دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(2) ولألوان كلمة: ما آن لأبناء شمال السودان أن يعلنوا دولتهم المستقلة ؟ إلى متى يظل جنوب السودان عائقاً أمام إنطلاق الشمال ؟
الطيب مصطفى
لم أدهش للتداول الواسع الذي لقيته صيحتي للتصدي لمشكلة الجنوب برؤية جديدة تخرج بها عن المسلمات والمعالجات القديمة التي لم تورثنا غير الدمار والخراب والتخلف وفقدان خيرة أبناء الأمة طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمان مما جعل حربنا هذه اللعينة الأطول بين حروب عالم اليوم ، بل ومـن أطول الحروب على إمتداد التاريخ البشري ، كما لم استغرب القبول الكبير الذي وجدته دعوتي لفصل الشمال عن الجنوب ، فقد كنت أعلم ذلك من خلال الهمس الذي كان يدور في المجالس ، لكني إستيقنت الآن يقيناً راسخاً بأن أمر الإنفصال يحظى بتأييد كاسح لدى أبناء الشمال ، وللأسف فإنه لم تقم أية جهة بإجراء إستبيان أو قياس رأي بين أبناء الشمال بعد أن إرتفع الصوت الجهير لأول مرة بين أبناء الشمال معبراً عما كان مكبوتاً أو مسكوتاً عنه… أقول ما من جهة تصدت لهذا الأمر بالرغم من أن قياسات الرأي والإستفتاءات باتت من أهم حيثيات إتخاذ القرار في القضايا الوطنية الكبرى على مستوى العالم أجمع ، ويكفي أن أذكر أن سويسرا إستفتت شعبها حول رأيه في إقامة جسر على بحيرة جنيف !! وبالرغم من أني قرأت كثيراً مما طرحه الشانئون والقادحون على صفحات الصحف ، فإني والله لم أجد حجة واحدة أقنعتني بأن أتخلى عن طرحي للإنفصال ، بل إزددت إقتناعاً ويقيناً ، ولا أقول ذلك إعتداداً برأي أو بخساً للآراء الأخرى التي أحترمها جميعاً ، فقد كان بعض ما طُرح من مخاوف وسلبيات جديراً بالتأمل ، لكن تلك المخاوف لا تعدو أن تكون مثل الآثار الجانبية التي قد تصحب الدواء ، فمن يعاني من السرطان مثلاً يصاب عند تناول الدواء بتساقط الشعر ، لكن هل يمتنع المريض عن تناول الدواء الشافي مضحياً بحياته خوفاً من تساقط شعره ؟! لذلك فإني أطلب إلى كل المترددين أن يفكروا في القضية الكبرى بالمنهج الجديد الذي دعوت إليه وآزرني فيه كثيرون ببيان وحجج أعظم مـن تلك التـي طرحتهـا وذلك بالخروج عن المسلمات القديمة ومألوف الآبـاء والأجـداد الـذي فتـك ببلادنا ردحـاً مـن الزمـان متأسين في ذلك بحكمة العقلاء من الشعوب الأخرى التي جنّبت بلادها العنت والمشقة والتخلف والمـوت والدمــار، وأرجـو أن نتجـاوز العصبيـات الصغيرة سواء كانت فكرية أو جهوية في سبيل الخروج من نفق الأزمة إلى بر الأمان لإقامة دولتين جارتين تعيشان في وئام وسلام . وقبل أن أطرح شيئاً جديداً أجدني في حاجة إلى أن أذكِّر بالتساؤلات الكبرى التي مهّدت بها لطرحي ، وأود أن أوطئ بها لمقالي اليوم ، فقد تساءلت عن أسباب تشبث الساسة في شمال السودان منذ فجر الإستقلال بجنوب السودان بينما لا يبدي ساسة الجنوب معشار ذلك الحماس للتوحد مع الشمال ، بل يتخذون من قضية الوحدة وسيلة ضغط وإبتزاز على أهل الشمال ، ومن هو الطرف الأحق بالحرص على الوحدة الشمال أم الجنوب، ولعل ذلك يولد أسئلة أخرى أختصرها في السؤال هل جني ويجني الشمال على الجنوب أم العكس هو الصحيح ؟!
أقول إنني لست في حاجة لأن أعدد الخسائر البشرية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي نجمت عن حرب نصف القرن ، فقد أفضت في ذلك في مقالي السابق وقلت إن هذه الحرب الطويلة جعلت السودان إحدى أفقر الدول في العالم بعد أن كان من أعظم الدول الأفريقية ودول العالم الثالث عشية الإستقلال ، ولذك فإنه لمن الغريب أن تنطلي علينا تلك الكذبة الكبرى بأن الشمال قد ظلم الجنوب لدرجة أن السيد الصادق المهدي طرح وعلى رؤوس الأشهاد فكرة الإعتذار لأبناء الجنوب عما لحق بهم من ظلم !! ولذلك لا غرو أن يُمارس علينا الإبتزاز بعد أن رددنا (نحن) الكذبة حتى صدقناها ، ولاغرو كذلك أن نغدق على مـن خربـوا البلاد وقتلوا العباد ونمنيهم بالمن والسلوى ولكنهم لا يكتفون ولا يشبعون ونتهافت عليهم وهم يعرضون عنا ونجري خلفهم وهم يصعرون خدودهم لنا ، ونقيم لهم من حر مال الشمال المحروم المطارات والمنشآت وهم يدمرونها ونتلطف بهم وهم يشوهون صورتنا ويعيروننا في إعلام وفضائيات الدنيا بأقذع الألفاظ والصفات… إنه الحقد العنصري الذي بينت لكم جانبـاً منه وأعرض عليكم اليوم على سبيل التذكير حتى لا تنسوا تقريراً كتبه على موقع شركته في الإنترنت بتاريخ الرابع من يناير الحالي الشاب السوداني الشمالي بكري أبوبكر الذي يعيش في أريزونا بأمريكا ويشغل منصب أمين موقع سودانيز أون لاين http://www.Sudanese on line .com وشركته مسؤولة عن الأمانة العامة لإعلام التجمع الوطني الديمقراطي وموقعهم في الإنترنت يضم التجمع الوطني الذي يرأسه الميرغني ويضم بعض الفعاليات السياسية والعسكرية المتمردة أهمها حركة قرنق . وقد أرسل بكري هذا صورة من التقرير على البريد الإلكتروني لكل من الميرغني وقرنق وحاتم السر والفريق عبدالرحمن سعيد ، ويقول بكري في التقرير إنه حضر برنامجاً إحتفالياً اُعد لعبدالعزيز الحلو القائد الميداني وزعيم فصيل جبال النوبة التابع لقرنق والذي كان في زيارة لأمريكا كعضو في وفد حركة قرنق في مفاوضات واشنطون (التي شارك فيها وفد من الحكومة)… وان البرنامج بدأ برقصة شعبية تحية للرجل قدمتها مقاتلات من الجيش الشعبي ، ولفت نظر بكري هذا عدم وجود سودانيين من مناطق السودان المختلفة في الحفل رغم وجود عدد كبير من السودانيين في مدينة فينكس الكبرى ، وقال إنه علم فيما بعد أن اللقاء تم الإعلان عنه فقط وسط أبناء جبال النوبة وجنوب السودان . وقال بكري ما نصه "وكان شخصي الضعيف وصديقي عبدالقادر عثمان الذي وجدته هناك يجلس وحيداً في مؤخرة القاعة وأصبحنا مثل رجل أبيض في كنيسة للأمريكيين السـود من أصل أفريقي فجاورته … بعد ذلك قمت بتوصيل الكاميرا الفيديـو بالكهرباء لشحنها ووصلت المسجل لتسجيل وقائع اللقاء بالقرب من المنصة، وقبل رجوعي لموقعي في نهاية القاعة قمت بأخذ عدة صور للحلو وعرّفته بنفسي" بعد إنتهاء الرقصة الشعبية بدأ قادة الحركة والجيش الشعبي فرع أريزونا كلماتهم الترحيبية بالحلو ، ومن المرحبات بالقائد سجلت هذه الكلمات من إمرأة قيادية في الحركة فرع أريزونا "أنتو يا قائد لو رجال بتاع جيش شعبي ما بقدروا يحرروا سودان من عرب نحن نسوان ممكن يجي يشيل سلاح ويحرر سودان إس بي إل إيه". بعد فترة ـ والحديث لبكري ـ "قمت بفحص الشريط في المسجل لمعرفة ما إذا كان يحتاج لتغيير الجهة ، وإذا بي اُفاجأ برجل من مكتب الحركة فرع أريزونا وكان يجلس بالقرب من الحلو في المنصة يقول لي إن القائد الحلو يأمرني بعدم التسجيل وأن أعطيه الشريط ، ووعدني بالتوضيح بعد اللقاء ، وإلى اليوم لم أسمع منه" ونقل بكري بعضاً مما قاله الحلو وقال إنه يكتب بدون زيادة أو نقصان بعد أن صُودر منه الشريط ويُشهد بكري على ذلك بقوله "والله على ما أقول شهيد" ومما نقله بكري من كلام الحلو "هناك مشكلة كبيرة جداً في السودان وذلك لوجود عدد كبير من السودانيين في المنافي مثلكم ، بدأت الأزمة منذ 40 عاماً منذ دخول الأتراك السودان وعملوا السودان زريبة وهم الذين زرعوا بداية شوكة التفرقة ، العرب كانوا يتحدثوا بمترجمين عند دخولهم السودان وكان هدفهم الأساسي تجارة الرقيق ، الذهب والأموال من جبال بني شنقول ، من التسعينات إستطاع الجيش الشعبي الوصول وإحتلال مواقع في الشمال مثل النيل الأزرق والبحر الأحمر ، بالإضافة إلى المناطق المحررة بالجنوب وجبال النوبة . الحمد لله تم تحرير مناطق كثيرة من الجنوب وتم إصدار العملة الجديدة وسوف يتم إنشاء البنك المركزي قريباً والآن معظم المحلات التجاريــة ملك تـدار بواسطة نـاس مثلكم ، يعني ما فـي عرب ولا جلابـة ولا إغريق … عندهم دكاكين وبارات في المناطق المحررة ، هدفنا أن تكون شولة زي سلوى تكون دكتورة وتسكن الصافية أوالرياض وتركب سيارة مرسيدس ، الحركة الشعبية قدمت الحل الصحيح لمشكلة الدين والديانات وهي فصل الدين عن الدولة وتقرير المصير لجنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق وأبياي ، نجحت الحركة في عزل النظام سياسياً عالمياً وداخلياً وفضحه وإستطاعت الحركة كشف نظام الحكم في السودان وتكوين تحالف للحركة الشعبية مع بقية الأحزاب السودانية" وقال بكري إن محور معظم الحديث كان عن الجلابة والعرب وإنه سجل هذه الوقائع بقلمه بدون الإستعانة بشريط لأنه اُخذ منه ، وختم بكري مرة أخرى بعبارة "والله على ما أقول شهيد". لعل العبـرة فـي هـذه الواقعة التي حدثت في الأيام القليلة الماضية تتمثل في الآتي :ـ 1- إن هذه شهادة شاهد من أهلها ، فبكري من أهل التجمع الوطني الذي يمثل قرنق أهم أضلاعه ، وقد دُعي حسب إفادته من قِبل زكريا دينق أخي فرانسيس دينق الأصغر لتغطية الإحتفال ، لكن مشكلته أنه شمالي (من العرب الجلابة) . 2- حديث من وُصفت بأنها قيادية من حركة قرنق فرع أريزونا ينم عن الحقد العنصري الدفين على أبناء الشمال "العرب الجلابة" والذي أكدنا عليه في مقالنا السابق بالشواهد والإثباتات ، ولعل عبارتها "يحرروا سودان من عرب" تكشف حقيقة وطبيعة التمرد المعبر عنه في اسم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" و"الجيش الشعبي لتحرير السودان" أي تحرير السودان من العرب كمـا أوضحت القياديـة الجنوبية بشكـل صريح أمام الجميع بدون تعليـق أو إعتراض من الحلو الذي أكد على ذات المعنى. 3- كلام الحلو عن دخول العرب السودان لأول مرة وحديثهم إلى الأهالي عن طريق المترجمين ودخولهم للمتاجرة في الرقيق والذهب يعبِّر عما ظل قرنق وقادة التمرد وكل أتباعهم من المثقفين الآخرين يملأون به الدنيا ضجيجاً خاصة في أفريقيا جنوب الصحراء والتي توغر صدور شعوبها الزنجية بمثل هذا الكلام عن العرب وإسترقاقهم للأفارقة ، وهذا يتسق مع ما ذكرنا أن قرنق ظل يردده "إن العرب مكثوا في الأندلس أكثر مما مكثوا في السودان ، وكما خرجوا من الأندلس سيُخرجون من السودان" (بما يعني أنهم دخلاء مستعمرون وكانوا يتحدثون عندما دخلوا إلى الأهالي بمترجمين وان العرب في الشمال لايختلفون عن البيض في جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري) وأشير مجدداً إلى أن قرنق هذا قد شهد مذابح العرب والمسلمين في زنجبار في منتصف الستينات من القرن الماضي عندما كان طالباً في جامعة دار السلام مع صديقه الصدوق موسيفيني ، ولعل عبارة الحلو حول المحال التجارية التي يديرها جنوبيون في (المناطق المحررة) وليس عرب أو جلابة يؤكد ما ظللنا نقوله عن الحقد الأعمى الذي ملأ قلوب هؤلاء وعقولهم على أبناء الشمال الغافلين عما يُدبّر لهم من مكر وتآمر والذين لا يزال بعضهم يدافع عن طروحات قرنق ويستميت في الدفاع عن السودان الموحد الذي يسعى قرنق لتحريره منهم . 4- الحلو هذا يحمل إسماً إسلامياً تماماً مثل مالك عقار زعيم التمرد في جنوب النيل الأزرق والذي قال لأحمد البلال الطيب عندما سأله عن سبب عدم تلبيتهم دعوة الإفطار الرمضاني التي وُجهت من قِبل الوفد الحكومي في مفاوضات مشاكوس ، أجاب "إن بيننا وبين الحكومة دم" . أقول إن الذي يجمع بين هذين الرجلين وبين معظم المثقفين الجنوبيين والذين أوردت رسالتهم لقرنق في مقالي السابق تنم عن حقد دفين يكنه هؤلاء على الشماليين (العرب الجلابة) . وقد نجح قرنـق في المتاجرة ببعض العناصر الشمالية من أمثال ياسر عرمان الذي يدير حملة العلاقات العامة لقرنق في المحيط العربي والمستشار منصور خالد … وعجبي من منصور خالد هذا الذي يعلم الجميع أنه أكثر تأهيلاً من قرنق وأكبر عمراً منه ومن جميع قيادات التمرد ، لكنه لن يبرح موقع المستشار ليتولى منصباً تنفيذياً من المواقع التي يحتلها مـن أبناء الدينكا مـن هم أصغر مـن أبنائه المفترضين وهو يعلم ذلك ويعلم أنه لا يختلف عن بكري كاتب التقرير في شئ في نظر قرنق لأنه وعرمان وغيرهما ليسوا أكثر من كمبارس أو فنيي ديكور ومكياج لتجميل صورة قرنق وحركته العنصرية الحاقدة ، وللأسف فقد أدمن هؤلاء الشعور بالإسترقاق حتى فقدوا الإحساس وباتوا مسلوبي الإرادة لا يدركون مصلحتهم أو معنى لكرامتهم أو واجبهم تجاه أهليهم ، (فلو صدقوا مع أنفسهم وأزاحوا الغشاوة التي تغطي بصائرهم وأبصارهم لاعترفوا بالكثير المثير) ، لكن من يهن يسهل الهوان عليه ؟! وليت الضباط الشماليين الذي خرجوا من أسر قرنق يحكون ما ذكره لي بعضهم عن معاملة المتمردين لهم والحقد والغل وروح التشفي والإنتقام التي تملأ جوانح المتمردين وأعمال السخرة التي كانوا يكرهون عليها أولئك الضباط ، ولذلك فإن مافعله قرنق بالنائب الأول مؤخراً في نيجيريا يصب في ذات الإتجاه إتجاه الإنتقام والتشفي والحقد العنصري الدفين ، ولعل ذلك الحقد يعتبر العنصر الأساسي والمحوري في خطابهم لأبناء الجنوب عامة بهدف قدح الثورة والتمرد في نفوسهم من أجل معركة التحرير من العرب (المستعمِرين)، وأرجو أن أشير إلى أن تركيزي في مقالي السابق والحالي على إثبات الحقد الذي يملأ قلوب هؤلاء العنصريين وتبيان المعنى والمغزى الحقيقي لعبارة تحرير السودان الواردة في اسم الحركة من خلال اعترافات وإفادات قياداتها ، أقول إن الهدف من ذلك كله هو تبصير أهلي من أبناء الشمال بحقيقة ما يُدبّر لهم حتى يصحو الغافلون والمترددون قبل فوات الأوان! كثير من الشائنين أبدوا بعض التحفظات والمخاوف من فصل الجنوب ، وبالرغم من وجاهة بعض تلك الآراء والملاحظات إلاّ أنها جميعاً لم تقدم حلاً بديلاً بعد أن أغفلت الإجابة على أسئلتي التي أكررها مجدداً مؤكداً أن أي حديث لا يتناول تلك الأسئلة يتغافل عن القضية الرئيسية . وأقول متسائلاً هل يقبل هؤلاء بأن يحصل قرنق على حكم الجنوب بكامله مع المشاركة في حكم الشمال بنسبة 40% من مجلس الوزراء والأجهزة التشريعية والقضاء والمحكمة الدستورية والمحكمة العليا والخدمة المدنية خصوصاً الوظائف القيادية والوسيطة والتمثيل الدبلوماسـي والمنظمات العالميـة ، وعلاوة على ذلك أن تكون رئاسة الجمهورية دورية أو في المقابل أن يُمنح قرنق منصب نائب الرئيس بسلطات مماثلة لسلطة الرئيس أي أنه يحق له أن يستدرك على قرارت الرئيس؟ هل يقبلون تملك قرنق والجنوب 60% من ثروة البلاد بحيث يبقى لبقية السودان 40% مع إدراج جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأبيي في أجندة التفاوض كجزء من قضية الجنوب ، وفوق ذلك كله أن تُحكم العاصمة بالقوانين العلمانية ؟ أقول هل يرضى الشائنون من أبناء الشمال بأن نعطي قرنق كل ذلك ولا نبقي للشمال غير الفتات ؟ هل يرضون بأن يقهر قرنق وسياسيو الجنوب شمال السودان خلال فترة الحرب الطويلة ويقهره خلال فترة السلام بتجريده من الثروة التي حرم منها بسبب مشكلة الجنوب طوال ما يقرب من نصف قرن من الزمان وتجريده من السلطة في الشمال بعد أن يمنح حكم الجنوب بكامله بدون مشاركة من الشمال ؟ إن ما ذكرته الآن نقلته من وثيقة رسمية اُرسلت من قِبل وسطاء مشاكوس في الشهر الماضي (ديسمبر) ، فضلاً عن ذلك فإن هؤلاء الوسطاء قد عدلوا من أجندة الجولة الجديدة من المفاوضات بإيعاز من حركة التمرد، ولم تستشر الحكومة في ذلك … وليس خافياً علىأحد أن جميع وسطاء وشركاء الإيقاد يتعاطفون مع قرنق . وعليه فإني أقول بأن كل من كتبوا قادحين حاموا حول المشكلة ولم يغوصوا في السيناريوهات المختلفة لحلها ليختاروا أحدها ، والسؤال هو هل نقبل بتلك المطالب التي أكدها قرنق ونصت عليها مذكرة الوسطاء ؟ إذا كنا لا نرضى بمطالب قرنق المستحيلة فإننا أمام خيارين ، فإما أن تستمر الحرب كما إستمرت لما يقرب من نصف قرن من الزمان بكل ما يعنيه ذلك من تطورات سلبية محتملة في ظل التعاطف الدولي والإقليمي الذي يجده قرنق والتدخل الإسرائيلي المكشوف للإحاطة بمصر والسودان من خلال دعم قرنق وتمكينه من تنفيذ مخططاته والمخطط الأمريكي الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وإحكام الطوق حول عنق السودان ، أقول ذلك وأنا أقرأ عن مخطط أمريكي لتغيير هيكل الحكم في السودان لمصلحة سيناريو جون قرنق حول السودان الجديد ، ويأتي قانون سلام السودان كنوع من الضغط على الحكومة للرضوخ لمطالب قرنق ، وينص القانون على عقوبات إقتصادية على السودان تتضمن حظراً على السلاح مع رصد 300 مليون دولار لحركة قرنق ، أقول إما أن تستمر الحرب بكل هذه التداعيات التي أوقن أنها ستنقل الحرب إلى مرحلة جديدة بعد توقف فترة الهدنة الحالية أو أن نقدم على الخيار المتبقي لنا وهو خيار الإنفصال الذي لا أرى مناصاً منه فهو الوحيد الذي من شأنه أن يوقف الحرب وذلك من خلال التعجيل بتقرير المصير وإجراء الإستفتاء لشعبي الشمال والجنوب بحيث يحق لأي منهما تقرير الإنفصال ، ولذلك على كل الذين ينتقدون طرحي أن يجيبوا على هذه الأسئلة وأن يختاروا بين هذه السيناريوهات أو أن يأتوا بطرح جديد بدلاً من الإكتفاء بالتباكي على الوحدة التي ما دفعني إلى نبذها إلاّ فشلها طوال العقود الماضية في وقف الحرب والدمار والخراب وتعطيل مسيرة السودان ، ولعلي أتساءل إذا كان قرنق يصر على أن يكون الحاكم الأوحد الذي يقرر في كـل الشـأن الجنوبي مع المشاركة في حكم الشمال بنصيب مقدر فأين هي الوحدة التي يتحـدث عنهـا الناس ، ولماذا لا نبقى له الجنوب وحده طالما أنه أصلاً سيكون من حقه ولا دخل للشمال والشماليين فيه ، ولماذا لا نبقي الشمال للشماليين بـدلاً من منح قرنق نصفه مع كـل الجنوب وحرمان أبناء الشمال من الجنوب تماماً ؟ إنها الغفلة والشعور بالذنب عن جرم لم نرتكبه يجعلنا نسير معصوبي العيون نحو حتفنا لنسلم السودان بدون تفويض من شعب شمال السودان لرجل لم يفعل بالسودان غير الخراب والدمار !! فهل من سبيل أمامنا غير الحكمة الإنجليزية (Better late than never) والتي تعني "الأفضل أن تقدم على فعـل ما ينبغي أن تفعله حتى ولو جاء ذلك متأخراً من ألاّ تفعل البتة" ؟ أقول ذلك في ظل الحقيقة المؤلمة بأن صبرنا الطويل على المشكلة لم ينهها بقدر ما عقدها ، فإذا كانت قد بدأت عام 1955م فإنها قد تشعبت مع الأيام ، وإذا كان أقصى طموحات وليم دينق عام 1965م لم تتجاوز منح الجنوب الحكم الفيدرالي فإن نيال دينق ابن وليم دينق وهو من قيادات حركة قرنق ينادي الآن بعد 38 عاماً من والده بتحرير السودان جميعه من العرب … وذلك من خلال حكم الجنوب بكامله والمشاركة الكبيرة في حكم الشمال وتجريده من معظم ثروته لمصلحة الجنوب وذلك كله تمهيداً للإجتياح الكبير الرامي إلى تحرير السودان من (العرب الجلابة) . إن ما يؤلم بحق هو أن الدعوة إلى الإنفصال تمت في وقت مبكر ولعل ما أخرجه لنا عابدون نصر عابدون من الوثائق القديمة مما طالب به الشاعر الدبلوماسي يوسف مصطفى التني عام 1964م أي قبل 39 عاماً من الآن حين نادى بفصل الجنوب يعتبر إدانة للأجيال المتعاقبة منذ فجر الإستقلال وحتى اليوم ، وتخيلوا ما كان سيكون عليه حال الشمال والجنوب الآن لو كان الساسة قد حسموا أمرهم منذ ذلك الحين وفصلوا الجنوب وُوظفت عشرات المليارات من الدولارات التي اُغرقت في مستنقع الجنوب في تنمية الشمال الحزين … إنني بذات الفهم أخشى أن تنقضي 39 سنة أخرى نعض بعدها أصابع الندم والحسرة التي نتجرع علقمها اليوم أسفاً على ضياع تلك السنين الغالية من عمر السودان ، لكن الأمر هذه المرة أعجل من 39 سنة بل أعجل من عشر سنوات مع تسارع وتيرة الأحداث وتسارع وتيرة أحكام الطوق حول عنق السودان ، وهكذا فإن العدو أمامنا والبحر من خلفنا ونحتاج إلى عزيمة طارق بن زياد لنكتسح حقول الألغام المنصوبة أمامنا بحنكة وحكمة ونحتاج إلى أن نعد العدة الآن حتى لا نؤخذ على حين غرة وذلك بالإستعداد لفترة ما بعد مشاكوس التي يسعى قرنق بتشجيع أمريكي لإفشالها بحيث يعلن عن ذلك في اللحظة التي يكون فيها جاهزاً لإستئناف القتال ووقف الهدنة خاصة وأن الرجل يتحرك الآن على المستوى الداخلي حشداً للقوة وللمؤيدين في الإستوائية وجبال النوبة والإنقسنا والمستوى الخارجي جمعاً للسلاح ، وتأتي زيارته وزيارة صديقه موسيفيني لإسرائيل مؤخراً في هذا الصدد .
يتواصل فى البوست التالى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
أما الخائفون على الوحدة الوطنية ومن تشرذم السودان جراء فصل الجنوب فإني أورد المثل القديم مجدداً لأقول إن هؤلاء يشبهون من يرفض بتر ساق المصاب بالسرطان مثلاً خوفاً من عدوى قد أكرر قد تصيب الساق الأخرى ذلك أن مشكلة جنوب السودان تختلف عن مشاكل بقية الولايات الأخرى لأن عناصر التوحد بين أبناء الشمال والجنوب تكاد تكون منعدمة تماماً فاختلاف العرق والدين واللغة والعادات والتقاليد والوجدان والمشاعر المشتركة يحتم إنتهاج نهج جديد من التفكير خاصة بعد أن فشلت كل محاولات الجمع بين شعبين متنافرين في وطن واحد، ولايمكن لعاقل أن يرضى باستمرار هذا النزيف إلى الأبد ، ومن الوهم الزعم بأن أبناء جبال النوبة مثلاً بمن فيهم العرب ومن يعيشون في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة وهي المساحة الأكبر يمكن أن يقدِّموا الإنضمام إلى دولة قرنق على البقاء في دولة الشمال التي يعلمون تسامح أهلها الذين يعيش بينهم في وئام وسلام معظم أبناء الجنوب الفاريـن من الحرب وأبناء النوبة ، فضلاً عن أن جبال النوبة لايمكن أن تقيم دولة منفصلة ولكن هب أن جبال النوبة إختارت الإنفصال فهل هذا يمثل سبباً في الإبقاء على الحرب إلى الأبد … لذلك أقول إننا لا نخشى تفجر الصراعات في بقية أنحاء السودان لأن فصل جزء من الوطن تقليد عُمل به في أماكن مختلفة من العالم خاصة وأن وقف الحرب من شأنه أن يوقف الهدر الذي يستنزف معظم موازنة السودان كل عام ، ويُمكِّن من تنمية مختلف مناطق السودان خاصة الفقيرة منها والتي ظُلمت طويلاً بسبب الجنوب الذي دمـر نفسه ودمر السودان جميعه لعقود من الزمان . وأقول إنه لا توجد مشكلة شرق أو غرب وإنما هي تداعيات للمشكلة الكبرى وأمراض جانبية من إفرازات الداء الأكبر ، وبمجرد زوال ذلك الداء ستعود المياه إلى مجاريها والحياة إلى ما كانت عليه في السابق . إن الذيـن يوردون حجة الخوف من تمزق السودان وغير ذلك من الحجج التي من شأنها أن تبقي على الوضع الحالي لم يقدموا سيناريو بديل لحل مشكلة الحرب المستعرة لعقود مـن الزمان ، وكل هذه الدعوات العاطفية إلى التصاهر والتعايش وإزالة أزمة الثقة لا تقدم حلاً للمشكلة وإنما تجعلها عرضة للتعقيد الذي ثبت أن الزمن لا يخفف من غلوائه بقدر ما يزيد من ضراوة وتيرة إشتعال الحرب وإنتقالها إلى مناطق أخرى تماماً كما يفعل السرطان الذي لا يوجد حل عند إستفحاله غير البتر والإستئصال ، وقد جربت أقوام وشعوب أخرى ذلك بالرغم من أن مشكلاتهم لم تبلغ درجة إستفحال مشكلتنا هذه اللعينة التي عطلت مسيرتنا وجعلتنا محلاً للسخرية والتندر والإستخفاف حتى من الصغار مثل أفورقي وموسيفيني اللذين ما كان ينبغي أن يتطاولا حتى على أضعف ولاياتنا ، وهذا والله أمر محزن لا يليق بشعب السودان بكل ما عُرف عنه من صفات نبيلة هو جدير بأن يحتل بها السيادة والريادة بين العالمين . وأقول إن مثل هذه المخاوف من عواقب الإنفصال عُولجت في الدول التي إختارت ذلك الطريق كحل لا مفر منه ، فمثلاً أريتريا وأثيوبيا عالجتا مشكلة نزوح مواطني كل من الدولتين ممن كانوا يعيشون في البلد الآخر وكذلك مشكلة المهاجرين عند إنفصال باكستان عن الهند… إلخ . بعضهمم يتعللون بأن أمريكا تجمع في أحشائها شعوباً كثيرة من العالم أجمع تعيش جميعها في سلام ووئام ، ولكن ينسى هؤلاء أن أمريكا لا تعاني اليوم من حرب أهلية ولم يشن السود الذين ذاقوا ويلات الإسترقاق على أيدي البيض حرباً على بلادهم وعلى مواطنيهم كما حدث في السودان ، ولو وجدت حرب أهليه لتحركوا في سبيل حلها ولم يركنوا إلى الواقع القائم لعقود من الزمان ، لكني أعجب ممن يستشهدون بأمريكا بالرغم من ضعف الحجة ويتناسون العديد من التجارب الأخرى التي ذكرتها في مقالي السابق ، ثم ان هناك تجارب لدول انقسمت على أسس عقائدية بالرغم من توافر عناصر التوحد بين أبناء تلك الشعوب ولكنها ما لبثت أن عادت للتوحد بمجرد زوال الأسباب مثل ألمانيا التي توحدت بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ، كما أن أوروبا الآن تتوحد بسبب تكاثر دواعي التوحد ، ولكن ذلك يتم بصورة طوعية لا قسرية ، فجمهوريات الإتحاد السوفيتي التي وُحدت بالقوة بالرغم من تنافرها ما لبثت أن انفصلت عن دولة القهر فور زوال القبضة الحديدية ولا يزال بعضها يسعى للفكاك مثل الشيشان ، وأود أن أردد تساؤلات بعض الأخوة لماذا يا ترى لا نتيح فرصة للإنفصال كما أتحنا للوحدة نصف قرن من الزمان قضيناها إحتراباً وفشلاً فلربما تندمل الجراح ويتغير الحال وتنشأ عوامل توحد جديدة في المستقبل حتى ولو على أساس المصالح المشتركة . يتساءل البعض كيف ستُعالج حالة الجنوبيين المسلمين أو المستضعفين ممن يخشون بطش قرنق وتكرار مذابح الهوتو والتوتسي بعد الإنفصال ، وأرد على ذلك بالقول بأن كل هذه قضايـا ثانوية ينبغـي ألاّ تقدم على القضية الرئيسية فالمصاب بالسرطان كما بينت لايقدم تأثيراته الجانبية على معالجة وإستئصال المرض الفتاك قبل أن يؤدي إلى الوفاة ، كما أن المريض بذلك الداء يفضِّل بتر ساقه والعيش بقية عمره بذلك الوضع على ترك الداء يستشري في بقية الجسد ويقضي على حياة المريض على أن ذلك لا يعني ألاّتُعالج مثل هذه القضايا الجانبية بأفضل الوجوه بالرغم من أننا قد نضطر إلى التعايش بمثال الساق المبتورة في الجسد السليم أحياناً، فمثلاً يمكن السماح بهجرة هذه العناصر المسالمة الخائفة من جحيم قرنق إلى الشمال كلاجئين أو مواطنين كما يحدث في أوروبا وأمريكا ، والمهم هو أن يُعالج هذا الأمر لكنه لن يُقدَّم بأي حال على جوهر القضية التي أهلكت الحرث والنسل . البعض أفاض في ذكر الأمثلة لبعض المخلصين من دعاة الوحدة من أبناء الجنوب الذين قضى بعضهم في ساحات القتال وهؤلاء نسوا أنني استخدمت عبارة معظم ولم أعمم ، وبيني وبين بعض أبناء الجنوب ود واحترام كبير وأعرف عن صفاء سريرتهم ، ومن هؤلاء رياك قاي وأليسون مناني مقايا ، كما أعرف بعض الشهداء من أمثال عبدالله ويلكم الذي كان أخاً في الله لبعض أبنائي وخاض معهم غمار المعارك في الجنوب حتى استشهد ، لكن تلك النماذج الفردية وعلاقتي الشخصية معها لا يمكن أن تكون سبباً في الإنصراف عن قضية الوطن الكبرى المتمثلة في الحرب ، فالخاص ينبغي أن ينزوي عندما يتعلق الأمر بقضية عامة . يتساءلون ما هي الضمانات لتوقف الحرب بعد الإنفصال ، وأقول إن ذلك يحدث بمشاركة المجتمع الدولي وبموجب إتفاقيات تشارك فيها المنظمات الدولية كما حدث في البوسنة وأريتريا وأثيوبيا ، صحيح أن الحرب إندلعت بعد ذلك بين الدولتين لكنها بالطبع لم تستمر أكثر من أيام قليلة ، وما كان لها أن تنشب أصلاً لولا طيش أفورقي وتهوره ، ولكن هل يمكن أن نعقد المقارنة بين تلك الحرب القصيرة وحرب الثلاثين عاماً والتي أفضت في النهاية إلى إستقلال أريتريا ؟
البعض إتهمني بالتعبير عن رغبة لدى الحكومة تسعى من خلالها إلى فصل الجنوب للإنفراد بحكم الشمال بدون مشاركة القوى السياسية الأخرى وأورد بعضهم علاقة الدم التي تربطني بالرئيس ، وأرجو أن ترجعوا لحسين خوجلي وأحمد البلال الطيب ومحمد محجوب هارون الذين طلبت منهم ألاّ ينوهوا عن المقال مسبقاً لأني كنت أخشى أن يُمنع نشره ، هذا فضلاً عن أن الناس قد يذكرون مقابلة لي مع صحيفة أخبار اليوم قبل نحو ست سنوات نُشرت بعنوان ضخم يقول على لساني "لن أذرف دمعة واحدة إذا إنفصل جنوب السودان" فموقفي قديم لكنه إزداد رسوخاً مع الأيام ، وفجّر موقفي الحالي تطاول قرنق الأخير خلال مفاوضات مشاكوس وتهافت الحكومة على إرضائه بالرغم من أنه هو الذي ينبغي أن يسترضي الحكومة فالشمال الذي يمتلك كل مقومات الدولة لا يحتاج إلى الجنوب بقدرما يحتاج إليه الجنوب الذي ظل على الدوام عالة على الشمال ، فلماذا إذن يبتزنا قرنق وكأن الشمال سيهلك جوعاً إذا انفصل الجنوب لا العكس .
وأردت بصحيتي أن أعبِّر عن دهشتي لهذه الغفلة التي تجعلنا نتشبث بمن دمر بلادنا وشوه سمعتنا بالباطل بين العالمين بالرغم من أنه كان ينبغي أن نسعى نحن للخلاص منه بأكثر من سعيه هو للإنفصال عنا وأن نبتزه نحن بدلاً من أن يبتزنا فهو يحتاج إلى الشمال لا العكس ، ولذلك أقول إنه ينبغي أن نعجل بالإنفصال إنقاذاً لمستقبل أجيالنا الجديدة وتكفيراً عن جريمة كبرى إرتكبناها في حق وطننا وأهلينا . وأقول إن كثيراً من الناقدين يتركون جوهر القضية ويلقون بالتهم يساراً ويميناً ، ويعلم الله وحـده أنه ما من أحد كان يعلم عن المقال قبل أن أشرع في كتابته ، ولم استشر أحداً عندما دفعت به إلى الصحف الثلاث التي ما نشرته في يوم واحد إلاّ لأهميته وقصدت بذلك إطلاع أكبر عدد من القراء عليه، والصحافة كما تعلمون تبحث عن السبق الصحفي والإثارة . أقول ذلك لأؤكد أني أردت بطرحي هذا مخاطبة أبناء الشمال خطاباً وطنياً قومياً شاملاً لهم جميعاً متجاوزاً الإنتماءات الحزبية الضيقة ومحذراً من الخطر المحدق بالسودان عامة وبالشمال خاصة ، وإنتقدت الحكومة لحشدها أبناء الجنوب خلف قرنق بمنحه رمزية التعبير عـن أشواقهم فـي السلطة والثروة بينما لم تنجح في حشد المواعين السياسية المختلفة المستقطبة لأبناء الشمال والمتمثلة في الأحزاب ، وذكرت بالاسم الصادق والميرغني والترابي ، وقلت إن هؤلاء أقرب إلى الحكومة من قربهم لقرنق لأنهم لا يجرأون على إستعداء جماهيرهم والموافقة على مطالب قرنق المستحيلة ، فضلاً عن أن قرار فصل الجنوب يحتاج إلى إجماع وطني يتم عن طريقين فإما أن تتفق الأحزاب الكبيرة ، وإما أن يُجرى إستفتاء شعبي ، وأنا على يقين أن أبناء الشمال مؤيدون للإنفصال بنسبة هائلة ، وأرجو ألاّ تتردد الحكومة في إنفاذ سيناريو الإنفصال خوفاً من تحمل نتيجته ، فمثل هذا الكلام يكون صحيحاً عندما يكون القرار خاطئاً ، لكن إذا كان القرار صحيحاً وسيجنب البلاد ويلات الحرب ويوفر الموارد للتنمية فلماذا الخوف منه … إن الزعماء الذين إتخذوا قرارات الإنفصال في هذا العالم لا يُذكرون ألاّ بالخير لأنهم جنبوا بلادهم شرور النزاع والحروب . البعض إتهمني بأني أصدر في رؤيتي هذه عن عقلية عنصرية ، وأود أولاً أن أكرر أن الإستعلاء حقيقة بشرية موجودة في كل العالم ويُمارس على الشماليين في كثير من بلاد الدنيا ، ومن بينها الدول العربية ، كما يُمارس على بعض القبائل في جنوب السودان من قِبل قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها قرنق ، وقد ضربت مثلاً بالإضطهاد الذي يتعرض له الفرتيت وغيرهم من قِبل قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها قرنق ، كما يعاني منه السود في أمريكا حتى اليوم لكنهم لا يحملون السلاح على مواطنيهم كما يفعل قرنق وكثير من ساسة الجنوب الذيـن يملؤون الدنيا ضجيجاً لتشويه صورة أبناء الشمال من (العرب تجار الرقيق) . أما بالنسبة لي على المستوى الشخصي فإني أقول لمن إتهمني بالعنصرية بأني اعتقد إعتقاداً راسخاً في قوله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وفي الحديث الشريف (لا فضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى) ، ولن أقدم بين يدي الله ورسوله ما وسعني ذلك وأسعى على الدوام لقتل المشاعر العنصرية في نفسي بمواقف عملية لأن العصبية العنصرية في تعريف الرسول (ص) جاهليـة منتنة ، ولذلك أقولها بصدق بأني لن أتردد في قبول زواج أي مسلم جنوبـي من ابنتي عنـد موافقتها على ذلك ، ولو كان يحل زواج المسيحي أو الوثني لفعلت ذات الشئ ، فكيف بربكم أرفض رجالاً في قامة وخلق موسى المك كور وعبدالله دينق نيال وشول دينق . وأنا لم أذكر في مقالي السابق كلمة توحي بإحتقاري للعنصر الزنجي لأن الزنوجة تجري في دمي ودم أبنائي وليت من إتهموني بالعنصرية يسألون الأسرة الجنوبية التي تقطن منزلاً عشوائياً مجاوراً لمنزلي ليعلموا كيف أتعامل معهم ، لكني رغم ذلك أرفض دفن رأسي في الرمال على طريقة النعام ، بينما الحرب تطحن البلاد والعباد ، وأقر تماماً أن هناك حواجز نفسية كبيرة وأحقاد مريرة بين أبناء الشمال والجنوب سمها إستعلاء عرقي أو غير ذلك ، لكنها الحقيقة التي ينبغي أن نتعامل معها وننطلـق منها ومن غيرها لنبحث عن حل للمشكلة . إني عندما أنحاز للشمال أفعل ذلك لأني شمالي مثلما أن قرنق جنوبي يسعى في مشاكوس وغيرها لاعظام حق الجنوب من الثروة والسلطة ، كما أن الحكومة أرادت أم لم ترد تعبِّر عن الشمال بسعيها لتقليص وتقليل جموح قرنق ومطالبه المستحيلة في السلطة والثروة من خلال سعيها لمساواته ببقية ولايات السودان وأقاليمه ، وللأسف فإن من وصفوا حديثي بالعنصرية هم الذين يملأون الدنيا ضجيجاً عن الشفافية وحرية التعبير ، ولكنهم هنا يستاءون من إفصاحي برأيي الذي لم أرد منه ألاّ حل مشكلة الحرب المتطاولة بدلاً من السكوت والركون إلى الحلول والمسلمات والثوابت القديمة التي لم تورثنا غير الدمار والتخلف ، ولذلك دعوت إلى رؤية جديدة سبقنا إليها كثيرون في هذا العالم دون أن يدمروا أنفسهم وبلادهم ، لكن البعض يريد لنا أن نظل سائرين في حقل الألغام إلى الأبد متشبثين بمألوف الآباء والأجداد (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) عاكفين على عبادة صنم الوحدة الكذوب وكأن قرآناً يُتلى قد تنزّل بتقديسه لا إستعماراً بغيضاً أرادها سكيناً سامة تنهش في جسد الأمة … إستعماراً تحكي وثائقه عن زرعه للمشكلة عن طريق قانون المناطق المقفولة الذي منع التزاوج والتصاهر الإجتماعي بين أبناء الشمال والجنوب وأضرم نيران الفتنة ولم يغادر البلاد قبل أن يتحقق من إشتعالها في توريت عام 1955م ، وبالرغم من علمنا بكل ذلك وعلمنا بضآلة ما يجمع بين شعبي الشمال والجنوب نصرُّ على هذه الخطيئة غير معتبرين بكل ما حدث من خراب ودمار وتخلف . ثم ينبغي أن أتعرض للدور المصري في السودان وموقف مصر الإستراتيجي من قضية وحدة السودان ، وأقول إن على مصر أن تعيد النظر في موقفها من هذه القضية بحيث تتـرك السودان يقرر ما يراه متسقاً مع مصالحه ولا تفرض رؤيتها أو تمارس الضغوط في سبيل إنفاذها في السودان ، فلو كان السبب في موقفها يعود لخوفها على مياه النيل فإن مصر تعلم أن 86% من مياه النيل تأتي من النيل الأزرق الذي لا يمر بجنوب السودان ، لذلك فإن أبناء السودان ينظرون بكثير من الريبة والشك للدور المصري في السودان منذ عهد الفراعنة مروراً بفترة الإستعمار المصري الذي يُسمى تأدباً بالتركي ثم الإستعمار الإنجليزي المصري ثم فترة ما بعد الإستقلال ، حيث ظلت مصر تفرض على السودان مبدأ الوحدة بدون أن تدفع في سبيل ذلك قرشاً واحداً وكأن السودان لا يزال جزءاً من مصر ، وقد ملّ أبناء السودان عبارة مصر والسودان جسد واحد التي كررها بعض المسؤولين المصريين في زياراتهم الأخيرة ذلك أن سائر الجسد يتداعى بالسهر والحمى عندما يشتكي عضو من أعضائه ، لكن القاهرة لم تسهر يوماً أو تصاب بالحمى طوال فترة الحرب المتطاولة والمدمرة التي ضربت السودان وعطلت مسيرته وقتلت خيرة بنيه وإنما ظلت تفتح ذراعيها وقلبها لقرنق حتى الآن وإلى الغد ، بل وتخفف عليه بفتح الجبهة الشمالية … قرنق الذي ظل يحمل السلاح ضد السودان لما يقرب من عشرين عاماً ولو تعامل السودان بالمثل لقامت الدنيا ولم تقعد … قرنق الذي كانت أطروحته للدكتوراه عن قناة جونقلي وكان أول ما فعله عند إعلان تمرده وقف العمل في القناة وتدمير منشآتها بالرغم من أنه كان مفترضاً أن تدر على مصر أربعة مليارات متر مكعب من المياه كل عام !! ثم إن مصر وقعت إتفاقية كامب ديفيد رغم أنف جميع الدول العربية لكي توقف حربها مع إسرائيل حفاظاً على دماء أبناء شعبها ومواردهم ، لكنها لا تسمح للسودان بأن يختار الطريقة التي يحافظ بها على دماء وموارد شعبه حتى لو إستمرت الحرب مائة عام وهلك كل السودان وشعبه ، لذلك لا غرو أن تغضب مصر عند توقيع تفاهم مشاكوس لمجرد أن مشاكوس أقرت حق تقرير المصير لجنوب السودان ، وقد استمعت لمصطفى الفقي رئيس أهم لجانهم البرلمانية وهو يحاضر الشعب السوداني والحكومة السودانية مرتين من خلال القنوات الفضائية المصرية عن الخطأ الفادح الذي وقعـت فيـه الحكومة السودانية بتوقيعها تفاهم مشاكوس واستخف الرجل بتمسك السودان بالشريعة الإسلامية ، وصدقوني أن الرجل كان يتكلم يطريقة مستفزة لا تطاق وكأن السودان بقرة في حظيرته ، وتخيلوا ما كان سيحدث لو أن أحمد إبراهيم الطاهر أو عبدالرحمن الفادني إنتقد مصر لتوقيعها كامب ديفيد وتخليها عن دورها التاريخي مقابل ثمن بخس وطالب بطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة … لذلك أقول إن على مصر أن تعلم كيفية التعامل مع الشعب السوداني الذي يستفزه كثيراً فرض أجندتها عليه ، وعليها أن تترك الشعب السوداني يقرر ما يراه خادماً لمصالحه ، أما أن نفني السودان وموارده وأبناءه في سبيل خدمة الإستراتيجية المصرية وبالمجان فهذا ما لا يجوز ، وعلى الأخوة في مصر أن يعلموا أنه ينبغي عليهم أن يعملوا على أن يختار أبناء الشمال الوحدة مع مصر بدلاً من العمل على أن يجتمع الشمال والجنوب في دولة واحدة ، فمصر أقرب إلى الشمال من قـرب الجنوب للشمال وأنا من أكثر المؤيدين لوحدة شمال السودان مع مصر فهو الحل الوحيد الذي من شأنه أن يصنع من الدولتين قوة عظمى في عالم لا يحترم إلاّ القوة وهذا حديث يطول . أقول بأن على الحكومة ألاّ تجامل أحداً على حساب الشعب السوداني وألاّ تخدعها الأماني والشعارات والكلام المعسول ، فقطرة دم واحدة أهم من كل الوعود (والفهلوة) المجربة كثيراً بلاعائد وعليها أن تُقدم بشجاعة فالوقت يمر والخيارات محدودة ، ولا زلت أوقن بأن تطويل الفترة الإنتقالية لا مبرر له البتة ، أولاً لأنه لا يحق للحكومة حرمان أبناء الشمال من حقهم في تقرير مصيرهم ، لذلك فإن سعي الحكومة لبذل الغالي والنفيس في سبيل إسترضاء أبناء الجنوب خلال فترة إنتقالية متطاولة مدتها ست سنوات لكي يقفوا إلى جانب الوحدة ما عاد مقبولاً أو مبرراً لأني أعتقد أن الجدير بأن يُسترضى حتى يقبل بالوحدة هم أبناء الشمال بإعتبارهم الخاسر الأكبر من الحرب والزاهد الأكبر في الوحدة والمضحي الأكبر في حالة فرضها حرباً أو سلماً لأني أعلم يقيناً الآن أن غالبهم وكثرتهم الكاثرة يرغبون في الإنفصال أكثر من أبناء الجنوب ، وحتى لو قرر أبناء الجنوب البقاء في وطن واحد مع أبناء الشمال فإن من حق أبناء الشمال أن يقرروا مصيرهم ويحددوا ما إذا كانوا يرغبون في أن يضمهم وطن واحد مع أبناء الجنوب ، وبالتالي يصبح أمر منح الشعبين ذات الحق في تحديد علاقتهما المستقبلية ببعضهما البعض أمراً لا غني عنه ولا مفر ، وبالتالي يسقط خيار الفترة الإنتقالية تماماً ألاّ بالقدر الذي يسمح بإجراء الإستفتاء للشعبين بحيث يصار إلـى إعتمـاد الوحـدة في حالة واحدة فقط هي موافقة الشعبين كليهما بحيث لا يقصر قرار الوحدة على موافقة أحدهما دون الآخر ، ولذلك أدعو إلى إعادة صياغة أجندة الحكومة وأولوياتها في التفاوض بحيث تقلل الفترة الإنتقالية إلى عام واحد فقط يُجرى خلاله إستفتاء الشعبين ولا أرى أي مانع يحول دون إستفتاء أبنـاء المناطق الثلاث محل النزاع بحيث يختارون البقاء مع الشمال أو الإنضمام إلى دولة قرنق في جنوب البلاد ، وأنا مطمئن تماماً للنتيجة .
