الكسرة التي أعنيها في العنوان أعلاه بفتح(الكاف) ، لأن (الكِسْرة ) بكسر الكاف ستقودنا مباشرةً إلى تردي الأحوال الاقتصادية في بلادنا والغلاء الطاحن الذي أصبح بُعْبُعاً يُكشِّر عن أنيابه في وجه المواطن ذوداً عن حِياض كلِّ سلعةٍ مهما صغُر شأنُها ، الأمر الذي جعل التصدِّي له على مستوى رئاسة الجمهورية محاولةً لإدراكِ ما يُمكن إدراكه من خلال تخفيض أعداد الدستوريين وزيادة الضرائب ورفع يد الدولة عن دعم المحروقات .. ولكن السيد وزير المالية الذي طلب إلى المواطن ذات يومٍ أنْ يجنح إلى الكِسْرة مُنتبذاً من الخبز مكاناً قصيَّاً كنوع من أنواع التقشُّف وشدَّ المئزر لمجابهة جنون الغلاء ؛ قد حار به الدليل – لاحقاً – فلم يجد مناصاً من أن يصف الدولة بـ (المفلِّسة ) ، بل ويبشِّرنا في مؤتمره الأخير بالمزيد من رفع الدعم عن المحروقات وتحرير سعر الصرف ، إذ أنَّ ما تمَّ من رفع للدعم يمثِّل نسبة 30% فقط وأنَّ الدولة لا زالت تدعم الوقود بنسبة 70% ، يعني أبشر بطول معاناة أيها المواطن الفقير .. فقد أطلَّ سعادته في ثيابِ الواعظين ليردَّ ذلك كله إلى القدريَّات ، مذكِّراً محمد أحمد المغلوب على أمره بالإيمان بالقضاء والقدر خيرِه وشرِّه ..! ولأني لا أودَّ الخوض في تلك الأوحال البيزنطيَّة ؛ فقد قرَّرتُ أنْ أرفع المواطن بالكَسْرَة كنوع من أنواع التداوي بالتمرُّد اللُّغوي ، أو قُل شجب وإدانة لقرار رفع الدعم الحكومي عن المحروقات وارتفاع أسعار السلع الضروريَّة الجنوني ..! فما دُمنا لا نستطيع أن نجرَّ الحكومة بالكَسْرَة – وهي في موضع الرَّفْع – كان لا بدَّ لنا من رَفع المواطن من وهْدةِ محْنتِه بالكَسرة .. لا لشئ ، فقط لتفريغ شحنات الغضب في (النحو ) المسكين ..فقد روى لنا أستاذنا الجليل ذات ثانويَّات عن مُزاح الأساتذة ؛ أساتذة اللغة العربية تحديداً ومُلَحِهم وتندُّرهم البرئ فيما بينهم ، وكيف أنَّ أحدهم كَسَر الآخر – وقد كان في موضع رفع – داخل بيت شِعْر في الهجاء .. وعندما انتفض الآخر مُعيِّراً صاحبه بجهله بقواعد النحو ؛ ضحك هذا حتى سقطتْ عمامتُه ثم ارتجل على الفور بيتاً جديداً يقول: لقد كسرْتُكَ يا عبَّاسُ عمْداً *** لأنَّ مِثْلكَ يا عبَّاسُ لا يُرْفَعُ وإذا تجاوزنا الكسرة كعلامة نحويَّة لضبط شكل الكلمة ، إلى معنى آخر في سودانيَّتنا أو عاميَّتنا أو السوقي منها (الراندوك) الذي أخذ يتسرَّب إلى الكثير من ألسنة المجتمع ؛ نجد أنَّ الكَسْرة تعني المنحة أو العطيَّة ..فإذا قال لك أحدُهم أنَّ فلاناً كسر لي عشرة جنيهات ؛ يعني أعطاني ..وفي هذا المقام يُمكن للحكومة أيضاً أن ترفع المواطن بالكَسرة أي المنحة مثل منحة الرئيس الأولى الـ مائة جنيه والثانية المُنتَظرَة مع الاحتفاظ بالفرق الكبير جداً جداً بين الزيادة هنا وجنون الأسعار ..غير أنَّنا نرى أنَّ حكومتنا – هداها الله – شرعتْ مباشرةً في رفع الدعم والسياسات التقشفية الأخرى ولم تعجِّل بزيادة الأجور للعاملين بالدولة كما هو مقترح من لدنِّ الحكومة نفسها ..فلا غرو في ذلك فهم دائما ما يعجِّلون بالألم ويؤجِّلون الأمل !! أمَّا إذا انتقلنا مع الكسرة في سوقيَّتها أيضاً إلى أخطر معانيها فالأمر يستوجب الحماية بالعِصي والخوذات وطلب حقَّ اللجوء والاستجارة ..إذا قال لك أحدهم مثلاً : كَسَر عمرو زيداً ، فاعلم – يا هداك الله – أنَّه أوسعه ضرباً ! إنَّما وفق هذا المعنى لا يُمكن للحكومة أن ترفع المواطن بالكسرة ..لأن المواطن أصلاً مُقعداً بالجوع والنصَب والوصَب ،فلا يُمكن بأية حال من الأحوال أن تُقيمه العصا لأنه من الناس الذين وصفهم الشاعر الراحل المقيم محمد الحسن سالم حميد بقوله :(ناساً عيشا دين.. مجرورة وتجُر ) ! ومع ذلك كيف تستطيع الحكومة – إنْ حاولت- أن ترفع المواطن وفي الوقتِ ذاته ترفع الدعم عن الوقود ؟! فمثل هذا العبءِ الثقيل يُمكن أن يسبِّب للحكومة (فليته ) أو (قطيعة ) أو (غضروف) فيُعيق حركة رقصها على ايقاع أغنية (التقشُّف) الشعبية ذات الكَسْرة المنتشية والتي يردِّدها كورَس الحكومة مثل :( هوى آ ليلى هوووى) عند فنَّاني الحقيبة .. حيث تردِّد ألسنة الحكومة – اعترافاً – أنَّ السياسات الاقتصادية التي أقرَّتها تزيد من حجم معاناة المواطن ، ولكن لا بُدَّ منها إذ أنها علاج ، وبعضُ الدواء مرٌّ كالعلقم ! ولكنهم لم يفطنوا إلى الآثار الجانبية التي تطرأ على المريض (المواطن) فمن المعروف أنَّ جنون الأسعار يسبِّب جنون البشر ! والمجنون من بين ثلاثة رُفع عنهم القلم .. وهذا ما يُشير إلى موجة الاحتجاجات من قبل المواطنين ضدَّ القرارات ..فإذا تحمَّل المريض الدواء المر فينبغي على الطبيب أيضاً تحمُّل ردود أفعال المريض ! ولكن المصيبة هى أنَ الحكومة ترى شعبها يرقص طرَباً مع تبريرها هــذا ، بينما الحقيقة هى أنَّ الشعب يرقص فعلاً ولكن مذبوحاً من الألمِ !! على أية حالٍ إذا لم تستطع الحكومة رفع المواطن بأي معنى من معاني الكسرة المذكورة آنفاً ؛ فإنَّ المواطن لا محالة سيرفع الحكومة بإحدى الكسرات !
