|
عراب الأمس الشيخ الترابي...وبريق الريا ل، الفاضل عباس
|
عراب الأمس الشيخ الترابي...وبريق الريا ل!
الفاضل عباس محمد علي 28 سبتمير 2012 تفيّأ الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي "الدوحة" القطرية بالأسبوعين المنصرمين، وخيّب ظن المعارضة السودانية بمواقفه المخاتلة والمهادنة والمتراجعة...وبعدم إغتنام الفرصة الإعلامية المبذولة أمامه لطرح الرؤي التى ظل يبشّر بها منذ خروجه من المعتقل قبل سنتين: رفضه القاطع لفتنة المال والسلطان التى ولغ فيها النظام، ودعوته الواضحة لرد الأمر للشعب...وذلك عبر إنتفاضة شعبية على غرار ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985....حتى يذهب حكم الطاغوت إلي مزبلة التاريخ...وينشأ نظام ديمقراطي مدني تعددي فدرالي...يتساوى فيه السودانيون بغض النظر عن تبايناتهم الدينية والإثنية والمناطقية والجندرية....ويضمنون حقوقهم الطبيعية والأزلية....إلخ. وكان الشيخ الترابي فى أسوأ حالاته عندما طالعنا بقناة الجزيرة (برنامج فى العمق 17 سبتمبر 2012) ... ولم يتقدم بأي نقد ذاتي أو موضوعي للتجربة الإسلامية فى السودان التى تولي دور عّرابها طوال العشر سنوات الأولي من عمرها...بل طعن فى قناة منتقديها مثل الأستاذ الحاج وراق...الذى حاول الالتفاف عليه برده لأصوله الشيوعية وباستخدام الورقة التى درج على استخدامها كافة تلامذته من أهل الوجوه الإعلامية المدافعة عن النظام، وهي مهاجمة الخصم هجوماً شخصياً ومحاولة تكفيره أو وصمه بالشيوعية أو البعثية...وهلم جراً...وتحاشي الموضوع الأساس مثار النقاش.....كما دافع عن ذلك النظام الذى كان يبطش بمخالفيه آنئذ ويعذبهم فى حجرات التوقيف ببيوت الأشباح... وكان يخوض حرباً جهادية ضد شعوب الجنوب (مما أدى لانفصاله فى نهاية المطاف)...وكان يسئ للعلاقات السودانية الخليجية بموقفه الداعم لصدام حسين عندما غزا الكويت...وقال بالتحديد فى معرض دفاعة عن تجربة الحكم الإخواني السوداني: "التجربة لم تفشل، ولكنها جاءت بعد 14 قرناً من تغييب النموذج الإسلامي." لقد ظل كثير من المعارضين منذ ما يسمى بالمفاصلة عام 1999 يتشككون فى الدكتور الترابي ويزعمون أن المسالة كلها توزيع للأدوار وتمثيل فى تمثيل...وأنه ما انفك زعيماً لتنظيم الأخوان المسلمين السوداني...مدعوماً من جانب الحركة الإخوانية العالمية التى لم تصدر بياناً بإدانته فى أي يوم من الأيام، بل تنظر له بكثير من الإعجاب والتعاطف. ومسألة اعتقاله بين الفينة والأخرى، فى حقيقة الأمر، ما هي إلا استمرار لمسرحية ذهابه لسجن كوبر ....بينما ذهب البشير للقصر الجمهوري يوم انقلابهم على السلطة الشرعية فى 30 يونيو 1989 .... كما يصر المتشككون فى أمر الترابي....وبلا أدنى شك، تجئ مواقف وتصريحات الترابي الأخيرة بالدوحة داعمة ومغذية لهذه الشكوك،.... رغم أني شخصياً استبعد استمرار المسرحية إلى يومنا هذا... واعتقد أن المفاصلة قد حدثت بالفعل..