الطيب مصطفى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(3) ولألوان كلمة حسين خوجلى
المقدمة ما يزال مقال الاستاذ الطيب مصطفي يثير الكثير من اللغط والمناقشات من اقصي اليمين الي اقصي اليسار، وما بين مؤيد ومعارض .. ولان المقال اراد به صاحبه وجه العمل الوطني الخالص ولكي تثمر الحوارات والردود رأت «الوان» افساح هذا المكان للمقال التالي والذي ارسله صاحبه دون ذكر اسمه تحت توقيع مراقب : - ما لا يعلمه الطيب مصطفى عما يكنه الجنوبيون من حقد على أبناء الشمال كنت مسؤولاً عن دائرة الجنوب في الحزب الشيوعي السوداني وهذ1 أتاح لي من المعلومات والمتابعات ما لم يُتح للكثيرين ، وكنت متفرغاً لهذا العمل تماماً فملأت القضية كل جوانحي ، ولكن المسؤولين في الحزب ضاقوا بما كنت أعرضه عليهم من نتائج وخلاصات واعتبروها غير ثورية ، وبلغ الأمر ببعضهم أن إعتبرها "ردة " ، وهكذا عملوا على إقصائي من تلك المسؤولية . كان الأمر مؤلماً بعض الشئ أول الأمر لكنه أتاح لي فرصة التفكير الحر ، واعترف اليوم أنني أصبحت أكثر وطنية مما كنت حين كانت تقيدني سلاسل المسؤولية الثورية ، هذا من غير قدح في وطنية الرفاق ولكنه إختلاف في تقدير الأمور . غير أنني أستميح القراء عذراً لأنني سأستخدم إسماً رمزياً تقديراً لروح " زمالة " لازلت أكنّها لكثير من زملاء ورفاق في الحزب الشيوعي السوداني ، فأنا لا أريد أن أكون أحمد سليمان آخر . وأود تحديداً أن أشرك القراء الكرام في " بونانزا " من المعلومات أتاحها لي إمساكي بملف الجنوب وأثـّرت فيها لقاءات في نيروبي وممبسا وكمبالا ولندن وفي الخرطوم بالطبع مع عدد مقدر من قيادات حركة قرنق , وركَّزتها قراءات ومتابعات في الأدب السياسي الغربي وكتابات وإصدارات حركة قرنق ، هذا بالطبع بالإضافة لمطارحات خصني بها نفر من قيادات التجمع في الخارج ومتابعات لمواقف وآراء الأحزاب المختلفة في " المسألة الجنوبية " . وأبدأ بلقاء ضمني مع أحد مسؤولي حزب الأمة كان مسؤولاً عن الإتصال مع حركة قرنق ، ضمني معه في نيروبي في حضور أحد الأبناء كان هرب حديثاً من صفوف مقاتلي حركة قرنق في نيروبي مع بضعة وعشرين شاباً أرسلهم حزب الأمة وقتها لقتال حكومة الإنقاذ في الجنوب ، وكان ذلك الرجل وقتها ضابط الإتصال بين حزب الأمة وحركة قرنق ، وكانت تجمعني معه صداقة غير أن المسكين لم يكن وقتها يعلم أنني شيوعي ومسؤول في الحزب ولا يهمني أن يعرف ذلك الآن ، فقد بعدت الشقة بيني والرفاق رغم أن أخلاق السودانيين تحول بيني وبين مهاجمة من أكلت معه "الملح والملاح" . أقول إن أهم إفادة بالنسبة لي خرجت من ذلك الفتى حديث الهروب من حركة قرنق : إن جنود الحركة وتحديداً الدينكا منهم مشبعون بكراهية لا حدود لها لكل شمالي بمن في ذلك هو ورفاقه المقاتلون معهم ورفاق خنادقهم فقط لأنهم (مندكرات) ولهذا كانوا يضغطون هؤلاء (المندكرات) ولا يعاملونهم معاملة (رفاق السلاح) بل يوكلون إليهم فقط الأعمال المهينة والوضيعة مثل كنس المعسكرات وغسيل ملابس الضباط وبعض الجنود وحمل متعلقاتهم الشخصية وحراستهم أثناء الممارسات الجنسية مع عشيقاتهم . أما ثاني الوقائع المؤسفة فهي إفادة أحد أبناء الحزب من خريجي الجامعات وممن قاتل في صفوف الحركة ، وخلاصتها لدى لقائه بي بوصفي المسؤول عن الجنوب أنه يريد أن يُعفى من العمل العسكري في حركة قرنق لأن الحركة وكل منسوبيها من الجنوبيين (يكرهون الأضان الحمرا) . وأضاف (يكرهون بشدة كل الشماليين ولا يثقون حتى فيه هو الذي يقاتل معهم) ، ثم قال بأسى (مسكين ياسر عرمان كتل ود الأقرع فتورط وخايف من ثأر أهله في الشمال)!!! وأستعير عبارة هذا الشاب الأخيرة لأقول مسكين الطيب مصطفى فقد أجهد نفسه في إيراد الحجج المعضدة لرأي فصل الجنوب رغم أنني إقتنعت بحكم متابعاتي اللصيقة للملف أن الغالبية العظمى والكثرة الكاثرة من أهل الشمال لم تعد تحتاج لمن يعدد لها منافع ، بل وضرورات الإنفصال . وأخطر من ذلك الذي ذكره الطيب مصطفى هو (قوائم التصفيات) التي أعدتها الحركة والتي أعلم أن الرفيق نقد إطلع عليها ولم يأبه لها ، كما لم تثر اهتمام جل قيادات الحزب الشيوعي السوداني. هذه القوائم تشمـل رموزاً وشخصيات لن يستطيع المجتمع السوداني أن يستغني عنهم ، وليتها إقتصرت على (الجبهجية) فقط ، لا وشرفي فقد شملت رؤساء تحرير صحف ورجال دين وأئمة وسياسيين بارزين وأطباء ومحامين ومهندسين وضباط جيش وأساتذة جامعات وإعلاميين ورأسماليين ، الجامع الوحيد بينهم أنهم (شماليون) مندكرات ، والمؤسف أن بعضهم يناصب الحكومة العداء وبعضهم لا صلة له بالسياسة البتة . وقد ذكرني هذا بما قاله (نيال دينق نيال) القيادي في حركة قرنق الآن وابن السياسي الجنوبي المعروف وليم دينق ، قال ذات مرة في كمبالا إنهم في الحركة ترسخت لديهم القناعة أنه لا يمكن التفاوض مع أي حكومة في الشمال (لاحظ أي حكومة) إلاّ بعد أن يتساوى الشمال بما لحق بالجنوب من دمار ... عندها سيتساوى الشمال مع الجنوب وعندها فقط سيكون التفاوض بين (متساويين) . وأضاف نيال أنهم سيستمرون في الحرب لأنه ليس لديهم ما يخسرونه في الجنوب ، فلا مدارس للأطفال ولا كهرباء ولا بيوت فخمة ولا مستشفيات ولا جامعات. والمتابعون يعلمون جيداً أن قرنق قال في خطاب أخير لجنوده بعد توقيع مشاكوس الأولى : (إنه لن يترك هؤلاء الجلابة المندكرات) حتى بعد الإنفصال ، وهذا الخطاب موجود ومسجل بالفيديو . أترى ستحلم الحكومة الآن وبعد هذا الخطاب (بالوحدة الطوعية) وماذا يريد قرنق من الوحدة طوعية كانت أم قسرية في ضوء ما يتوفر لدينا من معلومات عن ثروة قرنق التي فاقت المائة وخمسين مليوناً من الدولارات الجميلة ، وعما يعرف عن مزارعه في هراري والذهب ، نعم الذهب الذي فاض حتى بات يشتري به الرؤساء والمسؤولين في دول الجوار الجنوبي . وأرجو أن أذكر هنا أنه سبق أن حصل على ماكنيتين من جنوب أفريقيا ينقب بهما عن الذهب في جنوب كبويتا . ماذا يريد بالوحدة طوعية كانت أم قسرية وربيكا زوجته تنعم بالمرسيدس الذي إشترته من السفارة الإيرانية في نيروبي وقد كنت شاهداً على ذلك ، ويا له من مر سيدس وأبناؤه يسرحون ويمرحون في الملذات في بريطانيا وأمريكا وبلاد أوروبا الجميلة ومنهم بالطبع ابنه الأكبر مبيور المتخصص في عرض وتصميم الأزياء النسائية ويعيش حالياً في أمريكا ويلبس السلاسل الذهبية حول رقبته بينما يسوق قرنق أطفال الجنوب إلى الموت الزؤام صباح مساء . ليس قرنق وحده الذي أصبح (لورد حرب (War Lord ، فالمتعة والثراء طال أليجا مالوك قريبه ودكتور جستن ياك اللذين كانا مسؤولين عن الأغاثة والعمل الإنساني يتناوبان عليه ويبيعان هما وبقية (الكماندرز) أسلاب الإغاثة في قولو وكنـقم اليوغنديتين ، وما أسهل وأمتع الرشاوى في بلاد الجنوب الأفريقي . صدق الطيب مصطفى حين قال إن الجنوب هو الذي أفقر الشمال وكل السودان ولولا الجنوب لكـان السودان علـى أقل تقديـر مثل كوريا الجنوبية أو مثل ماليزيا . وليـت الساسة يجـدون الشجـاعة ليعلنوا ما صُرف على الجنوب تحديداً في الفترة 1973م - 1983م مما أعلمه وهو أكثر مما صُرف على الشمال ، ويقيني أن ما صرفته الحكومة الحالية على الجنوب وعلى الحرب يفوق تلك الأرقام أضعافاً مضاعفة . ولم يكن الطيب مصطفى أول من جهر بفصل الجنوب ، فقد سبقه إليها من المعروفين السياسي الشهير خضر حمد حين كتب ذلك في الصحف السيارة في الستينات ، وسبقه إليها مؤخراً بروفيسير عبدالله علي إبراهيم والصحفي محمد طه محمد أحمد . نعم لم يكن الصادق المهدي حين كان يحاور حسن الترابي في مكتب دكتور كامل إدريس في رئاسة منظمة (الوايبو) في جنيف ، لم يكن منتبهاً أن للحيطان آذان ، وأن مكتب كامـل إدريس كان Bugged ومغطى من قِبل المخابرات السويسرية ، وأوصلته للعزيزة الـ CIAوعلم به المصريون ثم التجمع وليس بعد التجمع سر . (بالطبع سينفي الصادق المهدي غداً أنه لا يمانع في فصل الجنوب) ، ولن ينجيه ذلك من قائمة التصفيات ، كما لن ينجي بعض من في التجمع الآن ، وحتى إن أنجاهم ما طعم الحياة بعد أن يستحيي قرنق النساء ويقتل الأبناء ، ما طعم الحياة بعد التباب والخراب وتقتيل الأهل والعشيرة ، بل وما طعم السودان بعد قتل شيخ الهدية والشريف الهندي ودكتور أبو صالح والفريق سيد أحمد حمد والنيل أبوقرون (ترى ما ذنب النيل فهو فكي ولا يعمل بالسياسة) ودكتور الكباشي وتيسير محمد أحمد ، نعم تيسير محمد أحمد ، بل وما لون السودان وما رائحته حين نصبح فلا نجد مبارك الفاضل وشيخ عبدالحي يوسف وعلي شمو ؟ ومحظوظ الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم فقد أنجاه عزرائيل من مجزرة شنيعة ، ونسيت القائمة المكونة من الصفحات ذوات العدد . الذي أعلمه أن جون قرنق معجب بمدينة واحدة في كل الكرة الأرضية هي مدينة ممبسا الكينية التي تحولت في ظرف 15 سنة من مدينة عربية إسلامية إلى مدينة أفريقية مسيحية ، وحتى عمدتها أصبح مسيحياً أفريقياً ، وهذا نموذجه لمدينة الخرطوم وكل مدن الشمال الكبيرة ، فالرجل عاصر مجزرة العرب في زنجبار عام 1966م علي يد القس نايريري وقد كان قرنق حينها طالباً في جامعة دار السلام مع صديقه الوفي موسيفيني ، ولا يظنن غافل أن هذه الملايين من الجنوبيين الذين تغص بهم مدن الشمال جاؤا على نفقتهم الخاصة من كل أصقاع الجنوب ، لا فوراء هذه الهجرة المدبرة ملايين الدولارات للترحيل ثم الإسكان والإعاشة ، ودونكم خطة البابا POPE PLAN التي اُعلنت عام 1988م ، وأسألوا الصادق المهدي عن الذي توصلت إليه الـ AD HOC ommittee (اللجنة الخاصة) التي كونها هو لدراسة خطة البابا لإرجاع السودان لأصله المسيحي ، دعوه يحدثكم عن أكبر هجرتين منظمتين نزلت الأولى بكاملها من القطار في سوبا ، ونزلت الثانية بكاملها من القطار وإستقرت في دنقلا (لاحظ سوبا ودنقلا ، يعني بعربي جوبا الفصيح علوة والمقرة) ، ليت ساستنا يجدون الشجاعة ليعلنوا عما يعلمون !! عملي السري في الحزب أقنعني أن كل السياسيين السودانيين الكبار يخافون من شئ واحد هو مصر ، بعضهم يخافها لأنها إطلعت على عوراته ونزواته ، وبعضهم يخافها لسطوة إعلامها السياسي ، وبعضهم يخافها لأنها تستطيع أن تسلط عليه رجالها في صحافة الخرطوم ومنتدياتها السياسية ، وهذا هو السبب الذي يجعلهم يرتعدون من ترداد كلمة (الإنفصال) فهي الكلمـة الحرام . وأنـا أعلم أن الدبلوماسية المصرية مجندة الآن بكاملها ـ كأولوية تفوق أولوية إسرائيل لدى مصر ـ ضد إنفصال جنوب السودان ، وتسلك لذلك دروباً شتى من بينها تخويف الغربيين من سيطرة المتطرفين المسلمين على الدولة في شمال السودان وإستغلال الرعب الذي أصابهم بعد سبتمبر إلى أقصى مدى ممكن من جماعة بن لادن "الجبهة" ، ومن بينها دعم أسياس أفورقي وأصدقائنا في التجمع والميرغني وجماعته . ونعلم في الحزب الشيوعي أن السياسة المصرية في السودان أعني الإستراتيجية السياسية الدائمة بغض النظر عن من يحكم السودان هي (أن يبقى الإقتصاد السوداني ضعيفاً وأن تحكمه حكومة ضعيفة) ، ولم يجد المصريون أفضل من حرب الجنوب لتحقيق هذه الغاية . يشارك (الوحدويون المصريون!!) في ذلك رفاقي الذين بعدت بيني وبينهم الشقة . وقبل أن أنسى يجب أن أسجل هنا أن الذي صدمني من حركة القرنق وموقف الحزب هي معلومة كانت في قائمة التصفيات وهي أن أحد أقربائي العزيزين ، بل وأحد أولياء نعمتي ومن الذين أسهموا في تربيتي وتعليمي كان اسمه في القائمة ، وقد أثر ذلك وأسهم في (عودة الوعي) كما يقول توفيق الحكيم إذ قلت في نفسي ما جدوى الحياة بعد قتل هذا وأشباهه ... أي خيانة أكبر من السكوت على مثل هذا ؟؟!! هل يعني الحفاظ على شرفي الماركسي أن ألـوذ بالصمت إزاء تصفية الأهل والعشيرة ؟ وهل يعني (الإنتماء الوثيق) ـ كما يقول بعض الزملاء في الحزب ـ قبول تقتيل العرب الجلابة الشماليين ؟؟!! وسط من يعمل الحزب الذي تتكون الغالبية العظمى من كوادره من هؤلاء العرب الجلابة الشماليين ؟؟ من صلاتي السابقة مع الجنوبيين أيقنت أنهم ليسوا مثلنا في الشمال في شئ !! ليس ثمة رباط يجمعنا ، فالتباين الثقافي والبون الشاسع في هذا معلوم وهم ليسوا مسيحيين حتى نعقد مقابلة بينهم والمسلمين ، وكل شئ مختلف في تفكيرهم بيننا ، فوجدت أنني أحرث في البحر ، فالأرضية الوحيدة لدى الجنوبي هي قبيلته ، وكنت أتوهم أول الأمر أن انعدام أو ضعف الدين لديهم ميزة لعملنا الحزبي ، فاكتشفت أن الطروحات التي تحرك الشماليين لا تحرك فيهم ساكناً ، فالفكر مختلف وما يثير الشماليين لا يعني لديهم شئ (والمخلات بالشرف الوطني) مباحات لديهم ، فهم يحترمون (القبيلة) وهذا ما أضعف عملنا الحزبي بينهم كل هذه السنين ، ولذا ظللت أضحك من الذين يهدرون أموالهم لأغراض (التشريب العقائدي) بين الجنوبيين وينسون عامل القبيلة . حتى (الخجل) مختلف البواعث بين شقي الوطن في الشمال والجنوب ، فما يخجلهم غير الذي يخجلنا ، بالطبع لا أريد أن أقول البتة إنه ليس لديهم قيمهم الخاصة ، ولكن أردت أن أشير إلى مواطن المفارقة والخلاف ، فمثلاً نجد أن المال العام ضعيف الحرمة لدى قادتهم ومتعلميهم إلاّ القلة وهذه من مصائب أفريقيا جنوب الصحراء بصفة عامة ، وأنا أعلم حساسية هذا ، ألم يقل فرنسيس دينق (إن الذي يفرقنا هو ما لا يُقال) ؟؟!! الذي غاب على الطيب مصطفى ان دعوته لتكوين (حركة تحرير شمال السودان) ستكون محفوفة بالصعاب ، وليذكر أن جون قرنق قال لبونا ملوال حين حذره الأخير أن تشدده سيجعل الشماليين يميلون إلى فصل الشمال عن الجنوب ، فأجابه قرنق إن فصل الشمال ليس بالأمر السهل (They have to fight for it)(عليهم أن يقاتلوا من أجل ذلك) ، وهذا ما نشـره بونا ملوال وقـرأه الناس ، ولكـن الذي لم يدركه قرنق أن الحكومة الحاليـة ـ رغم خلافي معها وكرهي لها ـ علمت الشماليين كيف يقاتلون بضراوة (Tooth and nail). أخيراً يبـدو أن للعمر تأثيراً ضخماً على بلورة الأفكار وأحياناً التمرد على المألوف ، ويبدو لي أن تقدمي في العمر الآن جعلني ألتفت إلى المخاطر المحدقة بأهلي من قِبل قرنق وأهلـه ، ولذا سأتبرع بمعلومتين للحكومة ـ ليس حباً فيها ، ولكن حفاظاً على أهلي ـ الأولى : إذا أرادت الحكومة شعبية حقيقية كاسحة فلتفصل الجنوب اليوم قبل الغد ، والثانية : راقبوا الذين يبيعون السجائر في نواصي الشوارع فهم الذين يراقبون كل الشخصيات الهامة في المجتمع وبتوصياتهم تعرف الحركة أين يقيم كبار الساسة والتنفيذيين وقوائم التصفية ، علاوة على المهام الإستخبارية الأخرى . علي عبدالباقي علي شيوعي نص نص
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(4) ظاهرة الانهزاميين الجدد والاستخفاف بمرتكزات الأمن القومي العميد أمن «م» حسن بيومي [email protected]
مازالت مشاهد المجاهدات السياسية للدكتور علي الحاج الذي كان يمثل آنذاك أحد أهم أركان النظام وهو يحمل الجمل بكل ماحمل إلى فرانكفورت- لكي يفاجئ الجميع بطرحه المستفز آنذاك للمشاعر الوطنية والذي يدعو فيه إلى منح حق تقرير المصير للاخوة أبناء الجنوب تم هذا في اللقاء الذي حدث في فرانكفورت وبترتيب من جهات لها مصلحة في ذلك مع بعض التيارات الجنوبية النافذة والتي كانت تطالب بالانفصال آنذاك. هذه الدعوة بكل ما كانت تحمل من قرارات سياسية واستخفاف بمصير السودان مازالت حبيسة في مجرى القصبة الهوائية للبلاد وتعوق مسيرة انسياب وحدة السودان الوطنية، وجاءت مقررات أسمرا لكي تزيد الطين بلة وتجرع الكثيرون من أبناء هذا الشعب الصابر مرارة عصارة نبات الصبار « المستخدم احياناً في فطام الأطفال عند الرضاعة» عندما حاولت الانقاذ إضفاء الصيغة الدستورية على هذه الدعوة المؤثرة على أهم مرتكز للأمن القومي السوداني .«الوحدة» في اتفاقية الخرطوم للسلام، ونخالها نحن من أجل تخفيف وطأتها على النفس سواء كان مقدمها من هنا أم من هناك ما هي إلا نوع من أنواع الكيد والمزايدات والابتزاز السياسي الذي ألفه الناس في مراحل مسيرة الأداء السياسي المعوج البناء في كثير من بلدان العالم الثالث وخاصة في ظل الأنظمة التي يتسم اداؤها بقدر من شمولية الحكم .. هذه المشاهد وتلك المجاهدات مازال غبارها الداكن يعطر أجواء الساحة السياسية في البلاد واذا بنا نفاجأ في الآونة الأخيرة بطرح أخطر أتى به نفر على شاكلة توجهات الدكتور علي الحاج السياسية ومن نفس نسيجه الفكري قد لانشك في وطنيته وصدقه مع النفس ولكن نتشكك في «منطلقاته السياسية» ومبعث الأحباط المكونات النفسية لهذا النوع من الطرح الذي ينم عن اليأس والعجز في نفس الوقت وليس هذا مبعث الهم والاهتمام بالنسبة لنا.وإنما حلّ بنا نكد الدنيا عندما لامست هذه الدعوة بخشونة زائدة عن الحد أمراً يعد أهم مرتكز للأمن القومي السوداني «الوحدة» واصابته هذه الدعوة في مقتل ووصلت الجرأة بالغاء وتخطي كل المشاعر الوطنية السامية لأبناء هذا الجيل فحسب وانما بالنسبة للأجيال السابقة واللاحقة وذهبت في مسيرة طرحها وهي غير عابئة بالعواقب إلى مرافئ الصحف السيارة والندوات العامة، تهلل وتكبر لهذه الدعوة معرضة بهذا المسلك أهم مرتكز للأمن القومي السوداني للاستهانة والاستخفاف وليس أمام أنظار أبناء الشعب السوداني بمختلف طبقاته وطوائفه فحسب وإنما أمام كل من له اهتمام ومصلحة في السودان سواء في الداخل أو الخارج من المراقبين الأجانب. وكان لزاماً علينا من منطلق المسئولية الوطنية أن نقرع ناقوس الخطر ونقول ونذكر ونعيد بأن الذي يحاول البعض التلاعب بمقدراته المقدسة سواء أكان من أهل الشمال أم من أبناء الجنوب وغيرهم. هو السودان. البلد العظيم الذي خصه الله من دون غيره من البلدان الكثيرة بمتسع المساحة ووافر الثروات. لم يولد اليوم وإنما ولد عندما نال استقلاله عام 1956م وتربع على عرش خريطة العالم بكل فخر واعتزاز وتعاقبت على ادارته حكومات مهما اختلف الناس في ادائها الاداري والاقتصادي والسياسي فهي في النهاية حكومات وطنية قامت كل منها بتسليم خريطة السودان كاملة غير منقوصة للأجيال، التي جاءت بعدها ولم تدّع أي من هذه الحكومات سواء مدنية كانت أم عسكرية بأنها تمثل آخر مطاف السلطة والحكم في البلاد ولهذا ذهبت بأي صورة من صور الذهاب وهكذا ينبغي أن يكون عليه حال الانقاذ. والذي نريد أن نخلص إليه بأن بريطانيا بكل ماكان لديها من كبرياء وجبروت لم تجرؤ على تقسيم السودان وكان بإمكانها أن تفعل. ولكن عندما آن الأوان قامت بتسليم السودان بكل خرائطه سالماً لابنائه لحكمة استخبارية سنوضحها فيما بعد .. نعم زرعت بريطانيا في خريطة السودان قبل تسليمها كمية من الألغام السياسية الموقوتة. هذا اعتراف منا بذلك والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وغداً وبعد غدِ ماذا فعلنا نحن وكيف تعاملنا مع هذه الألغام. ولماذا نحن نتوقع من انجلترا غير ذلك. وذلك هذه استخبارية تحتاج إلى شرح لاحقاً! وبدل محاولات أبطال مفعولها بالحكمة واعمال العقل قادنا العجز بفعل قلة الخبرة والدراية والادراك إلى القيام بتفجير هذه الألغام. لغم آثر لغم وبإرادتنا الحرة وبغير الحرة أحياناً، وقد أوصلنا العجز إلى مانحن فيه الآن.من وهن سياسي وحيرة نفسية وتآمر خارجي وضعنا في محطة الخيارات الصعبة المحددة وأوصلنا اليأس الذي دبغ النفوس للدرجة التي أضحى فيها ما كان يستعصى على الفكر سراً أم جهراً ماساً بمقدرات الأمة، يطرح على قارعة الطريق ويتقبله نفر من الناس بقدر من الاستحسان ويتناوله البعض الآخر في مجالسهم الخاصة كالأقاصيص والأحاجي بدون خجل، أو مساءلة: إن اعتلاء المناصب العامة في البلاد بدون مسئوليات وطنية يحاسب عليها كل من اخطأ أو حاول عن قصد أو من دون قصد في حق هذا البلد سواء كان يعزف منفرداً أو كان لاعباً في فريق سياسي. هي آفة من آفات ممارسة العمل العام والسياسة في السودان منذ آمد بعيد وليست آفة هذا الزمان الذي أخذ فيه بعض الكبار الذين يعلمون بأن للعزف قواعد وللعبة قوانين تحكمها، أخذوا يلوكون عبارات تكاد تكون من المستحيلات ان تلاك في غير هذا الزمان ويدعون إلى دعوات تعد من كبائر السياسة في حق الوطن ومقدسات البلد ولاتستقيم مع متطلبات ومقتضيات الأمن القومي للبلاد والسبب يرجع إلى سماحة النظام والفهم المتدني لحدود حرية الرأي المسموح بها بدون ضوابط والتي قد تصل وقد وصلت بالفعل في شكل دعوات قد تندرج تحت مهددات الأمن القومي السوداني اذا أطلت في زمان غير هذا الزمان .. وللذين وراء هذه الاطلالات السياسية الماسة بمقدرات الأمة وكرامة الوطن. بغض النظر عن سوء التوقيت الذي جاء هاتكاً للرغبات القومية في الدولة الساعية إلى تحقيق السلامة في ظل الوحدة. ومصادماً للواقع والأهداف الاقليمية والدولية في المنطقة وبغض النظر عن القناعات المستجدة كأحد افرازات اليأس والعجز نقول لهم انما يجري في الساحة السياسية السودانية الآن تجاوز ما أنتم حالمون في تحقيقه بمراحل. وليس أمام جميع الأطراف المعنية بالأمر غير امساك ماتبعثر من الريح والريع السياسي.اذا سمحت أمريكا بذلك، أمريكا التي نزعت حل الأزمة السودانية من الجميع وفرضت نفسها على حل الأزمة السودانية وهي سيدة العالم لديها مآرب سياسية واقتصادية ودينية وغير دينية في السودان ولديها خطط وسياسات وبرامج مرتبطة بكثير من النواحي الاستراتيجية في المنطقة ولديها أعوان في الداخل وأعوان في الخارج وليس هذا بغريب أو مستغرب على أمريكا ولديها آليات تستخدمها في تحقيق مآربها المشار إليها. بالكامل وفي هذا الظرف بالذات ونحن الذين مكناها في التدخل في شئوننا الداخلية ونحن الآن امام امتحان صعب وخيارات أصعب في ميشاكوس وفي واشنطن وفي كرن «إنها لورطة» وليس أمامنا من مخرج غير توسيع أوعية المشاركة الوطنية ولكي يتحمل الجميع مسئوولياتهم الوطنية. وقبل أن نبحر في استعراض مآرب امريكا في السودان أحب ان اطمئن بأن امريكا لن تسعى لفصل جنوب السودان وإنما هي ساعية في تحقيق وحدة السودان لأن مآربها لن تتحقق إلا في ظل وحدة السودان ولكن في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية مغايرة للواقع الحالي تماماً. وانها ساعية بكل تأكيد ولأسباب داخلية وخارجية في تحويل كل مايتعلق بشأن البترول السوداني إلي ادارة البنك الدولي تنمية وتطويراً وادارة وتوزيعاً هكذا فعلت في جمهورية تشاد وهي ماضية في مسألة بترول السودان في هذا الاتجاه هذا مشهد من مشاهد الواقع السياسي الذي يعاشه السودان والذي فرضته علينا أمريكا. وان الشعور بالعجز عن مواجهة هذا الواقع المؤلم هو أحد أهم مسببات الإحباط الذي حمل بعض أبناء الشمال على افراز هذا النوع الخرب من الدعاوي الانهزامية كمحاولة يائسة لتغيير هذا الواقع المفروض علينا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وهنالك واقع آخر ووطني من الصعب جداً تغييره أو محاولة الالتفاف حوله لأنه يحمل قدراً من الوطنية وقدراً من المخاطر المتعلقة بتغيير المواقف المبدئية. وان أية محاولة لطمس معالم المسئولية في هذه المسألة الحساسة ستكون غير مجدية لأن ماوراء القصد من هذه الدعوة في غاية الوضوح .. إن المطالبة بانفصال الشمال عن السودان وليس عن الجنوب والانفراد بحكم الشمال وعلى حساب من!! على حساب التضحية بالوطن وعلى حساب التضحية بدماء الشهداء. ومؤكد سيكون لهؤلاء الشهداء داخل قبورهم العديد من التساؤلات وبحسبان أنهم أحياء عند ربهم يرزقون. اذا كان هذا ممكناً ومشروعاً بعد المطالبة الشمالية بفصل الشمال، وللأسر وعائلات الشهداء في دورهم وديارهم تساؤلات اذا تبقى لهم من حقوق على دورهم وديارهم بعد ظهور مثل هذه الاطلالات السياسية ولأبناء وأحفاد الشهداء تساؤلات اذا لم يذهب الاحباط بآمالهم وجفت الدماء الزكية في أوعية مستقبلهم من جراء ظهور مثل هذه الدعوات التي اسميناها مجازاً بالاطلالات السياسية لكي نخفف قدر الإمكان من وقعها المؤلم على نفوس الأبرياء الذين ذهبوا وعادوا اليوم يتساءلون وهم الآن في ديار غير ديارهم، لماذا كان كل هذا الدمار البشري وغير البشري؟ من أجل من؟ ولمصلحة من؟ اذا لم يكن من أجل بقاء السودان ومصلحة السودان؟ ألم تكن اتفاقية الميرغني قرنق عام 1989م هي أفضل الحلول المطروحة والمتاحة، بدل كل هذه المتاعب والتدخلات الخارجية. فمن المسؤول عن كل هذا الخراب والدمار الذي تعددت جوانبه واتجاهاته، وما هي حدود المسؤوليات الوطنية وضوابطها في البلاد، وأين كانت هذه القناعات التي بنيت عليها هذه الحلول السهلة وليدة اللحظة صعبة المنال، في هذا الظرف بالذات، في أي قاع من مستودع القناعات كانت تخطر مثل هذه الحلول عندما كان الشباب يضوح بلا دراية وبالحماس فقط والأرض والحرث والضرع يحرق .. والشباب الواعد ينزف ويتألم ويحترق والاسر ثاكلة والأموال تُُصرف والموارد تُهدر والوقت يمضي والوطن يتوه ويحترق. إن الاجابة على كل هذه التساؤلات أمر في غاية الصعوبة الأمر الذي يعرض واقعاً يصعب مواجهته في ظل الظروف الراهنة.. وأن هذا الواقع لا فكاك منه بمثل هذا النوع من الحلول السهلة الصعبة التحقيق في نفس الوقت وأن محاولة الاقتراب من هذا الواقع بمثل هذا النوع من الحلول - المطروحة - في الساحة الآن - ستقود الموقف للانفجار في أية لحظة وخاصة إذا تزامنت هذه اللحظات مع لحظة الاحباط الماثلة. إن فكرة فصل الجنوب عن الشمال، بالنسبة لحزب الجبهة القومية فكرة قديمة، الهدف منها الانفراد بحكم الشمال، ولكن عندما جاءت الجبهة الى الحكم ولأسباب تكتيكية أرجأت تنفيذ هذه الفكرة والواقع فرض عليها أن تسير في هذا الاتجاه خطوة خطوة. وبدأت بالفيدرالية باللين مع من توالى مع النظام وبالشدة مع من عارض النظام من أبناء الجنوب. عندما تعثرت «الملاواة» باللين مع بعض أبناء الجنوب الذين توالوا مع النظام بسبب عدم الجدية والمزايدات السياسية واستعصى حسم المعارضين عبر البندقية وبسبب كثرة التدخلات الأمنية تغيرت الصيغة القديمة واضحى مفاد الطرح المستحدث فصل الشمال عن الجنوب والسكوت عن الحديث بالنسبة لبقية الأقاليم بحسبان أنها شمالية إيذاناً لخلق مواجهات مستقبلية جديدة. 1/ وإذا كان الأمر الآن انتهى الى المطالبة بفصل الشمال عن الجنوب من أجل الانفراد بحكم الشمال، نقول بكل الوضوح إن هذا الطرح بهذه الصورة مرفوض من قبل أبناء الشمال وأبناء الجنوب.. إن واقع الشمال السياسي يقول هذا، ولكل طرف معنى لديه اسبابه ومسبباته، ويمكن الاستماع لوجهة نظرهم من هذا الطرح بهذه الصورة، كما أن فصل الشمال أو الجنوب لن يكون هو الحل الأمثل، ولأن هناك أماكن ومناطق كثيرة تطالب بالحكم الذاتي وأن أمر السودان ليس بهذه السهولة. 2/ إن الدول المجاورة للسودان بأجمعها بعد تجربة الحكم الاسلامي في الخرطوم مهما تغيرت السياسات والمواقف، وعلى رأسها مصر التي وقفت مع هذا النظام في البداية بكل قوة، وبالرغم أن هذا الاتجاه ربما يكون في صالح العروبة و الاسلام .. إلا أن واقع الحال الأمني يقول إن مصر والدول المجاورة لم يكونوا سعداء بهذا الاتجاه ولأسباب عديدة.. أغلبها يتعلق بقضايا الأمن القومي المصري والعربي والافريقي بالإضافة الى أن مصر التي سامحت وتسامحت مع نظام الخرطوم في الآونة الأخيرة لاعتبارات اقتضتها المصالح العليا للبلدين في المحافل الدولية وغير الدولية. لكن المتابع لسير العلاقات بين البلدين يلاحظ، بأن قيادة مصر على المستوى الشخصي لم تغفر للخرطوم ما حدث في أديس أبابا وعلى المستوى الشخصي ويلاحظ أيضاً أن العلاقات المصرية السودانية بالرغم من تحسنها ما زالت هنالك جوانب مهمة حبيسة المسافة ما بين النسيان والغفران ولاعتبارات أمنية. 3/ إن الولايات المتحدة الأمريكية التي انتزعت ملف حل الأزمة السودانية من الجميع وفرضت نفسها على الحل في مشاكوس وواشنطن وكرن وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر لن تقبل بوجود حكومة إسلامية ذات توجهات دينية غير محددة، في الشمال، وإذا كانت الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر لها رأي في كثير من المناشط الدينية في المملكة العربية السعودية التي تُعد الحليف والصديق الاستراتيجي في المنطقة العربية والاسلامية بأسرها، فما بالك مع حكومة اسلامية في شمال السودان، والسودان ما زال في كشف الارهاب الأمريكي بالإضافة الى صدور قانون سلام السودان، ماذا يعني كل هذا. وعلى الذين يفكرون في فصل الشمال عليهم أن يقرأوا الواقع جيداً. بالإضافة الى أن نية الولايات المتحدة لم تتجه إطلاقاً الى تفتيت السودان أو فصل جنوب السودان عن شماله، وأن إصرار أمريكا على وحدة السودان أكدها دانفورث في تقريره الشهير - ولكن علينا ان نتوقع سوداناً جديداً مغايراً لسودان اليوم، سودان لكل السودانيين وليس لفئة معينة فيه. وإن كان لابد من حدوث خسائر سياسية للبعض والمهم أن يجيء هذا التغيير لمصلحة الكل والوطن وكنا نتمنى أن تجيء على أيدي أبناء السودان وبدون تدخلات خارجية في شكل حكومة مركزية قوية شمالية كانت أم جنوبية - منفردة أم مؤتلفة لكل السودانيين وتكون بمثابة أساس «الأسمنت المسلح» للوطن الموحد. 4/ إن العقيد جون قرنق فشل تماماً في تحقيق أي نصر عسكري حاسم على الأرض ولكنه عبر الأساليب الاستخبارية والمراوغات السياسية تمكن من تصويب كمية من سهام اليأس المسمومة الى صدور بعض أبناء الشمال، ضعاف الحمية الوطنية للدرجة التي تبدلت فيها أحوالهم واضطربت أحاسيسهم ومشاعرهم الوطنية وفقدوا الإحساس بأهمية الوطن وضرورة العمل على سلامته والحفاظ على أمنه واستقلاله وسيادته وأوصلتهم سموم اليأس والاحباط للوقوف في خط مستقيم مع ما تنادي وتطالب بتحقيقه الدولة العبرية - إسرائيل في بلادنا. «تفتيت السودان» عبر أعوانها في الداخل. هكذا نجح جون قرنق في تحقيق ما تطالب به إسرائيل وتهدف له في السودان عبر التأثير النفسي على نفوس بعض أبناء الشمال في الوقت الذي فشل في تحقيق أي نصر عسكري على الأرض يحسم به القضية. 5/ في تاريخ السودان والشعوب هنالك شخصيات عرفت بمواقعها وشخصيات عرفت بإنجازاتها التاريخية. وشخصيات عرفت بمواقفها المتخاذلة، ومن الشخصيات السودانية التي عرفت بمواقفها المتخاذلة أو المنهزمة، شخصية جنوبية معروفة، تسمى أقري جادين سياسي جنوبي عرف في أوساط الشماليين وأوساط الجنوبيين الوطنيين بالانفصالي الى أن قتل، ظلت هذه التهمة ملتصقة بشخصه حتى الآن، وكلما يجيء ذكر اسمه، بمعنى آخر في عالم السياسة هناك الكثير من التهم تستمر ملتصقة بشخصية صاحبها وأولاده وأسرته وأحفاده عبر التاريخ. ودائماً ما تتعرض مثل هذه الشخصيات الى محاولات اعتداء قد تصل الى حد القتل.. أو العزل الاجتماعي.. أو القذف بها في مزابل التاريخ. ومن أهم الشخصيات تمت تصفيتها نتيجة لإتخاذ مثل هذه المواقف الضارة بأية صورة من صور الضرر بالوطن ومستقبله، في السودان السياسي الجنوبي - المعروف - أقري جادين - قائد الانفصاليين وفي شمال الوادي، السيد بطرس بطرس غالي رئيس وزراء مصر الذي باشر عملية مفاوضات الشأن السوداني مع الجانب البريطاني عام 1899 حيث اتهم بأنه باع السودان للإنجليز، وتمت تصفيته على يد المواطن المصري الذي يدعى «البدراوي» هذا بالإضافة الى أن هذه الاتهامات السياسية ما زالت تلاحقه وتلاحق أسرته وأحفاده حتى اليوم وتأكيداً على إلصاق مثل هذه التهم السياسية في الشخص وتاريخه وأسرته إشار إليه أخيراً حفيد بطرس غالي، الدكتور بطرس الأمين العام السابق للأمم المتحدة في آخر إصداراته، حيث قال إنه قام بزيارة السودان عند تخرجه في الجامعة من أجل الوقوف على حقيقة التهم التي وجهت الى جده بأنه باع السودان للإنجليز، ولا أخاله بعد الزيارة وقف على الحقائق!! أما عن الذين ذهبوا الى مزابل التاريخ فهم كثر ونذكر منهم على قيد الحياة ميخائيل غورباتشوف، الذي أضاع الاتحاد السوفيتي وفكك الكتلة الشرقية وحلف وارسو، والسبب عدم الإلمام بعواقب وتداعيات المواقف والسياسات المصيرية ويرجع هذا الى التآمر الخارجي وضعف درجات الوعي الأمني، عند غورباتشوف التي أدت الى عدم الالتفات الكافي لمتطلبات الأمن القومي السوفيتي في المرحلة، وعدم دقة حساب التداعيات وأسباب أخرى كثيرة!!. والذي نريد أن ننبه اليه من إثارة هذه النقطة هو ليس التأثير السلبي على البعض لكي يغيروا من مواقفهم المعلنة وإنما محاولة لإجلاء بعض النواحي التي ترى أنها مهمة وتقول إن التعرض لقضايا تمس مصير الوطن والمواطن لابد أن يكون تعرضاً موضوعياً ومبنياً على قناعات راسخة وحكيمة الدفاع عنها وأن يكون هذا العرض مقبولاً ومستحسناً من غالبية الناس المدركين لأهمية الموضوع وأبعاده الأمنية المستقبلية وأن يجيء هذا الطرح في الوقت المناسب لا طرحاً تفرضه الظروف أو وليد لحظات اليأس أو الأهواء السياسية ضيقة النظرة. هذا بالإضافة الى ضرورة توفر صفات موضوعية في الشخصية التي تتولى مسؤولية هذا النوع من الطرح.. أولاً لابد أن تكون بعيدة كل البعد عن أي مؤثرات سياسية لها أبعاد خارجية. وبعيدة عن أي عصبيات سواء كانت عقائدية أم قبلية في ظروف بلد كالسودان، والنظرة الأمنية في معالجة المسائل المتعلقة بمصير البلد، ولابد أن لا يكون لهذه الشخصية من الخصوصيات التي تجعل ما يتوفر لها من أغطية وغياب محاذير معينة لا يتوفر لغيرها، إذا سلكت نفس المنحى الخطير من المواقف التي في اعتقادنا لا تخلو من المهددات الأمنية وخاصة أن أغلب تداعيات مثل هذه المواقف غالباً ما تكون بعض جوانبها خافية وبعضها الآخر في حكم المجهول، ويصعب تحديد أبعادها وخاصة المؤثرة على النواحي الأمنية، إلا بعد تنزيلها على أرض الواقع، ومن هنا جاءت المحاذير والمطالبة بتوخي الدقة في الطرح والبعد بقدر الإمكان عن طرح العنتريات السياسية من دون قناعات علمية وموضوعية راسخة ومن حساب دراسة تداعيات هذا الطرح الأمني بما فيها من الخفاء في مؤامرات وسيناريوهات استخبارية وخاصة في هذه اللحظات التاريخية من عمر الوطن لأن هناك عدداً بل أعداداً يعملون كغواصات لجهات أمنية تعمل ضد الوطن ومصالحه من داخل الوطن ويسعدهم جداً ما يطرح بدون وعي منهم معالجة لقضايا جوهرية في وسائط الرأي العام المكشوفة وبحسن نية - يصطادها - الغير ويعرفون كيف إعادة صياغتها وإعدادها بالصورة التي تخدم مصالحهم في بلادنا. وختاماً نقول إننا قد وقفنا على أغلب الآراء التي طرحت كمعالجة لهذا الموضوع المحوري المهم والحساس الذي يهمنا جميعاً كسودانيين وخاصة إنه يتعلق بمصير هذا البلد، وما كنت طامعاً في التعرض لمناقشة بعض الشكليات ونحن بصدد معالجة مثل هذا الموضوع المحوري لولا إصرار أصحاب الشأن على تكراها، واستخدامها كحجة لإقناع الآخرين بسلامة مواقفهم. قيل من ضمن ما يقال: نشرت صحيفة أخبار اليوم عبارة منسوبة لمواطن كريم غير عادي، سياسي وينتمي لحزب حاكم ذو توجهات عقائدية وتقلد مناصب دستورية وأخاله كذلك الآن، نسبت إليه أنه في حالة قناعة مستمرة بدأت منذ سنوات - أي ليست وليدة اليوم، وظلت تتزايد مع الأيام الى أن بلغت درجة اليقين، قال: لن أزرف دمعة واحدة اذا انفصل جنوب السودان». ما هو المطلوب إتيانه؟: 1/ إن الدعوة قديمة وليست وليدة اليوم أو اللحظة؟. 2/ إن هذه الدعوة أسست على قناعات وصلت الى درجة اليقين. في الإجابة نقول: إن حاكمية الدعوة قديمة أم جديدة لا تتوقف على طول وقصر الزمن، وإنما الحاكمية حاكمية العهد الذي طرحت فيه أي النظام الذي في عهده تتم الإباحة بهذا الطرح، هل النظام يسمح بهذا النوع من الحديث أم لا يسمح واذا سمح فإنه لمن سيسمح؟ وهل كان من الممكن أن ينطلق مثل هذا الحديث ابان نظام مايو ومن نفس هذا المواطن؟ هذا هو المحك. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، من المعروف أن الدمع يزرف في حالة الانفعال عند الانسان وفي حالتين لا ثالث لهما، حالة الفرح وحالة الحزن، بافتراض أن جنوب السودان قد انفصل، فإذا حزنت ينزرف الدمع واذا فرحت ينزرف الدمع أنتم مع أية حالة؟ ومنذ متى تؤسس القناعات المتعلقة بمصير السودان على الانفعالات وهي تتدرج وتظل تتدرج الى أن تصل بالقناعات الى مرحلة اليقين. قال هنالك استبيان أجري في مدينة أمبدة تناولته بعض الصحف، جاءت نتيجة بأن حوالي 78% من الشماليين يؤيدون الانفصال. هذه نتائج مبنية على أسس غير علمية لعمليات غياب الرأي والاستبيانات العلمية الصحفية وأنا لا أرى الحكمة من الأخذ بها في قضية مصيرية بهذا الشكل، وأنا أربأ بنفسي في عصر تطور العلم والمعرفة أن ألجأ لمثل هذا النوع من المعلومات في تأسيس قناعات لما يتعلق بمصير وطن ومستقبل أمة. قيل أيضاً: هل تصدق أن الجنوبيين داخل المؤتمر الوطني وخارجه من الموالين للإنقاذ يفرضون رؤية انفصالية لقد تحدث أحد الولاة الجنوبيين في ندوة وطرح نفس أطروحات جون قرنق، وقال أيضاً قيادي جنوبي معروف لأحد الصحافيين ليس لكم جذور هنا ونحن حنحكم السودان حنحكم:- وأقول - إذا كان الحديث - صحيحاً - ومؤكداً - هل تعلمون انه في علم الأمن والاستخبارات مادة في فصل كامل تتحدث عن الاختراق الاستخباري وأخطرها المادة التي تتحدث عن الاختراق من داخل الهدف، وأتساءل بعد ذلك هل من الممكن أن يكون لهذا الحزب أي خصوصيات - على درجة من السرية خافية عن قرنق - أين الوعي الأمني من هذا؟. وقيل أيضاً: لماذا الاصرار على قدسية وحدة السودان بالرغم أنها فرضت من الاستعمار الانجليزي بدون رغبة أبناء الشمال وأبناء الجنوب قررت الحكومة البريطانية أن يوحد الجنوب مع الشمال بعد أن بذرت أدوات الانفصال - أكد السكرتير الاداري جيمس روبرسون بأن صفات سكان الجنوب الأساسية أنهم زنوج وأفارقة إلا أن العوامل الاقتصادية والجغرافية قد قضت بربطهم بالمستعمرين من أهل السودان الشمالي ربطاً لا انفصال منه: ثم كان مؤتمر جوبا عام 1947م الذي اعترف فيه البريطانيون بأنهم أثروا على القرار وجعلوا «17» جنوبياً من المشاركين في المؤتمر يوافقون على ربط الجنوب مع الشمال - وقال - أحد الصحافيين المعروفين - أن الواجب عليكم - تسليم السودان لأبنائنا كاملاً كما تسلمناه من أبنائنا كاملاً - وكان الرد. إننا لم نتسلم السودان بشكله الحالي من أبنائنا وإنما من المستعمر الانجليزي الذي فعل ذلك بالرغم من إقراره بالتناقضات المحتشدة فيه بعد أن ملأ نفوس أخواننا في الجنوب حقداً وغلاً ظل يتزايد مع الأيام حتى يومنا هذا: قال الرئيس الهندي جواهر لال نهرو في مؤتمر باندونق عام 1955م الذي انعقد في اندونيسيا في كلمته أمام رؤساء العالم الثالث: قال: «إن الاستعمار سيرحل عن دياركم سواء أردتم ذلك أم لا، ولكنه قبل أن يرحل سيزرع في أراضيكم المشاكل والإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ما لا تستطيعون على مواجهتها - بامكاناتكم السياسية والاقتصادية والأمنية الحالية تعرفون لماذا؟ لكي يحملكم على الرجوع اليه لمساعدتكم على حل مثل هذه المشاكل. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يتعين علينا أن نعلم لماذا كان إصرار الانجليز على وحدة السودان وتسليمه كاملاً، بعد أن زرع كل بذور الشر بداخله وكان بإمكانه أن يفصل الجنوب وغير الجنوب.
