|
البرســــيم ( قصة )
|
[1] شق صوت الطلق الناري السكون .. تردد صداه عبر الظلام كأنه لن يغيب أبداً .. يرتطم بالحيطان ويرتد عنها .. دقائق .. ثم خبا . مر وقت قبل أن يخرجوا . في الظلام لا تميز أحداً منهم . سار الموكب متوغلاً في حلكة الصحراء مبتعداً عن البيوت . يحملون مشاعل تضئ على استحياء لكنها توفر لهم رؤية لا بأس بها . توقفوا بعيداً .. قال أحدهم شيئاً . بدءوا الحفر .. صمتاً .. بعيداً على حدود القرية سمع العجوز المتكئ على عصاه صوت الزغاريد .. عرف أنهم أنجزوا الأمر .
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[2]
دافئة أشرقت الشمس .. هادئة استقرت على سدة الأفق . نثرت أشعتها على الكون واختصت القرية الحنون بدفء خاص. وقف عبد الرحمن أمام الحجرة الطينية يمدد ذراعيه في تكاسل لذيذ .. سرح يرقب سرب طيور يتجه شرقاً .. حاول تذكر الاسم المحلي لها لكنه فشل .. ليلته الأولى في البلد انقضت .. ليلة طويلة كانت .. لكنها انقضت .. بمذاقها الخاص.. ليلة بمذاق القرية . البلد بعد غيبة .. منذ توفي والده منذ ثلاثة أعوام .. كانت تلك أخر زيارة له للقرية .. غريباً جاء وغريباً ذهب .. لكنه بعدما صنع نجاحه في الخرطوم فوجئ بمطامع النجاح تقوده مرة أخرى إلى القرية .
هنيهة ثم هز رأسه واتجه نحو المطبخ الصغير في أقصى الفناء .. انحنى إلى الداخل . - " صباح الخير يا محاسن " . رفعت أخته رأسها .. أجابته والابتسامة تعلو شفتيها . - " صباح النور يا الأفندي " . الأفندي .. لم تنس لقبه القديم رغم السنوات .. كان ناظر المدرسة الوسطى يدعوه بهذا الاسم منذ اليوم الذي رفض فيه أن يأكل طعام الداخلية بحجة أنه ملوث .. أمام الطابور سخر منه قائلاً : - " عبد الرحمن ناصر أفندي قال أكلنا ما نافع معاو .. من بكره حنجيب لسعادتو الوجبة من الخرطوم " .
التصق به لقب الأفندي من يومها تندراً ثم صار لقب احترام حين ظهر نبوغه .. فلما تكامل النبوغ هجر القرية غير أسف رغم دموع والدته وحزن أبيه . أما محاسن الباسلة فودعته باسمة كعادتها .. دوما أحسها أما له وان تنكر لها حين زارته في الخرطوم وفر منها ابنه وليد فزعاً .. على استحياء وهو يتحاشى نظرات زوجته مشاعر قال لابنه: - " دي عمتو محاسن يا وليد " . لكن الطفل تشبث برفضها .. وحين أمسى الليل اعتذر لها وحملها في سيارته وأوصلها إلى أم بدة حيث بعض أقارب لهم ووعدها أن يأتيها صباحا ليحملها إلى الطبيب لتكمل فحوصها.. لكنه لم يرها إلا البارحة ليلاً حين جاء إلى القرية .. لم يوف موعدة ولم تلمه قط .