بلا أدنى شك. علي كل حال، إن الشيخ حسن شخصية مثيرة للجدل منذ قدومه من البعثة الدراسية بجامعة السوربون عام 1964، فقد كان إسلامياً ثورياً وتقدمياً فى بادئ أمره، وكان له دور ريادي فى ثورة 21 أكتوبر من نفس ذلك العام، مما جعل تنظيم الإخوان المسلمين يدفع به نحو كرسي الإمامة على الفور رغم حداثة سنه وتجربته...على حساب عمالقة الرعيل الأول مثل الرشيد الطاهر وصادق عبد الله عبد الماجد...ولقد أبدى الدكتور حسن فى تلك الأيام قدراً هائلاً من الإنفتاح على الآخرين والعمل الجبهوي والمرونة والتفهم للظروف الخاصة التى يتميز بها السودان عن غيره من الدول العربية والإسلامية، خاصة مصر مصدر الفكر الإخواني، من حيث تعدده الإثني والطائفي، ومن حيث الإرث الصوفي عميق الجذور فى تربته......فسعى ونجح فى إحالة التنظيم الحلقي الضيق للجماعة إلى جبهة عريضة ضمت العديد من الأحزاب الإسلامية الصغيرة والطرق الصوفية ذات الوزن الضئيل...وتحول إسم التنظيم إلى (الجبهة القومية الإسلامية). ومن باب الإنفتاح على القوى السياسية والدينية الأخرى بالبلاد...(و لا نقول من باب الطموح الشخصي والتمسح بالأسر العريقة من قبل شاب وافد من قرية بأعماق الريف إسمها ود الترابي)....فقد تزوج الدكتور حسن فى نفس تلك السنة (1964) من إبنة السيد الصديق المهدي زعيم طائفة الأنصار وراعى حزب الأمة..كما لقي الترابي قبولاً ليس فقط فى أوساط الإخوان، إنما على نطاق المثقفين السودانيين الذين قاموا بثورة أكتوبر...إذ فاز الترابي فى دوائر الخريجين بانتخابات 1965، واحداً من إثنين فقط من الإخوان، بينما ذهبت الأحد عشر كرسياً الباقية بهذه الدوائر الصفوية للحزب الشيوعي. ولكن، ما أن دخل الترابي الجمعية التأسيسية، حتى ظهر علي حقيقته وتنكّر للروح الإنفتاحية والعمل الجبهوي: أولاً، عمل من أول يوم على حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وكان له ما أراد فى ذلك العام (1965)، بعد أن استقطب إلى جانبه الحزبين الطائفيين الآخرين – الأمة والإتحادي - ....وخرج النواب الشيوعيون من الجمعية، كأغرب سابقة من نوعها فى العالم، وكان ذلك أول إسفين فى التجربة الديمقراطية...وكان تمهيداً للإنقلاب العسكري اليساري القومي العربي الذى أطاح بها فى نهاية الأمر، فى 25 مايو 1969. ثانياً، سعى منذ الوهلة الأولي نحو كتابة ما أسماه ب"الدستور الإسلامي"، أيضاً بتواطؤ الأحزاب التقليدية ذات الأغلبية فى الجمعية التأسيسية، ولما أجازت "لجنة الدستور"، التى كان حزب الترابي أحد محركيها الأساسيين، مسودة الدستور الإسلامي، خرج منها الأعضاء الجنوبيون...وعندما جاء الترابي للسلطة عام 1989 وفرض كثيرًا من جزئيات ذلك الدستور الذى يعبر عن تفسيره الآحادي للإسلام، أصبح السودان جحيماً لا يطاق بالنسبة للجنوبيين...