القوانين بل كانت معادية لها بشكل واضح . الكتاب هو في النهاية رؤية شخصية للحركة من موقع القيادة وهو ما ينفيه د. الترابى ويوضح ان ما جاء ليس الا نتاجا لجهد رفاقه. والعالم انذاك في رأية هكذا ازدحم العالم الاسلامي بصور الفساد والفجور في الاخلاق والاستبداد والاضطراب في السياسة والتخلف في الاقتصاد ووجوه الاستضعاف والانكسار الدولى في وجه الصهيونية والامبريالية. (د. حسن الترابي: مرجع سابق ).

    ان اهم تحليلات الشيخ الترابي بداية تنفي كافة التيارات الاسلامية المتواجدة في الساحة " كانت صحوة المسلمين الماضية في وجه الغزو الاوربي ردة فعل عارضة انطفات كالشهاب فركنوا بعدها الي الغرب واغتربوا كثيرا عن الله " ثم يرسم الدكتور صورة غاية في البشاعة للوضع السياسي بعد الاستقلال، يتناول فيه كافة الاحزاب السياسية والتيارات الوطنية " لكن النظم السياسية والاقتصادية الغربية التي استدامها المسلمون بعد الاستقلال خيبت رجاءهم كل خيبة، فكانت طقوس الاستقلال الدولي عندهم زيفًا، واشكال الشورى السياسة زورًا، وكانت وعود السعد والرخاء غرورًا. بل تنكَّب القادة الوطنيون لشعائر الدين وشرائعه، وتورطوا في الفشل والفساد. واخفقت اكثر النظم في توطيد الطمانينة والاستقرار للمجتمع او في تامين حرمة الوطن والدفاع عن ديار الاسلام. هكذا ازدحم العالم الاسلامي بصور الفساد والفجور في الاخلاق، والاستبداد والاضطراب في السياسة والخيبة والتخلف في الاقتصاد، ووجوه الاستضعاف والانكسار الدولي في وجه الصهيونية والامبريالية. "
    اما سائر المسلمين فقد ضلت بهم السبل " ولبث الانجليز عقودًا من القرن العشرين يستاصلون روح المقاومة الدينية ويبسطون قانونهم وادارتهم ومناهج تعليمهم على البلاد. فهم قد اطّروا الحياة الدينية والشعائر والموالد والخلاوى والمعاهد بوجه يُسلّمهم من الخطر، وضمنوا ولاء غالب القيادة الدينية علماءً وصوفية. وكانوا قد مكنوا للختمية حليفًا في وجه المهدية ثم استانسوا انصار المهدي من بعد في سبيل التوازن الماكر. "” (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الاسلامية في السودان)

    يستمر الشيخ الترابي في تفحص هذا البديل ويرجعها الي منبتها " هكذا اصبحت الصحوة الاسلامية قدرًا تاريخيًا غالبًا- يحاول الغرب والشرق واولياؤهم وادها بالتعليم اللاديني والتحديث الحضري المادي، فاذا بها تزدهر في المنابت الغربية والمعاهد الغربية كما نبت موسى في بيت فرعون. ويحاولون ان يتفهموا قوانين اندفاعها ليحتووها، فيعجزهم فهم ظاهرتها الدينية الشفافة وتخذلهم معاييرهم المادية غير المناسبة. ويعمدون الى كبتها بالقوة بتغليظ الاضطهاد وواد الديمقراطية ان اباحت لها سبيلا، فما تزداد الا صلابةً وثورةً وجهادًا، ويحرّضون على ضرب الحركات والاحزاب والمؤسسات والاطر التنظيمية التي تربّيها، فاذا هي منبثة في ثنايا المجتمع عفوا باوسع من كل اطار بادية وراء كل ستار.
    ولكن وكما لاحظ د. جلاب وغيرة ان غالب اعضاء الحركات الاسلامية انحدروا من صلب التعليم المدني الحديث. وهكذا فان الحركة واجهت تحديين علي مستوي التمثيل والتغيير فهي من ناحية تعانى من عدم الاعتراف بها فى فضائها الدينى من العلماء والمتفقهين والمتصوفة وفي نفس الوقت فقد قدمت نفسها كممثل للحداثة الاسلامية في مواجهة التيارات العلمانية الذين يعتبرونهم يمثلون المباديء المستوردة في زيفها واغترابها.

    تناول د. الترابي في مؤلفه الحركة الاسلامية في السودان والذي يعد برنامج حزبه للوصول الي السلطة ، تطور الحركة فى مراحلها المختلفة طوال السنوات: من عهد التكوين (الاعوام 1949 الى 1955 م) ، عهد الظهور الاول(الاعوام 1956م الى 1959م)، عهد الكمون) (الاعوام 1959م الى 1964م)، عهد الخروج العام(الاعوام 1964م الى 1969م) ، عهد المجاهدة والنمو(الاعوام 1969م الى 1977م) ، عهد المصالحة والتطور(الاعوام 1977م الى 1984م) الي عهد النضج (الاعوام 1984م الى 1987م.
    في تناوله لتطور الدولة السودانية في القرن الثامن عشر جاء بجلاء رؤية تتبناها الحركة وسوف تشكل احد توجهاتها وطموحها " وقد اسس محمد احمد المهدي عام 1880م صوفيًا مصلحًا ومجتهدًا ومجاهدًا بحجة المهدية المنتظرَة ، ثورة جهادية سعت للسير بالجهاد فيما حولها من الاقاليم لتطهر الارض وتملاها خيرًا. وما كان للامبريالية الغربية- وهي في اوج عاديتها- ان تترك هذا المشروع التحريري الاسلامي يمتد في الارض. فاحدقوا به مهاجمين الانجليز من تلقاء مصر، والفرنسيون من الغرب، والطليان من الشرق، والبلجيك من الجنوب. وحرض الانجليز الاحباش من الشرق، وقادوا المصريين ومن اعانهم من السودانيين من الشمال ليعيدوا فتح السودان ويئدوا الدولة الاسلامية لبضعة عشر عامًا".

    يرجع د. الترابي نشاة الحركة الي العام 1954 وزادها انذاك تقاليد التنظيم الغربية في ترتيب اوضاعها الاساسية ومن الحركة الشيوعية بنهج التنظيم والحركة، بل يرجع نشاة الحركة الي " ولا ريب ان الحركة وقد نشات في كنف معهد جامعي نظامي غربي الطابع- قد اخذت من الفكر الغربي بعض وجوهٍ لطرح دعوتها الاسلامية ومن تقاليد التنظيم الغربية شيئًا كثيرًا في ترتيب اوضاعها الاساسية. ولكن اخذت الحركة ايضًا شيئًا من منهج التنظيم والحركة من مصدر قد يكون غريبًا، وهو الحركة الشيوعية التي كانت غَالِبةً في الاوساط الطلابية وصَاعِدة في الوسط الحديث عامة- لاسيما ان بعض العناصر التي اسست الحركة الاسلامية مرت قبلها بالحركة الشيوعية فاستفادت شيئًا من تجاربها التنظيمية في بناء الخلايا السرية وتربية العناصر الحركية. ثم ان المنافسة التي كابدتها الحركة الاسلامية الناشئة في البيئة الطلابية انما كانت اساسًا مع الحركة الشيوعية، بل يمكن القول بان الحركة نشات تحت وطاة الاستفزاز والضغط الشيوعي الاكبر، ولذلك اضْطُرت بعامل المقابلة ورد الفعل ان تاخذ عنها بعض التجارب التنظيمية والوسائل الحركية.

    اذن من هو البديل الموضوعي لكافة هؤلاء " فاذا بطائفةٍ من المسلمين يرتدّون على محاولات الاستلاب الغربي تاكيدًا لهويتهم واصالتهم، تاخذهم العزة في دينهم بعد المسكنة. واذا بهم يحيون اصولهم وتراثهم ويذكرون امجاد الاسلاف. وكانت هذه لاول الامر مشاعر غائمة غائرة، فتولدت منها اخلاط تصورات عن خصوصية الذات، وعبرت عنا انماط من الحمية الوطنية والقومية، واستمدت منها روح الكفاح والجهاد في سبيل الاستقلال السياسي لاوطان المسلمين. (الدكتور/ حسن الترابي: الحركة الاسلامية في السودان)

    الاساس النظرى

    ربما تعتبر نظرية الحاكمية للة (ايضا ولاية الفقية الشيعية فى صيغتها الخمينية) والحوار حولها اهم القضايا التى شغلت بال المسلمين اثناء صعود تيار الدولة الدينية، اذ انها تتصل مباشرة بالسلطة ونوعها وحدودها. وقد جاء رصد تبلور هذة النظرية وتسربها الى تيار الدولة الدينية فى العالم العربى والاسلامى فى عدة مؤلفات يهمنا منها كتاب خريف الغضب، محمد حسنين هيكل، مركز الاهرام للترجمة والنشر، 1988 و حيدر ابراهيم، التيارات الاسلامية وقضية الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان 1996 والامام الصادق المهدى: ميزان المصير الوطنى فى السودان، مكتبة جزيرة الورد، القاهرة 2010.

    منذ ان القيت من الخوارج " لا حكم الا للة" لانهاء الصراع بين سيدنا على ومعاوية عليهما رضوان اللة، امتد الان فى الوقت الحاضر الى اكثر من عملية تحكيم ليعنى الحكم والسلطة و تستدل بالايات 44-45 -47 من سورة المائدة. لم يرد لفظ "الحاكمية لله " في القران ولكن جاءت فى صيغة "الحكم لله" بمعنى الارادة الالهية، وهو معنى بعيد عما اريد لها . ( حيدر ابراهيم، التيارات الاسلامية وقضية الديمقراطية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان 1996 ). . صاغ الشيخ الترابي هذة الحاكمية فى دستور1998 " المادة 4 : الحاكمية في الدولة لله خالق البشر، والسيادة فيها لشعب السودان المستخلف، يمارسها عبادة لله وحملا للامانة وعمارة للوطن وبسطا للعدل والحرية والشورى، وينظمها الدستور والقانون."
    وخلافا لهذا الراى يرى الامام الصادق المهدى " هذا الدستور الذى اجيز استصحبت المادة 4 منة مفهوم ابو الاعلى المودودى حول الحاكمية الالهية الذى يفضى الى الثيوقراطية ويتيح للبشر ممارسة سلطانهم باسم اللة. ما من مؤمن ينكر قدرة اللة الكلية، ولكن الحاكمية – السيادة- مفهوم سياسى وهى للشعب.. مفهوم الحاكمية اتخذة النظام ليضفى قدسية على اعمالة البشرية ويدعى انة يحكم باسم اللة حتى وهو ينتهك كل المبادىء الربانية المضمنة فى الشريعة الاسلامية". ( الامام الصادق المهدى: ميزان المصير الوطنى فى السودان)

    طرحت هذة ( الحاكمية لله) حينا والاسلام هو الحل احيانا اخرى والتى تقود الى تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية كشعار وهي تعني فيما تعني: " ان الجماعة الاسلامية لا تريد الحكم لنفسها ، مثل بقية الاحزاب والتنظيمات الاخرى .. وانما تريد الحكم لله. والهدف بطبيعة الحال، هو ان يقارن المواطن البسيط ، بين حكم الله وحكم البشر، فيختار حكم الله، ويؤيد الجماعة الاسلامية، التي تزعم انها سوف تطبقه عليه ، متى ما وصلت الى السلطة" ( عمر القراى، دستور ولاية الخرطوم، مكيدة سياسية، مقالات فى جريدة الصحافة). طبعت هذة الحاكمية التكوينات الترابية التى انشاها على مدى السنوات بعدة مظاهر.
    اولا: اذا كانت الحركة تود اعادة صياغة السودان وتآهيله للمشروع الحضارى فقد بدات بعضويتها وعملت عليهم حيث يتم انتقائهم بدقة، ثم تعرضهم على نظام التربية الوثيق الذي اتخذته من قدوتها في مصر وهو النظام الشائع في التنظيمات الصوفية والمتمكن في التقاليد الدينية وليس نظام الحشد والتعبئة الاجمالية فى نظام الاحزاب الوطنية الحديثة. وكان منهاج التربية واطارها لاول العهد نقليًا يُحاكي نظام الاسر في تنظيم الاخوان المسلمين بمصر، ولكنه في سياق تطور الحركة ونضجه شهدت تطورًا بعيدًا. ويمكن ان نحكي اطواره في ثلاث مراحل: المرحلة الاولي: التزكية الفردية في الاسرة وقد اقتصرت اغراض التربية على تعزيز التدين وحفظه وتركيز الولاء. فقد كانت المناهج تعليمية تلقينية لترسخ الافكار الجديدة. وكانت تُمارس في اسر صغيرة مغلقة تحيط العضو بوشيجة وثيقة تجسد له انتماءه العضوي للمجموعة. وكانت الاسر سرية لعزل العضو الجديد من علاقاته القديمة ولملاحظة الحذر الامني الذي كان عاملًا زائدًا في تاكيد وحدة المجموعة في وجه المجتمع الخارجي. وكان يشرف على الاسرة نقيب يتخذ صفة الشيخ المعلم ويهيمن على الاعضاء ليرشدهم وليربيهم على الطاعة لنظام الجماعة. المرحلة الثانية: التربية للدعوة المفتوحة والمرحلة الثالثة: التربية للاصلاح الاجتماعي.

    كان الغرض هو خلق نظام من السمع والطاعة والاستعداد للتضحية والعزل عن البيئة الاجتماعية، ومن ثم الصب فى قالب عام او ما يسمى الصورة النمطية، بحيث يكون الانتماء الحزبى اقوى من اى علاقات. وقد ادى ذلك الى تمظهر الاخوان – مثل الانصار او الختمية الذى تعرفهم من الجلابية الختمية او الانصارية- الى سلوك متشابة سواء فى الملبس، التصرف، الصوت والحديث. اكتمل بناء التنظيم الحديدي القائم على القيادة الكارزمية والمفكرة والمنظرة "كل امور التفكير والتدبير" وجماعة عليها التنفيذ والطاعة.

    يرسم د.التجانى عبدالقادر صورة عن تداخل الجديد المعاصر والقديم فى ترتيب السمع والطاعة فى تنظيمات تيار الدولة الدينية: " شعرت كاننى كنت في مقابلة مع مدير لاحدى الشركات. الحديث المقتضب، والاجابات القصيرة القاطعة، وسد كل نافذة تقود الى الثرثرة في الامور الشخصية والهموم الانسانية الجانبية. ادركت فيما بعد حينما توغلت فى دراسة النظم الاجتماعية، ان ذلك نمط من انماط القيادة «الرشيدة» التى تقود المؤسسات «العقلانية» الحديثة، والتى يوصى بها اصحاب نظرية الحداثة، حيث لا ينظر المدير او صاحب العمل الى الانسان كله، وانما ينظر فقط الى جزئه الذى يدخل في العملية الانتاجية. ويعتقد البعض ان هذا النمط من الحداثة والمؤسسية هو «السر» الذى استمد منه الترابى قوته، اذ استطاع بهذا اللون من الحيادية الباردة، والصرامة الادارية ان يوجد ثقافة تنظيمية جديدة تقضى على ثقافة التسكع والثرثرة، وان يبنى في فترة وجيزة تنظيما محكما يتجاوز به التنظيمات اليسارية والحزبية التقليدية، اما خصومه فيرون ان مثل هذا الجفاف الادارى هو الذى يقضى على روح الاخوة، وان تحويل التنظيم الاسلامى الى ما يشبه الشركة يشكل انحرافا عن المنهج الذى وضعه حسن البنا ". (د/التجانى عبدالقادر - البنية التحتية للفساد http://www.sacdo.com )

    ثانيا: اذا كانت الحاكمية هى الاساس النظرى للحزب فهى تجيز وتبرر للعنف الذى يمارسة حزب اللة ضد حزب الشيطان وقد كان هذا جزءا من التراث المصرى، اذ كان للاخوان المسلمين ( النظام الخاص) وهو تنظيم مسلح. ويقول الكاتب الاردني ابراهيم غرايبة " تعود تجربة العنف في "جماعة الاخوان المسلمين" الى الاربعينيات عندما انشات تنظيما عسكريا لمقاومة الاحتلال البريطاني في مصر، وفي قناة السويس بخاصة، وشاركت الجماعة ايضا في حرب فلسطين عام 1948 ولكن اعمال العنف امتدت لتشمل اشخاصا ومؤسساتٍ مصرية، مثل اغتيال رئيس الوزراء النقراشي، واعمال عنف اخرى استهدفت قضاة وشخصيات سياسية ومؤسسات مختلفة، وادت هذه الاعمال الى التضييق على الجماعة، وربما كانت هي السبب الرئيسي في اغتيال قائد الجماعة ومؤسسها الشيخ حسن البنا رحمه الله". (الكاتب الاردني ابراهيم غرايبة: الحركة الاسلامية وما بعد العنف؟ المصدر: اسلام اون لاين). ويؤرخ لظاهرة العنف الطلابي عام 1968 بجامعة الخرطوم عندما اقام تنظيم طلاب الجبهة الديمقراطية احتفالا تم خلاله عرض رقصة جماعية من التراث الشعبي لغرب السودان تسمى العجكو فقام طلاب الاتجاه الاسلامي بالاعتداء على المجموعة المحتفلة بدعوى ان الرقصة تثير الطاقات الغريزية مما ادى الى مقتل احد الطلاب ومن يومها اصبحت كل المعارك السياسية مجالا للعنف .

    ثالثا: فقه الضرورة: تحت هذا العنوان يجىء فصل كامل من الخلل الذى صاحب اداء الحركة الاسلامية فى مجال المنظومة القيمية والاخلاقية. تصنيف العالم خارجهم كحماة الكفر وشحن الاعضاء كحماة الايمان وجعلهم ممثلين للاسلام مما يتيح لهم – فى الواقع يعتبرون ان هذا حقهم الالهى- التنصل من كل الاخلاقيات. وتمتلىء المقالات عن هذا - و تحدث عنها قياديين فى التنظيم خاصة بعد المفاصلة- واستعمال العنف المفرط وتطور التكوينات العنفية الى المليشيات والدفاع الشعبى والدبابين. وربما تكون مقولة الدكتور الترابى هى الخلاصة المركزة للاستهانة بالخلق القويم والاستقامة السياسية " وكان لقائى بالبشير عشية الثورة لاودعة ان سيذهب الى القصر رئيسا وساذهب الى السجن حبيسا، ومنذئذ كنا نلتقى كثيرا منذ خروجى من السجن فى لقاءات خاصة دون العامة حتى لاينتبة العالم ان هذة الحركة حركة اسلامية اصولية فيضربوها فى مهدها. (خالد عثمان موسى: احاديث الترابى، مكتبة الشريف الاكاديمية، الخرطوم، السودان

    رابعا : تحول التنظيم الي مؤسسة اقتصادية ذات شان وقد وصفها د. الترابي بشكل عابر "وكان هذا العهد هو عهد العمل الاقتصادي الاسلامي الذي ابتُدر قبيل المصالحة، لكنه انفتح بعدها واصبح كسبًا مؤسسًا من مكتسبات حركة الاسلام في السودان – كسبًا لتجربتها في تطبيق الاسلام ولقوتها في سبيله. وكانت طائفة من عناصر الحركة قد فُصِلوا او عُزِلوا عن الخدمة العامة في العهد الماضي واضُطروا الى دخول مجال العمل الاقتصادي الحر. "ولكن وصفها د. جلاب بالمؤسسة الاقتصادية الخفية بداية من ارتباطات الاسلاميين بمراكز الثروة في دول الخليج العربي وانشاء بنك فيصل الاسلامي ودخول اعضاء التنظيم في تجارة النقد الاجنبي و نشوء تجار الجبهة كطبقة تجارية جديدة او ما وصف اقتصاديا بالراسمالية الطفيلية (الدكتورحسن الترابي: الحركة الاسلامية في السودان)

    انقلاب الانقاذ يونيو 1989

    في صبيحة يوم 30 يونيو عام 1989م اطل العميد انذاك/ عمر حسن احمد البشير، من خلال التلفزيون، واذاع البيان الاول: (ان القوات المسلحة ظلت تترقب بكل اسى وحرقة التدهور المريع الذي تعيشه البلاد في شتى اوجه الحياة وبان من ابرز مظاهر فشل الاحزاب السياسية بقيادة الامة تحقيق ادني تطلعاتها في الارض، لقد عايشنا ديمقراطية مزيّفة ومؤسسات دستورية فاشلة، وتزييف ارادة المواطنين بشعارات برّاقة مضللة وشراء للذمم والتهريج السياسي، وحتى راس الدولة لم يكن الامسخا مشوها، اما رئيس الوزراء فقد اضاع وقت البلاد وبدد طاقتها في الكلام والتردد في سياسته؛ حتى فقد مصداقيته؛ وان العبث السياسي قد افشل التجربة الديمقراطية واضاع الوحدة الوطنية باثارة النعرات العنصرية والقبيلة حتى حمل ابناء الوطن الواحد السلاح ضد اخوانهم في دارفور وجنوب كرد فان علاوة على ما يجري في الجنوب من ماساة انسانية.. وكما فشلت حكومات الاحزاب السابقة في تجهيز القوات المسلحة في مواجهة التمرد فقد فشلت ايضا في تحقيق السلام الذي رفضته الاحزاب للكيد والكسب الرخيص، وتدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وارتفعت الاسعار بصورة مذهلة، واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم؛ اما لانعدامها او ارتفاع اسعارها مما جعل كثيرا من ابناء الوطن يعيشون على حافة الفقر والمجاعة. وادي خراب المؤسسات الى انهيار الخدمات الصحية والتعليمية، بعد ان كنا نطمع ان تكون بلادنا سلة غذاء العالم اصبحنا امّة متسولة تستجدي ضرورياتها من خارج الحدود. وانشغل المسؤولون بجمع المال حتى عم الفساد كل مرافق الدولة، مع استشراء التهريب والسوق الاسود مما جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراءً يوما بعد يوم بسبب فساد المسؤولين وتهاونهم في ضبط الحياة. لقد امتدت يد الحزبية والفساد السياسي الى الشرفاء فشردتهم مظلة الصالح العام مما ادى الى انهيار الخدمة المدنية وقد اصبحت الحزبية والمحسوبية والفساد سببا في تقدم الفاشلين في قيادة البلد . لقد كان السودان دائما محل احترام وتاييد من كل الشعوب الصديقة وانه اليوم اصبح في عزلة تامة. والعلاقات مع الدول اضحت مجالا للصراع وفقدت البلاد كل اصدقائها في الساحة الافريقية. وقد فرّطت الحكومات في بلاد الجوار الاقرباء. وتضررت العلاقات مع اغلبها).

    وضع انقلاب الانقاذ الجميع في مأزق حقيقي احزابا وجماعات وقواتا مسلحة ووطنا وافرادا.، فالامال التي ساورت السودانيين مع انتفاضتهم الناجحة في ابريل 1985، والشعارات التي تعلقت بها جماهير الشارع كانت تتحقق بشكل بطىء. ولكن الذين "لا يكذبون فى وطن نملكة" كانوا يدبرون بليل منذ اول الايام " اما الاجهزة الخاصة فقد تلقَّت نذر الُلجوء الى خيار الانقلاب منذ اول العام الانتقالي، واعادت تركيب اطِرها وفقًا للانتقال الكبير من العمل في اطار النظام الشمولي المايوي الى الواقع الحزبي المتعدد، وفي ظلِّ انهيار جهاز الامن القومي الذي اسسته مايو، وانفتحت البلاد فيما يشِبه الفوضى لكل اجهزة الاستخبار الدولية والاقليمية، وتطورت حركات الهامش في الخرطوم واعتمدت خطابًا عنصريًا مفِزعًا، فيما تصدت الجبهة الاسلامية وحدها لخطاب د. جون قرنق والحركة الشعبية، وبدت وحدها في الميدان تدفع ضده. (الاستاذ المحبوب عبدالسلام: مرجع سابق )

    فماذا فعل الذين لا يكذبون فى وطن نملكة "كان تفويض مجلس شورى الحركة الاسلامية، ثم هيئة شورى الجبهة الاسلامية قد انتهى الى الامين العام، الذي اختار ستًة من كبار قادة الحركة واعلامها المعروفين بسابَقتهم وكسِبهم القيادي المتصل (على عثمان، على الحاج، ياسين الامام، عوض الجاز، عبد اللة حسن و ابراهيم السنوسى) ، مثَّل سبعتهم القيادة الشرعية ذات التفويض لا تخاذ القرار السياسي الذي ينقذ البلاد ويمكِّن للحركة الاسلامية وبموجب ذلك التفويض، الذي استصحب شورى الاجهزة الرسمية والشورى غير الرسمية التي تولاها الامين العام كان قرار الانقلاب لاستلام السلطة." (الاستاذ المحبوب عبدالسلام: مرجع سابق )

    فى 30 ىونيو 1989 استطاعت عشر دبابات وما لايزيد عن ثلاثمائة فرد الانقضاض علي مقاليد السلطة في السودان. انقلاب كان الجميع علي علم به – اذكر انني في ذلك الحين كنت اعمل مديرا للخدمات الصحية في اقليم دارفور وكنت علي اتصال دائم بالمفاوضات الجارية لحلحلة الحرب الاهلية التي كانت تحتدم في دارفور. وقد كتبت في ذلك الوقت مقالا مطولا لجريدة الميدان عن دور القوات المسلحة في السياسة وقد كان استنتاجي في ذلك المقال ان الجبهة القومية الاسلامية تدبر لانقلاب، ولم اكن متنبأ او عبقريا فان هذه الملاحظات التي بنيت عليها استنتاجي كانت ظاهرة لكل الاعين، وقد سلمت المقال في ذلك الوقت للمرحوم مكي عبدالقادر سكرتير تحرير الميدان ولكن لم ينشر لان الانقلاب كان اسرع .ولان الشيء بالشيء يذكر فقد نبهني صديقي الضابط برتبة العقيد في ذات ليلة كنا نشاهد فيها الحلقة التي استضافت الرئيس عمر البشير انذاك العميد – بعد معركة ميوم – ان لقب العميد عمر البشير في اوساط اسلامى القوات المسلحة السوداني هو الرئيس المؤمن وان حزب الجبهة الاسلامية القومية ستقوم بانقلاب في خلال الاشهر القادمة وقد سفهت رايه انذاك وتصديت له بالغالى والنفيس.

    برنامج انقاذ الراسمالية الطفيلية الاسلامية

    يروى ان الشيخ الترابى (والعهدة على الراوى) فى اوائل العهد وفى احدى الاجتماعات قال ان الشعب السودانى – طال الزمن او قصر- سوف يغير النظام الديكتاتورى كما حدث من قبل وان افضل الطرق لمنع هذا هو تغيير الشعب السودانى. كان انقلاب الانقاذ التنفيذ الفعلى للسيناريو الذى تم بنائة على مدى السنوات وربما من الافضل القول ان الانقلاب نفسة كان للحفاظ على هذا الاقتصاد الموازى الذى تم تهديدة بقرب احلال السلام فى السودان والتغييرات المتوقعة فى بنية السلطة. عندما نجحت الانقاذ فى تسلم السلطة كان لديها برنامج واحد وهو كيفية الانفراد بالوطن كاملا. شمل البرنامج الاحلال الكامل للعنصر البشرى فى الخدمة المدنية، الاجهزة الامنية والتعليم، السيطرة الكاملة على قطاعات الاقتصاد المختلفة وذلك باقصاء كافة رجال الاعمال حتى الصناعات الصغيرة، تصفية القطاع العام اما بتجفيفة او خصخصتة وبيعة والهندسة الديمغرافية. الانهيار الكامل للقطاعين الزراعى والرعوى كان هو النتيجة النهائية.