قالت له بحنان : - " ده شنو النوم ده كلو؟ ما خليت ليك نوم للناس " . دلف إلى المطبخ واتخذ مقعداً جوارها .. كأن حديثهما بالأمس كان حلماً .. يا لها من باسلة حنون .. - " هو أنا لقيت طريقة أنوم ؟ أنا كنت ميت من التعب لكن ما نمت إلا قريب الساعة واحدة صباحاً " . - " ليه مالك ؟ نعلك ما متحسس من شي ؟ " . كان صوتها قلقاً بصدق .. لو كان لديه شيء من عواطف البشر لذاب في مكانه خجلاً لكنه تعلم منذ زمن أن العواطف إن ملكت إنساناً قتلته .. لم ينجح في حياته لأنه ذو مشاعر مرهفة.. لذا تجاوز هواجسه التي وخزته كأشواك حانية لا تؤذي سميك جلده . - " معقولة ما سمعتي الدوشة الكانت حاصلة أمبارح دي ؟ ". ضحكت في صفاء وناولته كوب الشاي .. - " ده زار عاملاهو نفيسة مرة عبد المنعم ود عيسى " . رشف الشاي وكرر متعجبا ً : - " زار ؟! " . - " أجي يا بنات أمي عاين الأفندي و جنو .. تقول ما سمع بالزار " . ضحك بهدوء لدعابتها .. لكنه كان يعلم أنها تعرف ما بداخله.. قديما كان يعرف كل شيء عن هذه القرية ويعيش حياتها .. لكن سنوات المدينة تكفلت بمسح كل شيء من داخله.. واليوم لم يبق له سوى ذكريات مشوشة سخيفة أو ملتهبة لا يفصح عنها .. أما محاسن فهي جبل البركل الذي لا تغيره أيام أو تهزه عواصف .. تأملها مستحضراً حياتها البائسة .. الزيجة القصيرة التي لم تنجب منها سوى طفلة ميتة .. ثم العودة المهينة إلى بيت والديها لتعني بأخيها الصغير ، الذي ما أن شب حتى تلقفته المدينة تاركاً والديه في رعايتها .. فماتا بين يديها الواحد تلو الأخر .. وبقيت وحدها تلوكها الحياة الشاقة وتعني بنفسها وأرض والدهما كرجل ذي عزيمة . تأمل كوب الشاي المستقر بين كفيه وسألها : - " نفيسة العملت الزار دي .. أم حنان ؟ " . - " لأ .. حنان بت عبد المنعم من مرتو التانية .. إحسان بت حبوبتك شنتنين " . - " شفتها أمبارح لمن نزلت من البص .. ما عرفتها في الأول .. كبرت ما شاء الله " . - " منوالشفتها ؟ حبوبتي شنتنين ؟ " . ضحك من تغابيها اذ يعلم ما تلوي عنه فراراً .. لكنه أوغل في دربه .. - " حبوبتك شنو؟ حنان الشفتها " . لمعت عيناه كأنه يرى بياض ساقيها حين لامس الهواء ثوبها فارتفع عن سمانتيها كأنه يحيي زيارته القرية .. وتردد في ذهنه صوتها حين عرفها نفسه وهي تسأله في استحياء مشاغب : - " وكت متذكرنا كده انشاالله تكون جبت لينا شي معاك من الخرطوم " .
كان يذكر أن للقادمين من الخرطوم سحراً لا يقاوم في الأرياف. لم تنسه السنوات حين كان يتسلل وصحابه إلى ميز المعلمين – وكلهم من خارج القرية – يسترقون النظر ليلاً إلى النساء يتسللن إليهم .. ويعقدون الرهانات أن تلك فلانة أو فلانة . محاسن اقتحمت ذكرياته وقد شاب حنان صوتها شيء من تحذير .. - " يا أخوي الله يرضى عليك .. ما دايرين مشاكل .. مشكلة بت بابكر مرقنا منها الله ساكت .. وليوم الليلة ما قادرة أرفع عيني في عين أمها " . كأنها تقرأ أفكاره . رشف الشاي على عجل .. صمت دام لا يقطعه الا صوت رشفاته العالي .. وضع الكوب الفارغ ثم نظر إلى أخته . - " هي مش اتزوجت ؟ " - " عرسوها عرس السواد وشيل الحس لود عمها عشان يطفو الموضوع .. ويوم العرس راجلا حلفا المصحف ما تسوي الشغلة تاني " . ماذا حدث لكل هذا ؟ لم يحدث منه ما يستدعي كل هذا .. ربما لولا الحظ العاثر لكان لكل هذه الضجة معنى .. لكن . - " خلي هلاويسك دي يا محاسن .. انا ما فاضي للكلام الفارغ ده " . كاد يقول لها أنه ما جاء إلا لمهمة محدده ، لكنه أمسك . - " أيي الله يكملك بعقلك .. مدثر أخو حنان زول شر وبتاع مشاكل ما تشربك روحك معاو ساي " . فجأة أطرقت رأسها وأشارت إليه أن اسمع . لم يستطع سماع شيء . رفعت رأسها هلعا وتناولت ثوبها . بإمكانه الآن أن يميز شيئاً . - " ده زول بيكورك .. لكن بقول شنو؟ " . اندفعت محاسن خارج المطبخ وإحدى يديها ترفع ذيل فستانها وتحمل بالأخرى ثوبها .. قالت في فزع : - " سجمي .. ده صوت كمدان .. المات منو؟! " . صوت محرك سيارة يختلط بصياح رجل .. اقترب الصوت أكثر وصار بإمكانه تمييز النداء .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[3]