فآثروا الإنفصال. وبالطبع، لم يكتب لتلك الجمعية التأسيسية البقاء حتى تجيز الدستور الإسلامي الذى كان لجبهة الترابي فيه القدح المعلي، فقد أجهز عليها جعفر نميري وأصدقاؤه الشيوعيون والقوميون عام 1969. وخيم ليل طويل على تنظيم الإخوان المسلمين انتهى بمصالحة 1977 بين نظام النميري وفصيلين من أحزاب المعارضة: الأمة بقيادة الصادق المهدي والجبهة الإسلامية بقيادة صهره حسن الترابي. ومنذ تلك اللحظة حتى انتفاضة 1985 كان الإخوان المسلمون جزءاً لا يتجزأ من النظام المايوي الشمولي المستكبر الذى بلغ أقصى مراحل الفساد وسوء الإدارة خلال الثمانية سنوات الأخيرة من عمره، وكانت تلك فرصة تدريب بالنسبة لكوادر الإخوان المسلمين استفادوا منها كثيراً بعد أن تنسموا السلطة بمفردهم بعد إنقلابهم فى 30/6/1989 ، وفرصة للتعرف على والتعاون مع الكثيرين من الكوادر المايوية والأمنية التى استقطبوها عندما جاؤوا للحكم وما زالت تقدم خدماتها لهم حتى اليوم. وفى أثناء الديمقراطية الثالثة 1985-1989 ، توجه الإخوان المسلمون مرة أخرى نحو العمل الجبهوي المنفتح (ظاهرياً)، وأسموا حزبهم هذه المرة (جبهة الإنقاذ الوطني)، وادعوا أنهم يقبلون اللعبة الديمقراطية ويحترمون قوانينها، بينما كانوا فى حقيقة الأمر يخططون للإنقضاض عليها، رغم الوضع المريح الذى كانوا يتمتعون به على نطاق الجهاز التشريعي (اكثر من 50 نائباً بالبرلمان)...ونطاق الإعلام (أكثر من صحيفتين واسعتي الإنتشار)....ونطاق الحياة الإقتصادية (هيمنة شبه كاملة على القطاع المصرفي عن طريق ما يسمي بالبنوك الإسلامية). ولأن المنطق البسيط ما كان ليقبل من الإخوان المسلمين أن ينقلبوا على النظام الديمقراطي وهم أكبر المستفيدين منه، فإنهم عندما اغترفوا هذه الجريمة حاولوا نكرانها ومارسوا كثيراً من التدليس والتلبيس والتمويه: (إذهب إلى القصر..وسأذهب لسجن كوبر!). وتألفت حكومتهم الأولى فى صبيحة الثلاثين من يونيو 1989 من الكوادر الوسطية غير المعروفة ومن أصدقائهم المايويين. ولكنهم كانوا منذ البداية ممسكين بقوة بملفات الأمن والجيش والمالية والدعاية والإعلام، ومنذ الوهلة الأولي شرعوا فى التخلص من العناصر الوطنية العاملة بجهاز الدولة وبالجامعات والمصارف...إلخ، فيما سمي ب"التطهير للصالح العام"... فى أكبر عملية تدمير للخدمة المدنية السودانية...كما شرعوا فى إرهاب من أسموهم أعداء الله، وهم كافة الخصوم السياسيين، عن طريق المحاكم الصورية والمشانق وبيوت الأشباح ومعسكرات التعذيب والمعتقلات على طول البلاد وعرضها. ولقد تم ذلك بكل أسف بعلم وتوجيهات الشيخ حسن ...وهي ممارسات لم يعتذر عنها حتى هذه اللحظة بدرجة كافية...حتى بعد أن تعرض هو نفسه لكافة أنواع التوقيف والإهانة والتعذيب علي أيدي تلاميذه الذين علمهم السحر. والأدهى وأمر أنه لا زال يدافع عن تلك التجربة كما دلت أحاديثه الأخيرة بالدوحة. أنشأ الترابي حزبه الجديد (المؤتمر الشعبي) على إثر المفاصلة بينه وبين ما تبقى من تنظيم الإخوان المسلمين الذى كان قد غير إسمه ل(المؤتمر الوطني)؛ وانخرط المؤتمر الشعبي فى المعارضة للنظام، وأخذ يتعاون مع أحزاب المعارضة الأخرى، بما فيها خصمه اللدود الحزب الشيوعي...وتمت كافة أنواع الأنشطة التى شارك فيها الترابي شخصياً كالندوات والمؤتمرات...حتى قيام (قوى الإجماع الوطني) التى تتألف من الشيوعي والأمة والناصري والبعث والمؤتمر الشعبي...