والإجابة على هذا التساؤل في غاية البساطة - إن الإصرار على الوحدة في زرع المتناقضات تعني بالنسبة لوجهة النظر الأمنية شيئاً واحداً، إنه يهدف وعن طريق عمليات الاستدراج الاستخباري طويلة المدى وعبر المصاعب التي وضعها في الطريق - الى أن يصل أبناء السودان للدرجة من اليأس والانهيارات النفسية والاقتصادية و البشرية الى الدرجة التي يقررون فيها طريقة فصل الجنوب وبأنفسهم أو فصل الشمال بأنفسهم، أو تمزيق السودان - أيضاً بأنفسهم ونحن الآن اقتربنا كثيراً من تحقيق الأهداف الاستخبارية البريطانية باتباع أسلوب الاستدراج الاستخباري عبر المصاعب ومكايدات الأعوان بالداخل - والتي بدأها عام 1955م ونحن الآن في عام 2003م، إن هذا الزمن بالنسبة من وجهة نظر العمل الاستخباري من الأزمة قصيرة المدة في تحقيق الأهداف. أما عن موضوع - الغرغرينة - أنا اتفق معكم في العلاج بالبتر للساق لكي ننقذ بقية الجسد، ولكن أنتم لجأتم الى معالجة حالة سياسية بوصفة جراح ماهر، ونسأل من الذي تسبب في استفحال المرض؟ ولماذا لم يهتم بتقديم العلاج منذ بداية المرض، وكيف إعمال القياس في هذه الحالة إذا كان الطبيب نفسه يعاني من مرض ما!!!.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(5) أوهـــام الإنفصــاليين الجـــدد: عثمـــان ميرغــني [email protected]
بعد الضجة الكبرى التي أقامها الاستاذ الطيب مصطفى بمقاليه اللذين طالب فيهما بفصل شمال السودان ،كتب أمس مقالا مطولا في صحيفة ألوان بعنوان (ما بيني وبين عثمان ميرغني) وسرد فيه كثيرا من النقائص التي يرى أنها تحيط بمن أشار اليه في عنوان المقال. وأصبح المقال في خلاصته وكأنه مرافعة ضد شخص بذاته وصفاته أكثر منها ردا مقابلا للحجج التي كنا أوردناها في ردنا عليه في عدة مقالات كتبت هنا. وليس من الكياسة ان ننجرف الى حرب "ذوات" لأن القاريء الذي يدفع ثمن هذه الصحف ويشريها من حر ماله يبحث عن فكرة أو رأى حصيف لا عن مساجلات «شخصية» مباشرة!!
وأوجز للقاريء هنا النقاط التي رأينا أنها تنتقص من دعوة الاستاذ الطيب مصطفى لفصل الشمال عن الجنوب :
أولا : التوقيت ، فطرفا الحرب يجريان حاليا مفاوضات مباشرة ومصيرية وقطعا فيها شوطا بعيدا وسلما في أولها عبر "برتوكول مشاكوس" الذي وقعا عليه في 20 يوليو 2002 بوحدة السودان وتركا فسحة ست سنوات اختبارية إذا فشلت فيها الأمنيات يصبح الأمر بيد الجنوب ان يختار لنفسه مصيرا مشتركا أو منفصلا عن شمال الوطن. والطرفان على وشك الوصول الي تسوية نهائية اختار الطيب مصطفى أن يقذف عليهما حجرا ثقيلا قد يحبط به همة التفاوض ويرتد بهما الى منازعة باردة او حامية.
ثانيا : الحيثيات التي ساقها الطيب مصطفى بُنيت في عظم ظهرها الرئيسي على الفوارق العرقية والعنصرية بين الشمال والجنوب ، وفي هذا علاوة على تكريس أوهام "الاستعلاء العرقي" الذي يشير اليه الطيب مصطفى فإنه يفتح بابا لمزيد من الإذعان لمثل هذه الدعاوى. لأن السودان لايزال يحفل بكثير من التباين العرقي والعنصري في مناطق أخرى كجبال النوبة والنيل الأزرق والغرب والشرق. والسودان في النهاية بلد أقليات يتحدث عشرات اللهجات المحلية ويدين بأكثر من دين. ثالثا : الطيب مصطفى لم يكتب مقالا وإنما أسس ونشر "منفستو" حركة انفصالية للدرجة التي أزعجه ما قاله رئيس تحرير الرأي العام الاستاذ إدريس حسن أن مثل هذ الدعوة لو صدرت من غير الطيب مصطفى لطاله القانون الجنائي السوداني الذي ينص صراحة على تجريم من يهدد السلام و"الوحدة". وهي عبارة مباشرة صريحة قد لا تقصد من يكتب رأيا في صحيفة لكنها تطال من يتبنى دعوة انفصالية وبشكل عملى تنظيمي بتلك الطريقة التي استخدمها الطيب مصطفي فقد نشر مقاله في ثلاث صحف وفي ذات الوقت واختتم مقاله الاول باشارة مباشرة توضح أن هذه البداية وستتلوها خطوات عملية.. فالأمر لم يعد مجرد مقال.
رابعا : الطيب مصطفى ليس كأى أحد من أفراد المجتمع السوداني ،فهو لا يزال على رأس وظيفة عامة حساسة وتقلد منصبا وزاريا أدى فيه القسم على صيانة وحدة البلاد والإلتزام بدستورها. ولو راجع الطيب نفسه لوجد انه حنث بالقسم العظيم الذي أداه أمام رئيس الجمهورية بتأسيسه فعلا يحرمه الدستور.ثم أنه فوق كل هذا رجل رفيع النسب الحزبي للدرجة التي لم يستطع كثير من الكتاب التفريق بين رأيه ورأي حزبه واضطر الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني لنفي صلة الحزب بأفكاره. وهو فوق كل هذا رجل قريب الصلة بالسيد رئيس الجمهورية .
خامسا : الفكرة التي دعا لها الطيب مصطفي منقوصة المنطق لأنها لا تعني (فصل) الشمال عن الجنوب كما قلنا وإنما (طرد) الجنوب من الوطن . وهناك فرق كبير (للغاية) بين أن يطلب الجنوب الإنفصال فيناله أو لا يناله وبين أن (يقرر) الشمال (طرد) الجنوب الى خارج خريطة السودان .فدولة جديدة تنشأ على مثل هذه الخلفية ستكون في أحنق علاقة مع جارتها المطرودة منها وستستمر الحرب باردة او حامية بينهما ولن يتوقف نزيف الدماء الذي أسس عليه الطيب مصطفى جل طرحه. بل أن الأقاليم الغاضبة الأخرى في داخل السودان الجديد المقطوع في أسفله ستجد في دولة جنوب السودان الجديدة سندا قويا ودعما لخوض حرب عصابات أو حدود لتحقيق انفصال جديد في أقليمها فتكون دعوة الطيب مصطفى هي ليست لبتر "الرجل" المصابة بالداء وإنما لقطع أطراف السودان من خلاف الى آخر رمق فيه. ولهذا قلنا إنها دعوة "سهلة" وعاب علينا أحد الأخوة الصحافيين (علي ياسين في صحيفة الأنباء) بقوله وما العيب في اختيار الطريق الأسهل . لكن المقصود هنا بـ(السهل) ليس يسر المسار في الطريق وإنما (استسهال) التقاط الحل من أول خاطرة دون إعمال الذهن وإجهاده في تبصر المناكب في هذا الطريق والإجتهاد في اتقاء المزالق فيه.
اغتبط الاستاذ الطيب مصطفى كثيرا بالصدى الذي وجده لدى البعض، وعاب علينا أن قلنا له ان مثل رد الفعل هذا عند (العامة) لا يعبر عن رأي بقدرما يعبر عن "حالة" .. حالة إحباط وإحساس باليأس ..ولو أراد الطيب مصطفى أن يتأكد من ذلك فليته يدعو مثلا الى "إنهاء حكم الإنقاذ" سيجد صدى وتأييدا أكبر مما وجده في دعوة فصل الشمال .!!
فرح الطيب مصطفى ببضعة آلاف هللوا لدعوة الإنفصال ، فليطالب بإنهاء حكم الإنقاذ وسيجد عشرة أضعافهم يهللون له أيضا !!
من المقبول عقلا ومنطقا أن نقول لأخواننا في جنوب السودان نحن شركاء في هذه الرقعة من الأرض المسماة في الخريطة "السودان" من حلفا الى نمولي ،لكن إذا أصر اختياركم على وطن آخر منفصل فإنه لا "إكراه في الوطن" وسيظل الجنوبيون إخواننا خلف حدود سياسية جديدة. وإذا اختاروا أن يمضوا معا في تأسيس وطن في سودان جديد يقوم على نسيان الماضى وأحزانه وشراكة سديدة في غد جديد فذلك أيضا محمود من جانبنا .. لكن لن نقول لإخواننا في الجنوب إذهبوا فأنتم لونا وشكلا وعرقا وعنصرا أقرب الى يوغندا وكينيا ونحن في الشمال أقرب إلينا لونا وشكلا وعرقا الأريتريون والتشاديون والاثيوبيون كما قال الطيب مصطفي في حيثياته.. ذلك أمر غير مقبول بالعقل ولا بشرف المواطنة والشراكة.ثم أنه بالحقيقة التاريخية غير صحيح .. وليت الاستاذ الطيب مصطفى يستفتى عالما مثل د. جعفر ميرغني الذي سيحدثه عن علاقة الدم والرحم بين مكونات الوطن السوداني من أقصى جنوبه الي أقصى شماله ومن غربه الى شرقه.. وأن نظرية "الإستعلاء العرقي" هي مجرد اوهام من صُنع الفوارق الحضارية بين الشمال الذي شهد انفتاحا باكرا على حضارات أخرى جلبها المستعمرون وبين الجنوب الذي انكمش عنه المد الحضارى بفعل بعده عن المرافيء والبوابة الشمالية التي دخل بها الإستعمار فتأخر كثيرا عن مسايرة عالم اليوم.
حقيقة كبيرة ظلت غائبة عن الطيب مصطفى وهو يسرد أسانيده في دعوته لـ (فصل الشمال) بطرد الجنوب الى خارج السودان فقد ذكر أن الشمال دفع ثمنا باهظا للوحدة مع الجنوب ، ونسى الطيب مصطفى ان الجيش السوداني الذي ظل يحارب في أدغال الجنوب (70%) منه هم جنود من أبناء الجنوب أنفسهم.. والباقي معظمه من أبناء المناطق التي يطلق عليها مهمشة أو ما جاورها والقليل (جدا) هم من أصحاب السمو العرقي الذين يطالب باسمهم الطيب مصطفى بطرد الجنوب خارج السودان.
ويقيني أن الطيب مصطفى استقى فكرة أن الشمال هو الذي ضحى بدمه من أجل الوحدة مع الجنوب من برنامج ساحات الفداء الذي قدمه التلفزيون منذ أن كان هو مديرا عاما له فقد مجًّد البرنامج بطولات وشهادة آلاف الشهداء من الدفاع الشعبي وضباط القوات المسلحة ولكنه كان شحيح النظر الى ما سجله عشرات الآلاف من الجنود الذين لا يمكن التفريق شكلا ولا لونا ولا عرقا بينهم ومن قاتلونهم في الطرف الآخر.. لقد استشهد - في صمت - عدد كبير من الجنوبيين وهم يقاتلون في صفوف الجيش .. وهم ليسوا مرتزقة جلبوا من دولة أخرى وإنما سودانيون لهم حق الشراكة في هذا البلد.
ولقد غضب الطيب مصطفى من قولي ان الجنوب إذا كان سينفصل فإن من واجب الشمال أن يعينه على تأسيس دولته حتى ولو ماديا من الشحيح الذي يملكه السودان. وقلت - أيضا - ان الطيب مصطفى كغيره من بعض الاسلاميين لا يسقطون أحكام الشريعة على الشخصية الإعتبارية للوطن بصورة متسقة مع غيرها من الاحكام .. فالسودان بلد شراكة .. وكل موارده هى ملك بالشيوع بين أبنائه فإذا قرر ثلث الوطن أن يؤسس لنفسه مصيرا في وطن آخر فإنهم يخرجون (بثلث) ثروته حقهم المعلوم في شراكتهم في السودان.. ولا يحق لنا أن نقول خرجوا برقعة الأرض التي تعيشون فيها لأنهم حتى هذه اللحظة يملكون ثلث الشمال كما يملك الشمال ثلث الجنوب لهم في مصانعه ومزارعه وموارده الثلث..يحق لهم أن يستفيدوا منها في تأسيس بيتهم الجديد.. هذا بالحق والفرض أما بالعقل فأن تضمن قيام وطن جديد مستقر بجوارك أفضل ألف مرة من أن يقوم ضعيفا ويبدأ في تصدير مشاكله وأزماته عليك.. لو كان قدر الجنوب الإنفصال فإنه سيكون من حظ كل الشماليين أن يكون دولة غنية مترفة يجدون فيها سوقا لمنتجات الشمال او حتى يبحثون فيه عن فرص عمل كما يهاجرون الى الخليج بحثا عنها. مَن ِمن بين دول الجوار الأفريقي حولنا استفدنا أكثر من بجوارنا معها لقد كنا محظوظين بجوارنا مع مصر .. لأن مصر دولة متحضرة وأغنى منا وأفضل منا في كل ظرفها وقد كانت الأفيد لنا من بين دول جوارنا الآخرى. ولو أصبح الجنوب دولة غنية مستقرة لاستفدنا منها أكثر من أن تكون دولة ضعيفة فقيرة محتربة بين قبائلها فتصدر لنا مزيدا من اللاجئين والأزمات
************************************************************
(6) مكي علي بلايل يعقب على الطيب مصطفى آيات الذكر والآفاق تدحض اطروحة الانفصاليين
في مقالنا السابق (إفلاس الفهلوة) قلنا أن رصدنا لما كتب حول أطروحة الأستاذ الطيب مصطفى يظهر بجلاء أن جل المساندة لها قد جاء من تلقاء التيار الإسلاموي ·وهذا المصطلح وإن أزعج إستخدامنا له بعض الأخوة ، فقد بات يروق لنا للتفريق بين الاسلام وبوائق البعض أفعالاً وأفكاراً · ومما قلناه في ذلك المقال أيضاً ان السبب الحقيقي للطرح الإنفصالي بهذه الجرأة في هذا التوقيت الحساس لعملية السلام ، هوإستيقان سدنته من فشل محاولاتهم لفرض وحدة الهيمنة والاستعلاء مما يحتم عليهم مقابلة استحقاقات السلام والوحدة الحقيقية في العدالة والمساواة الأمر الذي لا يستسيغونه · وفي تقديرنا أن تسليط المزيد من الأضواء الكاشفة علي الحيثيات التي يقدمها دعاة الانفصال في هبتهم هذه ، أمرجد حيوي لإستجلاء منطلقاتهم الحقيقية ليس فقط بغرض دحضها في سعينا للحفاظ علي وحدة الوطن ، وإنما فوق ذلك لدرء أخطارها حتي على دولة الشمال إذا أصبح إنفصال الجنوب واقعاً لاسمح الله · وللوقوف علي بعض هذه المنطلقات نورد مقتطفات من طائفة من المقالات التي كتبت في تعضيد رأي الأستاذ الطيب ونكتفي هنا بثلاث مواد نشرت في يوم واحد هو السبت الثامن والعشرين من ديسمبر الماضي بصحيفة ألوان العدد رقم (2352) بأقلام الأساتذة محجوب فضل بدري ،كمال علي والمسلمي البشير الكباشي ·
ونبدأ بالأستاذ محجوب فضل بدري الذي يقول في مقاله المعنون (الجنوب بين رومانطقية دعاة الوحدة وواقعية طرح الإنفصال ) : (لو قرنت مفردة انفصالي بإسم أحد السياسيين أو الإعلاميين أو قادة الرأي في بلادنا فإنها ستكون بمثابة سبة أو عار أوإساءة أو إغتيال سياسي في حين ان كل الشماليين تراودهم وبكل قوة فكرة الانفصال عن الجنوب بعد أن جربوا الاستماتة في الدفاع عن الوحدة وحاربوا من أجلها وغنوا لها وتغنوا بها في مسرحية عبثية تجسد الحب من طرف واحد ) · ويمضي الاستاذ بدري فيقول في موضع أخر(سودان المليون ميل مربع الذي كانت فيه المناطق المقفولة فأنفتح فجأة على مصراعيه فأصبح دولة واحدة هشة البنيان ضعيفة الوجدان ما يفرق بينها أكثر مما يجمع لذا فإن قضية سودنة الوظائف كانت القشة التي قصمت ظهرالوطن الوليد · فأبناء المناطق المقفولة كان تعليمهم حسب السياسة الاستعمارية قليلاً بل أقل من القليل وبدت فكرة الظلم واضحة وإن كانت أسبابها منطقية فالشماليون لم يقصدوا عن عمد الاستئثار بالوظائف ولكن لم يكن هناك من أبناء الجنوب العدد الكافي لشغل الوظائف الشاغرة ) ·ويطرح الأستاذ زبدة آرائه حول الموضوع قائلاً إن طرح الانفصال كحل لمشكلة الجنوب يبدو منطقياً جداً فقد جربنا الوحدة كثيراً فدعونا نجرب الإنفصال )·
ومن ناحيته كتب أستاذ كمال علي في عموده على فكرة وتحت عنوان (مر الكلام) مشيداً بما أسماه بمدرسة الطيب مصطفى الفكرية والوطنية واليكم بعض ما جاء في مر كلامه (لم نخسر أبداً المعركة في مجابهة أعداء المدرسة الوطنية والفكرية التي أسسها بعناية فائقة وتدبير عظيم وقاصد أستاذنا الكبير والمفكر المشبع بالوطنية الطيب مصطفي وفي حين لم نخسر تلك المعركة فقد كسبنا أهم معاركنا وهي معركة الجنوب الحبيب والتي تمثل تداعياتها شوكة في خاصرة الوطن· ولكن الجرّاح الماهر الطيب مصطفي والملم جداً بأحوال الجنوب وقد جاهد فيه وقدم فلذة كبده أبوبكر شهيداً ومهراً وصداقاً مقدماً ومؤجلاً لغرس السلام الوحدة الوطنية · وهذا الجراح الماهر وضع المبضع علي الجرح وأزاح بوطنية منقطعة النظير كل مساحيق التجميل التي تزين العلاقة بين أبناء شمال وجنوب الوطن وكشف عن القناع الزائف الذي يؤطرتلك العلاقة بين أبناء الشعبين ونصر هنا علي كلمة الشعبين في شمال وجنوب البلاد· ولقد آثار مقاله المثير للجدل راكد المياه الساكنة في السياسة السودانية وعلاقة الشمال بالجنوب ·ونسجل هنا تفهمنا التام لكل تفاصيل وسطور هذا المقال الضجة نعلن بملء الفم إنحيازنا التام لمدرسة الأستاذ الطيب مصطفي الفكرية الوطنية القاصدة لخير بلادنا كما نعلن إنضمامنا للتجمع الشعبي لتحرير شمال السودان من ربقة الجنوب ·
ثم تأتي الي ثالثة الأثافي وهي مقالة الأستاذ المسلمي البشير الكباشى والتي جاءت بعنوان حراك المعطيات سيحقق لحركة التمرد النصر بلا حرب) · والحقيقة أن تلك المقالة ونظراً للبعد الاستراتيجي في تفكير كاتبها قد أوردت في ثنايا سطورها أخطر الأفكار التي تتطلب الوقوف عندها ملياً ونورد في ما يلي مقتطفات متفرقة من المقال حيث يقول الأستاذ المسلمي (وبقراءة أكثر دقة للمعطيات نخشي أن يجد الشماليون أنفسهم الجزء الأحرص علي الانفصال ، بينما مما هو مؤكد بقراءة الوقائع وتأمل المآلات علي ضوئها أن جون قرنق والحركة الشعبية التي يقودها وفق رؤي السودان الجديد الأكثر زهداً في الانفصال بل الأحرص علي الوحدة يرون تآكل مقومات التوازن فيها رأي العين لصالح الجنوب وليس من مشكلة غير الإصطبار علي عنصر الوقت ليفعل فعله · وسيكتشف الشماليون إن داومت هذه المعطيات علي فعلها دون تدخل إرادي بغير وقعائها واتجاهات فعلها وديناميات تأثيرها بالرغم من أن هذا التدخل غير مرئي في ماثل الواقع السياسي وليس منظوراً في أفقهم الداهم مع كل هذا الختلال الهيكي · سيكتشفون أنهم أكثر عنصري التكوين الوطني ضعفاً وحينها سيحقق قرنق وحركته نصراً بلاحرب إذ تمكنهم معطيات الواقع السياسي من حكم الجنوب حكماً حالياً ومن مشاركة معتبرة في حكم الشمال فوراً ومن قدرات تنامي في اتجاه التمكين المستقبلي من البلاد شمالاً وجنوباً وحينها يتحقق له النصر بلا حرب وتدور في الشمال موجات من الاستخذاء السياسي الذي ربما يؤدي الي سقطة حضارية تحقق لقرنق اماني الخروج العربي الإسلامي· ولتوضيح مقصده من المعطيات التي يخشى أن يحقق حراكها لحركة التمرد النصر بلا حرب بطرح الأستاذ المسلمي الكباشى نقطتين جوهريتين تتعلقان بعاملي الثروة والسكان · ويقول بشأن الثروة علي المستوي الاقتصادي فإن ديناميات إقتسام الثروة التي تجري حالياً وتتم تحت ضغط وطني ودولي تجعل الجنوب الأكثر حظوة طوال سني الانتقال · وبما أن مشروع الاقتسام لا يستند الي تنمية متوازنة بل يؤكد علي تركيز اقتصادي علي جزء من القطر باعتبار أن الجزء الشمالي قد نال حظه سابقاً فإن ذلك يجعل من ذاك الطرف الأكثر قدرة علي مجابهة المتغيرات التي تجتاح البلاد في تلك السنوات ·
والكل يعلم أن الشمال ليس بأفضل حالا في التنمية من الجنوب وإن الموارد التي كان يجب أن توجه للمتطلبات التنموية في الشمال إستنزفت في مواجهة الاستحقاقات الأمنية في الجنوب · فهذا الواقع المتوهم سيحقق اتجاهات خاطئة في توزيع الثروة يؤدي نفسياً وإقتصادياً وسياسياً بالشمال الي الواقع الذي يعيشه الجنوب الآن ولا يحتاج المرء الي التدليل بأن ذلك لن يكون من مداميك بناء الثقة وعناصر تأسيس التوحد المنشود )وينتقل الأستاذ المسلمي الي عامل السكان كأحد المعطيات التي سيحقق حراكها النصر لحركة التمرد فيقول في ذلك : (اجتماعياً ولأسباب قد تكون ثقافية فإن اتجاهات الاختلال الديمقراطى تزداد بتسارع هائل في السودان جنوباً وشمالاً · فان كان الإحصاء المتعمد يؤكد أن سكان الجنوب الي الشمال هو نسبة 1:3 في وطن ناهز الثلاثين مليوناً من الناس ، فإن الاحصائيات الاجتماعية تؤكد أن نسبة خصوبة المرأة السودانية الجنوبية الي أختها الشمالية 5:1وهذه هي الحقيقة المدهشة التي لا يحب الناس ذكرها في الجانبين أما باعتبارها القنبلة الموقوتة الحاسمة في النصر حين يأتي زمن تفعيلها لأقوام أو لأنها لحظة مخيفة وهاجس مقلق لآخرين · ولكن مهما سكتنا عنها جميعاً فهي حقيقة ديمقراطية فاعلة في الحراك السياسي والاجتماعي سيواجه الناس بحقيقتها بعد حين فلا شك أن العامل الديمقراطى سيمكن هو الآخر حركة التمرد من نصر بلا حرب )·
لقد أوردنا كل هذه المقتطفات المطولة من مقالات مساندي أطروحة الأستاذ الطيب مصطفى لننفذ من خلال سطورها لإستكناه المنطلقات الحقيقية لهذا النفر والتي حجبتها لفترة طويلة شعارات الدين والوطنية · ولهذه الغاية علينا إستخلاص الرؤي الجوهرية للقوم من بين تلك السطور ثم محاكمتها في ضوء حقائق الواقع والمبادئ التي يجب أن يؤمن بها كل وجدان سليم ·
وأولي الرؤي التي يمكن استخلاصها من كتابات الانفصاليين هي أن هناك شعبين مختلفين في الشمال والجنوب وإن الذي يفرق بينهما أكثر مما يجمع في إشارة بالطبع للتباين العرقي والديني والثقافي · وطبقاً لهذه الرؤية فإن التعايش بين الشعبين في دولة واحدة أمر مستحيل أوعلي الأقل مكلف لحد لا يحتمل بالنظر الي كل تضحيات الماضي · وبالطبع فإن التباين العرقي والديني والثقافي في السودان حقيقة بديهية لامراء فيها · ولكن هذه الحقيقة لا تصلح كمقدمة منطقية للنتيجة التي ينتهي إليها الانفصاليون · فرؤية الانفصاليين في هذه النقطة تصطدم أول ما تصطدم بآيات الذكر التي أبانت لنا التعارف كسنة ماضية بين الأمم والشعوب في قوله (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم )·
وتجئ آيات الآفاق المتجلية في تطور الاتصالات وفي ديناميات المصالح الاقتصادية والثقافية لتؤيد آيات الذكر · وهاهي الأمم والشعوب مختلفة الأعراف والألسن والأديان تلتقي وتتجمع في كيانات سياسية واقتصادية إقليمية ودولية · وتلك أقطار في كوكبنا هذا تجمع في داخلها أقوام من أعراق وخلفيات ثقافية متباينة تستند العلاقة بينها الي الاخوة الإنسانية وتنظمها المبادئ الدستورية القومية ، ولا ندري ما إذا كان وجود زين الدين زيدان الجزائري وليلي ترام الغاني ضمن ألمع نجوم المنتخب الوطني الفرنسي يمثل اي دلالة عند الانعزاليين
ان الاخوة الإنسانية كقاسم مشترك بين البشر كانت هي الأساس لصحيفة المدينة التي وضعها الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام قبل ما يزيد عن الأربعة عشرقرناًس والتي عرفت أهل المدينة من المؤمنين ومن والاهم من النصاري واليهود بأنهم أمة من دون الناس سلمها واحد وحربها واحدة ·ولئن جاء في القرن الحادي والعشرين من يؤمن باستحالة التعايش السلمي داخل كيان وطن واحد بسبب اختلاف العرق أو الدين أو الثقافة فإنهم لايغالطون آيات الذكر والآفاق وحقائق التاريخ والحاضر فحسب ، وإنما يغالطون منطقهم المعوج ذاته حين يدعون الي قيام دولة شمال السودان التي لا أدري من أين لها التجانس العرقي والديني والثقافي ·إن الحقائق تقول إن دولة الشمال وفق حدود 1956/1/1م مع الجنوب ستضم عناصر لا تقل زنجية من أهل الجنوب وستكون فيها ثقافات متباينة وكذلك ملل دينية مختلفة فما حيلة دعاة الانعزالية؟!·· بل نجترئ ونقول أن شمال الشمال نفسه قد لا يكون بالضرورة كياناً منسجماً وخالياً من التناقضات · فوحدة الدين واللون لم تمنع الصراع بين العروبة والأمازيغية كما نشهده اليوم في الجزائر والمغرب · وباختصار فليس هناك أي قطر في هذه العمورة لا يحتوي تباينات عرقية وثقافية مع تفاوت في درجاتها بالطبع · والسبب الجوهري للصراع داخل أي وطن بتمثل في فشل الدولة في إعمال ميزان العدل بين العناصر المكونة لشعبها بما يحقق الرضا العام ·
والواقع أن رفض دعاة الانفصال الاعتراف بالأسباب الحقيقية للصراع في السودان هو الذي انتهي بهم الي اعتبار الانفصال العلاج الأنجع · إن القراءة المتأنية في كتابات دعاة الانفصال بدءاً بالاستاذ الطيب مصطفي وانتهاءاً بمؤيديه الذين اوردنا مقتطفات من أسهاماتهم تبين هذه الحقيقة بكل وضوح · فالأستاذ الطيب لم يبرئ الشمال من الأخطاء فحسب بل اعتبره المظلوم المجني عليه وقد أيده في ذلك الأستاذ كمال علي والذي أمن علي كل سطر في مقال الطيب مصطفي وأعلن انضمامه للتجمع الشعبي لتحرير الشمال من ربقة الجنوب علي حد قوله · أما الأستاذ محجوب فضل بدري فيقول بالحرف ان الشمال بذل الحب من جانب واحد الي حد الوله لأنه جاهد من أجل الوحدة وغني لها وتغني بها ·
وحتي فضيحة سودنة الوظائف فإن الأستاذ بدري يجد لها تبريراً حين يقول إن عدم وجود متعلمين جنوبيين لملء الوظائف الشاغرة كان هو السبب في ما جري·
وبالطبع فلا أحد يمكن أن يصدق أن المتعلمين من الجنوبيين المؤهلين لشغل الوظائف غداة السودنة كانوا فقط ثمانية · وحتي اذا سلمنا جدلاً بذلك الزعم فما بالنا نشهد اليوم شبه غياب للجنوبيين وأبناء المناطق المهمشة في كثير من مؤسسات الدولة الهامة رغم كثرة متعلميهم ؟!·
إن عدم الاعتراف بالأخطاء يعني في واقع الأمر عدم الاستعداد لتصحيحها وهذا ما يتجلي في رفض دعاة الانفصال لإستحقاقات السلام و الوحدة · فالأستاذ الطيب مصطفي يري أن إعطاء منصب النائب الأول لقرنق يعني أستسلاماً وإن إعطاء نسبة من الوظائف في المؤسسات الاتحادية يعني اشراكه في حكم الشمال بعد أن ينفرد بحكم الجنوب · أما الأستاذ المسلمي البشر الكباشي فيقول : بالحرف وحينها سيتحقق لقرنق وحركته نصراً بلا حرب إذ تمكنهم معطيات الواقع السياسي من حكم الجنوب حكماً حالياً ومن مشاركة معتبرة في حكم الشمال فوراً ومن قدرات تنامي في اتجاه التمكين المستقبلي من البلاد شمالاً وجنوباً وحينها يتحقق له النصر بلا حرب ) · والغريب أن الأخوة الأكارم لا يفرقون بين المؤسسات القومية الاتحادية ومؤسسات الشمال ولاندري من أين جاءوا بهذا الفهم·
إن المنطلقات الحقيقية لدعاة الانفصال تتضح في مقالة الأستاذ المسلمي البشير الكباشي الذي يقول بكل وضوح (إنإعطاء الجنوب موارد أكبر لتعوضه سيؤدي بالشمال الي الواقع الذي يعيشه الجنوب الآن · ولا يحتاج المرء للتدليل بأن ذلك لن يكون من مداميك بناء الثقة) وحين أن أي مراقب منصف وموضوعي لا يمكن أن يقول أن التمييز الإيجابي للجنوب اقتصادياً سيقود الشمال الي وضع الجنوب الوحيد لمقولة المسلمي هوأن الوضع المطلوب هو أن تظل الهيمنة الاقتصادية للشمال والا فان ذلك من مهددات الوحدة والإسلام والعروبة ·
أما البلية الكبري في كتابات دعاة الانفصال فتتمثل في ماجاء بخصوص الاختلال الديمقراطى في مقال الأستاذ المسلمي · ويريد الأستاذ المسلمي أن يقول بإختصار أن نمط النمو السكاني في البلاد سيجعل الجنوبيين أغلبية خلال عقدين من الزمان وهذا سيحقق لحركة التمرد نصراً بلا حرب · وهذا الكلام يعني ببساطة شديدة أن انتقال الحكم لجنوبي ولو عن طريق الأغلبية العددية إنما هوانتصار لحركة التمرد· وبغض النظر عن خلل حساب معدلات النمو فإن هذا الرأي يعتبر الجنوب كتلة صماء عصية علي الإسلام وعلي الثقافة العربية · ولا يضع في إعتباره أي إمكانية للتمازج بين أهل الشمال والجنوب ربما تأكيداً للحرص علي انقاء العرقي ·
أما الحقيقة فهي أن أهل الجنوب لن يكونوا خلال عقدين من الزمان وبمؤشرات النمو السكاني الحالي أكثر من سكان الشمال بالتعريف التقليدي · وإذا أخذنا في الاعتبار أن التطور الاجتماعي يؤدي الي تراجع نمط الزواج التقليدي الذي يتسم بتعدد كبير للزوجات في مجتمعات الجنوب وهذا يحدث الآن بالفعل فإن الاختلال السكاني المزعوم أمر مستبعد · ولكن حتي إذا فاق سكان الجنوب سكان الشمال فإن ذلك لا يعتبر في رأينا قنبلة موقوتة ولاهاجساً مقلقاً كمايري الأستاذ المسلمي ومن معه ·
وأخيراً ففي ظننا وليس كل الظن أثم إن من يشار اليهم بالجنوبيين في المنظور الحقيقي غير المعلن عند البعض هم كل العناصر الزنجية غيرالعربية وذلك بالطبع بالمفهوم السوداني للعروبة والزنوجة· ولقد سبق أن حذر منظروا هذا التيار ومنذ سنوات علناً من خطر ما اسموه بالقوة السوداء حول العاصمة ·
وكما قلنا في مقالنا السابق فإن المنطلقات التي عبر عنها دعاة الانفصال لجد خطيرة · فهي لاتهدد بتقسيم السودان الي شمال و جنوب فحسب وإنما بتفتت كامل له طالما أن جوهر دعوتها هي الأحادية وهي مستحيلة ونحمد الله أنها غير مرغوبة
نقلا عن الحرية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(7) حـــق الأغبــياء فـي التفگــير د. غازي صلاح الدين العتباني [email protected]
يعجبني من الجعليين قولهم إن الرجل منهم ربما قضى سائر نهاره شجاراً أو بالتحديد «خنقاً» كما يصف التعبير الشائع . وفي ترداد هذا القول إعداد للناشيء وتنبيه للكبير أن الحياة مدافعة ومغالبة . يعجبني تعبيرهم ، ولست منهم ، لأنني وجدت الحياة لعمرك كما وصفوا . وصاحب القضية أتعب ممن سواه إذ يصدق في حاله من القول المأثور : «لا راحة لمؤمن إلا حين يلقى الله».