- " الحي الله والدايم الله .. نعيمة بشير مرة حسن الفاضل كورينا راحت في حق الله .. الفراش في بيت حسن والجبانة نقد الله .. الحي الله والدايم الله " .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[4]
ما كاد يستقر ليلاً داخل المنزل الذي طال فراقه حتى فاتح محاسن في سبب قدومه .. تحمل في صبر زيارات المهنئين بعودته ووفود المرحبين ، فما أن خلا بأخته حتى صارحها بالمهمة التي جاء فيها .. لم تختف الابتسامة عن شفتيها وهو يحدثها .. لابد أنها انتظرت منه هذا اليوم طويلاً .. كانت تعلم أنه آت لا محالة .. لذا تلقت كلامه بهدوء وحنو. حاول أن يبرر لها رغبته .. لكنها لم تكن تحتاج إلى ذلك .. هي تعلم أن النجاحات والخرطوم يحتاجون إلى ثمن .. وهو قد دفع الثمن من روحه قبل أن يأتي طالبا مزيد قرابين.. كما أن الذكاء ما كان ينقصها لتخمن سبب زيارته منذ أخبرها بنيته الحضور قبل أسبوعين بخطاب هو الأول منذ سنتين . لكنها لم ترفض طلبه .. ولم تقبل . استمعت إليه مطولاً حتى أفرغ ما بجوفه .. ثم استأذنته لتعد له العشاء .. حين كانت تصب اللبن على الفطير حاول أن يعيد فتح الموضوع مرة أخرى .. لكنه لم يجد لسانه .. وهي كانت غارقة في خدمته كأنه ما أدمى قلبها منذ دقائق . حين هم بالنهوض ليخلد إلى النوم تذكر زوجته مشاعر وانتظارها .. رفع إلى محاسن عينيه وقال في خفوت : - " أظن صابر ود العمدة لسه زول قروش .. بكره بمشي ليواتفاهم معاو" . - " وانت من أهلو يا الخزين " أجابته في هدوء .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
الزول زاتو .. تحياتي و اشواقي و تقديري ( كلهم كده باقة واحدة ) لو زول مداين يا عزيزي فالبرسيم ما ضاريك .. اما لو طلعت من الضفة التانية فيا وجعك و وجعي على البرسيم .. خليك قريب و شكرا للمرور الباكر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[5]
- " الفاتحة .. الفاتحة يا حسن " . رفع يديه معزياً حسن كورينا .. رفع حسن يديه متمتماً : - " الفاتحة .. ربنا يرحما .. الفاتحة " . حرك شفتيه مهمهماً بلا شيء ثم شد على يد حسن مواسياً .. اتخذ موقعه بين الواقفين . تسأل صوت : - " بت الطاهر جات ؟ " . صوت أخر أجابه : - " بت الطاهر زول ببرد بلاها مافي في البلد دي ؟ شوفو البتول ولا حاجة عشمانة " . - " بتول عدت البارح بالبنطون وما جات " . - " سمح حاجه عشمانة وين ؟ " . عجوز ينوء بحمل أعوام مئة أو تزيد اتجه نحوهم .. حاج محمد سعد .. الرجل الذي استحق مكانة بالأقدمية .. هو أكبر المعمرين هنا وذاكرته مرجع في نزاعات الورثات وشاهدة حاضرة في كل إعلام شرعي من المحكمة الريفية .. لا ينساه فهو القرية ذاتها .. وقف أمامهم قائلاً بلهجة أمره : - " يا جماعة الكلام الكتير ما ليو لزوم .. هديك بت الطاهر جات .. رزق الله ومعاك واحد أمشو جيبو الرملة .. وانت يا حسن واقف قدام أوضة الجنازة مالك ؟ قايلا بتشرد ؟ أمرق لبره لاقي الناس .. وشوفو واحد ينزل الجزيرة يجيب الجريد شان قبة الجنازة " . - " جريد شنو" اعترض احدهم " هو لأسي زول مشى الجبانة مافي " . صاح حاج محمد سعد مستنكراً : - " ده كلام شنويا بطان يا مناعيل .. دايرين تدو الجنازة البحر أظنكم ؟ تفو عليكم " . كان غاضباَ كأن مقدساً لديه مس .. - " باطلين .. فلاحتكم النضمي في اجتماع المشروع والبكا في جمب الحريم .. " ثم التفت نحو بعض الشباب حدث السن وقال أمرا " الشفيع وعلي ومعاكم جماعه امشوا الجبانة سريع.. أنحن في وراكم بالجنازة .. جهزو القبر بسرعه " . ثم التفت عنهم مغاضباً وهو يدمدم : - " النار تلدي الرمال .. تب على زمنكم .. الببقى في العقاب يضوق العذاب " . - " انه يتحسر على صباه في مملكة نبته بلا شك " قال لنفسه " لن يدهشني أن يوصي هذا الرجل بدفنه في هرم .. هذا ان جرؤ الموت فقبض روحه " . حاول أن يتذكر شيئاً كانوا يحكونه عن صرامة حاج محمد سعد لكن المعلومات تشابهت عليه .. لقد صفعه مفتش المركز فقتله حاج محمد سعد أم لعل ذاك كان المك نمر ؟ لم يستطع تحديد الحادثة التي رسخت مهابة العجوز في النفوس فنفض الأمر عن باله . - " انت يا الأفندي مشنط كده راجي شنو ؟ اتحرك مع الرجال .. ولا عاوز تخش تشد الشاي مع الحريم ؟ " . التفت إلى مصدر الصوت .. هاشم .. الابن الأكبر لبابكر .. وشقيق رجاء .. انه لا ينسى قصته مع أخته .. الفتاة التي زوجوها لابن عمها هرباً من الفضيحة وجعلوها تقسم على التوبة ليلة زفافها . - " ما داير أشد الشاي مع الحريم يا هاشم .. وما تزعل .. زحيت من محلي " . كان التحرش ظاهراً في نظرات هاشم .. لا ينسى هؤلاء القوم شيئاً .. لهذا لم يزره البارحة أحد من أهل رجاء ليحمدوا قدومه. - " البلد دي مافي زول فيها بينسى حاجه " قال لنفسه . لكنه استنام الى أنهم نسوا مال الجمعية الذي اختلسه .. لجنة للتبرعات جابت الخرطوم قبل عام تطلب مالاً لشأن ما .. هل كان المال للصهريج أم للمسجد ؟! لا يذكر .. فقط يذكر أنهم قصدوه بعد أن جمعوا مبلغاً كبيراً وطلبوا منه أن يقوم بتحويله من حسابه في البنك إلى حساب أخر في البنك الريفي الذي يتعاملون معه ، تفادياً لمخاطرة السفر بكل هذا المال نقداً .. قبل خدمتهم .. أودع المال في حسابه لكنه لم يغادره أبداً .. أقسم في ما بعد أن انه حول المال وأن عليهم أن يطلبوه في مكان أخر .. حين قرأ الشك في أعينهم طردهم من منزله . لا يبدو أن أحدهم يذكر هذه القصة اليوم . لكن هاشم لم ينس أمره مع رجاء .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[6]
رجاء .. قالب الشيكولاتة المغموس في العسل .. لو كانت في الخرطوم لكان له معها صولات وجولات .. الخطر هناك من مشاعر فقط .. وفي الخرطوم سعة تنجيه منها .. أما هنا .. كان يوماً صيفياً .. وكل أيام القرية صيفية .. تشوي الرمال قدميك وتصب عليك السماء حمماً ملتهبة .. كان معه مأمون .. الداهية .. مأمون مكر يمشي على قدمين.. لو كان في الخرطوم لأصبح زعيماً سياسياً .. قال له مأمون : - " إنت ما شفتها في البحر قبل ده ؟ " . أجابه بالنفي . - " إنت كان كدي ما شفت حاجه " . بلل شفتيه بلسانه .. وقال : - " شفتها امبارح في البير .. عندها ساقين !! ربك ما قصر فيهن " . ضحك مأمون عالياً .. - " ساقين ؟ إنت كان شفت البرتكان وهو يرجف زي الجلي يوم وقعت في البحر كان جنيت " . سأل بصوت كالفحيح : - " المهم هي بترضى ؟ " . - " كيف ما ترضى .. زول جايي من الخرطوم ده بس يملا طرفو" . القرية ترفض سذاجتها وبساطتها .. تشتهي الخرطوم بزخرفها وزينتها .. هشة .. طرية .. كأعواد البرسيم .. تطحنها الخرطوم .. تسحقها .. فتنحني .. تطأها المدينة بأقدامها الثقيلة فتنكسر وتلتصق بالأرض . - " نحن بنعرف حاجات غير شغلكم الميت ده " قال مداعباً مأمون . - " يا اخوي شغلنا أحسن منو مافي .. والله قراريصنا دي فيها صحة ما عندكم .. وانتو ماكم أرجل مننا .. إلا الخرطوم ساكت مدياكم شنه ورنه " . يعرف أن هذه هي الحقيقة .. في أيامه الأولى في الخرطوم كن فتيات المدينة يتقاتلن للفوز بعنفوان ذكورته الريفية .. واليوم بعد كل سنوات المدينة صار مشتهى في قريته لرونق خرطوميته .. الغربة هي ما يلقي النساء بين ذراعيه . قال له مأمون : - " المهم يا الأفندي ما تنساني بعدين ". - " ما تخاف .. ما بنساك .. بجيب راسا وبعد داك برميها فيك " . - " ترميها فيني ؟ " فرك مأمون يديه " ده أنا البترمي فيها". كان الأمر يبدو سهلا .. ما الذي جعل أمها تترك الطريق الرئيسي وتسلك هذا الدرب لتسمع حديثهما ؟ سبتهما العجوز .. وأخبرت زوجها وأبنائها .. كادوا أن يفتكوا به .. وكانت فضيحة . لكن الفرصة لم تضع بعد .. للمتزوجات مذاق خاص يختلف عن الفتيات .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[7]
كانت الفكرة فكرة مشاعر . حقاً ما أسخف القول أن للمسمى حظاً من اسمه .. زوجته لا تمتلك أي مشاعر ولا يحركها سوى المال .. تحسب لكل خطوة حسابها بالربح و التجارة .. لكن لمثله كان فيها كل المميزات التي يريد .. الجمال .. النسب .. الثراء .. أما لها فكان هو الريفي الواعد .. شاب متوثب طموح ورسنه في يدها سلس القياد .. لذلك لم تقترح عليه بيع الأرض .. بل أمرته . كان يحتاج للمال ليدخل في شراكة جديدة مع ابن خالتها .. لكنها رفضت أن تعطيه من المال المحفوظ باسمها في البنك .. حين أخبرها أنه لن يستطيع تنفيذ الشراكة لافتقاره المال أمرته أن يسافر للقرية ليبيع أرضه .. بالأصح قالت أرض أبيك .. - " لكن الموضوع ده بياخد زمن .. لأنو حيحتاج توريث وقسمة عشان محاسن تاخد نصيبا بعد داك أنا أبيع نصيبي " . - " محاسن شنو الداير تديها واطه وقروش ؟ مش فالقني بأختي الربتني وأختي البتحبني ؟ أمشي بيع الأرض كلها وأديها كم ألف في يدها " نظر إليها ذاهلا .. ذهل أنه لم يغضب .. واصلت بشيء من اللين .. - " بعدين لو عاوز تساعدا ممكن تعمل ليها مرتب شهري من أرباح المشروع ترسلو ليها .. مش أحسن ليها من زحمة التمر و الزراعة الفارغه دي ؟ ثم هي مش بتاكل في حق الأرض دي السنين دي كلها وانت ما سألتها ؟ خلاص يبقا ده دورك " . لم يجب .. فقالت في حسم .. - " حتمشي و حتبيع الأرض كلها وتجيب القروش " .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[8]
امرأة بعينها يفتقد الآن .. امرأة واحدة يحس لوعة الشوق المستحيل إليها .. ترى هل صدقته القول ؟! ما كانت لتكذب عليه .. ثلاثة أعوام مرت على أخر زيارة له للقرية .. كان يومه الثالث في البلد حين قصد الدكان ليقضي الأمسية مع الآخرين في مجلسهم الدائم هناك . قطع دخوله حديثاً كان متصلاً بينهم .. سلموا عليه بحرارة واحترام يرى خلفهما ازدراء لتنكره الدائم للقرية وانقطاعه عنها. مرت عشرة اشهر منذ اخر زيارة له .. يومان لم يهتم فيهما باي مجاملة اجتماعية .. زيارة لوالده و نزوة سريعة ثم العودة .. لولا ظرف وفاة والده ربما لما نظر احدهم في وجهه الان ، لكنه يبادلهم احتقاراً باحتقار . ناوله مختار سيجارة أشعلها من سيجارة مصطفي .. ثم واصلوا حديثهم . - " وقال حيسميهو منو؟ " - " قال حيسميو على أبوهو". - " ابوهو؟! بعد الزمن ده كلو كان مفروض يسميهو الليقو". ضجوا بالضحك . - " بالله زول كان يصدق انو المسخوط ده بعد سبعه سنين ومرتين يجيبو ليو ولد ؟ " . - " يا زول !! ده سر الشيوخ " قال مصطفي بلهجة العالم ببواطن الأمور " زولك ده مابي يمشي القبب زمنو دا كلو.. شهرو المشى القبة وجاب تراب الزيارة الوليه حملت " . - " والتراب سوا بيو شنو؟ " أحدهم سأل بخبث . أجاب مصطفي دون أن ينتبه إلى رنة الخبث : - " دعكو بيو". مرة أخرى ضجوا بالضحك .. وسعل بعضهم بشدة . - " وبعد داك ؟ غسلوا ولّا بترابو؟ " سأله مختار وهو يمسح دموعه التي سالت من شدة الضحك . - " غسلو؟ " ردد مستنكراً " علي الطلاق بترابو" . ضحكاتهم هذه المره رددتها أنحاء القرية .. انتظر حتى خفت أعاصير الضحك والسعال ثم سأل : - " ده منو البتقطعو في جلدو ده ؟ " . - " زولاً صاحبك شديد " . وذكروا له الاسم .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[9]