    اتجهت الانقاذ اولا الى القوات المسلحة والقوات النظامية والخدمة المدنية فسارعت باحالة العناصر النشطة فى الاحزاب المختلفة الى المعاش الاجبارى ويمكن ان ندعى بلا مبالغة ان هذا كان فى الحقيقة بمثابة ما يسمى فى ادب الثورات اليسارية تحطيم جهاز الدولة القديم وفية تم التخلص من اكثر من 95% من قادة العمل ما اجتهدت الانظمة والدولة فى بنائة فى اكثر من قرن. اما من كانوا فى حاجة اليهم لتسيير دولاب الدولة حتى يحين موعد التخلص منهم بعد ايجاد البديل فقد سيقوا الى معسكرات الدفاع الشعبى، وابعدوا عن محيطهم الاجتماعى كهولا وجدوا انفسهم فجاءة مطالبين بتذوق كافة انواع المذلة والاهانة والتعدى الجسدى والمعنوى، لكسر ارادتهم فى مقاومة ما سياتى وتحطيم اسطورة السودانى الشهم، الشجاع والمقاوم. اما الشباب و مريدى الاحزاب واعضائها فقد دفعوهم بالقوة الى معسكرات الدفاع الشعبى سيئة السمعة حيث اخضعوا لكل الوان الضغوط الاسرية والاجتماعية والاذلال وارسالهم الى محرقة الحرب العقائدية فى الجنوب بدون اى استعداد نفسى او معنوى او مادى. وفى تنفيذ هذا استوعبوا الخلفاء والوكلاء وقادة القبائل وقادة الاحياء فى دفع ابنائهم الى هذة المحرقة عن طريق اللجان الشعبية.

    نهجت الانقاذ الى تجفيف مصادر تمويل الاحزاب السودانية من فئات الراسمالية وزعماء الادارة الاهلية وكبار الملاك الزراعيين وزعماء الطوائف الدينية و الوكلاء والخلفاء، واصدرت قوانين تداول العملة ولاظهار عزمها على تنفيذة قامت باعدامات مشكوك فى قانونيتها ثم اصدرت قانون تغيير العملة. وفى الحقيقة فقد جففت مصادر الشعب السودانى باسرة لصالح شركة تيار الدولة الدينية ومديرها د. حسن الترابى كما وصفة د.التجانى عبدالقادر " شعرت كاننى كنت في مقابلة مع مدير لاحدى الشركات. الحديث المقتضب، والاجابات القصيرة القاطعة، وسد كل نافذة تقود الى الثرثرة في الامور الشخصية والهموم الانسانية الجانبية". (د/التجانى عبدالقادر - البنية التحتية للفساد). http://www.sacdo.com ). كان جهاز الدولة والذى غيرتة بالكامل لصالح انصارها او من استطاعت استمالتة بالمال او التهديد هو الاساس فى محاربة اعدائها. وقد عالج عدد من الكتاب والاقتصاديين تفاصيل هذة القضايا، بل ان جماهير الشعب كلة يعلم بها من واقع معايشتهم لها.
    وربما كان من النتائج الملموسة التى نراها امامنا فى الاعسار الذى ضرب على زعماء الاحزاب الوطنية الليبرالية والذى استغلتة الانقاذ عندما ارادت ارجاع الحقوق الى اهلها من المساومة، وللعجب اظهارهم بمظهر المستجدين والمتبلين عليها. ووقعت فى قواعد هذة الاحزاب باغراء زعمائهم المحليين بالسلطة والمال واعادة توزيع المراكز الادارية وتقسيم القبائل وبالاكاذيب والتهريج والشتائم لقادة الاحزاب. من دان لها من المثقفين او لاك الصمت ظلوا اما من رفع الصوت فقد كان لهم بيوت الاشباح والفصل من الخدمة والتضييق فى الرزق.

    ايضا اتجهت الى تجفيف منابع مؤيدي الاحزاب الوطنية الليبرالية فى الخدمة المدنية والعسكرية بعدة وسائل كانت قد استعدت لها بارسال اعضائها الى كافة ارجاء العالم، مستغلة جهاز دولة الحكم العسكرى الثانية (1969-1985)، لتحضير الدراسات العليا فى كل الجوانب التى ستواجهها عند استيلائها على السلطة. ولابد من الاشارة هنا الى ملاحظات وردت عند الدكتور حيدر ابراهيم فى فشل المشروع الحضارى والامام الصادق المهدى فى ميزان المصير الوطنى ان تيار الدولة الدينية قد نال معاملة مؤيدة وداعمة وفى اسوا الاحوال معاملة " ناعمة" ويمكن الرجوع الى كثير من الكتابات التى تناولت علاقة تيار الدولة الدينية مع السلطة - خاصة كتابات الدكتور حيدر ابراهيم والدكتور عبدالله جلاب: الجمهورية الاسلاموية الاولى : نشاة و تدهور الاسلاموية في السودان، صدر عن دار اشقيت في 2007.

    اتبع الحكم العسكرى الجديد عدة استراتيجيات لتطويع الاجيال المستقبلية بدا من تغيير المناهج التعليمية بالكامل كدرس مستفاد من التجربة النميرية فى نسختها اليسارية. ثم تغييرات التعليم العالى ( وقد كنت شاهدا على تجربة جامعة الجزيرة عام 1990، فبعد احالتى للمعاش للصالح العام؟؟ عملت بالمشاهرة مع مركز الرعاية الاولية والصحة الريفية التابع لكلية الطب، وهو احد الانجازات العلمية والتى قادها دكتور ابراهيم محمد عبد الرحيم- احد علماء السودان البارزين بمنظمة الصحة العالمية والدكتور الباقر احمد الفكى احد اعلم الجراحين السودانيين والمساهمين الكبار فى مجال الرعاية الصحية الاولية- وقد تم اعفاء مربى الاجيال و العالم والانسان البروفسير ميرغنى حمور وتم تعيين البروفيسر التجانى حسن الامين ( حاصل على الدكتوراة في علم الادوية والعقاقير)، فقام فى اوائل عهدة بفصل العديد من اكفأ اساتذتها بحجج سياسية وبحجة ان بعضهم "لا يحفظ القران". او لانهم رفضوا الذهاب للدفاع الشعبى للجهاد وغير ذلك. وكان ضمن احد قراراتة تحويل المركز الوحيد من نوعة فى العالم العربى الى مركز اسلمة المعرفة – شعارا لم يذهب لاى مكان-، ثم زيادة القبول في طب الجزيرة من خمسين الى مائتين وبذلك فقد ارتكب ما يسمى بالقرار الصائب سياسيا – لحوجة السودان لمزيد من الاطباء – والخطا تقنيا لان قرار مثل هذا يحتاج لدراسات وخيارات لان الامكانات كلها مصممة لخمسين طالب وحتى لو اراد انذاك ان يعمل على الزيادة فهناك تجارب فى العالم ولكن هذا معول التعيين السياسى .

    عندما قارب الانقاذ قضية التعليم كانوا قد جاءوا لها وفى جعبتهم الكثير فقد كان ميدان التعليم احد اهم الميادين التى احترفوا السيطرة عليها وتجنيد الطلاب فى المدارس الثانوية ثم كافة انواع الهيمنة لحسم الصراع ضد القوى المخالفة لهم وتأهيل الاتباع الذين سوف تبتعثهم للكلية الحربية اوتسيطر بهم على اتحادات الجامعات. ولكن عندما امتطوا السلطة ورغم ان الخط العام يقوم على السيطرة على المجتمع وتنميطة، الا ان التنفيذ كان عشوائيا ودعائيا ومظهريا. كان من اول الميادين التى اراد الانقاذ اختراقها التعليم العالى، فهذا الميدان هو مصادر القلق و التهييج والاحتجاجات فابتدع النظام فى بداياتة ماسمى بثورة التعليم العالي ولكن الثورة فى حقيقتها كانت خاوية من البرامج المدروسة او المبرمجة، سوى الرغبة الكاسحة فى اكتساب النجاحات السريعة فتمخضت عن توسع عشوائي للتعليم العالى فى ناحيتة الكمية بدون اى اهتمام بالنوعية او متطلبات العملية نفسها، ترافق مع ذلك التخلص من الخصوم ومحاصرتهم وتمزيق اوصال الاساتذة والذين تعرضوا لاكبر عملية تشريد واحالة الى الصالح العام بعد القوات النظامية والى الاحلال العشوائى بعناصر موالية ولكن عديمة الموضوعية وتغليب المصلحة التعليمية.(يمكن للمستزيد الرجوع لكثير من المقالات والكتب التى عالجت هذة القضية واهمها مداولات مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العالى فى السودان، القاهرة 1-5 اغسطس 1998 تحرير البروفسير محمد الامين التوم والتى رصدت مبكرا اهم استراتيجيات الانقاذ نحو التعليم العالى)

    رغم ان ادبيات تيار الدولة الدينية تشير كما يورد الاستاذ امين حسن عمر الى تبنى الحركة الاسلامية استراتيجية المنهج المعتمد في علوم الاجتماع لتحقيق التحول الاجتماعي وهو منهج اعادة التعليم والتوعية، وذلك من خلال نقد القيم السائدة والتذكير بالقيم الاسلامية والدعوة للاستقامة عليها . وينفى الاستاذ امين حسن عمر عن الحركة الاسلامية، التي يتهمها خصومها بالافراط في استخدام وسائل السلطان، استعمالها استراتيجيه اساليب هندسة المجتمع (Social engineering) وذلك باستخدام وسائل السلطة ( الاستاذ امين حسن عمر: مقاربة الانقاذ للمشروع الاسلامي واثرها على مستقبل الاسلام بالسودان http://www.sudansite.net/.

    لكن هذا لا يصمد مع الوقائع التى تكذبة وترينا تنظيما يريد فرض رؤيتة الخالصة على الوطن ،هذا الضرب من التراكيب اللغوية لا يقنع وما تمخضت عنة التجربة المريرة ان الحركة استعملت جهاز السلطة والعنف الشرعى والغير شرعى فى محاولة فرض هندسة المجتمع، بترويع السودانيين فى بيوت الاشباح، تصفية الخصوم العسكريين واذلالهم بالتعذيب المنهجى وافراغ المجتمع من نخبتة القائدة فى كافة شعب الحياة تطبيقا لنظرية ارض بلا بشر خارج الحركة لترث الحركة الاسلامية كل الارض. بل وانشات ما اسمى وزارة التخطيط الاجتماعى عام 1993 (وهى عادة من الوزارة الهامشية منذ انشات عام 1955 تحت مسمى وزارة للشئون الاجتماعية) والتى تنبه تيار الدولة الدينية لاهميتها البالغة والتي اعتبرت من اهم المناصب انذاك وعين لها كوزير الرجل الثاني انذاك للحركة الاسلامية الاستاذ علي عثمان محمد طه." وهى وزارة مبتكرة كان الامين العام يقدر لها شانا عظيما لحركة اسلامية غايتها تحديد المجتمع وتبديلة على نحو شامل(هندسة للمجتمع)، وفق اصول ومبادىء الاسلام". اذا لم يكن هذا الذى عملت لة الانقاذ هندسة للمجتمع فماذا نسميها اذن؟ ولكن الذى حدث ان المجتمع السودانى بمنظومة قيمة القائمة على التسامح والاستنارة والجسارة ردت كل المحاولات واوقفت تغول تيار الدولة الدينية مع كثير من العسر( المحبوب عبد السلام: مرجع سابق).

    الموقف الايديلوجى الثابت لحركة الاخوان المسلمين هو عروبواسلامية السودان ولتحقيق هذا اتبعت عدة استرايجيات تطرقنا للحديث عنها اعلاة لكن اهم هذة الاستراتيجيات واخطرها ما يعرف بالهندسة الديمغرافية. الغرض الاساسى من هذة الاستراتيجية هو اعادة تشكيل الخريط السكانية السودانية وذلك باحلال وابدال القبائل السوداء الغير عربية اما بمجموعات سكانية عربية او مجموعات سكانية مجاورة.

    الصراع بين قبائل الزرقة المستقرة والعرب الرعوية لة تاريخ طويل وكان اخرها الصراع الذى امتد فى نهاية الثمانينات وانتهى بالصلح القبلى فى اوائل عهد الانقاذ. كانت مجمل الصراعات بين انماط حياة ويسقط فيها القتلى من كل جانب من استخدام بنادق عتيقة وسيوف وحراب ويتم حلها عن طريق الحوار والاجاويد بعد تقديم تنازلات متبادلة تحفظ للطرفين المحافظة على انماط حياتهما. كان هذا هو الحال حتى بدأت حكومة السيد الصادق – تولى الملف اللواء فضل اللة برمة ناصر- فى خلق مليشيات عربية (المراحيل) لايقاف الحركة الشعبية من التسلل الى كردفان ودارفور مسلحة باسلحة حديثة والذى نقل الصراع الى الاكثر وحشية وفتكا. وكما لاحظ الكس دى وال "وفى وقت زيارتى عام 1985م توجد أسلحة قليلة يتم إمتلاكها بواسطة أفراد وتعتبر نادرة ".لم تكن فى الاجندة اجراء اى تغييرات ديمغرافية حتى جاءت الانقاذ وتبنت الاطروحة العامة "تنظيف الدار من الزرقة. فى دارفور، العرب وغير العرب على حد سواء تم تهميشهم ويتلقى سكان دارفور تعليما أقل، ورعاية صحية وأقل ، ومساعدات تنمية اقل، مناصب حكومية اقل من أي منطقة. ". Alex de Waal: Counter-Insurgency on the Cheap. )

    ان انتقال القبائل العربية المترحلة فى الدخول الى المراعى السودانية كانت من مظاهر الحياة العادية ولكنهم كانوا يعودون لمناطقهم الاصلية ولكن الانقاذ حولتها لاقامة دائمة. اتبعت تكتيكات مشابهة فى دارفوار وجنوب كردفان من تهميش المنطقة واهمالها ودفع القبائل العربية المسلحة الى التضييق على القبائل الافريقية واحتلال اراضيها الزراعية وتهجيرها اما للخارج او اللجوء لقمم الجبال وتركها لمصيرها. اخذ الوضع فى دارفور بعدا اخرا لقلة اعداد القبائل العربية والتى لديها امتدادات طبيعية فى الدول المجاورة. فقد بدات الحكومة فى استجلاب القبائل العربية للمناطق التى اخلتها القوات المسلحة والجنجويد كما ذكر إستيف بلومفيلد مراسل صحيفة الانديبندت البريطانية فقد قامت الحكومة في غضون شهرين فقط بإدخال 30 الف عنصر من الجنجويد المستورد وهم من عرب النيجر وتشاد بكامل امتعتهم ومستلزماتهم الي 'ارض الميعاد الجديدة' ومن ثم قامت بإستخراج بطاقات هوية سودانية لهم وإعادة تسكينهم في القري التي تم إفراغها من قبل من سكانها الاصليين، في إطار برنامج مدروس ومحكوم بدقة متناهية يهدف لإحداث خلخلة في بنية التكوين الديمغرافي في الاقليم توطئة لإلحاقه لسودان محور حمدي بإستثناء الجنوب طبعآ. هذا فى الوقت الذى يوجد اكثر من مليونان ونصف فى المخيمات حول المدن والالاف اللاجئين فى تشاد، مصر، الدول الغربية واسرائيل. هذا هو الذى دفع بابناء قبائل دارفور الافريقية للتنصل من الحركة الاسلامية حين تبينوا ما يحاك لقبائلهم ومناطقهم من داود بولاد الذى انضم الى الحركة الشعبية لتحرير السودان واسر بعد ان اقتفت الحكومة اثرة وطاردتة باستخدام كلا من القوات المسلحة النظامي وميليشيا من عرب بني هلبة. وكذلك الشهيد خليل ابراهيم الذى اسس حركة العدل والمساواة واغتيل فى احدى اغرب جرائم الاغتيال فى السودان. (Arabs pile into Darfur to take land 'cleansed' by janjaweed Steve Bloomfield، Africa Correspondent، Published: 14 July 2007 ) .

    عندما نعالج هذا المشروع الانقاذى ننظر الى السكان ( عربا وافارقة) كضحايا لتدبير استراتيجى لنظام شمولى بنى كل تخطيطة على تيسير بقائة فى السلطة ومدها وليس صالح السكان. ان سكان دارفور يعانون من مصاعب حقيقية من الجفاف، التصحر، ضعف الخدمات وقلة التنمية الزراعة رغم انها تنتج من الذرة ما يمثل 11٪ و 63 ٪ من الدخن و3٪ الفول السوداني والسمسم 25% من انتاج الكركديه. وتعتبر الثروة الحيوانية من الماشية والرعاة والماعز والإبل ويقدر عدد الثروة الحيوانية حوالى 30 مليون راس. ان الطبيعة المترابطة بين المزارعين والرعاة استطاعت ان تحفظ الحياة السلسة فى الاقليم ونظن ان سكانها حريصون على استمرار حياتهم.

    اما مناطق النوبيين فقد تم التخطيط لتفريغها من السكان عن طريق بناء عدد من السدود وفيما يتداول خبراء في المنابر بان الحكومة تنوي انشاء 10 سدود في شمال السودان أغلبها على نهر النيل، يرى آخرون ان جملة السدود المقترحة عددها 23 سدا في كل السودان. وترى الحكومة ان السدود من شانها ان تغير حياة الناس على شريط نهر النيل، الذين يفوق عددهم المليوني نسمة. وتقول ان حياتهم ستتغير نحو الأفضل، بتوليد طاقة كهربائية إضافية وممارسة انشطة جديدة مثل صيد الأسماك، ومضاعفة الرقعة الزراعية. ولكن المعارضين يقولون ان سكان هذه المنطقة، سيضطرون إلى النزوح بفعل غمر مياه النيل لعشرات القرى. وتقدر دراسات بان المتأثرين من هذه السدود يفوق الـ500 ألف نسمة. كما يقول خبراء آثار في السودان، ان المنطقة التي يقيم فيها السكان منذ حوالي 8000 عام، ستفقد المئات من المواقع الأثرية في النوبة القديمة، من بينها أهرامات شهيرة. ويرى منتقدو المشروع، ان السد لا يزيد الرقعة الزراعية بل يغمر ما هو موجود، وهو «الأخصب والأجود»، كما يقولون. وطبقا للدراسة المتداولة، فان المتأثرين بالسد يبلغ عددهم نحو 240 ألف نسمة في مناطق تعتبر ذات كثافة سكانية عالية في الشمال، وسيكون مصيرهم التشرد. وتمضي الدراسات بحذر شديد في منطقة كجبار التي تقع على بعد 350 ميلا إلى الشمال من العاصمة الخرطوم، لانشاء سد مائي على نهر النيل باسم «سد كجبار لتوليد الكهرباء، وسد آخر باسم دال إلى الشمال من كجبار، قبالة منطقة دال على بعد 100 ميل على الحدود مع مصر». ويعطي الدكتور محمد جلال الناشط بين المناهضين للسدود يرى ان سدود النهر «لا فائدة منها»، وقال: «لا تعطينا كهرباء تساوي حجم التضحية»، فيما يقول الأفندي «انهم يريدون طردنا.. ونشك بانهم يريدون تحويل أراضينا لآخرين». ويذهب عثمان إبراهيم إلى ان سدود دال وكجبار والشريك ومروي، الغرض منها توفير حماية للسد العالي في مصر. ويعتقد الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري، عضو برلمان الولايات عن شمال السودان، لـ«الشرق الأوسط»، ان مشكلة السودان، انه «يطبق نموذج السد العالي في مصر». وقال الكاروري، وهو قيادي إسلامي ومن المناصرين للحكومة، ان السدود التي تقام الان على نهر النيل «أحادية الفائدة»، تنتج كهرباء بلا زراعة، «ونحن بلاد زراعية، وبالتالي فان السكان، وهم من المزارعين، يرفضون هذه السدود، ويرون انها مشروعات غير مرغوب فيها لانها تهجرهم، وفي الوقت نفسه لا توفر لهم الزراعة». وأضاف: «نحن نحتاج إلى سدود مزدوجة الأغراض، وهذا غير موجود». (إسماعيل آدم: السودان.. وعنف السدود: صحيفة الشرق الاوسط، الجمعـة 09 شعبـان 1430 هـ 31 يوليو 2009 العدد 11203) .

    هذة هى الارضية التى يحلل منها الدكتور محمد جلال هاشم " وفى هذا المخطط من المفترض ان تبتلع مصر طعما فيما تقوم باستيعاب الجزء الشمالى من شمال السودان، اى المنطقة النوبية، وتابع هاشم فى الشمال النوبى تم توقيع الحريات الاربع مع مصر بغرض شرعنة الاستقطاب المصرى فى السودان، هذا بينما لاتزال القيود هناك كثيرة لدخول السودانيين الى مصر، واضاف من جانبها قامت الحكومة السودانية بالتخطيط لقيام «سدى دال وكجبار» وذلك نية افراغ المنطقة من السكان تمهيداً للاستقطاب المصرى، حيث تخطط لاعادة توطين النوبيين المتأثرين بهذه السدود فى منطقة الشوك بالقضارف وعلى ضفاف نهرى الدندر والرهد حسب ماورد من معلومات على حسب قوله، وتابع كما تم فى ابريل فى العام 2004 منح الشركات المصرية «6.1» مليون فدان فى الحوض النوبى لآجال طويلة المدى وذلك لتقنين الوجود والاستيطان المصرى وبخاصة فى شمال السودان، وذلك لاعادة هندسة الخريطة الديموغرافية فى السودان. وقد تحرك النوبيون بتاثير هذة المخاوف " تم اليوم تسليم السفارة الصينية رسالة احتجاج ضد بناء سدي كجبار ودال. ففي أكتوبر من عام 2010م فازت شركة سينوهايدرو المملوكة للحكومة الصينية بعطاء بناء سد كجبار. وقد تبنت رسالة الاحتجاج اللجنة العليا لمناهضة بناء سدي كجبار ودال، وهي اللجنة التي تمثل النوبيين بشمال السودان الذين يعارضون بناء هذين السدين. فسد كجبار من المخطط له ان يبنى بالشلال الثالث بينما سد دال من المخطط له ان يبنى بالشلال الثاني؛ سوف يقوم السدان بغمر المنطقة من قرية دال على الطرف الجنوبي من الشلال الثاني (وهي أقصى نقطة جنوبية لحدود بحيرة النوبة الناجمة عن السد العالي بأسوان) صعوداً على النهر إلى جزيرة مقاصر قبالة مدينة دنقلا عاصمة الإقليم الشمالي. ويعني هذا ان تصبح المنطقة من دنقلا نزولاً إلى أسوان بمصر مغمورة، وبالتالي خالية من السكان. ويخشى النوبيون ان هذا جزء من خطة لإعادة هندسة الخريطة الديموغرافية تهدف إلى إزاحتهم من وطنهم التاريخي، الأمر الذي حتماً سوف يؤدي إلى طمس هويتهم وتراثهم الذي يمتد بطول التاريخ فضلاً عن الآثارات والمواقع التاريخية والصروح التي ستفقد إلى الأبد. "

    الطريق الى المفاصلة وبعدها

    لقد كان الانشقاق او ما عرف فى الادبيات الاسلامية بالمفاصلة عام 1999، التى شهدت الانقلاب على الدكتور الترابى وتجريدة من كافة صلاحياتة الدستورية وانقسام الحركة الاسلامية الى حزبى المؤتمر الوطنى والشعبى، صاعقة حطت على الذين انخرطوا فى بناء "دولة الصحابة فى السودان" سواء من الحركيين، السوبر تنظيم او المثقفين اذ ارجعتهم بقسوة وبلا مواربة الى قوانين التطور الاجتماعى والسياسى والتى ظلوا ينكرونها وكانهم خارج التاريخ. وتنبة بعضهم الى الظلامات التى كانت تملا الفضاءات الاعلامية وسياسية العنف المفرط والشراسة وقطع الارزاق والرؤوس- بعد ان ذاقوا بعضا ناعما منها فظهر فى الساحة بعض مثقفيها يحاولون التنصل والتبرير ومحاولة ايجاد منفذ للتواجد المستقبلى. على كل حال يرجع الكثيرون مما تناولوا هذا الحدث الذى استقبلة السودانيين بشك عميق واطلقوا عليها التمثيلية الثانية ( الاولى هى القصر رئيسا وكوبر سجينا) الى عدة اتجاهات تحليلية.

    الاتجاة الاول وقد تبناة الدكتور الترابى فى وثيقة كتبها عام 2001 - نقد ومراجعة لتجربة الاسلاميين والانقاذ (حركة الاسلام عبرة المسير لاثني عشر السنين) ومختصرها ان كل شىء كان جيدا فى البداية قد افسدتة الطغمة الحاكمة التى ابعدتة اخيرا " الاوضاع والسياسات السلطانية لثورة الانقاذ طلعت اولا انقلابية مبهمة ثم تكشفت بعد عام ونصف تعلن وجهة اسلامية سافرة ثم تطورت اصلاحا متواليا الى دستور وقانون مرسوم يصدق مبادئها يكفل الحريات الشخصية والتعبيرية والحزبية ويرتب انتخاب ولاة السلطة بحرية وعدل ويهيئ دستورية نظام السلطان مناصب واجهزة متضابطة متوازنة بلا حكر او بغي في السلطة و يطور لامركزية التشريع والامر العام لتعتدل بين شعوب الوطن قسمة السلطة والثروة. ثم سقط النظام من ذلك الدرج الصاعد نحو الرشد والتقوى والحكمة الى مدارك هوى الطغيان والظلم ليستبد الاكابر، يعربد بهم طائشا شيطان الفرعنة ويؤمنهم جنود يحرسون مقاماتهم ويجوسون ويدوسون الرعية، ويعلنون مقولات ويرفعون صورا باسم الحريات والانتخابات والشرعية و اللامركزية، وما هي الا اعراض زور ونفاق. اما جمهور قواعد الشعب فقد كان لاول العهد ينظر للثورة مراقبا ثم اقبل بولائه العريض لنداء الدين المعلن ورجاء الدنيا الموعودة ثم اخذ اخيرا يدبر وينصرف عن موالاة المتامرين الذين صاروا الى افتضاح او ارتداد".