لو وقفت معارضاً دعوة الأخ الطيب مصطفى التي ظل يشرحها في الصحف وفي أحاديثه الخاصة والعامة ، لفعلت من منطلقين : الأول متعلق بأن الأخ الطيب جعلىٌّ نموذجيٌّ ، لا يختلف في هذا من يعرفونه . وإعلانه نفض يده من مطلب الوحدة إعلان بالزهد في المشاجرة و «المخانقة» ، وتسليم منه لمن أرادوا أن يوصلونا ، بالضبط ، إلى هذه الدرجة من «القرف» . والمنطلق الثاني هو أن الأخ الطيب رجل صاحب رسالة وقضية . وهو هنا لا يحتاج من أحد منا لأوراق تزكية أو إعتماد. وكأني بالذين يهيجون عليه وقد نسوا أنه قدم ابنه شهيداً في الجنوب ، تقف شاهدة على ذلك مدرسة باسم الشهيد أبوبكر الطيب مصطفى في طريق الحاج يوسف. وهو هنا مثله مثل الآلاف من رجال الحركة الإسلامية ، الذين يسميهم بعض السوقة و«الإرجمة» الكيزان ، الذين وهبوا أنفسهم أو أبناءهم في سبيل الله وقدموا من أجل وحدة السودان واستقلاله أعز ما يقدمه المرء.
وكون الرجل صاحب رسالة أدعى للمصابرة لقول الله سبحانه وتعالي «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون» ولقوله تعالى للمؤمنين على لسان موسى عليه السلام وقد كان وقوفه في ابتلاء أكبر مما نحن فيه : «استعينوا بالله واصبروا».
ولا أرى مسوغا لدعوة الفصل إزاء ما نعانيه من مشكلة الجنوب . صحيح أن تعقيداتها تكاد لا تنقطع وهي تلقي علينا كل يوم بثقل جديد ، لكن هذا هو الإختبار الذي وضعنا فيه ، ونحن مطالبون أمام الله ثم أمام الناس أن نجتازه بنجاح وتقديرات عالية ، ولن يسعفنا أن نلتهي عنه إلى اختبار آخر ، فالمرء في الدنيا ، كما الطالب في الامتحان ، لا يختار اختباره . ولو أن الإنقاذ فرطت في وحدة السودان فسيكون هذا إعلاناً بزوال مشروعيتها.
قد تعزينا قراءة التاريخ إذا لحظنا أن أحوال الجنوب في بعديها الثقافي والاجتماعي تمضي في نسق حتمي يدركه من يدرسون حركة الزمان والناس ولا يحتاج المرء أن يطمح ببصره بعيداً في المستقبل ليرى ذلك ، فالذي تحقق حتى هذه الساعة من الاستقرار والنماء والتحول الموجب في علاقاتنا بالجنوب أظهر من أن يستدل له ، «لكنكم قوم تستعجلون» . ويكفي أن نذكر هنا أن أهم مشروع تنموي واقتصادي ، هو إنتاج البترول ، موجود في الجنوب . وفي السنوات العشر الماضية جرى من التواصل الإنساني والسكاني ما أحدث تعديلات جوهرية في علاقات الشمال والجنوب. الذين يقرأون حركة التاريخ ، وليس فقط أحداث التاريخ ، لا يتخذون العقد والعقدين وحدة للقياس . صحيح أن الناس منهمكون في الحاضر ولا صبر لهم للنظر إلى عقد واحد ، دعك من قرن كامل . لكن صاحب الحاجة الحصيف ليس بالأرعن، ولا غنى له عن النظر البعيد . دعني استدل بحادثة مهمة جرت في هذا البلد تحديداً قبل اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف (1392) سنة قمرية . في عام 31 هجرية وقف عبد الله بن سعد بن أبي السرح على أبواب دنقلا ، لكنه لم يفتحها وقنع من أهلها بمعاهدة اسمها البقط (أظنها من Pactum اللاتينية التي أصبحت Pact في اللغة الإنجليزية ، واليوم تعني «البقت» في المحسية الاتفاق).
ورغم أن الجيش الصاد عن دنقلا كان جيشا يحمل معه العقيدة الإسلامية لكن أهل الشمالية عموماً ، ومن بينهم أشد الناس تدينا ،يحبون أن ينسبوا رجوع جيش المسلمين إلى شدة بأس أهل دنقلا الذين وصفهم المسلمون برماة الحدق. والأمر ليس كذلك ، لا قدحاً في شجاعة أهل دنقلا وشدة بأسهم يومذاك وإلى اليوم ، ولكن لأن التاريخ يشهد بأن جيوش المسلمين التي كانت تمثل القوة العظمى الوحيدة آنذاك ما كانت لتعجز عن دنقلا وقد هزمت الروم والفرس وأخضعت عتاة البربر في شمال افريقيا . وقد ذكر المؤرخون أن عبد الله بن سعد حاصر دنقلا حصاراً شديداً «ورماهم بالمنجنيق ، ولم تكن النوبة تعرفه ، فبهرهم ذلك وطلب ملكهم قليدورون الصلح وخرج إلى عبد الله فتلقاه عبد الله ورفعه وقربه ثم قرر الصلح معه على كذا وكذا».
وجه الاستدلال في هذه الحادثة بشيئين . الأول هو السبب في رجوع المسلمين عن دنقلا وقد أمسكوا بخناقها عملياً . لقد مر بي فيما أذكر رأي أن الخليفة آنذاك عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، ذكر أن الأولوية بالنسبة إليه كانت الروم وليست النوبة . من المؤسف أنني الآن لا أجد النص الذي استند عليه في هذا الرأي ولهذا فإنني استنجد بالسادة العلماء الأجلاء ، وأخص منهم الأستاذين جعفر ميرغني وعون الشريف قاسم أن يسعفاني بالمستند الذي أظن أنهما يعرفان الطريق إليه. الوجه الثاني من الاستدلال هو مضمون الاتفاق الذي عبر عن مرونة فائقة ومدهشة أبداها المسلمون . وقد يجحد كثير من المسلمين الحقيقة إذا علموا أنه بأمر الوالي على مصر آنذاك ، عمرو بن العاص ، الذي كان نائباً عن أميرالمؤمنين عثمان بن عفان ، سمح المسلمون بإضافة بند جديد للاتفاق يسلم بموجبه النوبة عطية من الخمر. قال المقريزي المؤرخ : «وكانت النوبة رفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكث عهدهم وأهدوا إلى عمرو أربعين رأساً من الرقيق فلم يقبلها ورد الهدية إلى كبير البقط ويقال له سمقوس فاشترى له بذلك جهازاً وخمراً ووجهه إليه وبعث إليهم عبد الله بن سعد ما وعدهم به من الحبوب قمحاً وشعيراً وعدساً وثياباً وخيلاً ، ثم تطاول الرسم على ذلك فصار رسماً يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة». وحق للمسلم المعاصر أن يدهش لهذا البند كما دهش له الخليفة المعتصم بعد قرابة المائتي سنة من الحدث . ذكر الليث بن سعد ، وهو من الثقاة في أخبار النوبة أن ملك النوبة في عهد المعتصم «زكرياء بن يحنس» بعث ابنه «فيرقى» إلى المعتصم في بغداد يراجعه في البقط «فنظر المعتصم إلى ما كان يدفعه المسلمون فوجده أكثر من البقط (أي ما يدفعه النوبة) وأنكر عطية الخمر وأجرى الحبوب والثياب التي تقدم ذكرها .. إلخ».
بالطبع فإن المسألة لا تصلح لأن يستل منها حكم على مستوى العادات والعبادات الشخصية ، لكنها مسألة كاشفة في تعامل المسلمين الأوائل وولاة أمرهم مع الشعوب التي خالطوها . وللراغب في دراسة حركة التاريخ ليستل منها فقهاً وفهماً لما نواجهه من تحد أن يقرأ الأحداث التي مرت بالسودان منذعام 31 إلى عام 1423 هجري ليتقفى اتجاهات مسارات التاريخ وحتمياته. ونحن أجدر بأن نصل إلى أهدافنا بثقة أكبر ونجاح آكد لو أننا تعاملنا مع الأشياء دون جزع أو هلع.
فليطمئن القلقون حقاً ومدعو القلق مما قاله الأخ الطيب مصطفى أن هذه مبادرته ورأيه حقاً . وقد يكون لرأيه أنصار بين الإسلاميين أو بين عامة السودانيين أو لا يكون ، إلا أنني أعلم أن الرأي الرسمي والغالب بين عامة السودانيين وبين عامة الإسلاميين هو بخلاف ذلك . وبرغم مخالفتي للأخ الطيب مصطفى في رأيه هذا إلا أنني أحمد له شجاعته ومبادرته التي أثارت نقاشاً جيدا في الصحف وتصدى له ثلة من الكتاب بقدر من الموضوعية كنت أود لو أنها اضطردت في كل الكتابات ، ولكن كما هو متوقع قفز بعضهم فوق الموضوع إلى كيل الاتهامات ونسج نظريات المؤامرة دون كثير مادة في كلامهم. وأشهد أنني قرأت لواحدة من هؤلاء فما استطعت أن أدرك إن كانت تميز بين الواو «الضكر» واللبان «الضكر» . معلوم أن الأغبياء قطاع مقدر بين الناس وكثير منهم أناس محترمون ومستورون ، ولهم الحقوق كافة بما في ذلك حق التفكير ، ولكن لئن كان هذا الحق مكفولاً لأولئك فلمن سواهم وللأخ الطيب مصطفى أن يفكر وأن يبادر ماداً رجليه الاثنتين ، ولنا أن نقابله بالنصيحة والرأي
************************************************************
( قراءة في مقال غازي صلاح الدين الإسلاموعروبية: فلكلور القلب، أركيولوجيا الأمنيات، ثم العودة من مكة إلى سنار أبكر آدم إسماعيل/كندا [email protected]
إن النقطة الجوهرية في مقال الدكتور غازي صلاح الدين "حق الأغبياء في التفكير" هي، حسب رأينا، المراهنة على التأريخ والتأكيد على حتميته (التي هي محل شك طبعا), التاريخ الذي ظل بالنسبة للإسلاميين ـ في أحسن الأحوال ـ مجرد ملفحة لجسد المقدس، ومصدرا للإنتقائية الإستدلالية لتعضيد المفردات المقدسة فحسب، عاد اليوم ليصبح جسدا تتم المراهنة عليه لاستنباط الأحكام الجللة التي قد تطال المقدس نفسه. وقد يقول قائل بأن ذلك مجرد تلفيقة من تلفيقات الإسلاميين، أو نوع من الإنتهازية الفكرية التي يوصمون بها من قبل خصومهم. ولكن الأمر ـ حسب رأينا ـ على الأقل على مستوى (فهم وخطاب) الدكتور غازي صلاح الدين ليس كذلك؟ فهل هناك تطور فكري أدى لمثل هكذا إنقلاب؟ وإن كان كذلك ما هي دواعيه؟ هنا تلزمنا بعض المقاربات والتحليلات. المصطلحات: نحن نستعمل مصطلح (الإسلاموعربية) للإشارة إلى الكيانات الإجتماعية والثقافة التى توصف بأنها عربية تارة، وعربية إسلامية تارة أخرى، باعتبار أن العروبة (الكيان الإثني/ الثقافي) والإسلام (الدين) قد توحدا جدليا وليس من الممكن الفصل بينهما عمليا، وحتى نظريا إلا كأجراء مؤقت بغرض الدراسات فقط، في ما يخص العلوم التيولوجية، اللاهوتية، وذلك لسبب جوهري هو أن اللغة والمفسر والممارس، وهو هنا الكيان الإجتماعي، ليس أثيرا فارغا يمكن أن تمر عبره المادة دون أن تتختلط بعناصره، وهو ـ أي هذا الإصطلاح المنحوت من عندنا، ليس أبدا لغرض غير التعبير عن هذه الوحدة الجدلية، وجريا على عادة حديثة مستمدة من اللغات اللاتينية التي ـ بسبب تقدمها على اللغة العربية ـ صار لديها السبق والقدرة على اختراع المصطلحات الدالة على المفاهيم المركبة. (وموضوع المقارنات اللغوية ليس هو موضوعنا هنا حتى لا يقفز عليه هواة التشعبط على البردعة). أما مصطلح (إسلاموعروبية) ـ بوجود الواو ـ فهو يشير إلى الأيديولوجيا وإلى الكيان داخل الكيان الذي يتبنى هذه الأيديولوجيا ويحركها في حلبة الصراع، الأيديولوجيا التي تعني في ما تعني: تبرير المصالح المادية والمعنوية في حلبة الصراع. والإسلاميون في هذا السياق ليسوا سوى طبقة من طبقات الإسلاموعروبية. ماهي آليات عمل الإسلاموعربية؟ أولا: الممارسة: تتحرك الإسلاموعربية ـ بشكل رئيسي ـ عبر فاعلين أساسيين؛ المقدس، أي الجانب الديني بدءا من اللاهوت إلى التفسير، ثم التطبيق. والدم. وتعيد إنتاج نفسها ـ رأسيا بمرجعية المقدس، وتابعه؛ اللغة والتفاسير، فيما يخص الفاعل الأول. وإعادة إنتاج الدم عبر الأنساب، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأنساب تقوم رمزيا مقام الدم، فالدم في الثقافة العربية يمكن إكتسابه عبر تلفيق الأنساب، ولكن بشروط طبعا، مثلما تثبت رؤية هلال رمضان بالشهادة حتى ولو أكد علماء الفلك ألا هلال. وتتمدد أفقيا أيضا عبر هذين الفاعلين، فعبر المقدس، يدخل الناس الإسلام، ويتبنون ضمنيا ما يتيسر من عروبة، وبذلك يتمهد السبيل إلى إعادة الإنتاج الثقافي الشامل، بالقفز فوق هذه المسلمة الأولى. أي أن المسلم غير العربي؛ عربي مؤجل العروبة إلى أن يمتد إليه الإطار عبر صيغة النسب. وهو المعطى الذي ظل سائدا. وذلك باعتبار العروبة رأس مال رمزي أعلى في الهياكل الثقافية للأطار الإسلامي العام، على الأقل على مستوى اللاوعي. وعبر الدم، بمعناه الاجتماعي الذي ذكرناه آنفا؛ يتمدد الكيان الإسلاموعروبي عبر ما نسميه بميكانيزم النفي البيولوجي للرجل الآخر، ( ويقوم ميكانيزم النفي البيولوجي للرجل الآخر (الاستعراب العرقي/الثقافي) على تزوج الرجال العرب (سواء كانت هذه العروبة عاربة أو مستعربة أو متعربنة/ملفقة عبر الأنساب) بنساء (الآخرين)، وتكون الذرية وفق البطريركية الأبوية (عربية) ولا يعترف بمكونها الآخر. البنات يتزوجن ـ في الغالب ـ حصريا في الكيان العروبي، أما الأبناء الذكور فيواصلون طريق الأسلاف (وهذا من أهم أسباب التمسك ب/والتشديد على مسألة تعدد الزوجات)، وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على حساب الكيانات الأخرى التي تتآكل في نهاية المطاف). وهذا هو الذي يشرح عملية الاستعراب التاريخية لشعوب الرافدين (الآشوريين والكنعانيين وغيرهم) وشعوب الشام البيزنطية والكنعانية وغيرها، وشعوب مصر الفرعونية القبطية، وشعوب شمال أفريقيا البربرية. وشعوب شمال السودان النوبية والنييلية وغيرها. أما الآن، وفي السودان، فالعملية أخذت طابعا أكثر فاعلية عبر استعمال جهاز الدولة بمعطياته الحديثة لخدمة مشروع بهكذا ملامح. ثانيا الخطاب: تحليل أولي للخطاب الإسلاموعروبي في السودان: باعتبار الخطاب هو الكلام المنتقى للتعبير عن الأيديولوجيا بأظهار ما يراد إظهاره، وفي نفس الوقت إخفاء ما يراد إخفاؤه. يمكن تصنيف أشكال الخطاب الإسلاموعروبي في السودان إلى الآتي: أ/ الخطاب الإسلاموي: هو الخطاب الذي يبني نفسه ويركز على الحس المشترك/العام، باعتبار أولوية المخاطب، وهذا الحس المشترك، بحسب ـ غرامشي ـ "هو اللافلسفة، أي تصور العالم تصورا غير نقدي" والمراهنة على المسلمات الأكثر ذيوعا، بغض النظر طبعا عن صحة هذه المسلمات من عدمها. وهو ما نسميه بفلكلور القلب لدى المخاطبين، وهم عامة المسلمين في السودان. وبهذا المعنى يمكن الاصطياد عبر لافتات مكة كمرجعية مقدسة ـ زمانا ومكانا، وتحت اللافتة تمر الأيديولوجيا: أي تبرير المصالح المادية والمعنوية لفئة مسيطرة بالفعل، سواء كان ذلك سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا. وهو ما نسميه بالمركزية. ب/ الخطاب العلمانوي: وهو خطاب يبني نفسه ويركز على الحس الخاص، باعتبار أولوية المخاطبين، وهم هنا ما يطلق عليهم لقب المثقفين عموما. ولأنه يعرف ـ أي الخطاب ـ أن هناك بذور النقد، فيلجأ إلى الأكاديمية تارة وإلى الأيديولوجيات الفرعية تارة أخرى، ليقوم بصب الناتج في الماعون الكبير (ما يسميه هذا الخطاب بوتقة الإنصهار)، ويستعمل المصطلحات الاختزالية مثل: الثقافة السودانية، الشخصية السودانية، الذاتية السودانية.. إلخ إلخ، أختزاليا، باعتبار المعنى العملي هو (الثقافة/الشخصية/الذاتية) المعيارية التي هي المركزية نفسها. مع تهميش نقد آليات عملها كما في (أيديولوجيا) الآفروعروبية (الغابة والصحراء) والسودانوية والحيادية، واليسارية وكلها ـ حسب رأينا ـ (ايديولوجيات) فرعية تتفاوت في درجاتها فحسب. وهي إذ تفعل ذلك، فإنها تسلم ضمنيا بعمل هذه الآليات، التي أن استمرت ـ كما يتمنى المثقفون الإسلاموعروبيون ـ ستفضي في النهاية إلى تحقيق رسالة الكيان الإسلاموعروبي بتحول السودان ككل إلى كيان إسلاموعربي، وفي ذلك أدب كثير مما يكتب حول معضلات السودان واقتراحات حلولها. وهذا هو السبب الذي دعانا لأن نطلق على ذلك أركيولوجيا الأمنيات. نعود إلى غازي صلاح الدين. والسؤال هو لماذا يبدو غازي صلاح الدين العتباني والطيب مصطفى ـ هذان الإسلاميان المتشددان ـ مختلفين هكذا؟ (وأرجو ألا يظن أن ذلك ليس اختلافا وإنما توزيع أدوار كما ظل يتعامل الكثير من الكتاب السودانيين مع اختلافات الإسلاميين)، وهنا ـ أيضا ـ لابد من بعض التحليل الضروري من الحقائق المعروفة أن أهم آليات الـ access to power في السودان ـ حتى الآن ـ هي الإنتماءات القبلية والدينية الطائفية أو البيت الكبير، ثم تليها في سلم التراتبية المؤهلات الشخصية. وإذا ركزنا في حالة الطيب مصطفى وغازي صلاح الدين عتباني كمثال، فالأول يمتلك مؤهلات القبيلة في ظل هذا الوضع المتشرذم قبليا، والمتجه إلى تحقيق الحيازات عبر هذه الآلية التي ـ أن تحققت ـ قد تفضي إلى السؤال (إنت من وين يا أخونا) كسؤال جوهري في مبدأ القسمة المفترضة. بالطبع سيقول مصطفى "من الجيلي لدامر المجذوب". أما السيد صلاح الدين العتباني، فسيدخل في حيص بيص، خاصة إذا تم تقليب التواريخ ، وهي تواريخ ليست مستحبة لدى السودانيين عموما، وفي أقل الأحوال سوءا سيذهب إلى هامش المقسومات تلقائيا إذا لم تتبرع العشيرة الصغرى (التي هي بمثابة الكفيل في هذه الحالة) بالعطايا. ولذا فهو ينظر دائما إلى الشكل العام للأيديولوجيا، إلى المجرد، الذي يتساوي فيه الأفراد وتكون المفاضلة بالمؤهلات الشخصية، ولذلك هو أهدى إلى حكمة التاريخ والماكروجماعة في هذا الوقت بالذات. وإذا كانت الشريعة، على الأساس المكي، باعتبار صرفيتها العربية وشكلها المعياري، قد اصطدمت من قبل بالثقافات الأخرى وأنتجت ما أنتجت من فرق، ومنها الصوفية التي التجأت إلى (الحقيقة) متجاوزة للشريعة بشكلها ذاك ونجحت، في سنار. فها هي تصطدم اليوم من أعلى ومن أسفل بالثقافات الأخرى، ونقصد بالأسفل ثقافات ما يسمى بالهامش في السودان ـ ومنهم من لا يدين بالإسلام، وبالأعلى ثقافة العولمة، حسب وضعية السيادة. فإين ستذهب الشريعة في هذه الحالة؟؟؟
أهل المايكروجماعة، ومنهم الطيب مصطفى، ليس هذا بكبير أهمية بالنسبة لهم، فالإجابة هي: ستبقى في المايكروجماعة إن تعذر الكل، لأن مصالحهم ـ المادية والمعنوية ـ ستبقى على كل حال. أما الآخرين من الإسلاميين (الفاهمين) من أمثال الدكتور غازي صلاح الدين فهذا السؤال مؤرق بالنسبة لهم. و(أظنهم) رجعوا أخيرا لتمحيص الخطاب الإسلاموعروبي العلمانوي، ونقبوا في أركيولوجيا الأمنيات، فوجدوا فيها ضالتهم، ولذلك صار التاريخ يتجه نحو مقام المقدس/المعياري في الخطاب، وبحكم الضرورة التي هي المبرر لكل المحظورات ـ في ممارسة الإسلاميين. وبذلك يتجه الخطابان للإلتقاء، وتصبح حجج الخطاب العلمانوي بقبول (الإسلام الشعبي) مقدّرة عند بعض الإسلاميين الذين لم يكونوا يقبلون بغير المعيارية حكما حتى وقت قريب، وحتى الآن عند الكثيرين. إذن يمكن الإلتفاف حول هذه المعضلة بالإلتفات إلى الإسلام الشعبي بكل (أساطيره وخرافاته ـ حسب ما كانوا يعتبرون) وهو القادر الوحيد على تلحيم التناقض، ففيه الشريعة موجودة وغير موجودة في نفس الوقت، فالفكي يقرأ سورة ياسين قبل قطع الرحط، ويخرج ليوزع المريسة من البرميل الكائن في الدارة للمعازيم، ولم تكن هناك مشكلة أبدا، مثل ذلك من الممارسات الكثير على مرآى من قاضي القضاة في أي دويلة إسلامية كانت قبل ظهور هؤلاء الإسلاميين في السودان. لأن الأهم من ذلك كله، هو الوجود، ثم الإستمرار الذي لولاه لما وجد الإسلاميين حسا عاما ولا فلكلور القلب الذي ذكرناه سابقا. وهذا هو مغزى حجج الخطاب الإسلاموعروبي العلمانوي، الذي يبدو أنه قادم في الطريق. وهذا ما يجاور المغزى من سرد الدكتور غازي العتباني لقصة البقط في مقاله. يقول غازي صلاح الدين: " بالطبع فإن المسألة (ويقصد البقط بما فيها عطية/هدية الخمر) لا تصلح لأن يستل منها حكم على مستوى العادات والعبادات الشخصية ، لكنها مسألة كاشفة في تعامل المسلمين الأوائل وولاة أمرهم مع الشعوب التي خالطوها. وللراغب في دراسة حركة التاريخ ليستل منها فقهاً وفهماً لما نواجهه من تحد أن يقرأ الأحداث التي مرت بالسودان منذعام 31 إلى عام 1423 هجري ليتقفى اتجاهات مسارات التاريخ وحتمياته". وهذا ضمنيا يعني العودة إلى مطبخ النار الباردة، يعني ـ فيما يعني ـ العودة من مكة إلى سنار، من الإسلام المعياري إلى الإسلام الشعبي، يعني أن (الحاكم) ـ والتشديد على الحاكم هنا ضروري ـ ليس بالضرورة مسئول عن تطبيق الشريعة المعيارية، وذلك لغرض أسمى، هو مواصلة الإمتداد. ثم يمضي في التأكيد " ونحن أجدر بأن نصل إلى أهدافنا بثقة أكبر ونجاح آكد لو أننا تعاملنا مع الأشياء دون جزع أو هلع". لماذا؟ لأنه حسب قراءة الدكتور غازي للتاريخ "أن أحوال الجنوب في بعديها الثقافي والاجتماعي تمضي في نسق حتمي يدركه من يدرسون حركة الزمان والناس ولا يحتاج المرء أن يطمح ببصره بعيداً في المستقبل ليرى ذلك ، فالذي تحقق حتى هذه الساعة من الاستقرار والنماء والتحول الموجب في علاقاتنا بالجنوب أظهر من أن يستدل له ، «لكنكم قوم تستعجلون». ويكفي أن نذكر هنا أن أهم مشروع تنموي واقتصادي، هو إنتاج البترول، موجود في الجنوب. وفي السنوات العشر الماضية جرى من التواصل الإنساني والسكاني ما أحدث تعديلات جوهرية في علاقات الشمال والجنوب". (إذا تغاضينا عن المغالطة والبلاغية في ما يزعم أنه تحقق من أستقرار ونماء) فمربط الفرس في هذا القول، ليس في مقدمة الأمثال: المشاريع، التنموية، البترول إلخ وإن كانت هذه ليس للجنوب فيها ناقة، وإنما في عجزها، وهو ما أسماه بالتواصل السكاني وما أحدثه من تعديلات جوهرية..إلخ مؤكدا على مقولة د. الترابي في مناظرته مع الصادق المهدي في قناة الأم بي سي، في عام 1998 على ما أظن، حيث كان الأخير أكثر شفافية في رده على آثار الحرب، بالقول بأن ذلك ـ ويقصد النزوح ـ خدم المشروع، بجلب الناس إلى (بوتقة الإنصهار) وإلى مقربة من يد العاملين في المشروع الحضاري. وغازي صلاح الدين يريد أن يقول للطيب مصطفى والذين معه: "لم الهلع والجزع؟ فرأس المال المادي عندكم، ورأس المال الرمزي عندكم، وبإمكانكم أن تكونوا الثعلب في حظيرة الدجاج بجدارة، في أي وضعية قادمة، لتواصلوا طريق الأسلاف الذي هو أقل تكلفة.. فما الداعي للجعلوية" والأخيرة هذه لا داعي لها لأنها تتناقض مع خطاب التحايل الأيديولوجي، الذي يتم التأسيس له الآن ليحل محل خطاب المواجهة/الجعلوية التي تعنى بالشكل أكثر من المضمون. هذا ما يريد قوله غازي للطيب مصطفى بصيغة اشتباه المدح.
أبكر آدم إسماعيل كالغاري ـ كندا
************************************************************
(9) حق الوطنيين في التفكير .. يا غازى يوهانس موسى فوك [email protected]
قال نابليون بونا برد وهو يحاكم أحد الخونة :إن من خان وطنه كمثل الابن الذي سرق مال أبيه ليطعم به اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللصوص يكافئوه .لقد أثار مقال د. غازى صلاح الدين العتبانى الذي نشر في جريدة سودانايل بعنوان)حق الأغبياء في التفكير) موجه من التساؤلات ..أهمها ما المغزى من تعقيبه على دعوات الطيب مصطفى في هذا الوقت بالذات ؟؟ والحقيقة المحرجة لعتبانى هو أن المقال فى طياته يركز على نقطة واحدة هى العلاقة بين الشمال والجنوب .. .. ولم يضع في حسبانه ان معارضته أو نصيحته كما تفضل لأخيه الطيب مصطفى ليست بالضرورة أن يجعل ابناء الوطن الأصليين أغبياء عنده لمجرد انهم عبروا عن أراءهم حول قضيتهم .. ومن خلال تحليل الكاتب لدعوة الطيب مصطفى نجد انه لم يضف جديدا غير المزايده بشخصية الطيب حتى يصفه بالجعلى النموذجى تارة و بمن نفد صبره تارة اخرى .. ولم يشر بصراحة الى ان هناك شعب فى الجنوب يعانى ... إلا انه اعتبر المشكلة تلقى عليهم كل يوم ثقل جديد ،ولأ افهم هو ومن؟؟؟...الحكومة ام الشماليون ؟؟؟ وهو امتحان فى نظر الكاتب .. بالانطلاق من منطق واحد هو: ان الشمال سينجح فى توحيد السودان بالسيف؛؛ِِِِ
تطرق العتبانى الى نقطة خطيرة جدا بقوله: (قد تعزينا قراءة التاريخ اذا لحظنا ان احوال الجنوب فى بعديها الثقافى والاجتماعى تمضى فى نسق حتمي يدركه من يدرسون حركة الزمان والناس ولا يحتاج المرء ان يطمح ببصره بعيدا فى المستقبل ليرى ذلك فالذى تحقق حتى هذه الساعة من الإستقرار والنماء والتحول الموجب فى علاقتنا بالجنوب اظهر من ان يستدل له (لكنكم قوم مستعجلون)...).ولعل الحرب الأهلية الدائرة حاليآ هي التى عكرت مياه النيل وادخلت علينا عناصر دخيلة ..وهذه العناصر تمكنت من التوغل الى صميم السلطة واصبحت جزاء من المشكلة التى يعانى منها الشعب السودانى. لكن دعونى افيد النائمين اللذين لا زالوا يعتقدون ان الجنوب باب سيفتحه المسلمون .. بأن الجنوب حاليا وقف على رجله اليسرى فقط ..ومسك الرمح بيده اليمنى ..فاحترسوا لأن الكرة بملعبه .. وهو الذى سيقرر ..اكرربانه سيقرر مصير علاقته مع الشمال .. ولم يعد بعد الان قرار الانفصال او الوحدة فى قبضة الطيب او عتبانى حتى لايكون ذلك نقطة الجدال بينهما. ولقد استخلصت من كلام غازى شيئين .. الأول (محاولة حجب الحقائق) .. فهو انفصالى ولايريد ان يجهر الإنفصاليون بهذه الحقيقة حتى لا ينعزلوا... فمن يحب أرضاً ولا يحب شعبه لا يمكن ان يدّعي الوحدة. والثانى هو انه حاول ان يطمئن الشماليين الذين قبلوا به فى الشمال ان الحكومة الانقاذ حريصة على وحدة السودان . ولكن ولابد ونحن نتكلم عن مصير العلاقة بين الشمال والجنوب ان نعيد الى الأذهان بعض الملاحظات الأساسية فى هذا الصدد وان بدأ بعضها مكررآ. ان هذه العلاقة هي التى توفر له هذا الثقل السياسى والاهتمام الدولى والآفاق المستقبلية لم تتوفر له (بنية الثقة) تحمي حركته من برجماتية او اسلوب المقايضة ، وذلك انه ينمو فى الوقت الصعب الذى يمر به السودان .. مرحلة الصراع الفكرى الذى تقوده الأحزاب السودانية، فحزب الأمة مثلا يمثلون طائفة الأنصار والاتحادي الديمقراطي (الختمية) اما الجبهه الإسلامية فهى صاحبة فكره التوجه الحضارى والدوله الإسلامية وترى ان الجنوبيين كفار واجب تعريبهم واسلمتهم بالقوة . وبالتالى لاتعتبر هذه الأحزاب تجسيدا فعليا للمركب المعتقدي الذى تقوم عليه الحركات التحررية الأصلية، وينتج عن هذا بالضرورة ثقل المشكلات او التمايزات الداخلية للمجموعتين الشمالية والجنوبية من جهة وسهولة الاحتواء الخارجى الذى نراه رأي العين من قبل الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا من جهة اخرى. وحيث اننا معنيين فى هذا المقال بفحص دور الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فى اطار العلاقة بين الشمال والجنوب –الفاترة- بالتاكيد .. فاننا لابد ان نعالج التساؤلات التالية: 1:كيف يتم بناء الثقة التى لم تكن موجودة اصلا بين الشمال والجنوب .. والعبارات الجارحة مازالت تردد بالتواتر (الجهاد فى الجنوب). 2:على اى اساس تقوم العلاقة .. والأطراف غير متجانسه ولن تنصهر لأن الإسلام لا يسمح بزواج المسيحى من مسلمة . هل اهل الشمال سيقبلون بالمساواة مع اهل الجنوب؟. لم يكن ثمة مفر من حقيقة مفادها ان الإنفصال سيأتى فرضا من الشماليين قبل ان يقرره اهله .. وذلك بعنادهم المتعمد فى عدم مواجهه الحقائق، ورجل كغازى وهو مستشار الرئيس لشئوون السلام كان يفترض ان يتحلى بعبارات مشجعه للطرفين بدلا من الغرق فى الخناق .. واكثر عباراته دائما مثيره للجدل ومثل هذاه العبارات لا تخدم إلا الإنفصال والكراهية الدينية ،وتكون تاريخا غير قابل للنسيان وتزيد المسافة بعدا بين الشمال والجنوب وترفع نسبة الحقد والكراهية بين الأجيال القادمة
أبكر آدم إسماعيل كالغاري ـ كندا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(10) الإنفصاليون الجدد ..!!
بقلم : عثمان ميرغني
الاستاذ الطيب مصطفي المدير العام السابق لتلفزيون السودان ووزير الدولة السابق بوزارة الإعلام ليس مجرد كاتب عادي عندما يكتب مقالا طويلا ثم يسلمه لثلاث صحف يومية وتنشره الصحف الثلاث في ذات اليوم.. فليس في السودان "كاتب عادي" تنشر له ثلاث صحف دفعة واحدة مقاله.. فالطيب بحكم المشاركة السياسية هو عضو فعال في العمل السياسي وبحكم صلة القربى من السيد رئيس الجمهورية فهو "مُطلع" ومدرك لحساسية ما يمكن ان يثيره مقاله من رياح خاصة عندما يكون المقال "مع سبق الإصرار والترصد" بالنشر بالثلاثة.
ولم يكتف الطيب باثارة كل الأشجان التي عددها بل ختم مقاله بعبارة حاسمة "وسيتلو ذلك خطوات سيعلن عنها في حينه إن شاء الله .." وهي كما ذكرتُ في مناسبة سابقة عبارة تحول المقال من مجرد رأى منشور الي "منفستو" حركة سياسية جديدة .. اختار لها الطيب مصطفى - تهكما - اسم "الحركة الشعبية لتحرير شمال السودان NSPLM.
وعموما دعوة الطيب مصطفي "الإنفصالية" باسم الشمال ليست جديدة وإن كان أضاف لها مزيدا من الحجج والمرارات ومرافعات التظلم والإحتجاج ليجعلها أكثر حرقة ،لكن - كما أسلفتُ - شخصية الكاتب تجعل من الدعوة هذه المرة نبرة جديدة ربما ساور الكثيرون هاجس أنها قد تكون مدروسة بعناية أكبر مما يظهر على سطح المقال من خواطر شخصية تعبر عن رأى فردي..خاصة وأن كاتب المقال استدرج أسانيد لبعض حججه من قول نسبه الي الرئيس البشير.
ويبدو أن الطيب مصطفي وقع في الخطيئة المعهودة لبعض المفكرين والكتاب الذي يحللون وينظرون الي مشكلة الجنوب من إحدي الضفتين .. الشمالية أو الجنوبية ولم يستطع اقتلاع نفسه - وهو يكتب المقال - من جغرافية المكان والإنتماء حتى يرى الأمور على حقيقتها بعيدا عن حُجب وألوان المسلمات التي تُثار من جانبي القضية في الشمال والجنوب والتي تجعل منها في النهاية مجرد مرافعة إتهام في مواجهة الدفاع أو العكس .
والنظر الي مشكلة الجنوب من مقاعد إحدى الفرقتين الشمالية أو الجنوبية يناصر حجة طرف على طرف لكنه لا يمنح الحكمة المطلوبة للخروج من نفق القضية المظلم.حتى في الأسانيد الرئاسية التي تحجج بها الطيب مصطفي طفرت فكرة النظر من ضفة الي أخرى فقد ذكر ان السيد الرئيس البشير وفي مناسبة موثقة قال "إذا خُيرنا بين استمرار الحرب والإنفصال فسنختار الإنفصال .." (انتهى حديث الرئيس) ويصبح السؤال المنطقي الي (مَنْ)يعود ضمير الجمع في كلمة (خُيرنا) هل هم الشماليون ؟؟ ومن هو نائب الفاعل الذي يملك حق "تخيير" الرئيس أو الحكومة بين الحرب أو الإنفصال ؟؟.
من الواضح ان النظر الي قضية الجنوب يعاني من التحيز ، إما للشمال أو الجنوب .. وأقصد بالتحيز ان يقف المتكلم في الضفة الشمالية و الجنوبية ويصدر حكمه من كيف مايراه من موقعه ..
لكن النظرة الحصيفة الي القضية بعيدا عن الإنحياز لأي طرف ،ودون الجلوس على ضفة النهر اليسرى أو اليمني وإنما من جزيرة في الوسط يمنح القضية نهجا عقلانيا غير متشنج بحجة أو ظلامة او شكوى. ولا يجعل مسئولا رفيعا مثل الطيب مصطفي يطالب بتقصير الفترة الإنتقالية للخلاص من هَم الجنوب وهو يعلم أنه حتى ولو تأكد للسودانيين جميعا أن الجنوب لا محالة منفصل وأنه لا رجاء إطلاقا من الوحدة في سودان واحد فإن على الشمال والسودان كله أن يتأكد ان لا يحدث ذلك قبل أن يشتد ساعد الجنوب ليقوى على الوقوف علي قدميه دولة مستقلة قادرة على احتمال الإعتماد على قوامها بين الامم الأخرى .. أن يعمل السودان كله - هو يعلم أن الجنوب سينفصل - خلال ستة أعوام الفترة الإنتقالية من أجل جنوب سالم معافى . وتظل شركة الإتصالات السودانية (سوداتل) تركب الهاتف الجديدة وتمدد كوابلها حتى آخر ساعة قبل الرحيل من الجنوب .. بل وتبرم العقود التي تضمن لها حق الاستمرار في العمل في دولة الجنوب الجديدة وكأن الإنفصال لم يحدث.
ويستمر الدورى العام لكرة القدم على وتيرته فيلعب هلال الخرطوم مباراته ضد مريخ "جوبا" حتى آخر دقيقة فيها ثم يودعه على أمل التقابل في المباراة القادمة في دورى كأس أفريقيا لأنه سيكون فريقا في دولة أفريقية أخرى جديدة.
أقصد أن يدرك الشماليون أن الجنوب جزء من السودان وحتى ولو أصبح في طريقه الإجرائي البرتوكولي نحو الإنفصال فإن واجبهم التأكد من أنه سينفصل وهو في أفضل حالاته كدولة جديدة ..وهذا المنطق على عكس فكرة الذين يطالبون بتقصير الفترة الانتقالية حتى لا يخسر (السودان!!) من موارده ما سيذهب الي شقه الجنوبي المنفصل عنه لا محالة ..
ومشكلة الطيب مصطفي كغيره من بعض الاسلاميين أنهم لا يسقطون الحكمة الدينية في المعاملات الفردية والشخصية على مسلك الشخصية الإعتبارية كالوطن أو الحكومة او المؤسسات الرسمية.. فتبدو كثير من المعاملات المطلوبة شرعا من الفرد مرفوعة عنه إذا كان يتحدث باسم شخصية اعتبارية كالوطن او الحكومة. فالاستدلال الذي أخذ به الطيب مصطفي في تحليل الدين للإنفصال في الحياة الزوجية إذا تحتم ذلك لم يكمله الي مداه ويستنبط كيفية "الإحسان" المطلوب شرعا إذا تأكد الإنفصال في الحياة الزوجية "وتسريح بإحسان" وأن هذا التسريح بإحسان يتطلب قوامة الطرف الأقوى علي الأضعف حتى يتأكد من قدرته على مواجهة الحياة الجديدة.. وبهذا المفهوم قد يكون مطلوبا من السودان الاستمرار في دعم "ميزانية دولة جنوب السودان " حتى بعد الإنفصال لحين بلوغه سن الفطام.
والإسلام دين أممي يناهض الحدود السياسية أو العرقية أو اللونية ويُظهر ذلك حتى في التعامل الشخصي الفردي فيوصي بالجار للدرجة التي وصفها الرسول صلي الله عليه وسلم بأنه كاد يظن أن الله سيأمره بأن يدخل الجار في ورثة جاره مثله كأى من ذوي القربى المورثين.
ثم أن الطيب مصطفي ينسى - في غمرة تعداده حيثيات تقصير الفترة الإنتقالية - أن الشماليين المسلمين يرددون دائما أن تعداد المسلمين في جنوب السودان أكبر من تعداد إخوانهم المسيحيين .. إذا لماذا يناهض الطيب مصطفي إخوانه المسلمين في وطنهم الجديد ويبذل النصيحة بفطامهم أعجل ماتيسر حتى لا يهدروا موارد السودان في فترة انتقال طويلة!! .. لماذا يبخل الطيب مصطفي علي إخوانه المسلمين في الجنوب وهم في دولتهم الجديدة في حاجة ماسة لتثبيت قواعدها بمساعدة جارهم السودان حتى لا يصبحون عالة على أجندة غريبة أخرى ؟..
من الواضح ان حيثيات الطيب مصطفي هنا بُنيت على "حالة" إحساس قبلى (جعلي) محض.. تاهت في ضبابه حالة (الإيمان) بنظرة الإسلام المتآخية للمسلمين بعضهم لبعض ولأصحاب الديانات السماوية الاخرى... وكما لا يسرق السارق حين يسرق هو - مؤمن- كما ذكر الحديث النبوي الشريف .. فلم يكتب الطيب مصطفي ماكتب وهو - مؤمن -.. الإيمان "حالة" وليس "صفة" بمنطوق الحديث النبوى الذي جعل الإيمان كالطائر يهبط في القلب ويطير حسب "الحالة" .
ولعل الطيب مصطفي تمادى في هذه "الحالة" وهو يقرر إنعدام عوامل التوحد بين أبناء الشمال والجنوب ويقرر أن صلة القربى بين الشماليين وجيرانهم الاريتريين والتشاديين والمصريين أكثر من صلتهم بالجنوبيين . وأن صلة الجنوبيين باليوغنديين والكينيين أقرب من صلاتهم بالشماليين عرقا ولونا ولغة ودينا بل وحبا وهوى .
ورغم ان النظرية التي ساقها الطيب هنا تعبر عن "الحالة" التي سقتها في السطور السابقة أكثر من الحقيقة فهي خاطئة تماما من حيث الحقيقة العلمية وآخرها كان الكشف الأثري لمومياء رجل عاش في شمال السودان قبل سبعة آلاف عام وتبين أن شعره أجعد وبشرته سمراء كأي سوداني من الجنوب او الشمال حاليا. ، إلا أنه بافتراض صحة حديثه فإن الطيب لم يبذل جهدا في النظر الي دول كثيرة تقوم على شعوب متباينة اللغات والأديان والسحنات على رأسها أقوى دولة في العالم الولايات المتحدة الامريكية التي يكون في النهاية شعبها خليط "أقليات".. وربما كان ذلك سبب قوته بل ما تزال الولايات المتحدة الامريكية تدعو البشر من جميع الأعراق للهجرة إليها وتقف طوابير طويلة من السودانيين في انظار"الروتاري" ليصبحوا أمريكان رغم اختلاف اللغة والدين والعرق واللون وحتى درجة "التحضر" .