لن ينسى ذاك اليوم أبداً .. دخل عليها ليهنئها بالمولود .. كان كتلة من لحم لها عينين واسعتين لا يذكر أين رآهما . نظرت في عينيه وقالت : - " مبروك ليك انت " . - " لي أنا ؟ " متعجباً قال " اشمعنى ؟! " . حولت عينيها تنظر عيني المولود .. أفكار غريبة تدور في رأسه .. خيالات مستحيلة تغزو ذهنه . العينان .. تذكر وليد ابنه .. هذا مستحيل .. انها تكذب .. تحاول مد صلة بينهما مرة أخرى .. لكنه في حالة لا تسمح له بتمييز الصدق عن الكذب . خرج صوته بارداً ميتاً .. - " حتسميهو منو؟! " .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[10]
حملت مشاعر ابنهما وليد فخورة كأنها خلقته .. التفتت إليه وقالت : - " الليله أي واحده شافت وليد علقت على عيونو.. قلت ليهم شايل عيون امو" . يعرف أن ابنه يحمل ذات عينيه كما يحمل هو ذات عيني والده .. لكن مشاعر لن يسرها أن يخبرها أن ابنها يحمل عيني حاج ناصر التربال الأمي .. دعها تخرف بما تشاء .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
كيف يمكن للمرء أ ن يشتري السماء او يبيعها وكذلك دفء الأرض...كنا نحب صوت الرياح الرقيق عندما تهب علي مياه النهر ورائحة الهواء عندما تغسله رطوبة الفجر أو عندما يكتسب رائحة نخيل البلح... شكرا حمور القادم من بلاد رائعة روعة الشفق المعتق بالبهاء...وارفة بظلال الصدق...ومهدية للوفاء... عمل جميل يستحق الثناء والتقدير
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
حمور يا رائع قد لا يعرف الكثيرون أن كتابة القصيرة أصعب حالاً من كتابة الرواية ولأني متنكب هذا المجال بالتأكيد أعرف معاناة أن تكتب قصة قصيرة فلها أدوات لا تتوفر على طول الخط إلا إذا كنت في مود رايق Relax لكن بالجد البرسيم عمل جميل يحمل مضامين القصة القصيرة ويحمل كل أدوات الفجأة والبغتة والمعالجة أنبسط جداً لمان أشوف شغل جميل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: محمد أبوالعزائم أبوالريش)
|
[11]
- " يا جماعة زول يشيل ود المرحومة ده يدخلو جوه " . - صاحب العبارة كان يحمل طفلاً باكياً تجاوز بالكاد عامه الثالث .. اتجه نحوه .. - " الولد مالو؟! " . - " عليك الله يا أستاذ عبد الرحمن دخلو للنسوان جوه .. هنا زول بيخت ليو بالو مافي .. الجنازة مارقه خلاص " . - " عبد الرحمن شنو البدخل الشافع للنسوان " صاح هاشم في غضب .. هذا الرجل يتبعه كذبابة لحوح " جيب الشافع هنا أنا بدخلو" . انتزع الطفل من يدي حامله في قسوة واستدار متجهاً نحو جناح النساء .. استوقفه ليسأل الطفل متجاهلاً نظرات هاشم : - " اسمك منويا شاطر ؟ " . بعينيه الواسعتين نظر الطفل إليه وقال : - " جدو" . - " الجنازة مرقت .. يا ناس هوي الجنازة مرقت " . اندفع الناس خلف الجنازة .. هاشم وضع الطفل أرضاً وعدا خلفهم . هاتان العينان .. لا ينساهما .. - " أبو هو داير يسميو على جدو" . هكذا قالت له نعيمه بشير في تلك الليلة .. أخر مرة يراها فيها . - " اسمك الفاضل ؟ " سأل الطفل بلطف . هز الطفل رأسه أن نعم ثم استدار متعثراً نحو جناح النساء . جماعة من النساء اندفعن خلف الجنازة يبكين وينحن نادبات.. - " يا بت الرجال وووب .. يا ست البنات وووب " . ست البنات ؟! .. ما كانت بنتاً قط .. كانت تغوص بوجهها في صدره وهو يهمس في أذنها بأشعار المتنبي وقباني ويرسم على جسدها خارطة أحلامه و لا تفهم هي سوى : - " كلامك شكلو حلو" .