** نُشر بالوفاق الخميس 28/6/2012م
09-26-2012, 01:39 PM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
إلى مفصولي شركة بترونيدز :الموية مابْتطلع العالي !! شاذلي جعفر شقَّاق
من العبارات العسكرية العتيقة (الموية ما بْتطْلع العالي) وهي تعني أنَّ التعليمات لا يُمكن أن تصدر من رتبة دُنيا إلى رتبة أعلى منها ، أو بمعنى آخر أن الرتبة العليا دائماً في مأمن من الأدنى منها ..ومن الطبيعة العسكرية أنَّ الجندي لا يستطيع مخالفة الأوامر وإن كانت مستحيلة فمثلاً إذا أُمر جنديٌّ كيِّسٌ فطنٌ أن يدفع الجبلَ بيدَيْهِ مثل عربة الموز لا يقول : هذا مستحيل ..إنَّما يندفع نحو الجبل بهمَّة عالية وصياح هادر يتجشَّأه الجبلُ صدىً ، ثم يضع يديَه متظاهراً بدفع الجبل بكُلِّ ما أوتِىَ مِن قوَّة ،وبهذه الحيلة البسيطة يكون قد نفَّذ الأمرَ ، فهذا كلِّ ما في الأمر ! أمَّا إذا اعترض مسارَ طابور عسكري نهرٌ أو بحرٌ أو محيط حتى ؛ فليس على هذا الطابور سوى مواصلة رفع أرجله ووضعها على الشاطئ دون أن يتقدَّم خطوةً واحدة مع تأرجح الأيادي (خطوات تنظيم) وبهذا يكون قد نفَّذ الأمر وفي الوقت ذاتِه لم يُلْقِ بنفسه إلى التهلُكة .. ومن الحيل الطريفة التي كان يستخدمها أحد الفصائل التي كانت تُقاتل إلى جانب الحكومة ضدَّ المتمردين ، وقد جيئ بهم مُنهكين من العمليَّات إلى مركز التدريب الموحَّد لتلقِّي المزيد من التدريبات والنظم العسكريَّة ، وكانوا يمنحونهم (بصلةً) كاملة الدَّسَم عقب كلِّ وجبةٍ تداوياً من العمى الليلي .. وكانوا يسيرون إلى المطبخ مستمسكين بــ (قناية ) طويلة يُمسك برأسها أفضلهم نظراً (الطشاش في بلد العمى شوف ) .. وهم مع كلِّ ذلك ما كانت تُرهقهم حصَّة ( البيادة ) أو السلاح ، إنَّما حيلتهم الذكيَّة كانت للتهرب من حصَّة التربية إذ لا طاقة لهم للجري مسافاتٍ طويلة ، فكانوا إذا ما انتظم المعسكر لحصة الجري الصباحية ؛ يُشهرون أصواتهم عاليةً هادرين : ( حماس : موجود ، لياقة : مافي )! إنَّ الذي دفعني إلى كلِّ هذا التداعي هو خبرٌ صغيرٌ في صياغته كبيرٌ فيما سيترتَّب عليه أوردته صحيفة الرأي العام الأحد الماضي 1/7/2012م يقول : (علمتْ الرأي العام من مصادرها إنَّ شركة تعمل في مجال البترول استغنت نهاية الإسبوع الماضي عن (267) من عامليها وسلَّمتهم خطاباتهم وحسب المصادر أنَّ أغلب العاملين يتبعون لشركة أُخرى تعمل لصالح الشركة الأولى بتوفير العمالة من فنيين وسائقين وغيرها ، ويتوقَّع أن تقوم الشركة بعمل مماثل ما لم تكن هناك معالجات واتفاق بين دولتَى السودان وجنوب السودان في مجال تصدير النفط وأبانت المصادر أنَّ نشاط الشركة انحسر وبصورة كبيرة بعد قفل أنابيب الصادر من قبل دولة الجنوب ) انتهى . رغم أنَّ الصحيفة لم تُسمِّ الشركة المعنيَّة (بترودار )باسمها أو الشركة الأخرى التي تعمل لصالحها (بترونيدز) ولكن دون شك أنَّ هؤلاء العاملين يندرجون تحت نظام التشغيل التعاقدي الذي يخوِّل لتلك الشركة المستخدِمة للعاملين أخذ ما يقارب الـ 70% من مرتَّباتهم المدفوعة من قِبَل الشركة الأم .. لا لشئ ، فقط لأنَّها استخدمتهم ! هذا إذا تجاوزنا إهدار السنين ومعضلة فوائد ما بعد الخدمة والتي لا تعدو أن تكون (غمتة مُزيِّن) ! نوقن تماماً أنَّه لا بدَّ من الاستغناء عن خدمات الموظَّفين والعاملين من أيِّ مؤسَّسة في الدنيا إذا ما فقدتْ هذه المؤسَّسة إنتاجها ، فهذا أمرٌ معلوم مع إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وفق قوانين العمل ..ولكن ما دام المقياس اقتصاديَّاً استناداً إلى تعثر الانتاج فقد تساوت أهميَّة الوظائف ..فلماذا لا تبدأ هذه الشركة بكبار موظَّفيها من الشركة الأم تيمُّناً بالسياسات الاقتصادية التي استنَّتْها الحكومة برغم تلكُّأها في تخفيض الأجهزة التنفيذيَّة وحلَّ الحكومة واستبدالها بأخرى رشيقة ونشيطة وخفيفة ، رغم ذلك فقد بدأت بإقالة مستشاري الرئيس ..فماذا لو أنَّ هذه الشركة أخذت منحى الوجهة العامة للبلد وبدأت بالاستغناء عن ثلاثة أو أربعة فقط من كبار منسوبيها ؛ إذن لرجَّحتْ كفَّة ما يتقاضونه شهريَّاً برواتب هؤلاء الـ (267) عامل مجتمعة ! هذا إذا أخذنا في الاعتبار التردِّي الاقتصادي الهائل والغلاء الطاحن تعاطفاً مع هؤلاء العاملين وأسرهم .. فعلى أقلَّ تقدير أنَّ موظفِّي الشركة الأم – ما شاء الله تبارك الله – أوضاعهم غير و أحوالهم مستورة ممَّا كسبوا من هذه الشركة قبل أن توصد دونها أبواب الاستثمار من قبل دولة جنوب السودان إذ أنَّ كلَّ حقولها تقع داخل حدود الجنوب وهذا حقُّها .. فهم بلا شك يسكنون الدور الفاخرة ..ويمتطون الفارهات وفوق كلِّ ذلك محصَّنون بما اكتسبوه من خبرة وتأهيل كلٌّ في مجاله ،على غير المستخدَمين المساكين طبعاً ..فماذا لو بدأتْ الخصخصة أو قُل الاستغناء عن الخدمات بالرؤوس الكبيرة بدلاً من صغار العاملين ..حتى تحذو ذلك بقيَّة شركات النفط التي لا محالة واردةً هذا المورد .. تُرى ما هي الحكمة من تشريد (267) أسرة لا يملك عائلوها شروى نقير وإنْ اقترنت أسماؤهم بمحاسيب شركة البترول ؟هل استخدمت الشركة سياسة (كتلوك ولا جوك جوك ) أم أنَّ الموية عندها أيضاً لا تطلع العالي ؟!