    على نفس المنوال سار مناصروا الدكتور الترابى الى ارجاع الصراع الى ان اساسة الموقف من الحريات واشهر هذة الكتابات مؤلف الاستاذ المحبوب عبدالسلام الحركة الاسلامية وترتكز الاطروحة على ان الدكتور الترابى طور نظريتة عن الحاكمية الى القول باجماع غالبية المسلمين (اي الراي العام لجمهور المسلمين ) في اي وقت معلوم ( لتجاوز علماء الدين). ومن هذا المنطلق فان الدكتور الترابى يري ان الحكومة في الدولة الاسلامية يقع اختيارها من قبل الشعب وبناء علي الارادة الحرة لاغلبية المسلمين ولكن الترابي ايضا اعتبر الحركة الاسلامية بمثابة القائم والقيم علي الاسلام والشريعة في اطار الدولة الاسلامية. (المحبوب عبد السلام يدافع عن افكاره في (عشرية الانقاذ الاولى، http://www.alhagiga.com/)

    ويرجع المحبوب ان هذا الخلاف جاء حول قضيتين: اولهما: اولوية المجتمع على الدولة، وثانيهما بسط سلطة لا مركزية داخل التنظيم وداخل البلاد والتى تؤدى كنتيجة مباشرة ان الحركة تريد ان تؤسس مجتمعا ديمقراطيا كل شخص فيه منتخب وبالتالي محاسب وانه مجتمع يقوم بغالب وظائفه، والدولة ما هي الا بعد من ابعاده. وفى تداول الايام فقد تركزت السلطات لمجموعة الاستاذ على عثمان محمد طة، نائب الامين العام، ومن ناصرة وخلقت معادلات جديدة " كما قلت فان الدولة لها شروطها، وتفويض السلطة يخلق شروطا جديدة، فاذا اسست جهازا مثل جهاز الامن واعطيته تفويضا محددا وتجاوز هذا التفويض لا تستطيع ان ترصد كل هذه التجاوزات وتصلحها في الحال الا ان تستبدل كل هذه المجموعة بمجموعة اخرى تؤسس نظاما جديدا له روح جديدة، يمكن ان تتماشى مع البرنامج الاسلامي، وهو امر ليس ميسورا وليس بهذه السهولة"." وان تتم مناقشة واصلاح كل تلك التجاوزات داخليا، واخيرا عندما اصر على الديمقراطية منذ سنة 1996م راى ان الاصلاح الداخلي لن يكفي، ولابد ان يكون اصلاحا شاملا في المجتمع، وبدل ان يظهر في شكل صراع بين قطبين في الحركة الاسلامية وكلهم يواجهون تحديا واحدا هو تحدي الحريات لانه ستكون هناك صحافة حرة وبرلمانات تراقب وتشرّع، وهذا البحر من الحريات كان سيغمر الصراع داخل الحركة الاسلامية ويطهر الممارسات الشاذة فيها، ولكن الطرف الاخر الممسك بالسلطة كان واعيا بهذا البحر الذي كان يريد شيخ حسن ان يفتحه بالحريات منذ فترة التوالي في 96 ولذلك قاوموها، فالانسان اذا لم يكن ذكيا جدا وعندما يبلغ الخطر والتحدي عنقه فانه يقاوم بغريزة الحياة، ولذلك فهم كانوا ضد التوالي السياسي بدافع هذه الغريزة". (المحبوب عبد السلام، مرجع سابق)

    اذن فان المجموعة التى انقلبت على زعيمها كانت لا تتفق حول اطروحاتة: " الترابي فلسفته في ادارة الحركة مبنية على التخطيط الاستراتيجي (فترة المصالحة الوطنية، والجبهة الاسلامية التي بدات في التعامل مع المجتمع)، وهو كان مخططا ان تمضي الدولة بعد ثلاث سنوات من العسكرية الى المدنية، ولكن هذه الخطة لم يكن هنالك وعي كامل بها، كما لم يكن هنالك ايمان كامل بالبرنامج الاسلامي، فلم تنفذ الخطة كما ينبغي، وبالمقابل كان هناك شعور بان تحدي المعارضة تحديدا كان كبيرا لانه اذا بسطت الحريات وعادت المعارضة فستعود باحقاد من اخذت منه الحكم ومارست عليه القهر، وستاتي بالاموال لانها كانت متفقة مع اجندة الغرب وسيكون وقعها على الحركة الاسلامية عنيفا فكانوا متخوفين في السنوات الثلاث الاولى، وظل هذا التخوف الى اليوم وحتى هذه اللحظة بعد عشرين عاما ظلوا يخافون من الحريات".( الاستاذ المحبوب عبدالسلام مرجع سابق)

    الاتجاة الثانى، وهذا ضم الجناح السلطوى وكثير من المعارضين، يميل الى ارجاع المفاصلة الى الصراع على السلطة بين طرفى الصراع. وسنستعرض هنا اراء بعض الكتاب والمراقبين : ويرى الاستاذ علي عثمان محمد طه ان المشكلة عنده بدات عام 1986 عند انعقاد المؤتمر العام الثاني للجبهة الاسلامية القومية فقد بدا جليا انذاك ان الازمة حب الشيخ للسلطة ولو تحالفا منقوصا مع حزبي الامة والاتحادي ". (المحبوب عبدالسلام : صراع الاسلاميين في السودان ..رحلة نحو البداية: جريدة الصحافة: العدد رقم: 52972008-03-18 )

    يقول د. غازي صلاح الدين العتباني وهو احد منظرى الحركة " كان الحدث التالي زمانا لقيام الانقاذ ولكنه الابعد اثرا في تطور الحركة، هو انشقاقها واحترابها حول السلطة ... لقد تضافرت فتنة الشقاق ، والارتباك في الرؤية الى دور الحركة ووظائفها بين من يرى بقاءها ولو لاداء وظائف مرجعية محدودة ومن يرى ذوبانها في المؤسسات التي انشاتها المرحلة الجديدة ، وقد توافقت تلك العوامل لتحدث اكبر عملية تعرية واضعاف في بنائها . لقد افقدتها الصدمات المتتابعة تماسكها ووحدة صفها وفاعلية قيادتها ومقدرتها على المبادرة . ومن ثم فقدت التكافل التاريخي المتين بين افرادها ، الذي قام على الاخاء في الدين . وفي احيان كثيرة انقلب التكافل مقاطعة وتحاربا بين اخلاء الامس". (د. غازي صلاح الدين: دعوة لاحياء العمل الاسلامي الوطني. سودانايل 18 مارس 2005 م).

    خالد التجانى رئيس تحرير صحيفة ايلاف تحفظ على تسمية ما حدث بالمفاصلة لان المفاصلة تعني وجود خلاف بين منهجين، وفي تقديرة ان الخلاف لم يكن حول المناهج والافكار وانما كان مجرد صراع مكشوف حول السلطة حدث على مستوى القمة" " كذلك ما حدث كان يعبر عن مازق الحركة الاسلامية التي قررت الاستيلاء على السلطة بالقوة وهذا يعني ان الحركة رهنت مستقبلها وتاريخها وفكرها بقوة السلاح الذي اتت عن طريقه. وفي تقديري ان الانقلاب كان انقلابا على الحركة وقيمها ومؤسساتها التي حُلت وليس على الديمقراطية والقوى السياسية كما يظن بعض الناس، ومنذ ذلك الحين تحولت الحركة الاسلامية من فكرة الى لعبة سياسية كرست السلطة لدى فئة محددة تحت لافتة الحركة... و رغم حديث مجموعة (القصر) عن انهم يريدون ابعاد شبح التسلط والازدواجية وبسط الشورى والحرية واحداث توازن في السلطة التي تسبب الترابي في اخلالها حسب قولهم، لم تستطع هذه المجموعة بعد (10) سنوات من تحقيق هذه الاهداف وكانت هناك فرصة لتقديم انموذج يقوم على الشورى والحرية لكن في النهاية اصبح هذا الانموذج اسوا واضل وحتى الذي كان موجودا قبل المفاصلة اصبح لا وجود له، الامر الذي يؤكد ان الصراع كان حول السلطة وليس المبادئ (4 رمضان.. ذكرى المفاصلة ...الاسلاميون.. صراع السلطة وغياب التنظيم! رصد فاطمه مبارك http://www.sudanelite.com

    د. الطيب زين العابدين من جانبة اكد ان الاطراف الاسلامية اختلفت انذاك حول كيفية ادارة البلاد، وكان يمثل السلطة التنفيذية الرئيس عمر البشير والسلطة المدنية يمثلها د. الترابي وهي التي قامت بالانقلاب، ود. الترابي كان يحظى بتاييد السلطة القانونية والتشريعية. على مستوى الاسلاميين اعتقد ان المفاصلة اثبتت للناس ان الاسلاميين لا يختلفون عن الاخرين، فرغم ما كانوا يطلقونه من شعارات وقيم الا انهم يمكن ان يختلفوا ويتصارعوا حول السلطة ويظلموا، وذلك كان واضحا منذ البداية عندما سلكت سلوك الانقلابيين واستلمت السلطة.( (4 رمضان.. ذكرى المفاصلة ...الاسلاميون.. صراع السلطة وغياب التنظيم! رصد فاطمه مبارك، مرجع سابق)

    وصف الاستاذ امين بناني مشروع الدولة الاسلامية بانة الان اصبح مشروع سلطة غابت فيه فكرة الدولة والثورة والدعوة، وما يحدث لم يخرج من كونه دعاية سياسية، امتد هذا الاثر من هزيمة المشروع الاسلامي الى هزيمة المشروع الوطني متمثلا في معاناة الشعب والمخاطر المحدقة بالوطن. ونتيجة لما حدث لا ارى مستقبلا للحركة، لذلك ينبغي ان نتحدث عن مستقبل السودان بعد فشل تنظيمات الحركة، حيث تحول احدها الى معارضة ضعيفة والاخر ظل متمسكا بسلطة ضعيفة، وكل المسالة كانت قائمة على صراعات السلطة. (4 رمضان.. ذكرى المفاصلة ...الاسلاميون.. صراع السلطة وغياب التنظيم! رصد فاطمه مبارك، مرجع سابق).

    الدكتور محمد محيي الدين الجميعابي، احد قيادي تيار الدولة الدينية، يرى فى المفاصلة" بالتاكيد الحركة الاسلامية كانت تتوق دوما الى السيطرة على الحكم، وفي مرحلة من المراحل رات ان تاتي عبر التيار العسكري بعد ان تاكد لها ان معظم الجهات التي تنافسها لن تمكنها من الوصول الى كراسي الحكم، وحقيقة انا من الذين شاركوا وكنت عضو شورى حركة الاخوان المسلمين في اتخاذ القرارات الاخيرة المتمثلة في عملية الاستيلاء العسكري على السلطة، هذا الكلام كان في العام (1986) وكان واضحا ان الحركة الاسلامية اخذت قرارها بامكانية الاستيلاء على السلطة قبل هذا التاريخ... دواعي الخلاف حقيقة هي من يحكم السودان، هي قضايا سلطوية وانا لا استطيع ان انفي ان الصراع كان سلطويا، وبالتالي هل فشلنا كاسلاميين بعد تجربة الحكم؟ لم نكن مهيئين؟ هل الطمع، وممارسة السلطة والسلطان المطلق اثرا فينا؟ بالنسبة لي لا انفي تاثرنا بوجودنا داخل السلطة، وبالتالي في اتخاذ قراراتنا، وجاءنا الاحساس بالسلطان المطلق، حتى عندما كنا نرفع اراءنا للشيخ حسن الترابي عن كثير من الممارسات.. الشيخ حسن لم يكن يقبلها، كان يدافع عن الجهاز التنفيذي دفاعا مستميتا ولا يقبل اي نقد في كل هذه المجموعات، ولو كان هناك شيء ناخذه على الدكتور الترابي فهو انه كلما ناتي وننقد ممارستنا في الحكم فانه لا يقبل اي نقد مصوب للجهاز التنفيذي، ولا اي ممارسات او خروج وتجاوزات في قضايا الراي العام، والحريات وحقوق الانسان.. لم يكن يقبل". (الدكتور الجميعابي يروي شهادته للتاريخ حول فتنة الاسلاميين في الحكم: http://www.almanjulok.net/ )

    ويقود الشك الذى يساور السودانيين من الخداع الذى تميز بة تيار الدولة الدينية طوال تاريخها الطويل و تجربة الانقاذ اثر شيوع نظرية التمثيلية (القصر رئيسا وكوبر سجينا) فكتب محفوظ عابدين ابراهيم: " وتوالت الاحداث بعد ذلك الى ان انتشرت احاديث في مجالس المدينة بان هذا الانقسام الذي حدث في الحركة الاسلامية ماهو الا (تمثيلية) مثل التي حدثت في الانقلاب حيث دخل (الترابي) السجن مع قادة الاحزاب والقوى السياسية" .... وبالتالي لا يوجد حل غير تمثيلية جديدة تكون جيدة الاخراج من الاولى لان الهدف في الثانية هو المجتمع الدولي وليس المجتمع السوداني مثلما كان في التمثيلية الاولي التي قضت بدخول الترابي السجن والثانية التي قضت بخروج الترابي من الحكم. وهذا الخروج من الحكم للترابي قد حقق للحكومة هدفين الهدف الاول هو رفع الضغوط الدولية والاقليمية عن الحكومة، اما الهدف الثاني من خروج الترابي جعله قريبا من القوى السياسية المعارضة بل واحيانا منسقا بعض المواقف وبالتالي عرفت الحكومة كيف تفكر المعارضة وما هي خططها للاطاحة بالحكومة وبالتالي تضع الحكومة معالجتها لافساد خطط المعارضة".... وبالتالي كانت العودة المتقطعة لقيادات الشعبي الى الوطني جزءا من الخطة بعد ان تؤدي دورها ثم تعود وسيتفرغ الترابي الى الفكر والنشر والتاليف ". (محفوظ عابدين ابراهيم: :وحدة الاسلاميين.. الطريق الثالث، جريدة الصحافة: 25 نوفمبر-2010) .

    ولكن هناك قرءة اخرى لما حدث لا تنظر فقط الى الصراع وكأنة خارج اطر التاريخ والاقتصاد والاجتماع وبتصويرة وكأنة بين
    مجموعات تقودها افراد او بين طموحات شخصية لقادة او خلافات فى تكتيكات سياسية. القراءة الاخرى التى يقدمها مجموعة من الكتاب الاسلاميين، الدكتور عبدالوهاب الافندي، والاستاذ التيجاني الحاج عبدالرحمن و د.التجانى عبدالقادر، وهى قراءة تتجاوز الظاهرى الى البحث عن الاسباب الباطنية التى تلعب الدور الاساسى فى الصراعات السياسية فى اسبابها الاقتصادية والاجتماعية وما تخلفة من صراعات القوى. اول من كتب وفصل فى هذا الدكتورعبدالوهاب الافندي واشارالى دور الجهاز الذى اطلق عليها تسمية السوبر ـ تنظيم، " وهو جهاز سري لا يخضع لاي مساءلة من جهة اخري في التنظيم الاوسع (ما عدا القيادة العليا ممثلة في شخص الامين العام) تحديدا لانه اساسا غير معروف لاي جهة اخري. وقد كان هذا الجهاز هو الذى قرر ونفذ الانقلاب نفسه والذى مثل مفاجاة لاغلب من كانوا نظريا يمثلون القيادة العليا للتنظيم. (الدكتور عبدالوهاب الافندي : معضلة السوبر ـ تنظيم في صراعات الاسلاميين في السودان :القدس العربى بتاريخ 28/11/2006).

    طرح الاستاذ التيجاني الحاج عبدالرحمن مدخلا اخر فى مقالة غنية بالمعلومات والتحليل العميق لتشابكات السلطة وعزا تحوّل طبيعة الخلاف داخل الحركة الاسلامية في 1977 من خلاف فكري/سياسي الى خلاف مصلحي مرتبط بغنائم السلطة مصحوب بتكتلات حول بؤر اثنية وقبلية ضيقة داخل التنظيم في 1999." التيجاني الحاج عبدالرحمن: استقراء لصراعـات القبائـل الاسـلامية، حالة صلاح قوش http://www.sudaneseonline.com ) . وقد فصل د. التجانى عبد القادر، ما اجملة الدكتور عبدالوهاب الافندي فى السيوبر تنظيم والاستاذ التيجاني الحاج عن الخلاف المصلحي، فى سلسلة مقالات الراسماليون الاسلاميون: ماذا يفعلون فى الحركة الاسلامية؟ و العسكريون الاسلاميون: شركاء فى السلطة ام مالكون لها؟. بنى د. التجانى اطروحتة على المنهج التحليلى الذى اتبعة المغفور لة المفكر الكبير والباحث فى الفلسفة والفكر العربي الاسلامي محمد عابد الجابرى فى مؤلفة نقد العقل العربي من اربعة اجزاء (تكوين العقل العربي ، بنية العقل العربي ، العقل السياسي العربي و العقل الاخلاقي العربي). والذى ارجعة الجابرى فى سياق تطور التاريخ العربي الاسلامي الى ثلاثة مفاهيم: "العقيدة وتعنى عامل الدين وتخصيصا الدين الاسلامي"، القبيلة والمعني بها العلاقات العشائرية وصلات الدم و"الغنيمة المعني بها العامل الاقتصادي في شكله كنمط اقتصاد ريعي، والذي كان سائدا في تلك الفترة ولازال في معظم البلدان العربية والاسلامية.
    يتساءل د. التجانى عبد القادر كيف بدات العلاقة بين التنظيم والسوق؟ " اظن ان بداية هذه العلاقة تعود الى فكرتين بسيطتين احداهما صحيحة والاخرى خاطئة. اما الفكرة الاولى الصحيحة فهى ان اصلاح المجتمع السودانى او اعادة بنائه على قواعد الاسلام وهديه ولكن العمليات البنائية هذه لا تكتمل الا بتنظيم دقيق ومال وفير، اما الفكرة الثانية الخاطئة فهى ان "التنظيم" لا يكون قويا الا اذا صار غنيا، ولن يكون التنظيم غنيا فى ذاته وانما يكون كذلك اذا استطاع ان ياخذ بعض المنتسبين اليه "فيصنع" منهم اغنياء" " وكان من نتائجها ان تولد لدينا "مكتب التجار"، ليكون بمثابة الاصابع التنظيمية فى السوق، ثم تحولت "اشتراكاتنا" الصغيرة الى شركات (كيف؟ لا ادرى)، ثم صارت كل شركة صغيرة تكبر حتى تلد شركة اخرى، ولما لوحظ ان عددا كبيرا من العضوية الاسلامية ميسورة الحال يوجد فى السعودية وفى دول الخليج الاخرى، انشا "مكتب المغتربين"، ليقوم بجمع الاشتراكات، ثم تحولت وظيفته بصورة متدرجة الى ما يشبه الوساطة التجارية والوكالة والاستثمار. ولما لوحظ تكرر المجاعات والكوارث فى السودان، انشئت اعداد من المنظمات الخيرية التى تهتم بالعون الانسانى، ولكنها تركت لاصحاب العقلية الراسمالية التوسعية، فصار القائمون عليها فى كثير من الاحيان ينحدرون من الشريحة التجارية ذاتها "الشريحة التى تتخندق فى البنوك والشركات والمكاتب التجارية." ثم جاءت ثورة الانقاذ، فكانت تلك هى اللحظة التاريخية التى وقع فيها التلاحم الكامل بين الشريحة التجارية المشار اليها، والمؤسسات الاقتصادية فى الدولة، فمن كان مديرا لبنك البركة صار وزيرا للمالية والاقتصاد، ومن كان مديرا لبنك فيصل صار محافظا لبنك السودان المركزى، ومن كان مديرا لشركة التأمين الاسلامى صار وزيرا للطاقة..... وبهذه الطريقة تم تمرير وتسويق المفاهيم الراسمالية وتوطينها فى برامج الدولة والتنظيم...... ان كثيرا منا لم يأتِ الى الحركة الاسلامية، ويفنى زهرة شبابه فى خدمتها من اجل الحصول على الثروة ولكن من اجل العدل الاجتماعى، اذ ان قضية العدل الاجتماعي هي القضية الام التي لم ينفصل الاسلاميون عن احزابهم التقليدية وطرقهم الصوفية، ومجموعاتهم العرقية، الا من اجلها، كما لم يتصلوا بالحركة الاسلامية الا من اجلها.

    ويصل د. التجانى عبد القادر لنتيجة عبر عنها الشارع السودانى بعد الانقاذ " الاخوان دخلونا الجامع وهم دخلو السوق" و يواصل محددا سبب الصراع "ولكن ما تقدم من سرد يشير الى ان قضية العدل الاجتماعى لم تعد هي القضية الام في النموذج الراهن، وذلك لان الفئات الثلاث التى يقوم عليها النموذج: الشريحة الراسمالية المتحالفة مع القوى الامنية والبيروقراطية فى داخل الدولة، ومع القوى القبلية فى خارجها، لم يعد لواحدة منها هم والتزام بقضية العدل الاجتماعي" (د. التجانى عبد القادر: الراسماليون الاسلاميون: مـــاذا يفعلون فى الحركة الاسلامية؟ http://alsahafa.info/ )
    من موقع فكرى اخر جاءت تحليلات شبيهة ابرزها الاستاذ تاج السر عثمان الذى يقدم مساهمات بارزة من موقع الماركسية حول ادعاءات المشروع الحضارى والتطور الوطنى العام ( يهمنا هنا دراساتة المحكمة حول تطور نشاة وتطور الراسمالية السودانية عامة و خصائص وسمات الراسمالية الطفيلية الاسلاموية فى موقعة الفرعي في الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org

    يبدا الاستاذ تاج السرعثمان بالتاكيد على مفهوم مفصلى فى ان السودان مجتمع تسيطر الدولة فيه على النشاط الاقتصادي. ويرجع الكاتب نشاة وتوجة تيار الدولة الدينية الى السوق الى ما بعد المصالحة الوطنية مع نظام نميرى في عام 1977 . فى وقت اصبح فية النشاط الطفيلي هو الغالب وظهرت فئات السماسرة التي تعيش على العمولات، ووكلاء البنوك الاجنبية والشركات الاجنبية وروؤس الاموال البترولية وشركات النهب والفساد وتراجعت الراسمالية الوطنية التي كانت تعمل في ميداني الانتاج الصناعي والزراعي نتيجة لارتفاع تكاليف مدخلات الانتاج ، وازمة الوقود والطاقة وانخفاض قيمة الجنية السوداني .... الخ. وبتطور تنظيم الجبهة الاسلامية من تنظيم رومانسي سلفى الى تنظيم واقعي، اصبح يضم النساء والجنوبيين ويسعى الى استيعاب كل المجتمع في داخله كما تحول في شعاراته طبقا لظروف كل مرحلة وبهدف التاقلم السياسي ( فقه الضرورة)، واصبح للتنظيم مصالح راسمالية وتجارية وطبقية ومؤسسات وبنوك وشركات وعقارات تشكل قاعدته الضخمة والتي مولت كل نشاطات التنظيم وصرفه الكبير خلال فترة الديمقراطية الثالثة ( الانتخابات ، شراء الاصوات، الارهاب، الابتزاز، صحافة الاثارة ،... الخ ).

    راكمت رأسمالية الجبهة القومية الإسلامية من تجارة العملة وعمليات التجارة ذات الربح السريع والاستثمار في قطاعات النقل والتخزين رأسمالا واسعا ولكن في مجالات لا تمسك بناصية الاقتصاد السوداني، ولا ترتبط بجذوره الانتاجية، ووضحت أزمة وخطورة هذا الوضع بعد االانتفاضة، حيث اصبح الحديث عن الرأسمالية الطفيلية على كل لسان، بل ان عناصر الرأسمالية التقليدية سعت لإلجامها عن طريق قانون الضرائب و استمرار التحقيق في البنوك والتلويح بمحاكمتها، فاستعملت الجبهة القومية الإسلامية كل أسلحتها لوقف ذلك الهجوم مثل سيطرتها على الصحافة وعلى السوق الأسود الذي اعترف الصادق المهدي بانه هزم الحكومة.. بعد انقلاب 30 يونيو 1989 م سيطرت الجبهة الاسلامية على الحكم ، وفى هذه الفترة هيمنت الفئات الغنية من عناصر الجبهة الاسلامية على مفاتيح الاقتصاد الوطني عن طريق البنوك الاسلامية وشركات التأمين والاستثمار الاسلامية وشركات الصادر والوارد والتوزيع والشركات المساهمة الكثيرة، والمنظمات التي تلتحف ثوب الاعمال الخيرية مثل الشهيد، السلام والتنمية، .. الخ. وتجمعت لدى هذه الفئات ثروات ضخمة. (صدقي كبلو: حول نظرية الثورة السودانية (1) تجاربنا في صياغة البديل http://www.ahewar.org )

    و يرصد الاستاذ تاج السر عثمان مصادر تراكم الراسمالية الطفيلية الاسلاموية ويحدد بعضها فى نهب اصول القطاع العام، التسهيلات والرخص التجارية من وزارة التجارة والبنوك التجارية والاعفاء من الضرائب، الاعتداء على المال العام، المرتبات العالية لكادر الجبهة الاسلامية العسكري والمدني، الارباح الهائلة التي يحصل عليها تجار الجبهة الاسلامية من حرب الجنوب، الذهب والبترول، تجارة العملة والسوق الاسود واحتكار قوت الناس والسلع الاستراتيجية، الاستيلاء على شركات التوزيع الاساسية، الاستثمار في العقارات والمضاربة على الاراضي، ومشاريع الزراعة الالية والثروة الحيوانية والتوسع فى تصدير الثروة الحيوانية واستيلاء مؤسسات الجبهة الاسلامية على مؤسسات تسويق الماشية واخيرا غنائم اموال وعقارات المعارضين السياسيين. وادى هذا من الجانب الاخر الى تدهور اوضاع الفئات الشعبية نتيجة للفقر والبؤس، وانتشار الدعارة والرشوة والفساد، وغير ذلك من اثار وسياسات سلطة الراسمالية الطفيلية الاسلاموية. (خصائص وسمات الراسمالية الطفيلية الاسلاموية فى موقعة الفرعي في: http://www.ahewar.org/)

    عالج الدكتور احمد عثمان فى عدة مقالات فى موقعة الفرعي في الحوار المتمدن صراع د. الترابي وتلاميذه وانقسام الجبهة الاسلامية الحاكمة بالسودان وتناولها من عدة مداخل اقتصادية وسياسية وتنظيمية. عالج اولا ما حدث من انقسام وانة فعلي وليس تمثيليــة اخرى وشاهدة ان التنظيمين ما يزالان يصدران عن ايدلوجيا واحـــدة تبحث عن تأسيس دولــة دينيــة. كما قدم معالجة مقنعة لمصطلح النخبة الحاكمة من ما يتداول عن النخبة النيلية حاكمة الى انها نخبة طفيلية حاكمة وهى قوى معينة ذات جذور اجتماعية وطبقية منسجمة بغض النظر عن طبيعة واجهاتها و منحدراتهم الجهوية والمناطقية. وهذا يسري على الحكومات المدنية كما العسكرية. واغلبية ابناء النيل وغالبية النخبة النيلية سواء اكان توصيفها كنخبة لاسباب معرفية او دينية او اجتماعية كانت ومازالت اول من يعاني القمع و التهميش. فمعتقلاتها فتحت للجميع و تعذيبها وارهابها طال الجميع، ونهبها لم يفرق بين طريق الانقاذ الغربي و بترول الجنوب وذهب الشرق او رطب الشمال. هذه القوى هي قوى راس المال الطفيلي غير المعني بالعملية الانتاجية، وغير المعني بانسان السودان في شرقه او غربه- شماله او جنوبه.

    و يحدد ان السلطة قد انتقلت منذ لحظة انقلابه على الديمقراطية لايادي التحالف بين السلطة والمؤسسات الاقتصادية والمالية للتنظيم والاجهزة الامنية والعسكرية التي كانت ذراعا هجم به على الدولة الديمقراطية واصبحت السلطة الشريان الاساسي لهذه الاجهزة لمزيد من الثروة بدلا من ان يقتصر دورها على الحماية فقط. ويرى ان الفساد لاسبيل لمعالجته لانه سمة ملازمة لنظام وحكومة راس المال الطفيلي. "ولـذلك يقف الدكتور. الترابي وتنظيمه في نقدهم عند المؤسسات الماليـة التابعة للدولة ولجهاز الامن وضرورة عدم منافستها للناس في الاسواق، ولايعممان النقد لطبيعة نشاط هذه المؤسسات نفسه. وهذا يعني ان الدكتور وتنظيمه يريدان خصخصـة هذه المؤسسات التي تمارس التطفل، واعادتها للحزب مما يعني انهما يرغبان في تكريس النشاط الطفيلي خارج جهاز الدولة وتحت مظلة الحزب. وهذا ببساطة يعني اعادة هذه الدورة الجهنمية وبناء تنظيم اخر للنشاط الطفيلي من الممكن ان يثب على السلطة في اي لحظة".