كان يسألها : - " كنتي بت ؟ " . - " مابذكر .. احتمال !! " . حسن الفاضل كورينا أخذها وهي إناء شرب منه أكثر من فم. حدثته عن علاقتها بمختار ومن بعده هاشم ، وغيرهما . نصف شباب القرية مروا عليها .. نصف صغار البلد اكتشفوا مراهقتهم بين أحضانها . اليوم يبكينها النساء اللائي غرن منها على رجالهن وكرهنها حد الموت .. يندبنها شريفة طاهرة الذيل . فالموت غسل كل ذنوبها ..
رأى حنان تنسل من بين النساء وتتجه إلى الباب الخلفي وهي تمسح دموعها . - " حنان بت احسان بت حبوبتي شنتنين " هناك رابطة دم بينهم .. لم يعد بارعاً في حساب روابط الدم لكنه علم أن دماء الشبق المنتفضة في عروقه تجري بلا شك تحت جلدها . حدق فيها وهو يحس بالانجذاب . يصحو في جوفه ذكر النحلة . كانت تتلوى في مشيتها .. كأن الأرض لا تقوى على حملها.. كأنها عود برسيم يتمايل مع الرياح . انسل ورائها في خفة .. الرمال تمتد خلف البيت إلى ما لا نهاية .. لماذا اخترت الخروج من هذا الطريق أيتها الشيطانة ؟ لحق بها .. وقف أمامها وأنفاسه تتصاعد .. - " ما دايرة تشوفي الحاجات الجبتها من الخرطوم ؟! " . نظرت إليه في تردد .. قالت : - " هسي ؟؟ .. والناس ماشه الدافنة ؟! " . قال وعيناه تتقدان بالرغبة : - " و مالو؟ الحي أبقا من الميت " . بريق الرغبة التمع في عينيها لوهلة فاسدلت جفنيها عليهما .. - " صاح .. بس انشاالله تكون حاجات سمحه ما زي شغل البلد دي " . نحن على موجة واحده .. أطلق ضحكة متحشرجة .. قال : - " الشغل خليهو ساكت .. شغل الخرطوم ما زي شغل البلد الميت ده " .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
[12]
شق صوت الطلق الناري السكون .. تردد صداه عبر الظلام كأنه لن يغيب أبداً .. يرتطم بالحيطان ويرتد عنها .. لم يجد عبد الرحمن الوقت ليصرخ . انتظروا حتى تيقنوا موته .. لفوه سريعاً بكفن مرتجل ثم حملوه. في الظلام لا تميز أحداً منهم . سار الموكب متوغلاً في حلكة الصحراء مبتعداً عن البيوت . يحملون مشاعل تضئ في استحياء لكنها توفر لهم رؤية لا بأس بها . توقفوا بعيداً .. قال هاشم : - " أدفنوا الكلب هنا " . بدءوا الحفر .. صمتاً .. حين أصبحت الحفرة واسعة بما فيه الكفاية أنزلوه إليها . تبادلوا النظرات . قال مدثر : - " الحصل الليله مافي زول حيجيب سيرتو!! " . مأمون كان ينظر إلى الجسد الملطخ بالدماء تحت أقدامهم ، قال: - " الحصل شنو؟ كلب ومات " . بصق هاشم على الجثة لكن حسن الفاضل زجره .. - " الزول مات .. كده دفع حسابو كامل .. استغفر ربك يا هاشم " . حين أهالوا عليه التراب لم تتمالك محاسن نفسها .. وبعيداً على حدود القرية سمع الحاج محمد سعد العجوز المتكئ على عصاه صوت زغاريد محاسن .. حينها عرف أنهم أنجزوا الأمر .. فابتسم .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
معتصم مكاوي ...