** نُشر بالوفاق الخميس 5/7/2012م
09-26-2012, 01:51 PM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
نزعتُ رأسي .. وضعتُها على رُكبتي مثل خوذة جندي مبني للمجهول ..أصلحتُ من جلستي على الكرسي الوثير ..راودتْني فكرة أن أضمَّ شفتيَّ وأمدُّهما لأنفخ خلالهما من روح طربٍ عتيق ، مُرتاحاً على شفا صافرةٍ خفيتةٍ لأغنيتي الأثيرة .. تذكَّرتُ أنَّ شفتيَّ في أجازةٍ مفتوحةٍ على رُكبتي ! .. انتابتني رغبةٌ غير قويَّة لمعاقرةِ ضحكةٍ مُجلْجلةٍ أو باهتةٍ – لا يهمّ- على نفسي ، فتحتُ فمَ انتظاري موْسميْن أعْجفين ، ولمَّا لم تأتِ الضحكةُ (مُنقادةً تجرجر أذيالها ) ؛ عقدتُ العزْمَ لعقْدِ مؤتمرٍ جامعٍ لكلِّ مكوِّنات الضحكة ، بل لكلِّ الحواس الحاضرة والغائبة والحاضرة الغائبة أو المُغيَّبَة تحت شعار : (شرُّ البليَّة ) !ولكن لم يحضر أحد !.. عندها أشحتُ بوجهي ، عفواً برقبتي عن فكرةِ الضحك اللعينة .. خرجتُ من رحم غفلتي إبهاماً وسبَّابةً يعقصان لساناً داخل مغارةٍ درداء ، شاهراً صافرة القدوم من .. أو الرحيل إلى ..انعطفتُ يميناً ، دخلتُ في نوبةِ بكاءٍ غير جارف لا يقطِّع نياط القلوب ولا يمزِّق أكبادَ الأطيار في الشجر ..أىُّ معنىً لبكاءٍ تغيبُ عنه الرأس ؛ تغيبُ عنه الإجهاشة والدموع والنشيج ..سحقاً .. كفْكفْتُ أكمامَ حسرتي ..مسحتُ على خدَّيْها ورتقْتُ جيبَها ..غسلتُ أوبةَ وِفاضها اليابس بوابل السُّلُوِّ والنسيان ! صلبتُ عزْفيَ الشفوي وضحكي وبكائي جميعاً على حبل الأصيل الأحمر بمشاجب يأسٍ رمادية تعضُّ على طاعةِ الخيبةِ بالنواجذ ! رفعتُ رأسي ..وضعتُها بعانيةٍ على رقبتي ..دفعتُ قدَميَّ أمامي على شارع الأسفلت البمبي ! الحقيقة أنَّ الرؤية هي التي أصبحتْ بمبيَّة ..انبعث صريرٌ حادٌ ورقيق يحاكي استجابةً على مضضٍ من لدنِّ وحدة المعالجة المركزيَّة لأمرٍ حاسوبيٍّ ثقيل ! قلتُ : هـا قد عُدنـا ، فأنا لم أنزع رأسي عن رقبتي إلاَّ اتَّقاءً لإجراءِ أيةِ عمليةٍ حسابية مهما ضغُرتْ ، لأنَّها ستقف – في ظلِّ هذه الظروف – عقبةً كؤوداً أمام جهابذة السَحَرة والحُواة فتلقف ما يأفكون ! مالك والتفكير فيما لا تستطيع عليه صبراً يا صاحب النظرات البمبيَّة والخُطى البمبيَّة والأفق البمبي ؟ الآن وقد أعيتْكَ الحيلةُ للحصول على متَّكأٍ وارف ، فليس أمامك سوى البحث عن مكانٍ غير شاغرٍ تقفُ أمام بابه المُرتَج ..تبثُّه اللوعة والشوق و وعثاء الطريق ..تخلع عليه غبار الصبر الصبر الطويل ..تتوسَّد عنده ذراعك أن ها قد وصلنا وإن عزَّ المسير ..تصرخُ بأعلى جزعك إنِّي أبحث عن مكانٍ مناسبٍ يسع الحدَّ الأدنى من لواعج نفسي ، من غيض روحي ..أبحث عن رأس أيِّ خيطٍ يفصل بين البمبي والبمبي ..أسمع بكاءً وغناءً وصفيراً ولا أرى شيئاً ..أبحث عن مكانٍ يسع شولةً واحدةً في تلافيف أىِّ حاشية لأيِّ متنٍ من أىِّ جنسٍ كان ! أبحثُ عن فكرةٍ عذراء أعبر من خلالها سائر نقاط التفتيش ..أريد قصيدةً طرواديَّة أنفذ من عمقها إلى أرض المعاد ..ابتغي قصَّةٍ يكون بطلها المكان ؛ المكان وحده لا غيره ..أحلم بروايةٍ تخرج عن قضيب المألوف لتنثرَ أبطالَها وسائر أحداثِها على الرصيف ما خلا مشهداً واحداً لم يكن أصلاً من ضمن فصولها ..مشهداً واحداً في ظلامٍ دامسٍ تنفجر فيه صرخةٌ داوية : (أين ) ؟ لم تزل الحالةُ البمبيَّة ملكةً على مدِّ البصر ، بمبيَّة الرؤى والخُطى والدروب ، حتى انبلج الرمادي دالقاً لعنته في كلِّ الجهات .. تبدَّتْ أمامي لوحةٌ سرياليَّة مشوَّهة الملامح والمغزى والوجهة التي لا تُفضي أبداً إلى مبتغى ..هنــا توقَّف المسير ..طلَّقتُ خُطاى ثلاثاً ..نشرتُ عزفى الشفوي وضحكي وبُكائي وسائر ترَّهاتي على حبل الظلام ..ثبَّتها بمشاجبَ مشوَّهة الملامح ولكنَّها على أية حالٍ تعضُّ على طاعة الخيبات بالنواجذ !!
**نُشر بالوفاق الخميس 19/7/2012م
09-27-2012, 07:59 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
تطلُّ صبيحة اليوم الأول من رمضان في ذلك الصيف البعيد هادئة ..نفترش ظلَّ ضحاها الذي لم تترجَّل أطرافه بعد من قمم البيوت والأكواخ والجدران .. والنسمات المشبَّعة بعبق النيل تتراقص جذلى عاتقةً ضفائرها ، ناثرةً أكمامها وأذيالها المبتلَّة على وجوهنا الصغيرة المتحلِّقة حول أرجوحة اللبن الآيِل للحموضة ..شاهرين ألسنتنا رُخَصاً لاستباحة الصيام نلعقُ ما تيسَّر من خلاصة اللبن الرائب (الفُرصة) ..نحتسي مثنى وثُلاث ورُباع من (الغباشة) نُعبئُ طاقةً لا شك أنَّنا سنُقْلقُ بها قيلولة الصائمين الظامئين الممدَّدين داخل (البراندات والرواكيب) مُبلَّلي الثياب والملاحف والوسائد وحبال (العناقريب) ومفارش الرمال الناعمة ! تدخل جدَّتنا (ستَّنــا) كنسمة وهي تبارك الشهر المعظَّم لجدَّتنا (آمنة) : - رمضان كريم آ مَّونة - الـ بحبّو كلّو كريم آختي ..اتفضلِّي تجلس الجَدَّة (ستَّنا) على العنقريب ..تُرسل خيطَ ريقها بين قاطعَيْها العُلْويين ثم تقول : - ( يا حليلو يا أمّونة أختي ..الليلة انقطع فيهو تَوْ .. يا حليلو مُو عِمير صاحب ..الضيف ابْ بريشاً مطوي )! سنكبر وتكبُر معنا كلمات (ستَّنا) البليغات في حقِّ شهر النور والقرآن ..شهر الرحمة والمغفرة والعتْق من النار ..تلك الكلمات الشاربات من رحيق البساطة .. من نقاء البيئة والسريرة ..النابتات على حافةِ جدول اليقين الزاهر دوماً والإيمان الناضر ..تلك الكلمات التي تقف أمامي الآن بكامل أناقتها اللغوية وأنا أواري دهشتي تحت أسمال سنيني الطوال في حضرة لُغتنا السودانية أو محليَّتنا السمحاء ..