    من جانب اخر ارجع الدكتور احمد عثمان ان التنظيم الذي ركن اليه الدكتور. الترابي ، وحاول ان ينتصر به، ليس هو تنظيمه العقائدي الذي قد قام بحله عقب الانقلاب. فالمؤتمر الوطني تنظيم فتحه الترابي للانتهازيين وقناصي الفرص وفقا للمبدأ التنظيمي المستحدث " العبرة بمن صدق لا بمن سبق". وهؤلاء القادمون الجدد جلبتهم السلطة ولاشك هم مناصرون لمن يقبض عليها اذ لا ولاء لهم لشيخ الحركة الاسلامية او غيره. اما ضرب عرض الحائط للاحتكام لمبادئ ولوائح العمل التنظيمي فقد مزقة الدكتور الترابي لانة لم يحترم اى لوائح فى حياة تنظيماتة التى انتهكت كل دستور وعهد ولوائح. (الدكتور احمد عثمان انقسام الجبهة الاسلامية الحاكمة بالسودان و مقالات اخرى فى موقعة الفرعي في الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org

    المؤتمر الوطنى

    تكون الحزب نتاج انشقاق الحركة الاسلامية من الموالين لرئيس الجمهورية وبذلك فقد اصبح حزب السلطة وتشابة فى ملابسات انتقال غالبية عضويتة لصف الرئيس لما حدث عند تكوين الحزب الوطنى الديمقراطى المصرى من حزب مصر وسابقية الاتحاد الاشتراكى وحزب التحرير. وبرغم ارتحال معظم الكوادر الحركية والملتحقين من المايويين ومهاجرى الاحزاب الطائفية الليبرالية ومنتسبى " العبرة بمن صدق لا بمن سبق" الي حزب الرئيس، فقد تباعدت عنة اكثر طوائف المفكرين والمثقفين.
    وقد اتيح للحزب فرصة نادرة ان يتحول الى قوة حقيقية جماهيرية ذات وزن انتخابى وجذور شعبية بعد توقيع اتفاقية السلام وذلك بتبنى مشروع تحول ديمقراطى حقيقى والشروع فى تنمية وطنية شاملة تحقق الوحدة الطوعية والسلام والاستقرار. لكنة بدلا من ذلك وفى مدى اكثر من عقد فى السلطة جرى علية ما يجرى على كافة احزاب سلطة الفرد فقد تحول الى حزب خاوي من الفكر والمعرفة والالهام والخيال مع تاريخ طويل من الفساد والاستبداد والفقر والتفريط فى الوطن وسوء الادارة والحكم الغير الراشد، مع عزلة خانقة على المستوى العالمى والاقليمى. والحزب الذى يدعى قادتة بانة حاز على 95% من الاصوات فى المجلس الوطنى هو النسخة السودانية من مجلس الشعب المصرى فى عهد مبارك. والثلاثة مليون عضو فى مصر انتهوا الى حفنة من راكبى الجمال والخيول. ان مصير هذا الحزب سينتهى الى مصير الاتحاد الاشتراكى السودانى، الحزب الوطنى الديمقراطى المصرى، التجمع الدستوري الديموقراطي فى تونس، حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في اليمن وحزب البعث العربى الاشتراكى رمزا تآريخيا لعهد جلب الاحزان والبؤس لاهلة.

    حصاد الانقاذ

    لا اجد خاتمة لهذا الجزء سوى ان اجتزأ تلخيصا وجردا محكما لحكم الاسلاميين قام بة احد الذين عبروا نهر التعصب و الاقصائية الى بحر التسامح والموضوعية الشجاعة، ا.د.الطيب زين العابدين " لم يخطر ببالنا طرفة عين، اننا عندما نحكم قبضتنا على مقاليد الدولة والمجتمع، سنضرب اسوأ مثل لحكم ديمقراطي او عسكري شهده السودان علمانيا كان ام اسلاميا. فقد حدث في عهد الانقاذ ما لم يحدث في غيرها من الكبائر: حارب ابناء الشمال لاول مرة مع حركة تمرد جنوبية يسارية كراهية في حكم الانقاذ، وانقلبت الحرب ضد التمرد من حرب وطنية تحفظ وحدة السودان الى حرب دينية جهادية ضد الكفار في الجنوب ادت الى مقتل اكثر من عشرين الفا من شباب الاسلاميين، والبت علينا الحرب الدينية عداء دول الجوار والدول الغربية الكبرى، وانتهى بنا الامر الى انفصال الجنوب الذي ظل موحدا مع الشمال اكثر من «150» سنة، وقام تمرد اخر في كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق وشرق السودان، وارتكبت الحكومة الكثير من الخطايا والموبقات ضد اهل دارفور، مما جر عليها قضايا جنائية دولية طالت حتى رئيس الجمهورية وبعض كبار المسؤولين، واستطاع احد فصائل تمرد دارفور ان يصل مدججا بالسلاح الى قلب العاصمة المثلثة دون ان يتعرض له جيش البلاد المكلف بحراستها وتامينها، وتبنت سياسة خارجية خرقاء ضد دول الجوار العربي والافريقي وصلت الى حد دعم جماعات العنف والاغتيال السياسي، مما ادى الى عداء مبرر من تلك الدول، والى عقوبات دبلوماسية واقتصادية دولية ضد السودان، واستشرى الشعور بالعرقية والقبلية في كل انحاء السودان بصورة غير مسبوقة، وسعت الحكومة الاسلامية الى تسييس الخدمة المدنية والقوات النظامية والقضاء والمؤسسات الاكاديمية تحت شعار التمكين، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان الحديث، وبلغ الفساد المالي والاخلاقي مداه في ظل حكومة الانقاذ بممارسات لم نسمع بها من قبل في العهود العسكرية السابقة. (ا.د.الطيب زين العابدين، الشيخ الغنوشي يعزف لحن الحرية والديمقراطية .http://www.sudaneseonline.com

    الانقاذ ومالآتها

    مابين صبيحة يوم 30 يونيو عام 1989م وخطاب الانقاذ للعميد انذاك/ عمر حسن احمد البشير، فى البيان الاول الى خطاب رئيس الجمهورية امام الهـيئة التـشـريعـية الـقـومية فى 13 يوليو 2011، الالام والاحزان والخيبات. ان الخطابين مدهشان فى ان ما استنكرة العميد انذاك هو حصاد مخفف من 23 عاما من حكمة وما اعلنة فى خطابة كرئيس جمهورية من المبادئ التى تقوم عليها الجمهورية الثانية.

    " تأكيد الالتزام بسيادة حكم القانون وبسطُ العدل، وبث الروح الوطنية، وضمان حقوق المواطن، واتباع التجرد والشفافية في اتخاذ القرارات ، والنزاهة في صرف المال العام ، والمحاسبة ، واعتماد معايير الكفاءة) هو بالضبط ما افتقدتة الجمهورية الاولى " وايماناً بحق الأجيال المـقبلة في سودان آمن متطور ، فاننى أود ان أشارككم -وقد دخلنا تاريخياً في مرحلةٍ جديدة هى جمهورية ثانية ، الخطوط الرئيسية للمرحلة المقبلة التى نتجاوز بها مرحلة الحروب ، إلى مرحلة السلام، من مرحلة التعافى إلى النهضة ، وعلينا في سبيل ذلك التَحلَّى بالمثابرة وبالصبر حتى تسير الأمور إلى الأحسن والأوفق بإذن الله.ان المبادئ التى تقوم عليها الجمهورية الثاني ة أساسها تأكيد الالتزام بسيادة حكم القانون وبسطُ العدل ، وبث الروح الوطنية ، وضمان حقوق المواطن ، واتباع التجرد والشفافية في اتخاذ القرارات ، والنزاهة في صرف المال العـم ، والمحاسبـة ، واعتماد معايير الكفاءة ، ليكون الانصاف قائدنا وحادينا. ان السودان بحدوده الجديدة سيكون أكثر قدرة على حسن الإدارة والدفاع ، وتقديم الخدمات واستكشاف الثروات وابتدار فرص الاستثمار وتحقيق النهضة بإذن الله وتوفيقه.
    واننَّا لَنُجَدَّدَ الثقةَ بالشعب السودانى ، ووعيه وصبره وتوكله على الله ، فالشعب السودانى هو سندنا في سعينا ، لاحداث هذه النهضة بإذن الله ، مُتَخِذيِنَ السياسات والإجراءات الاقتصادية والمالية المناسبة ، لتعويض ما نقص من مورد البترول، وذلك من خلال خَفْضِ الانفاق العام ، وترشيد الصرف ومراجعة اولويات التنمية ، وتنويع الانتاج وزيادة الصادرات وإحلال الواردات ومضاعفة الإيرادات ، وتشجيع الاستثمار الوطنى والأجنبى ، وفي هذا السياق وضعنا برنامجاً اسعافياً للسنوات الثلاث القادمة ، سيقدم لكم وزير المالية والاقتصاد الوطنى تفاصيله وبرامجه ، وقد مهدت له حزمة الإجراءات التقشفية التى بدانا جانباً منها ، كما سنطرح عليكم تعديلاً لقانون الموازنة الجارية لاستيعاب هذه المتغيرات الجديدة دون ان يتضمن مشروع التعديل فرض رسوم أو ضرائب جديدة.

    سنمضى قُدماً والسـودان يدخل مـرحلة الجـمهورية الجديدة في الحوار الوطنى مع جميع مكونات المجتمع السياسية والإجتماعية والأهلية لتحقيق توافق وطنى واسع وعريض حول رؤية استراتيجية جامعة ، وسيستمر الحوار السياسى لتشكيل تفاهمات تشمل الحكم وآلياته وهياكله وتتضمن مبادئ موجهة لوثيقة الدستور الدائم تقوم على إعداده لجنة قومية واسعة يعرض بعدها عليكم في الهيئة التشريعية القومية ثم على استفتاء شعبى حر، وستشهد الأيام المقبلة بدء المشاورات لتشكيل تلك اللجنة والتى ستضم في عضويتها فقهاء في الدستور وخبراء في القانون والسياسة والاقتصاد.

    واننا ندعو المواطنين كافة وكل حادب على مصلحة الوطن ان يشارك في هذا الحوار الوطنى الجامع بروح المسئولية ومن منطلق ضمير وفكر لا حجر عليه ، وعبر منابر تتسع للرأي والرأي الآخر ، يؤكد هذا العزم خلو صحائف جهاز أمننا الوطنى من أى حالة اعتقال سياسى بسبب الرأي المعارض أو المخالف للحكومة ، ولمزيد من تأكيد الرغبة الصادقة في تهيئة مناخ الحوار المعافى فقد أصدرت توجيهات لمراجعة حالات من يجرى معهم التحقيق حالياً لإخلاء سبيل من لم تقم عليه بينة تثبت ارتباطه بحركات تمرد ارهابية أو عنف تقضى احالته للنيابة العامة.

    المؤتمر الشعبى

    تكون الحزب نتيجة انشقاق الحركة الاسلامية المتماهية فى سلطة الانقاذ بقيادة الدكتور حسن الترابى. احد اكبر معضلات الكتابة عن هذا الحزب ان قائدة ومنظرة وزعيمة هو اب الانقاذ ومبرر كل خطاياها ومعلمها الاكبر فى المناورة وتغيير المواقف. . واود هنا ان اضيف ان هذا رأى فى السياسى ولكن بما الزمت بة نفسى من قراءة كافة انتاجة الفكرى والفقهى لابد ان انصفة وارى انة قد اتيح لة ان يصبح احد مجددى الفكر الاسلامى واحد الذين كانوا سيقدمون اسهامات فعلية لتساؤلات العصر وقضاياة المعقدة، لولا اشكاليتة الكبرى التى تنطلق من فكرة اقصائية " الحاكمية". ان نقطة المفارقة فى مسيرة الشيخ الجليل والمفكر كانت ستكون العودة من غياهب المودودية والقطبية التى حرمت الحياة الفكرية السودانية من اسهامات حقيقية طوال عقود الى رحابة الفكر المتسامح الاسلامى الصوفى السودانى. ان المسيرة العسيرة من الفكر العقائدى الى الفكر الليبرالى تجعلنى اؤمن ان الناس والاحزاب عرضة للخطأ والاصلاح وافهم بقدر كبير من التعاطف مرارة الانتقال ولكن فى مبادىء ان يدفع المخطىء الثمن كاملا. برغم ذلك فان هذا لم يحدث مباشرة وبدلا من ان نرى نقدا واضحا ومحددا حول الاخطاء التى شاركوا فيها، راينا ثلاثة مسارات للعودة الى الصف الوطنى.

    المسار الاول ويمثلة المحبوب عبد السلام واخرون، وكانت الاستراتيجية خلع الزعامة من كل شىء حدث مثل الشعرة من العجين وابدع فى غسيل الاحوال ووضع كل ماحدث على نائب الامين العام السابق للجبهة الاسلامية القومية. وبالتالى فان الزعيم يعود الى الصف لانة كان يدافع عن حقوق الشعب امام الحكومة الظالمة والمستبدة ….الخ. هذا موقف غير مقبول تماما لا اخلاقيا او مسئولية او لتوطيد الاستقامة الوطنية ولا اود هنا ان اقدح من امثال المحبوب عبد السلام، هؤلاء الذين ابدوا شجاعة فى بداية طريق طويل اثق باننا بفهمنا لهم وبتعاطفنا معهم سيسيرون فية وفتح الباب للبرء من الالام.

    المسار الثانى ويمثلة السيد ابراهيم السنوسى والدكتور على الحاج و الاستاذ كمال عمر ( الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي) واخرون وبنوا الاستراتيجية على العودة فورا الى زحمة الاحداث، بل وقيادتها وكان ما جلبوة للساحة وما ادعوة من اسرار التنظيم هى معلومات يعلمها الجميع. الشعب السودانى لم يطلب اسرارا فهى لاتهمنا ونعلمها كلها. لم يتحدثوا من عذب وبامر من ولماذا؟ لم يتحدثوا عن من خطف لقمة عيشنا والشركات الطفيلية ومن يديرها وكيف بل انهم ادعوا الفقر والمسغبة؟ لم يحدثونا عن المليشيات ومن يقودها ولستها ومقارها وتمويلها وتسليحها، بل يحتفظون بها لانهم يريدون استعمالها فى يوم قادم. لم يتحدثوا عن العلاقات الدولية ومن يمولهم وكيف وباى طرق. لم يحدثونا فى الحقيقة عن اى شىء بل توسطوا مقاعد المعارضة واستعانوا بمواثيق حقوق الانسان فى اطلاق سراحهم. هذا اشبة بكابوس سريالى سخيف ولا يمكن قبولة.

    رغم ذلك فاننا لنكن على خطأ بالغ اذا لم نقدر قوة الافكار والاحداث فى اعادة البشر لصياغة افكارهم عندما يتحررون من القيد العقائدى المنغلق والمتشدد. ان هذة المجموعة ظاهرة متكررة فى الفضاء السياسى العربى والاسلامى بكثرة وتبرز عند المنعطفات التى تخوضها المجتمعات عند عودتها الى الرشد السياسى واستعادة التيار الاساسى. ان منطقها هو الاحتكاك المباشر فى خضم العمل السياسى، خاصة المعارض.

    المسار الثالث وهو اصعب جزء وقد قام بة الزعيم نفسة. فقد بدأ فى حركة الاسلام عبرة المسير لاثني عشر السنين فى غسيل الاحوال السياسى وحمل الطرف الاخر كل السيئات. اما الموقف الفكرى فقد جاء فى كتابة الاحكام السلطانية الذى كتبة فى سجون النظام ( قمت بتنزيلة من الانترنت وافترض انة هو النسخة الاصلية). قمت بقراءة الكتاب قراءة معمقة حوالى الثلاث مرات وقرات اعمال الذين حاولوا تقديم رؤيتهم حولها. الكتاب كتب بلغة لا اظن ان الانسان العادى يمكن ان يفهمها حتى خريجى الجامعة، لغة خارج التاريخ . مهمة الزعيم الصعبة كانت تحتم علية استعمال هذة اللغة لان المطلوب هو اعادة كتابة الافكار نفسها حول الحاكمية و تكفير من يقولون بفصل الدين عن السياسة وان غالب دول المسلمين فاسقة وخارجة عن حكم الله والمسلمون انفسهم منافقون وان المجتمعات الاسلامية التي فصلت الدين عن السياسة منذ الخلافة الاموية والدولة العباسية وما لحقهما من نظم حتى يومنا هذا، كلها كافرة وفاسقة وظالمة. اما امثالنا المثقفين فهم نتاج الثقافة الغربية اصبحت لا تدين بدين الاسلام الذي يوحد الحياة كلها بسياستها عبادة، بل بدين الغرب الوضعي الذي طغى في مجالات التعليم ووسائل الثقافة واهل هذه الشرائح لوظائف الحكم، لهذا فقد تصدق علينا اننا يمكن ان نقبل فى ميدان السياسة. لن يصدق شخص واحد عن النوايا الحسنة اذا لم يتم التخلى عن افكار الحاكمية والتكفير ومن ثم ارسال كتاب الاحكام السلطانية الى حيث ينتمى فى متحف التاريخ الطبيعى.

    اذا ابتعدنا عن نظريات المؤامرة فى ان المفاصلة تمثيلية كبرى مستمرة، فلازالت هناك اشكالية كبرى فى ان يتصدر المشهد السياسى المؤتمر الوطنى حاكما والشعبى معارضا. هذا وضع لايستقيم حتى وان بدأ المؤتمر الشعبى مسيرتة منذ حوالى العقد والنصف، وافترضنا انة احدثت فية السنوات والتطهر الذى فرضة على نفسة والانفتاح على الاخر ورؤية نفسة السابقة فى مرآة المؤتمر الوطنى، الى ولادة حزب يمكن ان ياخذ مكانة فى التيار الرئيسى ويضيف لتجديد الفكر الاسلامى فى علاقتة مع العصر وفق الرؤى السودانية.

    اتخذ الحزب موقفا متسقا طوال الاعوام الاخيرة " فى اسقاط النظام ولعب دورا نشيطا فى قوى الاجماع الوطنى والتحضير للثورة " أما نحن فقد اخترنا لأنفسنا الوسائل السلمية واسلم طريق للإسقاط هو التظاهرات والاعتصام والإضرابات لأنها أنجع الوسائل في التحول الديمقراطي، لذلك ظللنا طيلة الفترات السابقة ننادي بإسقاط النظام عبر الخروج إلى الشارع، والحركات المسلحة أيضاً طرحت مشروع سياسي في الحريات والدولة الديمقراطية وسيادة حكم القانون والفترة الانتقالية ...... الموقف الصحيح في هذه المرحلة أن يحدث حوار وطني شامل كامل بين كل القوى المسلحة والسياسية حتى نصل إلى معادلة سياسية نخرج من خلالها هذا الوطن من أزمته الحالية، والأزمة في المنهج والبرنامج الذي يطرحه المؤتمر الوطني، وقناعتنا بأنه لن يصبح حل في أي مرحلة من المراحل وأي حل سياسي لا يحتوي على سلطة انتقالية وذهاب المؤتمر الوطني لن نشارك فيه .... في الحوار الشامل الذي يفضي إلى حكومة انتقالية إذا قبل الوطني أن يكون جزء من الحوار ليس لدينا مشكلة وأسلم لنا بأن يقبل المؤتمر الوطني فكرة الحكومة الانتقالية ويسلم السلطة سلمياً وهذا أفضل من أي عمل سياسي آخر، إذا قبل هذه الفكرة وهي فكرة ممتازة يمكن أن تقي البلاد من شرور «الانتقال الخشن» وهو خيار الحرب الدائرة والانتفاضة القادمة، فإذا وافق أن يسلم الحكومة إلى حكومة انتقالية أفضل له ولنا وقطعاً لن يكون معزولاً سياسياً من هذا التوافق..... والآن نحن قوى من قوى المعارضة حددنا مشروع دستورنا وشكل الحكومة الانتقالية والأشخاص الذين يتم اختيارهم ومدة الفترة الانتقالية وشكل المجلس التشريعي الذي يحكمها والقضاء، ولن يكون هنالك فراغ سياسي في حال ذهاب المؤتمر الوطني لأننا لا نريد أن يمر السودان بتجارب تونس ومصر ودول الربيع العربي لأن السودان إذا مرَّ بأي فراغ سيزيد من التأزم وبالتالي نحن جاهزون بميثاق سياسي ومشروع دستور انتقالي، والوضع مرتب تماماً لإسقاط النظام ..... إذا سقط النظام فهناك مسائل جوهرية نتفق عليها مثل الحريات، والحكم الراشد، وحتى إذا سقط النظام لن نواجه معهم مشاكل مثلما حدث عندما سقط نظام نميري، والحركة الشعبية رفضت وقف الحرب ولكننا نشعر بأن المطروح في الساحة السياسية أعمق وأقوى ويقوم بعمل تواصل بيننا وبين الحركات.....نحن جربنا كل الخيارات وكفرنا بالانقلاب وضد العمل المسلح لأننا حزب قائم على دعوة. (الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي الاستاذ \ كمال عمر في حوار صحفى جرئ، جريدة آخر لحظة، 13 مارس, 2012 )

    الفصل العاشر: فشل رؤية تيار الدولة الدينية

    هناك سمة مميزة للعمل السياسى السودانى مثيرة للدهشة ومحيرة وقد واجهتنا دائما فى عملنا كمنظمة صحة عالمية مع وزارة الصحة السودانية وقد اشار لها كثيرون. وتتمثل فى كثرة الوثائق الاستراتيجية والسياسات والدراسات المتعددة لنفس الموضوع وورشات العمل المتكررة وظاهرة مؤتمرات القضايا المتنوعة والتى بلغت الحدود القصوى مع الانقاذ. يرافق هذا تكرر الاسماء التى تقوم بهذة الدراسات او تشارك فى هذة التجمعات وورش العمل.

    اذا رجعنا للمحيط السياسى اخيرا نجد محادثات اديس ابابا (اثيوبيا )، اتفاق اديس ابابا (اثيوبيا (1972)، محادثات كوكادام (1986)، محادثات اديس ابابا ومصر 1989))، محادثات ابوجا (نيجيريا 1992-93)، محادثات الايقاد 1993-94)، محادثات ’السلام من الداخل (1992-97)، اتفاق سلام الخرطوم (ابريل 1997)، المبادرة الليبية المصرية (1999-2002) عملية سلام السودان الايقاد 1997-2005)، بروتوكول مشاكوس (يوليو 2002)، الاتفاق الاطاري بشان الترتيبات الامنية (سبتمبر 2003)، اتفاق تقاسم الثروات (يناير 2004)، بروتوكول تقاسم السلطة (مايو 2004)، بروتوكول المناطق الثلاث (مايو 2004)، اتفاق السلام الشامل (يناير 2005)، المحادثات بين التحالف الديموقراطي الوطني والحكومة (2003-) ، اتفاق القاهرة (2005)، عمليات سلام دارفور( محادثات انجمينا -تشاد 2003-2004- محادثات السلام بين الاطراف السودانية بشان دارفور (الاتحاد الافريقي 2004-2006)، اتفاق سلام دارفور (مايو 2006). عمليات السلام الشرقية ( محادثات اسمرة -اريتريا 2006- اتفاق سلام شرق السودان -اكتوبر 2006- محادثات الدوحة.....الخ

    كم الوثائق مذهل والمتكررات فية مسقم. واظن ان تهمة د. حيدر ابراهيم بشفاهية المثقف السودانى رغم انها تلعب دورا فى انتقال المؤتمرين من ملتقى استراتيجى لاخر ومن مؤتمر سلام لاخر وتدبيج الوثائق وايداعها الادراج الا انها غير كافية فى تقديم اجابة كافية عن السبب الحقيقى. ( ويذكرنى هذا بمختصر خليل والذى ظل فقهاء السودان ينتجون منة الحواشى اثر الحواشى لقرون متعددة ومختصر خليل هو كتاب لاحد علماء المالكية المعروفين الفه خليل بن اسحاق بن موسى بن شعيب جمع فيه خلاصة فقه المذهب المالكي بطريقة مختصرة جدا) . درست قضايا السودان مرات اثر مرات سواء فى الداخل وبمشاركات عالمية واقليمية وتحددت التحديات فى تجمعات سياسية جامعة من جبهة الهيئات، التجمع الوطنى فى االانتفاضة، التجمع الوطنى الديمقراطى ابان الحكم العسكرى الثالث، محادثات السلام المختلفة سواء حول الجنوب او دارفور ووثائق البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السودان.

    وبرغم براعة السودانيون فى صياغة الاستراتيجيات ( وقد تكون سببا فى كثرة تواجدهم فى المنظمات الدولية) الا انهم يعجزون تماما عن وضعها موضع التنفيذ. فقد استغرقنا اكثر من نصف قرن ونحن نراوح المكان حول الاجابة على سؤال واحد كيف يحكم السودان، وبالتالى ننطلق الى تنفيذ ما جادت بة العقول السودانية فى القضايا الاستراتيجية وماذا يفعل بالحكم لنحدد من يحكم السودان وليحقق ماذا؟. هذا يسمى فى صياغة الاستراتيجيات الانتقال من الرؤية الى تحديد الاولويات والاهداف ومن ثم وضع الخطة التنفيذية. المشكلة ليس فى صياغة الاستراتيجيات، فهذا مطلوب وبشدة ولكن فى الجانب المهم الاخر المفقود وهو التكتيك اى التنفيذ. هنا مربط الفرس ويقف حمار الشيخ فى العقبة. لماذا تتوقف قدرات البشر عند التنفيذ؟ اسباب هذا المرض العضال ربما تحتاج لدراسة انثربولوجية مدققة. وقد حاول الاستاذ عبدالله الفكي البشير محاولة قراءة هذة القضايا فى سلسة مقالات نشرت بجريدة الاحداث باسم: النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصراع العقيم ، وهناك معالجات جزئية فى الادب السياسى وليس هذا مجالها على كل حال.

    خطل الرؤية الاستراتيجية للاسلام السياسى

    عندما جاءت الانقاذ الى الحكم عبر الدبابة كانت تنضح من نفس اناء النخب التى سبقتها، مشاريعا وطنية غير مكتملة ورؤى قومية لاتتشكل ابعد من الحلاقيم والليالى السياسية واللقاءات الشهرية والمساجلات الصحفية. ورغم ادعائها بامتلاك رؤية استراتيجية، فالواضح ان " المؤتمر الوطني الحاكم، وريث الحركة الإسلامية السودانية، لم تكن لديه في الواقع رؤية استراتيجية أو مشروع سياسي محدد المعالم، صحيح أنه هناك شعارات ذات طابع إسلامي ينادي بها، لكنها تبقى مجرد شعارات فضفاضة لا ترقى لأن تعتبر مشروعاً وطنياً واضح الأجندة قادر على استيعاب ومخاطبة تحديات الواقع السوداني بكل تعقيداته المتجلية في أزماته المتطاولة" (خالد التجانى النور، نص رأي، غياب الرؤية في مأزق العلاقة مع الجنوب، الصحافة التاريخ: 3-مايو-2012 العدد:6745 ).

    بتعاظم النقص الحاد فى المصداقية والعزلة وعدم تصديق المجتمع للاساس الذى بنت علية انقلابها، اتجهت الانقاذ الى تعزية النفس بادخال القومية فى انشطتها الاقصائية المختلفة ومن ثم جاءت الاستراتيجية القومية الشاملة (1992 ـ 2002م) . وعند فشل الاستراتيجية ارجعتة لعدم وجود آلية متابعة فاعلة ومن ثم تم تكوين المجلس القومي للتخطيط الاستراتيجي ويتكون من (369) عضوا برئاسة السيد / رئيس الجمهورية، والسيد / وزير رئاسة مجلس الوزراء مقررا له (لمثلى ممن امضى عمرة فى التخطيط لا اعتبر هذا حلا) . وبدا المجلس برنامج الاستراتيجية الربع قرنية تم لها من الدعاية والترويج ولكنة كان كالجبل الذى تمخض وولد فارا. فرغم انها نظرت بشكل شامل الى كل القطاعات فقد كانت هناك اخطاء استراتيجية فادحة لازمت كل الخطط التى تبنتها الانقاذ.