ولقد أنجزت قوى الإجماع التفافاً جيداً حول برامج ومخططات محددة، مثل ميثاق الفترة الإنتقالية ودستور المرحلة وترتيباتها، من حكومة مركزية وحكومات إقليمية ...الخ. وفيما بدا للجميع، فإن المؤتمر الشعبي والدكتور الترابي على توافق تام مع الطروحات التى تضمنتها تلك البرامج والمواثيق للفترة الإنتقالية، والتى تأتي على النقيض من الطرح الإسلاموي الراهن – الذى كان فيلسوفه من الأساس هو الشيخ حسن - ....ويبدو أن الشيخ حسن، كما كانت تدل تصريحاته داخل السودان، قد قلب ظهر المجن لفكرة الدولة الثيوقراطية التى ينفذها حزب الصفوة الإسلاموية المتأسي بأفكار سيد قطب، ليزيل جاهلية القرن العشرين من جذورها....ويعيد صياغة الإنسان وفق تلك الأفكار القطبية....الخ. مهما يكن من أمر، فقد سارت عجلة المعارضة على هذا النسق التوافقي، وفى جوفها الدكتور الترابي ومؤتمره الشعبي...وأخذ الشعب السوداني يتطلع لهذه المعارضة المثقفة والمجربة علها تخلصه من حكم الإخوان المسلمين الذى تحول إلى ملك عضود وأنهك البلاد مادياً وجسدياً وكلفها خسارة فادحة بذهاب الجنوب....ولم تجد أحزاب المعارضة العلمانية المنضوية تحت قوى الإجماع ضرورة للتقصىّ حول مؤهلات المؤتمر الشعبي وما يحمل من كتابات لا ترى بالعين المجردة small print ...وما قد يكون لديه من هياكل عظمية معلقة بدواليبه skeletons in the closet ... فالسودانيون معروفون "بالطيبة" وبأنهم يلدغون من الجحر الواحد عدة مرات...ولهذا فإن مستقبل الثورة السودانية ربما سيكون مثل ماضيها ...ما هو إلا صخرة سيزيف...نحملها إلى أعلا الجبل...ثم تتدحرج إلى أسفله...ونحملها مرة أخرى إلى قمة الجبل...فنحن شعب يجيد إعادة إختراع العجلة دون أن نضيف لها او ننزع منها ترساً واحداً...بمعنى أننا مرة أخرى سنقع فى فخ المزايدة على الشعارات الإسلامية... وسنرهن أنفسنا مرة أخرى للترابى بنسخته الجديدة...المدعومة بزخم ما يسمي ب "الربيع العربي"....ومنظمة الإخوان المسلمين العالمية...وقناة الجزيرة. إن تصريحات الدكتور الترابي فى الدوحة مزعجة للغاية..وأعتقد أن قوي الإجماع لديها ضيف غير مضمون العواقب a strange bed-fellow ومن الضروري التوصل لآلية تضمن لنا أن الموقعين علي الميثاق لن يتنصلوا عنه ويتخلصوا منا عند أقرب ملف...ومن الضروري عدم مضغ الكلمات الخاصة بالفصل بين الدين والدولة...وبالتعريف المحدد جداً للدولة المدنية التى يتكلم عنها الإخوان (مجاراةً) ويتكلم عنها باقى العلمانيين...لقد اعتدى فاروق أبوعيسي علي الترابي بالضرب عندما كانوا فى حنتوب قبل ستين عاماً...وأمسك بعنقه وكاد أن يفتك به...فأرجو ألا يضطر لموقف كهذا مرة أخرى...ليس لأن العظم قد وهن واشتعل الرأس شيباً...ولكن لأن الأفضل هو الإتفاق الواضح..إذ أن ما أوله اتفاق...آخره نور.......أعتقد أن الترابي مطالب بإدانة واضحة لكل ممارسات الإنقاذ السلبية فيما قبل المفاصلة...بالتفصيل الممل...ومطالب بصياغة خطاب واضح لا لبس فيه لنوعية الدولة المدنية التى سنستبدل بها النظام الإخوانجي الراهن الذى كان أصلاً من صنع الشيخ حسن. والسلام.
|
|
|
|
|
|
|
|
|