دعوة الطيب مصطفي فيها أنفاس العرقية والعنصرية وتحيل قضية الحرب في جنوب السودان الي فصل جديد يقوم على نظرية "الخلاص" الكبير التي يفترض فيها الشمال أنه سيدفن كل أوزاره وسيئات تاريخه القديم في أرض دولة جديدة في جنوب السودان. وليته يراجع الحيثيات التي بنى عليها أحكامه و يتهم النفس الأمارة بالسوء ثم يؤسس نظرة جديدة تبعد عن الشاطيء الأيمن او الأيسر وتنظر الي الامور بمعيار "عقلاني" بعيداً عن العواطف والتراكمات الحزينة التي بذرتها في النفوس مرارات الحوادث التي غلفت قضية الحرب في جنوب السودان وجعلت منها أكبر مأساة بشرية في وجه الكرة الأرضية على حد تعبير السيد كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية ..
************************************************************
(11) مكواج تينج الوزير الجنوبي الناطق باسم الحركة الرئيسية المتحالفة مع حكومة البشير:
نساند دعوة الانفصال ونادمون على الاتفاق مع الحكومة
الخرطوم: البيان
أشارت دعوة الطيب مصطفى وزير الدولة للإعلام السابق واحد القيادات البارزة للحزب الحاكم في السودان والذي تربطه وشائج القرابة مع الرئيس عمر البشير لانفصال الشمال عن الجنوب ردود أفعال متباينة وكان من ضمنها دعوة مكواج تينج وزير الدولة بوزارة الحكم الاتحادي والناطق الرسمي باسم حزب جبهة الإنقاذ الذي وقّع مع الحكومة اتفاقية الخرطوم للسلام في عام 1997م وعلى أثرها ترك الحزب العمل المسلح وتحالف على الحكومة.
وحرك مكواج الكثير من المياه الراكدة بمجاهرته رغم منصبه الوزاري بالانفصال وتكوين دولة جنوب السودان مما تعتبر بادرة غير مسبوقة في السودان. ونحاول من خلال الحوار إجلاء آرائه حول دوافعه للانفصال ولاسيما وأن هناك تحركات مكثفة من الجامعة العربية لدعم التنمية في الجنوب حفاظاً على وحدة السودان. وهنا تفاصيل الحوار:
ـ في أعقاب دعوة الطيب مصطفى القيادي بالحزب الحاكم لانفصال الشمال عن الجنوب دعوت للانفصال، فهل حديثك هذا جاء بمثابة رد فعل أم لقناعة باستحالة الوحدة؟
ـ اعتبر أن دعوة الطيب مصطفى هي دعوة تمت بدراية لواقع السودان وتستحق تقديراً وخاصة أنه قيادي من حقه أن يدافع عن مصالح أهله، ونحن عندما عدنا ووقعّنا اتفاقية الخرطوم للسلام في عام 1997م تركنا الخيارات مفتوحة بين الوحدة والانفصال. وصحيح هناك من يرى أننا حركة انفصالية ولكننا في النهاية نرضخ لرأي جماهيرنا ولذلك كان اتفاقنا على ضرورة الاستفتاء على تقرير المصير، وموقف الإنسان من الوحدة والانفصال يتبدل حسب المتغيرات الواقعية. وعند إطلاق الطيب مصطفى دعوته اعتقد ان هناك ضرورة لمحاسبة الذات طوال الفترة الماضية حول العائد عن الوحدة للأجيال القادمة ولا أظن أن الحديث عن ان السودان وجدناه موحداً ويجب أن يظل كذلك حديث لا معنى له وهو نوع من اليأس لأن الفشل لا ينبغي الاستمرار فيه ويجب إعطاء الآخرين الفرصة للتعبير عن آرائهم. والجنوبيون كان رأيهم الانفصال منذ مؤتمر جوبا 1947م والحديث عن أن الجنوبيين وافقوا بالوحدة في ذلك المؤتمر حديث فيه الكثير من اللبس ولان الجنوبيين طالبوا أما أن يتعلموا تحت إدارة الإنجليز و ينفصل الشمال أو يمنحوا فرصة لفترة 4 سنوات ليحكموا أنفسهم وبعد ذلك إذا وصلوا لمرحلة متطورة يمكن أن يتوحدوا مع الشمال أو أن ينضموا لشرق أفريقيا ولكن الإنجليز رفضوا هذه المقترحات وقرروا بالنيابة عن أهل الجنوب.
وأرى أن الإشكاليات بدأت منذ عام 1947م. لأن الأخوة في الشمال تقدموا في التعليم أكثر من الجنوب. وقد كشف السكرتير الإداري للسودان في تلك الفترة في مذكراته أنه رفض مقترحات انفصال الجنوب في مؤتمر جوبا لانه أعتبر أن الجنوبيين والشماليين المشاركين في المؤتمر لا يعبرون عن كل أهل السودان ليقرروا بشأن السودان. وفعلياً نحن جربنا الوحدة طوال هذه الفترة ولم نجنِ إلا الموت والدمار والمرارات.
ـ إلا ترى أن محادثات ماشاكوس يمكن أن تكون فرصة مواتية لإحلال السلام وتعزيز الوحدة الطوعية في البلاد ثم ان هناك محاولات حثيثة من قبل الجامعة العربية للمساهمة في تنمية الجنوب في الفترة الانتقالية لدعم خيار الوحدة، فما رأيكم في الجهد العربي للحفاظ على وحدة السودان؟
ـ القضية ليست بهذه السهولة فهناك قضايا تقسيم السلطة والثروة فإذا كانت الحكومة ترفض في ماشاكوس اقتراح أن يكون نائب رئيس بصلاحيات واسعة فهذا يعني أن الحوار من الأصل لن يؤدي لنتيجة. فنحن إذا تحققت تنمية وتمسك أهل الشمال بأن الشريعة لا تسمح لمسيحي بحكم السودان فهذا يهدم الوحدة. وبقراءة للتاريخ نجد الشماليين ينقضون كل اتفاقياتهم مع الجنوب، فمثال لذلك قبل الاستقلال وعدت قيادات الشمال بتحقيق مطلب أهل الجنوب بأن يكون نظام الحكم فدرالي ـ اتحادي ولكن بمجرد نيل الاستقلال تناسوا هذا المطلب. وبعد مجيء نظام الرئيس عبود العسكري في عام 1958م قام بمحاولات لأسلمة الجنوب وطرد المبشرين المسيحيين. ويمكن القول انه بعد خروج المستعمر الإنجليزي لبس الشماليون «جلباب» المستعمر وأنا أستطيع ان أراهن أن ما تحمله الجنوبيون طوال العهد الوطني لن يستطيع الشماليون تحمله وتحسباً لذلك ظهرت بعض الأصوات داخل الحزب الحاكم مثل الطيب مصطفى الوزير السابق والحاج عطا المنان أمين الحزب الحاكم بالخرطوم طالبت بفصل الشمال عن الجنوب وذكروا بأن الجنوبيين عانوا في مطالبهم. واتفق معهم وأقول بأن الشماليين لن يستطيعوا التنازل عن أوضاع ظلوا يتمتعوا بها لفترات طويلة على حساب الجنوب وحدوث هذا يتطلب إرادة سياسية قوية وتغييراً في النفوس. وأقول بصراحة ان الجنوبيين هم أكثر من يعاني من الحرب فقد لجأ ملايين منهم للدول المجاورة ونزحت أعداد كبيرة للشمال وهؤلاء يعيشون في فقر مدقع وسكن عشوائي وهم محاصرون بقانون النظام العام.
ـ من الملاحظ أن التيار الغالب وسط الأحزاب الشمالية هو مع الوحدة وقد عبرت هذه الأحزاب عن رفضها للدعوات الانفصالية في تقديرك هل يمكن ان يساعد هذا الموقف في صيانة الوحدة؟
ـ بصراحة الأحزاب الشمالية إذا كانت تريد الوحدة فكان يمكن أن تحقق شروطها وبالنظر للواقع السياسي منذ الاستقلال في عام 1956م وحتى مجيء الانقاذ في 1989م ماذا فعلت الأحزاب الشمالية للوحدة. فالصادق المهدي رئيس حزب الأمة حكم البلاد فترتين فماذا فعل الصادق في تلك الفترات لصالح الوحدة فهو لم يقدم أي شئ لدعم الوحدة. وحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يترأسه محمد عثمان الميرغني هو يتحدث عن الوحدة بصورة مريحة ولكن عندما يتولى السلطة لا يفعل شيئاً وهذه تجارب لا نريد الخوض فيها مرة أخرى. واعتقد أن التيار الغالب وسط اهالي الجنوب يقف مع الانفصال نتيجة للإحباط وإذا كان الشماليون الذين يمسكون بكل مقاليد الأمور في البلاد محبطين فكيف يكون حال اهل الجنوب.
ـ إلا ترى أن دعوتك للانفصال وعدم جدوى محادثات السلام الجارية حالياً بكينيا تتناقض مع وضعك كوزير في الحكومة التي تقف مع الوحدة؟
ـ نعم إذا تم النظر الى الأمور بصورة سطحية باعتباري وزيراً يمكن أن يكون هناك تناقض ولكن الحقيقة أنا توليت هذا المنصب لاني امثل جماهير محددة ولابد أن أدافع عن مصالحهم واعبر عن تطلعاتهم ولذلك أنا أنادي بالانفصال ونجد أن رئيس الجمهورية قد صرح من قبل أن الانفصال افضل من استمرار الحرب والموت. وأنا أساند دعوة الطيب مصطفى التي تقول ان الشمالي ليس في وسعه أن يقدم أكثر مما قدم وبعد مجيء الانقاذ دخلت الحرب منزل أي اسرة في الشمال نتيجة للتجنيد الذي لنا رأي فيه مما أدى الى تزايد أحساس الشمال بالحرب فهل يعقل أن يستخدم الجهاد في السودان الواحد «في نصف شعبك الاخر» واعتبر ان مواقفي تهدف للدفاع عن من فوضوني للتحدث باسمهم وتمثيلهم في الحكومة ولا أخشى عاقبة ما أقول.
ـ الا تتخوف من أن تؤدي دعوتك للانفصال لإقالتك من كرسي الوزارة؟
ـ أرحب بالإقالة إذا كانت حلاً لمشكلة السودان وإذا كان الموت مستمراً في البلاد من جراء الحرب ونحن المسئولين عاجزون من تقديم المساعدة فلا داعي لبقائنا في السلطة ونحن عندما رفعنا السلاح كان هدفنا رفع الظلم والفقر ولكن لم نستطع هذا. ودستور السودان ينص على حق الاستفتاء لأهل الجنوب على خياري الوحدة أو الانفصال وهذا من أدبيات الإنقاذ والخيار يعود للشعب السوداني ونحن ندعم خيار الشعب.
ـ ذكرت بأنكم رفعتم السلاح لدفع الظلم ولم تنجحوا في هذا حتى الآن هل هذا الفشل يمكن أن يدفعكم لحمل السلاح مرة أخرى؟
ـ لا لن نعود للغابة ونحمل السلاح بل سنظل في غابة الخرطوم السياسية بالداخل.
ـ بعد قرابة الست سنوات من توقيعكم اتفاقية الخرطوم للسلام مع الحكومة ما هو تقويمكم لإنفاذ بنود الاتفاقية حتى الآن؟
ـ هناك صعوبات تواجه تنفيذ الاتفاقية ومحادثات ماشاكوس جاءت نتيجة لعدم تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام التي تعتبر اتفاقية سودانية خالصة بأيد سودانية، وأتساءل إذا كانت الاتفاقيات التي تمت بأيد سودانية لم تنفذ فهل ينفذ ما يتم الاتفاق عليه في ماشاكوس التي تجري بضغط دولي ـ على حد قول البعض واعتقد انه لن تطبق اتفاقية ماشاكوس على ارض الواقع.
ـ ذكرت أن هناك صعوبات عاقت تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام فما هي هذه الصعوبات؟
ـ هناك صعوبات كثيرة من ضمنها مشاكل أمنية واقتصادية وسياسية أعاقت تنفيذها وهذا يرجع للمماطلة في تنفيذ الاتفاقية وانتظار كسب الوقت حتى يلوح في الافق اتفاق جديد. ولكن الجديد اصبح هو الانفصال ولكن أرى ان هناك أملاً في أمكانية تنفيذ اتفاقية الخرطوم للسلام طالما بنود الاتفاقية موجودة والحكومة معترفة بها وطبقاً للاتفاقية ينبغي ان يجري الاستفتاء على تقرير المصير في مارس 2004م ونحن ندعو لقيام الاستفتاء في هذا التوقيت ونحن موافقون على ان يجري تقرير المصير في جنوب السودان وفقاً لحدود الجنوب عند الاستقلال في عام 1956م، ونحن نعتقد أن جون قرنق يضيع الزمن والجهد بمحاولاته ربط قضية الجنوب بجبال النوبة وجنوب النيل الازرق ولكن نعتقد أن منطقة ابيي هي جزء من الجنوب وينبغى ان يشملها تقرير المصير. ويكفى ما تعرضنا له من مظالم منذ الاستقلال وحتى الآن والمسئولية في هذه المظالم لا يتحمل مسئوليتها الشماليون ولكن يشارك فيها عدد من القيادات الجنوبية الذين عندما يكونون في السلطة يغمضون عيونهم عن الأخطاء وبمجرد اقالتهم يتحدثون عن الاخطاء والمظالم وهذه الممارسات جعلت الشماليين لا يثقون بالجنوبيين واظهرتهم وكأنهم طلاب مناصب. وانا اتحدث في قضية الانفصال بوضوح رغماً عن اني وزير وكذلك هناك نقطة اساسية وهي ان السلطة ليست هبة من أهل الشمال يعطوها او يمنعوها فأنا مثل الرئيس عمر البشير لدى حق في السلطة فكلانا في نهاية المطاف سوداني الجنسية وهو رئيس باعتباره رئيساً للسودان والحكومة ولكن عندما تصبح القضية «شمال وجنوب» بالتأكيد سأقف مع أهلى في الجنوب.
ـ في الفترة السابقة تقدم حزبكم بمذكرة للحزب الحاكم اعترضتم فيها على تعيين رئيس مجلس التنسيق من خارج جبهة الانقاذ فما هي نتيجة هذه المذكرة وهل استجاب الحزب الحاكم لمطالبكم؟
ـ المذكرة لم ترواح مكانها ومازلنا نقول ان تعيين رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية من الحزب الحاكم هو خطأ كبير ولكن ما يخفف علينا أن من تولى هذا المنصب جنوبي وندعو الاخوان في الحزب الحاكم الى عدم فتح جبهات جديدة وكفاهم جون قرنق ولازم أن يجدوا طرفاً يتحالفوا معه ولا أعرف إذا كانت هذه عدم دراية او سبب غياب الاستراتيجية أو لعلهم يظنون أنا اصبحنا داخل جيوبهم.
ـ هل بعد 6 سنوات من تخليكم عن العمل المسلح وانتهاج العمل السياسي هل انتم راضون عن مسيرتكم السياسية؟
ـ نحن غير راضين عن مسيرتنا السياسية ولعل ذلك يرجع الى عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد والتذبذب الذي احدثه خروج د. رياك مشار رئيس الحزب من الحكومة وعودته للغابة مرة اخرى وتكوينه لتنظيم جديد كذلك هناك الانقسام الذي حدث داخل الحزب الحاكم اضافة الى الخلافات التي حدثت داخل حزبنا بعد ذلك، وهذه الاسباب مجتمعة أعاقت العمل السياسي بالنسبة لجبهة الانقاذ بل كان لها تأثيراتها على الحركة السياسية في السودان ونحن نأمل أن تستقر الاوضاع هذا العام بتحقيق السلام الذي يأتي عن طريق الوحدة أو الانفصال.
ـ يفسر بعض المراقبين عدم استجابة الحكومة لمطالبكم الخاصة بمنحكم عددا من الوظائف السيادية يعود لضعف حزبكم بعد انقسام د. رياك مشار واشتعال الخلافات داخله مما اضعف الحزب وجعله غير جدير بهذه المناصب، فما ردكم على هذه الاحاديث؟
ـ بذات المنطق يمكن القول ان المؤتمر الوطني ـ الحزب الحاكم ـ صار ضعيفاً بعد خروج الزعيم الروحي د. حسن الترابي عن الحزب ولكن إذا نظرنا بصورة موضوعية للمسألة نجد أن هناك اتفاقاً بيننا والحكومة ويجب أن لا يتأثر بانشقاق رئيس الحزب فالاتفاقيات تتم بين الكيانات وليس بين الأفراد فهل هذا يعني ان الجنوبيين الذين وقعوا اتفاقية للخرطوم قد ذهبوا لذلك فإن الاتفاقية قد انهارت بعد انشقاق د. رياك مشار ووفاة كاربينو واروك طون وبذات هذا المنطق الضعيف يمكن القول انه بوفاة الرجال الذين حققوا استقلال السودان فإن الاستقلال قد انتهى وسنعود للاستعمار مرة اخرى ولذلك أقول أن هذا حديث فطير لا معنى ولا منطق له. ـ هناك تحركات مكثفة لتنشيط الحوار الجنوب الجنوبي، فما موقفكم من الدعوة ولاسيما وأنكم الحزب الجنوبي الوحيد المتحالف مع الحكومة؟
ـ نحن نبارك وحدة الجنوبيين ووحدة الشماليين حتى يسهل الوصول لحل يلتزم به الجميع لذلك ندعو ان يتفق الصادق المهدي مع محمد عثمان الميرغني ومع د. حسن الترابي والبشير وكذلك نشجع أن يتفق جون قرنق مع رياك مشار ومع أبيل الير ومكواج ورياك قاي وإذا وصل الحال لهذه الصورة فإن ذلك سيذلل الكثير من مشاكل البلاد.
ـ يتوقع البعض ان يؤدي انفصال الجنوب الى تأجيج الصراعات داخل الجنوب ويستدلون على ذلك بالصراع المسلح بين الفصائل الجنوبية من ضمنها المعارك التي دارت بينكم وحركة جون قرنق فما تعليقك على هذا الحديث؟
ـ الصراع الذي يتم بيننا وجون قرنق كان صراع مبادئ فقرنق كان يقول بأنه يريد تحرير السودان وفصل الدين عن الدولة ونحن رأينا أن هذه أحلام رومانسية ولذلك في إعلان الناصر 1991م دعونا الى أن يقرر الجنوبيون مصيرهم ولابد من تحديد لماذا يقاتل الجنوبيون ونحن نعلم ان الجنوبيين يقاتلون من اجل انفصال الجنوب وكل الأغاني الحماسية للجنود في المعسكرات تدعو لقيام دولة الجنوب ولكن جون قرنق كان يرفض هذا الحديث ويقول بأنه مع وحدة السودان ودعوة قرنق للوحدة جعلتنا ننفصل عنه ونكون مجموعة جديدة.
ولكن من الواضح أن جون قرنق من خلال محادثات ماشاكوس قد تخلى عن قناعاته الوحدوية وطالب بتقرير المصير وتقسيم السلطة واصبح لا خلاف بيننا وجون قرنق. والناس تقول أن رياك مشار عاد لقرنق ولكن الواقع غير ذلك، قرنق هو من عاد واقتنع بمبادئ رياك مشار.
ـ هل هذه المبادئ هي الانفصال؟
ـ لا. تقرير المصير الذي يؤدي الى الانفصال واذا قبل قرنق وتخلى عن السودان الموحد. يكون لا خلاف لنا مع قرنق فخلافنا مع قرنق في الأصل لم يكن حول قيادة قرنق للحركة ولكن كان حول الوحدة والانفصال. ومن ذلك كله أريد أن أؤكد عدم صحة ما يقال بأن الجنوبيين إذا انفصلوا سيكون هناك صراع داخل دولتهم وقد تكون هناك صراعات عادية كما يحدث في معظم دول العالم وهذه أحاديث يراد بها تخويف الجنوبيين من الانفصال.
ـ هل ترون أن ما تعرف بالمناطق الثلاث جبال النوبة وجنوب النيل الازرق وابيي في حالة تقرير المصير تكون جزءاً من الجنوب أم لا؟ ـ هذه من نقاط خلافنا مع جون قرنق فهو يريد ربط قضية الجنوب بجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وهذه المناطق لا تتبع للجنوب فهي جزء من شمال السودان ولكن إذا ارادوا الانضمام للجنوب هم من يطالبوا ولسنا نحن وأبيي جزء من الجنوب. ولكن هذه القضايا يطرحها قرنق لتعقيد المفاوضات، والحكومة تتحمل جزءاً من هذا لأنها لم تنفذ اتفاقية الخرطوم للسلام التي كان تنفيذها سيدفع قرنق للانضمام لركبها.
ونحن في جبهة الإنقاذ مع حدود الجنوب المعلنة عند استقلال السودان في عام 1956م،وتفاصيل ترسيم الحدود بين دولتي الشمال والجنوب يمكن لاحقاً الاتفاق عليها عن طريق المفاوضات والمباحثات المشتركة كما يحدث في العديد من أنحاء العالم.
ـ باعتباركم مشاركين في الحكومة فهل يمكن أن تقوموا بجهود أخيرة مع الحزب الحاكم لانفاذ اتفاقية الخرطوم للسلام والمحافظة على وحدة السودان؟
ـ نأمل ذلك ومازال تحالفنا مستمراً مع الحزب الحاكم لتطبيق اتفاقية الخرطوم رغم ان هناك أصواتاً تنادي بالانفصال. واحب أن أوضح نقطة وهي أن جون قرنق من خلال مطالبته بشروط تعجيزية في مفاوضات ماشاكوس فهو يريد تحقيق الانفصال وذلك يدفع الحكومة لرفض هذه الشروط مما يعني قبولها بالانفصال وبذلك تظهر الحكومة وكأنها هي من تسببت في الانفصال لا جون قرنق. والحكومة غير واعية بهذا المخطط ويمكن النظر الى مطالبة قرنق بأن تكون الخرطوم علمانية وخالية من الشريعة وان يأخذ الجنوبيون نسباً عالية في تقسيم الثروة وهو يعلم أن الحكومة سترفض هذه المطالب ولتفادي هذه الخدع والصراعات نحن نطالب ان يأتي الانفصال بدون خلافات من خلال آليات حكومة الإنقاذ ومن ضمنها اتفاقية الخرطوم للسلام. ولا انفي أننا نادمون على توقيع اتفاقية الخرطوم مع الحكومة لان الاتفاقية لم تنفذ، فنحن تركنا السلاح وحضرنا للخرطوم مما يؤكد جديتنا في الوصول للسلام ولكن الطرف الثاني لم يكن جاداً واعتبرنا اننا أصبحنا في حوزتهم ويعملوا على أن يستدرجوا جون قرنق فهم يتصورا أننا كما ذكرت سابقاً قد أصبحنا في جيوبهم ولكن عليهم أن يعلموا أننا يمكن «أن نثقب جيوبهم في أي لحظة».
ـ هل حديثك عن الانفصال يجد تأييد كل جبهة الإنقاذ الديمقراطية أم هو رأي فردي؟
ـ حتى الآن جبهة الإنقاذ تأمل من خلال تحالفها مع الحكومة تحقيق السلام والوحدة ولكن هناك أصوات عديدة تؤيد الانفصال فنحن عند خروجنا من حركة قرنق في عام 1991م أسسنا حركة استقلال السودان وهذا الاسم يعبر عن مبادئنا وقد وجدت دعوتي للانفصال تأييد ومباركة عدد كبير من قيادات وقواعد الحزب ومن الجنوبيين خارج الحزب ولكن بعض القيادات الجنوبية تخاف على مناصبها فهؤلاء اتصلوا بي وباركوا دعوتي للانفصال التي أعلنتها بعد حديث الطيب مصطفى ولكن هؤلاء في ذات الوقت يتظاهرون عند لقاء قيادات الحكومة عدم رضائهم عن أرائي رغم قناعاتهم بما أقول.
حوار أجراه ـ خالد عبد العزيز
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(12) مرحبا, نحو سودان جديد: (3) إنتبهوا أيها السادة, وحدة السودان فى خطر ودالبلد
طاب صباحكم....
أخيراً أماطت الجبهة الإسلامية القومية اللثام عن ما كانت تهمس به سراً فى منتصف الثمانينات وأفصحت عن نيتها المبيتة لفصل جنوب السودان والإستئثار بالشمال كيما يطبقوا عليه برنامجهم الإسلامى الخاسر وبشهادتهم أنفسهم. فالمقال الذى كتبه المدعو الطيب مصطفى المدير العام للهيئة القومية للاتصالات (وهو خال البشير) ودعوته لفصل الشمال عن الجنوب ثم التثنية السريعة على دعوته تلك من أقلام أخرى محسوبة على النظام وعدم صدور أى رد فعل مضاد أو إستنكار من الحكومة لمدة تقارب الأسبوعين تكشف و بوضوح لا ستر فيه عن رغبة الإخوان الجامحة فى دعم سلطتهم الإنتهازية وبسط سيطرتهم الإقتصادية ولو أدى ذلك لفصل وتمزيق السودان.
المشكلة الرئيسية لأهل الجبهة هى أيمانهم القاطع بأن السودان وأهله وإقتصاده وموارده قد أصبح ملكاً لهم يفعلون به ما يشاؤون ولو كانوا أرادوا به خيراً لسلموا هذه الدولة المسروقة لأهله وهو الشعب السودانى كى يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكنها الأنانية وحب السيطرة والتسلط.
لماذا تنادى أهل الجبهة الإسلامية لفصل الجنوب وفى هذه اللحظة الحرجة بالذات؟ سؤال يتردد كثيراً هذه الأيام فى مجالس الخرطوم, الشواهد تقول الآتى:
أولاً: بات فى حكم المؤكد أن الحلول للمشكلة السودانية برمتها موجودة الآن وجاهزة فى يد الراعى الأمريكى وتهدف لدفع الإنقاذ لتفكيك نفسها بنفسها عبر مراحل مبرمجة بدءاً من خلال إعطاء الجنوب قدراً وافراً من مواعين السلطة والثروة مع تجاوز ما يسمى بتقرير المصير لاحقاً, وللوصول إلى تحقيق هذه الأهداف يجب الوصول أولاً لصيغة تحقق دولة المواطنة وذلك بدءاً بفصل الدين عن السياسة وإقامة حكومة قومية تشترك فيها كل الفعاليات السياسية المعتبرة وإعداد دستور تحكم الفترة الإنتقالية.
ثانياً: قام معهد كارل بلانكس الألمانى بإعداد مشروع دستور للفترة الإنتقالية إستغرق العمل فيه قرابة عام كامل بعد إستشارة عدد كبير من المثقفين الشماليين والجنوبيين بينهم بروفسير يوسف فضل حسن, دكتور حسن مكى مدنى, السيد أبل ألير, بروفسير موسس مشار وغيرهم, وقد عقد هذا المعهد إجتماعات وورش عمل كثيرة بالخرطوم خلال العام الماضى جمعت خلاله الكثير من إهتمامات الرأى العام والإتجاهات السياسية وقامت أخيراً بأرسال نسخة من مشروع الدستور إلى المفاوضات الجارية بكينيا لمناقشتها خلال الفترة القادمة, ويعتقد بعض المحللين أن هذا الدستور لا يتبنى أى رؤية دينية معينة مما يشير إلى الإعتقاد بإبعاد مسألة الشريعة الإسلامية فيه. من المعروف أن هذا المعهد قد قام من قبل بوضع صيغة مشروع دستور لدولة البوسنة تم تبنيه لاحقاً وقامت عليه دولة البوسنة الحالية وهى دولة ذا أغلبية مسلمة مثل السودان لكن دستورها فصلت ما بين الدين والسياسة.
ثالثاً: من المتوقع أن تنتهى إتفاقية قسمة الثروة بحجز عائدات البترول فى حساب خاص كى تحكم عملية تقسيمها بين الشمال والجنوب ويبدو أن هذه النقطة بالذات قد دخلت "اللحم الحى" بالنسبة لناس الجبهة.
مما تقدم قد يفسر سر الهياج و الإندفاع العلنى نحو المطالبة بفصل الجنوب وفى غضون عام واحد على الأكثر والتهديد بإنشاء ما أسموه بالحركة الشعبية لتحرير شمال السودان. و بناءً على ذلك نتوقع ألا توافق الحكومة على هذه الرؤية وستعمل جهدها لإفشال المفاوضات وذلك عن طريق خلق ظروف ضاغطة ومعقدة من أجل دفع الجنوبيين للمطالبة علناً بإجراء تقرير المصير اليوم قبل غد ولكن هيهات, ومن المعروف أن هذا التيار سيقوده النائب الأول على عثمان لأنه الخاسر الأكبر فى كل الأحوال ولذلك لم يتردد فى أن يجتمع بوفد الحكومة التى إتجهت إلى كينيا لمواصلة المفاوضات حتى يطمئن بأنه ممسك بكل الخيوط فى يده.
ما هى الحلول المتوافرة للشعب السودانى؟ هل بإمكان الحكومة تعطيل المفاوضات وإذا حاولت فماذا ستفعل مع قانون سلام السودان؟ الحلول الأمريكية قد تتوصل لتفكيك الإنقاذ ولكنها لن تأتى "ببلاش" أذ أن مصالح أمريكا ستكون الدافع الرئيسى وراء كل هذا الجهد, هل سيوافق الشعب على هذه الوصاية الأمريكية؟
البترول قد يكون نعمة أم نقمة... لكن كلتاهما تعتمدان على إرادتنا الوطنية. كيف يمكننا أن نكون على قدر التحدى و ألا نتحول إلى كويت أو سعودية أخرى؟
*************************************************************
(13) الدكتور عبداللطيف البونى الطيب مصطفى وفتاق السودان
تقول الحكاية أن أحد القرويين اصيب بفتاق في عضو من اعضائه الحساسة بالمناسبة هناك فتاق يصيب السُرة ــ بضم السين ــ ولما كان ذلك الرجل يتحلى بالشجاعة المعنوية ولم يشعر بان في الامر ما يدعو الى الخجل توجه الى المستشفى واجرى عملية جراحية وعاد الى بيته وبعد أن انقضت جمهرة الناس الذين تحمدوا له بالسلامة نهاراً واقبل الليل اخذ رجال القرية يأتوه فراداً ويسألونه عن العملية هل هي مخيفة ام سهلة فكان يسأل الواحد منهم هل يشكو من نفس الفتاق فيكون الرد بالايجاب مع خفض الرأس وعند الصباح صاح الرجل قائلاً « ها ناس على الطلاق حلتكم دي كلها «عندها فتاق» بس انا براي الشّلت النائحة » وبالطبع استخدم الكلمة المتداولة غير كلمة فتاق.
تذكرت هذه الطرفة عندما قرأت ما كتبه السيد المهندس الطيب مصطفى من انه بعد أن جهر بالمناداة بفصل الشمال معظم الذين التقوه كان لديهم نفس الاحساس ولكنهم لم يصرحوا به تحسباً من النعت بانهم انفصاليون وعليه يكون الطيب هو وحده الذي تحمل «النائحة». الجديد الذي جاء به الطيب انه نادى بفصل الشمال بينما كان الناس يتجادلون في فصل الجنوب ولو كنت جنوبياً انفصالياً لرحبت بدعوة الطيب مصطفى ترحيباً حاراً لا لانه التقى معي في الهدف النهائي بل لانه جعل الجنوب هو الاصل وهذا أمر مبهج لدعاة الوحدة والمساواة من الشماليين كذلك. فاذن تجديد الطيب تجديد شكلي اما من حيث المضمون فلا جديد في دعوة الطيب لان كل الذين اقروا حق تقرير المصير يوافقون على فكرة الانفصال او على الاقل يقرونها اذا كانت مطلب الجنوبيين.
في آخر مقال لي كتبته حول هذا الامر والذي كان مداخلته مع ما كتبه استاذنا محجوب محمد صالح عندما لحظ ان كل الجنوبيين الذين تحدثوا في ندوة مركز السلام والتنمية بجامعة جوبا والتي اقيمت في الخرطوم كانوا ينادون بالانفصال ما عدا الاستاذ عبدالله دينق نيال، قلت في ذلك المقال ان دعوة الانفصال قد تنامت وسط الشماليين وانها اصلاً متنامية وسط الجنوبيين وان كان لدعوة الطيب فضل في هذا فانها اعطت الشماليين خياراً آخر غير الخضوع لا بتزاز حركة قرنق او الوحدة بالكرباج الامريكي وفي تقديره ان دعوة الطيب فيها تقوية لموقف المفاوض الحكومي في ضاحية كرن بكينيا ان احسن استغلالها اللهم الا اذا كان ذلك الوفد بالوصف الذي وصفه اياه الدكتور الطيب زين العابدين في هذه الصحيفة من انه ضعيف مهنياً وسياسياً.
لعل اجمل واقرب تحليل للصواب عن سر تنامي هذه الدعوة الانفصالية الجديدة وانه اذا طرح الامر لاستفتاء بانها ستكون الاقرب للفوز هو ما كتبه الاستاذ ياسين حسن بشير في صحيفة (الايام) الغراء والذي ضرب مثلاً بالزوجين اللذين في حالة شجار مستعر اذا عرض عليهما الطلاق فسوف يوافقان دون اي تردد او نظر في عاقبة الامر عليه وفي تقديري ينبغي ان يتجه الخطاب الوحدوي اتجاهاً جديداً فالخطاب الوحدوي الان ليس فيه مضمون الا مهاجمة الانفصاليين الجدد ــ الشماليين ــ والقدامى الشماليين يصفون الانفصاليين الجنوبيين بانهم عملاء استعمار.
دعونا كوحدويين ان نخرج خطابنا من حالة الاحباط ونسأل دعاة الانفصال في الشمال والجنوب ما هو الضمان في ان الانفصال سيكون سهلاً وميسوراً واهم من ذلك من يضمن انتهاء حالة الحرب بعد الانفصال؟ وفي بالنا ما حدث بين اريتريا واثيوبيا وبين الهند وباكستان حيث تحولت الحرب من حرب اهلية الى حرب بينية ــ اي بين دولتين ــ اشد شراسة ثم ثانياً ما الذي يمنع التقاء الجنوبي والشمالي على مصلحة طالما ان العالم كله يتجه نحو التكتل؟ اي ننظر للأمر نظرة اقتصادية ثالثاً من يضمن الاستقرار في دولة الشمال وفي دولة الجنوب الجديدتين بعد ان يذهب الغريب الذي تكاتف عليه ابناء العمومة؟
ان الانفصال المثالي الذي يضرب به المثل في النجاح هو الذي حدث بين الشيك والسلفاك في دولة تشكوسلوفاكيا القديمة لانه كان انفصالاً بين شطرين متقدمين ومجتمعين في حالة وعي واستنارة كاملة وكل هذا غير متوفر لدينا في السودان ولا كل العالم الثالث.
اذا اتجه الخطاب الوحدوي اتجاهاً جديداً وظهر تكتل واع لدعاة الوحدة سيكون المتوجب عليهم هو ازالة الالغام التي دفنها البعض في طريق الوحدة وهذا يبدأ بان يفرض على الحركة والحكومة التخلي عن بعض الاجندة التي اسهمت في تعبئته البندقية، ومن هنا نبدأ.