أنظر قولها :(الليلة انقطع فيهو تَوْ ) والتَّوْ هو الحبل ..فإذا جلس شخصٌ بدين – مثلاً – على ع(.........)يب صغير وسمعت :(طَقْ) من تحته فاعلم - يا هداك الله – أنَّ أحد هذه الحبال قد لحق أمَّات طه( انقطع ).. ولكنَّ الحكمة من التشبيه تكمن في أنَّ انقطاع حبل واحد يعني ارتخاء النسيج بأكمله ومن ثمَّ تسلُّل بقية الحبال تباعاً .. وهذا ما ينطبق على رمضان فمنذ مجئ يومه الأوَّل تتبعه بقية الأيام سِراعاً !ولذلك لا تتمنَّى ستَّنا – رحمها الله – عمراً لصاحبٍ أو صديق في عُجالة هذا الشهر المُبارك ..وإن شئتَ بلُغة الاقتصاد فقبل أن يفرغ الناس من إعداد (الحلو مُر ) استقبالاً لرمضان ؛ يُشرعون في إعداد البسكويت حفاوةً بالعيد !كيف لا وهذا الشهر – بفعل الشوق الروحي والظمأ الوجداني – يمرَّ علينا كالضيف ؛ ضيف عابر تُشرق عليه الشمس وقد فارق مرقده وطوى فرشه (البِرِشْ) وحمل عصا ترحاله وأمعن في الرحيل ! هذا التوْقُ الرمضاني يُلقي بسجْسجه على صيفٍ غائظٍ (قمريْتو تقوقي )وهجير لافح (يقلي الحبَّة) ومكانٍ لم يكن بوسعه مقاومة الظمأ الإرادي - خضوعاً وعبادة - إلاَّ بغمس الثياب والعمائم و(الشالات) في الماء قبل وضعها على الأجساد الساخنة ريثما جفَّتْ ، ومن ثمَّ معاودة الكرَّة في سمومٍ تشرب الماءَ في لمْح البصر ! ومع ذلك نركض نحن ذووا الوجوه الصغيرة هنا وهناك ..نطلق لأصواتنا الشبعة العنان ..وهاك يا لعب وضحك وقَرْقرابة ..ولربَّما سمعنا صوتاً منبعثاً من تحت أحد الثياب المُبتلَّة يحاكي ذلك الصوت الذي نُصدره نداءً للقطة ، أنْ اخفضوا أصواتكم أو إهدأوا قليلاً ( خلّونا ناخُدْ لنــا غمْضة شوية كدي ) ..فنستجيب بُرهةً ولكن سُرعان ما نعاود الضجيج ! وهكذا وهكذا تجفُّ الثياب المُبتلَّة على الأجساد الصائمة ؛ نهدأ قليلاً .. تبتلَّ مرَّةً أُخرى نعود للصياح ، إلى أنْ تنبثق إحدى الفرحتين ، ولا ننسى نصيبنا منها أيضاً .. ولربَّما ضحك المفْطرون الفرحون جميعاً مع قول أحدهم ليلة العيد: - (شنو شابكنَّنا يا حليلو ، يا حليلو ..علىَّ الطلاق من يومو الـ هلَّ ما قلتوها ..هسَّه شفتوهو فات بقيتو تتحسَّروا ؟ مطاميس )! هذا ورمضان كريم ..تصوموا وتفطروا على خير ..أعاده الله علينا وعلى بلادنا وبلاد المسلمين قاطبة بالخير واليمن والبركات .. وكل عام وأنتم بألف خير .
** نُشر بالوفاق الخميس 26/7/2012م
09-27-2012, 08:11 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
أولتْ ظهرَها هوجةَ النيل الأزرق ..فتحتْ ذراعَيْها في شكل قوس قُزح .. اندفعتُ نحوها ، حشرتُ رأسي بين ضفَّتَىْ الأبيض ..هدهدتْ أنفاسُها الحرَّى – من عَلِ – مؤخرةَ رأسي الصلعاء .. طوَّقتُها عند مُلتقى نصفَيْها ، طوَّقتني - بدورها - من فوق منكَبَيَّ ..لم يكن ظلاَّنا على سطح الماء في ذلك الأصيل الدامع مثلَ بَطَليْ فيلم (تايْتِنِكْ) الآخذَيْن شكل الصليب في مقدِّمة السفينة .. إنَّما كُنَّا مثل نبات (العَلَقة) المُلتف بلهفة حول السِّدْرة المتماهية في غلالة الشَّفَق المُحْمرَّة الاصفرار ، الواثقة من نُضرتها بين الذُرة الشامية واللوبيا والطرفاء و(أب سبعين ) في حضرة الغروب الساهم ..في حضرة الأنسام الحُبلى بقطرات الندى والطمي وزقزقة الأطيار وهسيس الأغصان و وجيب الأمواج وعطر الشوق وطلْح التوْق وآهات النشيد ..تتسلَّل شهْقةٌ ربعة القامة من خدْرها لترسل دمعةً من عينِها مباشرةً إلى خَدِّي تُعربُ عن حُرْقةِ الرحيل المُبكِّر ونحن لمَا نزل بعدُ في طور العِنـــاق ! منك الدموع – يا خدْنَ قلبي – ومنِّي مسالك انسيابها .. منك الدواعي ومنِّي التداعي وسبْك الحروف ..منك الزمان متى أردتِ ومنِّي المكان ! منك الهبوط الاضطراري ومنّي المدرَّج الذي يستوي لافِظاً كلَّ ما سواك للقلوع ! ورأسي المشرئبَّة تطالع منبع العشق وانبعاث القصيد .. تطالع شُرْفَتَيْ إلهامي رغْم براقع الغروب المُسدلة وغَسَق الرؤيا وغمامات الدموع .. تطالع رسولَتَيْ شهوتِها إلىَّ رغم رغبة الانغماس بين ضفَّتى الأبيض البضَّتين العطِرتين ! تبعثرتْ إرادتي بين مشاهدة الأصيل الدامع أو التلاشي فيه ! كان النيلُ في تلك اللحظة يُرسل أغنيات رحيله الأبديَّة ..تلهج أمواجه بهمهمات السفر الطويل ..تعلو أصوات كوراله كلَّما أمعن المساء في تلافيف السُّرى ..في حُداء الأمنيات المُدلِجات .. لايلوي على هُدنة أو يعرِّج على تعريسة ..أو يعشو إلى بُهرة ضوء في البعيد .. كان النيلُ رسماً عثمانيَّاً تضع الغمامةُ على حروفه النقاط ، فتصطفق معانيه لتنداحَ مدَّاً وجزراً ثم تلحق بالمسير .. وفجأةً تقع نقطةً على الحاجب الشمال لتقبعَ مترجرجةً على تلك النُّدبة – ذات القصة الكوميتراجيدية- والتي تجسِّد دوراً جمالياً للمشهد خارج السيناريو في شكل أداة ترقيم كخطٍّ رأسيٍّ مائل يفصل أرقام تأريخي العتيق ! تلك هي القطرة التي نحتتْ على صخرة عشقِنا رمزَ كان الأولى .. فانبجست منه حكايةُ الوجد النمير التي انسلَّ راسُ خيطها من خلال نص صغير اسمه :نُدبة الحاجب الشمال ..هو من أهداني هذه الروعة الفارعة وأنا على مشارف الأفول ..! تلك هي القطرة التي شقَّت أخدوداً عظيماً فصل عمري نصفين ..نصفٌ مضى إلى حال سبيله ، ونصفٌ أنبتَ جذوراً واستوى واستغلظ رافعاً بيارق سنابله اليانعة على ضفة هواك – يا راحَ روحي- التي سأعبر منها غير مخيَّرٍ إلى الضفة الأخرى حاملاً وعدي قارباً وشوقي مجدافاً وبوصلتي شراعاً إذا ما كانت الرياح مواتية !