Quote: قد لا يعرف الكثيرون أن كتابة القصيرة أصعب حالاً من كتابة الرواية |
عارفين ...
Quote: ولأني متنكب هذا المجال |
يِطرشني ...
لكِن < النكبة > بعرِفا برضو ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: محمد أبوالعزائم أبوالريش)
|
معتصم .. مرحب بيك .. بالتأكيد القصة القصيرة جنس أدبي مختلف تماما عن الرواية .. يخلط بعض الناس بينهم و يعتقدون أن القصة القصيرة استراحة للروائي .. لكن ان حاولوا ان يكتبوها سيكتشفون اي شرك دخلوه .. سعيد بمرورك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
Quote:
بعض منك لا يلقاك الا فى المداد اذ هكذا النيران تدفن عينيها فى حزن ذاكرة الرماد
(الشاعر الطيب برير ) |
قدرة ياحمور جميلة على استنباط لغة بسيطة فى مظهرها عميقة فى جوهرها ......
شكرا على نسج غروبك المشرق عندها الشمس
رواية
________________________________
كن بالف خير ... اراك فى الخرطوم بحول الله
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
بت الهنا .. تشكرات .. الجبانة نقد الله دي لغة اختصار سائدة في الشمال .. معناها الجبانة في نقد الله .. و الجبانة يعني المقابر و نقد الله اسمها .. كقولنا في المدن مثلا : الدفن في شرفي. و عادة ما يصيح الكمدان عندنا بهذه العبارت ليوضح مكان الدفن فيقول مثلا : الجبانة دنقلا .. أي ان الدفن سيكون بمقابر دنقلا العجوز و هكذا.
اما الراجل فاظنه اتكل على الله ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: معاوية المدير)
|
Quote: لكن لمثله كان فيها كل المميزات التي يريد .. الجمال .. النسب .. الثراء .. أما لها فكان هو الريفي الواعد .. شاب متوثب طموح ورسنه في يدها سلس القياد .. |
يا حمور يا رائع.. . . هل هي جدلية الريف والقرية..
أم صراع الأنثي والذكر....حتي في العناكب... . . تعليق:
Quote: قال له مأمون : - " إنت ما شفتها في البحر قبل ده ؟ " |
دة ذات مامون؟
Quote: مأمون كان ينظر إلى الجسد الملطخ بالدماء تحت أقدامهم ، قال: - " الحصل شنو؟ كلب ومات " .
. |
دي محاسن أختو؟
Quote: صوت زغاريد محاسن .. . |
.
نفس محاسن دي؟
Quote: يا لها من باسلة حنون .. |
. . لك ودي... .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
علاء الدين .. تحياتي سؤال الجدلية اعفيني منو .. كدي قلب القصة و شوف رايك انت.
بالنسبة للشخوص فنعم هم نفس الشخوص. و ككشف للحيلة المقطع الاخير ده من القصة هو القصة كلها.
شكرا ليك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: هيثم درار)
|
جاء البرسيم فى وقته لكى نتنسم عبق الربيع ... فشكرا على ذلك
بدا صراخى هنا .. وهضربتى هناك... بعض من تداعيات شخوخه مبكره و شفقه ساكت .. فعزرا على ذلك
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: صلاح أبودية)
|
Quote: كتّر من الوصف .. الوصف الدقيق يزيد أعمالك حلاوة ! ما توصف وانت ماشى .. أقيف ووصّف ! |
بصير يا صلاح .. بصير و الله. شكرا ليك فعلا دي مشكلة عندي محاول اتجاوزا و ما قادر. بسرع في الوصف حتى في الرواية. شوية شوية بديت اتحسن مؤخرا لكن ما بقدر ما كنت اتمنى. ربنا يسهل.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: حمور زيادة)
|
يا سلام عليك يا حمور .. وأنت تتجنب كلمات الإشادة والشكر فى الكوتيشن ! دى أخلاق لعيبة كبار ! ما شاء الله عليك ! الحاجة دى ما تفوتوها ساى يا جماعة ! ــــ خليتنى أحترمك أكتر !!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: البرســــيم ( قصة ) (Re: صلاح أبودية)
|
Quote: يا سلام عليك يا حمور .. وأنت تتجنب كلمات الإشادة والشكر فى الكوتيشن ! دى أخلاق لعيبة كبار ! ما شاء الله عليك ! الحاجة دى ما تفوتوها ساى يا جماعة |
أكتبوني معاكن
| |
|
|
|
|
|
|
|