************************************************************
(14) كلام رجال
لبنى أحمد حسين [email protected]
تميط الجبهة الإسلامية اللثام عن وجهها وتبين بسفور على حقيقتها التي حاولت إخفائها سنين عددا بلامع الشعارات وبارقها، لكن من عاشر الأخوان بمختلف تسمياتهم منذ جيل الستينات كان علي يقين ان واحدة من وسائل الإسلاميين الحركيين للوصول لغاياتهم السلطوية هو فصل السودان حسب الدين، طال الزمن أو قصر. فحديث الطيب مصطفى المدير العام للهيئة القومية الاتصالات ودعوته لفصل الشمال عن الجنوب وتعليله لذلك بأن الفجوة بين الاثنين كبيرة مما لا يسهل رتقه وتماديه لتجديد هذه الدعوة بمناسبة وبلا مناسبة في أي محفل يكون فيه لم يثرني كثيرا، ولم آبه به ولم اطلع عليه لمرتين كما فعل الكثيرون رغم صدوره عن خال الرئيس، لكنه حفزني الآن لإعادة الاطلاع علي المقال وأخذه بمأخذ الجد: إن الدعوة التي وجهها إلى الرأي العام الدكتور غازي صلاح الدين مستشار السلام بأن لا نستخف بنداء فصل الشمال عن الجنوب، وحسنا نفعل، فلن نستخف بالنداء ولكنا نستخف بالجبهة الإسلامية التي قال شيخها بعد الانفصال لقواعده مشيرا لبنات آدم إنهن بنات الحور، ونستخف بالطيب مصطفى الذي أريقت دماء ابنه من اجل ماذا طالما هو ينادي اليوم بالانفصال.. ونستخف بالحكومة التي تستميت رفضا لكونفدرالية قرنق التي بها شئ من الوحدة، ثم لا يجد أمين هيئتها القومية للاتصال في نفسه حرجا ان يطرح الانفصال. غير أننا لا نستخف بنداء وزيرهم بديوان الحكم الاتحادي مكواج تينج للإسراع بالانفصال وعدم إضاعة الوقت في ميشاكوس. ولكن لا تظنوا أنكم ستهنئون بالانفراد بحكم الشمال، ويا لهوان السودان على الكيزان
"عن جريدة الصحافة"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(15) عجبي ممن يؤثر العوراء على العيناء دكتور منصور خالد رغم إغلاق الحزب الحاكم الباب أمام الاتهامات الموجهة له بأنه وراء الدعوة لفصل جنوب السودان عن شماله، ورغم المباريات الصحفية الناقدة التي أبانت ما في دعوة الوزير السابق الطيب مصطفي من هشاشه، إلا أن الحماسة التي طغت على مقاله الأخير (ألوان 24/1/2003) تحيك الظن بالنفس، ولا تورثها اليقين. نقبل ما جاء من قيادات الحزب الحاكم أن الكاتب لا يعبر إلا عن رأيه، ونقول أيضاً أن من حق الكاتب التعبير عن رأيه حتى وإن تَبَدع. على أن الكاتب لم يستنبط ما أتى به من رأي، أو كان بِدعاً في التعبير عنه، بل وقف على سطر شبه مستقيم مع آخرين سبقوه إلى رأيه في انفصال الجنوب عن الشمال. من أولئك من أشار إليهم مثل يوسف مصطفي التني، أول من دعا لفصل الجنوب في الصحيفة التي كان يشرف علي تحريرها (جريدة الأمة). وكان عمنا التني، الشاعر المهندس، واحداً من أقطاب مؤتمر الخريجين، لم يصرفه عن رأيه أن المؤتمر قد جعل من توحيد شقي القطر (الفقرة الخامسة من مذكرة المؤتمر) دعوى طبقت شهرتها الآفاق (cause celebre) وإلى يوسف التني نضيف رجلين، كلاهما أنطلق، كما أنطلق الكاتب، من الافتراض أن ليس بين شقي القطر أي مقوم للوحدة. أول هؤلاء هو حسن محجوب، عضو اللجنة الاستشارية للمجلس الوزاري لشئون الجنوب (1956)، والثاني أقري جادين، قائد لواء الدعوة لانفصال الجنوب في مؤتمر المائدة المستديرة(1965). السياسيان الشماليان (وقد نضيف إليهما الأبروفيين) كانوا على درجة كبيرة من الأمانة مع النفس منذ ذلك الوقت الباكر لأنهم لم يروا للسودان ، من وجهة نظرهم الاحـادية الانغلاقية (insular)، إلا وجهاً واحـداً هـو الوجه العربي الإسلامـي. لهـذا لـم يندفعـوا ـ كمـا اندفـع غيرهـم ـ إلـى فـرض الوطنيـة الشماليـة المصغـرة (Northern Sub-nationalism) على السودان الواسع (Sudan writ-large). وحتى في إطار الشمال نفسه لم تكن رؤية هؤلاء للهُوية العربية الإسلامية تخلط بين المقدس والدنيوي، وبين الدين والسياسة. فالتني الشاعر المُجيد، مثلاً، هو صاحب النشيد الوطني الذائع "المجد للوطن"، والذي ختمه بقوله: "الدين للآله، والمجد للوطن". من جانب آخر، كان أقري منطقياً مع نفسه لأنه لم يَرَ في الجنوب إلا وجهه الأفريقي، ودياناتـه التقليديـة، وأعرافـه المحلية رغـم كـل التناضـح (osmosis) الثقافي، والتواصل الحياتي بين الإقليمين منذ أن وحد محمد علي باشـا السودان. عن ذلك الرأي عبر في مؤتمر المائدة المستديرة (1965) بالقول: "ليس هناك سمات مشتركة بين المجموعات المختلفة، أو هيكل مشترك للمعتقدات الروحية، أو وحدة في المصالح، أو إشارات محلية تدل على وجود تلك الوحدة". المنطق الحاكم لآراء هؤلاء (وهي آراء لا نشاركهم إياها) كان سيقي السودان التوتر الدائم لوقيض له أن يتغلب. والتوتر، كما يقول علماء الميكانيكا، هي الحالة التي تصيب أي جسم يُشَد من طرفيه. التني وصحبه ممن استنجد بهم الكاتب لم يشاددوا في الأمر، لهذا بين فكره وفكرهم بون شاسع، وباختلاف الحلوم والأفكار يتفاضل الناس. أقرب إلى الكاتب الذين غلبت عليهم حُميا الاستعلاء، فلم يُهَوِدوا أو يسترخوا في سعيهم لاقتسار الوحدة وتشكيل السودان كله على رؤاهم، فنارت الحروب. ولا سبيل لهؤلاء أن يتحولوا بهذه البساطة عما أخذوا فيه بالعزيمة والعنافة بعد أن إلتوت الأمور عليهم. موضوع الوحدة بين شقي القطر هم استغرقنى، ولهذا ظل محوراً لأكثر مـا كتبت كمؤرخ سياسي. وفي كتاب أخير صدر هذا الأسبوع باللغة الإنجليزية، وستصدر نسخته العربية الموسعة في مطلع الشهر القادم، انتخبت للكتاب عنواناً هداماً : قصة بلدين. بذلك العنوان لم أرد إستباق الأحكام، لا سيما وقد مهدت لما توصلت إليه من حكم ببينات استغرقت ألف صفحة من الكتاب. ما ابتغيناه هو تقرير حقائق عددا تؤكد أن العناصر الطاردة عن المـركز في السودان أقـوي بكثير من العناصر الجاذبة إليه. هذه العناصر ليست من صنع الطبيعة، أو هي أمر إبتلى الله به السودان في زمن "الابتلاءات" هذا. ففى هذا الزمان حتى الذي ينكب على وجهه في اخدود حفره بيده يسمي تهالكه في الحفرة التي حفرها لأخيه ابتلاءً. حرصت أيضـاً علـى التوغل في عِرق المشكل برد الأزمة الى جذورها منذ الحكم التركي والفـترة المهديـة لأن الأزمة أعمق بكثير من الحيص والبيص اللذين أدخل فيهما نظام الجبهة السودان، فالجبهـة لم تفعل أكثر من الوصول بالاستقطاب إلى أعلى درجاته. ولا مُرية في أن الذين سعوا لفرض الوحدة على كَرْه من أهل الجنوب في الماضي، تماماً كاولئك الذين أحالوا طرفي السودان إلى قطبين متضادين، هم الذين عمقوا من الأزمة. بسبب من ذلك، هم أقل أهل السودان تأهيلاً لاستنكار النتائج التي ترتبت على مساعيهم ووصلت بالأزمة إلى درجة التشبع، أو التنكر لها. ما على أولئك إلا تحمل نتائج أفعالهم، "إن يريدون إلا فِراراً". ابتناءً علي هذه المقدمة فأن الحكم الذي توصل إليه الكاتب (إستفتاء أهل الشـمال في إن كانوا يريدون للسودان أن يبقى موحداً أو أن يتجزأ) يكون صائباً لو كان هو وصحبه، بعد أن انتهى إليهم الأمر، قد سعوا جادين لمعالجة المشكل من جذوره. الحقائق تقول غير هذا، ففي بداهة عهدهم ذهبوا لوضع العصى في دولاب مفاوضات السلام التي كادت أن تكلل بالنجاح. مثال ذلك إجهاض ما تواطأ عليه أهل السودان جميعاً (باستثناء الجبهة) على ترك البت في الموضوعات المشتجر عليها بين أهل السودان (ومنها القوانين الدينية) إلى حين قيام مؤتمر قومي دستوري يعبر تعبيراً متكاملاً عن إرادة الأمة. ونفضل تعبير (القوانين الدينية) علي لفظ الشريعة الذي أصبح لفظاً ذا دلالات مطاطية. ذلك هو ما تراضى عليه أهل السودان (باستثناء الجبهة القومية الإسلامية) في كوكادام 1986، وفي اتفاق الميرغني – قرنق 1988، وفي اتفاق القصر أبريل 1989. لهذا، نحن فارقون بين قرار الانفصال امتثالاً لارادة شعبية يُعَبرُ عنها تعبيراً ديمقراطياً حراً، وبين الدعوة للانفصال إنطلاقاً من انطباعات ذاتية تصدر ممن ضاقوا ذراعاً بنتائج سياسات صنعوها بأنفسهم، لم يأبهوا لخواتيمها، وتركوا عواقبها مهملات. الهيكل المنطقي لأطروحة الكاتب قد يقود إلى النتيجة التي توصل لها، إلا أن ترويضه للمعطيات الموضوعية للوصول إلى حكم مسبق يجعل ذلك الحكم فاسداً، بل باطلاً. فالفاسد، كما يقـول الأصوليون (علماء أصول الدين)، يقع صحيحاً في جملته، ولكن تنقصه بعض الشروط ليكون صحيحاً، أما الباطل فغير صحيح من أصله. ما هي عوامل البطلان؟ توسل الكاتب للوصول إلى حكمه بأسباب لا تُحتسب إن أخضعت لتحليل عابر، ويقود التحليل الامبيريقي الدقيق لها إلى استكشاف ما فيها من افتراضات فواسد. ذلك منهج في التحليل سفاح لأنه لا ينجب إلا وليداً غير مكتمل الخلقة، ولا يقود إلا لنتائج لا بلاغ فيها ولا كفاية. وما هي الأسباب التي ارتكى عليها الكاتب؟ نحصر تلك الأسباب في خمس مقامات: · · الجنوب ظل عائقاً أمام انطلاق الشمال · · الجنوب تمرس في ابتزاز الشمال · · الحقد العنصري ضد الشمال وروح التشفي والانتقام ما برحا يملآن جوانح الجنوبيين · · الجنوب جعل السودان نهباً للتدخل الخارجي في شئونه "حتى من الصغار" · · تمادي الحركة في التزيد في محادثات ماشاكوس إعاقة الجنوب لانطلاقة الشمال ليس صحيحاً أن الجنوب حال دون انطلاق الشمال، بل الصحيح هو أن الحرب هي التي وقفت عائقاً أمام تطور كليهما، فالحرب هي أس الداء. لهذا يقمن بنا أن نبحث عن الأسباب التي قادت إلى اندلاع تلك الحرب، ثم استشرائها. نعرف جميعاً (أو ينبغي أن نعرف) أنه منذ استقلال السودان في مطلع يناير 1956 كان مطلب جميع القوى السياسية الجنوبية هو الوحدة الاتحادية التي يتاح في ظلها لأهل الجنوب أن يديروا شئونهم بأنفسهم. ولا أريد هنا العودة للحديث المكرور عن وعد الطبقة الحاكمة لأهل الجنوب بالفيدر يشن كثمن لمساندتهم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، لأن في ما كتب ابيل الير حول تلك المأساة ما يغني. عوضاً عن ذلك، أحاول أن أبين، من جانب، مواقف الجنوبيين المعلنة يومذاك، ومن جانب آخر، مواقف الساسة الشماليين ذوي الرؤية البصيرة، إلى جانب مواقف الذين غهبوا عن الحق فادخلوا السودان بغَهَبهم ذلك في مفازة مجدبة مهلكة. · · في نوفمبر 1954 كتب بنجامين لوكي إلى وزيري خارجية بريطانيا ومصر بصورة إلى رئيس الوزراء، إسماعيل الأزهري يؤكد أن مطلب الجنوب هو الفيدرالية. أردف لوكي قائلاً: " إن لم يتحقق هذا فلا سبيل للجنوب إلا أن ينسلخ عن الشمال كما انسلخت باكستان عن الهند". · · في مايو 1955 كتب عبد الرحمن سولي (جنوبي مسلم) إلى الحاكم العام يقول أن البديل الوحيد عن الفيدرالية هو الانفصال . · · بعد إعلان الاستقلال مباشرة خاطب ستانسلاوس بياسما، زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ المجلس قائلاً: "قبلنا إعلان الاستقلال ولكن الجنوبيين لا يرضون وضعاً أدنى من الفيدرالية، وينتظرون ما سيأتي به الغد حول الفيدريشن". · · عُقيب إعلان الاستقلال استقبل السـيد عبد الرحمن المهدي قيادات الحكومة القومية (الحكومة التي أنشئت بعد إعلان الاستقلال)، وكان من بينهم رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري، ووزير الدفاع عبد الله خليل، ورئيس حزب الأمة صديق المهدي مع نخبة من زعماء الجنوب. في ذلك الاجتماع سأل السيد عبد الرحمن ستانسلاوس بياسما "ما الـذي يريد الجنوب؟" قال بياسما "الجنوب لا يريد أكثر من أن يحكم نفسه بنفسه في ظـل سودان موحد". التفت السيد الحكيم إلى رجالات السياسة والحكم من الشماليين قائلاً: "لقد عجزت التركية عن قهر الجنوب، وعجز أبوي المهدي عن السـيطرة عليه، ولم يتمكن من السيطرة على ذلك الإقليم إلا البريطانيون بالكاد. اذهبوا وأعطوهم مـا يطلبون" (مذكرات ستانلاوس، 1990). الكتابة، إذن، كانت واضحة على الجدران قبل إعلان الاستقلال وبعده، لم يتغاباها إلا الذين ظنوا أن الدول تبنى بالتشاطر. فمع وضوح رأي الجنوبيين (بمسلمهم وغير مسلمهم) حول ما يطمحون إليه لكيما يبقى الجنوب جزءاً لا يتجزأ من السودان، اجتمع رأي أحزاب الشمال في مايو 1958 (لجنة الدستور) على رفض الفيدرالية بدعوى أن "عيوبها تفوق محاسنها". ليتهم اكتفوا بذلك، قالوا أيضاً (مبارك زروق ومحمد احمد محجوب): "نحن لم نَعِد الجنوب بالفيدرالية، وإنما وعدنا بالنظر إليها بعين الاعتبار". ذلك عِيّ في الفعال لذنا جميعاً عنه بالصمت، أو باركناه بالسكوت. وكما يقول بشار: وعِيُّ الفعال كعِيِّ المقال وفي الصمت عِيّ كعِيَّ الكَلِم هذه الخفة في تناول كبريات الأمور دفعت الجنوبيين للخروج من اجتماعات لجنة الدستور حتى لا يُكسبوا قراراتها أية مشروعية، على الأقل بالنسبة للجنوب. وقبل خروجهم، عبر عن رأيهم الأب ساترنينو لاهوري قائلاً" "ليس لدى الجنوبيين أي نوايا سيئة نحو الشمال، وليس لديه نية في الانفصال. وأن أراد فليس هناك قوة في الأرض تحول دون ذلك. نطالب بالدخول في وحدة فيدرالية، وسيقوم الجنوب بالانفصال عن الشمال في أية لحظة يهدر فيها حقه في الوحدة الفيدرالية". منذ ذلك الوقت اصبح ساترنينو في نظر حكومات الشمال داعية للانفصال وطورد حتى اغتيل في الحدود اليوغندية. أو هل تَملى في هذه الوقائع دعاة فصل الجنوب المحدثين، القائلين أن ليس للجنوبيين غاية غير محو الهوية العربية ـ الإسلامية للسودان! من بين كل القوى الشمالية السودانية لم يثبت على موقفه حول ضرورة منح الجنوب حكماً ذاتياً يدير فيه شئونه بنفسه غير الحزب الشيوعي (بيان حسن الطاهر زروق باسم الجبهة المعادية للاستعمار في عام 1955)، والحزب الجمهوري (مسودة دستور فيدرالي للسودان التي طرحها محمود محمد طه في ديسمبر 1955)، ورجل متفرد كان هو الدرة اللامعة في تاج السياسة السودانية، باستشرافه لمقومات الوحدة بين الشمال والجنوب، ذلكم هو إبراهيم بدري. في موقفه ذاك الذي ظل ثابتاً عليه منذ مؤتمر جوبا ذهب بدري إلى طرح قضايا لم تفقد حتي اللحظة راهنيتها : اثر الرق على العلاقات بين الجنوب والشمال وفي تعميق المخاوف في نفوس الجنوبيين، حق الجنوب في الفيدرالية كضمان لبقائه في سودان موحد، قضايا المناطق المشابهة للجنوب (خص منها جبال النوبة والنيل الأزرق)، والتي نسميها في الأدبيات المعاصرة المناطق المهمشة. ومن المذهل أن لم يَنبرِ من الشماليين من أعضاء اللجنة الوزارية حول الجنوب (ضمت علي عبد الرحمن، وزير المعارف؛ عبد الله خليل، وزير الدفاع؛ محمد نور الدين، وزير الحكم المحلي؛ أمين السيد، وزير الصحة، بنجامين لوكي، وزير الثروة المعدنية، ستانسلاوس بياسما، وزير النقل الميكانيكي، يوسف العجب، وزير الدولة)، أو اللجنة الاستشارية الملحقة بها (إبراهيم بدري، حسن أحمد عثمان الكد، عبد الله ميرغني، محي الدين صابر، حسن محجوب، بشير محمد سعيد، محمد علي محيميد، أحمد السيد حمد) غير إبراهيم بدري ليدافع عن حق الجنوب في حكم نفسه بنفسه، بالرغم من أن الاعتراف بذلك الحق كان شرط لزوم عند إعلان الاستقلال. ومن المذهل أيضاً أن اجتماع اللجنة المشار إليها كان فـي مارس 1956، أي بعد شهرين من إعلان الاستقلال. ما الذي كان يدور في أذهان الحاكمين حول ذلك المطلب الذي قبلوه، فيما يبدو، مخادعة وخَتْلاً؟ عن ذلك الرأي عبر الأستاذ محمد زيادة في مقال افتتاحي لجريدة صوت السودان (15 فبراير 1956)، قال " أول المنادين بفكرة الاتحاد الفيدرالي هو المستر لوس نائب مدير الاستوائية الذي دعا لهذه الفكرة في صفوف المتعلمين الجنوبيين واتخذ منهم دعاة لها في كل انحاء المديرية الاستوائية ثم قامت لجنة جوبا السياسية على أساسها .. ثم نشأ حزب الأحرار الجنوبي أخيراً للدفاع عنها، ولهذا فأن مطالبة أبناء الجنوب بالاتحاد الفيدرالي إنما نشأت من عوامل سياسية استهدفها الاستعمار يستفيد منها في نهاية المطاف" . المغفور له وليام لوس، إن كان حقاً هو الذي أورث الجنوبيين فكرة الفيدريشن، قد أورث أيضاً أهل الشمال والجنوب البرلمان الوستمنستري، وحيدة الخدمة العامة، والفصل بين السلطات، والقضاء المستقل، واستقلال الجامعات، كمـا أورثـهم دسـتور ستانلي بيكر (دستور الحكم الذاتي) الذي نسب للاستعمار ولكن أصبح بقوة العلي القدير هو نفسه دستور الاستقلال، ثم قَبَره عبود ليعود مرة أخرى، بذاته وصفاته، دستوراً للسودان عندما أصبح الصبح في 21 أكتوبر 1964 وانهد السجن وانزوى السجان، كما صدح وردي. ما أقبحها مغالطة النفس، فكل تلك المؤسسات والمفاهيم (لا الفيدرالية وحدها) خلفها لنا لوس وصحبه ممن يسميهم البعض السلف الصالح، ولم تنحدر إلينا من الدولة المهدية أو مملكة المسبعات. الخيار والانتقاء بين الموروثات الاستعمارية كان هو خيار كبارنا في الشمال، وليس للجنوب يد فيه. الاستعمار أيضاً أورث دولة أخرى (الهند) الفيدرالية في إطار حكم مركزي متين، فنظام الحكم الاتحادي في ذلك القطر تمت صياغته على يد لجنة الهند برئاسة السير ستافورد كريبس في نوفمبر 1949. رغم هذا ذهب نهرو وصحبه إلى إعادة تنظيم الولايات مراعاة لمطالب أهلها، ودون وعد منهم لأهل تلك الولايات عند الاستقلال بأن "ينظروا لمطالبهم المشروعة بعين الاعتبار". ففي عام 1952 أعيد تنظيم ولايات الهند إرضاء لرغبات الناطقين بلغة التيلوق والذين تقاسمتهم ولايتا مدراس وحيدر أباد، فقامت ولاية اندرا براديش كولاية للناطقين بلسان التيلوق. وفي عام 1956 أعيد رسم 14 ولايـة و6 أقـاليم اتحاديـة (union territories) لتحقيق نفس الغرض. وفي عام 1960 قسمت بومباي التي ضمت الناطقين بلغة القوجرات والناطقين بالماراثي إلى ولايتي ماهارشتيا وقوجرات. إعادة التنظيم الإدارى لدولة الهند إمتثالاً لواقع سياسي، لم يُسمها نهرو مؤامرة لمحو الشخصية الهندوكية، بل اعتبرها ضرباً من المعمار الإدارى الضروري لتمتين وحدة بلاده. بعد اكثر من ثلاثة عقود من الزمان، عدنا أعقابنا لنعلن الحكم الفيدرالي ونباهي به أيما مباهاة وكأنه فتح القدير. لم نرده للوس أو قوم لوس، ولم نسأل النفس: لماذا رفضناه بالأمس، ولماذا نقبله اليوم؟ ترى أو لا تقتضي الرجولة أن نعترف أن المسئولية عن تلك الحرب التي ظلت رحاها تدور على قطبها أكثر من ثلاثين عاماً تعود، في المقام الأول، إلى الذين تنكروا للعهود، وتغابوا عن الوعود في الشمال، لا لذنب أتاه الجنوب إلينا. أم أن هذا ماض ينبغي أن لا نستذكر، لأن كل موقف نتخذ هو مرجع ذاته. مسئولية حكام الشمال عن استمرار الحرب حتى أكتوبر 1964 "في عضم رقبتهم" لاشأن للجنوب، ولاشأن للإمبريالية، ولا شأن للصهيونية بها. فلنملك الشجاعة ونعترف بالذنب. وإن وقفنا عند أكتوبر 1964 فلأنها تمثل مرحلة فارقة في تاريخ السياسة السودانية. ليت الصحافة السودانية تعيد إلى الذاكرة الخطاب الرصين الذي ألقاه سر الختم الخليفة في افتتاح مؤتمر المائدة المستديرة. لم يغفل سر الختم دور الاستعمار في إشعال جذوة الصراع، ولكنه وضع ذلك الدور، كما ينبغي، في إطار تاريخي صحيح : مسئولية الحكومات الشمالية عقب الاستقلال عن تعميق الأزمة، والآثار المدمرة التي خلفتها تجارة الرق في نفوس الجنوبيين، خاصة وقد ترسبت من الرق مفاهيم استعلائية في العقل الجمعي الشمالي، لا تقود إلا للتماقت. أما بعد أكتوبر، نعرف جيداً كيف انقبضت تباشير السلام التي لاحت في مؤتمر المائدة المستديرة. فمنذ منتصف الستينيات من القرن الماضي طغى على الساحة السياسية شعار جديد هو أسلمة الدستور. ولاتثريب على الإسلاميين كتيار سياسي في أن يدعوا لما يرون فيه خير الناس، إذ ليسوا هم الإيديولوجيون الوحيدون الذين سعوا لترسيم حدود الحياة في السودان على عينهم (to their image). ونعترف أن لكـثر منهـم صبابـة بالشريعـة (أياً كان المعنى لذلك التعبير). ولكن ثمة مشكلات في الطرح الإسلاموي السياسي (وأي طرح حدى للقضايا في هذا السودان المعقد ) يجدر بأصحاب الطرح التنبه لها. من ذلك، أثر الأطروحة السياسية، في هذه الحالة، على الشق الآخر من القطر الذي لا يدين للإسلام، ويطالب بحقوقه في الوطن كاملة غير منقوصة. هذا مالم يفعلوه ولم تفعله الأحزاب الشمالية التي تداعت على مشروع الدستور الإسلامى حتى كادت تكون فتنة لا ارتجاع لها. إعلان الدستور الإسلامى (بعد القراءة الثانية في الجمعية التأسيسية) تبعه خروج ممثلي جبهة الجنوب، حزب سانو، مؤتمر البجة، اتحاد عام جبال النوبة، من الاجتماع حتى يخلوا الساحة لمن لا يأبهون كثيراً، في ظنهم، لتقطيع أوصال السودان في سبيل تحقيق مشروعهم الأيديولوجى. الصوت المعبر عن هؤلاء كان هو صوت ابيل ألير، الشاهد الحي. هذه المجموعة التي لا تقتصر على الجنوبيين كانت تنادي، كبديل لمشروع الدستور الإسلامى، بتبني قرارات لجنة الاثني عشر، كما طالبت بتقسيم السودان إلى أقاليم تسع، باعتبار أن الجنوب سيبقى إقليماً واحد حسب ما نادي بذلك أهله. دعا أيضاً مؤتمر البجة لانفصال إقليم البجة عن مديرية كسلا، كما دعا اتحاد جبال النوبة إلى فصل منطقة الجبال عن جنوب كردفان، كلاهما في إطار سودان موحد (الرأي العام 18 يناير 196. وكان ذلك قبل خمس وثلاثين عاماً من مفاوضات ماشاكوس التي نتمارى اليوم في الحديث في رحابها عن المناطق المهمشة، وكأنها أسطورة انشأها جون ابن دي مابيور على غير مثال قديم. منذ ذلك التاريخ، لم تعد أزمة السودان تقتصر على الجنوب. ماذا كان موقفنا من كل هؤلاء؟ عليهم وعلى من والاهم أطلقنا نعت الجماعات العنصرية. ترى إن كان وليام دينق وابل الير وفيليب عباس غبوش ومحمد احمد عواض وعبد القادر اوكير وأحمد إبراهيم دريج عنصريين، فما الذي بقى ليكون الأصل؟ الجواب سهل، ففي المفهوم السائد في العقل الجمعي الشمالي، نحن مستعربة الشمال وحدنا الأصل في السودان الذي يتضام فيه النوبة (البرابره)، والبجة، وأهل جبال النوبة، والفور، واخوتهم في الغرب، وأهل الانقسنا بهمجهم ووطاويطهم، ثم الجنوب كله، لا تسألن عمن فيه. هؤلاء جميعاً فروع، والفرع لا يعلو على الأصل تماماً كما لا تعلو العين على الحاجب. أسطورة الأصول والفروع هذه حماقة تفتح على أهلها صندوق باندورا، لأنها ستدفع آخرين للقول إن:كان لأهل السودان أصل، فاصلهم النوبُ والزنوج. ثم دعنا عن اللواذ بالأحاديث "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" ، هذا قول جاء من معصوم لا كالرجال، عَقَد لمولاه زيد بن حارثة يوم مؤته على جلة بني هاشم وجعله أميراً على كل أرض وطأها. الأحاديث والقرآن لا ينفيان ما تدركه العيان، خاصة ونحن لا نمتحن الإسلام، وإنما نخاصم سياسات صنعها البشر وأضحت صناعة فاشية استوى حالها على الكذب، والجور، والاستهانة. هذه خصائل لا تقود إلا إلى بوار. وللجاحظ في رسائله قول حكيم في أسباب البوار، قال: "الصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة. والعدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يورث الفرقة. والاستهانة توجب التباغي، والتباغي مقدمة الشر، وسبب البوار" (رسالة الأسباب والعواقب). لنقلها بوضوح، كثر منا عنصريون حتى النخاع، وما الحديث عن تزيد الجنوبيين، أو مؤامرات العنصريين، أو تهديد هؤلاء للهوية العربية الإسلامية، إلا حجاب ساتر للاستعلاء العرقي، وذريعة لاستدامة الهيمنة السياسية والاقتصادية.
يتواصل منصور خالد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
منصور خالد
ابتزاز الجنوب للشمال وقد وصلنا لهذه النقطة من المقال يصبح الحديث عن ابتزاز الجنوب للشمال، حديث لا يستند إلى ساق، فمطالب الجنوب كانت واضحة لا تَزيُد فيها ولا ابتزاز حتى اتفاق أديس أبابا، وإلى أن نقض ذلك الاتفاق الطرفان اللذان رعياه (جعفر نميري وجوزيف لاقو). ولكي لا نحمل حكومات الشمال وحدها المسئولية، ذهبنا في كتابنا إلى إبراز صور لأنماط من رحالة الجنوب السياسيين (political nomads) الذين ما انفكوا يتنقلون بين حكومات الشمال وأحزابه. كلما نَكِد الماء في بئر واحدة منها، ارتحلوا إلى غدير لم ينقطع سيله، بلا اعتبار لما ألحقته تلك الأحزاب والحكومات بأهليهم وبأهل الشمال أنفسهم من ويلات. إلغاء اتفاق أديس أبابا، كما قلنا في أكثر من مقال، هو الذي جعلنا أكثر إدراكاً لأطروحة قرنق التي تغيأ منها الوصول إلى لب المشكل : "نعم للوحدة، ولكـن لابـد من إقامـة الوحـدة علـى أسس جديـدة والعـودة، إلـى منصـة التـأسيس (drawing board) لكي نصوغ مقوماتها مجتمعين". هذا قلب للمناضد السياسية لم يألفه أهل السياسة في الشمال الذين دبوا ودرجوا يؤمنون بتراتبية رأسية في السياسة يخضع فيها الأدنى للأعلى، وترسخت في الأذهان حتى عمقت من الجرأة على الحق. إن كان هذا هو ما يسميه الكاتب الابتزاز والتصاعد بالمطالب فهو محق، ولكن العليمين بديناميكية السياسة يعرفون جيداً أن لكل فعل رد فعل إن لم يحسب حسابه الفاعل، فعليه وحده يقع الوزر. فمثلاً، قبيل إعلان الاستقلال الأمريكي في عام 1776 كان مطلب الولايات الثلاث عشر هو حق التمثيل في البرلمان البريطاني، واعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الحكومة البريطانية وولاياتها المُستَعَمرة. ذلك المطلب تلكأت حكومة اللورد نورث في قبوله وعدته تمرداً على التاج مما حمل توماس بين على المجاهرة بالدعوة للاستقلال، فكانت الثورة الأمريكية التي انتهت بإعلان الاستقلال. ولو استجاب الملك الأحمق، جورج الثالث وحكومته لطلب الولايات المتواضع يومذاك لبقيت تلك الولايات حتى اليوم جزءاً من الكمنولث البريطاني كما بقيت كندا. وضع الحركة في السودان يختلف، إذ ظلت تتواصل مع كل القوى السياسية بكل ما يقتضيه التواصل السياسي من حكمة ودبلوماسية واستعداد للاستماع إلى وجهة النظر الأخرى. حدث هذا في لقاء البشير مع قرنق كما حدث من قبل في كوكادام، وفي اجتماع الميرغني – قرنق، وفي حوارات أسمرا، وفي المجابهة بين قرنق وصادق المهدي في أديس أبابا (1986). تلك المجابهة دامت دام تسع ساعات وكانت مثيرة. ختمها قرنق بقوله: "نحن معشر السودانيين نتصف بخاصية غريبة، فليس من السهل في أي مكان آخر في العالم أن يلتقي رئيس وزراء نظام قائداً متمرداً عليه بمثل هذا الروح من الاخاء. ومن حقنا أن نسأل أنفسنا لماذا نعرض بلادنا وأهلنا لويلات الحرب. أقول لك أخ الصادق، بعد إيضاح المواقف، أننى سأخطو خطوتين لقاء كل خطوة تخطوها للأمام" . والتاريخ شهيد على من تزيدوا على الصادق حتى لا يكون وفاق. التصاعد بالمواقف إتخذ بعداً جديداً عندما جاء نظام الحكم القائم باجندة دينية- سياسية، حدية في مواقفها، واستئصاليه في بنيويتها، وقاطعة في أحكامها. هذا أمر لا نبتغي الاسترسال في شرحه فقد اوفيناه حقه من الشرح في كتابنا. نتلبث فقط عند أمرين لما لهما من صلة مباشرة بأطروحة الكاتب، الأول هو تحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية، والثاني هو دعاوي الكاتب أنه، فيما قال، يمثل رأي شريحة كبيرة من أهل الشمال. أعجبُ وأطَم أن لا يكون لأدبيات الجهاد، وثقافه العنف التي زُوِد بها المجاهدون مكان في ذاكرة الكاتب الذي كان يشرف على برامج ساحات الفداء. يا لتلك من فجوة فاغرة في الذاكرة. أدبيات الجهاد لا يدركها الذين حملوا السلاح ضد النظام في جنوب السودان، لأنها تنطلق في تقديرهم، من مفاهيم ميتافيزيقية، لا مكان لها في عالم السياسة العملية، بصرف النظر عن إيمان أصحابها بها. فالسياسة علم فيزيقي، وأثر السياسات ـ مهما كانت القاعدة المعرفية التي تنطلق منها ـ يجب أن لا تغيب عن بال المبادرين بها. الجهاد، حسب الطريقة التي مورس بها والشعارات التي صحبته، كان دعوة للإبادة، أو هكذا فهمه الخصوم، وفهمه العالم. ومن المؤسي أن الجهاد كان حقاً هو ما تصوره هؤلاء، إذ كان أبعد ما يكون عن وصايا الإسلام نفسه حول الجهاد. ففي وصاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وقد خرج لقتال المشركين : "لا تقاتلهم حتى تدعوهم. فأن أبوا فلا تقاتلهم حتى يبدأوكم. فأن بدأوكم فلا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً. ثم قولوا لهم هل إلى خير من هذا السبيل. فلئن يهدي الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت". لم تكن هذه هي اللغة التي كان يبتعث بها النظام مجاهديه لقتال "المشركين" في الجنوب، بل طغى عليها خذوهم، احصروهم، اقعدوا لهم كل مرصد، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، وبجرعات مكثفة. لهذا لن تفيد الكاتب في شئ الروايات التي أوردها عن عنف الحركة في الحرب ونسبها إلى الأسرى العائدين، حتى وإن صدقناها، إن لم يصحبها تحليل لثقافة العنف التي تولدت من تديين الحرب. ومن المفارق أن الكاتب لم يشر ـ ولو مرة واحدة ـ لأسرى الحركة الذين وقعوا في قبضة المجاهدين. ما كان في مقدوره أن يفعل لأن منطق ثقافة العنف هو: "اقتلوهم جميعاً لا تستحيوا منهم أحداً". ثقافة السلام التي نريد لها أن تسود تقضى بنزع ما في النفوس من حقد كامن وغِل غليظ "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين" (الحِجْر 15/47). هذا هو حال أهل الجنة لا يمسسهم فيها نَصَب، فلماذا يريد لنا البعض في هذه الحياة الدنيا عيشاً ذا منصبة. نذكر أيضاً أن هذه الحرب الذي ظلت رحالها تدور منذ بدايات الاستقلال كانت دوماً في الجنوب. لم يتوجه الجنوبيون بمتمرديهم إلى الشمال الجغرافي لاحتلال رقعة من أرضه. ولم يذهب هؤلاء الموسومون بالحنق، كما ذهب التأميل في سيريلانكا، أو الجيش الجمهوري الايرلندي في المملكة المتحدة، أو ايتا الباسكية في أسبانيا، إلى اغتيال المسئولين أو الاعتداء على البشر وممتلكاتهم في العواصم والأقاليم الأخرى. ولم يسجل التاريخ منذ اشتداد أوار الحرب في الستينيات اعتداءً وقع على مواطن عادي في الشمال من التجار والموظفين والعاملين هناك، وإن سجل أحداثاً للإبادة المنظمة لمثقفي الجنوب في جوبا وواو في منتصف الستينيات كما أثبت ذلك تقرير قاضي المحكمة العليا دفع الله الرضي. وان شاء الكاتب أن يعود بالقارئ إلى أحداث توريت (1955) التي يتلكأ عندها دوماً بعضنا، فيحسن به ـ كما يحسن بغيره ـ أن يعود إلى تقرير لجنة قطران ليرى فيه تحليلاً نصيفاً لأسباب تلك الأحداث. ذلك التقرير وان اختفى من مطبعة ماكوركوديل ـ كما اختفت المطبعة نفسها ـ أجلاه على الناس من جديد مركز الدراسات السودانية لمن يشاء أن يقرأ. حكوماتنا التي أخذتها العزة بالإثم هي التي حملت جيش السودان، على غير رضى من اغلبه، بخيله ورجله ومجنزراته وأخيراً بطائراته إلى جنوب السودان ليقول لأهله "أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم"، وما فعل هذا غير قليل من رحالة السياسة. الجنوب لم يكن أرضاً قَواء (خالية من البشر)، بل له أهل، وما اقتحمناه إلا لتقديرنا أن السودان بلد واحد. لهذا لن نصدق اليوم الذين ظلوا يقضون دوماً في أمر السودان بالأغلب، عندما يقولون أن السودان، في حقيقة أمره، بلدان. أو لا يحق لنا أن نقول، إزاء كل هذه الوقائع، إن حال الذين ضاقوا ذرعاً بحرب الجنوب بعد أن استخدموا كل الوسائل (بما فيها الدين) لقهر الجنوب فلم تُجد، كحال الثعلب الذي أنهكه الجري وراء عناقيد العنب، فلما لم يطلها قال : "ما أمر العناقيد !" . من اللافت للنظر أيضاً أن حروب السودان رغم كل المرارات التي صحبتها لم تنحدر إلى عداء واستعداء ذي طابع عرقي بين جموع أهل الشمال والجنوب في أقاليم السودان وعواصمه المختلفة كما وقع بين الهوتو والتوتسي في رواندا، أو يتكرر بين الهوسا واليوروبا في نيجيريا. حرى بنا، إذن، أن نعترف ونشيد بالحكمة الفطرية (village wisdom) لعامة الناس من أهلنا في الشمال والجنوب التي ألجمتهم عن الضِغن والتباغض. أن المعاسرة التي يجدها النظام في مفاوضاته مع الحركة تعود إلى وضع خلقه بنفسه، ولهذا فليس من الأمانة في شئ أن يستذري بعض نصرائه بأهل الشمال، أو يكتنوا بحماهم. أهل الشمال هؤلاء لم يستشاروا في سياسات النظام التي ألحقت أذى بالغاً بوحدة السودان. ولم يكن لهم مكان في خارطة طريق السلام التي رسمها يوم أن قال قائله (علي الحاج) لقرنق في عنتبي في مطلع التسعينيات، وعندما دعا قرنق لشمول محادثات السلام للقوى السياسية الأخرى : " نحن لا نتحدث إلا مع من يحمل السلاح". كما كان نصيبهم الالغاء الكامل يوم بعث مندوبه قطبي المهدي إلى نيروبي غداة وصول نائب رئيس التجمع، عبد الرحمن سعيد يصحبه نيهال دينق يطالبان بإدخال التجمع في مفاوضات الإيقاد. قال قطبي: "لو دخل التجمع من النافذة، خرجنا من الباب". وأخيراً يوم قال الفريق البشير لكبار أهل الشمال عند افتتاح ميناء بشاير "لا مكان لهؤلاء في السودان إلا بعد أن يتطهروا بمياه البحر الأحمر". فأي شمال هذا يتحدث الكاتب باسمه؟ أو ليس الأجدر بالحديث عن الشمال الرجل الذي ظل يدعو إلى إشراك قواه الفاعلة في كل مرحلة من مراحل العملية السياسية. الجنوب وتخريب الاقتصاد تخريب الجنوب للاقتصاد السوداني تعبير لا معنى له، فالحرب، كما قلنا، هي التي قادت بالضرورة إلى تخريب الاقتصاد، وعمقت من تشوهاته الهيكلية، وقادت ـ بجانب الهدر في الإنفاق ـ إلى إضاعة فرص التنمية. على أنا نقترب من هذه القضية من وجهين، الوجه الأول يتعلق بمسئولية أنظمة الحكم السابقة عن الخراب الاقتصادي، والثاني يتعلق بدور النظام الذي ينتمي إليه الكاتب في تعميق الخراب الراهن. حول الوجه الأول نقول أنه بالرغم من أن قضية تنمية الجنوب استغرقت حيزاً كبيراً في مقررات لجنة الاثني عشر، إلا أن التوصيات بشأنها بقيت حبراً على ورق حتى اتفاق أديس أبابا 1972. السبب بالقطع لم يكن هو رغبة تلك الحكومات في إفقار الجنوب والإبقاء على تخلفه، وإنما كان هو ضمور خيالها عند الإقبال على قضية التنمية في السودان بوجه عام. تلك الحكومات أبقت على نهج التنمية الاستعماري الموروث والذي كان موجها،ً بطبعه، لخدمة أهداف المستعمر باستغلال اكثر المناطق قابلية للاستثمار، وأقرب لِمواني التصـدير، وأجـدى بمعـايير فعاليـة التكلفــة (cost - effectiveness). لهذا لم تسقط فقط تنمية الجنوب، بل تنمية كل الأقاليم المهمشة من شاشة السياسة الاقتصادية الاستعمارية. فخلال الفترة من مؤتمر جوبا وحتى الاستقلال بلغ إجمالي حجم الاستثمار التنموي لكل السودان 14.6 مليون جنية سوداني، انفق منها على الجنوب 1.3 مليون. ذلك الإنفاق ذهب كله لإقليم واحد فيه (الاستوائية)، بل لمشروع واحد هو مشروع الزاندي الذي أعده المستر توتهل (مدير الزراعة وأول مدير لجامعة الخرطوم). أما في الفترة 1956 – 1960 ارتفعت مخصصات التنمية إلى 69.5 مليون جنية توجه أغلبها إلى مشروعات الري الكبرى في الشمال، مشروع المناقل، توليد الطاقة الهيدروكهربائية في سنار، مشروع الجنيد، وبدايات العمل في خزاني الرصيرص وخشم القربة. فالباحث الذي يريد أن يقضي في أمر مصيري مثل تقطيع أوصال القطر عليه أولاً أن يتثبت من الحقائق بدلاً عن إرسال القول على عواهنه. وحين يكون الحديث عن الاقتصاد فلا تعنى تعبيرات مثل "إغداق الشمال على الجنوب" شيئاً إن لم تصحبها أرقام، فالاقتصاد ـ في وجه منه ـ علم حساب. مع ذلك نقول أن الشمال "أغدق كثيراً" من ماله ورأسماله البشري، لا على الجنوب، بل على حرب الجنوب. وكما قلنا لا يتحمل المسئولية عن تلك الحرب إلا الذين انتهوا بعد ثلاثة عقود من الزمان إلى مالو كانوا قد أذعنوا له منذ البداية لكفوا الشمال والجنوب معاً عناء الحرب وتكلفتها الباهظة. لم تبلغ الحرب ما بلغته من كرب وهلاك ودمور ما بلغته منذ تحويلها إلي جهاد. فالنظام هو الذي جعل من القتال واجباً مقدساً يفرض على القادر وغير القادر، وعلى الراغب وغير الراغب. والنظام هو الذي حول الاقتصاد الوطني كله إلى اقتصاد حرب. والنظام هو الذي تجاوز كل قوانين الحرب بتعديه، للمرة الأولى في تاريخ الحرب الأهلية، على المنشآت المدنية. فأن دمرت الحرب الراهنة المدارس، فالتدمير لحق بمدرسة كمبوني في قرية كاودا بجبال النوبة، لا بكمبوني الخرطوم. وان طالت تلك الحرب المستشفيات، فقد كان ذلك هو نصيب مستشفى محفظة السامري في لوي، لا مستشفى سوبا. وان بلغ أغلب أهل الشمال حد الفقر، ولم يبقَ لبعضهم غير فضلات المقمات وقِرْف الحَتىِّ (الدوم) طعاماً، فليس لأن الجنوبيين قد سطوا على خزائن قارون يتوزعونها بين أنفسهم، وإنما لأن الامناء على تلك الأموال حددوا أولويات لإنفاقه يأتي الفقراء والمساكين والعاملين عليها في أسفلها. لهذا عندما يزرف الكاتب الدمع السخين على آثار الحرب على الاقتصاد، ويغفل كل الإنفاق الرسمي والأهلي الذي سخر للحرب، خاصة منذ مطلع التسعينيات، يكشف عن عَوار كبير في دعاواه. ومن الاستخفاف بمكان أن لا يجد الكاتب من كل المنشآت الكبرى التي عطلها قرنق، كما قال، غير قناة جونقلي التي ستدر على مصر 4 مليار متر مكعب من المياه (الصحيح أن هذه المياه ستقتسم مناصفة بين البلدين: مصر والسودان). جونقلي أوقفتها الحرب، وكانت ضحية لها بالتداعي. مع ذلك كان أول طلب توجه به قرنق إلى المهندس عوض الكريم محمد أحمد في لقاء كوكادام هو إرسال وفد من نقابة المهندسين لمعاينة الحفارة وصيانتها. نفس الطلب تقدم به قرنق إلى الرئيس مبارك في أول لقاء له معه في منزل السفير روبير اسكندر بأديس أبابا. على أن الحرص الذي يبديه الكاتب على مصالح مصر المائية في السودان حرص زائف، خاصة وقد صدر ممن كان ينتمي إلى أول حكومة سودانية صادرت منازل الري المصري، وطردت عامليها بالرغم مما تنص عليه اتفاقية مياه النيل (1959) حول اللجنة الفنية المشتركة. الحقد العنصري نحو الشمال لا ينكر أحد أن بين متعلمي الجنوب من لا ينظر إلى الشمالي ـ أي شمالي ـ إلا كعربي مسترق، هؤلاء هم ورثة أقري جادين، وجلهم ضحية لمتلازمة الرفـض (syndrome of denial). بيد أن في أوساطنا من يؤكد لهم كل يوم صدق توجسهم ومخاوفهم، ولا تسألن عن نوازع هذا الرفض، فكل ثقافتنا السائدة تقوم على الاستعلاء، أو ما أسماه عبد الله علي إبراهيم الخيلاء العرقية. ذلك الاستعلاء المنتفخ لا مكان له في عالم اليوم منذ أن تواضعت الإنسانية على إعلان حقوق الإنسان وما تبعته من عقود وعهود. وسرعان ما يقول قائلنا: نحن أصل هذه العهود، فمنا عمر الذي قال "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". هذه خفه لا تغنى ولا تفيد، فالذين يعانون من القمع المعنوي لا يخاصمون عمر بن الخطاب المخزومي، وإنما ينازعون محمد احمد السوداني (أمثال الكاتب) في حقوق يكتسبها المرء بحكم إنسانيته. فالمحسوس الواقعي لا يغنى عنه المجرد النظري. ذلك المحسوس تعبر عنه ممارسات فعلية هي، في جوهرها، انعكاس لصراع القوى والمصالح. وعلى أي، ذلك موضوع لن نوفيه حقه سنظلمه إن اختزلناه في بضع سطور في هذا المقال، خاصة وقد أفردنا له مكان ربما في كل فصل من فصول كتابنا العشرة. ولئن يختزل الكاتب كل القضية في قوله "لن أتردد في قبول زواج أي مسلم جنوبي من ابنتي عند موافقتها على ذلك" يكشف عن مقاتله. أصحاب هذا اللون من التفكير يلخصون كل قضية الجنوبيين في الابتعال ببنات ذوي الاحساب والذؤابة من نسل العباس بن عبد المطلب. القضية، يا شيخنا، سياسية تتعلق بالتمكين السياسي والاقتصادي، فالذين "استضعفوا في الأرض" ليسوا هم فقط أصحاب تيار سياسي بعينه. هناك أيضاً غيرهم من المستضعفين الذين يسألون الله أن يَمُن عليهم ويمكنهم في أرضهم. هؤلاء لم يكتفوا بسؤال الله، وما كان لهم إلا شحذ أسنة رماحهم في زمان ساد فيه القول "لن نتحدث إلا مع من يحمل السلاح". هذه النظرة "الجنسية" المنحرفة للقضية أيضاً، لا تختلف كثيراً عن رؤية المتعصبين البيض في الولايات الجنوبية بأمريكا. قال لهم مارتن لوثر كينق : "أريد أن أكون أخاً لكـم، لا بعـلاً لأخواتكـم" (I want to be your brother, not your brother - in law). ولا شك في أن الذين يخشون من التمكين السياسي يلجأون دوماً إلى استثارة أدني الغرائز في الناس. إلى استثارة العواطف ذهب كاتب إسلامى آخر كنا نحسب أنه بمنجاة من أبطولات الاستعلاء العرقي. كتب حسن مكي منذ بضع سنوات مقالاً حول جموع الوافدين إلى الخرطوم من غير المستعربة يقول إن تكاثرهم قد يذيب العنصر العربي فيها. ومضي الدكتور الأريب لوصف العاصمة التي أخذ "يجللها السواد" بسويتو، (المدينة الأفريقية المجاورة لجوهانسبرج)، أي أنها أصبحت جزيرة من السود وسط بحر من البيض. ولأهل السودان في الشمال والجنوب نظرة معتلة للألوان، فبياض أهلنا وأهل أخينا حسن لا يختلف كثيراً عن بياض "بحر أبيض"، ذلك النهر الخانع العبيط. اللون ليس هو القضية وإنما القضية هي المقاربة بين جنوب أفريقيا والسودان. ولعل غلاة دعاة الابارثايد كانوا أكثر حكمة منا عندما أدركوا ديناميكية السياسة وتنزلوا عن حصانهم الجامح وقبلوا الواقع، بعد أن تعالوا على ذلك الواقع زماناً. الواقع لا يقضي بتنكرنا في الشمال لعروبتنا الثقافية وإسلامنا، كما لا ينبغي أن لا يفرض على غير العربي وغير المسلم أن يكون عربياً ومسلماً. تنوع السودان هو مصدر قوته، بل هو آيـة من آيات الله: "ومن آياته خلـق السمـوات والأرض واختـلاف ألسنتـكم وألوانـكم" (الروم 22 /30). هذا تنوع صنعه البديع الذي أتقن كل شئ. الواقع أيضاً يقول نحن جميعاً سودانيون، منا قوم اصليون عاش أسلافهم في أرض السودان منذ أن كان هناك فضاء سوداني (النوبة، البجة، النيلويون، الفور)، ومنا قوم وفد أسلافهم إلى هذه الأرض واستقروا فيها وتوطنوا. وهكذا تكونت الأمم جميعها. هذه الحقيقة يتأبى بعضنا الإذعان لها لأنهم لم يلغوا بعد التناقض الفج داخل نفوسهم، كما يرفضون النظر إلى وجههم في المرآة، وإن نظروا فلا ينظرون إليها إلا في مرآة مقعرة. فلا غرو، إذن إن اختلت الصورة. بلا مناسبة شاء الكاتب أن يزج باسمنا في الفتنة التي ألهب نيرانها، وأنكرها حتى الاقربين. أسمانا ومن معنا ممن أطلق عليه أسم "الشماليين" خبراء التجميل في "الحركة العنصرية الحاقدة". العنصريون، حقاً هم الذين يزيحون عن خارطتهم الادراكية الآخر المختلف أو المغاير، ولا يقبلونه إلا كرديف مطاوع. والعنصريون هم الذين يبيحون لأنفسهم تحت بيارق الأيديولوجية السياسية، أو رايات الدين، أو أوهام التمايز الثقافي، إبادة الآخر حساً في بعض الأحيان، ومجازاً في كل حين. ندرك أن للكاتب ثأراً مع من يسميهم "الخوارج" في السودان يمضه كما أمض مقتل على قلب الشريف الرضي وأضغنه على خوارج النهروان. ذلك الضغن لم ينزعه الشريف عن نفسه، بل تمنى عليها أن تدركه بقطع كل قرن منهم حتى وإن كانوا نطفاً في أصلاب الرجال وأرحام النساء (نهج البلاغة). وما كان العفو والتراضي ليجد طريقه إلى قلب الشريف فاخر النفس وقد شهد جبال المجد تنهد أمامه، واحداً تلو الآخر: يا جبال المجد عزاً وعُلا وبدورَ الأرض نـوراً وسنـا جعل الله الـذي نَاَبكـمُ سبب الوجد طـويلاً والبُكـا لا أرى حزنكم يُسلى ولا رُزءَكم يُنسى وان طال المدى كان، بحق، موتوراً ثائراً على تعدى مهووسين نقضوا العهد، وأخذوا ولي أمرهم امام العادلين من حيث لا يدري، ونازعوه في ولايته وهم ليسوا في شرف موضعه وحسن ديانته. فالعزاء بمثل عليٍ مغلوب. أما حرب السودان اللعينة فهي حرب سياسية، لا غادر فيها ولا مغدور به. هي أيضاً حرب خاضتها أحزاب الشمال وحكوماته في ارض يقطنها أناس لا يعترفون لتلك الأحزاب والحكومات بولاية، ولم يتخذوا معهم عهداً في كل الفترات التي نقضوا فيها العهود، أو تلك التي اقتسروا الولاية فيها غلاباً. القراءة المتأنية والبعيدة عن الانفعال ستقودنا، بلا ريب، إلى أن نكون أكثر موضوعية في التقويم والحكم. ولكن إن تحامس بعضنا لا يبتغي غير الثأر المنيم، فعلم الله لنفتحن باب جهنم علينا لأن الدماء ستجري في الخرطوم قبل جوبا، وفي الخرطوم البحرية قبل توريت بين أهل الشمال أنفسهم بين أصحاب الثارات. أو ليس الأوفق أن يطفئ العقلاء نار الغضب تفادياً لنيران جهنم. أقول، من بعد، أنا لست شمالياً بعد أن اختلق لي الكاتب هوية معينة. وبالقطع أنا لست جنوبياً. أنا سوداني فحسب. هذه الرحلة التي قطعت لأتجاوز بها كل نوازع التمييز الجهوي، والعرقي، والديني بين أبناء الوطن الواحد لما يفلح بعد في سلوكها كثيرون في الشمال والجنوب. لو فعلوا لتصالحوا مع أنفسهم وتأنسنوا. ثم إننى سوداني بالصدفة التاريخية والجغرافية، أنا إنسان في البدء والمنتهي، وليس الإنسان هو كل من مشى على قدمين. الإنسان هو المخلوق القادر على التماهي مع بني البشر بحكم إنسانيتهم، وهو الحريص على مد جسور التفاهم مع كل الثقافات ومحاياة كل الشعوب والقبائل، وهو المدرك لأن الرؤية تتسع كلما انسجم مع المغاير والمفارق. هذا مجال تضيق فيه العبارة، وكما يقول الصوفي عبد الجبار النفري: "كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة". أصحاب النظرة الأحادية للحياة، والأحكام القاطعة على الأحياء، هم وحدهم الذين لا تضيق عباراتهم، ولم لا وقد احتكروا الحقيقة كلها! الإنسانية، يا صحاب، هي التي تعمق في الوجدان معاني الحب والخير والجمال. ولا يحسبن أحد أن رجلاً عاش في شرخ شبابه يعمل في محافل ما قامت إلا لخير الإنسانية، رغم كل عثراتها، يتنكر لما تعلمه في صباه بعد أن أصبح في معترك المنايا من العمر. فالذي يستنكر الابارتايد في جنوب أفريقيا ينبغي أن لا يقبل شبيهاته في عقر داره. والذي عايش وشهد مآسي الاستعلاء العرقي الصريح فـي أمريكـا، يقمن بـه أن لا يصمت عـن العرقية الخفية غيـر المسماة (anonymous) في بلاده. لهذا نسعى، مع كل ما نحس به من ألم ومضاضة، لاستنطاق المسكوت عنه، واستبصار اللامرئي سعياً لاستنقاذ بعض أهلنا من أنفسهم. هذا "الشمالي" أيضاً لن يستكين للتزيد والابتزاز باسم العروبة والإسلام، كما لن يسمح لنفسه البتة مجاراة النفاق الذائع حول أفريقية أهل السودان أو دور السودان الرائد في أفريقيا. لن يستكين للتزيد رجل أنضجته أرحام طاهرة من سرارة ذوي الأنساب في بلاد فيها للأنساب شأن، وتلبسته الثقافة العربية وتلبسها (إن كانت العروبة ثقافة)، وورث دينه عن أهل فقه ورواية. ليس مقامي بمقام مفاخرة، ولا در دري إن تفاخرت. ولكن ماحيلتي في بلد يتظنى بعض أهلها أن فيها هامات وأعجاز. تلك جاهلية، لا يرتد إليها إلا "الذين كفروا وفي قلوبهم الحَميةَّ حميَّةَ الجاهلية" (الفتح 26/4. هذا تزيد لن ننكفئ معه، بل نقول إلا لا ليجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا أما أفريقية أهل السودان، فدعاتها مدخولو القلب في الانتماء إليها، طالما ظلوا عاجزين عن احتمال "أفريقيا" التي تتساكن معهم في نفس الوطن. كثر من هؤلاء ذهب به النفاق إلى تصنيم قيادات أفريقية مثل باتريس لوممبا ونلسون مانديلا، وجومو كينياتا، ولا يصنمون إلا الأساطير والرموز. هي أساطير ورموز لأنهم افرغوا أولئك الأبطال المغاوير من كل العناصر التي كونتهم، ومن كل المواريث الثقافية التي غَذَت نضالهم، ومن كل المعاني التي عبر عنها ذلك النضال: استرداد الكرامة، نبذ الاستهجان، المساواة. الرموز الخالية من المحتوى لا تتهدد أحداً، ولهذا فلا يضير رؤوس النفاق أن تهتز عِطافها عندما يغرد الكابلي: "جومو كينياتا الذي نعرفه". بلا مناسبة أيضاً زج الكاتب بقصة رفض قرنق لقاء الأستاذ علي عثمان محمد طه في لاغوس واتخذ منه نموذجاً لتحقير الرجل للشمال، أسمي ذلك "الانتقام والتشفي والحقد العنصري الدفين". قرنق التقى من قيادات الشمال البشير، والصادق المهدي، ويهرع دوماً للقاء الميرغني، فلماذا، إذن، يعبر رفضه مقابلة علي عثمان "الشمالي" عن رفض عنصري دفين؟ ولماذا لم يمتد التشفي والحقد، أن كان هناك حقد أو تشفي، إلى من هو أعلى رتبة من علي عثمان في النظام ؟ جوهر القضية يتلخص في أمر هام عجز بعضنا حتى الآن على إدراكه : الظن أن قضية بتعقيد قضية السودان يمكن أن تحل عبر المناورات، أو بافتراض أن قرنق أداة طيعة في يد كينيا ويوغندا ونيجيريا، ناهيك عن أمريكا. الحديث عن ذلك الاجتماع جاء في الوقت الذي كان الرئيس الكيني السابق يمهد فيه لاجتماع بين قرنق والبشير، فبدا وكأنه محاولة لاستباق ذلك الاجتماع أو إجهاضه. ولربما ظن من سعى للاجتماع ورتب له ـ دون إخطار قرنق ـ أن الرجل لا يملك أن يرد طلباً للرئيس النيجيري حتى وان وجد نفسه في كمين. وللحقيقة ذهب الرجل برفقة زوجته إلى لاغوس في الطائرة الخاصة للرئيس السابق بابنجيدا لقضاء عطلة الكرسماس في قرية اوباسانجو مع زوجته وأبنائه. لم يبلغ بنبأ هذا الاجتماع إلا بعد أن أقلعت الطائرة من مطار نيروبي، وكان رده بسيطاً لم تتخلله المعاني التي ذهب إليها الكاتب. قال: "كيف يمكنني أن أشارك في اجتماع لم أخطر به مسبقاً، ولم اعد له نفسي، ولم أتشاور بشأنه مع رفاقي، ولم أصحب معي إليه من يعنيهم الأمر من مستشاريي". قيل له انك ستحرج الرئيس اوباسانجو بهذا الموقف، فرد قائلاً: "على الذين دبروا هذا الكمين تحمل نتائج الإحراج". بقى الرجل على موقفه إلى أن وصلت الطائرة العمودية التي أقلت وفد الخرطوم إلى منزل اوباسانجو الريفي، مما أوقع الرئيس النيجيري في حرج بالغ أمام ضيفيه. ولم يألُ اوباسانجو جهداً لإقناع قرنق للقاء ضيفه، إلا أنه استكان في النهاية عندما قال له قـرنق: "سيـدي الرئيس هـذه الحـرب كلـها تـدور حـول شـئ واحد هـو الكـرامة" (All this war is about one thing, dignity). هذا قول فهم مغزاه أوباسانجو، ولكن، فيما يبدو، لم يفهمه بعد الذين ما برحوا يتقافزون حول المشكل بالتشاطر حيناً، وبالظن الباطل أحياناً أخرى أن خصيمهم ليس أكثر من أداة في يد غيره. الحكمة تقول أن الوعل يمسك من قرونه، لا بالتحايل عليه. الإنسان كائن غريب الأطوار، لا يفهمه أذكى الأذكياء. فعندما طلب الصهاينة، مثلاً، من العالم البرت اينشتاين، في مَعرِض بحثهم عن يهودي مرموق ليكون أول رئيس للدولة العبرية، تأبى العالم الفيزيائي ذلك العرض قائلاً: "أنا أفهم بعض الشىء في الفيزياء، ولكني لا أفهم الإنسان أبداً". لقد استعصى فهم الإنسان على ذلك العالم العبقري لأن الإنسان يصنع الأوهام عن نفسه وعن الآخر، ثم يصدقها، ثم يستمرئ تلك الوهوم من بعد لأنها تكسبه حصانة ضد ما في وهمه من خبائث، وتعشى بصره عن رؤية الصور التي شكلتها تحيزاته الموروثة. ولربما كانت تلك الوهوم هي التي حملت الكاتب على أن يلحق بالجنوبيين أجمعين، الاقلة عصم ربي أو انتقاها، كل المشاين والمقابح. حتى ذلك الرجل الوديع نيهال دينق رماه بالحقد واتهمه بالسعي لـ "تحرير السودان من الجلابة". الكاتب، فيما يبدو، لا يعرف نيهال من آدم، ولعله التقط اسمه من مضابط الحوارات في المفاوضات. ذلك اختيار لم يحالفه التوفيق. فأن كان بين مفاوضي الحركة غلاة (مثل أي تنظيم سياسي)، فنيهال ليس واحداً منهم. وإن كان بينهم ذوو الأناة في الاستماع للرأي المغاير، والقدرة الفائقة على استيعاب مخاوف الآخر، فنيهال على رأسهم. هو كذلك، رغم أنه صاحب ثأر، اغتيل والده وذهب بلا قَوَد، فلم يلهث وراء الثار بل كظم غيظه. الإشارة لنيهال لا تتضمن تلبيساً للحق بالباطل فقط، بل تضع الكاتب في موقع حرج. أولاً الحوار الذي يدور اليوم في ماشاكوس لا يتعلق بتحرير السودان من الجلابة، ولا بهيمنة الجلابة على السودان. محور المفاوضات هو التراضي على وضع ينهي الحرب، ويحقق السلام، ويرضي مطامح كل أهله في الشمال والجنوب. والذي يتهم بالعمل على تحرير السودان من الجلابة هو رئيس الوفد الذي أقر أن يحكم الشمال وفق الشريعة، ويحكم الجنوب وفق ما يرتضيه أهله. هذا أمر أقلق الكثيرون من "الجلابة" ولكن، بلا شك فيه مراضاة لمن بهم صبابة للشريعة. أما إن شاء الكاتب أن يقرأ في بروتوكول ماشاكوس غير ما قالت به نصوصه، ويفترض أن الحركة لا تبتغي غير فرض رؤيتها على أهل السودان (بمن فيهم الجلابة) فهذا شأنه، ولكنه يوقع نفسه في ضيق شديد. فإن كان الذي ينعيه الكاتب على الحركة هو سعيها نظرياً لاعادة رسم خريطة السودان السياسية والثقافية على هواها، فأقل الناس أهلية لاطلاق هذه التهمة رجل ينتمي إلى قبيل أعاد رسم تلك الخارطة عملياً. فما الذي يبيح للنظام الذي ينتمي إليه الكاتب إعادة تشكيل السودان كله قسراً ودون استشارة أهله بهدف "إنقاذه"، ولا يبيح لكائن من كان أن ينهج هذا السبيل رغبة في تجديده؟ وبصرف النظر عن التهالك المنطقي في مزاعمه يتبدى لنـا مـن إشارته لنيهال أن الكاتب ينظـر للجنوبيين كلـهم، كمـا ينظر غـلاة البيض العـنصريين فـي أمريكـا للسـود. يقولـون "إن التـقيت واحـداً منهم فقـد إلتقيتهـم جميعـاً (If you met one, you have met them all). أما قرنق فلم يبق للكاتب إلا وصفه بأنه رجل يستطيب أكـل الأطفـال المحمرين (roasted babies). قبل أكثر مـن قرنين مـن الزمـان (1729) صاغ الكاتب الإنجليزى الساخر جوناثان سويفت (مؤلف رحلات جلفر)، مقاله الغريب "إقتراح متواضع" (A Modest Proposal) يبين فيه محاسن اكل لحوم الأطفال الأيرلنديين محمرة، أو مقلية، أو مشوية. المقال كان إدانة لغلواء المتعصبين الإنجليز ضد الايرلنديين وهزوءاً بهم. ترى، أومازلنا نعيش في زمان جوناثان سويفت؟
يتواصل منصور خالد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
يتواصل منصور خالد
التدخل الخارجي في السنوات العشر الأخيرة أطنب بعض المعلقين في الحديث عن تدويل المشكل السوداني، وعن التوغل الإسرائيلى في شئون السودان. إلى هذه المزاعم لجأ الكاتب أيضاً ليبرر دعواه للانفصال. قال إننا "أمام خيارين، فأما أن تستمر الحرب كما استمرت لما يقرب من نصف قرن من الزمان بكل ما يعنيه ذلك من تطورات سلبية محتملة في ظل التعاطف الدولي والإقليمي الذي يجده قرنق والتدخل الإسرائيلي المكشوف للإحاطة بمصر والسودان من خلال دعم قرنق وتمكينه من تنفيذ مخططاته والمخطط الأمريكى الذي يسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وإحكام الطوق حول عنق السودان. أقول ذلك وأنا اقرأ عن مخطط أمريكي لتغيير هيكل الحكم في السودان لمصلحة سيناريو جون قرنق حول السودان الجديد.... أو أن نقدم على الخيار المتبقي لنا وهو خيار الانفصال". ولو كانت كلمة "لنا" تشير إلى أصحاب التوجه السياسي الذي يمثله الكاتب لما جادلناه، لأن كل خطط السلام الراهنة تتجه إلى إنهاء الهيمنة الراهنة التي ظل يستنهجها النظام. أما الزعم أن أهل الشمال جميعاً يشاركون الكاتب الرأي، فزعم صاعق زاعق. أهل شمال السودان، فيما نقدر، لا يتمنون من الله شيئاً غير إنهاء الهيمنة السياسية القائمة والعود بالسودان إلى نظام أكثر رحابة. نظام يستريح للتباين الفكري عوضاً عن الاحتكار الآحادى للحقيقة، ويحترم المساواة السياسية بدلاً من التراتبية الرأسية، ويقبل انطلاق الأصوات المتكافئة لا الركون للصوت الواحد الرتيب، ويعترف بالهويات الثقافية المنفتحة على الزمان والمكان، لا الانكفاء على هوية واحدة مغلقة ترتكز على ماضٍ وهمي، أو على الأقل تخيلي. وعلى أي، فافتراضات الكاتب حول التدخل الأجنبي في الشأن السوداني افتراضات واهية لا تدعمها حجة بينة، ولا يسندها دليل متين. ما هي هذه الافتراضات؟ أن هناك تدخلاً دولياً وإقليمياً "لمصلحة قرنق"، وان هناك دعماً إسرائيلياً "مكشوفاً" له، وأن هناك مخططاً أمريكياً لتغيير هيكل الحكم في السودان لسيناريو السودان الجديد. هذه الافتراضات تعرقل الأمر على الباحث، وتشوش أفكار المتلقي، ولو عَدَّى عنها صاحبها لكان خيرُ ُ عُقبا. مثل هذه الدعاوى لا يمكن أن تصدر من رجل يعيش مع الناس في الأرض، أو يأبه للواقع الذي يحيط به. ففي البدء نقول أن التعاطف الدولي، منذ بدايات النظام، لم يكن مقصوراً على الحركة، بل شمل مجمل المعارضة السودانية، وليس أدل على ذلك من قرارات لجنة حقوق الإنسان ضد انتهاكات تلك الحقوق، خاصة بعد ان جعلت اللجنة مراقبين ومقررين لها في الخرطوم، مازالوا يتوافدون عليها حتى اليوم. جُلَ هَم هؤلاء كان معاناة الصحافة والمحامين في الخرطوم، والنازحين إلى الخرطوم، والأكاديميين والطَلاب في جامعاتها، دعك عما لحق بالمعارضين السياسيين وناشطي حقوق الإنسان. نقول هذا حتى لا يصور البعض اهتمام العالم بالسودان بأنه اهتمام لا يهدف إلا لحماية مشروع الجنوب "العنصري". الذي تعنيه انتهاكات حقوق الإنسان بهذه الدرجة، لابد أن تعنيه بدرجة أكبر مآسي الحرب والجهاد والميليشيات القبلية التي استنفرت إلى ساحات الجهاد فسارت إليه بالموريات قدحاً والمغيرات صبحاً. نحن لسنا هنا بصدد صدقية الاتهامات التي وجهت للنظام، فلنا في هذا دين، وله دين. كل ما نريد قوله هو أن في تصوير الاهتمام الدولي بحرب السودان كانحياز لمصلحة فريق واحد إجحاف بالحقيقة. أما التدخل الإسرائيلي فأمره عجب، ولن يفيد كثيراً أن ننفيه، خاصة أمام تلبث بعض الجهات على تزوير الوثائق بصورة تفتقد الحد الأدنى من المهارة لإثبات تلك الفرية. ما نؤكد عليه هو أنه، إن صحت التهمة، وكان لدي مطلقيها من الأدلة ما يؤكدها، يصبح من الغريب أن يتساعى النظام منذ أغسطس 1989 لاستئلاف الحركة "العميلة"، بل إشراكها في الحكم. فعملاء إسرائيل ينبذون ويكشفون ويحاربون، بدلاً عن استدراجهم إلى سدة الحكم في الخرطوم، قلب العروبة النابض. نجئ من بعد إلى المخططات والسيناريوهات الأمريكية، وهنا تصل المغالطة للنفس والتمركز في الذات أعلى درجاتها. الأحادية الأمريكية أصبحت اليوم حقيقية مسلمة لا ينكرها إلا جرئ على الحق. رضينا أم أبينا تلك هي الحقيقة، والسودان مثل بلاد الله الأخرى ليس بمنجاة من أن يكون لأمريكا، باستراتيجيتها الكونية لا العالمية فقط، يد في حل مشكله، بل إعادة تشكيله إن عجز أهله عن حزم أمرهم. فهو ليس أشد منعة من بريطانيا العظمى التي استنجدت بكلنتون لحل المشكل الايرلندي (اتفاقيات الجمعة الحزينة). وليس بأكثر حرصاً على ثوابته من منظمة التحرير الفلسطينية التي ارتضت لحل مشكلها المزمن الاستعانة بجورج بوش الأب وجيمس بيكر (مفاوضات مدريد) وبجورج تينيت مدير المخابرات المركزية وسيطاً لتنفيذ أجرات السلام والأمن، وهي تعلم علم اليقين أمر المساندة المكشوفة للإدارة الأمريكية لدولة إسرائيل. وليس حكامه أكثر ثورية من قيادات فيرليمو الماركسية (موزمبيق) التي لم تجد خيراً من دكتور تشستر كروكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي في عهد ريقان للتوسط بينها وبين معارضيها في وقت كان فيه للاتحاد السوفيتي سلطان. كما أن أغلب متصدري الأمور فيه لا يقلون حماقة عن صرب يغوسلافيا أو أهل البوسنة والهرسك. فلو أفلح هؤلاء في معالجة أزماتهم بأنفسهم في بلغراد وموستار، لما اضطروا صاغرين لقبول الحلول في دايتون، أوهايو. هذا هو الواقع البائس في عالم اليوم: ندينه، نشجبه، نمتعض منه، "نلعن دينه"، ولكنه يفرض نفسه علينا، كما فرضها على غيرنا. ولعل الكاتب يدرك هذه الحقيقة أكثر من غيره. فعندما أعلن الرئيس بوش أن العالم ينقسم إلى معسكرين : معنا أو ضدنا، اختار حكام الخرطوم أن يكونوا مع دول "المع" لا مع "دول الضد" كما يقول اخوتنا في الكويت. ألم نقل أن تزيد الكاتب لا يصدر إلا ممن لا يعيشون معنا في الكوكب الأرضي، ولا يأبهون للواقع الذي يحيط بهم. أمريكا لم تحشد قواتها، كما تفعل الآن في الخليج، لتفرض وضعاً على السودان. وأمريكا لم َتدعُ إلى الإطاحة بالنظام (كما كان يقول ويتمنى التجمع)، وإنما اعترفت به وبمكان التيار السياسي الذي يمثله في ظل نظام سياسي مفتوح يصل الحاكم فيه إلى دست الحكم عبر صندوق الانتخابات، وفي انتخابات حرة ذات شفافية تحت إشراف محايد. فأى شمال ذلك الذي يرفض هذا السيناريو؟ نلمس في حديث الكاتب تخليطاً قاد إليه الظن أن أهل الشمال جميعاً تواقون إلى الإبقاء على نهج الحكم القائم، وهيمنته المطلقة على الحيز العام. وللحكم المطلق منطقه الخاص، يكاد أهله يظنون أنهم والأمة سواء. لهذا لم يبالغ من قال أن الذي يريده الكاتب هو إنهاء الحرب في الجنوب حتى وإن كان الطريق إلى ذلك هو فصل ذلك الإقليم، لكيما يتمكن النظام تمكيناً مطلقاً أو شبه مطلق في الشمال. وإن صح هذا، نخال أن النظام، وقد خاب سعيه لإلباس السودان كله رداءً نظرياً حاكه على عينه، يريد الآن تفصيل السودان نفسه على مقاس ذلك الرداء. لن نغلق هذا الباب قبل تناول نقطتين اخرتين وردتا في المقال: الأولى تتعلق برئيسي دولتين جارتين، والثانية تتعلق بمصر. قال الكاتب أن الحرب اللعينة "عطلت مسيرتنا وجعلتنا محلاً للسخرية والتندر والاستخفاف حتى من الصغار مثل افورقي وموسيفيني اللذين ما كان ينبغي أن يتطاولا حتى على أضعف ولاياتنا". ولا ندري ما الذي يعينه تعبير "صغار" في وصف رجلين قادا ثورتين شعبيتين لتحرير بلديهما تكللتا بالنصر. نعرف جيداً أن للنظام مآخذه على إرتريا، ولكنا نعرف بنفس القدر أن إرتريا كانت هي وأثيوبيا أكثر الدول التصاقاً بالنظام، ودفاعاً عنه عند نشأته. وفي العلاقات بين الدول تصدق كثيراً الحكمة الذائعة : "أحبب صديقك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وابغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما". لسنا هنا لنلقي على الكاتب أو غيره درساً في الدبلوماسية، وإنما نقول أن تدخل الدولتين في الشأن السوداني جاء بطلب من النظام. فموسيفيني هو أول رئيس استنجدت به حكومة السودان للقاء قرنق (اللقاء مع علي الحاج في عنتبي)، كما هو أول رئيس أفلح في ترتيب لقاء بينه وبين البشير. واسياس هو أول رئيس جمع بين البشير والميرغني في عاصمة بلاده اسمرا. وكلاهما، (كعضوين في منظمة الإيقاد) لم يتوغل في أمر السودان إلا بعد طلب الرئيس السوداني في اجتماع قمة الإيقاد بأديس أبابا في سبتمبر 1993. فلماذا هذه الغلظة في التوصيف ؟ أما حول مصر فقد كان للكاتب رأي قادح حول موقفها من السودان، رغم قوله: "أنا من أكثر المؤيدين لوحدة شمال السودان مع مصر". كما ناشد أهل مصر "أن يعملوا على أن يختار أبناء الشمال الوحدة مع مصر بدلاً من العمل على أن يجتمع الشمال والجنوب في دولة واحدة". في مطاوي هذه العبارة رأيان، رأي يدعو مصر للعمل على وحدة شمال السودان معها، ورأي يحثها على دفع أهل الشمال للتخلي عن جنوب بلادهم. ولا يختلف الرأي الأول عما ذهب إليه قرنق صاحب الدعوة للوحدة من نمولي إلى الإسكندرية. ولا يتوقعن أحد أن ينكر ذلك الرأي، أو يستنكره رجل مثلنا صاغ مع إسماعيل فهمي واسامة الباز وإبراهيم منعم منصور مشروع التكامل بين البلدين، أول جهد ممنهج أكسب الوحدة بين البلدين بعداً وظيفياً، وخرج بها من التعبيرات الهلامية حول العلاقات الأزلية. كما أن أهل الشمال ليسوا في حاجة إلى تذكرة بأهمية مصر لهم وأهميتهم لمصر. فإن كان السودانيون ـ على المستوى السياسي ـ قد صوتوا للاستقلال في عام 1956، إلا أنهم ظلوا ـ خاصة في العقد الأخير من الزمان ـ يصوتون بأقدامهم للوحدة. مصر كانت هي الملاذ الأول لهم، بل ولأبناء الجنوب الذين ضاقت بهم بلادهم بما وسعت. ولعل الكاتب لا يعرف أن عدد الطلاب الجنوبيين في جمهورية مصر يفوق اليوم بكثير عدد الطلاب الشماليين فيها. أما الرأي الثاني (حث مصر على تشجيع الانفصال) فرأي غريب، حتى وان اتفق مع الأطروحة المركزية للكاتب. مصدر الغرابة فيه هو إغفاله لكل التطورات السياسية التي طرأت على الساحة السياسية في الثلاثين عاماً الأخيرة. في هذه الأعوام الثلاثين بادرت مصر بإنشاء مجموعة الاندوقو (باللغة السواحلية تعني الاخوه) التي تضم إلى جانب مصر والسودان عدداً من دول حوض النيل (ابتدع الفكرة الدكتور بطرس غالي)، وسعت للانضمام إلى منظمة الكومسيا لدول شرق وجنوب أفريقيا، وتعمل الآن لإنشاء مجموعة دول حوض النيل (Nile community). ففي عالم يتجه إلى الوحدات الكبرى، لا تعبر الدعوة إلى التشرذم إلا عن غيبوبة كاملة بما يدور في العالم، وعجبي ممن يؤثر العيناء على العوراء. الذي يعنينا في حديث الكاتب عن مصر بقدر أكبر، قوله أن القاهرة "لم تسهر يوماً أو تصاب بالحمى طوال الحرب المتطاولة والمدمرة التي ضربت السودان، وعطلت مسيرته، وقتلت خيرة بنيه، وإنما ظلت تفتح ذراعيها وقلبها لقرنق حتى الآن والى الغد". نقول لعله من مصلحة السودان أن تفعل مصر هذا لما بعد الغد. مرة أخرى نواجه الذاكرة المثقوبة، فمصر هي أول دولة تبنت النظام بصورة أفزعت معارضيه، ومنهم من هو ذو صلة واشجة معها. ذهب رئيسها إلى باريس للاحتفال بالذكرى المائتين للثورة الفرنسية وكانت رسالته للرئيس بوش الذي التقاه هناك أن نظام الخرطوم الجديد نظام وطني غير أيديولوجي، وهو جدير بالتأييد. تلك الإيماءة هي التي حالت دون إدانة الإدارة الأمريكية لنظام الخرطوم وفقاً للقانون الذي يطالبها بإدانة الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الديمقراطية المنتخبة شعبياً. اتصل الرئيس المصري أيضاً بالدول العربية ذات النفوذ والشأن لكيلا تستبق الأحداث، في وقت كانت كل الدلائل تشير فيه إلى أن نظام الحكم الجديد في السودان نظام ذو منحى أيديولوجي، وصاحب اجندة سياسية عابرة للدول والقارات. ما الذي جازى به النظام الرئيس مبارك؟ الخروق النافذة في الذاكرة المثقوبة لم تبق في الحافظة شيئاً مما حدث في أديس أبابا في يونيو 1995. لا نريد أن ننكأ الجراح، ولكن نقول أنه رغم تلك الكارثة الدهيماء رفضت مصر، وهي تلعق جراحها، إصدار مجلس الأمن لقرار يوقف طيران الخطوط الجوية السودانية، ويفرض عقوبات اقتصادية على السودان، ويحظر تصدير السلاح إليه. ما أظلم الإنسان. أما استقبال مصر لقرنق، وحرصها على التواصل معه فهو واحد من أهم نجاحات الدبلوماسية المصرية. ولعل الكاتب كان يريد منها أن تفعل ما فعله محمد نجيب وصلاح سالم عندما اقتصرا الحديث حول مستقبل السودان على الأحزاب الشمالية، بما في ذلك التقرير بشأن مستقبل الجنوب نفسه، والضمانات التي يجب أن توفر له لكيما يبقى السودان موحداً. ذلك خطأ دفع الشمال، كما دفعت مصر ثمنه. لا يرتابنا شك في أن الذي يغضب الكاتب في تواصل مصر مع قرنق هو أولاً اعتراف مصر به كرقم في المعادلة السودانية لا يستهين به إلا المغالطون، وثانياً تحييد مثل هذا الاعتراف للحملة التي يقودها النظام، كما قادها غيره من قبل، لإظهار الرجل كخصم مَريد للعرب والعروبة. مزايدات ماشاكوس دعاوي الكاتب في هذا المقام تؤكد كل المزاعم التي أفضينا بها في الفقرات السابقة. يقول الكاتب أن قرنق يريد "أن يحصل على حكم الجنوب بكامله مع المشاركة في حكم الشمال بنسبة 40% من مجلس الوزراء والأجهزة التشريعية والقضاء والمحكمة الدستورية والخدمة المدنية، خصوصـاً الوظـائف القـيادية والوسيطة والتمثيل الدبلوماسي... علاوة على ذلك أن تكون رئاسة الجمهورية دورية، أو في المقابل أن يمنح قرنق منصب نائب الرئيس بسلطات مماثلة لسلطة الرئيس". هذا خلط للأمور بلا حذق. أولاً : اتفاق ماشاكوس ليس اتفاقاً بين حليفين يستردف أحدهما الآخر، بل هو تراض بين خصمين متحاربين آثرا الجنوح للسلم ويسعيان لاستكشاف أرضيه مشتركة للتعاون فيما بينهما في فترة انتقالية محدودة تحكمها ضوابط معينة تحت إشراف دولي. فالحركة ليست حزباً متوالياً مثل تلك الأحزاب التي رضيت بما هو دون، منها ما انسلخ عن حزبه الأم، ومنها ما استنسخ منه كالنعجة دوللي. فلغة ماشاكوس هي لغـة اقتسام (sharing) السلطـة، وليست لغـة الاستيعاب (assimilation) أو المشاركـة (participation ) فيها. فان كان هناك من لا يدرك معاني الكلمات في السياسة فما عليه إلا أن يستنجد بالمعاجم، أو يسأل العارفين. وإن كان يعرف ويتجاهل فلا يلومن إلا نفسه. ثانياً: يتحدث بروتوكول ماشاكوس عن كيانات ثلاثة: كيان جنوبي، وكيان شمالي، وكيان اتحادي، ولكل واحد من الكيانيين الإقليميين الحق في إدارة نفسه بنفسه. فقرنق لا يستأثر بالجنوب ويريد أيضاً أن يحكم الشمال، وإنما يطالب بحق أهله في الكيان الاتحادي الذي ينتظم السودان شمالاً وجنوباً. أجدر الناس بادراك هذا المطلب هم الذين ألحفوا في الحديث في ماشاكوس عن ضرورة تأكيد وحدة السودان في الاتفاق. وعندما تتحدث الحركة عن المشاركة في المركز وتحدد نسباً لهذه المشاركة، لا تطلق الأحكام على عواهنها وإنما تخضعها لمعطيـات موضوعيـة مثـل عـدد السكـان، وضـرورة الانحيـاز القصـدى (affirmative action) للذين عانوا من ظلم تاريخي. ولعل أبلغ تعبير عن هذا الظلم ما أورده فيلب كوت جوب من أسئلة للكاتب (ألوان 23/1/2003) كم هم عدد الجنوبيين الذين أصبحوا وكلاء للوزارات أو مديرين للمؤسسات أو الهيئات الاتحادية في هذا العهد السعيد، وما سبقته من عهود. لو توفرت حسن النية لما لجأ البعض للسخرية من ذلك المطلب الموضوعي، بل ذهبوا للتدقيق في صحة المعايير التي ابتنى عليها الآخر مطالبه. ثالثاً: عند ما يستنكر الكاتب على الحركة مطالبتها بهذه النسب ويرى في ذلك إجحافاً بحق الشمال يغيب عن ذاكرته أمر هام: كم هم عدد الشماليين من غير أنصار الجبهة في مواقع وكلاء الوزارات، ورؤساء الهيئات العامة، ودور القضاء العالي، بل كم هي نسبة الجبهويين بالقياس إلى غير الجبهويين في المراقي العليا والوسيطة في هذه الأجهزة ؟ وهل تتفق تلك النسبة مع الحجم الحقيقي للجبهة في شمال السودان؟ الكاتب، بدعواه هذه، يفتح أمام وجهه عشاً للدبابير. رابعاً: الحديث عن ضرورة الإجماع في مؤسسة الرئاسة لا يمكن أن يكون المراد منه الانتقاص من الرئيس الحالي، وإلا فلتوقفت الحركة عند طرحها الأول حول تناوب مسئولية الرئاسة، ولما قبلت أن يكون هناك رئيس ونائب أول له تختاره الحركة. في هذه الحالة يصبح الإجماع ضرورياً فى القضايا الأساسية، خاصة تلك التي تمس نص الاتفاق وروحه، إن خلصت النوايا. هذه الضمانة لن يرفضها إلا من احتسب الحركة نعجة مستنسخة تضاف إلى نعاج أخرى. عبر عن هؤلاء في مفاوضات ماشاكوس من قال عن هذا الموقف التنازلي للحركة ليس هناك تمييز بين نواب الرئيس فجميع نواب الرئيس متساوون. وعندما سئل عمن هو الذي يحل محل الرئيس، إذن، أن لحق به مكروه يعطله عن العمل، أجاب: "رئيس البرلمان". هل يمكن أن يكون قائل هذا جاداً في البحث عن سلام شجعان؟ وكأن صاحب الرد كان يقرأ نصاً من الدستور الفرنسي لا الدستور الذي تحكم به بلاده، والذي تقضي المادة 42 منه بتولي النائب الأول رئاسة الدولة في حالة تغيب الرئيس جزئياً أو كلياً. هذا ما نعنيه بعدم توفر حسن النية، خاصة وبروتوكول ماشاكوس ينص على أن المواطنة وحدها، لا الدين أو العرق، هي معيار الاختيار للوظائف العامة بما في ذلك وظيفة الرئيس. ذلك موقف يعود بناء إلى 1968 عندما سأل الأب فيليب عباس غبوش الدكتور الترابي: "هل يجيز الدستور الإسلامى لغير المسلم أن يكون رئيساً؟ فرد الشيخ، بعد تلكؤ وبعد أن أصر غبوش على الإجابة بلا أو نعم: "لا يجيز". (محضر الجمعية التاسيسية، عام 1968 ص 16. فرغم المادة من 21 دستور 1995، ورغم النص على المواطنة في بروتوكول ماشاكوس مازالت عقول البعض مشدودة إلى عام 1968، بل إلى 15 ديسمبر 1955 حين ظن آباء الاستقلال أن العهود ما وضعت إلا لتخرق. ولا ريب في أن الذين يستذكرون هذا التاريخ، لن يستكينوا للغة: "وسننظر بعين الاعتبار إلى مطلب "اخواننا" الجنوبيين". الذين لم يبرحوا (مفهومياً ووجدانياً) عامي 1955 و 1968 لا يدعون مجالاً لغير الظن أنهم يحسبون أهل السودان صنفين: صنف ولد وعلى ظهره سرج، وصنف وضع الله على قدميه همازاً يحرك به الآخر متى امتطى صهوته. وإمعاناً في الجهل بطيبعة المفاوضات الدائرة، أو تجاهل روحها ونصوصها، ذهب الكاتب واضراب له للمقاربة بين مؤسسة الرئاسة في أمريكا وتلك التي تتحدث عنها ماشاكوس. أمريكا يحكمها دستور ارتضاه أهلها في حين مازال طرفا النزاع في ماشاكوس يتحاورون حول الدستور الذي يحتكمون إليه. أقرب إلى واقع حالنا الاتفاقيات التي أنهت الصراع في دولة البوسنة والهرسك والتي تقضي أن تكون قرارات المجلس الرئاسي لجمهوريتي البوسنة والهرسك وإقليم اسبرسكا بالإجماع. وإن كان السودان قد توحد في عام 1821 على يد التركي محمد علي، فقد توحد البوسنة والهرسك على يد أجداد محمد علي في عام 1462، وكان ذلك الإقليم خلال القرنين السابع والثامن عشر هو الحصن المنيع لحماية الدولة الإسلامية من الهابسبرج (النمسا). خامساً: من المكابرة والمغالطة بمكان القول أن قرنق "فوق كل ذلك" يريد أن تحكم العاصمة القومية بالقوانين العلمانية. فأن كانت الخرطوم تقع في الشمال، إلا أنها هي أيضاً عاصمة السودان الموحد الذي سيحكمه دستور محايد في أمر الأديان. لهذا السبب ليس في الدعوة إلى عدم إخضاعها للقوانين الدينية تزيد، وإنما هي نتيجة منطقية للاعتراف بحياد الدستور الاتحادي في قضية الأديان، هذا إن كانت بغيتنا حقاً هي الاتحاد. كما أن الزج بتعبير "علمانية" فيه تخليط لا معنى له، فالقاهرة رغم مآذنها التي تنيف على الألف، وعمان التي يحكمها ملك ينسب إلى رسول الله، والرباط التي يجلس على سدة العرش فيها ملك يلقب بأمير المؤمنين، لا تحكمها قوانين دينية، كما ليست هي عواصم علمانية. المغالطة الأكبر هي أن هذه العاصمة حتى سبتمبر 1983 لم تكن تخضع لمثل هذه القوانين، وهكذا ظلت إلى سبتمبر 1983، وما أدراك ما سبتمبر. وحتى في عام 1978 عند ما قام الدكتور الترابي بمراجعة القوانين السودانية لكيما تتوافق مع الشريعة، كان الشيخ حكيماً عندما استثنى من تحريم الشرب غير المسلمين والبعثات الأجنبية، وأوصى بالتدرج في تحريمه في أقاليم الشمال الأخرى. من حق الكاتب، بلا شك، أن يتمنى بقاء هذه القوانين، ولكن ليس من حقه القول أنه يعبر بهذا عن رأي أهل الشمال الذين كان لهم رأي آخر في هذه القوانين، وفي كل العهود التي كان يدير أمرهم فيها حكام اختاروهم بطوع إرادتهم. أمر مؤسف أن تختصر "الشريعة" كلها في تحريم الشرب، ولكن يتبدى لنا أن هذا هو الرمز الوحيد الذي بقى من الثوابت، وسُيعرى نزعه أهل الثوابت تعرية كاملة. هذه ليست هي مشكلة أهل الشمال، أو أهل الجنوب. من المؤسف أيضاً أن لا يدرك أهل الثوابت أن السلام وحقن الدماء غاية أسمى من كل الرموز. ففي السيرة تخلى الرسول صلي الله عليه وسلم عن صفته الرسولية ليحقن الدماء في صلح الحديبية. أملى الرسول على علي ابن أبي طالب أن يكتب في خطاب الصلح مع مشركي قريش "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى سهيل بن عمر"، فأعترض سهيل قائلاً: "اكتب باسمك اللهم، ثم اذكر اسمك واسم أبيك، فلو كنا نعلم انك رسول الله لما حاربناك". ولما استل علي سيفه ليُلجِم به سهيل، قال له الرسول "امحها يا علي". قال علي "والله لامحوتها أبداً". قال النبي: "أرني مكانها"، ثم كتب "باسمك اللهم، من محمد بـن عبد الله إلـى سهيل بن عمر". فأين هو نزع الرسول عن نفسه قميصاً ألبسه الله في سبيل حقن الدماء، من الترخص في تطبيق قوانين صاغها البشر، حتى وان ردوها إلى الله تعالي. في ذلك العهد صالح النبي مشركي قريش على وضع الحـرب عن الناس عشـر سنـوات لا تكـون فيها بين الناس عيبة مكفوفـة (عداوة وبغضاء) ولا إغلال (خيانة). وأباح فيه لمن أحب أن يدخل في عهد رسول الله دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش دخل فيه. هذه القوانين، على أية حال، ليست ليس صوارم. فالفقهاء الذين فزع لهم من فزع لتحليل الربا لتمويل خزان مروي اعتماداً على القاعدة التي تقول: "الضرورات تبيح المحظورات"، قادرون على أن يجدوا لهم ولنا مخرج صدق من الورطة التي أوقعوا فيها السودان. فوقف الحرب أشد ضرورة من بناء السدود، إذ ما قيمة السدود التي تقام على بحار تجري فيها الدماء. أطروحات الكاتب، وما أثارته من ردود فعل أمر صحي، ومن مصلحة السودان أن يشتعل النقاش حولها، طالما التزم الجدل الموضوعية، واستند على الحقائق، ونأى عن الغوغائية. النقاش الدائر يعني، أيضاً، أننا أمام أزمتين خانقتين. الأزمة الأولى هي أزمة كل شمالي لم يدرك بعد أن الذي يجمع بين أهل هذا الوطن الشاسع هو المواطنة، لا العرق، ولا الدين، ولا النسب. والاعتراف بالمواطنة لا يتم بإيراد نص في الدستور يثبتها، هي مع النص سياسة وتدبير وسلوك. المواطنة فكرة تنطلق من قاعدة معرفية ثابته، وتحكمها قواعد راسخة، وتتداعى منها نتائج. وكما عبر عنها أرسطو في السياسة، هي أداة للتمييز بين الرعايا في دولة الحاكم المستبد، والمواطنين في الدولة التي يعامل أهلها كبشر لهم حقوق وعليهم واجبات، تماماً كما على الحاكم واجبات وله حقوق. وان كان النظام الحاكم قد انتهى، بآخره، إلى تبني فكرة المواطنة (دستور 1995) فهذا أمر يحمد له. وإن أكدها في بروتوكول ماشاكوس فهذا أمر حسن. سيحمد له أيضاً ويستحسن الوعي بتبعات تبني فكرة المواطنة في السياسات والبرامج. هذه التبعات تعنى أن على الذين استأثروا بكل شيء في الماضي، أن يتنازلوا عن أشياء في الحاضر. ومالم ندرك في الشمال أن هذه التبعات هي فاتورة حان أوان سدادها، سنظل نسرى في نفق بلا نهاية، ونسبح في بركة بلا ماء. الأزمة الثانية هي أزمة النظام، أو بالحرى أزمة بعض أهله الذين اشتدت شهوتهم للسلطان، فعقدوا العزم على أن يحققوا عبر التفاوض مالم يمكن تحقيقه بالحرب. هذا محال، وروم المحال كمضغ الماء. بين المستنكرين لماشاكوس أيضاً من لا يرى في سلامها إلا رضى بالدنية في دينهم. الخيار أمام هؤلاء هو إستمرار الحرب التي قد تفضى إلى انتحار سياسي، أو التعجيل بالانفصال وهو انتحار معنوي. أو ليس بين القوم من يستذكر وصاة الرسول لمعاذ: "هل إلى خير من هذا السبيل". الإنقاذ اليوم في حاجة إلى إنقاذ، وطوق النجاة الوحيد أمامها هو ماشاكوس، وما الدعوة لفصل الجنوب إلا محاولة لتأجيل يوم الحساب. منصور خالد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: من الطيب مصطفى إلى منصور خالد إلى أحمد سليمان (للتوثيق) والشكر لبكرى أب (Re: WadalBalad)