    اولا: للقارىء مثلى – ممن عملوا فى المنظمات العالمية- لما جاء فى الرؤية، القيم، التحديات والاهــداف الاستراتيجية الكلية فانها عالية الصياغة وتسعد كل الموظفين الدوليين ولكنها تتحدث عن سودان فى المريخ لاعلاقة لة بما يمارس فى الوطن. الاستراتيجية تحصد ماتزرع ولكى تتطابق مما ستحققة فى ربع قرن فعلى القارىء ان يظن انة على الاقل ان الاتجاة التنفيذى العام يقودة الى تحقيق الاهداف وهذا ما تفتقدة الاستراتيجية تماما. لم يعرف عن الانقاذ انها اهتمت بغير هندسة المجتمع ليطابق مقاسها فما الذى يدعونا لتصديق هذة الكلمات المنمقة.

    ثانيا: تبدا الاستراتيجية الربع قرنية من لا مكان فلم تتحدث عن كل ماشاب مسيرة القيادة من اخطاء (يعرف هذا فى وضع الاستراتيجيات بتقييم الوضع الحالي للمفاهيم والمؤسسات الحاكمة). فمن اين اتت الاستراتيجية بعناصر بناء الامة السودانية موحدة ، امنة ، متحضرة ، متقدمة ومتطورة. وهكذا فى عناصر الاهــداف الاستراتيجية الكلية (استدامة السلام والسيادة الوطنية والوفاق الوطني، تعزيز المواطنة والهوية السودانية، التنمية المستدامة، خفض الفقر وتحقيق اهداف الالفية، الحكم الراشد وسيادة القانون، البناء المؤسسي وبناء القدرات، توطيد المعلوماتية و تطوير البحث العلمي ). هذا يدخل فى باب استعارة مصطلحات المنظمات الدولية التى تحتفى بهذة الجمل المنمقة ولا تستطيع ان تقول للاعور اعور بعد ذاك.

    ثالثا: التخطيط الاستراتيجى يستلزم اما الاقتناع الوطنى والقبول الجماهيرى كما تقول الاستراتيجية نفسها او ان يؤمن بها الحزب او المجموعة ويفرضها على الاخرين. الاستراتيجية الربع قرنية تريد ان تفرض الرؤية الحزبية تحت دعاوى تضمن لها القبول العام. وقد عبر عنها احد المتداخلين عليها فى احدى المواقع " اذا انت داير الاستراتيجية دي تتحقق بحلول 2028م ان شاء الله، لازم كلنا كسودانين نكون مقتنعين ومؤمنين بيها، لانه الدولة ما بتقدر براها تعمل كده يعني المفروض تتنشر وسط الشعب كلها، الناس كلها تردد الرؤية و تتغرس في نفوس الاطفال ودا ما حاصل".

    رابعا: يضعف من مصداقية الاستراتيجية الربع قرنية والخطط المتفرعة عنها ان هناك تجاورا لاستراتيجيات متعددة فى مسيرة الانقاذ كانت كلها لاغراض لحظية وعلى سبيل المناورة وكسب الوقت ثم يتم تناسيها والتنكر لها ولا ترتبط بخيط ناظم مع التوجة المكتوب.

    عدا ذلك فان التجربة نفسها – اذا صفيت من حمولتها الايديولوجية، والتفكير الاقصائى للاخر وقبضة الحزب الحاكم- وتم ادراجها فى النشاط الديمقراطى المفتوح ونقاشها الواسع والحر هى نمط التفكير الذى نود ان يسود. المشكلة ان الانظمة الاستبدادية تاخذ الشعارات الجيدة و تدعى تطبيقها وهى فى حقيقة الامر تضرب عرض الحائط بكل المبادىء والقيم التى تحتويها هذة الشعارات. لاسبيل ان يبدا السودان فى الانطلاق والتقدم بدون التخطيط الاستراتيجى لكن من اول مستلزماتها الغائبة الديمقراطية، الشفافية، المصداقية والقبول.

    ازمات تيار الدولة الدينية

    لا يختلف ما فعلتة الانقاذ عن ماسبق فى الاتجاة العام وان كانت اكثر تسريعا فى تحطيم كافة المشاريع التى كان يقودها القطاع العام ( اما خصخصة، بيعا للقطاع الخاص او مستثمرين اجانب، لاحتمال انشاء شركة مستقبلية او ببساطة سوء الادارة والاهمال)، زيادة الاحتكار والافقار وسوء الادارة وقلة الكفاءة الشاملة، الخروج كليا من الخدمات خاصة التعليم والصحة، اهمال الزراعة والرعى بكافة انواعها ، والتوسع فى مشاريع الهدر المائى من زراعة القمح والسكر. وبدلا من تحسين الاداء الضريبى وتطوير كفاءتة تحولت الدولة الى جابى عملاق. لربما من نافل القول ان البحث عن عناصر فشل المشروع الحضارى هى تحصيل حاصل فقد نعاة حداة ركبة قبل معارضية، وانا اوردها هنا بتفاصيلها لانها مهمة فى بناء الرؤية السودانية المستقبلية وتنكب عثرات الرؤى التى مرت على السودان. هناك تعبير شاع فى الادبيات السودانية عن ان كل حكم عسكرى فى السودان اسوأ بمراحل من الذى سبقة وقد دفعت الانقاذ بازمات السودان الى اقصى درجاتها.

    1-أزمة الهوية

    ان قضية الهوية ترتبط اكثر من ناحية الرؤية بالسلطة فى الدول النامية (خاصة تحت الانظمة الشمولية ) لانها المدخل الأساسي الى توزيع الثروة وذلك لان الدولة بوظائفها وعطاءاتها وإعفاءاتها هى مصدر الثروات في هذه الدول (عديمة الشفافية) التى لم يتجذر فيها الشعور القومي بعد ولذلك فالاستئثار بها هو الاستئثار بتوزيع الثروة فى نفس الوقت . وقد دفعت الدولة السودانية منذ رؤيتها الاولى هوامشها بعيدا عن هذة السلطة، لم تستسلم هذة الهوامش عن التعارك سواء بالتكوينات الجهوية، اللوبيات او حتى حمل السلاح الذى غطى طوال الفترة من الاستقلال حتى الان.

    بحث د. صديق امبده فى المكون الادارى البشرى للسلطة وعرفها انها تشمل رئاسة الدولة والوزراء والوكلاء ومديروا المصالح الحكومية وكبار ضباط القوات المسلحة وكبار ضباط الشرطة وقضاة المحكمة العليا . وبالرجوع الى الأصول الجهوية (الإقليمية) للذين احتلوا تلك المناصب اتضح ان هنالك تركيزاً شديداً للسلطة في الفترة المذكورة في الوسط والشمال. كان معامل تركيز السلطة في أقاليم السودان الأوسط (الخرطوم والشمالي والأوسط القديم ) فى الفترة المذكورة (1954-1989) عاليا جدا (نحو 80%) بحد ادني 70% للوزراء وأعلى 92% للوكلاء ومدراء المصالح بينما توزعت الـ 20% المتبقية على بقية أقاليم السودان بما فيها الجنوب . ومما يجدر ذكره فان مدينة ام درمان وحدها-وليست ولاية الخرطوم – كان نصيبها في المتوسط من السلطة بتعريفها انف الذكر نحو 27% من كل فئة بحد اعلي 49% لكبار ضباط القوات المسلحة و45% للرؤساء والوزراء، وحد ادنى 26% للوكلاء ومديرو المصالح الحكومية . أما الإقليم الشمالي (ولايتي الشمالية ونهر النيل) فقد كان نصيبه من السلطة حوالي 22% فى المتوسط بحد ادني قدره 10% من الوزراء وحد أعلي 30% من قضاة المحكمة العليا.
    فماذا حدث بعد الانقاذ ؟ لحسن الحظ هنالك إحصائيات حول مؤشرات الاستئثار بالسلطة في الفترة 1990-2001 وهي التي وردت فى الكتاب الأسود . مؤشرات الاستئثار بالسلطة تحت الانقاذ في عشريتها الأولى، أظهرت تحولا جذريا فى تلك المؤشرات مقارنة بالفترة 1954-1989 . فقد ارتفعت نسبة منسوبي الإقليم الشمالي (الشمالية ونهر النيل حوالي-ثلاثة ونصف في المائة- 3.5% من السكان حاليا ) من متوسط 10% من الرؤساء والوزراء فى الفترة الأولى الى متوسط 52% فى عشرية الانقاذ الأولى، مما أسس للانكفاء الجهوى شديد الوضوح في الفترة اللاحقة (الى 2011) والذي أصبح يرى بالعين المجردة ليس على مستوى السلطة السياسية فحسب وانما على مستوى الخدمة المدنية والعامة ومؤسسات الدولة وشركاتها، وشركات الطبقة الرأسمالية الإسلامية الجديدة. (د. صديق أمبده: الانقاذ من العقيدة إلى القبيلة بقلم صديق أمبده، http://www.sudaneseonline.com

    نتج من التبنى المتواصل لاطروحات النقاء لاغلب النخب السودانية الحاكمة فى ثوبها العروبى الاسلامى الى جعل رؤاها اقرب ما يكون الى اسوأ نظامين فى التاريخ المعاصر نموذج جنوب افريقيا العنصرى السابق وان كانت فى السودان اكثر عنفا واقل تقيدا بحقوق الانسان، بعد ان تنكر احفاد السيدة هاجر النوبية ام سيدنا اسماعيل لها. فمن فصل الجنوب الى حرب جنوب كردفان، دارفور والنيل الازرق والشرق وسدود الشمال يرينا بوضوح خريطة المجموعات غير العربية ومحاولة استئصالها. النموذج الاخر هو مقاربة النموذج الاسرائيلى بتبنى يهودية الدولة فى منظورها الصهيونى وعزل غير اليهود منها اذا لم يكن طردهم تماما، بتبنى نظرة شائهة للاسلام وفرض نموذج واحد قال فيها حفيد مؤسس تنظيم الأخوان المسلمين المرحوم (حسن البنا) ، فى أبى ظبى " دعا الدكتور طارق رمضان الحركات الإسلامية فى العالم الإسلامى إلى تبنّـى خطاب سياسى يركز على التنمية الوطنية ونبذ العنف، والمضى قُدماً فى استيعاب ممارسة العملية الديمقراطية بعدم الإقصاء، والإيمان بالدولة المدنية التى يعيش فى كنفها جميع التيارات الفكرية والأديان وفق مبادئ العدل والمساواة وسلطة القانون". " ان الحركات الإسلامية فى مصر وتونس سرعان ما بدأت تعانى أزمات وانفجارات داخلية ورؤى مختلفة عمّا اعتادته، ولفت إلى ان الحركات الإسلامية تشهد انقسامات الان، بسبب الاصطدام بخطاب الأغلبية السياسى الذى يدعو إلى رفض الدولة الدينية ويدعو إلى الدولة المدنية والعلمانية وسيادة القانون وحقوق الانسان."( تاج السر حسين: سوء الدوله الدينيه وفشلها .. الصومال نموذجا! موقع الراكوبة).

    2-أزمة الشرعية

    الشرعية "legitimacy " بمعنى " خلع الصفة القانونية على شيء ما" واجهة النظام كفقدان للمصداقية منذ الدقيقة الاولى، المصداقية كان لها تاريخ طويل فى تجربة الشعب مع تيار الدولة الدينية وفاقمها مسرحية القصر رئيسا وكوبر سجينا وقد نالت هذة المعضلة من النظام فى كافة تعاملاتة. المسالة الثانية هى الارتباط العضوى بين الدولة والحزب والذى صار فية الحزب هو الدولة والمتحكم فى علاقاتها واقتصادها وفسادها. المسالة الثالثة هى تكوين اجهزة الامن والمليشيات المتعددة هذة الاجهزة هى الحاكم الفعلى والتى لاتخضع لاى رقابة. بعكس كل الدول فليس امام النظام اى فزاعات يحتمى بها، فصعود الاسلاميين عن طريق غير الانتخابات الشفافة اصبح موضة قديمة والنظام نفسة نتاج اسلام سياسى وان فقد الغطاء الايديولوجى بمفارقة منظرة الاساسى الشيخ حسن الترابى لصفوفة والتحاقة بمركب شبة الديمقراطية. والجنوب اصبح منفصلا عن التراب الوطنى وهناك قنابل موقوتة فى جنوب كردفان، النيل الازرق، الشرق وحرب دارفور الاهلية. ليس الحال الاقتصادى والاجتماعى بافضل حالا فقد تفشى الفقر والعوز، الجريمة وغلاء الاسعار وانتشرت اتهامات الفساد والمحسوبية والهجرات. كانت المشكلة مع المشروعية legality ( لا تكفل بالضرورة تمتع الحكومة بالاحترام أو اعتراف المواطنين بواجب الطاعة). ولتصل السلطة الوليدة الى الشرعية ومن ثم المشروعية انتهجت منذ البداية اسلوبان اصبحا الماركة المسجلة للانقاذ:

    اولا: استعمال اساليب التعذيب فى اخضاع الخصوم وانتزاع المعلومات. التعذيب ليس جديدا على السودان بل مورس طوال تاريخة، وقد عدت حادثة واحدة للسيد حسن حسين فى الابيض فى الستينات احد اكثر المواقف التى سوءت سمعة الحكم العسكرى. امتد التعذيب، وان لم يكن خطا منهجيا ، خاصة بعد الانقلابات ضد النظام المايوى، مارس النظام المايوى الاعدامات بشكل كبير ضد كل من حاول الانقلاب علية طوال الحكم العسكرى الثانى وقد طويت صفحات لم يفصح عنها فى احداث ابا، دفن الاحياء فى وادى الحمار..الخ مما شاع بعد الانقلابات لكن لم تفتح ملفاتها بعد.. الاستعمال الممنهج والثابت للتعذيب ادخلتة منظمات تيار الدولة الدينية منذ انشائها واستعمالها العنف لمعاقبة خصومها فى المدارس.

    جاءت الانقاذ ومعها بيوت الاشباح والتى تمارس فيها افضل اساليب التعذيب واكثرها تطورا في انتزاع الاعتراف او المعلومة كالصعق الكهربائي، التعليق على سقف الحجرة بواسطة المروحة ، تعليق المعتقل على حديد ابواب الزنزانة المعرضة لاشعة الشمس، انتزاع اظافر الاصابع بواسطة الات معينة او اللجوء الى الخصي وكي اطراف الارجل وهما مقيدتان واقلها الضب المبرح. استعمل الاعتداء الجنسي على المعتقل هذا خلافا للشتائم والاساءات البذيئة للمعتقل ولكافة افراد اسرته ومعارفه، هذا فضلا على التهديد المستمر باغتصابه او اغتصاب احد افراد الاسرة امام عينيه. وعلى مستوى المناطق فقد مورس التطهير العرقى، حرق القرى، الاغتصاب ..الخ مما وثقتة الكتابات المختلفة وقادت عدد من قياداتة الى المحكمة الجنائية الدولية ولم يتوقف هذا حتى الان.

    السبب المباشر للثورة المصرية كان تعذيب الشهيد خالد سعيد وقتلة بواسطة قوات امن الدولة وسوف يخضع قتلتة للمحاكمة العادلة ويدفعون الثمن. هذا ملف لابد ان يفتح بشكل علنى وشفاف وتتاح لكل من تضرروا ان يتقدموا للمحاكم وينال كل من شارك وخطط وامر ونفذ الجزاء العادل. انى على ثقة ان التعامل الراقى الذى طرحة البروفسير فاروق محمد ابراهيم فى خطاباتة لرئيس الجمهورية سوف تجد لها اجابة واضحة وتضع الوطن فى طريق تنظيف جروحة المتعفنة، تنظيفها ومن ثم تطهير الحياة السياسية السودانية من آفة العنف والتعذيب الى الابد.

    ثانيا: اذا كانت ثورة اكتوبر اول من استنت الفصل للصالح العام، وواصلة نظام مايو واستعملة لحدود قصوى للتخلص من خصومة فقد جعل منة الانقاذ مؤسسة كاملة وتشمل اركانها. الفصل للصالح العام والتى تطورت بعد الفراغ من تصفية كل من يختلف معها الى الفصل لتصفية المؤسسات وبيعها ومن ثم انحدرت الى درجة الفصل لتعيين ابن شخص مسئول. " وتشير ارقام رسمية الى ان اجمالي عدد الذين احيلوا الى المعاش منذ عام 1904 وحتى العام 1989 بلغ 32419 موظفا، بينما شهدت الفترة بين 30 يونيو (حزيران) 1989 و29 سبتمبر (ايلول) 1993 احالة 73640 موظفا، اي ان الذين احيلوا الى المعاش في عهد الخمسية الاولى من الانقاذ يتجاوز ضعفي الذين احيلوا الى التقاعد خلال كل العهود الاستعمارية والوطنية من مدنية حزبية وعسكرية سابقة (صحيفة الشرق الاوسط 20 مايو 2001 ) .

    التضييق فى الرزق على هذا القوات المسلحة العرمرم من المفصولين واجبارهم على اما الانحناء والعمل معهم او الهجرة " يعتقد بعض المراقبين ان نسبة لا تقل عن 80 % من الناشطين السياسيين والنقابيين الذين تحفظت عليهم الانقاذ عامي 89/1990 هاجروا الى الخارج، بسبب المضايقات التي تعرضوا لها وعمليات الاحالة الى الصالح العام، التي جعلت كسب العيش من الصعوبة بمكان في مجتمع تسيطر الدولة على النشاط الاقتصادي فيه (صحيفة الشرق الاوسط 20 مايو 2001 ) . (حرمت بعد فصلى من العمل عام 1990 من الالتحاق باى عمل مع القطاع العام، الخاص او المنظمات بقرار من الاجهزة الامنية، عملت بعد فصلى من وزارة الصحة بقرار جمهورى!! كخبير مع مركز الرعاية الصحية والتنمية الريفية بجامعة الجزيرة. تعرضت لمطاردة مثيرة من اجهزة الامن فى بورتسودان اثناء قيامى بعمل بحث عن المكونات التدريبية لطبيب الاسرة المقترح قيامة انذاك بالتعاون بين جمهورية ايرلندا وجامعة الجزيرة. وقد قام اصدقاء اعزاء فى بورتسودان من تهريبى الى مدنى بعد ان جاءهم تحذير من احد من الذين كانوا يعملون فى امن السودان. عندما وصلت جامعة الجزيرة وجدت مظاهرة فى ارجائها بعد قيام الادارة باحالة عدد من الاساتذة الى المعاش للصالح العام وضمنهم مدير مركز الرعاية الصحية والتنمية الريفية انذاك، فتوجهت من فورى الى مسكنى فى ميز الجامعة بمدنى وغادرت فورا وهكذا نجوت من مصير محقق من اعتقال وبيوت الاشباح. المحزن اننى قمت بعد ذلك بالاشراف على انشاء تخصص طب الاسرة بدولة قطر عام 1994 وساهمت فى انشاء طب الاسرة بالامارات. وقد ساهمت بعد ذلك فى مناقشات انشاء طب الاسرة بالسودان منذ عام 2008 من موقعى فى منظمة الصحة العالمية بعد اتفاقية السلام بلا جدوى.

    حرمان من بقوا فى الخدمة من اى حماية بواسطة نقاباتهم حيث اتبع النظام اسلوبين لضمان السيطرة على النقابات: اولهما تغيير القانون بحيث تقوم النقابة على المنشاة، الامر الذي يسهم في تمييع الرابطة المهنية: اي ان نقابة المهن الطبية مثلا تضم كل الاطباء والممرضين والاداريين والعمال المرتبطين بالقطاع الصحي، وذلك بدلا من القانون القديم الذي كان يسمح لكل اهل مهنة ان ينتظموا وفق مهنتهم. اما وسيلة السيطرة الثانية فعن طريق استخدام آليات جهاز الدولة عبر تحديد مواعيد الانتخابات والتدخلات التي يمكن ان تقوم بها الاجهزة المختلفة لضمان فوز مرشح بعينه او اسقاط اخر (صحيفة الشرق الاوسط 20 مايو 2001 ) . بجانب العمل المدنى والعسكرى فقد قامت الانقاذ بتغييرات ديموغرافية متعددة سواء بالتهجير القسرى، نزع وبيع الاراضى اهمال كافة القطاعات الانتاجية...الخ. لقد مست هذة الظلامات الاف الاسر من سودانيين منتشرين فى ارجاء الارض، لاجئين فى الاقطار المجاورة، هاربين الى اسرائيل، نازحين الى معسكرات دارفور ومكدسين فى الاطواق العشوائية فى اطراف المدن. هذة ظلامات لاتزول بالزمن ولابد من معالجتها بشكل مسئول وموضوعى وعادل.

    3- أزمة الاندماج (وتعنى بمدى تنظيم النظام السياسي ككل ، كنظام علاقات متفاعلة. وتشير إلى علاقة شاغلي الأدوار بوكالات الحكومة وعلاقة الجماعات ببعضها، وقدرة الأجهزة الإدارية والسياسية على أداء الوظائف المنوطة بها).

    اتيح للطليعة خبرات العمل فى مؤتمر الخريجين، المجلس الاستشاري لشمال السودان: 1943-1948م وتكونت عضوية المجلس من 30عضوا من زعماء العشائر ورجال الدين جميعهم من شمال السودان ، الجمعية التشريعية 1948م – 1953م ثم البرلمانات المتتالية. رغم هذا الانفتاح على التجارب المعاصرة لكن اختيار القيادة السياسية خاصة الوزراء كانت اقرب لتقاليد السلطنات السودانية، المهدية والتكوينات القبلية. كان هذا ناتجا عن التداخل الشديد بين الحركة السياسية والطائفية والقبلية. صار اختيار الوزراء لحد كبير خاضعا للتوازن المهلك بين التمثيل القبلى، القرب من رئيس الطائفة، الحزب الابوى او علو الصوت الموروث من الحركة الطلابية ذات التاثير الشديد على كوادر الاحزاب العقائدية. ليس من مواصفات او معايير للاختيار او الخبرات المطلوبة او اى تدريب. فى مرة وحيدة حاول السيد الامام الصادق المهدى ادخال بعض المعايير فى اختيار الوزراء فى اول حكومة بعد الفترة الاتقالية 1986 ولكن ابتلعتها ترضيات الاحزاب المشاركة. قليل من الوزراء من تركوا بصمة فى العمل القيادى ويذكرة الناس ومن بين الاف الوزراء السابقين فى السودان لم يبق سوى قلة يلصقون بالذاكرة ومضى اغلبهم الى غياهب النسيان ولا يتم استعادتهم الا عند ورود المعلومة فى رثائهم فى الصحف.

    توجهت الحركة الاسلامية لاستغلال كل الفرص المتاحة ابان جميع الحكومات لدفع اعضائها للتطور العلمى عن طريق البعثات والدراسة بالخارج والذى وصل فى بعض الاحيان احتكارهم لها. هذا التوجة افاد الوطن فى مناحى متعددة ورفدها بكفاءات علمية راقية، لكن المشكلة ان الحركة الاسلامية استهدفت اقصاء الاخرين من الخدمة العامة والسيطرة الكاملة عليها، كما ركزت ايضا على تدريب اعضائها فى مجالات الامن والاعلام الموجة والاقتصاد واستعملت هؤلاء فى توطيد سلطة الراسمالية الطفيلية، القوى الامنية والبيروقراطية والقوى القبلية.

    عند الاستقلال اعتمد اختيار القادة التنفيذين على التدرج الوظيفى فى المجال المعين وقد كان المبدأ مقدسا لدرجة كبيرة ومحترما من الجهاز السياسى. حتى انقلاب مايو لم يخرق هذا المبدا الا بدرجات معدودة ولكن معها بدات التغيرات الحادة. الفترة الاولى رأت اليسار يتصدر الجهاز التنفيذى وبعد فشل 19 يوليو ذهبوا الى المعتقلات وتصدر القوميون واشياعهم ومن ثم بعد المصالحة حطت كوادر تيار الدولة الدينية. استطاع جهاز الدولة المحافظة بصعوبة على كفاءتة فى ظل هذة التغيرات ولكن تصاعد تدنى العامل البشرى. اضافت الهجرة الكثيفة فى سبعينات وثمانينات القرن الماضى ضغوطا اقسى على جهاز الدولة وسرعت تدهورة. واصل الزمن الديمقراطى – بشكل اقل جدا- ترضياتة فى التعيينات وتواصل تعيين كفاءات متواضعة وعدم الاستقرار الوظيفى.

    مع تربع سادة الانقاذ حدثت الكارثة المحدقة وابتدرت اوائل عهدها بخطة التحطيم الشامل للالة المدنية والعسكرية السودانية وتمزيق اوصالها، ثم تلاها تعينات القفز بالزانة من ذوى اللون، الطعم، السلوك، الهيئة، اللحية، المنظومة القيمية واكثر من ذلك اللغة الواحدة. وتحول سودان متنوع تماما الى جهاز موصول بحبل سرى ضخم يحركة القابع فى المنشية اولا ثم فى القصر اخيرا. ورث الكادر التنفيذى فى السودان تقاليد العمل من دولة الاستعمار وتجمد عندها، وحين تطورت الدول المثال فى تطوير كادرها البشرى بمعطيات العلم والتجربة، تقاصرنا عن مراجعة سبل التعليم والتدريب، وعلى طوال تاريخ الخدمة المدنية والعسكرية السودانية انتقلت من الاقدمية المطلقة الى الاختيار المبنى على الثقة والقرب من الرئيس.

    4- أزمة التغلغل ( وتعنى مدى سيطرة النظام وامتداد سيطرته وسلطاته إلى كافة أطراف المجتمع، وقدرته على التأثير الفعال في مختلف أرجاء الإقليم.

    سوى اشتباكات قليلة مع تشاد، اثيوبيا، اريتريا ومصر فقد دارت معظم المواجهات داخل الوطن بين ابنائة. هناك نمط متكرر من اعادة انتاج المشاكل فى السودان، فالدولة هى التى تأزم المشكلة ثم تبدا المفاوضات – التى برعت فيها منذ اتحادات الطلاب- التى تتدخل فيها دول العالم لعدم ثقة الجانب الاخر فى الجانب الحكومى. من كثرة هذة المشاكل التى كانت تتراكم على مر السنوات من جراء القضايا الموروثة والظلم الاجتماعى والتنمية المشوهة، فتحت كلها ابواب جحيمها فى عصر الانقاذ باعتبارها اكثر الانظمة اقصاءا وعنفا وسوء ادارة. فمن حرب الجنوب التى تصاعدت حتى شملت اغلب نواحى السودان، بدخول جبال النوبة والنيل الازرق والشرق فى الصراع وانتهت باتفاقية السلام الشامل وتصويت الجنوبين لانفصالهم والتوترات السائدة فى المناطق الاخرى. بهدوء جبهه الجنوب انفجرت دارفور مقتفية اثر الجنوب. اما جنوب كردفان ف والنيل الازرق قد تصاعدت ازمتها وفى ايام قليلة صحى الشعب السودان على حرب قادمة تدشنها الانقاذ وفى انتظارهم عند المنحنى اخريات، فقد استن قادة الانقاذ الطريق لكل من يريد ان يكون مواطنا فى بلدة – حمل السلاح او يلاقينا برة او يلحس كوعو.