نُشر بالوفاق الخميس 2/8/2012م
09-27-2012, 09:09 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
وتنفَّس خطُّ الأنابيب الصُّعَداء ! شاذلي جعفر شقّاق [email protected]
أخيراً تنفَّس خطُّ الأنابيب الناقل للبترول الصُّعَداءَ بعد قطيعةٍ امتدَّتْ لستة أشهر بينه والخام الجنوبي ..عندما قامت حكومة جنوب السودان بقفل الخطِّ والإبقاء على نفطها داخل أرضها بطريقة (علىَّ وعلى أعدائي) بل زادتْ الطين بِلَّة وهى تحتلَّ هجليج وتقضي على البُنى التحتيَّة التي شيدتْ بعرَق ودماء الشعب .. الآن يُفطر الخط بعد صيامٍ طويلٍ إيذاناً باستئناف تصدير البترول الجنوب سوداني عبر خط الانبوب السوداني وفْق اتفاقية أديس أبابا التي تمخَّضتْ بعد عُسْرٍ فولدتْ بصيص أمل وبوادر عافية بفضل قرار مجلس الأمن (2046) الذي دفع بـ جوبا و الخرطوم دفعاً إلى هذا المنتهى – حتى الآن - بعد أنَّّ ظنَّا كلَّ الظنِّ ألاَّ تلاقيا ! رغم ضبابية التفاصيل وزهد المفاوضين في الإدلاء بتصريحات تشفي غليل التساؤلات الحائرة.. إلاًَّ أن مجرَّد التوصُّل لاتفاق يجعل من النفط يعاود انسيابه ؛ يعدُّ مكسباً لشعبي البلدين الذين طالما عانا من رعونة الحروب وحماقات الساسة وارتجالاتهم الخرقاء التي لا تستصحب معها مآلات الأمور أو لا توليها اهتماماً ما دامت ستسقط على أُمِّ رأس الشعب المغلوب على أمره ! فمنذ إغلاق الخط أو قُل منذ الانفصال – رغم نبوءات ماليَّتنا الكاذبة وتطميناتها السرابية - وحتى الآن ذاق الشعب أصنافاً من الضنك والعنت تحت وطأة ظروف اقتصادية طاحنة وغلاء فاحش يشمل كل متطلبات الحياة ..بينما تكتفي الحكومتان شمالاً وجنوباً بالإعلان عن حالات تقشُّف خجولة لا تستطيع أن تُواري سوءةَ مُراءِها البيَّنة لتقليل البذخ الحكومي الذي يتلمَّظ دوماً : أنْ هل مِن مزيد ؟ فهذا الفرَج الشَفوي لن يستوي لُقمةً في بطن المواطن الخاوية على عروشها ! إذنْ ها قد تكشَّفتْ الحُجُب وانقشعتْ الظلمات وفشل إسلوب النِّكاية المُتبادَل بين الحكومتين ، والاستهلاك الزمني الذي كان يعوِّل كلُّ واحدٍ منهما عليه وهو يمنِّي النَّفْسَ بسقوط الآخر نتيجة حرمانه من النفط .. جاء متزامناً مع حالة الرَّهَق اللاهثة هذه لكلا الجانبين ؛ تدخُّلُ الولايات المتحدة الأميركية في لبِّ الموضوع وهي تشمِّر عن ساعد وتكشف عن ساق عن طريق وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون التي هبطت جوبا ، وما أن غادرتها حتى توصل الطرفان إلى هذا الاتفاق ..وقبل أن يقوما من مقامهما أو يرتدّ إليهما طرْفُ دهشتهما ؛ هنَّأهما الرئيس الأميركي بهذا الاتفاق ..بل شدَّد على ضرورة التنفيذ الفوري ! والتنفيذ الفوري هذا هو الذي يجعل المراقبين يتأمَّلونه جيداً ..لأن الاتفاق جاء متجاوزاً لمحور القضايا الأمنية الذي تتمسك به السودان ..إذ جعلوا تنفيذ الاتفاق النفطي رهيناً بالتوصُّل إلى اتفاق في الشأن الأمني ..فعندما يقول الرئيس الأميركي بالتنفيذ الفوري فهذا يعني أن ثمة أمرٍ يحدث ..فالسرعة في التنفيذ تدعمها الترتيبات المالية الانتقالية والتي بموجبها تدفع دولة جنوب السودان للسودان (3,2)مليار دولار ولكن على مدى ثلاث سنوات ونصف !..ترى هل يعني ذلك مسابقة خطى الانتخابات الاميريكية كمنجز لأوباما – صاحب رؤية التغيير - في القارة السمراء ؟..أم محاولة لتمرير خطة لا ترى بالعين المجرَّدة كما يبرِّر رافضي الاتفاق الذين تنتابهم فوبيا نيفاشا عند كل طاولة مستديرة ؟ أم عودةٌ أخرى للاستهلاك الزمني ، إذْ يتردَّد أنَّ دولة جنوب السودان تشرع في إقامة خط ناقل للبترول عن طريق جيبوتي أو أوغندا ، وبهذا تكون قد تعاملت مع القضية بطريقة : بعد ثلاثة سنوات ونص يا في البعير ، يا في الفقير ، يا في الأمير !!! مهما يكن من أمر فإنَّ نفخ الحياة في أوصال شركة بترودار بعد أنْ شرعتْ فعلاً في خصخصة منسوبيها .. وانطلاق خط الأنابيب من هجليج إلى بورتسودان محمَّلاً بالنفط ؛ لأمرٌ جديرٌ بالاحتفاء .. أما ترى وبمجرَّد الإعلان عن الاتفاق أنَّ الدولار الأميركي (أبْ صلعة) قد تنازل عن غطرسته قليلاً وخفض هامته أمام السوداني المسكين (5.5 جنيه) ؟ بقى أن تعي الحكومة الدرس جيِّداً ..أن تستذكر ما مضى من خيبات وأن تفيد من أخطاءها في أوجه إنفاق عائدات البترول بأن تُعيد النظر فيما ستكسبه من تصدير بترول جنوب السودان وتوجيهه مباشرةً إلى الزراعة ؛ الزراعة وحدها لا غيرها تحسُّباً لأيِّ طارئٍ قد يحدث ..فما أسهل تقلُّبات السياسة وما أسرع قلْب ظهْرِ المِجَن !!!