|
(16) من وراء البحار الأستاذ أحمد سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم من وراء البحار بقلم أحمد سليمان المحامي كلانا على هذا الجفاء ملوم استل الفرسان أقلامهم كالسيوف من أغمادها يتقاتلون ويتجاذبون القراء على صفحات الصحف و الانترنيت ويلعبون بهم لعب الصوالج بالأكر... والسودان مغلوب على أمره وحائر تتنازعه الأطماع ويسعى إلى تقطيع أوصاله وتقصي أرضه من أطرافها وتشليع وحدته الدوائر ...وطائفة من أبنائه تسلب أهل الجنوب أفضالهم بلا استثناء وتنكر عليهم أية محمدة تدمرها تضحية وفداء، وتحملهم سوءات الحكم الاستعماري والكنيسة ومكرهما، وان كان مكرهم لتزول منه الجبال ، ولا تجد حرجا" ولا تأثيما" في الدعوة إلى فهم غرض الوحدة وقطع ما أمر الله به أن يوصل ... وقوم آخرون يحملون أهل الشمال نكوص بعض المتعلمين من قادته وتنكرهم لما التزموا به من الاعتراف للجنوب بالفيدريشن وهو صورة من صور الاتحاد في درجاته الدنيا ، وبالقطع أقل مما يطلبه المطالبون بحق تقرير المصير الذي لا خلاف بأنه يعني ضمن ما يعني أختيار الانفصال التام إذا ما شاء المستغرقين على أمرهم أن يقرروه وهو أمر لم تعد به أحزاب الشمال ولا طالب به أبناء الجنوب عند إعلان استقلال البلاد. المدافعون اليوم عن الجنوبيون صوروهم بصورة المقرنين بالأصفاد وبصورة الشقي التعيس الذي لا يملك من أمره حولا" ولا قوة، وتناسوا دورة الكنيسة وأجهزة الإدارة البريطانية وأطماع القوى الاستعمارية في وضعهم في تلك الصورة وتحميل الشمال مغبة ما صارت إليه أحوال الجنوبيين ومعرة الذل والسغبة التي زينت لهم مظاهر الحياة البدائية ومنها التجول حفاة عراة عزلا" في أرض لو أذن الله لانبتت بشرا" في احسن صورة وأطيب زينة . من هذه الأقلام التي أثقلت ظهر الشمال وحملت متعلميه وزر سوء حال الجنوب قلم الدكتور منصور خالد الذي حباه الله بسحر البيان وبقوة ""و بطق الحنك "" وهو تعبير أثاره قلم منصور أعاد إلى ذكرياتنا ما كان يدور في مجالس الدرس لآبائنا مع مشايخهم أبناء الصالحين من أولاد عبد الماجد والشيخ الدباغ وشيخ خليل في الآونة الأخيرة رحمهم الله جميعا" ، وهم جدود الدكتور منصور .. كانوا يترأسون حلقات الذكر في مسجد أبناء عبد الماجد بأبي روف ، حيث كانوا يدرسون المختصر من خليل اسحق ويشرحون ما غمض من شروح ومتن لأمهات كتب الفقه والحديث والسيرة النبوية الشريفة ليواصل آباؤنا "" طق الحنك "" والمناقشة والجدل إلى ما قبل حلول وقت العشاء والانصراف إلى دورهم بعد ما تذودوا به من علم على أيدي أساتذتهم أبناء العمراب الصالحين حضرة "" حامد أب عصاية "" رضي الله عنهم جميعا". قصد الدكتور وتناسى عامدا" دور الاستعمار وأياديه وأعوانه من المفتشين الإنجليز الذين أبتلى بهم الجنوب وبعض مناطق جبال النوبة والغرب أمثال ديوك وبوستيد ومفتش كتم الذي هز عرشه المرحوم أحمد يوسف هاشم بمقالاته الجريئة الغاضبة في صحيفة السودان الجديد تحت عنوان "حكومة المفتشين"". تناسى الدكتور منصور خالد النداء الذي وجهه النائب البريطاني ج.م روبرسون في عام 1907 من منصة مجلس العموم لرئاسة بلاده في هوايتهول وهو بالطبع غير مستر روبرتسون السكرتير الإداري المشهور والذي أحيل للتقاعد في العشرة الأخيرة من سني الحكم الثنائي والذي عين بعد ذلك حاكما" عاما" لنيجيريا ذلك النداء الذي التمس بموجبه النائب البريطاني من حكومته التدخل لوقف تشجيعها للارسالات التبشيرية في جنوب السودان حتى لا ينقسم السودان على نفسه ويدخل جنوبه وشماله في صراع دموي لا يعلم مداه إلا الله، صراع لا يبقي ولا يذر. ولكن حكومة السودان غضت النظر واستمرت في السياسة التي تبلورت فيما بعد باسم "السياسة الجنوبية" وكانت ملامح تلك السياسة التي ترمي إلى الحيلولة دون تأثير شمال السودان على جنوبه مبادرة جعل يوم الأحد العطلة الأسبوعية بديلا" من الجمعة. وكان الحاكم العام سير ريجلند ونجت، وهو منبع الفكرة قد كتب مجندا" الفكرة في عام 1910 إلى مستر أوين مدير الاستوائية ولكن هذا تحفظ مشيرا" إلى المتاعب الذي يثيرها القرار وسط أفراد الجيش واللائمة والدعاة المسلمين المرافقين للوحدات العسكرية، فتراجع ونجت باشا ولكنه نصح بأن (نجرب الإجازة يوم الأحد في لوكا و كاجوكاجي حيث يعمل المبشرون المسيحيون بنجاح ، ولكن لا أوصي بتجربته في الرجاف أو أي مكان قريب من مركز منقلا حيث يوجد المسلمون المتعصبون)... وبعدها بقليل اقترح تشكيل فرقة عسكرية من الجنوبيين وكان أمر تعميم دراسة اللغة الإنجليزية ، والمفارقة أن الإرسالية كانت ترى بادئ الرأي أن يكون التعليم بمدارسهم باللغة العربية لضمان إقبال الجنوبيين لمدارسهم حيث أن تعليم اللغة العربية يفسح المجال للالتحاق بالوظائف الحكومية ولكن ونجت باشا حال دون رغبة المبشرين وفرض تعليم الإنجليزية، وفي عام 1905 كانت محاولة أعالي النيل لاحلال رطانة الشلك محل اللغة العربية وكان اللورد كرومر المعتمد البريطاني في القاهرة والذي كان يشرف على إدارة الحكم الثنائي طلب إرجاء الأمر إلى حين ، وكتب إلى ونجت يقول (عليك أن تختار بين اللغة العربية والقران من جهة وبين الإنجليزية والإنجيل من جهة أخرى إذا قام المبشرون الإنجليز بتحمل تبعاتهم في هذا الشان فسيحلون المشكلة.) وخلاصة القول فان السياسة الجنوبية كانت تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وكانت ذات ثلاث شعب.الأولى إلغاء الوجود العربي والإسلامي وذاك بمنع وتقييد دخول الشماليين إلى الجنوب تحت ستار أن تسلل "الجلابة" إلى الجنوب يذكر الجنوبيين بفظائع الدراويش والنخاسين العرب.... وتم للإنجليز ما أرادوا وكتب مدير منقلا في عام 1908 إلى الخرطوم ( أنه أبعد كافة المتعصبين من الجنود والتجار أمل منكم ألا تعملوا على إعادتهم.) وسرعان ما أنشئت فرقة من الجنوبيين بقيادة ضابط إنجليزي حلت محل القوات الشمالية في الجنوب لأن وجود هؤلاء الشماليين يشكل (عقبة في تنفيذ سياسات الجنوب) وأضاف(إذا لم نتخذ الخطوات اللازمة لزيادة عدد كبير من المستخدمين يمكن ربطهم بيوغنده ويكونوا في نفس الوقت حاجزا" يمنع انتشار الإسلام في الجنوب الذي يمكن أن ينتشر في أي وقت بموجات المتعصبين.).... ولم يكن هدف القوات الاستوائية قاصرا" على تكليفها بحفظ الأمن في الجنوب فقط و إنما أراد به ونجت أن تكون نواة لقوات يدرأ بها خطر ثورة عربية إسلامية في أفريقيا والسودان. وكان الرجل الذي عمل فترة طويلة كمدير للمخابرات العسكرية في الجيش المصري قبل أن يتبوأ مقعد الحاكم العام للسودان يدرك عمق العقيدة الإسلامية لدى السودانيين والتي تسببت في اندلاع ثورات محلية في السنوات الأولى للاحتلال وكان يشك في ولاء القوت السودانية خاصة عند تكليفها بقمع هبات إخوانهم في الدين ، وقد عرف ونجت بتعصبه الديني وكان يشير دائما" للاستقبال الطيب الذي لاقته المسيحية في يوغنده. ولم يمض شهر واحد على مغادرة آخر جندي شمالي لمديرية منقلا حتى صدر الأمر باعتبار الأحد عطلة رسمية في أنحاء الجنوب كافة ، وكان ذلك في الثالث من يناير 1918. والثانية نشر ثقافة مختلفة عن ثقافة الشمال وذلك بنشر التعليم بالإنجليزية وحتى باللهجات المحلية وليس باللغة العربية. الثالثة نشر دين يختلف عن الإسلام وهو ما قامت به الإرساليات التبشيرية في الجنوب والتي هيأ لها فرصة العمل في الجنوب ولأقصى مدى للقيام بنشر المسيحية على الصورة التي يقبلها الجنوبيون كتعدد الزوجات.... وسيبقى السودان شامخا" يرنو ببصره للإسلام ومنتميا" إليه رغم كيد الاستعمار ومكره وحيله... إن شاء الله. وظلت حكومة الخرطوم البريطانية تيسر مهام التبشير في الجنوب وبعض مناطق جبال النوبة وتقمع بمقامع الجديد كل الهبات التي تلمس منها جنوحا" للدين مثل هبة الفكي علي وود حبوبة "و نبي النوير" و أحداث 1924. ولم يشأ الدكتور الحصيف إلى أن يشير إلى أي منها... وبهذه المناسبة فقد سألني الكثيرون عن إشارة الدكتور السريعة المقتضبة لسير ستافورد كريبس ، والرد يقودني بدوري إلى الإشارة السريعة إلى مشاريع الإنجليز الأخيرة إلى ما أسموه بالتطورات الدستورية في السودان فقد ذكر مستر نيوبولد يمبثر الإداري الشهير لحكومة السودان انه استقبل سير ستافورد كريبس الذي شغل منصب الرجل الثاني في الوزراء البريطاني بلندن حيث كان يشغل منصب وزير المال Counsellor of Exchequer ويسكن في المنزل رقم 11 بداونج ستريت أي في المنزل الذي يلي مقر رئيس الوزراء في 10 داونج ستريت وقد كان الرجل قد كلف بالذهاب للهند لدراسة أحوال الهند السياسية والتقديم بتوصية حول مستقبل الهند التي كانت تعتبر درة الإمبراطورية التي نال دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا الأسبق الحظوة لدى الملكة فكتوريا لأنه اقتراح إضافة لقب إمبراطورية الهند إلى لقبها كملكة لبريطانيا ، وكان هذا أثيرا لديها عن قلادستون رئيس وزراء بريطانيا عدو دذرائيلي التقليدي. وقبل سير ستفاورد دعوة مستر نيوبولد وقضى ليلة بالقراند اوتيل بالخرطوم حيث تم إعداد تقرير عن نجاح مهمته في الهند وسماه Success Of A Mission وفي لقائهما في أمسية القراند شكى نيوبولد الى الوزير البريطاني المشاكل التي تثيرها الحركة الوطنية في السودان ومتاعب المثقفين فأوصى عليه الوزير بتقريب المتعلمين منه وتقديم مشاريع التطور الدستوري ... ومن هنا كان فكر نيوبولد حول المجلس الاستشاري لشمال السودان ، وكان هذا أول تكريس رسمي له لمحاولة فصل الجنوب ، وقد رفضته مصر وحكومتها برئاسة مصطفى النحاس باشا لوصفها شريكه في حكم السودان وقد حاول الإنجليز فرضه رغم معارضة مصر وقد حضر حفل افتتاحه السيدان الميرغني والمهدي وقاومه الأشقاء وقاطعوه وكان هؤلاء يمثلون قطب الرحى في معارضة الإنجليز.... وبهذه المناسبة أذكر أنني كتبت انعي على زعيم الختمية اشتراكه في حفل افتتاحه وتصدى لي الصديق المرحوم الأستاذ محمد أحمد حيمور المحامي. ونعى علي بدوره اتهام السيد علي الميرغني بحضوره وما كان مني إلا أن أحلته إلى صحيفة السودان الجديد التي نشرت مقالا" عن حفل الاستقلال وصدرته بصورة الحاكم العام يجلس وعن يمينيه السيد علي الميرغني وعن يساره السيد عبد الرحمن المهدي فلزم الأستاذ الصمت أمام البينة القاطعة التي لا تقبل الدليل العلني كما يقول فقهاء الإثبات ... رحمهم الله جميعا". وأذكر أن الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد في كنابه القيم "السودان المأزق السياسي" أشار إلى حديث منسوب إلى المرحوم السيد علي بأنه كان يرى أن مبادرة المجلس الاستشاري كانت خطوة متسرعة ومتقدمة وأن المصريين الذين عارضوه كانوا من "سلالة منحطة" وأنهم كانوا يعارضون كل ما من شأنه تطوير السودان. وقد جاء مثل ذلك في خطاب بعث به مستر نيوبولد إلى صديق له يعمل ضابطا" بريطانيا" يعمل بليبيا أثناء الحرب العالمية الثانية ، وقد لامني الأخ الصديق الأستاذ الرضي علي المساس بمقام السيد علي وقلت لا أقصد ولا ينبغي لي إلحاق الأذى بالسيد الكريم و إنما هو التاريخ يعلو ... ثم حاول الإنجليز مشروع الجمعية التأسيسية التي ولدت مؤودة كطفل الجاهلية الأولى في مهدها رغم أنهم سمحوا للجنوبيين الاشتراك فيها فاشترك طائفة من الجنوبيين الذين لم يكن بينهم ثمة ما يفرق بينهم وبين أحباء الدكتور من زعامات حزب الأمة وأصدقائه زعماء الجبهة الاستقلالية ، وكان أزهري اشتهر بقولته المعهودة (سنقاطعها ولو جاءت مبرأة من كل عيب). وقد سبق لي أن قلت أن مشكلة المعارضة التي كانت تحتكر لنفسها صنعة الأفريقية طيلة العهد الحزبي البائد في أحقابه التاريخية السابقة أنها تفقد الأصالة والإرادة معا" فهي لا تتفاعل مع أحداث أفريقيا ومآسيها وتقصر حديثها وتجاوبها على ما يتصل بجنوب البلاد وحده فكأنما هي معارضة مؤسسية نيابية محلية أو إقليمية لا تعرف هما إقليميا" أو قطريا ولا تشرك قارتها أحزانها ولا تشكو بثها. وقلت أن هذه ليست ظاهرة جديدة انفرد بها اخوتنا أبناء الكنيسة الذين تربوا في حجرها قديما" والذين ما زالت أمة منهم ترضع من ثدييها رغم اشتعال الرأس منهم شيبا" ورغم بلوغ بعضهم من العمر عتيا". ولم نسمع من الخلف ولا السلف تصريحا"أو نسجل موقفا"طيلة عهود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات وما بعدها ما يؤيد نضال أفريقيا السوداء ويحي كفاح أبنائها الميامين في موزمبيق والكاب وروديسيا والكنغو وانجولا وحتى نامبيا التي لم يكن يخلو أي بيان أفريقي سياسي أو ديبلوماسي من الإشارة إليها والتضامن مع نضال أهلها قبل أن يمن عليها بنعمة الاستقلال وحتى بينما كانت أفريقيا تموج حركة وتتسامى نضالا" وتجتاز أزمات الطلق وتعبر آلام المخاض، وتتعالى على الغرب وتنفض غبار السنين ويخرج رحمها سابغة مثل نيكروما و سكيونوري ولوممبا وموجابي وموديبو كيتا وجومو كينيانا ونيلسون مانديلا. كان الأقزام في جنوب بلادنا يغطون في نوم عميق لا تقطعه الا فترات التسبيح بحمد الكنيسة والتقرب زلفى من حكام بريطانيا العظمى والهجوم الضاري بالكلمة والمقولة الخبيثة وبالسلاح على الشمال وتحميلنا وزر تخلف الجنوب من ملكال الى كبويتا إلى نملي ... رغم إننا كلنا في الهم شرق " أو كما كنا". واذكر أنني أشرت قبل اكثر من عقد من الزمان إلى ذكرى مأساة سوتيو وقلت إنها لم تحرك ساكنا" في المفترين الذين يتسربلون بجلباب النضال الأفريقي رداء" وسترا" ، ورحم الله الرفيق جوزيف قرنق الذي كان نسيج وحده بين زعماء ذلك الزمان من الجنوبيين ولقد مر زعماء الجنوب على خبر المأساة مر الكرام صما" وعميانا"وكانوا مهووسين بحملتهم الظالمة ضد الشريعة ودعاتها من اهل القران وقلت انهم حتى في حملتهم الجائره هذه ضد القران واهله يفقدون الاصاله حيث يكررون كالببغاواتعقولها في اذانها اتهامات الرفاق و اعداء الاسلام في اوروبا و يرددون حججهم الداحضه ولا يرون في تطبيق شرع الله الا بتر يد السارق متناسين انه الى وقت قريب كانت هناك المقصله(الجلوتين) التي حزت رقاب الالاف من الابرياء في عهد الثوره الفرنسيه ليس في فرنسا وحدها بل في مستعمراتها في افريقيا السودا غربها و شمالها لعلهم تناسو او اغمضو العينين عن معرفه انه لاكتمال اركان الجريمه التي تسوغ قطع اليد شروط عديده يجب توافرها قبل تنفيذ الجزاء و حكم القضاء وحتى اذا ما تحققت كلها فهناك مبدا الاستتابه. و كما اشارت طائفه من اهل الانجيل و بحق فان الاسلام يتميز بالمرونه التي تسمح بالاجتهاد وفق شروط بعينها وذلك ليس من باب التحايل الفقهي ولا القانوني ولكن ليتيسر التعايش مع المعاصره المتغيره..... ومن قبل عطل الخليفه الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذ احكام الجزاء الجنائي بسبب الحرب و بسبب المجاعه عام الرماده وظل ابناء الكنيسه يرددون ولعلهم الان فريه الرق و يثيرون الضجه حولها كشبهه انفرد بها المسلمون متناسين الرق في الاسلام كان كغيره ابان الجاهليه و غيره من دول فارس واليونان و بيزنطه و الامبراطوريه الرومانيه وهو في صدر الاسلام و بعده لم يكن الا استغلالا منزليا لامكانات الاسرى وطاقاتهم حتى سماه بعض المستشرقين بالرق المنزلي تمييزا عن ذلك الذي كان سائدا قبل الرساله المحمديه و يمكن ان نشير في هذا الصدد الى واقعه اسناد قياده المسلمين الى اسامه بن زيد بن حارثه ووالدته ام ايمن بركه الحبشيه وكلمه حبشيه هنا يجب ان نقراها السودانيه حيث كانت تعني اللون الاسود مثل اسم سيدنا بلال والذي لا نشك في سودانيته و عطاء بن رباح و غيرهما مثل زيد بن حبيب وكان ضمن الجند الذين تراسهم سيدنا اسامه بن زيد سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان وكان الذي اسند اليه القيادة سيدنا ابوبكر الصديق الخليفة الراشد. والى واقعة اخرى هي مقولة سيدنا ابن الخطاب عندما حضرته الوفاة "لو كان سالم مولى حذيفة حاضرا لوليته" واعتقد انه كان من ضمن من يطلق عليهم وصف الاحباش من المسلمين هم من شرق السودان من البجة واهل دنقلا واعتقد ان خير من يمكن ان يعيننا على ذلك هو الدكتور العبقري ابن السودان البار الدكتور جعفر ميرغني حيث كان عبور البحر الاحمر متيسرا لضيق المسافة بين شاطئيه بالقرب من ينبع وسواكن وحيث كانت ثقافة البحر الاحمر في ازدهارها خاصة مقارنة بين ثقافة البحر المتوسط كما يقول علامة السودان فقد اشار الى دور الهدندوة والبجة في حوض الاحمر وفي المحيط الهندي حيث كان لهم فضل السبق في تطهير مياهه من القراصنة وحيث اشتهروا بالشجاعة وقوة الباس حتى كان منهم من تعاقد مع بعض الاسر المالكة الصينية لحمايتهم ولا اريد ان اغلو واقول ان العرب ربما نزحوا من ارض وادي النيل وكذلك لغة العرب. وثمة حقيقة يجب الا تغيب على امثالنا من السود ، ان الاوروبيين والامريكيين كانوا يصطادون اهلنا في غرب افريقية وشرقها ووسطها والذين قضى منهم تقريبا في الفترة ما بين اكتشاف امريكا في نهاية القرن الخامس عشر ونهاية القرن السابع عشر ما يقرب من المائة مليون افريقي قتلا وحرقا واغراقا ويشير المؤرخون الى ذلك العدد من ضحايا حملة الاسترقاق لو كانت الحياة كتبت لهم لبلغ تعداد افريقيا اليوم اكثر من الف مليون زنجي، الامر الذي كان يجعل من قارتنا افريقيا ثاني اكبر القارات عددا سكانيا علما بان العدد السكاني لانجلترا عند بداية دخولها معترك الاسترقاق لشعوب افريقية كان يقل عن الثلاثة ملايين نسمة وعدد سكان اسبانيا كبرى دول اوروبا حينذاك كان لايزيد عن العشرة ملايين الا قليلا. ولا نريد ان نسترسل فالكلام عن الاسلام وموقفه من الرق مقارنا مع ما كان عليه الحال قبل وبعد الرسالة المحمدية يطول ومن يرغب في المزيد المفيد الاطلاع على كتاب "شبهات حول الاسلام" للعالم الاسلامي محمد قطب شقيق المغفور له الامام سيد قطب وهو مؤلف من قبل نصف قرن تقريبا ومن يريد الاطلاع على تاريخ اوروبا الاسود في عمليات استرقاق الشعوب الافريقية فليرجع الى كتاب "Scramble for Africa " لمؤلفه "Thomas Pakenham" ليتبين مآسي الاوروبيين في القارة الشهيدة ونهمس في آذان الرفاق ان المادية التاريخية تقرر ان مجتمع الرق مرحلة حتمية تاريخية تتوسط المجتمع الشيوعي البدائي ومجتمع الاقطاع والذي يطلق عليه كبراؤهم الذين علموهم السحر لفظ المجتمع العبودي .... فلماذا اذن يرفض البعض الفرية ويلصقونها بالاسلام الذي حارب الرق فكرا وممارسة. والغريب في الامر انه بقدر ما احسن المسلمون معاملة الكتابيين من يهود ونصارى والذين يتعلق بهم اصدقاء الدكتور والرفاق بقدرما اساؤا الى سمعة المسلمين، ويجدر بنا ان نشير في هذا المقام الى عائلة امام الشيوعيين في مصر والسودان كورييل فهو ينتمي الى عائلة يهودية فرت من اسبانيا ايام عهد محاكم التفتيش ولم تر لها مستقرا وامنا لها غير مصر ايام الدولة العثمانية وكهليل شوارتز الذي كان اسمه الحركي الشيوعي على ايام عهد دراستنا بمصر اسم الزميل "شندي" والذي لا اشك في انه "جند" بعض زعماء التمرد الذين يوادهم الدكتور. يعلم بعضهم الدكتور منصور، فقد كان الرجل يعمل مديرا لفرع عمليات شركة الحفر بالشركة الفرنسية التي رسى عليها عطاء حفر قناة جونقلي والتي تقع قريبا من بور موطن العقيد الدكتور قرنق ولا نريد ان نذهب بعيدا ونتكلم على ما اصاب المساجد والمصاحف من هوان على ايدي تلامذة التبشير في قيسان والكرمك، ولا نجد سببا لهذا العداء المستحكم من مواطنينا اهل الانجيل فنحن على اقل تقدير ابناء خؤولة ولا مسوغ لهذا التحرش والاستهانة بكل ما هو عربي "والمسيحية نفسها نشأت وترعرعت في المنطقة العربية ولم تكن امريكا ولا اوروبا مهدها والمسيح عليه السلام خرج من صلبنا ومن ارضنا، كما خرج موسى وابراهيم. والمسيحية عربية اغتصبها الغرب وهي جزء من تراثنا الثقافي" والقول لأحمد بن بلا ورد ضمن حوار طويل اجراه معه صحفي عربي بعد بضع سنين من خروجه من الاعتقال. ولا ندري مسوغا يبرر هذا العداء من جانب اخوتنا الجنوبيين في الوقت الذي صمتوا صمت القبور على ما كان يحدث في جنوب افريقيا ابان عهد "الابارتيد" ونراهم يتمسحون باعتاب مجلس الكنائس ويوادون المستوطنين من الانجليز في شرق افريقيا والفرنسيين في شمال افريقيا والذين عرفوا باسم "الكولون" ويدافعون عن الوجود الاستعماري في الكنغو وبورندي. ورحم الله الشهيد النيجيري أحمد بيلو الذي استشهد نتيجة سعيه ليصل الاسلام ربوع القارة ولتنتشر اللغة العربية لغة الدين الاسلامي في صفوف الافريقيين وغفر لأحمد سيكوتوري وموديبو كيتا فقد عرفوا وخبروا البريطانيين والكنيسة كما لم يعرفها الأقزام. ونعود لحديث مستر نيوبولد واستجابته لنصح سير ستافورد كريبس له ونقول انه بجانب اهتمامه بامر التطورات الدستورية فانه اهتم ببعض خريجي كلية غردون فرعى منهم بعض النابهين والتي ظهرت مواهبهم في دواوين في مرافق التعليم ومشروع الجزيرة كمكي عباس وبخت الرضا كمحمد عمر وكمثال مكاوي سليمان أكرت الذي ألحقته بوزارة الداخلية وكان يكاتبه ويرعى تقدمه في وزارة الداخلية واذكر إني قرأت ضمن ما قرأت بعضاً من الرسائل المتبادلة بينه وبين مستر نيو بون ومنها رسالة يشكو فيها مكاوي، وكان وقتها يعمل بإدارة مركز الكرمك، من مزاجه الذي اختل بعدم وصول جريدة التايمز اللندنية لمقامه وقال له أن فاتته مركبة التايمز I have missed the Wagon of the London Times وهو تعبير يستخدمه الإنجليز لمن فاته مركبات اللنبي أو ؟؟؟؟؟؟ ، فرد عليه نيوبولد لا تثريب عليك وأمده بما افتقده، وكان يرعى الطلبة المبرزين أمثال حمزة ميرغني وسليمان وقيع الله وعلي عوض الله ونصر الدين السيد والطيب الطاهر وعبدا لكريم ميرغني وغيرهم كثيرون وحتى الصحفيين وكان يلاحق سيرتهم وأذكر أنه أشار إلى الأستاذ المرحوم بشير محمد سعيد بأنه صحفي واعد Budding Journalist وكان لنيوبولد قناعة بأن السودان يجب أن يخرج من قاعدة الدول العربية فقد كان يرى أنه أقرب إلى الشعوب الأفريقية مزاجاً وثقافةً وأنه أي الاستعمار لابد من زواله بصورته التي كان عليها أبان الحرب العالمية الثانية وكان يرى مثل بعض مفكري مدرسة القارديان الفكرية وبعض أساتذة مدرسة لندن الاقتصادية التي يشار إليها ب (L. S. E.) أمثال هارولد لاسكي بأن الاستعمار يجب أن يستبدل قواعده العسكرية بالفكرية حتى تحافظ بريطانيا على نفوذها ومن هنا كان اهتمامه برعاية أبناء الشمال والجنوب كل على حده وبقدر ما عجبت لدفاع الدكتور منصور عن سياسي الجنوب في العهد البائد وغضه الطرف عن أفعالهم وعن مآسي الإنجليز ونتيجة أعمالهم بقدر ما استغربت لمطالبة الأخ الدكتور الطيب مصطفى بفصل الجنوب (ما ينجم) عن مأساته العائلية وفقده لأحد أكباده واستشهاده وحزنه البليغ إلا انه مسلم وحسن إسلامه، ولا نزكي على الله أحداً، ولا نشك في تدينه وغيرته على السودان ودينه الإسلام ولا شك انه متعلق بأهداب دينه الحنيف ويحرص أن يعم نهجه وشرعه بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبذلك ننتشل الضالين من مواطنينا في جنوب السودان وغيره
ولعل الأستاذ الكريم يدرك أن ترك الإرساليات تعبث وهي التي لا ترع إلاً ولا ذمة إثم وذنب عظيم وهو يدعونه للإنفصال يضعف من فرصتنا لإنتشال إخوتنا في الجنوب من الدعوة للحق ويستبدل أمثال البابا سرور بغيرهم كما أمثل اليابا سرور مكان الأب سترانيو ونبعث من القبور شر أفكار غوردون ايوم وبيا ماما وازبو منديري وبوث ديوينشر أبناء الكنيسة، يتطاول عددهم على عدد المسلمين رغم الفجة المفتعلة والادعاء الكاذب بأنهم أكثر عددا وأعز نفراً وهم يعلمون علم اليقين أن مسلمي الشمال براء ممن تهمة تخلف الجنوب وتردي أحواله والتي لا يخفى عنهم أن مرد ذلك إلى السياسة الاستعمارية التي كانت تمثل الكنيسة المسيحية بمختلف نحلها ومللها ومدارسها أداة تنفي1ها الطيعة بل واضعي أسسها وهم نفر من المفتشين الإنجليز الذين اشرنا إلى بعض منهم مثال مستر مور "إمبراطور كتم" الذي كان يحظر على سكان مملكته لبس الساعات في أيديهم/ أمثال حفدة الأب سترينور اليابا سرور. ولا نحسب أنه يخفى على مثقفي الجنوب الذي يحاول دكتور خالد أن يبرأ ساحتهم عن فعلتهم التي فعلوها بالشماليين ممن جنود وتجار وموظفين في أحداث أغسطس 1955 التي أشار إليها تقرير قطران الذي قصد الدكتور أن يتخطاه بدعوة أنه مفقود ونقف هنا هنيهة لنعبر سريعاً أحداث الجنوب الدامية التي ورد ذكرها بالتفصيل وهناك أيضا مذكرات المرحوم أحمد عبدا لوهاب(؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟) قد أهدى صورة منها لأبن أختي الفريق محمد زين العابدين قائد المدفعية بعطبرة آنذاك وقد تفضل علىٌَ بالإطلاع عليها وهي بحق سرد وافي ودقيق للأحداث الدامية، ونرجو أن نكتفي بذلك (؟؟؟؟) وعلى من يرغب ويبغي التفاصيل فليرجع إليها. شكل السيد علي عبدا لرحمن وزير الداخلية في الثامن من سبتمبر عام 1955 لجنة للتحقيق الإداري في تلك الإحداث ورفع تقرير عنها وعن الأسباب التي أدت إلى وقوعها وتم تعيين لجنة بموافقة مجلس الوزراء آنذاك وجاء تكوينها برئاسة القاضي توفيق قطران وهو فلسطيني الأصل التحق بخدمة المصلحة القضائية السودانية وكان يشغل وظيفة قاضي جنايات الخرطوم والسيد خليفة محجوب مدير عام مشاريع الاستوائية وكان قبلها قمندان شرطة وهو من مواطني رفاعة البررة والأخيار والزعيم الجنوبي لوليك فودو زعيم ليريا(؟؟؟؟؟؟؟) وقد طلبت اللجنة من وزير الدفاع تعيين مستشارين ليقدما النصح في المسائل الحربية وقد عين وزير الدفاع القائمقام محمد بك التجاني واليمباشي علي حسن شرفي وبدأت جلستها بالخرطوم وطافت مختلف مدن الجنوب التي كانت مسرحاً للأحداث. ولا يفوتنا أن نذكر أن الجنوبيين ظلوا على مدى سنين من بعد الاستقلال يستغلون عدم اهتمام أحزاب الشمال بمطلب الفيدريشن في وثيقة الاستقلال ويجددون المطالبة به كلما عن لهم ذلك وخاصة اللذين ابعدوا من الحكم ولم تشملهم التعديلات الوزارية المتعددة في حينها واللذين فاتهم قطار الحكم في دورات الانقلابات المتكررة وكان ذلك دأبهم في ألازمات التي تنشأ بين الحين والآخر وخاصة عندما تشعر مجموعة منهم بالغضب إذا نال منها خصومهم من أحزاب الجنوب الحظوة دونهم ويصمتون بعد ذلك. وكان ذلك حال اغلبية زعماء الجنوب اللذين استمرؤوا الحكم وعاث البعض منهم فساداً في وزاراتهم ومناطقهم وكان ذلك دأبهم وكانت قيادات أحزاب الشمال لا تعيرهم كبير اهتمام لأنها تعلم الغرض من الحملة المفتعلة المتدثرة برداء الفدريشن دون إستثناء وحتى ذلك في إجتماعات أديس أبابا وكان الرجل الرزين السيد ابيل الير يحض المتفاوضين معه من أبناء جلدته ألاَّ يثيروا مشكلة الفدريشن في مؤتمر أديس أبابا حتى لا يتساووا مع بقية أجزاء السودان إذن أن الجنوب كان يستأثر بنصيب الأسد بالنسبة إلى شرق السودان وغربه وشماله .. الأمر الذي كان معروفا لدى تلك الاقسام من السودانيين ومنهم بالطبع الدكتور ، ونعود مرة أخرى إلى المقارنة بين المسلمين وبين مسيحيي الأندلس من الكاثوليك الذين كانوا أكثر ضراوة على المسلمين والذين عذبوا المسلمين في الاندلس حتى أضطر هؤلاء وعهم اليهود إلى الهجرة جهرة وخفية إلى اقطار الدولة العثمانية التي كانت تمنحهم القدر المتيسر من حقوق المواطنة التي تكفلها القوانين الحديثة والمعاصرة الأمر الذي مكن بعض الاقليات المهاجرة من اليهود والمسيحيين من السيطرة الكاملة على مرافق الحياة الإقتصادية والتجارية ومن ثم التسلل إلى مراتب الدولة العليا وهناك من يقول ، وربما بحق، كالشيخ الطنطاوي الفقيه الإسلامي الذي فقدناه قبل بضعة سنوات في السعودية بعد أن هاجر إليها ، أن أسرة كمال أتاتورك يهودية هاجرت من الأندلس إلى تركيا إبان عهد التفتيش وكان أن صار الرجل أعدى أعداء الإسلام وألغى الخلافة ومسح جميع المظاهر الإسلامية من الدولة التركية منها الحكم الإسلامي واتخذ القران هزوا وكان يتطاول عليه ويقول : أي دين هذا الذي يحلف ربه بالتين والزيتون وبالحجر الصلد !!؟ وتناسى متعمداً أن القران يحلف بالمواقع التي نزل بها الوحي وهي أماكن طاهرة يمكن القسم بها مجازاً . ولا نحسب أن الكل يعلم أنه ما من دين يرعى حرمة الأديان كالإسلام وأنه ما من أمة أحسنت رعاية رعيتها الدينية مثل ملة الإسلام وإنه ليس كمثلها في رعاية رعاياها من ذميين غير مسلمين . الامر الذي جعل كاتب فرنسا وضميرها ( غوستاف لوبو ) يقر في كتابه حضارة العرب ( لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب ) ، وحدا بأديبها وكبير نقادها اناتول فرانس ليقول على لسان واحد من شخصيات روايته – الحياة الجميلة – ( إن أشأم يوم في تاريخ فرنسا وأعسرها كان يوم معركة بواتييه عندما تراجع العلم العربي والفتح العربي وانحسر مد الحضارة العربية أمام هجمة الفرنجة وقد سبق لي أن أشرت إلى قصة عمرو بن العاص مع القبط عندما كان والياً على مصر أنه كفل لهم حرية مباشرة شعائرهم وممارساتهم الدينية تنفيذاً لوصية نبي الهدى صلى الله عليه وسلم ( إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحما) وكنت قد علقت على ذلك القول بأن موقف سيدنا عمرو من القبط لم يكن سابقة تميز بها إبن العاص ولا بادرة انفرد بها بين ولاة المسلمين وإنما كان مضطراً للالتزام بالنهج الذي سار عليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي دفع عندما ولج باب إليليا (بيت المقدس ) عهداً التزم بمقتضاه بتأمين أهلها أنفسهم وأموالهم ودور عبادتهم ولم يدخل المدينة إلاَّ استجابة لرغبة كبير النصارى الأسقف سفرنيوس وإلاَّ بعد أن أنفذ صلح أهلها وكتب إليهم بذلك ومن قبل كان تصرف سيدنا سيف الإسلام المسلول خالد بن الوليد عندما فتح دمشق فقد حرص القائد المنتصر أن يحرر لأهلها عهد الأمان وذلك وفق رواية الإمام ابي الحسن البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) حيث أشار إلى أن خالداً أمر بدواة وقرطاس وكتب : ( باسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أعطاهم أماناً من أنفسهم واموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم ، لا يهدم شيء من دورهم لهم عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمؤمنين لا يعرض عليهم إلاَّ بخير إذا أعطوا الجزية ) . ويجب ألاَّ سياسي الجنوب الحزين فضل بعض أبناء الجنوب على السودان بحدوده المعروفة من عشرينات القرن التاسع عشر وتاريخه، والحق فإن عطاء أبناء الجنوب لا يمكن إنكاره او تناسيه فعلي عبد اللطيف عملة نادرة بين السودانيين جميعهم ، وحدة فريدة من مواطنيه الذين خرجوا من رحمه وهو من أبناء الدينكا ونستحي أن نقول أن الأجيال الحديثة تعلم القليل عن تاريخه ولا أزال أحتفظ ببعض آثاره وأحاديث أهله القريبين منه ومنهم ( العازة) زوجته والتي خالتها زوجة خاله وقد تربى في كنف جده الكبير ريحان عبد الله وكانت أسرته تسكن في بري بالخرطوم ودرس بخلوة الخليفة صالح سوار الذهب ببري ثم الوسطى بالخرطوم فبكلية غردون فالمدرسة الحربية سنة 1914م وكانت تبدو عليه بوادر التمرد والثورية والشجاعة منذ الصغر وحوكم بالسجن ونفي إلى واو مع رفاقه صالح عبد القادر وحسين شريف ومحمد المهدي التعايشي وعبيد حاج الأمين الذي توفي هناك ، وفي عام 1934 تم الإفراج عن الجميع وحُجز وحده بعد أن تلقى ضربة دامية في رأسه إثر معركة مفتعلة مع أحد رفاقه من المسجونين الجنوبيين والذي ضربه (بجردل) صلب ، أُحتجز بحجة علاجه من الضرب ، ورُحِّل مرة أخرى إلى سجن كوبر وبقي به إلى عام 1938 حيث طالب به المصريون ليعالج عندهم ونقل بقطار إكسبريس خاص حتى لا تكتشفه الجماهير وذلك من الكدرو إلى حلفا وتوفي عام 1948 بمصر . وما أسماء عبد الفضيل الماظ وثابت عبد الرحيم ومحمد سليمان وحسن فضل المولى و( النوير) إلاَّ منارات ساطعة في تاريخنا تقف شامخة ، تذكر الناس بأمجاد سلف ما ضعفوا ولا هانوا ، قدموا المهج والأرواح فرباناً وفداءً لوطن ما غضَّ ماؤه وما ضاقت أرضه وما بخل ضرعه وما شح دره ولكنها سنة الحياة والأرض لله يورثها من يشاء والأيام دول يعلو بها الكسب وينحط تموج بالحركة والنشاط ليعقبها ذبول وبثور وبحان الله الجامع للأضداد المفرق للأنداد والمخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ومن قديم كان الحديث ( النار تلد الرماد ) .. وما حال السلف والخلف من أبناء الجنوب إلاَّ تأكيداً للمثل وبالأمس كان هاجس الشمال لم الشمل والدفاع عن الأرض والأهل وأصبح اليوم عند البعض الانفصال الذي يدفع بالجنوب ، رضينا أو أبينا ام بكينا أم ضحكنا ، الانفصال الذي يدفع بنا إلى أحضان المترصدين المتآمرين الذين يطمعون أن ( يتشلَّع) السودان ويذهب الجنوب وينفصل لكي يكون لقمة سائغة في أفواه أهل الجوار الذين يبلغ تعدادهم أربعة أضعاف سكان الجنوب الذي تحوي أرضه البترول واليورانيوم والذهب والذي يشكل الخشب رصيدا ضخما لميزانياته . نقول بمليء أفواهنا فلتحيا ذكرى جوزيف قرنق وزميل دربه هنري لوقالي فقد كانا يدركان المخاطر التي يقوم عليها الجنوب إذا انفصل وإذا تصادمت قبائله في مناطق التماس بسبب المرعى والسقي ويدركان أن المخرج هو في وحدة السودان شماله وجنوبه بالتراضي ونبذ أسباب التفرقة الدينية والعرقية الجنسية ، وكانا يثقان أن البلاد ستتخلص من العادات السخيفة التي تفرق بين أبناء السودان وتقوض اندماج اسره وتضع العراقيل أمام فرص الزواج والتراحم بين قبائله وشعوبه . كما كان يدعو جوزيف إلى وحدة أفريقية تشمل شمال وادي النيل والسودان وأثيوبيا ويوغندة وكينيا وتشاد ومن يرغب ويريد من الدول الأفريقية ويقول أن الذي يجمع بين هؤلاء أكبر من الذي يجعل من الولايات المتحدة أمة تصل الي الحالة التي هي فيه . آلاف من وحدة بين الهنود الحمر وشعوب أوربا المتشابه من إنجليز وإيرلنديين وألمان وأسبان وغيرهم وتجعل من الزنوج مواطنيين صالحين متآخين بعد كل تجارب وظروف شدة وألزمات التي نعيشها الآن ستدعونا في يوم من الأيام وقريباً إن شاء الله إلى الوحدة المنشودة ، وأرجو أن أحكي أني قرأت فقرات من قصة حياة المناضل الأفرقي سيد فرح من أبناء المحس النوبيين ومن أبطال ثورة 1924 . كان يقود بعض الجنود أثناء حوادث 1924 أن إستدعاه رئيسه * عبد العظيم الماظ وكان في عز المعركة بالقرب مستشفى الفهد الآن وأمره بأن يتسلم منه قيادة الفرقة العسكرية المتمردة من العسكريين السودانيين حيث أنه من الضباط سيد فرح أقل منه رتبة إلا أن ظروف السودان القبلية المتخلفة تستدعى أن يتنازل هو عن القيادة إلى أن يقضي الله أمر كان مفعولا فما كان من الضابط سيد فرح إلا أن حيا القائد وقبله في وجنتيه ونفذ الأمر .... قرأت ذلك ضمن ذكريات الضابط سيد فرح لدى أخي الأكبر محمد سليمان سفيرنا بمصر حينئذ . * عبد العظيم الماظ ( حسب ما جاء بخط الأستاذ أحمد سليمان ، هل يا ترى يقصد عبد اللطيف الماظ ) هذه ملاحظتي الخاصة أثناء الطباعة ( أخوكم ولياب ) ولقد خيلت من قبل أنه ليس من المقبول ولا المعقول أن رجالا من أمة أبيل ألير وبونا ملوال وبشير عبادي ويحيى عبد المجيد يجلسون على الترتوار يرقبون مسيرة البلاد وغيرهم يدير الحركة دون أن ]أنس برأيهم ودون أن يبدو حراكا .... لا أقول هذا جزافا أو تودداً فما بي من حاجة إليهم ولا إلى غيرهم بحمد الله وإنما أقول قول الحق فقد عرفتهم زميلا في مجلس الوزراء وفي الشارع أيضا . فأبيل ألير خبرته منذ أن كان قاضياً جزئياً في أول درجات السلم وكنت وقتها محتميا في أول درجات المحاماه ثم بكونه وزيراً للتموين وأنا وزيراً للإقتصاد والتجارة الخارجية ... وغيرها وعرفته كذلك وكلانا يرقب من منازله مسيرة الإنقاذ الظافرة بإذن الله وأعتقد أنه يكون أصلح من يشغل منصب الرئيس لمجلس الشيوخ إن أراد الله لحكامنا التوفيق والسداد بارك الله في وحدة السودان وغي رد غربة فكري الأخوين الدكاترة الأماجد منصور ومصطفى والسلام على من اتبع الهدى
| |
|
|
|
|
|
|
|