    وبعكس حرب الجنوب التى تجارى فيها كل الافارقة والدول الكبرى والدول الجارة فقد غابت جميعا فى مد العون للنظام فى مفاوضاتة فى حرب دارفور ولم تتقدم سوى قطر التى لاتملك تاثيرا فى السودان خاصة دارفور، سوى جالية سودانية مقدرة، وبالعكس فهى متهمة من الحركات بالانحياز وينظر لمبادرتها على انها مد يد العون لانقاذ النظام من احد اعنف ورطاتة. ليس هناك افق لحل القضايا المعلقة فى كافة ارجاء السودان تحت ظل هذا النظام وسوف تتفاقم الى انقسامات و دويلات. ستجبر هذة التحركات من جميع الجهات كافة النخبة التى تقتعد السلطة فى العاصمة من جميع مكوناتها السياسية الى تبنى رؤية جديدة للتعامل. ان هذة الحركات لاتستجدى حقها ولكن تقاتل بشراسة دفاعا عن حقوقها. وبدلا ان نفرغ العاصمة او المدن الكبرى من عشوائياتها عن طريق انفصالات جديدة كما حدث للجنوبيين، فان تحولا ديمقراطيا سلميا اذا حدث او عنيفا كغيرنا من الدول من اليمن، سوريا وليبيا كفيل باستعادة الشعب لمصائرة واحقاق حق كافة ارجاء السودان فى السلطة والثروة.

    القوات المسلحة والاجهزة الامنية الاخرى

    منذ 30 يونيو 1989 كان الهدف تجفيف القوات المسلحة، وفى طول العقدين الماضيين حاولوا تحويل جيش السودان القومى الى جيش تيار الدولة الدينية (مادرج الشعب على اطلاق تسمية جيش المؤتمر الوطنى على سبيل السخرية) ، ربما نجحوا فى بعض هذا ولكن ابناء الشعب السودانى يخضعون لكل القوانين الاجتماعية ويعايشون العسف الذى يقاسية اهاليهم. لقد غيرت الانقاذ من بنية القوات المسلحة وحاولت جعلة جيشها الخاص، لكنها دائما بفكرها الاحادى تعتقد ان البشر جامدون ومسيرون ولا تتعلم من دروس التاريخ القريب حيث انقلبت الجيوش على حكامها. القوات المسلحة النظامى الذى كان فى داخلة كافة متنوعات الدولة السودانية وكافة التيارات السياسية تحول عبر مسير طويل وخاصة عند مجئ الانقاذ الي الحكم فى 1989 ، حيث بدات بتصفية القوات المسلحة من كل الضباط الذين لا ينتمون للجبهة الاسلامية، واحالت للصالح العام معظم القيادات العسكرية وحجرت دخول الكلية الحربية حكراً على ابناء الاسلاميين. فى الطريق تخلصت من ابناء الجنوب واستمر الحال حتى مفاصلة 1999 حيث تم تنظيف القوات المسلحة ايضاً من كل الضباط والجنود الموالين للمؤتمر الشعبى. وتلا ذلك تصفية ابناء دارفور بعد تمردات الاقليم وابناء البجة والنوبة والانقسنا. رغم ذلك فان هذا القوات المسلحة لم يخنع لكل النظم ديكتاتورية كانت او ديمقراطية لقد عجزت الانظمة المختلفة خاصة الديكتاتوريات عن تغيير جيش السودان ومواقفة الاخلاقية والسلوك الرجولى فى مواجة الاعداء، وان كانت هناك تجاوزات من بعض افرادة سوف تستدعى تحقيقا دقيقا وتقديم كافة من ارتكبها الى العدالة ليدفعوا ثمن اخطائهم ويتطهروا من العبء الذى يحملونة على كواهلهم اذا كانوا لازالوا يحسون.
    توجست كافة الديكتاتوريات من القوات المسلحة ويمكن تفسيرة بعدم ثقة الانظمة فى جيش السودان والخوف من انقلابة على نظام يفرط فى عين ماهو مسئوليتة وهى عجز النظام القائم على ادارة الامور وتفريطة فى الوطن ودفعة لجزء من ابنائة الى الدفاع عن حقوقهم باسنانهم، وظهر هذا جليا فى اعتماد الانظمة على اجهزة الامن والمليشيات ( كما تجلى فى الثورات العربية). ان من ينادون ان القوات المسلحة السودانى هو جيش المؤتمر الوطنى محقين فى ان الحزب الحاكم اختارها، فحصها ومحصها وتخضع لمراقبة دائمة ولصيقة. لكن هكذا فعلت السلطة المستعمرة ومن داخل جيش المستعمر ظهر ثوار 1924 وفعلتها مايو من قبل وتوالت الاحالات الى المعاش والطرد. اننا بحاجة الى الثقة فى الديناميات والتفاعل الاجتماعى التى تفعل فعلها فى القوات المسلحة وتجعلة ليس الة ميكانيكية فى يد النظام. هذا لايعنى ان هذا القوات المسلحة ربما تمطرنا بالرصاص حين يستدعينا التغيير كما سوريا او ليبيا ولكن سوف ينشق على عقبية كما فى الثورات العربية.

    تميزت الشرطة السودانية طوال تاريخها قبل الانقاذ بقربها من شعبها وتعرضت مثل غيرها للتطهير الشرس، الظلم الشديد والتهميش من قبل اجهزة امن النظام وتغولة على سلطاتة وطولب افرادها باستعمال العنف المفرط ولكن باءت كل المحاولات التى حاولتها الانظمة المختلفة كما حاولت مع كافة افراد الشعب لدفع السلوك المختل واحلالة مكان العقل والشهامة والسلوك السوى. يعانى افراد الشرطة و القوات المسلحة من ضباط وجنود كغيرهم من ابناء الشعب من ضعف التعليم وتكاليفة وانسحاب الدولة من الخدمات الصحية وادخال الانظمة الاستعراضية من الانواع المعقدة من التامين الصحى فى دولة يعيش اكثر من نصف سكانها على دولار فى اليوم. فالنظام تحالف يعتمد على القوى الامنية والبيروقراطية فى داخل الدولة وهى التى يغدق عليها النظام ويسلحها ويعتمد على ولائها. ستواجة الشرطة موقفا مشابها لموقف القوات المسلحة السودانى وقد تواجة الشارع ويطلب منه اطلاق النار، وقد اثبتت التجربة التونسية والمصرية والتجارب السودانية قبلها انة مهما حاولت الشرطة حماية نظام لايمثلها فهى الخاسرة فى النهاية.

    انتهى النظام الحالى فى تحولاتة التاريخية الى مجموعة قليلة حاكمة معزولة وصفوية تحميها اجهزة امنية متحالفة مع الراسمالية الطفيلية ولها مصالح واضحة وتشابكات معقدة مع اجهزة ومليشيات متعددة وخفية ومجهولة مصادر التمويل والهياكل الادارية وتداخل الاختصاصات والولاء. لا نبالغ فى قدرة هذة الاجهزة وقد اثبتت التجارب السودانية والتونسية والمصرية انها اضعف من ان تتصدى، فهى شديدة القسوة والوحشية فى بداية اى نزال ولكنها سريعة الهرب والاختباء كما حدث مع جهاز مباحث امن الدولة المصرى ذو السمعة السيئة والمخيفة ففى اول نزال تشتتوا وتبعثروا. هذا هى القوة التى ستطلق النار وتحاول ان تمارس العبث الذى حدث فى ميدان التحرير. لقد اعتمد قرار التعامل معة على تفاعل الشعب والاجهزة وقد وصل لحد حلة تماما فى الثورة المصرية. عكس الثورات السودانية المسبقة مع اجهزة امن الانظمة الديكتاتورية، تم توثيق كل تجاوزاتها اما من ضحاياها او من شهودها وهى لاتسقط بالتقادم وسوف تطالها المسائلة الجنائية.

    5- أزمة المشاركة (مدى مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وفي صنع القرار)

    سوق النظام منذ اوائل عهدة تمسكة بمفاهيم المشورة والتفكير العلمى. فبدا اول العهد بالمؤتمرات المتنوعة التى دعا لها المخالفين عن طريق الصحف او المذياع فى فقدان تام للكياسة ومفاهيم الجودية ثم القى بمقراراتها الى سلة المهملات الكبرى.. يمكن بلا مبالغة ان نقول انة لم يحدث فى تاريخ السودان المعاصر ان انفردت مجموعة محدودة بكل مقاليد السلطة واقصت اى افراد او جماعات لا تندرج فى اطارها السياسى، الاقتصادى، الاجتماعى ..الخ بكل تفاصيلة. أزمة المشاركة الحالية هى محصلة قيام الصفوة الحاكمة بوضع العراقيل أمام الراغبين ‏في المشاركة السياسية وتضييق الخناق عليهم على نحو يؤدي إلى تضاؤل وقلة ‏أعداد المشاركين في الحياة السياسية، وتعتبر السلطة أي محاولة للمشاركة في الحياة السياسية هو تصرف ‏غير مشروع لان الحكومة وحدها هي التي لها الحق في المشاركة السياسية. ‏المؤتمر الوطنى وحده ‏يحتكر الحياة والمؤسسات السياسية ، وقد نتج عن هذا الاحتكار ان انصرفت الجماهير عن المشاركة.

    6- أزمة التوزيع

    عندما احتل الاستعمار السودان اقام استراتيجيتة على تطوير الثروات الخام وركز بعد دراسات وابحاث على تطوير زراعة القطن لمصانعة فى بريطانيا (نجحت زراعة القطن في الجزيرة والقاش وطوكر والنيل الابيض وشمال الخرطوم وجبال النوبا ومنطقة الزاندى بجنوب السودان) والاهتمام بالثروة الحيوانية الكثيفة الوجود وصناعات بسيطة. تم بناء الهياكل الادارية، القانونية، التعليمية والصحية لخدمة هذان المجالان. ولاسباب تاريخية فقد برز نموذج شاع فى اغلب الدولة المستعمرة من قبل بريطانيا وهو الخلط بين نظامٍ راسمالي وعلاقات انتاج اشتراكية كان شائعا فى بريطانيا نفسها، وادارة شبة عسكرية لكل هذة القطاعات. ما نراة ماثلا الان وبعد اكثر من نصف قرن من الاستقلال تحولات عنيفة فى بنية السلطة ادت لاستكمال ما كان قد بدا فى مايو من تحويل الاقتصاد من اقتصاد انتاجى الى اقتصاد ريعى وخدمى. فكيف تمت هذة العملية؟ سوف نتناول هنا الملامح العامة والتى لن نفصل فيها، اذ ان هذا المجال هو من اكثر المجالات التى تم تناولها فى الكتابات الدارجة والكتب والاصدارات السودانية سواء العامة منها او المتخصصة. ( يمكن الرجوع للاستزادة الى موقع http://www.sudaneseeconomist.com

    ادى تطور الاقتصاد السودانى فى بلد متُخلف نشا في احضان الاستعمار القديم واستجاب لكل الروشتات الراسمالية فى استسلام كامل لاطروحات العولمة، الى وجود خلخلات هيكلية فى بنيتة من توزيع جغرافى مختل لايراعى العدالة وتطوير الهوامش، والزراعة الالية – وملاكها الجدد من البرقراطية المدنية والعسكرية- والتى شهدت توسعا عشوائيا واقصاءا للسكان المحليين وقضت على الزراعة المعيشية وادت لتحولات بيئية مدمرة.

    مع تدافع تيار الدولة الدينية للتحالف مع نظام نميرى 1977 بدأ عهد جديد فى تطور الاقتصاد السودانى اذ شهدت بروز ما اسمى الفئة الراسمالية الطفيلية الاسلامية وبدات فعليا فى اقامة اقتصاد موازى خاص بها. تم انشاء نظام بنكى ( بنك فيصل الاسلامي ، التضامن الاسلامي و عددا من شركات التامين والمؤسسات التجارية والعقارية ثم اقاموا منظمات بديلة للسيطرة على العمل الاجتماعى والخيرى، منظمة الدعوة الاسلامية ، الوكالة الاسلامية للاغاثة ، جمعية رائدات النهضة ، جمعية شباب البناء ، جمعية الاصلاح والمواساة ، مؤسسة دان فوديو وكذلك السيطرة على مؤسسات تعليمية مثل المركز الاسلامي الافريقي، وكلية القران الكريم، الجامعة الاسلامية كما اقتحموا مجال المدارس ورياض الاطفال. سهل النظام المصرفي الاسلامي الذى يتعامل بالمرابحة والمشاركة والتى بالضرورة تجعلة يمول المعاملات قصيرة المدى لنشاط الفئات الطفيلية العاملة فى هذة المجالات ( اغلبها النشاط التجارى والخدمى). الخطورة الاخرى كمنت فى عدم خضوع النظام المصرفي الاسلامي لشروط الضمانات المعروفة في الانظم البنكية وبالتالى امكانية تقديم اى تسهيلات بناءا على الانتماء السياسي. بعد ما دفعت الانقاذ جميع من لا ينتمى لها الى المعتقلات او كشوف الصالح العام او الهجرة والنزوح صممت برنامج الانقاذ الاقتصادي للفترة 1989م- 1992م . وكان فى الحقيقة تركيز الاقتصاد فى يد تجارها ( قوانين النقد الاجنبى، تغيير العملة والتضييق على عناصر الراسمالية الغير منتمية للحزب).

    كان انقلاب الانقاذ التنفيذ الفعلى للسيناريو الذى تم بنائة على مدى السنوات وربما من الافضل القول ان الانقلاب نفسة كان للحفاظ على هذا الاقتصاد الموازى الذى تم تهديدة بقرب احلال السلام فى السودان والتغييرات المتوقعة فى بنية السلطة. عندما نجحت الانقاذ فى تسلم السلطة كان لديها برنامج واحد وهو كيفية الانفراد بالوطن كاملا. شمل البرنامج الاحلال الكامل للعنصر البشرى فى الخدمة المدنية، الاجهزة الامنية والتعليم، السيطرة الكاملة على قطاعات الاقتصاد المختلفة وذلك باقصاء كافة رجال الاعمال حتى الصناعات الصغيرة، تصفية القطاع العام اما بتجفيفة او خصخصتة وبيعة. الانهيار الكامل للقطاعين الزراعى والرعوى كان هو النتيجة النهائية.

    ولنلخص هذا الجزء لنرى كيف تمت تصفية القطاع الزراعى نقتطف من الدراسة القيمة للبروفسير فرح حسن ادم (يشير واقع القوى المنتجة في الزراعة السودانية الى ان القطاع الزراعي اكثر قطاعات الاقتصاد الوطني تضررا، فحصته من الدخل القومي تتدني باستمرار، ومعدلات النمو فيه ادني من معدلات نمو القطاعات الاخرى ومستوى دخل العاملين فيه ادني من مستوى دخول العاملين في القطاعات الاخرى. ولا تستثمر امكانات السودان الزراعية الا جزئيا ، سواء في مجال استثمار الاراضي الصالحة لزراعة المحاصيل او المراعي الصالحة لتربية المواشي ، ام في ميدان استخدام المياه للري او في مجال استخدام وسائل الانتاج الحديثة. والنتيجة ان السودان لا يسد الا جزءا من حاجاته للمواد الغذائية والمواد الاولية ويزيد ضعف القطاع الزراعي في تشويه بنية الاقتصاد السوداني. ويؤثر في واقع الانتفاع بحقوق ملكية الارض ( سواء اكانت عامة او خاصة) في نفس الاتجاه فقد تراجعت الدولة، خاصة في العقدين الاخيرين عن القيام بدورها في العملية الزراعية في كافة مراحلها، خاصة في الزراعة المروية والزراعة المطرية الاليـة ( مزارع الدولة سابقا )، مما ادى الى تزايد مركزة الفائض الاقتصادي في ايدي النخب الطفيلية، والى اضعاف قدرة الدولة علي تجميع المدخرات المحلية وتوجيهها في استثمارات منتجة . (بروفسور فرح حسن ادم : الزراعــة السودانية بين البقاء و الفنــاء، موقع الاقتصادى السودانى).
    تقوم كافة اطروحات النظم العسكرية على ترداد منجزاتها كانجازات تنموية، فمايو تباهت بعدة طرق، مشروع انابيب البترول واستكشاف البترول، مصانع النسيج ومفخرة مايو مشروع السكر بكنانة. واصل الانقاذ التغنى بالطرق القومية، السدود والكبارى، استخراج البترول، مشاريع سكر اضافية والاسمنت والذهب. اذا كان السودان يفتقد الهوية الوطنية من المستعربة الى الافروعروبية الى السودانوعروبية ، فهو يفتقد اكثر الهوية الاقتصادية. هذا خطل مستمر منذ ان رفع هراء تحرير لا تعمير عند الاستقلال ومن ثم التأرجح بين كافة النظريات والاجتهادات والى السودان سلة غذاء العالم. جزء من اهم مهام النخبة فى جدلها المفيد ان تحدد نوع الانشطة الاقتصادية الملائمة لنمو البلد بما يراعى تفاعلها مع القضايا والتحديات المطروحة امام الدولة. فهل وصلت النخبة الى رؤية واضحة؟.

    عدم الوصول الى تبلور رؤية شاملة لحكم الوطن وتنميتة و مستقبلة حتى نهاية الستينات، جعل الذى اتى بعد ذلك من تغييرات ومشروعات وتوجهات اقتصادية مجرد قرارات ليس لها اى صلة ببعضها ولا تشكل افقا يمكن النظر فية وتحديد وجهاتة الاستراتيجية. وعندما جاء النظام المايوى وساط وجاط فى التنمية الزراعية وبدا مشروعات صناعات النسيج وتوسع فى الزراعة الالية وادخل احد اكثر الزراعات اهدارا للمياة – صناعة السكر- لم يكن هناك خيط ناظم واحد عن ماذا يريد النظام ان يفعل بالوطن. تقوم كافة اطروحات النظم العسكرية على ترداد منجزاتها كانجازات تنموية، فمايو تباهت بعدة طرق، مشروع انابيب البترول واستكشاف البترول، مصانع النسيج ومفخرة مايو مشروع السكر بكنانة. واصل الانقاذ التغنى بالطرق القومية، السدود والكبارى، استخراج البترول، مشاريع سكر اضافية والاسمنت والذهب. عند مناقشة انجازات مايو او الانقاذ نبدأ بفقدانها اى اتجاهات تنموية واضحة لمعالجة تحديات الدولة والتى اهمها التنمية الغير متوازنة والتهميش والجدوى الاقتصادية. نبدأ بماذا كانت نتائج هذة الانجازات المزعومة. عندما تحمس نظام مايو للانتقال من السكك الحديدية الى الطرق كان الهدف واضحا، التخلص من كتلة جماهيرية منظمة. ولكن عندما بدات مايو فى انشاء الطرق لم يكن واضحا معايير اختيار واولويات انشائها. طرحت الديمقراطية الثالثة تأهيل السكك الحديدية كافضل الخيارات الاقتصادية فى بلد متواضع التنمية، وربما لازال هذا البديل هو افضل الخيارات حتى الان. اعادت الانقاذ الحياة للطرق الاسفلتية وفى الجانب الاخر اهملت السكك الحديدية الى حد تفكيك خط حديد الجزيرة وبيعها كخردة لشركة جياد. تفاقم الوضع العشوائى والتفكير الطفيلى فى الانقاذ لتتجة الى انشاء مكونات بنية اساسية بدون ان ترتبط باى تنمية او مشاريع انتاجية، فانتهينا بسدود تبنى بدون مشاريع زراعية مصاحبة وبكثير من العسف للسكان، وكبارى اغلبها فى العاصمة ومثلث حمدى. حتى عندما استطاعت استخراج البترول وعدتة نصرا لم ير السودانيين ناتجا ومردودا لهذة الثروة. المشكلة الكبرى ان كل هذة المشاريع بنيت بديون تراكمت علينا ودفعت فيها كميات معتبرة من المال لكافة الوسطاء.

    تنمية مثلث حمدى

    يرسم الدكتور محمد جلال احمد هاشم مصير احدى الجماعات السودانية المهملة " والان وبعد أربعين عاماً من تهجير النّوبيّين وتوطينهم بخشم القربة، تبدو الصّورة قاتمة، ومنذرة بكارثة لا تبقي ولا تذر فبانهيار مشروع خشم القربة، النّاجم عن قلّة المخزون المائي بما لا يكفي لرّيّ المشاريع جرّاء الإطماء، فضلاً عن التّدهور البيئي من باعوض وذباب وأمراض مزمنة بالتّالي، إضافةً إلى النّباتات والشّجيرات الضّارّة، مثل المسكيت، شرع النّوبيّون في هجرة جديدة نحو الخرطوم هذه المرّة. يمكن تطبيق هذة الصورة القلمية الشائقة والمعاناة الانسانية البائسة على كافة الذين يفترشون العشوائيات والبيوت المهترئة فى اقاصى العواصم والمدن الكبرى، كافة مزارعى الزراعة الاكتفائية و الرعاة الذين داهمهم الزحف الصحراوى من الزراعة الالية العشوائية، مشردى الحروب الاهلية فى دارفور وكردفان والنيل الازرق، منتجى القطن فى الجزيرة التى تحولت يبابا، الارض اليابسة التى تحن الى الماء فى مشاريع الطلمبات النيلية تكدسوا فى العواصم المهملة، بيئسة المدارس والخالية مراكزها الصحية من الدواء يلوكون العلقم ويكافحون فى الحياة. هؤلاء هم بائعات الشاى، وموزعى بطاقات الدفع المقدم ومشردى السلسيون ومصائر ابنائهم فى المايقوما. (الدكتور محمد جلال احمد هاشم مسالة السدود وما ادراك ما السدود فى ست مقالات فى جرية اجراس الحرية (www.nubaonline.com)

    البضائع العامة Public Goods : الخدمات الصحية، التعليمية والمياة

    يطلق على الخدمات الصحية والتعليمة واضيف اليها فى السودان المياة اسم البضائع العامة وهى الخدمات التى يجب ان تتوفر فى اى دولة لمجموع السكان. هذا هو المجال اللذى تعرض للتخريب الاقصى فى الحكم العسكرى الثاني والثالث، فاحيانا كاستجابة للروشتة الضارة للبنك الدولى وشبيهاتة من دعاة الخصخصة وخروج الدولة من الخدمات، واحيانا من استثارة الدافع الوطنى فى حماية البلاد وهو فى حقيقتة تثبيت لانظمة الحكم العسكرى ومركزية الحكم وفرض التيار العروبى او الاسلاموعروبية ضد من قاوموا وحاولوا الوصول لنموذج وطنى عادل ومتنوع. ودائما التلاعب بشعارات مشاركة المجتمعات و ابتذال الشعارات النبيلة لنماذج التنمية المستدامة والمجتمعية حتى عنى هذا الشعار كابوسا للمجتمعات اذ كان دائما نذيرا لعبء جديد بعد ان خرجت الدولة من توفير الخدمات (الصحة، التعليم، المياة وغيرها). ان بداية المسألة هى فى دخول الدولة فى معطف الراسمالية الطفيلية وخروج الدولة من التمويل. من المهم اعادة النظر فى تمكين المجتمعات ودورها فى رسم سياسات الخدمات التى تقدم لها والتخطيط لها. لقد تم فى العقدين السابقين الاحتماء بالجماهير والمجتمعات لتمرير الكثير من السياسات الضارة بهم وتبرير كثير من المظالم. ان الديمقراطية لن تغتنى وتتجذر الا اذا وصلت الى عمق كافة المجتمعات. ان هذا الشعار يفترض ان يترجل من المواثيق الدولية و مجلدات التنمية المستدامة الى صلب القوانين والمناهج والسلوك اليومى.

    الخدمات التعليمية

    كان السودان من اوائل الدول التى انتظمت فى كافة المنظمات الاقليمية والدولية ويكاد ان يكون موقعا على كافة المواثيق الدولية. اضافة لذلك فقد كانت الكفاءات السودانية من اوائل الملتحقين بهذة المنظمات ويشغلون فيها مراكزا هامة ومسئوليات رفيعة واكتسبوا خبرات كبيرة فى مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يكن هذا مستغربا فقد كانوا نتاج نظام تعليمى –خاصة الكليات العلمية -مثل انذاك افضل النظم والتى كانت تنتج افضل العقول وتسلحهم بالوسائل التحليلية واسس الملاحظة والاستنتاج والتفكير المنطقى العلمى. وكانت تسند ذلك النظام معاهد اعداد المعلمين و معهد بخت الرضا و وضع آليات تطوير المناهج لتساعد الطالب على كيفية فحص وتمحيص الواقع ومن ثم استنباط الخيارات المتاحة ورسم اتجاهات السياسة وصياغة الاستراتيجيات، الى وضع الخطط التفصيلية وتحديثها. وقد واصلت اجيال ما بعد الاستقلال فى المحافظة على مراكز البحث العلمى وتطويرها وتحديث الخدمة المدنية وحتى مراكز صيانة الاجهزة والمعدات والمركبات و القاطرات.

    ورث السودان نظاما تعليميا كان محققا لاهدافة بشكل كفء منذ بدء تاسيسة من خلق طبقة من الصناع المهرة التى ليس لها وجود في ذلك الوقت: نشر التعليم الذى يساعد في معرفة القواعد الاولية لجهاز الدولة، تدريب طبقة لتشغل الوظائف الحكومية الصغرى في جهاز الادارة وهناك هدف اخر غير معلن، وهو العمل على تدريب السودانيين للعمل في القوات المسلحة. وقد تطور هذا النظام من داخلة عبر جملة من التجارب والاصلاحات وحسب الاحتياج الوطنى والوظيفى. منذ الاستقلال وحتى الحكم العسكرى الثانىة (1969-1985) كان التطور بطيئا وفى الغالب كميا وان لم يحدث التوسع المطلوب ولكن الاهتمام ظل على النوعية الجيدة وعلى تطوير كافة مكونات العملية التعليمية من المعلمين والمنهج والطلاب والبيئة المدرسية. وقد طرحت ثورة اكتوبر ضمن مطالبها استقلال جامعة الخرطوم ولكن لم تتجاوز ذلك السقف كجزء من التنمية المطلوبة لبناء الدولة السودانية الحديثة وازالة مظاهر التهميش. ويرد كثيرا فى تحليل ذلك ان الاحزاب الطائفية الليبرالية كانت تتعمد ذلك خاصة فى مناطق نفوذها فى المناطق المهمشة لعلمها بان التعليم ربما يؤدى الى انفكاك المريدين من حولها. ولاننى لا اجد ادلة على هذا النقد الدارج، ارجعة الى افتقاد هذة الاحزاب لرؤية شاملة لبناء الوطن وغياب العقد السياسى الاجتماعى لمسار تطور الوطن.

    مع الحكم العسكرى الثانى (1969-1985) طرحت استراتيجيات تغيير المناهج التعليمية كجزء من رؤية اليسار لاهمية التعليم فى التغيير المنشود بالعمل على الاجيال المستقبلية. فى عام 1969 م عقد اول مؤتمر قومى جامع لمناقشة قضايا التعليم ويوضح البرفيسور فاروق محمد ابراهيم ” تقدمت بورقة من اجل تغيير السلم التعليمى فى السودان وليس بالصورة التى نفذها الدكتور محى الدين صابر انما كان المقترح يهدف الى ان يمتد التعليمى الابتدائى من اربعة سنوات الى ست سنوات اذا كان السودان فعلا ساعيا الى عملية التنمية والهدف الاساسى منها ان الفاقد التربوى بعد التعليم الابتدائى كان كبيرا وهولاء سوف يذهبون مباشرة الى سوق العمل ورأيت انه من الافضل للطلبة الذين سوف يكملون تعليمهم الابتدائى ان يكونوا قادرين على الكتابة و القراة التى تؤهلهم فى حياتهم كما يكونون اكثر الماما بمداخل العلوم الاخرى وقال ان الورقة كذلك اهتمت بالتعليم الفنى الذى يمثل عصب التنمية (زين العابدين صالح عبد الرحمن: مصطفى البطل و النظام التعليمى فى السودان، Dec 19، 2009، 21:01 كوم Sudaneseonline.com ).