** نُشر بالوفاق الخميس 9/8/2012م
09-27-2012, 09:13 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
كلَّما اشرأبَّ عيدٌ باسِماً عن أفراحه النضيدة ؛ يجرفني سيفُ الحنينِ إلى أزمان غضَّةٍ وذكرياتٍ عتيقاتٍ يتقطَّرن جِدةً مع كلِّ داعٍ .. وما أحيْلاه من داعٍ حينما يكترع الصائم عبَّ ظمأه من سلسبيل فرحته الصغرى ..كيف بالله ستكون الكُبرى ؟حينما تكتسي أوجه الصباح بالنضرة ..بالبِشْرِ ..بتبادل أنخاب الأمنيات ..بالعِناقِ ..بالقهقهات ..بالتصافح والتسامح وعميق الكلام ..بالابتسامات النديَّات والأنفاس الحرَّى ..بوجيبِ الأحلام والأشواق المشفوعة بالدعاء والابتهال ..حينما يتحلَّل المرءُ من مخيطِ خطاياه وتتقافز روحه نشوى بعد أن تنفض ما علق بجناحيها من أتربة المُقتَرَف المُعاش ..فما أكثر منعطفات حياتنا وزلاَّتها ! كلَّما أطلَّتْ هذه المعاني ؛ يجرفني سيلُ الحنين إلى الوراء .. إلى تفاصيل حميمةٍ تمرُّ أمامي مُنتظماتٍ أو منتثرات كصبايا يتدفَّقن تباهياً بالقشيبِ من الثياب والمُختلِف من ألوان الحلوى و أشكال البسكويت ..تمسح القريةُ عينَيْها بنداوة الأنسام الفجريَّة وعبق الجروف والطمي والبخور واللبن (المقنَّن) والكعك والزلابية .. يُفطر صمتُ الصباحات بشاشةً ونداءً ورجاءً ودعاءً ..عندما تفترش القفشات ظلَّ الضُحى ..عندما يتناغم خرير الشاي وقعقعة الأواني إثر تبادل الصحون والأكواب ..و ألخ تبدو الصورة واضحةً وجليَّةً في مرآة الذاكرة رغم ضبابية الأفق الآني والوضع الاقتصادي المزري الذي تعاني منه بلادنا والفقر الذي يلهب جلود السواد الأعظم من أبناء هذه الأمة المتصبِّرين ، متزامناً و اتّساع تكشيرة غول الأسعار مع تباشير عيد الفطر المبارك ! تُرى هل جاء هذا الغلاء الفاحش – سيَّما في ملابس الأطفال – كنتيجة حتمية لتقافز الدولار المتغطرس في الهواء ومستنزفات الوارد الجمركية والضريبيَّة ؟ أم جاء ابتزازاً من التجّار للمواطن المغلوب على أمره ( هو في البير ؛ يقع فوقو الفيل ؟!) اعتماداً على رهانهم بطبيعة الأطفال ؟أم الأثنين معاً ؟ مهما يكن من أمر فإنَّ تنازل المواطن عن ضروراته الحياتية أصبح يتناسب تناسباً طردياً مع مرور كلِّ يوم ومع مغيب كلِّ شمس للفرَج ومع موت كلِّ ضميرٍ في صدرٍ خَرِب ..فقد ترجم الشعب السوداني مثله القائل : (العين بصيرة والليد قصيرة ) في كل ملمح من ملامح حياته ! بل قصَّرتِ الأرجلُ أيضاً عن الأرحام والواجبات ، فكم حملتْ الوجوه – بعدها - ذاك الملام ؟! لا عن زُهدٍ في الصلات طبعاً ، إنَّما عجزٌ وضيق ذات يدٍ وقلَّة حيلة ..,لكن عندما يصل الأمر إلى رمضان والعيد فذلك لعمري أمرٌ جِدُّ خطير ، لكونه مساسٌ بقدسية شهر (رحمة) وعيد (مُبارك ) ! فلا ينبغي يا أولي الأمر منَّا ويا قابضين على جمر الاقتصاد أو قُل نافخين الكير على جمر الأسعار عمداً أو سهواً أو رعونة ؛ رفقاً بالعباد ! وأنت – يا هداك الله – إنْ أردتَ أنْ تحملَ أبناءَك – مثلي - للتسوُّقِ عبر سرْد الذكريات ، وأنْ تعلِّلهم بالحكي وتشغلهم بلطائف طفولتك الغابرة وغرائب زمانك فتجعلهم يتحلَّقون حولك في فناء الدار لتقصَّ عليهم أحسن القصص من وحي الخيال أو الواقع أو (القطع الاخضر ) .. وكيف كنت وأندادك تفرحون بالعيد في ذلك الزمان البعيد ..فلا تأمننَّ أصغرهنَّ إنْ هي أنصتتْ أو أبدتْ التجاوب ..لأنها ستقف أمامك مباشرةً – بعد أن تفرغ من ترَّهاتك – لتخاطبك بقولها : - لازم يكون بنفسجي – يا بــابــا – زىْ بتاع تمبوشه !!!
** نُشر بالوفاق الخميس 16/8/2012م
09-27-2012, 09:17 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
كانت الطريق سالكةً من أقصى دهاليز آخر خيبةٍ إلى مُدْخَلِ الحُلُمِ المُوارب كنصْفِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ..كشهْقةِ لهفةٍ واجفة ..كهمسةِ ترحيبٍ مضطربةِ الوجيب ..كانجذابٍ صوفيٍّ إلى حلقةِ تَهْيامٍ عامرةٍ بالانعتاقِ والانتفاضِ روحاً وجسـداً ! سالتْ بي خُطاي كمطيَّةِ المَحَجَّةِ الطروب التي تنهب الدروب نِجاداً و وِهاداً ومِهادا ..تتخطَّى رِقابَ الصُّوى والقاعدين من جبالِ العراقيل والمتمترسين خلفَ لافتات : قِفْ للتفتيش ، يسبِّحون بحمْدِ :(أين) ويقتاتون ما بقي من فتات الزادِ وهم ينتزعون دِلاءَ أُنوفهم وأفواههم من أمتعةِ عابري السبيل والظاعنين والآيبين والتائهين والضاربين أكبادَ المُضي – مثلي – لا نكايةً في تلكُّأ الانتظار الطويل ومماحكة الخلسات المتمنِّعات وبيروقراطية الظروف فحسب ؛ إنَّما رغبةً في فقْءِ عينِ شيطانِ الخيبات المتتالية . حيث لا صوت يعلو فوق صوتِ الحُداء : أن سيلي يا خُطى مطيَّتي الطروب وقولي كفرتُ بكلِّ شارات العبور ما عدا الخضراء ! بُلِّغْتُها والصباح يقطُرُ ندىً و وجوهُ الخارجين عن طاعة البقاء داخل البيوت تختلفُ وتأتلف .. تتوازى وتتقاطع ، لكنَّها تتَّفق جميعاً على الخروج وأنا الذي يهمُّ بالدخول على أغنية الوصول والشمسُ في خِدْرِ أُمِّها وتباشير الوعْد المضمَّخِ بالأريج تنضحُ شوْقاً وتوْقاً لمَعْزفِ العشق البهيج ..لأهازيجَ القلب ..لطبول النفرة الكُبرى من لدنِّ الأمنيات اليانعات لسائر الجوارح المتحفِّزة لقطافٍ أزِفَ وقصْفٍ يؤذِّن بالحصاد !! ترجَّلتُ عن صهوة الغُدُوِّ وفي العينين كحلٌ من رهَقٍ ينتسبُ شرعاً إلى السُّرى وطول المسير ..وأرَقٍ تتبنَّاه قولبة الفكرة الأولى ومعاقرة الفرضيَّات وتعاطي بعض سيناريوهاتها ومآلاتها المحتملة ! ترجَّلتُ عن ترَّهات الأوهام وحزمتُ أمري .. سرَّحتُ عينيَّ إلى آخر الطريق ، فعادتا وقد التهمت الأرضُ من عليها ، أو شُبَّه لهما! تحسَّستُ قدميَّ جيِّداً لأباركَ تغلغلهما في النعيم .. وانطلقت .. وعند المنعطف الأوَّل لقيتني نسمةٌ ريَّانةٌ تنبَّهتُ على إثْرِها بدُنُوِّ شئياً ما ..صافحتْني وقالت : لا تحيد ..النهرُ دونك والسراب ..البابُ أمامك والقفر وراءَك .. قلتُ : مرحى يا دليلي و يا طوقَ نجاتي ! افترَّ البابُ المواربُ عن نصف ابتسامة وضيئة ريثما احتواني قبل أنْ يُغلق في وجه الخيبات المتتاليات ! لم يكن في الداخل سوى أمنيَّتي العزيزة التي طالما تعثَّر دونها الطريق وتمنَّعتْ عليها السبُل ..ها قد التقينا إذن ..ثم اعتنقنا لحظة الإجهاش حيناً من الدهر حتى ظننتُ ألاَّ فكاك ..بادلتُها الجنون على قارعة خلوتنا مثنى وثُلاث ورُباع لولا أن رأينا عقارب الأفول ..وفي كلِّ مرَّةٍ كنت أقرأ من سفْر العشق القديم : ((عبَّدتْ أمامى طريقاً تُشير كلُّ الصُّوى - على جانبيها – إلى أنَّ خطاى تُفضى إلىَّ .. و عند سدرة منتهاى ؛ مددتُ عُنقاً مشرئبَّاً من خلال فرجة بابٍ مواربٍ على سهلٍ فسييييييييح !))ضحكنا ثم أردفتُ :(( هرولتْ عدَّة أشواطٍ بين يأسي ورجائي وأنا مسجَّىً بلا حولٍ ولا قوَّة .. ولكن عندما منحتْني قُبلةَ الحياة ؛ شهقْتُ صارخاً : ربَّاهُ قد كنتُ بغيرِ ذي زرع !)) شهقنا ثم ختمتُ : ((استعنتُ بقوقل الصديق ليمنحني خارطة الطريق ؛ المدينة الساحرة ، الحارة الفارهة ، البرج العاجي ، أروقة الذهـــــول ، الحصن المنيع وإنْ شئتَ غرفة النوم .. وعندما سقطَ البرقعُ المُرادُ إسقاطُه ؛ سقطتُ مغْشيَّاً عَلىَّ أنْ دثَّريني زمِّليني !!!)).
نُشر بالوفاق الخميس 30/8/2012م
09-27-2012, 09:25 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
يبلغ المشهدُ ذروتَه التراجيديَّة عندما يستقرُّ رُمْحُ جسَّاس بن مُرَّة بين كَتِفَي كُليْب بن ربيعة .. ولكن لم يجهز عليه .. فقال كُليب وهو يُشارف على الهلاك :( بررْتَ بقسَمك فاسقني شربة ماء ) غير أنَّ جسَّاساً لم يستجب ، بل ينصرف إلى حالِ سبيله ، وفي الطريق يلتقي بعمرو بن المزدلف .. يُخبره بالنبأ العظيم .. فيأتي عمرو كُليْباً المُضرجَ في دماءه ينازع في الرمق الأخير .. يقول كليْبُ :( يا عمرو اسقني ماء ) فيقول عمرو : ( تجاوزتَ الأحَصَّ وماءَه ) ويُجهز عليه في الحال ! هذا المشهد من حرب البسوس التي اشتعلت بين أبناء العمومة أربعة عقودٍ من الزمان ، وبسبب ناقة أو قُبَّرة !وقد هوى – ممَّا هوى – من بين مثار النَّقْع لتلك المعارك المثل الشهير : المُسْتغيثُ بعمْرو عند كُربتِه *** كالمُستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ الذي أيقظ فيَّ هذه المأساة العجيبة والذكرى الأليمة القديمة والمتجدِّدة هو ما طالعناه عبر الصحافة في الأيام الماضية ..ما نشيتات تقطِّع نياط القلوب ، بل تجعل المرءَ يتحسَّس رأسَه لكي لا يجدها خشيةَ أن يستوعب ما يجري لهذا الشعب المقهور والمغلوب على أمرِه .. لتقرأ دون وعيٍ :( عصابات ومواطنون ليبيون يحتجزون ويعتقلون ويعذِّبون السودانيين ويبيعونهم كالعبيد ) !!بل في الاستطلاع الصحفي يقول بعض الشباب العائدين من الجحيم أنَّ جلاَّديهم يسومونهم سوء العذاب من وحي الدراما التركية ويستلهمون تلذَّذهم من الثلاثية القذرة بوادي الذئاب (المخدِّرات ، السلاح والمتاجرة بالبشر )! فإذا كان الأمر كذلك لا بدَّ من حِراك على أعلى مستوى وطني لتدارك كرامة الإنسان السوداني ، فماذا يعني الوطن بلا إنسانه وكرامته ؟! لا بدَّ من تتبُّع جذور المشكل والوصول إلى مَنبت الوجع الخرافي ..فإنَّ عمليَّات المسح على الوبر لن تُجدي فتيلا !!فيبقى السؤال : ما الذي أخرج هؤلاء الشباب من من بلادهم أصلاً ؟والأدهى والأمرُّ من ذلك هي بُشريات الأمين العام لجهاز المغتربين كرَّار التُهامي بتزايد معدَّل الهجرة إلى الخارج بشكل غير مسبوق ، بل كشف عن ارتفاع عدد التأشيرات إلى نحو ثلاثة ألف تأشيرة يوميَّاً ، مُقرِّاً سعادتُه بالتكدُّس والبطءِ في الإجراءات نسبةً لتصاعد أعداد طالبي التأشيرة ! هذا ورغم قلق بعض المراقبين من كون معظم المهاجرين من أساتذة الجامعات والأطباء وغيرهم من الكفاءات ، ولكن وزير الصحة د. مامون حمِّيدة قطع قولّ كلِّ خطيب بقوله : نشجِّع الهجرة فهناك فائض عمالة من الأطباء !! فتأمَّل ، كأنَّ لسان حال الوزير يقول لمن ينتوون الهجرة من الأطباء :( القشَّة ما تعتِّر ليكم ) .. أو (عليكم يسهِّل وعلينا يمهِّل ) ! هذا ( كوم) وموضوع هجرة ثلاثة ألف مواطن حائر يومياً (كوم) آخر .. وبالعودة إلى السؤال : لماذا ترك هؤلاء الوطن والأهل والولد ..فإنَّ الإجابةَ مُلقاةٌ على قارعةِ الطريق وفي مُتناول أيدي الجميع ؛ القاصي والداني ، الواقعي والمُكابر ، وهي الظروف الاقتصادية القاهرة والغلاء الطاحن والقطيعة البائنة بينونةً كُبرى بين مستوى دخل الفرد والحصول على ما يُقيم الوأد.. بالإضافة إلى ما ينتج عن ذلك من فاقة وعطالة وبطالة وفقر كافر وإفرازات إجتماعية أخرى ما أنزل الله بها من سلطان ! إنَّ هذه الأعداد الهائلة التي تزدحم في شبَّاك الرقم الوطني و وزارة الخارجية وجهاز المغتربين وفي الصحراء الكُبرى ومصر والسعودية والخليج وكلَّ أصقاع الأرض ..كل هؤلاء يبحثون عن خارطة سير تقودهم إلى (لُقمة العيش) ! متوكِّئين على مِنسأة أمثالهم الشعبية وسلوى مواساتهم بعضاً بعضاً :(المعايش جبَّارة ) و (المضطر يركب الصعاب ) ..ولمَّا كان صاحبُ الحاجة أرعن كان لا بُدَّ لهؤلاء الشباب من أن يكونوا عُرضةً لسماسرة وكالات السَّفَر والاستقدام والوقوع بالضرورة في براثن المُحتالين من ذوي المظاهر الجاذبة والالسن الطاعمة ، بائعي (التُرْماي) على رمْلِ الوعود العرقوبيَّة !! ولأنَّ الذي يدُه في الماء ليس مثل الذي يده في النار فيا ليتكم أيُّها المنظِّرون والمُخدِّرون من أصحاب الخُطط الثلاثية والخمسية والعشرية ..الغارسين في حواصل الزُّغب الجياع أناشيد الطمأنينة الممجوجة وألحان التعلُّل الخرساء ..الناحرين خُطبَكم العجفاء الجوفاء ..يا ليتكم تتجرَّعون بعضاً من هذا الهوان على الناس ، والذي يتهافت عليه شبابُنا سعْياً على الوجهِ أو مشْياً على الرأسِ ..ليتكم تجرَّعتم القليل النَّذُر منه ؛ إذاً لردَّدتم خلف شكسبير على لسان روميو : (مَن لمْ يذُقْ طعمَ الجراح ؛ يسخرْ من النُّدُوب ) ! فإذا كان الذلُّ والهوان اللذان تجرَّعهما (المهلْهل بن ربيعة) بقيةَ عمره جرَّاء إصراره على الحرب إثر مقتل أخيه كُليب ..وبالتالي ضياع العزِّ والمجد والخُيلاء والبُحبوحة ورغد العيش ؛ بسبب ناقةٍ ، فإنَّ شبابنا يكترع مثلها الآن ولكن بسبب (لُقمة العيش) وحدها لا غيرها !! فارحموا – يا هؤلاء – مَن في الأرض ؛ يرحمْكم مَن في السماء ..أقول قولي هذا بـ (منعرِج ) اللِّوى ولكن لا يزال الليلُ يرفلُ في هزيعه الأخير!!