    رغم ان اهم توصيات المؤتمر تغيير السلم التعليمى ليصبح (8 – 4) وتحديد اهداف التعليم والتوصية ببناء مناهج تخدم تلك الاهداف. الا ان المغفور لة الدكتور محى الدين صابر، ممثل دائرة السكوت والمحس عن الحزب الاتحادى الديمقراطى ومن ثم الوزير فى الحكم العسكرى الثانىة (1969-1985) لم يتبنّ توصية المؤتمر فيما يتعلق بالسلم التعليمى وفضل عليها توصية وزارء التربية العرب الذي حدد السلم التعليمى للدول العربية ليصبــح (6 – 3 – 3) اما الاهتمام بالتعليم الفنى فذهب ادراج الرياح. ويسرد المغفور لة محمد توفيق احمد الذى كان مدرسا فى بداية حياته الوظيفية و احد المعارضيين لتغيير السلم التعليمى" ان تغيير السلم التعليمى قد اضر بالعملية التعليمية فى السودان تماما لان مناهج بخت الرضا كانت تستوعب البيئة السودانية وخصوصية التنوع فى السودان كما ان المقولات التى تحاول ان تبرر افعالها الايديولوجية الخاطئة بشماعة الاستعمار قد اثبت التاريخ انها كانت على خطا ولكن مشكلة النخبة السياسية السودانية انها لم تتعلم طوال حياتها على ان تعترف بالخطا حتى اذا ادى الى انهيار الوطن كله".(زين العابدين صالح عبد الرحمن: مصطفى البطل و النظام التعليمى فى السودان،Sudaneseonline.com ).

    طرحت وثيقة حول البرنامج، ضمن اطار رؤية يسارية شاملة، استراتيجية نحو التعليم : المحو التام للامية فى البلاد عن طريق الجهود الشعبية وتوسيع قاعدة التعليم النظامى، تغيير مناهج التعليم النظامى، التركيز على التعليم العام، تعليم صناعى وزراعى، الانفتاح على الثقافات العالمية، البحث العلمى. والبرنامج لازال صالحا اذا اخرجناة من افق المستقبل الخطى الصاعد ووطناة فى بيئة ديمقراطية (حول البرنامج: مرجع سابق).

    تناول المعلـم بالمعـاش مكي حنفي مصطفى فى سدانايل التغييرات التى حدثت بالتعليم فى ذلك العهد وقدم لها افضل نقد قراتة فرغم ان للنظامين عدة ميزات وسلبيات، الا انة يرى ان نظام (6 – 3 – 3) افضل فى حال السودان ولكن التغيير انذاك لم يعالج الفاقد التربوي، بل فقط اجَّله لعامين بحصيلة من المعرفة لا تسمن و لا تغني من جوع وكان قد اقترح المعلمون بدلا عن قيام السلم السداسي ان يستثمر المال المرصود لذلك للتوسع في المدارس المتوسطة و الثانوية فذلك اجدى لانه يقلص الفاقد التربوي. وحدث تجني على المساحات المقدرة تربويا لمارسة النشاط كجزء هام و مكمل للعملية التربوية. ويوضح ان المشروع نُفذ على عجل وتسلم كل مدرب منهجا مختزلا مرتجلا لتنفيذه وامرت المدارس ببناء الصف الخامس دون ادنى التزام مالي من الحكومة. التغيير الاساسى السلبى تماما والذى حول نظام التعليم السودانى من نظام منضبط يقوم على المعايير القياسية فى اعداد المعلمين فى المعاهد المتخصصة والمعدة لذلك و تتم فية مراجعة المناهج المبنية على احدث التطورات العلمية ” ان معلم المرحلة الابتدائية خريج معاهد التربية، قد اعِد لفهم مرحلة الطفولة الاولى بما تشمله من العادات و الطبائع والغرائز والطاقة الفائضة والحركة الدائبة والخيال الحر وغير ذلك ليشبع للطفل كل ذلك، و لم يقف على اكثر من ذلك بما يعينه على التعامل مع التلميذ عندما يتعدى مرحلة الطفولة الاولى و يكبر". (مكي حنفي مصطفى: قصة السلم التعليمي: http://www.sudaneseonline.com.

    ان التغيير المدمر جاء فى تحويل التعليم من عملية بناء القدرات والمهارات ومن تقوية التفكير النقدى والمستقل والقائم على العقلانية والعلم الى نظام يقوم على الحفظ والتلقين والحشو والذى اشار الية الاستاذ مصطفى عبد العزيز البطل ” قام وزير التربية محى الدين صابر بالغاء النظام التعليمى ليدخل نظاما جديدا يحتذى خطى النظام التعليمى المصرى هيكلا و منهجا” (مصطفى عبد العزيز البطل: فى مظاهر الخمول العقلى و جدب الخيال، جريدة الاحداث، نشر بتاريخ 9\12\2009 ).

    العملية التعليمية فى خدمة الانقاذ

    عندما قاربت الانقاذ قضية التعليم كانوا قد جاءوا لها وفى جعبتهم الكثير، فقد كان ميدان التعليم احد اهم الميادين التى حاولوا السيطرة عليها وتجنيد الطلاب فى المدارس الثانوية ثم كافة انواع الهيمنة لحسم الصراع ضد القوى المخالفة لهم وتآهيل الاتباع الذين سوف تبتعثهم للكلية الحربية اوتسيطر بهم على اتحادات الجامعات. فى المستوى الاخر فقد استهدف النظام المشاركة السياسية للطلاب والجامعات وتبنى السياسات التى تخرج هذا المجال الحيوى، الفعال والنشط الذى فجر ثلاثة تحركات مهمة منذ مؤتمر الخريحين وثورة اكتوبر الذى كان احد ########ها الدكتور حسن الترابى وانتفاضة ابريل التى اخرجت تيار الدولة الدينية من المعتقلات. ولذلك فانهم كانوا يعلمون بالضبط كيف يسيطرون ويرسمون تحجيم هذا القطاع وتحييدة وتحويلة الى جزء خامد ومقيد ومغيب وكانوا فى هذا ضد المنطق التاريخى والاجتماعى وسنن الكون. وادى انسداد الافق والتضيق والتعذيب والقتل وتزوير انتخاباتهم وتزييف ارادتهم الى خروج الطلاب من اسر الاعتقال الفكرى للنظام وسيشكلون العامل المهم فى الشارع الذى سيفضى بنا الى سودان المستقبل.

    عندما امتطى تيار الدولة الدينية السلطة ورغم ان الخط العام يقوم على السيطرة على المجتمع وتنميطة، الا ان التنفيذ كان عشوائيا ودعائيا ومظهريا. ولم يكن غريبا ان يتبنوا نظام (8 – 4) والذى كان موضع نقد من كثير من الباحثين التربويين. ليس هذا فحسب فقد تم حذف سنة من المرحلة الثانية ليصبح المجموع 11 سنة. وفى عام 2010 عقدت ورشة عمل حول مستقبل التعليم في السودان بالمركز القومي للمناهج والبحوث في بخت الرضا بمدينة الدويم وشارك في الورشة عدد من خبراء التعليم بالسودان واوصت الورشة باضافة عام دراسي للمرحلة الثانوية لتصبح اربع سنوات بدلا عن نظام الثلاث سنوات، بجانب تقسيم مرحلة الاساس «ثماني سنوات»، لمستويين اول وثان بموجب اربع سنوات لكل. واود ان اضيف هنا ان اهم مافى الموضوع ليس السنوات فقط، اذ قد اختلف الوضع تماما وانتشرت المدارس اصبح المطلوب ليس انقاص الفاقد التربوى ولكن علاج القضايا المستعصية التى تؤدى لذلك (تقول بعض التقارير ان ّ فجوة التعليم العام بلغت 70% وان فجوة الاستيعاب في القبول للمرحلة الثانوية بلغت 31% ).

    كان من اول الميادين التى اراد الانقاذ اختراقها التعليم العالى، فهذا الميدان هو مصادر القلق و التهييج والاحتجاجات فابتدع النظام فى بداياتة ماسمى بثورة التعليم العالي (وكانت الاهداف المعلنة: التآصيل النابع من المعتقدات والموروثات الاسلامية العربية والافريقية. اسلمة المعرفة واعداد قيادات فكرية مؤمنة بربها ومتمسكة بعقيدتها وتراثها الحضاري، ووضع برنامج للتعريب وادخال مقررات في الثقافة الاسلامية واللغة العربية في كل الكليات، مضاعفة القبول في الجامعات الحكومية، تشجيع قيام جامعات جديدة تحت شعار جامعة لكل ولاية، الغاء نظام السكن والاعاشة المجاني وفرض رسوم مالية عليها، تشجيع البحث العلمي، والنشر وتوجيه برامج التدريس والبحث للاهتمام بالبيئة المحلية وحاجات المجتمع واعتماد اللغة العربية لغة التدريس في مؤسسات التعليم العالي).

    لكن الثورة فى حقيقتها كانت خاوية من البرامج المدروسة او المبرمجة، سوى الرغبة الكاسحة فى اكتساب النجاحات السريعة فتمخضت عن توسع عشوائي للتعليم العالى فى ناحيتة الكمية بدون اى اهتمام بالنوعية او متطلبات العملية نفسها من هيئة التدريس المؤهلة والمدربة على التعليم، المختبرات والمعامل، المكتبات سكن هيئة التدريس والطلاب والحرم الجامعي للنشاطات و الملاعب والمسارح والقاعات… الخ. ترافق مع ذلك التخلص من الخصوم ومحاصرتهم وتمزيق اوصال الاساتذة والذين تعرضوا لاكبر عملية تشريد واحالة الى الصالح العام بعد القوات النظامية والى الاحلال العشوائى بعناصر موالية ولكن عديمة الموضوعية وتغليب المصلحة التعليمية.

    قانونيا اصدر قانون تنظيم التعليم العالي لعام 1990م ليقنن سيطرة الحكومة على مؤسسات التعليم العالي فمنح وزير التعليم العالي والبحث العلمي صلاحيات واسعة لاخضاع مؤسسات التعليم العالي لاشرافه المباشر وله سلطة الاشراف على كل التعينيات الادارية والاكاديمية بالجامعات. اثارت السياسة التى تبنتها الانقاذ الى المقاومة والنقد حتى من الذين كانوا تحمسوا لهذة "الثورة" وطبقوها مثل الدكتور مامون حميدة الذى كتب في صحيفة الانقاذ الحكومية بتاريخ 21 مارس 1994م يقول اصبح ماثلا للعيان ان ما قصد به تفجير ثورة التعليم العالي لا يعدو ان يكون مجرد معاول هدم لا تبقى ولا تذر من موروثات هذه الامة من جامعات ومعاهد عليا يشهد لها بالتمييز وانة اذا استمرت هجرة الاساتذة على هذا المنوال فاننا نجد انفسنا في وضع لا يمكن تلافيه وسنضطر لان نستعين بطلبة السنوات النهائية في الجامعة لتدريس اخوانهم بالسنوات الاولى. (دكتور مامون حميدة: قراءة في واقع التعليم العالي..هل يعمل لاعداد قادة المستقبل؟ ، جريدة الايام الاربعاء العدد 9170 2008-07-29).

    ربما كانت اول محاولة جادة لاعادة النظر فى اوضاع التعليم العالى المتدهورة عندما تمت اقالة وزير ثورة التعليم العالي د. ابراهيم احمد عمر، وعُين بدلا عنه احد اساتذة جامعة الخرطوم من غير المنتمين لحزب الانقاذ الدكتور عبد الوهاب عبد الرحيم، وكانت المهمة الاولى التي اضطلع بها الوزير وبموافقة من الحكومة ان قام بتعيين لجنة من كبار الاساتذة برئاسة الدكتور مدثر التنقاري عام 1996 كلفها بدراسة الاوضاع الاكاديمية والمالية والهياكل التحتية وتجهيزاتها بالجامعات الجديدة، كما تم تكليف لجنة مماثلة لنفس المهمة للنظر في اوضاع الجامعات الاهلية والخاصة، وحينما اصدرت اللجنة تقريرها في نوفمبر من ذات العام قام الوزير بتقديم خلاصة من التقرير للمجلس الوطني، واعلنت اللجنة عن مؤتمر صحفي في اليوم الثانى من ديسمبر لعرض خلاصة التقرير. غير ان المدعوين فوجئوا بمحاصرة القاعة المعدة للمؤتمر والغائه بواسطة الاجهزة الامنية التي قامت بمصادرة نسخ التقرير منهم، واعلن في اليوم التالي عن اعادة تعيين الوزير السابق الدكتور ابراهيم احمد عمر وزيرا للتعليم العالي. ويوضح ذلك مدى حساسية الانقاذ تجاه نقد سياسة التعليم العالي تلك المرتبطة بالتمكين الايديولوجي لسلطتها.( دكتور مامون حميدة: مرجع سابق).

    فماذا قال التقرير ” اشار التقرير للعجز في تمويل الجامعات. كما اشار التقرير الى وضعية الاساتذة مبينا ان هناك من منح مرتبة علمية تفوق تاهيله وعطاءه، وهنالك كثير من حديثي التاهيل بدرجات الماجستير والبكالوريوس قد اسندت اليهم مهام ادارية على مستوى رئاسة الاقسام وعمادات الكليات، بل وكُلف البعض ممن لم تتوفر فيهم خبرة سابقة بمهام اكاديمية او ادارية قيادية على مستوى رئاسة الجامعات. واشار التقرير الى ان شروط خدمة الاساتذة محبطة وطاردة ومتدنية مقارنة بشروط خدمة فئات اجتماعية اخرى. كما تطرق التقرير لسكن الطلاب في الجامعات فاشار الى ان السكن وباستثناء وجود مستويات جيدة في عدد قليل من الجامعات، الا انه معظمه عبارة عن عنابر سكنية او فصول بالمدارس المتوسطة او الثانوية تم تجفيفها مع ازدحام الطلاب في العنابر، في وجود بيئة سكن غير صالحة مع الافتقار للاشراف التربوي، كما تعاني معظم الجامعات الجديدة من نقص كبير في الكتب المنهجية والمراجع والدوريات كما ونوعا. اما البحث العلمي فلقد اشار التقرير الى ان الجانب البحثي اسقط من حسابات كل الجامعات الجديدة وان المعامل البحثية لا وجود لها في هذه الجامعات ناهيك عن تجهيزاتها. .( دكتور مامون حميدة: مرجع سابق).

    انتقد البروفسير عبد الرحيم سياسة الانقاذ التي قضت بتخفيض موازنة التعليم. ومع ذلك فان الموازنة المحدودة التي تم تقريرها لم تذهب كاملة للادارات الجامعية والاسوا من ذلك كان الغاء الحكومة ميزانيات التنمية في الجامعات كافة باستثناء اثنتين منها. وتعمقت ازمة التعليم العالي اكثر مع فشل الجامعات في الحصول علي مساعدات عامة لمواجهة القصور الذي يسببه ضعف الانفاق الحكومي عليها. انتهت الثورة التعليمية الى ما وصفة الوزير والمواطن السابق الدكتور بيتر ادوك والذي نشرته صحيفة الراي العام في عددها رقم 22481 الصادر في 20 اكتوبر 2008م، والذي يقضي بان " ثورة التعليم دفعت بطلاب قليلي الفائدة" الخريج غير قابل للتوظيف في الداخل او الخارج". " ان بعض الجامعات تفتقر الى مقار خاصة بها،… كثير منها لا يملك قاعات، ومكتبات، ومعامل مناسبة، واماكن سكن لطلابها، بجانب عدم وجود اعضاء هيئة تدريس بالقدر الكافي". الحصيله " تخريج مجموعة من الطلاب بدرجات علمية قليلة الفائدة، ومشكوك في قيمتها الاكاديمية". (الدكتور بيتر ادوك: مازق التعليم العالي، صحيفة الراي العام، عددرقم 22481 الصادر في 20 اكتوبر 2008م).
    اما المستوى بترتيب الجامعات السودانية في قائمة التقويم العالمي للجامعات لعام 2008م، فقد حصلت جامعة الخرطوم على المرتبة (41) في قائمة الجامعات الافريقية، والمرتبة (51) في قائمة الجامعات العربية، وعلى المستوى العالمي حصلت على المرتبة (6213)، وتليها في الترتيب جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا التي حصلت على المرتبة (57) في قائمة الجامعات الافريقية، والمرتبة (68) في قائمة الجامعات العربية، وعلى المستوى العالمي حصلت على المرتبة (7198). اما بقية الجامعات السودانية والبالغ عددها 26 جامعة لم تكن ضمن المئة الاولى من الجامعات الافريقية او العربية، ولا ضمن العشرة الف جامعة الاولى في العالم (المصدر: World Universities’ Ranking: http://www.webometrics.info. علما بان جامعة الخرطوم كانت حتى منتصف الثمانينيات في قائمة احسن عشر جامعات في العالم العربي وافريقيا. (د. احمد ابراهيم ابوشوك: التعليم العالي في السودان: الثورة والواقع؟ www.sacdo.com) .

    وقد لخص السيد الصادق المهدى فى الورقة التى تقدم بها الى ندوة الاكاديميين السودانيين فى القاهره عام 1998 وضع التعليم ابان الانقاذ " لقد كان للتعليم في السودان دائما استقلالية وقومية وخضوعه لمنهج قومي موضوعي بلغ قمته في مجال التعليم العالي... واتخذ التعليم العالي في بلادنا طابعا ليبراليا أكاديميا... ان الانقاذ دمرت التعليم العالي في أبشع صورة من صور نكران الجميل لان القوى السياسية المكونة للانقاذ نمت وترعرعت في أحضان التعليم العالي... التوسع الأرعن الذي أحدثته الانقاذ في التعليم العالي جزء لا يتجزأ من بسط التسلط السياسي على البلاد... وعلى نفس الوتيرة التهريجية قرروا تعريب التعليم العالي بلا دراسة وبلا مراجع ولا إعداد أساتذة، فصار التعريب الذي سموه التأصيل وبالاً على التعليم العالي. (محمد الامين احمد التوم: مرجع سابق)

    الخدمات الصحية

    عندما اكتب عن الخدمات الصحية تصيبنى الغصة، فانا اساسا خبير صحة وقضيت عمرى فى هذا المجال ورايت الخدمات الصحية تنهار بشكل مريع وصلت فى العقود الاخيرة الى الجريمة الكاملة. وكنت اظن اننى سابدأ بكتاب عن الصحة وتقديم رؤية للخدمات الصحية السودانية، المشكلة اننى على قناعة كاملة ان هذا لايفيد وقد بنيتها على تجربتى الطويلة فى ارقى مؤسساتها فى منظمة الصحة العالمية. لانعرف فى التاريخ الحديث عن خدمات صحية جيدة الا فى ظل نظام جيد ( لاتعنى بالضرورة الانظمة الديمقراطية ولكن الانظمة التى بها رؤية واضحة للبناء الوطنى وهناك الامثلة الشهيرة من عمان، كوبا، سريلانكا ..ألخ). دفعنى هذا للانخراط فى كتاب عن الرؤية وتأجيل كتاب الصحة.

    يعطى البروفسير احمد بيومى فى كتابة القيم (تاريخ الخدمات الصحية السودانية 1979 ) لمحة ممتازة عن نظام صحى يحقق الاهداف المرجوة منة، قائما على بناء من اوائل العهد الاستعمارى والذى رغم ان تركيزة كان على خدمة اماكن تواجدة الا ان التطورات اللاحقة وبوجود افضل اطباء الصحة العامة فى قيادة العمل الصحى تركت لنا عند خروج الاستعمار احد اكثر النظم الصحية كفاءة وطرائق مبتكرة فى ايصال الخدمة الى بيئات السودان المختلفة ( نقاط الغيار، الشفخانات والمستشفيات الريفية) والعاملين الصحيين الملائمين (قابلات القرى، الزائرات الصحيات، مفنشى الشفخانات، مسئولى صحى البيئة...الخ). حافظت القيادات التى استلمت القيادة بعد الاستقلال على جودة الخدمة مع محاولات حثيثة لتوسيع رقعتها ودائرة المنتفعين منها. ظلت هذة السمات تميز الخدمة حتى منتصف السبعينات والتى بدا التدهور المتصل بعدها. عوامل عديدة ساهمت فى هذا التدهور يمكن اجمالها فى التالى:

    اولا: ادى التغيير السياسى لنظام نميرى واتجاهة الايديولوجى اليمينى الى تبنى اتجاهات البنك الدولى الداعية انذاك الى اخراج الدولة من الخدمات والذى قاد الى التراجع التدريجى فى تمويل الخدمات الصحية مما انعكس بشكل سلبى على توفر الخدمات وتوسعها وجودتها. التحولات الدرامية من اقتصاد انتاجى لحدما الى الاقتصاد الطفيلى كان قاصمة الظهر.

    ثانيا: الانهيار المصاحب فى الانشطة الداعمة للصحة من توقف تغذية طلاب المدارس الاولية، بدء تصفية الداخليات والفقر المتنامى الذى اثر على تغذية الشعب السودانى بكاملة بشكل تدريجى ادى لانتشار امراض التغذية بين الاطفال والامهات، الدرن والانخفاض فى المناعة بشكل عام.

    ثالثا: عدم قدرة المجالس المحلية على مواصلة التصدى لقضايا البيئة من النظافة، ردم برك المياة ورش الناموس..الخ – خاصة بعد تطبيق اللامركزية والتى اعطت الاقاليم كافة السلطات السياسية والتنفيذية وادت فيما ادت الى تضخم الجهاز الادارى ولكنها حرمتها من الميزانيات التى ظلت مركزية بطرق ملتوية وبيرقراطية (تصدير المشاكل والمسئوليات وحجز الاموال). كان السودان من اوائل الذين تبنوا استئصال الملاريا ولكن شهد السودان من النصف الثانى للسبعينات انتشارا كاسحا لها فى كافة ارجاء الوطن بما فيها المدن التى كانت تخلوا منها مثل مدينة بورتسودان.

    رابعا: شهدت نهاية السبعينات لاسباب متنوعة هجرة عشوائية ضخمة الى دول البترول ( الخليج العربى، ليبيا واليمن) من كافة القطاعات وخاصة من الكوادرالفنية. كان القطاع الصحى من اكثر القطاعات التى تاثرت بالهجرة والتى كانت اشبة بالنزوح الجماعى ( كان الكاتب شاهدا على سفر اربعين طبيبا فى طائرة واحدة الى ليبيا فى نهاية السبعينات، كما كان شاهدا انة بعد اربعة اعوام من تخرجة (1976) وعند قيام نقابة اطباء السودان باحصاء الاطباء عام 1980، كان يوجد فى السودان خمس اطباء من دفعتة التى كانت تناهز الثلاثمائة طبيب). مسالة الهجرة باب طويل ليس هذا مجال نقاشها ولكن سنورد اثارها على المهنة. بنى النظام الصحى السودانى على الاطباء الذين يتلقون شهادتهم من كليات الطب ولكن يتم تدريبهم فى المستشفيات اساسا بواسطة نواب الاخصائيين بشكل مستمر والاخصائيين بشكل اقل بانتقال منظم للحرفية والمهارات والخبرات، وكان هذا هو الحال للكوادر الصحية الاخرى. ادت الهجرة الى تفريغ المستشفيات من الاخصائيين ونواب الاخصائيين مما خلق نقصا فى الكوادر الصحية وبالتالى انحدارا مخيفا فى الاداء. من جانب اخر فان نقص الكوادر التى تتولى التدريب ادت لانقطاع انتقال الخبرة بين الاجيال واعتماد الكوادر الجديدة على التعلم من الخطا والصواب.

    خامسا: رغم ان السودان كان من انشط المشاركين والمساهمين فى المنظمات العالمية العاملة فى الصحة ( منظمتى الصحة العالمية واليونسيف) وكانت تدرس وتقدم المشورات للعمل على تطوير النظام الصحى، عجزت القيادة الصحية عن تطوير واصلاح الانظمة والهياكل الادارية والتوجة العلاجى للخدمات والتى عجزت عن التصدى للتحديات الجديدة التى واجهت المجتمعات.

    سادسا: رغم ان السودان كان سباقا فى اصلاح التعليم الطبى والصحى وانشاء جامعة الجزيرة اواخر السبعينات والتى تبنت مداخل التوجة المجتمعى منذ السبعينات، الا ان هذا الاصلاح عجز عن اختراق الجامعة العتيقة – جامعة الخرطوم- واجهض عملية التغيير المنشودة وهذا صحيح لكل التعليم الصحى. العملية التعليمية الطبية والصحية فشلت فى تآهيل العاملين للتصدى للمستجدات والتحديات الصحية وادت لتفاقمها.

    دخل السودان فى بداية السبعينات كاحد الدول التى كانت تقدم نموذجا فاعلا فى التصدى وتقديم الخدمات الصحية المجانية. فقد كان السودان سباقا الى ادخال توجة الرعاية الصحية الاولية ( التى تبنتة كافة دول العالم فى مؤتمر الما اتا 1978) واعطت للعالم الصحى مداخل المناطق الصحية، كما قدمت العديد من الخبراء والعلماء الذين ساهموا بشكل كبير وفى تواضع وصمت سواء فى المنظمات الدولية او الدول العربية والغربية.

    كان اول توجة لانفكاك الدولة من الخدمات الصحية انشاء ماسمى الثورة الصحية فى منتصف السبعينات كاول دفع للوصفة الشائهة للبنك الدولى والتى بدات بفرض مبلغ رمزى على زيارة المرضى فى المستشفيات والتى انتهت الى ان تصبح المصدر الاساسى لميزانية تسيير المستشفيات واطعام المرضى ومصدر ومقر الفساد فى الوزارة. اما المراكز الصحية و الشفخانات ومراكز الرعاية الصحية الاولية فقد تركت للمجتمعات. لابد من الاشارة هنا ان المستفيد الاكبر من انسحاب الدولة من الخدمات كان تيار الدولة الدينية، فقد انطلقوا وحلوا محل الدولة عن طريق المنظمات الطبية والاغاثية التى انشاؤها وتاريخها مكتوب ومسطور فى كيف استغلت للتأثير والتراكم السياسى، ولاحقا التكاثر السرطانى للخدمات الخاصة وشركات التامين والادوية وحل تيار الدولة الدينية ليس فقط على الدولة ولكن جعلت من الوطن سوق شركاتها التى حلت محل الدولة.
    الانقاذ والصحة

    تم الالتفات للاطباء منذ اليوم الاول للانقاذ وتم احالة عدد من كبار المتنفذين فى رئاسة الوزارة منذ اليوم الثانى للانقلاب، وكان هذا ايذانا بترصد الانقلاب للقوى الناشطة فى المجتمع وفى مقدمتهم الاطباء. الكارثة الحقيقية لتدخل الانفاذ فى الخدمات الصحية انها بدات بجوهرة العمل الصحى "العاملين"، فبدات بالتشريد المنظم لكافة العاملين وهى فئة مكلفة الاعداد التقنى ومطلوبة فى العالم الخارجى كسلعة نادرة. عندما حطت الانقاذ على الوطن كانت مجموعة محدودة جدا لاتستطيع ملء كافة الوظائف الشاغرة، خاصة القيادية. احلت محل من شردتة مجموعات ضعيفة الخبرة والكفاءة، بسلطات غير محدودة، لايخضعون لاى رقابة او توجية فعملت تخريبا فى العمل الصحى ونشرت فية العشوائية الادارية و الفساد والتدهور المريع.

    لقد عمل تيار الدولة الدينية بجهد علمى حثيث فى محاولة الابدال والاحلال وابتعاث كوادر الحزب فى طيلة السنوات الماضية، معظم الذين يقودون الخدمات الصحية فى كافة المواقع وهم بين 40-55 عاما هم كادر الحزب الملتزم. من الصعب تحميل هؤلاء، وقد عملت معهم من موقع عملى الرسمى فى منظمة الصحة العالمية بدأ من ما بعد اتفاقية نيفاشا لامال راودتنا فى التغيير، والذين نشأوا فى ظل الحكم المطلق والصلاحيات بلا حدود وانعدام المراقبة، المسئولية الكاملة وبينهم المستقيمين. المشكلة ان قيادة الوزارة التى حاولت ان تدخل كثير من الاصلاحات فى الخدمات الصحية والتى تميل بتاثير دراستهم ووظائفهم الى محاولة الفصل بين عضويتهم فى الحزب وبين انتمائهم البرقراطى، ورغم ان الوزارة من اكثر الوزارات التى ادخلت مفاهيم الخطط الاستراتيجية، الوثائق الاساسية و دلائل العمل، الا ان من المستحيل ان تستطيع الفكاك من اسر النظرة الواحدة والحركة كفراكشن. ان لهذة الظاهرة تفسيرا واسما فى علم الادارة "الادارة السلطوية او الاستبدادية"، ومهما حاول الافراد تغييرها لاساليب حديثة فهذا متاح فى حدود ضيقة جدا.

    عندما بدا ان هناك تقدما فى مباحثات السلام الشامل فى نيفاشا بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان تمت دعوة الطرفين الى ورشة عمل تحت رعاية مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية التابع للخارجية الامريكية فى واشنطن خلال اكتوبر 2003 لمناقشة قضايا الصحة. واتفق الطرفان على تولى منظمة الصحة العالمية تنسيق جهود اعادة بناء النظام الصحى كما تم الاتفاق ان يتم هذا عن طريق عمليتين منفصلتين للشمال والجنوب. تم تكليفى بتولى هذا الملف كمنسق عام بين كافة الادارات المختلفة فى داخل المنظمة وبين الهيئات والشركاء الاخرين. بدا العمل بتكوين لجان عليا فى الشمال والجنوب ودعمت بخبراء فى المجال من المنظمة لتجميع كافة المعلومات عن الوضع الصحى فى البلاد، والتحديات والنواقص ومن ثم وضع مسودة عن الوضع الصحى وخيارات السياسة الصحية. شاركت سكرتارية الصحة التابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان وكافة الشركاء فى ورشة عمل عقدت فى نيروبى، كينيا ايام 16-21 توفمبر 2004 وتمت اجازة وثيقة الوضع الصحى وخيارات السياسة الصحية فى جنوب السودان. عقدت ورشتى عمل فى الخرطوم تناولت الاولى عقد لقاء تشاوري فى الخرطوم يوم الاول من مارس 2004م، ضمت كافة خبراء الصحة من مختلف الاجيال ومنظمات المجتمع المدنى العاملة فى الصحة لابداء رايهم فى المسودة المطروحة ومن ثم نوقشت فى ورشة عمل ايام 8-9 مارس 2004 وتمت اجازة وثيقة الوضع الصحى وخيارات السياسة الصحية فى شمال السودان. هذة الوثائق هى التى شكلت الاساس للجزء الخاص بالصحة فى الوثيقة الضافية "البعثة المشتركة لتحديد احتباجات السودان" التى اعدتها الامم المتحدة والبنك الدولى تحت اشراف الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان ونشرتها فى 18 مارس 2005 . لقد اضيفت الوثيقة لغيرها من الوثائق السابقة وهى فى انتظار التنفيذ لان اهم بنودها الجوهرية هى ارتباطها برؤية الصحة كضرورة حياتية وانها مسئولية الدولة.

    ان الدولة ذات الرؤية الواضحة والاستراتيجيات وخرط الطريق هى التى سترى فى التعليم الاساس العلمى وان الصحة الجيدة هى السند الحقيقى لتحقيق اى تطور وتنمية الوطن. هناك بيِّنات وفيرة على وجود ارتباط كمِّي وثيق بين معايير الوضع الاقتصادي، مثل الدخل والثروة، وبين المحصلة الصحية. غير ان التفسير الوافي لاتجاه التسبيب وعلَّة هذا الترابُط، كان موضع جدل عنيف بين الباحثين. ولكن الثابت ان الأُسَر ذات الدخل المتواضع، تضطر لدفع جزء كبير من دخلها للخدمات الصحية، مما يدفع بها إلى الفقر. فتضطر للاقتراض أو بيع الأصول أو العزوف عن تلقِّي الخدمات الصحية اللازمة والتعايش مع المرض. وكنتيجة للرابطة الديناميكية المتبادلة بين اعتلال الصحة والفقر، فان العديد من الأُسَر لن يمكنها الفكاك من براثن الفقر واعتلال الصحة إذا ما وقعت فريسة لهما. (اللجنة الإقليمية لشـرق المتوسط، الدورة الحادية والخمسون: تأثير الانفاق الصحي على الأسرة، والخيارات البديلة لتمويل الرعاية الصحية، موقع منظمة الصحة العالمية).
    لقد تدهور الوضع الصحى بالانسحاب الكامل للدولة من الخدمات الصحية ووقع العبء على السكان، فقد بلغ ما يدفعة الافراد من جيوبه عند تلقى العلاج 65 % من تكلفة العلاج كمتوسط عام وتزداد الى 80% فى الاقاليم المهمشة. ( الحسابات الوطنية الصحية، موقع منظمة الصحة العالمية). ولان الصحة مجال حيوى من مجالات الضجر والاثارة السياسية المباشرة فقد شغلت الجمهور بوصفات معقدة من مايسمى التأمين الصحى الاجتماعى والخاص.

    ترجع علاقتى بالتامين الصحى الى منتصف التسعينات حيث تابعت عن كثب اللجنة الخليجية للتامين الصحى ثم بعدها بعد ان عملت فى منظمة الصحة العالمية. ان كل هذة الوصفات التى تبيعها الدولة تحت مسميات متعددة لم تثبت نجاحا فى اى مكان سواء فى اوربا التى تنتهج الخدمة الصحية العامة المرتكزة على الضرائب او اسيا وحتى امريكا مصممة انظمة التامين وتوجهها فى ظل اوباما للخروج من مآزق التامين الصحى المكلفة والفاشلة. صحيح ورثت الانقاذ نظاما صحيا متهالكا – ساهمت هى فى زمن نميرى فى هزالة- لكنها بدلا ان تبدأ اصلاحة غيرتة كعادتها بالكامل، وحولتة الى منظومة شركات الراسمالية الطفيلية تحت اسم التأمين الصحى. ا

    لموضوع واضح جدا فالخدمات الصحية يمكن اصلاحها بخطوة واحدة – وقد قامت الوزارة الحالية بادخال كافة مفاهيم الخطط الاستراتيجية، الوثائق الاساسية و دلائل العمل- فقد وقعت الدولة على اعلان ابوجا الذى ينص على ان يكون الانفاق الصحى 15% على الاقل من الانفاق الحكومى. لقد كان مقتل الخدمات الصحية فى الانحدار المتواصل من 12% فى اول حكومة وطنية وحلها
    فى زيادة الانفاق واشياء اخرى.

    ان الناظر الى الخدمات الصحية الان يراها من اهم مواقع الراسمالية الطفيلية (يجب عدم الاستهانة بالصحة كمجال للاثراء فميزانية الولايات المتحدة تصل الى 12-15% من الدخل القومى وهى اسوأ دول العالم الاول فى خدماتها الصحية من ناحية المساواة). وقد لاحظت انتشار مؤسستين فى انحاء العاصمة بشكل مبالع فية، العيادات الخاصة للاطباء والصيدليات والمراكز الطبية الخاصة من ذات النجمتين الى السبعة نجوم ( حتى هذة لاتقدم خدمة مفيدة ولا اظننا فى حاجة الى الاسترسال ولكن دليلنا ان السودانيون ينفقون حوالى 250-300 مليون دولار سنويا فى الاردن ولاندرى كم ينفقون فى مصر) والمؤسسة الاخرى المصاحبة التى تضاهى المستشفيات الخاصة تمددا وانتشارا هى قاعات الافراح وليس لدى تفسير.

    المياة

    مسألة المياة فى السودان لاتقتصر كما تبادر للذهن مياة الشرب وان كانت جزءا مهما ولكن فى بلد مثل السودان تشمل مياة الزراعة، الرعى والصناعة. اخطر الملفات فى هذا المجال هو السدود المشيدة والتى تحت التشييد والتى كانت من ضمن اولويات الانقاذ فى تقديم مشاريع سريعة ولكن تفتقر الى الحكمة والرؤية. عالج الدكتور محمد جلال احمد هاشم مسالة السدود وما ادراك ما السدود فى ست مقالات فى جرية اجراس الحرية (www.nubaonline.com) عالج فيها قضايا السدود فى مقالات محكمة وعلمية وتوصل فيها الى ان الاضرار التى تنجم عن السدود، خاصة فى السودان، مؤذية لدرجة بالغة للزراعة والهدر الاقتصادى والسكان. ويورد محمد جلال احمد هاشم ان العالم قد توصل ليس فقط الى وقف بناء السّدود التي لم تُبن بل ضرورة تفكيك ما بُني منها. فقد وصل العالم المتقدّم الذي يرعى حقوق الانسان والحيوان والبيئة ليس فقط إلى وقف بنا السّدود، بل إلى تفكيك ما بُني منها، وذلك لمّا توصّل إلى انها خراب عامّ مغلّف بمصلحة مؤقّتة (تستثنى من هذا سدود حبس المياه الموسميّة، كما يحدث في كردفان ودارفور فيما يعرف باسم "الفولة" و"التُّردة" و"الحفير" وخلافه، وه ما يُعرف بالسّدود الاحترازيّة ضدّ العطش؛ كما تُستثنى السّدود الاحترازيّة ضدّ الفيضانات الجامحة المدمّرة).

    ويشدّد تقرير أصدره «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» ان خطط السودان لبناء قرابة الـ 20 سدّاً تمثل القضية الرئيسية في قطاع الموارد المائية في السودان وأشدها حساسية. إذ توفر هذه السدود مصدراً للطاقة الكهربائية، إلا انها قد تثير أيضاً مشكلات بيئية واجتماعية. ويخشى خبراء الأمم المتحدة عدم مطابقة تلك المشاريع للمعايير الدولية، وخصوصاً معيار الشفافية. كما يعتقدون بانه يتوجب على السودان إجراء مشاورات دولية واستشارات مع السكان المعنيين قبل الإقدام على تنفيذ هذه المشاريع. فعلى سبيل المثال، يؤدي «سد مروى» إلى ترسّب نسبة كبيرة من الطمي في «بحيرة الخزان»، ما يؤدي إلى تآكل ضفاف النيل بسبب التدفّق المكثّف للمياه خلال فترات زمنية وجيزة. وكذلك فان طاقة التخزين الفعّالة لمستودعات السدود بالسودان تتأثر بدرجة خطيرة بمعدل ترسّب الطمي، باستثناء خزان جبل أولياء . كمـا قد تتسبب تلك السدود في تدهور حاد في نظم الأراضي الرطبة، خصوصاً غابات السنط على النيل الأزرق، وغابات نخيل الدوم على ضفاف نهر عُطبرة السفلى.

    الاعلام

    واجة اعلام تيار الدولة الدينية معضلة المصداقية منذ الدقيقة الاولى، المصداقية كان لها تاريخ طويل فى تجربة الشعب مع تيار الدولة الدينية وفاقمها مسرحية القصر رئيسا وكوبر سجينا وقد نالت هذة المعضلة من النظام اكثرة فى اجهزة اعلامة. جاء اعلام تيار الدولة الدينية من تاريخ اعتمد على الاثارة الموروثة من حلقات النقاش الطلابية والاستثارة العاطفية والشحن الدينى، والمصدر الاخر من التلوى الفكرى والغموض واحتكار الحقيقة والتنظير والذى كان ممثلة بامتياز زعيم النظام. عندما استلموا السلطة فوجئوا بان من يتواجد فى صفوفهم ليسوا كافيين لملا كل فجوات جهاز الدولة، ساد تيارى الاثارة واحتكار الحقيقة فى اعلام النظام فى ظل فقدان مصداقية ظلت ملازمة لة وفشل فى تغييرها. واجة النظام ازمة حقيقية بعد فترة قصيرة من وجودة على دست الحكم وهى مغادرة اصواتة المثقفة وذات المصداقية المهنية، والذين اكتشفوا بسرعة ان النظام يريدهم فى هذين المسارين والذى كان بمثابة انتحار ثقافى بالنسبة لهم. غادر الدكتورعبد الوهاب الافندى، د.التجانى عبدالقادر، د. الطيب زين العابدين، المحبوب عبد السلام واخيرا د. حسن الترابى وهؤلاء مجرد امثلة. ونضبت بسرعة خزائن تيار الاثارة و خوى كيسها وتوارى ابرز رموزها واكثرها غرابة وتلون بعضهم وغير جلدة. اما انتاج المعرفة والثقافة فلا ابالغ اذا اجملتها فى سيادة الفقر المدقع اذا استثنينا عددا لايزيد على اصابع اليد ( وهنا اود ان اوضح اننى على مدى اربعين عاما قد اقتنيت اكثر من اربعة الاف كتاب ” باع معظمها اخى فى زنقة اكل عيش سببها النظام” واقول بلا ادعاء اننى من المتابعين الجيدين للكتاب السودانيين بدا من السودان فى وثائق وتقارير، الطبقات الى كل كتابات الشيخ الترابى والامام الصادق المهدى وغيرهم).

    تحول اعلام النظام الى ما ساطلق علية اعلام علم النفس وهو توجة اعلامى يعتمد على نظريات هذا العلم فى اختيار الرسالة وتصميمها وكيفية احداث التغيير وتعتمد غالبا على تشوية الحقائق والكذب والاتهامات الجزافية. وقد مارست هذة انظمة شمولية من الهتلرية والمكارثية والاستالينية. ستلتقى عناصر التغيير مع هذا الاعلام وسوف يعود ممثلى تيار الاثارة لكى يقدموا خدمتهم الاخيرة لنظام لعل وعسى يعودون الى صدارة الاحداث وهذا التيار دموى وسوف يدعوا لتصفية الشارع ويدق طبول الحرب واستدعاء الدبابين وساحات الفداء وكل اشباح الماضى. هذا التيار مسئول عن مساهماتة الضارة فى نشر ثقافة البذاءة والاتهامات الباطلة واللغة البائسة.

    الانقاذ والعالم

    يحتل السودان بوضعة الجيوبولوتيكى موقعا استراتيجيا نادرا فى ربط افريقيا بالشمال الجغرافى، ولكن هناك فرق بين ان تكون فى موقع استراتيجى وان تلعب الدور المطلوب، لان هناك متطلبات للعب الدور لم تتوفر بعد فى السودان. وطوال الخمسة الاف سنة كان السودان يلعب دورا هامشيا فى التأثير على جوارة الشمال افريقى و الافريقى على حد سواء. المحاولات التى حاول فيها التقدم للعب دور فى محيطة الشمالى كانت عندما غزا بعانخى مصر واسس الاسرة الخامسة والعشرين لكن تصدت لة الجيوش الاشورية وابعدتة الى مناطقة الاصلية واثناء بعض فترات مملكة مروى كان الاغريق لهم ايضا بالمرصاد، وتصدت القوات البريطانية لمحاولة المهدية التقدم شمالا فى توشكى واخيرا محاولة الانقاذ دعم الحركات الاسلامية و انشاء الامبراطورية الاسلامية العربية.

    برغم ان السودان عضو مؤسس فى كافة المنظومات الاقليمية (منظمة الجامعة العربية والوحدة الافريقية وغيرها) والعالمية الا ان دورة فيها لم يكن محكوما برؤية واضحة ومستمرة، فهو يتوة بين اطراف متعددة وفضاءات متنوعة حسب الحقبة الزمنية وحكامها وتوجهها العام، ويجعلها هذا فى موقف المستضعف لكل التدخلات. ان هذا يظهر جليا فى تدحرج معاملة السودانيين فى الخارج من شخصية محترمة طوال الخمسينات الى منتصف السبعينات حيث بدأت الاستعانة بالسودانيين فى ليبيا ودول الخليج خاصة السعودية فى الهجرة الاولى للاحزاب الليبرالية والاسلام السياسى والتى انتهت بصناعة الاقتصاد الاسلامى وبداية صعود الراسمالية الطفيلية. استمرت تدخلات ليبيا العقيد، ايران والخليج طوال الثمانينات. جلبت معها الثمانينات تلامس دول الجوار الافريقى مع السودان مع استعار حرب الجنوب. اذا صدقنا تسريبات ويكليكس – وليس هناك ما يمنعنا من تصديقها رغم النفى المتكرر- فالساحة السودانية مستباحة بكافة الدول من المحيط الاقليمى والدولى والمنظمات.

    عند تسلم الانقاذ للسلطة كان على وزارة الخارجية المغفور لة على سحلول وكما جاء فى كتاب المحبوب عبد السلام " وزير من أهل المهنة الدبلوماسية، لكنه بلا سابقة صلة مهما تكن مع الحركة الإسلامية، وإذ نفع ذلك خطة التمويه الأولى، فقد تجاوب الوزير مع جملة إصلاحات الحركة بإخلاص وحماسة باذلا نصحه من تجربته الطويلة متدرجا في هيكل الوزارة من أدناه إلى أعلاه سفيرًا ووكيلا للوزارة، وقد مضت وجهة نصائحه مع اتجاه الحركة في التغذية للوزارة بعناصرها، ثم الإبدال والإحلال كلَّما تعمقت الدروب نحو إنفاذ برامج الحركة، مؤكدًا أن البرامج التي تبشر الحركة لن تبُلغها إلاَّ بعناصر تد خل إلى الوزارة من خالص صفِّها، ولن تنفع في ذلك اطر الدبلوماسية التقليدية ولا عناصرها المهنية". هكذا بدات الانقاذ خطة التمكين فى مجال العمل الخارجى. (المحبوب عبد السلام: مرجع سابق)

    لم تكن الانقاذ تنطلق من فراغ حين جاءت للسلطة فورائها اكثر من اربعة عقود من التعامل مع الخارج من اوائل نشوئها كجزء من حركة الاخوان المسلمين المصرية ومن ثم شبكة العلاقات التى نسجتها على مر العقود. واذا فصلنا سابقا ان الانقاذ جاءت الى الحكم فى عجلة واضحة مقترنة بقراءة تداعيات اتفاق سلام حقيقى، كان على مرمى حجر، على كامل اطروحاتها وجهازها المالى . فانها وان لم تكن مستعدة تماما للسلطة فقد كان هناك هاجس يدور فى عقل زعيمها والمتنفذين وهى ريادة الحركة الاسلامية العالمية. فمنذ تسلم الشيخ الترابى زعامة الحركة استطاع الاستقلال عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والتى تستند على لائحة مكتب الإرشاد لعام 1948 م،ويتيح للحركة الأم في مصر أن تنشئ فروعًا لها في البلاد العربية و أخذ بيعة لقيادة التنظيم الدولي. وقد لاحظت الوفود التى شاركت فى مؤتمر الجبهة القومية الثانى "فيما وراء جلسات عقد مؤتمرها العام الثاني، أتاحت فسحة الحرية في الفترة الحزبية لكثير من قادة الحركة الإسلامية أن يزوروا السودان ويتحسسوا من تقدم تجربة الجبهة الإسلامية القومية، كما أتاحت للحركة أن تجدد الدعوة لفكرة التنسيق وتلاقح التجارب وتبادل الخبرات على نحو منظم بين الحركات الإسلامية، وفيما رحبت حركات باكستان وأفغانستان وحركات أفريقية، كتبت مجلات الإخوان المسلمين تصور الفكرة كأنها بحث لزعامة عالمية لأمين عام الجبهة الإسلامية الدكتور حسن الترابي، مما عطَّل الفكرة إلى العام 1992 م في إطار المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الأوسع. (المحبوب عبد السلام: مرجع سابق)

    كانت الاستراتيجية المعتمدة للوصول لهذة النتيجة هى فى تحويل العالم العربى اولا والعالم الاسلامى ثانيا الى بحيرة من الدول التى تحكمها تيارات الدولة الدينية ويترعرع فيها المشروع الحضارى. وكان هذا وراء قرار مجلس الانقاذ تأسيس مجلس الصداقة الشعبية العالمية، كذراع للتحرك والعمل السرى خارج الاطر الدبلوماسية المنضبطة. وقد ظنت الحركة ان الاحداث التى تلت غزو العراق للكويت الفرصة السانحة لرص الصف الاسلامى والقومى لتغيير الانظمة، وتم انشاء المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي بزعامة الامين العام للحركة الإسلامية السودانية. لكن واجهت هذة الاستراتيجية الخطر من الداخل، حرب الجنوب.

    محاور العمل الخارجى

    منذ تنسمها السلطة والانقاذ يتصارعها تياران واضحان فى التعامل مع مشاكل الوطن وخاصة الجنوب –كما كانت تسمى انذاك- الاول: يرى المشكلة فى اطار تأسيس الاقليم الاسلامى العريض – الذى عملت لة القيادة من الصومال، دعم ادريس دبى فى تشاد، دعم الحركات المسلحة لتحرير اثيوبيا واريتريا، دعم اخوان انقاذ الجزائر ومناطق متعددة اخرى طالتها الكتابات فى تفاصيلها الكاملة. الثاني: المسارعة لتقسيم السودان وفصل الجنوب لتحقيق النقاء الديني والعرقي والثقافي لامكانية تطبيق برنامجها بالكامل. تعايش هذان التياران داخل الانقاذ، الاول فى فكر النخبة السياسية خاصة زعيمها ونائبة اما الثانى فقد عشش فى فكر البراجماتيين خاصة بعد تبين عدم امكانية تحقيق نصر سريع. كلا التياران اعتمد عدة استراتيجيات ستكون هى السقوف العليا والسفلى لحل كافة القضايا التى ستترامى عليهم من الجنوب، الشرق، دارفور، جنوب كردفان والنيل الازرق.

    الحل العسكرى الامنى هو المدخل الاول والدائم للتعامل مع كافة قضايا الوطن. وتبين لغفلة السودانيين ان تنظيم التيار الدينى الرئيسى فى كافة مسمياتة وازمانة كان عبارة عن جهاز امنى واسع، وان كافة قياداتة السياسية –عدا قليلهم والذين نراهم الان مهملين- كانت مدربة جيدا على العمل الاستخباراتى الامنى. هذا التنظيم هو الذى سيخطط لاغتيال الرئيس المخلوع حسنى مبارك وسيكون من تداعياتها صعود فكر فصل الجنوب فى جزء كبير و تراخي واستسلام للمراكز العالمية التى تشجع هذة الاتجاهات.

    الاستراتيجية الثانية فى العمل الداخلى والخارجى معا هى بذل العهود، توقيع اى اتفاقيات ومن ثم نقضها. الاستراتيجية الثالثة هى امكانية التقاسم تحت جناحها من الداخل او الخارج، سواء كان ذلك مالا او سلطة شكلية وقد تعددت الامثلة. اعتمدت هذة الاستراتيجية على تقاليد قديمة فى فكر النخبة من الانتتقال الحر بين الانظمة وعدم الخشية من المسئولية المترتبة على ذلك وغياب اى محاسبة سواء من المجموعة التنظيمية او الراى العام وتسطع الامثلة من سبدرات، ابوصالح واخرون، المغفور لة الشريف الهندى والدقير ومجموعتهم، لام اكول وكاربينو واخرون، خالد المبارك واخرون، مبارك الفاضل ومجموعتة المغادرة والباقية، منى اركوى، مسار، فتحى شلا وفى الطريق حزب الاتحادى، السيد الابن والامام الابن والتيجانى السيسى ومجموعتة. لقد برعت الانقاذ فى الجزرة والعصا حتى اصبحت بالنسبة لها ممارسة يومية، يدخلها رهط ويفارق اخرون. الاستراتيجية الرابعة هى الحردان اللفظى الكامل واثارة الغبار الكثيف والتراجع السريع والكلى ويترافق معها تعدد مراكز السلطة وتناقضاتها فى التصريحات. لكن سلطة الانقاذ منذ يومها الاول تعيش عل حافة الهاوية وتعلم انها لامحالة ذاهبة لذلك فهى سرعان ما تعود للشق الثانى من الاستراتيجية فتتراجع سريعا، خاصة للضغوط الخارجية.

    لقد تجاوزت الانقاذ كافة انظمة العالم الحديث فى القرارات التى اصدرتها كافة المنظمات العالمية، واحتلت الذيل فى كافة المؤشرات ولاتتلقى سوى التقريع فى المحافل الدولية ومتحديثها لايبرعون سوى فى الهجوم والصوت العالى والكلمات الخارجة وهم دائما فى حالة دفاع عن النفس.

    ان السودان ليس مفتقدا لرؤية استراتيجية منذ الاستقلال لتحركة الخارجى وعلاقتة بالمحيط – حسب علمى من عدم توفر الوثائق التى تشير الى ذلك، عدا فترة الدكتور منصور خالد والذى تعرض لها فى مؤلفاتة والتى تعتبر استثناء على القاعدة – ولكن يفتقد ايضا آليات تجميع الرؤية وبنائها. ورغم ان الانقاذ اقامت كثيرا من المؤتمرات وانشأت مراكز بحوث ودراسات استراتيجية واستثمرت فى بناء كادر من اجل الخارج الا انها مقيدة لانها نظام مغلق غير قادر على الانفتاح على الاراء المطروحة فى الساحة. ان ما يبدو على السطح ان الانقاذ معتمدة على رزق اليوم باليوم " قطع المجلس الاستشاري لوزارة الخارجية برئاسة علي كرتي أمس بضرورة مراجعة إستراتيجية العمل الخارجي خلال المرحلة المقبلة في أعقاب انفصال الجنوب، ونوه إلى أن الانفصال أدى لتقاطعات عديدة في مستقبل علاقات السودان مع الدول الأفريقية و دول العالم أجمع. وقد أشار الاجتماع إلى ضرورة العمل من أجل تغيير الصورة النمطية السالبة التي دمغت بها البلاد خلال المرحلة السابقة و تصوير السودان كمنطقة للنزاعات والصراعات. (جريدة الاحداث:21 سبتمبر 2011 http://www.alahdath.sd )

    اختتم هذا الفصل بايراد صورة قلمية قاتمة عن فقدان الرؤية والاتجاة واين صار بنا الامر من تجاربنا الشخصية والتى عانى منها كافة السودانيين من الحرمان من الدخول لبلاد باكملها واذا سمح لهم الانتظار فى المطارات والتحقيق والتفتيش المهين. تعرض الالاف للاعتقالات العشوائية فى مختلف الدول واللجوء والهروب للدول المجاورة للعيش فى ظروف غير انسانية، هذا غير التخلص من الالاف من الوظائف فى دول الخليج فى فترات مختلفة والحجر عليه من العمل. " ومن الواضح أن السودان يكابد حالة عزلة سياسية واقتصادية دولية وإقليمية غير مسبوقة ولا قبل له بتداعياتها وتبعاتها. ربما لم يكن الأمر ليعني كثيراً لو أن السودان يعيش في أفضل حالاته سياسياً واقتصادياً، بيد أن ما يجب ان يثير القلق العميق أن حالة العزلة، الدولية والإقليمية، هذه تأتي والسودان الشمالي يكابد في أتون أخطر صدمتين تواجهه في تاريخه الحديث، الصدمة السياسية بسبب زلزال تقسيم السودان وفصل الجنوب، والصدمة الاقتصادية العميقة الناجمة عن توابع ذلك الحدث المزلزل. ...وليس سراً كذلك أن دول الخليج الغنية صنفت السودان في ذيل أولويات الدول التي قررت الاستثمار الزراعي فيها، فقد طرقت دولاً آخرى في إفريقيا جارة للسودان، وآخرى في أقاصي آسيا. (خالد التيجاني النور: الصحافة، http://www.sudaneseonline.com )
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de