** نُشر بالوفاق الخميس 6/9/2012م
09-27-2012, 09:29 AM
shazaly gafar
shazaly gafar
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1604
من أقدم الأسلحة المُستخدَمة للهجوم أو الدفاع عن النفس أو لكليْهما ؛ الحيلة .. والحيلةُ لا تقتصر - كما هو معروف – على بني آدم وحدِهم ، إنَّما تتجاوزهم إلى الحيوان ..بل ربَّما استفاد الإنسان – معتمداً على خاصيَّة العقل – من دهاءِ ومُكْرِ بعض الحيوانات وحِيَلِها بعد أنْ يعجنها ويُعيد إنتاجها لينال بها من أخيه الإنسان ! ففي قاعِ البحر مثلاً تجد سمكة البالون أو (التامْبيرة) كما نُطلق عليها في السودان ، تلك السمكة الرقيقة الوديعة والسامَّة القاتلة في آن ..متى ما أحسَّتْ بخطرٍ قادمٍ نحوها كأنْ تقترب منها سمكةٌ أكبر حجماً تهمٌّ بابتلاعها ؛ تنتفخ تلك السمكة الوديعة هواءً وماءً فيتضاعف حجمُها حتى تتكوَّر ، ثم تُشهر سلاحها الناعم نعومةَ الأرقم حول جسمها .. وبذلك تكون قد حفظت حياتَها من العدُوِّ (السمكة الكبيرة ) وإن كان (قرْقوراً) جسوراً أو (كبروساً) فاتكاً ! ثمَّ تنطلق (التامْبيرة) بعد ذلك وهي تبتلع ما لذَّ وطاب من صغار السمك (الصير) ..تعود إلى تسكُّعِها بين الأعشاب المائيَّة واختلاس لحظات الغزل بين أخدانها والإسترخاء المُتخَم بالزهْوِ والحبور ! كلُّ ذلك داخل بحرٍ يزخر بالأسماك الضخمة والتماسيح وشراك الصيَّادين .. أمَّا إذا وقع بها حظُّها العاثر في صنَّارة طفولتِنا اللاهية ونحن نصطاد السمك النِيليَّ ، فذلك أسوأ أيامها ، إذْ كُنَّا نهزُّها من ذيلها فتنتفخ بدورِها ، ثم لا نلبث أن نُعاود هزَّها فتنتفخ وتنتفخ حتى تكاد تميَّز من الغيظ أو تنفجر من (الزعل) كما يروق لنا حسن تعليل حالتها تلك ! غضب (التامْبيرة) هذا نبعثُ به رسالةً من تحت الماء إلى أولئك الذين لفظهم القاعُ أو انتشلتهم صنَّارةُ الحاجةِ الرعناء فأوقعتهم في أيدي العابثين وراء حدود الوجع الذي يبحثُ عن (وجيع) ! ومن كرامات السلحفاة (أبوالقدح ) البيَّنة أنَّه إذا أخفى رأسَه وتقرفص تحت درَقتِه هذه ؛ يصعب المساس به أو اختراق حصنه ،بل يُمكن لإمراةٍ أنْ تجلس عليه داخل مطبخها بدلاً من (البنْبرْ) أو (الكَكَرْ) حتى تفرغ من (عواسة كسْرتِها أو قُرَّاصتِها ) وأبو القدح الخانس داخل خندقه لا يُحرِّك ساكناً ولا يضيره شئ ! ومع ذلك للعسكر (جلالة ) مُلتهبة تقول : ( أبو القدح طلع الجبل) ..هل رأيتَ – يا هداك الله – سلحفاةً تتسلَّق الجبل ؟ أنا رأيتُ كثيراً من السلاحف ذكوراً وإناثاً يتسلَّقون الجبل بسرعةٍ تُدهش القرود القاعدة عند السفوح ! كما رأيت (الورل) الضبّ البرمائي أو التمساح الممسوخ في أساطيرنا الشعبية يتسلَّق أعلى قمَّة النخلة ليلْتهم بيض القُمري ثم يتدلَّى مستخدِماً الجريد في رشاقة لاعب إكروبات ، وفي طريق عودته إلى النهر يتحايل ويخادع الشياه الراتعة في الجروف بصوتٍ شبْه آدمي (نقْرطة) يصدره تودُّداً للشاة ..فإذا ما آنست الشاةُ فيه إلفةً ودنتْ نحوه ؛ انقضَّ عليها وكتف رجليْها الخلفيَّتين بذيله ليرضع كلَّ مافي ضرعها من لبن ! وبالعودة إلي أبي القدح يقول المثل السوداني :( أبو القدَح بعْرف يعضِّي أخوهو وين )وهو بالطبع أدرى بموضع أذى أخيه وابن جلدتِه ، ولا جرم في ذلك فهو (جِنّو المخلوق منّو ) .. وهو أعلم بكسر قاعدة هذه الحيلة التي تجعل أبا القدح في مأمن من المخاطر حيث يُمكنه التطواف بحراً وبرَّاً في رفقة حبيبته (أم دريقة) التي تمتلك نفس خاصية زوجها ..فيسيران متخاصري الخُطى ويعيشان في (سباتٍ ونبات) إلاَّ ما يحدث بفعلِ الحياةِ الطبيعي من الرتابة والبطء .. فقد حكتْ لي – ذات رحلةٍ نيليَّة – إحدى أم دريقات عن جدَّتِها لأمها :أنَّ أبا القدح الكبير – رحمه الله – ذهب بعيداً عندما غاضبته زوجته الحسناء وقتئذٍ أم دريقة ، ثم استلقى على ظهره أ أ قصد قدحه أو درقته فوق كثب رملٍ وثير ورجلاه تسبحان في الهواء : (يا ود بدُر تجيب لي أمْ دريقة هسَّه في رقدتي دي )!! فما كان من أم دريقة إلاَّ ونهضتْ من رقدتها مؤتزرةً (فِرْكتها) لتتَّجه مباشرةً إلى أبي القدح وهي تردِّد : ( يا ربِّي ود بدُر ده مودِّيني وين) ؟!! أمَّا حيلة أم دريقة هذه ندسّها في حقائب المُغاضبين و (الحردانين) الذين غادروا كراسيهم الوثيرة وعادوا تدفعهم (كَشْكرة) المُنادي وهم أكثر شهيَّةً ونهماً لمعاقرة حميميَّة السُلطة والثروة والجاه والأُبَّهة ! إذاً تتعدَّد الحِيَل والغاية واحدة ، كما لا ينفكّ الإنسان ينتقي وينتخب من موائد الحيوانات الحِيَليَّة ليسدِّدها مباشرةً إلى أخيه الإنسان ! أمَّا رسالتنا الثالثة نُرسلها إلى حزب (الفولة) الذي انفلق فلقتين (أحمد وحاج أحمد ) وتطاير بعض نثارها على الرصيف ..ونحن هنا لا يهمنا إن التئمت الفلقتان أم لم تلتئم ..التحم نثارها ليُعيدها سيرتها الأولى أم تبعثر تزروه الرياح! أمَّا ما يهمّنا هو : هذه الرسالة التي عثرتُ عليها في جُحر ضبٍّ خرِب ، بمثابة خطبة وداع أو وصية محتضر من كبير الضباب الذي علَّمهم خاصيَّة البتْر الذاتي : ((خدعتهم بحيلة البتْر الذاتى ..جعلتهم يتقافزون وأنا أركض تحت أرجلهم .. يتصايحون : الضب خصيم الرب ..تركتُ لهم ذنبى يتلوَّى رقصاً ثم دخلتُ جحرى المُظلم العميق ! ..وفى مُدخله التهمتُ هامةً سائبة ..انطويتُ على نفسى ونمتُ وأنا أحلم بجمهورية الضِباب الثالثة .. أحلم وينمو ذنبى ..أحلم ..ينمو .. ينمو ..أحلم ..أح ... ين .. ))!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة