دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو !
|
المعروف عن الدكتور عبدالله علي إبراهيم الرزانة في الكتابة والتحليلات العميقة والتواثيق المتعوب فيها ما إستطاع الي ذلك سبيلا ..... يقرأه الواحد منا بكل إحترام ... إتفق أو إختلف معه.
فماذا قال هذه المرة ليكون عنوان البوست بهذه الكيفية؟
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
أذكر أنني كتبت ذات مرة في معرض حديث تأريخي وتعليقاً علي ما كتبه أحد الأعضاء أن من ضمن الذين قدمهم الحزب الشيوعي شهداء من أجل الوطن الشهيدين :
- أحمد القرشي .... و - بابكر عبدالحفيظ
لهما الرحمة والمغفرة ولكل الشهداء.
* فإذا بالإتهامات تتنزل من شاكلة = القرشي لم يكن شيوعياً = الشيوعيون لصوص شهداء = =
............... إلخ
وطبعاً الكيزان كثيراً ما يقولون بأن الشهيد أحمد القرشي كان من كوادر الأخوان المسلمين.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
وتحت عنوان :
ربيع ثورة أكتوبر 1964 : يا طفلنا الذي جرحه العدا (1-30)
يكتب الدكتور عبدالله علي إبراهيم الحلقة الأولي التالية :
صارت ثورة أكتوبر 1964 سبابقة تاريخية نعرضها كسودانيين حيال الربيع العربي المتفجر. ثم بدا لبعضهم استعادتها مستلهمين ذلك الربيع بل استبطأها الكثيرون. ولكن فات على هؤلاء الثقافة السلبية التي اكتنفت الثورة حتى لم تعد سائغة إلا في أناشيدها. فصار ذكرها مقروناً ب"التخريب" لا "التغيير". فهي افسدت الخدمة المدنية وأبتدعت التطهير بل ثارت بغير سبب وجيه على نظام رحيم عليه جنرال أبوي. وشهيدها الأول مات صدفة بينما كان يحمل بشكيره إلى حمام داخلية بحر الزراف. وسلقتها الاقلام الماكرة والمضللة بأسنان حداد. واشتهر بذلك عنها غل الثورة المضادة بدلاً عن إشراقة الثورة. ظللت عبر سنيّ نظام الإنقاذ ادفع الإفتراء عن ثورة أكتوبر، بل والتهزئة بها. واستحصلت من ذلك عدد ثلاثين مقالاً أعددتها للنشر في كتب يصدر في سلسلة "كاتب الشونة". ولما هل عيدها السادس والأربعين استصوبت نشرها تباعاً. فالذين يأملون في أكتوبر قادم عليهم إعادة اختراع أكتوبر التاريخية بإماطة الأذى الكثير الذي اكتنفها: يا طفلنا الذي جرحه العدا فإلى المقال الأول:
كتب السيد احمد محمد شاموق ينعي لؤمنا في التنكر لذكرى ومغازي ثورة أكتوبر 1964. كتب عن ذلك مرتين يفصل بينهما أكثر من ثلث قرن. وأوجع شاموق في كليهما وأفجع. كتب في كتابه "الثورة الظافرة" الصادر عام 1968 قائلاً إن الثورة قد أضحت يتيماً بلا راع. وعاد يقول في 2001 أنه لم يبق منها ما يؤبه به إلا بعض الأقاويل والتساؤلات. وقد صدق. فقد كنت حاضراً ذكراها في السودان في العام الماضي. وقد رأيت كيف سفكت هذه التخرصات والشكوك مغزى الثورة حتى أصبحنا نؤرخ بها لبدء عاهاتنا جميعاً من مثل إفساد الخدمة المدنية بالتطهير الذي أعلى الولاء علي الأداء، أو فوضي القرار في مثل تبني الثورة تصفية الإدارة الأهلية التي يظن أكثر الناس الآن أنها مما لا يأتيه الباطل أبداً. وقد قلت في كلمة نشرتها بالصحافي الدولي إننا في واقع الأمر إنما نكتب نعي الثورة في حين نظن إننا نتأملها ونتملاها لفهمها في ضوء وقائعنا المعاصرة.
وبقيت الثورة أثراً في الأغاني يتوارثه الشباب. ففي استطلاع جيد بجريدة الحرية، فيما أظن، قال طالب إنها ثورة جميلة وقد سمع بها من الأغاني. واستنتج أحدهم إيجابيتها بدليل الأغنية التي تقول "جددناك يا أكتوبر في إبريل" . وقد وصفها آخر بأنها كانت عطلة رسمية قبل نظام الإنقاذ القائم. وقد أحسن الشعراء والغاوون بحفظ عطر الثورة وأشواقها للحرية. وليس بوسعهم غير هذا. فالأغاني ليست تاريخاً تسعف مثل الطالب الذي قال إن الثورة ربما نهضت ضد الإنجليز أو الأتراك والله أعلم.
وقد عجبت لهذا الجهل بثورة أكتوبر بين الطلاب خاصة. وليس منشأ عجبي من أنهم طلاب يتوقع المرء منهم أن يحظوا بشيء من التاريخ في مدارج التعليم. فأنا لست حسن الظن بالتعليم عندنا حتى أكل له حظوظ الطلاب في معرفة التاريخ. وإنما عجبي من أحزاب المعارضة التي ظلت تدعوا الطلاب آناء الهبات وأطراف المواجهات ضد حكومة الإنقاذ أن يعيدوا مأثرة سلفهم الإكتوبرية من غير اطلاعهم علي تأريخها ومغازيها. فقد جردت المعارضة الثورة من دلالاتها بعدم جعلها موضوعاً للوعي السياسي حين حولتها إلى "آلية" أو "عملاً"، في مثل الذي يكتبه أهل الشعبذة، لإسقاط النظم التي لا تجد هوي عندها. فقد قرأت يوماً عنواناً علي جريدة "الفجر" اللندنية المعارضة يقول : "الخرطوم تعيش أجواء أكتوبر" وألمحت الجريدة في صلب الخبر إلى أن الحكومة لم تتعرض إلى ندوة طلابية معارضة ما خشية أن تكون الندوة فتيل الثورة وشؤماً عليهم كما كانت ندوة الطلاب بجامعة الخرطوم علي نظام الفريق عبود. وهذا لؤم كبير لأنك تطلب من الطلاب أن يحاكوا ما كان عليه آباؤهم بغير هدى.
ويبدو أن أكبر مطلب المعارضة من الطلاب أن يفتدوا البلد بقربان منهم عسي أن "تضرب" هذه المرة أيضاً. وقد رويت في مناسبة سلفت كيف تواتي آلية أكتوبر المعارضين. فقد حمل المتظاهرون في "هبة" آخر عام 1988 ضد حكومة السيد الصادق جثة قتيل برصاص الشرطة إلى حرم جامعة الخرطوم. وقالوا إنه طالب بالاسم فيها و انتظروا الجامعة أن تمطر ثورة ثأراً لشهيدها. وسرعان ما جاء أحدهم بخبر بأن الطالب المزعوم له الشهادة حي يرزق. وشهدت بأم عيني، وليس قول قائل كما يرد في أدب الرجاحة السوداني، كيف ألقي المشيعون الانتهازيون بجثة القتيل المجهول الذي لا عاقبة ثورية لشهادته. ولم يصدر في الاحتجاج علي هذا العار العام في لقاء المتظاهرين الحاشد سوى صوت وحيد شفيف ورع قال: " إنه شهيد وإن لم يكن من جامعة الخرطوم، ياجماعة!". وتذكرت كلمة جاءت عن ماركس تنطبق علي هذه الفعلة التي يجتر الناس فيها تاريخهم بغير هدى. فقد قال في كتابه الذائع الصيت المسمي الثامن عشر من برومير ينعي علي أولئك الذين يأتون إلى المهام التاريخية الحادثة بأزياء تنكرية من الماضي. ورحم الله أخي الميمون المرحوم عبد الله محمد الحسن، الذي جٌرح في أكتوبر وكان من قادة اتحاد جامعة الخرطوم علي زمنه. فقد انعقدت آصرة الإلفة والمحبة بيننا ونحن نطالع نص ماركس ونعجب ببلاغة الرجل. وحين جئت إلى أمريكا في 1981 وجدت للكتاب صيتاً خاصاً في مناهج علم الاجتماع يقرأه طلاب الفصول الدنيا منها.
ومن الأقاويل التي ذهبت بمغزى ثورة أكتوبر أنها بنت الصدفة لم يسبقها حلم بها أوكدح لبلوغها أو سهر للدفاع عما ما اعتقد الناس أنها المبادئ الأصل فيها. فالثورة عند مروجي المقولة هي بنت لحظتها ولو لم تقتل الشرطة المرحوم أحمد القرشي طه لما قامت لها قائمة. ولكي تشدد المقولة علي عشوائية الثورة روجت أن القرشي لم يلق مصرعه في ساحة الصدام بل ناشته الرصاصة وهو في طريقه من لحمام أو إليه. وهذا تعليق سلبي حاسد لطلاب ذلك الزمن ممن كانوا يظنون فيهم الحداثة الرخوة التي أهم ما فيها هو "الحمام ونظافة الأجسام والزول يكون بسام." ولم يكن القرشي الذي عرفته لوقت قصير في أروقة رابطة الطلاب الشيوعيين بجامعة الخرطوم ممن يقتل علي حين غرة. وتلك قصة أخرى. رحمه الله.
وترتب علي الاعتقاد أن الثورة صدفت لنا أن راح بعضنا يتساءل بمرور الزمن لماذا كانت الثورة أصلاً. فقد تقطعت بنا الأسباب إلى الوطن الذي كانت أكتوبر بشارته. وسامنا حكامنا الخسف وانقلبوا بنا شر منقلب. واستعان بعضنا حتى بالانقلاب علي من انتكسوا بالثورة ليشفي الغليل. فكانت "أكتومايو" الرئيس نميري التي "شهت" الناس في عهد عبود. ثم أصدرنا طبعة لاحقة لأكتوبر بعد عشرين عاماً من صدورها في أبريل 1985. ولم تصمد الانتفاضة ولا الديمقراطية التي أعقبتها فراحت أدراج الرياح. وأذهلنتا هذا الخيبات عن أنفسنا وطارت أنفسنا شعاعاً. ولما لم يعد المستقبل حليفاً لنا تقهقرنا إلى الماضي نندب حظنا العاثر ونعتذر عن الثورة التي صدرت عنا في ساعة غضب. ووجدت في العام الماضي من لم يجد أصلاً سبباً واحداً لقيام الثورة. فقد قالوا كان زمن الفريق عبود عسلاً علي لبن من الديكتاتورية الأبوية، والحياد الإيجابي بين كتل العالم، و إرساء بؤر النهضة الصناعية. وهذا من باب إسقاط التهم بالتقادم لا لأن هذه التهم لم تقم أصلاً. فقد ساغ لنا نظام الفريق من فرط خيبتنا التي نرذل فيها عاما ً بعد عام حتى صح عندنا أن أول ديكتاتورياتنا خير من آخرها. وصح قول القائل وما بكيت من شئ حتى بكيت عليه. ولم تعد أكتوبر سوي مناسبة نقبل فيها بعضنا على بعض باللوم. وما أدخلنا في "نفسيات" هذا التبكيت علي النفس سوى ما تواضعنا عليه من أن أكتوبر كانت محض صدفة لم تتأسس علي أسباب أو أشواق أو تدبير.
Quote:
ولم يكن القرشي الذي عرفته لوقت قصير في أروقة رابطة الطلاب الشيوعيين بجامعة الخرطوم ممن يقتل علي حين غرة. وتلك قصة أخرى. رحمه الله. |
Quote:
رابطة الطلاب الشيوعيين بجامعة الخرطوم |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
Quote: * قلتم كذلك ان القرشي عضو بالحزب الشيوعي؟
بحزم:
- القرشي عضو بالحزب الشيوعي قامت اكتوبر أو لم تقم..ارجو ان تسأل الاستاذ تاج السر مكي كان معهم في تنظيم الحزب بالجامعة ولكنه لم يكن كادراً جماهيرياً معروفاً.
مع محمد ابراهيم نقد... حكاوي المخابيء وأحاديث العلن..
|
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
Quote:
ومن الأقاويل التي ذهبت بمغزى ثورة أكتوبر أنها بنت الصدفة لم يسبقها حلم بها أوكدح لبلوغها أو سهر للدفاع عما ما اعتقد الناس أنها المبادئ الأصل فيها. فالثورة عند مروجي المقولة هي بنت لحظتها ولو لم تقتل الشرطة المرحوم أحمد القرشي طه لما قامت لها قائمة. ولكي تشدد المقولة علي عشوائية الثورة روجت أن القرشي لم يلق مصرعه في ساحة الصدام بل ناشته الرصاصة وهو في طريقه من لحمام أو إليه. وهذا تعليق سلبي حاسد لطلاب ذلك الزمن ممن كانوا يظنون فيهم الحداثة الرخوة التي أهم ما فيها هو "الحمام ونظافة الأجسام والزول يكون بسام." |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
المعروف أن الدكتور عبدالله علي إبراهيم قد ترك الحزب منذ فترة طويلة وقد ترشح لرئاسة الجمهورية في الإنتخابات (المخجوجة) الآخيرة ولكنه لم يواصل نسبة لشروط الترشيح المجحفة ... وكان من الممكن أن يكون منافساً لسكرتير الحزب الشيوعي الأستاذ محمد إبراهيم نقد إذا واصلا في تلك المهزلة.
ترك الحزب ولكن لم يُعاديه كما فعل غيره ولكنه كثيراً ما إنتاشه بسهامه عبر مقالاته وكتاباته المتفرقة. وأيضاً كثيراً ما يُتهم بتوجهاته العروبية الإسلامية من البعض خاصة بعد مشاركاته في مؤتمرات الإنقاذ في سني عمرها الأولي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
مثال للذين واللائي يرون/ين أن الحزب الشيوعي لص شهداء ... هي :
الدكتورة نجاة محمود
ولحسن الحظ أنها تحترم دكتور عبدالله علي إبراهيم حسبما قرأنا لها هنا كثيراً كان آخر ما يؤكد كلامنا هذا أنها تمنت في بوست الأخ حيدر قاسم أن يفوز د. عبدالله علي إبراهيم في إنتخابات رئاسة الجمهورية (لأنه يستحق) .. هكذا قالت.
إذن ماذا قلنا؟ ..... وماذا قالت د. نجاة
- ذكرنا في بوست بعنوان : لماذا يحترم الشيوعيون السودانيون قيادة الحزب التأريخية لهذا الحد؟ التالي :
أن من شهداء الوطن الذين كانوا أعضاء بالحزب الشهيدين : - أحمد القرشي طه - بابكر عبدالحفيظ
‘ تداخل الأخ بركات الشريف بالتالي :
Quote: الشهيدان أحمد القرشي طه شهيد ثورة اكتوبر الأول والشهيد بابكر عبد الحفيظ شهيد اكتوبر الثاني لم يثبت حتى الآن أنهما شيوعيان بل كانا (Floaters) فعلي ماذا استندت في اضافتهما كرصيد للشيوعيين؟؟ |
فرددت عليه بالتالي :
Quote: الشهيدان أحمد القرشي وبابكر عبدالحفيظ متأكد من عضويتهما بالحزب كتأكدى من عضوية الكثيرين من الشيوعيين الذين قضوا نحبهم ولم ألتقيهم في حياتي وعلي من يرى غير هذا عليه اثبات ذلك. |
وآخيراً علقت الدكتورة نجاة محمود بالتالي :
Quote: ممكن نعفي ليك ديل عادي جدا سرقة الجثث عند الشيوعين
لكن عايزة اسالك وجادة جدا في سؤالي دا
هل ابوبكر صالح الشهبر ببوخارين في الحزب الشيوعي السوداني؟ |
Quote: عادي جدا سرقة الجثث عند الشيوعين |
لماذا يحترم الشيوعيون السودانيون قيادة الحزب التأريخية لهذا الحد؟
------------------------------- جئت بهذه الأمثلة حتي لا يُقال أنني إقتنصت فرصة ما جاء في مقال د. عبدالله علي إبراهيم لإثبات عضوية الشهيدين بالحزب بدون مناسبة ( فهذه مفروغ عنها) ولكن لأثبت لدكتورة نجاة وغيرها أنني لم أذكرهما حينها من فراغ .... وشاهد الإثبات عندى هذه المرة رجلاً يجد التقدير منها.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
سلام يا عاطف لن يستطيع ايا من كان ان يغير حقائق التاريخ والمعلومة ايضا مذكورة في كتاب ثورة شعب وتحت صورة القرشي مكتوب : احمد طه القرشي عضو رابطة الطلبة الشيوعيين ياخ ديل عينهم لي مصطفى سيد احمد بغني في كورال الحزب يقولو مصطفى ماعندو علاقة بالشيوعيين ______________________________
خدر زاتو ما عندو علاقة بالشيوعيين!!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: خالد العبيد)
|
العزيز خالد العبيد تحياتي بمناسبة ذكرك لإسم المرحوم الخالد مصطفي سيدأحد ... أذكر لك هذه الحكاية :
كنا ثلاثة زملاء في بيت في حالة ونسة عادية .... (وبالمناسبة أيضاً .. الإثنان الآخران أعضاء بهذا المنبر) دخل علينا ضيف كان يبحث عن أحد الزميلين .... وبعد الونسة الأولية ذكر الضيف بأنه من أقرباء المرحوم مصطفي ... وبدون أى مقدمات قال : أن مصطفي لم يكن شيوعيا علي الإطلاق .......... هكذا !
طبعاً تبادلنا نظرات الإستغراب (لأن ثلاثتنا والمرحوم الخالد مصطفي كنا في فرع حزب واحد).
المشكلة يا خالد إستكثار البعض علي أن يكون في حزب الجن ده ناس بجمال الراحل المقيم مصطفي إضافة لذلك تواضع الشيوعيين الذائد عن الحد ......... والمشكلة الكبيرة تكمن أيضاً في (كُتيب إصلاح الخطأ) ما شايف بهناك صبرى الشريف مزرزرني بيه.
ياخي في زول معانا هنا قال لينا (حُميد) ما شيوعي بل إتحادى لأنه حضر مؤتمر المرجعيات بالقناطر عندما رافق صلاح إدريس....... أسأل عبدالرؤوف جميل !
وطبعاً الذى يُصيب الإنسان بالدهشة (مُش الإستغراب) هو أن الشيوعيين ومهما علا مقامهم يشعرون بعظيم الشرف بإنتمائهم لهذا الحزب لا العكس .... (أى لا يشعر الواحد منهم بأنه أضاف للحزب بشهرته بل يشعرون بأن الحزب هو الذى أضاف لهم) .
------------------------- لكن هناك تطور في خطاب الكيزان فيما يختص بإنتماء الشهيد أحمد القرشي ... زمان كانوا يقولون بأن الشهيد كان أخاً مسلماً ولكنهم الآن يقولون بعضويته بالجبهة الديمقراطية وليس الحزب ... هذه الجبهة التي يقولون عنها أنها إسم الدلع للحزب وسط الطلاب ......... فتأمل !
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
الاخ عاطف مكاوي مسكاقمي كنا حضوراً في اكتوبر فهتفنا مع الشارع وكان القرشي شهيدنا الاول كان الجميع يهتف ... ونحن رغم صغر سننا ( كنت طالباً بالمدرسة الاولية بالصف الثالث ) كنا نهتف ايضاً فلم نتبين الخيط الابيض من الاسود واعتقد ان الجميع كان مثلي ( كهولاً وشباباً وصغاراً ) هتفنا للحرية والديمقراطية أخي عاطف ... دعني اختلف معك فاللون السياسي للشهيد القرشي لم يكن مهماً بتلك الدرجة مع اتفاقي معك في ان يعرف الجميع الحقيقة فأعتقد ان اجمل واروع ما كتبه الدكتور في مقاله اعلاه هو Quote: فقد ساغ لنا نظام الفريق من فرط خيبتنا التي نرذل فيها عاما ً بعد عام حتى صح عندنا أن أول ديكتاتورياتنا خير من آخرها |
فاليوم من فرط ما ذقنا فيه من ويل الشمولية والديكتاتورية هنالك من يتباكى على ايام الاستعمار ويقول بكل بساطة يا حليل ايام الانجليز فالانقاذ سام بنا كل انواع البؤس ( الشاف الناس دوول وشاف عبود يقول عبود كان نبي ) فأوضح الدكتور عبدالله بهذا الاستدلال الرائع Quote: وصح قول القائل وما بكيت من شئ حتى بكيت عليه |
فالتحية عبركم للدكتور عبدالله علي ابراهيم ولكم ودي وتقديري
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: حمزاوي)
|
العزيز حمزاوى لك التحايا الزاكية
Quote: فاللون السياسي للشهيد القرشي لم يكن مهماً بتلك الدرجة مع اتفاقي معك في ان يعرف الجميع الحقيقة |
لا أختلف معك في الجزء الأول من المقتبس أعلاه علي الرغم من قولك بأهمية أن يعرف الجميع الحقيقة .. (خاصة الأجيال الجديدة) وعدم إختلافي معك أوضحته في مداخلاتي السابقة أن السبب الرئيس لهذا البوست أن هنالك بعض الناس لا يزالون يتعاملون مع تزييف التأريخ سواء برغبة منهم أو بعدم معرفة للحقائق التأريخية .... وحتي لا أُتهم بأنني ممسكاً بأضعف حلقات ذكرى الثورة جئت بالإقتباسات اللازمة وروابط البوستات الدالة علي كلامي.
أما ما قلته عن مقال الدكتور عبدالله علي إبراهيم فهو صحيحاً لذلك تجدني قد قلت (نحن موعودون بسرد نحتاجه من أحد صناع ذلك الحدث الكبير) وقلت أيضاً بأنني سأسعي قدر الإمكان لإنزال كل الحلقات هنا .......... وتابع معنا هذا البوست.
مع شكرى وتقديرى لمرورك ومساهمتك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع أكتوبر 1964: الصدفة والوعد (2-30)
.. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم طباعة أرسل إلى صديق الأحد, 09 تشرين1/أكتوير 2011
[email protected]
صارت ثورة أكتوبر 1964 سبابقة تاريخية نعرضها كسودانيين حيال الربيع العربي المتفجر. ثم بدا لبعضهم استعادتها مستلهمين ذلك الربيع بل استبطأها الكثيرون. ولكن فات على هؤلاء الثقافة السلبية التي اكتنفت الثورة حتى لم تعد سائغة إلا في أناشيدها. فصار ذكرها مقروناً ب"التخريب" لا "التغيير". فهي افسدت الخدمة المدنية وأبتدعت التطهير بل ثارت بغير سبب وجيه على نظام رحيم عليه جنرال أبوي. وشهيدها الأول مات صدفة بينما كان يحمل بشكيره إلى حمام داخلية بحر الزراف. وسلقتها الاقلام الماكرة والمضللة بأسنان حداد. واشتهر بذلك عنها غل الثورة المضادة بدلاً عن إشراقة الثورة.ظللت عبر سنيّ نظام الإنقاذ ادفع الإفتراء عن ثورة أكتوبر، بل والتهزئة بها. واستحصلت من ذلك عدد ثلاثين مقالاً أعددتها للنشر في كتب يصدر في سلسلة "كاتب الشونة". ولما هل عيدها السادس والأربعين استصوبت نشرها تباعاً. فالذين يأملون في أكتوبر قادم عليهم إعادة اختراع أكتوبر التاريخية بإماطة الأذى الكثير الذي اكتنفها: يا طفلنا الذي جرحه العدا.
فإلى المقال الثاني:
أوصت ليدي لونقفورد، كاتبة التراجم المعروفة والناشطة العريقة في حزب العمال البريطاني، التي توفت منذ أيام عن 96 عاماً، بنيها وأحفادها أن يتعلموا التاريخ لأن من جهله كان كمن يأوي إلى منزل بلا نوافذ. وجهل أكثر شبابنا بتاريخ ثورة أكتوبر، ماعدا مايقع لهم من أهازيجها العجاب، ناجم من اعتصامنا الطويل بهذا المنزل الضرير. ولما لم تعد أكتوبر تأريخاً "تأسطرت"، في قول الدكتور البوني، أي صارت أسطورة. والتاريخ خلاف الأسطورة. فالأسطورة تجمد الحادثة في منشأها ولا تفتحها إلا للمنتحلين والمزايدين والمزخرفين وأرباب الطقوس. أما في التاريخ فالحادثة نهب للمستجدات تستدعيها، وتتفحصها، وتستوثق منها بلا انقطاع. ولذا استهجن القرآن أساطير الأولين لأنها مما يحجب الناس عن فعل التاريخ الذي كان يتنزل عليهم في هدي الإسلام.
وأكثر من انتفع بأكتوبر الأسطورة هي جماعات النادي السياسي المعارض للحكومات المستبدة التي تعاقبت علي حكمنا. فهذه الجماعات لا تريد من الثورة/الأسطورة غير ترويع الحكومة القائمة عسى أن تكون "البَركة" ولداًُ أيضاً. وهي لا تخشى شيئاً مثل التاريخ الذي انطوت عيه الثورة الذي هو ،بإيجاز، إمكانية بلوغ تحالف من غمار الناس والمستضعفين سدة الحكم. فالطريق الممشوق لمستقبل القوى الشعبية في مركز القرار والحكم، الذي أذنت به أكتوبر، مازال يسد حلق السياسة عندنا. فالقوى الشعبية لم تعبره إلى الغاية المنشودة. فقد ضاق صدر قياداتها بأذى الخصوم وكيدهم فتنكبت الطريق السوي إلى أزقة المغامرة بالانقلاب حيناً وبطلوع الغابة حيناً آخر حتى "انمحقوا" وبقي منهم من بقي شجاعاً قوي العقيدة شحيح الحكمة. ومن الجهة الأخرى، لم تقو قوى النادي السياسي التقليدي علي تأليف القلوب علي نظام وطني مقنع فتأرجحت بين البرلمان و"ثورات" إنقاذ لنا من براثنه بصورة صدقت عليها حجوة أم ضيبيبينة. وتريد هذه القوى إطالة عمرها السياسي بعد أن رأت منذ أكتوبر نذر نهايتها. ولذا لم تدخر وسعاً في عداء الثورة وهي طفل بعد وصورت الأمر وكأنه عداء للشيوعيين.
وربما كان في الشيوعيين ما نفَّر النادي السياسي منهم. غير أن الأمر أعمق وأدهي. والمشاهد ما انتهت إليه شيع النادي السياسي التقليدي من بشاتن وكشف حال وقد من يداويها. وقد عجبت لذوي النوايا الحسنة من الشباب والمخضرمين يعلقون آمال تجديد الوطن علي إصلاح أحزاب النادي السياسي ويتحرقون للقيادات الجديدة التي قد تسفر عن مؤتمراتها التي تأتي ولا تأتي. وقلت للسائلين من ذوي النوايا الحسنة إن جهدكم هذا، للأسف، هباء. فقد فارقت هذه الأحزاب والجماعات جادة السياسة والحكم منذ لم تتصالح مع أشواق غمار الناس وأرقهم لحياة أخري تعرف أنه ليس بوسعها حتى الوعد بها. قلت للسائلين لقد دخل هذه الأحزاب المرض الكعب ولا شفاء لها منه. وقد أعجبني وصف من راح علي اسمه بأن ما نعاني منه في محيط القيادة السياسية هو حالة تخثر. وهي بذاتها حالة الانحطاط decadence) ( التي ذمها قرامشي، الماركسي الإيطالي ذائع الصيت، وقال أنها تقع حين يسف الوضع القديم إسفافاً بلغ الحد في حين لم يأذن الظرف بعد بميلاد الوضع الجديد. وكانت أكتوبر هي لحظة ميلاد هذه الدقيقة الفاصلة في حياتنا.
وما جعل أكتوبر فينا بقايا أسئلة وتخرصات، كما قال شاموق، هو أننا جعلناه لغزاً حين قلنا أنها كانت محض صدفة وكان يمكن لها أن لا تقوم أبدا. وهكذا آوينا إلى بيتنا الذي بلا نوافذ علي التاريخ حين لم نتجه بالنظر والتحليل إلى الثورة كواقعة تاريخية متعينة في زمان ومكان وأرشيف. فليس من واقعة، مهما شذت، أعيت النظر التاريخي أو ردها كنشاز معتذراً بعدم الاختصاص. فالأصل في هذا النظر أن الحادثات، علي ما يبدوا من عشوائية بعضها، تقع بأسباب يتدرب المؤرخ في استخلاصها وتأويلها من أرشيف الحادثات الذي تنزلت فيه. فحتى واقعة القول بأن واقعة ما هي صدفة يقصر التاريخ عن تفسيرها هي في حد ذاتها مادة للنظر التاريخي. فأكثر القول أن أكتوبر صدفة عارضة مما أراد به خصوم الشيوعيين الأشداء أن يجحدوا به سبقهم بها وكسبهم منها أو ما قصد به آخرون أرفق بالشيوعيين ردهم عن الغلو والإدعاء وهم في حال سكرتهم بكسبهم وتحبيب الموالاة والإحسان لهم. وقد سبقهم الي هذا الهدي أستاذنا عبد الخالق محجوب حين قال في أول بيان له بعد الثورة باسم الشيوعيين السودانيين إنهم قوم يردون الوغى ويعفون عند المغنم. ولم يتقيد أكثرنا بهذا القبس التربوي الجميل حين ناشنا الخصوم.
لعله من الظلم الصريح أو الكسل المفرط أن ننسب أكتوبر إلى الصدفة إلا إذا فهمنا من الصدفة أنها أيضاً مما يقع لأسباب. وقد وقفت علي جدلية الصدفة والضرورة في وقت باكر في طلبي المعرفة الماركسية. فقد عرفنا عن الأستاذ محمود أمين العالم، رحمه الله، في وقت كنا نلاحق بشظف وشغف ما يكتبه علي صفحات الرسالة الجديدة والكاتب في مصر، أنه كان كتب رسالة الماجستير عن موضوعة الصدفة والضرورة. ومفاد ما قرأناه أن الصدفة حق وتقع في حساب احتمالات أريحي سخي يأذن ببدائل للمصادفة المخصوصة مثل أكتوبر في زمان آخر ومكان مختلف. ولا يغير هذا من حقيقة أن الصدفة بنت الضرورة التي تنشا عن، وتحكم، تدافع الناس في الحياة طلباً للمعاش وأملاً في المعاد. فلو لم تكن أكتوبر لكانت ديسمبر، ولو لم تكن ندوة البركس لكانت مظاهرة في أمدرمان، ولو لم يكن القرشي لكان إنسانا آخر في جماله ويقينه وشغفه بالحرية. فقد كان نظام 17 نوفمبر قد شارف نهايته بفعل جهاد قاصد ضده لقوي مختلفة الحظوظ في ذلك الجهاد. لقد دقت أزمة النظام الثورية. فلم يعد الناس يرضون بحكمه فحسب بل لم يعد هو نفسه يقوي علي الحكم لأكثر مما فعل. ومن أراد أن يسمع مثل هذا الحديث عن الأزمة الثورية من غير هذا الماركسي المحال الي الاستيداع فليقرأ كتاب هولت عن الثورة المهدية الذي تساءل فيه عن لماذا لم تقم المهدية في 1823،حين كان سخط السودانيين علي أشده علي الحكم التركي، وقامت في 1881 في ظروف لم تشتهر بسخط شديد. وجاء هولت بأسباب لذلك هي الأزمة الثورية بذاتها وصفاتها. وليرجع أيضاً من أراد الأمر إلى كتابي الصراع بين المهدي والعلماء فقد جئت فيه ببعض حديث هولت.
ومن السخرية حقاً أن يشيع الذين ما كفوا عن تزيين أدوارهم في حرب الديكتاتورية العسكرية الأولي أن أكتوبر محض صدفة. وبعبارة أخري، صح أن نسال كيف فاجأ سقوط النظام من شمر لإسقاطه وكيف أستغرب أكتوبر من رتب نفسه لها أو لشبيهات لها حتى يزيل الحكومة التي ظل يدعو الناس ويحشدهم للإجهاز عليها، ويرخص لهم تضحياتهم الجسيمة كثمن للحرية التي طرقوا بابها بكل يد مضرجة. ولا يفاجئ مثل هذا المشمر بوقوع ثورة بذل النفس والنفيس لها إلا إذا لم يصح عزمه أصلاً، أو أن بغيته كانت أن يغير من الحكم وجوهه ووجاهاته لا وجهاته ومقاصده . وكانت أكتوبر، بما تمخض عنها من حكومة شعبية جذرية المقاصد، أهلاً لتخييب ظن المعارضين في نادي الحاكمين في السودان. وقد ناصبوها العداء، وضيقوا عليها، وربطوا لها، واستنزفوها، وأحدقوا بها، وانقلبوا عليها عياناً بيانا في حكومة سرالختم الخليفة الثانية في 1965. وإذا سمي هؤلاء أكتوبر صدفة فلأنها ربما كانت أجمل من توقعاتهم كثيراً وأذكي فؤاداً وأرحم بالمحكومين الذين رأوا فيها عينة بينة علي وطن "الوجود المغاير" الذي رنا له التجاني يوسف بشير.
من قطع الوصل بين الصدفة والضرورة جعل حبل التاريخ على الغارب. فالقول بان أكتوبر صدفة هو قول لئيم وتغبيش للوعي بتأريخ فترة فيصل نشأ فيها خيال جديد لحكم الشعب بالشعب بعد أن ظل ذلك الخيال حبيس المعارضة علي آخر عهد الاستعمار وفترة الحكم الوطني. وهذا الخيال من قبيل روح الاستقلال الوطني الذي شم عبيره الشاعر المرحوم علي نور فتعارفا: كنا ننميه سراً في جوانحنا حتى استحال إلي الإشهار والعلن
فالصدفة، كخبط عشواء، لامكان لها في شغل التاريخ. أما إذا كان المعني بالصدفة تلك الواقعة الغراء، التي تتولد في كنف أسرها ومنطقها الخاص، في أشراط الضرورة التاريخية، فهي زبدة النظر التأريخي بحق وحقيق. وسيكون منطلق حديثي هنا أن أكتوبر هي ثمرة عمل سياسي تاريخي قصد إلي تغيير سياسي معلوم. وسأركز هنا علي مساهمة الحزب الشيوعي، أو مزاعمه، في التبشير والتحضير للثورة. وهذه مساهمة أزعم لنفسي حضوراً فيها ومعرفة بها لأنها مما يليني وأترك شرح المساهمات المقدرة لقوى أخرى كثيرة لمن هم أعرف بها مني متى كفوا عن شح النفس بنسبة الثورة إلى مجهول تاريخي. ولم يغفل فعل الشيوعيين القاصد لتحضير أشراط الثورة من شغف بالمفاجآت الذكية التي قد تتولد فيها لحظة الثورة نفسها. ولذا زكي لنا أستاذنا عبد الخالق محجوب في بيانه الأول المار ذكره "عبقرية الشعب" التي صدرت عنها الثورة. وهذه العبقرية معني في الولاء لعلم الشعب لم يتثبت منه المهرولون بالانقلابات لتجريع الناس غصص السعادة والتقدم ولم يثبتوا عنده.
وتمثلت مساهمة الحزب الشيوعي في التحضير لثورة أكتوبر في الأبواب التالية:-(1) انتقل الحزب من طور فضح عصابة 17 نوفمبر وتأجيج السخط عليها إلى طور تعبئة القوي الشعبية لإسقاط نظامها. فقد أبلي الحزب البلاء الحسن بتضحيات جمة لأعضائه والديمقراطيين من حلفائه في كسر رهبة النظام الباكرة حين عمد نفسه بالتشريعات المستبدة مثل قانون دفاع السودان. وهو القانون الذي استنسخته كل النظم الديكتاتورية اللاحقة. كما عمد نفسه بالدم بشنقه للضباط الذين انقلبوا عليه في 1959. (2) وكان الفيصل بين الطورين هو اقتراح الحزب الشيوعي علي المعارضة والشعب خطة الإضراب السياسي العام في صيف 1961 ليتركز عندها شغل المعارضة لغاية إسقاط النظام. (3) وعبر الحزب عن جديته في أخذ مسئوليته في إسقاط النظام مأخذ الجد بخروجه من جبهة أحزاب المعارضة التي لم تقم لها قائمة مذكورة منذ وفاة السيد الصديق المهدي في 1962.فلم يرد الحزب أن يمني الناس الأماني عن جبهة عاطلة. (4) وقرر الحزب أنه طالما رهن مهمة إسقاط النظام بالقوي الشعبية فعليه حفزها لاستعادة منابرها النقابية. وزكي لها ألا تخشى القوانين الجائرة التي ستحكم نشاطها لأنه لم يعد بوسع النظام المنهوك القرار لوحده في آفاق نشاط القوى الشعبية إذا صممت وعزمت وتوكلت. (5) وقرر الحزب في نفس السياق أن يدخل انتخابات المجلس المركزي الذي هو صورة النظام لمسخ الديمقراطية التي كانت مطلب خصومه. وكانت أقوى حجج الحزب على ذلك أن المجالس المحلية والريفية، وإن زجها النظام في مسخه للبرلمان الوطني العام، هي منابر انتخابية أصيلة للتأثير في السياسات المحلية التي هي أكبر هموم الناس. (6) وكان الحزب قبل هذا كله قد أقبل علي ترتيب بيته الداخلي يضمد فقد وجراح فترة تعرية النظام بثمنها الباهظ. وكان هذا وقت صدور مساهمة أستاذنا عبد الخالق الرائدة في كتابة تاريخ الحزب ، المعنونة لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، ليقف عليه "جيل التضحيات" من التابعين الذين جذبتهم إلي الحزب حربه الهميمة للنظام المستبد ولم تتح له معرفة أبلغ بماضي الحزب أو وجهاته المستقبلية. كما صدر لأستاذنا كتابه نحو إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري لتربية الأعضاء في ما أسماه ب"عبقرية الشعب" كما مر ذكره.
وحفت منذ حين بهذه الإجراءات التكتيكية والفكرية شبهات الخصوم وأسئلة المتسائلين وضجر الطالعين من الشباب ممن ورثوا الشبهات والأسئلة ولم يعنهم أحد على فض مغاليقها. فلم يتفضل عليهم الحزب الشيوعي حتى بإعادة طبع كتابه الوثائقي الحسن ثورة شعب الذي صدر مرة واحدة في 1965 وكفي الله المؤمنين القتال. فلو قرأه الجيل الحدث لما قبل ما يشاع من رحمة النظام النوفمبري وعمرانه وهو الذي قتل النفس، وأشعل فتيل حرب الجنوب التي لم تهدأ بعد، وقتل الأنصار في مولد أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم، وهتك أعراض البنات والأولاد، ونزع الناس عن أوطانهم الصغيرة بليل, وبدأ به هوان الاعتماد علي الغير بقبول المعونة الأمريكية بغير حاجة إلا لزوم البيعة لدولة كبري في دراما الحرب الباردة ، وترك لنا ديناً خارجياً مقداره 300 أو نحوها من الجنيهات الإسترلينية، وحجر علي الصحف حتى الخوض في شأن الهلال والمريخ. مالكم كيف تحكمون؟ ولو أعاد الحزب أو غيره طبع الكتاب لنفع الناشئة وغير الناشئة فالرجاء أن يلقي بالاً لما كتبه السيد علي محمد بشير عن قريب من أن هذا السفر القيم قد خلا من كل ذكر للمرحوم قاسم أمين . ولو صح زعم علي لكان إهمال ذكر قاسم، الذي لم يكن في أفضل مقاماته في الحزب آنذاك، في الكتاب مأثرة في سوء الزمالة. فلو هون الناس دور الشيوعيين وبخسوه في ثورة أكتوبر فقد سبقهم الشيوعيون إلى الإزراء بواحد من خيار خيارهم. وكما تدينوا تدانوا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عمار محمد ادريس)
|
العزيز عمار تحية طيبة
أولاً : شكراً علي هذه الهدية التي كنت أبحث عنها كاملة لأنني إستمعت لمقتطفات منها فقط ثانيا : وقبل الإستماع للأشرطة كاملة أقول لك بأن الموضوع ما كان مستحق أن نكتب عنه لولا عملية إستكثار البعض علي الحزب بعض المبدعين والمشاهير ... لأنه في المقابل لا يستكثر الشيوعيون علي الآخرين مبدعيهم ومشاهيرهم ... ثم أن المعروف عن الشيوعيين أنهم لا يندلقون علي الكم بدون قناعات لأن دروبهم شاقة ومحفوفة بالصعاب والمخاطر لذلك نجد لفظ أصدقاء الحزب مطروق عندهم بشدة ....... وأقرب مثال شخصي الضعيف.
وحميد أعرفه معرفة شخصية لدرجة تمكنني من أن أقول أنه صديق ... لذلك كنت مستغربا لذاك القول.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
اخى عاطف شكرا لهذه المقالات المهمه. كنت فى السنة الرابعة اوليه فى مدرسة الخرطوم شرق الاوليه عندما حدثت ثورة اكتوبر وتم اغتيال الشهداء احمد القرشى الحسن,وبابكر حسن عبدالحفيظ,واصيب بجراح قتلته فيما بعد الديبلوماسى عبدالله محمد عبدالرحمن. كان هناك العديد من ابناء اساتذة واداريين جامعة الخرطوم,وعدد من ابناء اعضاء المجلس العسكرى وكبار ظباط الجيش والشرطه. دار صراع فيما بيننا يوم 22/10 وكونا لجنة دعم للثوره والطلاب. اذكر من اعضاء اللجنه الدكاتره الأن عادل النجومى,كمال أحمد خوجلى,والمرحوم الفاتح النذير دفع الله. رغم اننى كنت فى سن العاشره فقد علمت آنذاك من بعض اقاربى وقريباتى طلاب الجامعه إن الشهيد القرشى عضو فى رطش,والشهيد بابكر عبدالحفيظ فى الجبهة الديمقراطيه,والشهيدعبدالله محمدعبدالرحمن لتنظيم الاشتراكيين العرب. مع ودى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: Elmoiz Abunura)
|
Quote: علمت آنذاك من بعض اقاربى وقريباتى طلاب الجامعه إن الشهيد القرشى عضو فى رطش,والشهيد بابكر عبدالحفيظ فى الجبهة الديمقراطيه,والشهيدعبدالله محمدعبدالرحمن لتنظيم الاشتراكيين العرب. |
الزول الزين العزيز المعز أبونورة تحياتي ومشتاقين يا رجل واللهم تقبل الوالدة قبولاً حسناً
وبعد
شكراً علي المعلومات القيمة فقط لابد من توضيح للأجيال الجديدة من القراء .... فكلمة (رطش) تُكتب إختصاراً ل (رابطة الطلاب الشيوعيين).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964: عبد الخالق محجوب مايسترو التكتيك (3-30)..
بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم الإثنين, 10 تشرين1/أكتوير 2011
ربيع ثورة أكتوبر 1964: عبد الخالق محجوب مايسترو التكتيك (3-30)
[email protected] قلت في ما مضى من حديث أن القول بأن ثورة أكتوبر 1964صدفة صدفت هو قول لا بأس به إذا اقترن بإدراك أن الصدفة هي بنت الضرورة وتقع في منعطف غميق من منعطفاتها الملغزة. أما إذا أراد القائل أنها صدفة وقعت هكذا من غير فعل فاعل فالقائل ذو أجندة في تفسير التاريخ صالحة للنظر والتأمل في حد ذاتها. وقلت إن جماعات كثيرة قاومت النظام العسكري وخلقت بذلك أشراط سقوطه ولم يبق بعد إلا لحظة قدح الشرارة التي لايتنبأ بها متنبيء لأن تلك اللحظة واحدة من لحظات تجل عن الحصر. وقلت إنني ساتحدث عن دور الشيوعيين في الثورة لأنني قد أحسن بيانه دون غيره من الأدوار. ولما كان هذا الدور قد خضع في رصد وقائعه وتفسير مغازيه للعدو والصليح فقد قدرت أن الأفيد للقاريء أن القي الضوء عليه من خلال مناقشة الشبهات التي حفت به. وكما سيرى القاريء أن ليس كل هذه الشبهات من صنع الخصوم أو المنافسين للحزب في مقامات السياسة. فبعضها جاء ممن لم يزل شغل هذا الحزب أكبر همه.
تمثلت مساهمة الحزب الشيوعي في التحضير لثورة أكتوبر في الأبواب التالية:
-(1) انتقل الحزب من طور فضح عصابة 17 نوفمبر وتأجيج السخط عليها إلى طور تعبئة القوى الشعبية لاسقاط نظامها. فقد أبلى الحزب البلاء الحسن بتضحيات جمة لأعضائه والديمقراطيين من حلفائه في كسر رهبة النظام الباكرة حين عَمَّد نفسه بالتشريعات المستبدة مثل قانون دفاع السودان الذي استنسخته كل النظم الديكتاتورية اللاحقة. كما عمد نفسه بالدم بشنقه للضباط الذين انقلبوا عليه في 1959.
(2) وكان الفيصل بين الطورين هو اقتراحه على المعارضة والشعب خطة الإضراب السياسي العام في صيف 1961 ليتركز عندها شغل المعارضة لغاية اسقاط النظام.
(3) وعبر الحزب عن جديته في أخذ مسئوليته في إسقاط النظام مأخذ الجد بخروجه من جبهة أحزاب المعارضة التي لم تقم لها قائمة مذكورة منذ وفاة السيد الصديق المهدي في 1962.فلم يرد الحزب أن يمني الناس الأماني عن جبهة عاطلة.
(4) وقرر الحزب أنه طالما رهن مهمة اسقاط النظام بالقوى الشعبية فعليه حفزها لاستعادة منابرها النقابية. وزكي لها ألا تخشى القوانين الجائرة التي ستحكم نشاطها لأنه لم يعد بوسع النظام المنهوك القرار لوحده في آفاق نشاط القوى الشعبية إذا صممت وعزمت وتوكلت.
(5) وقرر الحزب في نفس السياق أن يدخل انتخابات المجلس المركزي الذي هو صورة النظام لمسخ الديمقراطية التي كانت مطلب خصومه. وكانت أقوي حجج الحزب على ذلك أن المجالس المحلية والريفية، وإن زجها النظام في مسخه للبرلمان الوطني العام، هي منابر انتخابية أصيلة للتأثير في السياسات المحلية التي هي أكبر هموم الناس.
(6) وكان الحزب قبل هذا كله قد أقبل على ترتيب بيته الداخلي يضمد فقد وجراح فترة تعرية النظام بثمنها الباهظ. وكان هذا وقت صدور مساهمة أستاذنا عبد الخالق الرائدة في كتابة تاريخ الحزب ، المعنونة لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، ليقف عليه "جيل التضحيات" من التابعين الذين جذبتهم إلى الحزب حربه الهميمة للنظام المستبد ولم تتح له معرفة أبلغ بماضي الحزب أو وجهاته المستقبلية. كما صدر لأستاذنا كتابه نحو إصلاح الخطأ في العمل الجماهيري لتربية الأعضاء في ما أسماه ب"عبقرية الشعب."
وسأركز في كلمتي الأخيرة هذه على الشبهات التي طالت دخول الحزب انتخابات المجلس المركزي والتي عدته طلاقاً للنضال ومهادنة للنظام العسكري. وقد جاء آخرون بدلائل أزيد على تفريط الحزب في المقاومة مثل لومه لخروجه على جبهة الاحزاب المعارضة المعروفة مؤثراً السلامة ومهادنة النظام. ولم تشب الاضراب السياسي شائبة إلا ما كان من تسفيه رفاقنا في القيادة الثورية للحزب الشيوعي (المرحومان يوسف عبد المجيد كمرات "رفيق" وأحمد الشامي) له وهو طفل في الرحم. وقد قر رأيهما أن الحكم لن يزول الا بالثورة المسلحة ينهض بها فقراء الريف وأجراؤه على النسق الصيني.واختارا الخروج من الحزب في ثلة من الناس في 1963. وددت لو أننا اعتنيا بدرس تكتيك الاضراب السياسي بما تجاوز مردوده السياسي إلى أصوله في حيل الاضراب العام المعروفة في سيرة الحركة العمالية العالمية مثل الذي وقع في انجلترا عام 1926. ومن شأن هذا المبحث أن يوطننا في نظرية وتقنيات هذا النشاط العظيم الذي أزلنا به طغمتين من الطغاة. وآمل أن أعود إلى المسألة يوماً قريباً.
قال السيد الصادق المهدي إن للشعب السودان عبقرية في الإنتفاض على الظلم والظالمين غابت أحياناً على حزب ثوري مثل الحزب الشيوعي حين قبل ان يدخل إنتخابات المجلس المركزي لنظام الفريق عبود في 1963 يأساً من ليل الطغيان الذي طال. والسيد الصادق من أفضل نقاد الشيوعيين من جهة المغامرة في المسارعة الي الحكم. ولكن في وصفه دخول الحزب الشيوعي انتخابات المجلس المركزي باليأس تجاوز للحق. ومن المؤسف أن يسبق السيد الصادق إلى هذا التقدير المجانب كل من السيدين أحمد سليمان والتجاني الطيب ممن عاصرا الحدث وساهما في تشكيل نظريته وممارسته لمنزلتهما في الحزب آنذاك. فقد قال الأول في معرض ذم أستاذنا عبد الخلق محجوب أن الحزب الشيوعي قد سقط في حبائل سوء تقدير الظروف ووزن النتائج في مثل دخوله انتخابات المجلس المركزي حين أجمعت البلاد على مقاطعته. والمعروف للقاصي والداني أن أحمد يكتب ما يكتب تنصلاً عن جاهليته الأولي، الطويلة نوعاً ما، في سلك الشيوعيين. ولأنه ممن يكتب طلباً لتطهير النفس من الادران وشغفاً بالغفران على زلاته فلربما لم يول حقائق المسألة مايوليه المؤرخ. فالمؤرخ لا يلتزم الحقيقة فحسب وانما يتدرب على طلبها ويعرفها إذا انطلت عليه ونبهه منبه لها بذهن مفتوح. ولذا فشهادة أحمد عندي معيبة ومجروحة وكفي. ولكني استغربت تنصل التجاني، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، عن دخول الشيوعيين تلك الانتخابات لقوله في ندوة بالقاهرة عام 1993 إنها مما وجب على حزبه أن يعتذر عنه من أخطاء سياسية أخرى. وماكنت أريد العودة الي سوء تقدير التيجاني هذا، وقد لفت النظر اليه في حينه، لولا توضيحه لحديث القاهرة في جريدة الميدان (نوفمبر 2000) في معرض الرد على مؤاخذة له من "الزميل صالحين" في عدد سلف من الجريدة. فقد قال إنهم شاركوا في الانتخابات لأن أحزاب المعارضة لم تأخذ باقتراح الحزب بمعارضتها بقوة كسابقة مقاطعة انتخابات الجمعية التشريعية في 1948 أو الشيوعيين الروس لدوما (برلمان) القيصر في 1905. وقال إنهم دخلوها واستبسلوا في فضح المجلس المركزي والحكومة إلا أن "الجماهير لم تتجاوب معنا. ففي غمرة تمسكنا بتجارب من ظروف مغايرة نسينا مزاج الجماهير."
من الانصاف للحزب الشيوعي أن نأخذ خطته لدخول انتخابات المجلس المركزي في إطار تكتيكه الأساسي لاسقاط نظام عبود عن طريق الإضراب السياسي العام الذي تبناه في صيف 1961. وقد استبق بيان الحزب بشأن دخول الإنتخابات كل المتأخرين الذين عابوا عليه هذا الدخول. فقد نقد البيان المجلس المركزي حتي أنه لم يترك له جنباً يرقد عليه. وواصل قائلاً إنه لا يريد بدخوله أن ينقطع عن العمل مستقبلاً مع المعارضين الذين لم يروا رأيه. وقد سبق أن دعاهم إلى المقاطعة بالمواجهة ولم يقبلوا. وهم أحزاب جمهرة مشدودة لها بإرث وليال وبراق وراتب وهلمجرا وقل من يسألها من شيعتها إن سوفت أوحزمت . أما الحزب الشيوعي فجمهوره مايزال طي المستقبل وهو لن يتوانى في استيلاده من هذا الرحم بكدح يومي يأخذ في الاعتبار استعداد هذا الجمهور السياسي ليتدرج به وحاجياته ليوسعها ويجملها. وقد عاد أستاذنا عبد الخالق الي الفرق بين الجمهور الموروث و المستولد في كتابه قضايا مابعد المؤتمر الرابع في 1968. أما أميز ما جاء في بيان الحزب بصدد دخول الانتخابات فهو قوله إنه لا دخولها ولامقاطعتها ببديل عن تكتيكه الجوهري لإسقاط النظام عن طريق الإضراب السياسي العام. فالدخول أو المقاطعة السلبية، أياً اتبعت، هما حيل صغرى عند أم الحيل: الاضراب السياسي العام. والذي يتوقف عندهما (الدخول والمقاطعة) ليرسم الخط الفاصل بين الوطنية وخيانتها أو الشجاعة والجبن فهو من ذوي الكسب المبخوس في علم الدبارة (التكتيك) لأنه اشتغل بمفردات الأداء السياسي أو شجيراته وخفيت عنه مشمولاته أو غابه.
ولا ادري لماذا خص التيجاني واقعة قبول الدخول في انتخابات المجلس المركزي بالاعتذار دون قبول الحزب بالعمل في النقابات والاتحادات بقوانين جاحدة استنها نظام عبود. وكان الحزب هو نفسه قد عبأ الناس ضد فسادها وطغيانها. فقد زكى الحزب للعمال أن يقيموا نقاباتهم على سنة قانون 1960 الجاحد لحقوق عمالية كانت لهم في قانون 1948 الذي كان عليه العمل قبلاً. كما زكى لنا في حركة الطلبة أن نرتضي (وهو فعل مناتقة ومجابدة كما في قول للصديق خالد فتح الرحمن) القانون رقم 9 لسنة 1960 الذي سنه النظام لإبعاد الطلاب من العمل السياسي. وقد رفضه الطلاب من أول يوم وألفوا إتحاداً سرياً كان لي شرف العمل فيه في أكثر سنيه. ولم تكن دعوتنا، نحن الشيوعيين، للطلاب لقبول القانون المنبوذ بالسعيدة. فقد آذانا الاخوان المسلمون وأشياعهم حد الإيذاء واتهمونا بالزيغ عن الحق وطلب العافية من مواجهة النظام. وأصبح ترويجنا لقبول القانون رقم 9 على علاته "نعلة لنا" في قول بنت خالة لي رحمها الله. ومن طريف ما اذكر في خصوص هذه "النعلة" أن زميلنا المرحوم الشيخ رحمة الله زَيَّن قبول القانون في إجتماع لمجلس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بقوله إن القانون به "جوانب مشرقة" لكفالته حق التنظيم للطلاب على الأقل. ولم يزن المرحوم كلمته لأنه جاء بعبارة مما كنا نتدواله في هيئاتنا الحزبية والجبهة الديمقراطية وفراكشناتنا بغير رقيب. ولم يتوقع أولئك الذين نشأوا على مقت القانون هذا الغزل الشيوعي فيه. فصارت "قانون 9 (بالانجليزي) له جوانب مشرقة" دعاية ضدنا. و"نعلة." وصبرنا وصابرنا حتي قبل الطلاب بالقانون أو نحوه عام 1963 وسافر لجنته في زيارة لإنجلترا لتقف على مجريات العمل في اتحادات الطلاب هناك. وهي اللجنة (أو التي بعدها) التي ينسب اليها تفجير الثورة في جامعة الخرطوم. وبالطبع لم يلاق العمال عنتاً كبيراً في ارتضاء قانون 1960 للنقابات لخبرتهم السابقة في العمل في إساره وتطويعه حتي ضاق به النظام خالقه ذاته كما حدث على أيام اضراب نقابة عمال السكة الحديد في 1961 التي حلها النظام حتي بعد أن ارتضت أن تقوم بمقتضى القانون الجاحد. وكان قيام المرحوم الشفيع أحمد الشيخ على أمر العمال سبباً ضخماً في يسر مهمة رفاقنا بين العمال حتي انتصروا نصرهم المؤزر في أغسطس 1964 بإنتخاب الشفيع سكرتيراً عاماً لاتحاد العمال تحت عين النظام المقيت .
وصفوة القول إن دخول الشيوعيين انتخابات المجلس المركزي كان باباً في القبول بشيء من "الدنية" في جهادهم يوفرون به أدوات للعمل السياسي والاجتماعي مألوفة ومشروعة لغمار الناس. وهي أدوات مدخورة لغاية اسقاط النظام بعد أن تسترد القوى الشعبية بها صوتها وفعلها في السياسة بعد استكمال عملية "التأجيج والفضح والعزل" للنظام. وهي عملية باهظة بخسائرها في الأنفس والمنابر. وظل الحزب الشيوعي يشكو مما ترتب على جراءته في خوضها من نقص في الكادر والتربية حتى في مؤتمره الرابع في 1967 . وخطة الحزب الشيوعي هذه سماها مرة الدكتور نوري الامين، الذي هو أخبر بالشيوعيين مما يظنون، "بتقويض النظام العسكري من داخل المؤسسات المنتخبة." وكان اختيار المجلس المركزي، الذي لا سبيل للشيوعيين أن يفوزوا بشيء معلوم منه وإن حلموا، كمنبر لهذا التقويض لسببين. أولهما أن تكون مناسباته الانتخابية نفسها ساحةً لعمل مقاوم جريء ومشروع إما قبل به النظام المزنوق وبلغت رسالة المقاومة الناس على رؤوس الاشهاد فتشجعوا وأمِلوا في التغيير. وإما ضاق النظام بواسعه وتفرعن وهكذا نكون قد أوصلنا الكذاب إلى بيته. وقد أبلى الشيوعيون في هذا التأجيج القانوني بلاءاً حسناً. وكنت رغبت أن يكتب زميلنا العتيد عبدالله عبيد والأستاذ فاروق ابو عيسي، مرشحا الشيوعيين في الثورة والعرضة بأم درمان عن تلك الايام التي شتما فيها الديكاتورية العسكرية من خشم الباب وليس على الحيطان بعد انقطاع الحركة:
الله أكبر هذا الروح أعرفه إذا تذكرت أيامي ويعرفني
كنا ننميه سراً في جوانحنا حتى استحال إلى الاجهار والعلن
كما اختار الشيوعيون العمل من خلال المجلس المركزي لسبب جئت به في الحلقة الماضية. فقد بنى النظام المجلس المركزي، بحسب توصيات لجنة كان أنشأتها الحكومة برئاسة رئيس القضاء أبورنات، على هرم قاعدته المجالس المحلية بلدية وريفية، التي يجري التعيين والانتخاب لها أيضاً. وهذه المجالس تنتخب بدورها مندوبين لها في مجالس المديريات وتعين الحكومة بعضهم. وفي رأس الهرم يأتي المجلس المركزي المكون من مندوبي مجالس المديريات ومن تعينهم الحكومة. ونظر الشيوعيون إلى هذا الكيان الخليط على مستويين. فهو عندهم مجالس محلية في الحضر والريف وبرلمان حكومي. وقر رأيهم أن المجالس المحلية حق مسلوب للشعب ولا يصح لسياسي يريد حضوراً بين الشعب وكسباً لطلائعه أن يقاطع هذه الأدوات المستردة التي فيها جماع الخدمات. ومن قاطع هذه الأدوات لأنها تلوثت بما يكره كسياسي مثل المجلس المركزي فهو كمن يدلق الوليد مع الماء الذي غسلوه به كما في حديث أهل الإنجليزية. ولذا قال بيان الحزب بشأن انتخابات المجلس المركزي إن حجب الشعب عن استرداد مجالسه المحلية، التي ليست منحة من أحد، عمل عاطل عن الحكمة. وإن استنكاف الجمهور نفسه من المساهمة في نشاط ما لا يسمح الظرف بغيره ليس حجة في الاستحياء عن قولة الحق له. فقولة الحق من تبعات القيادة أحياناً اذا لم نرد لها أن تكون مجرد مايطلبه المستمعون. وقد كافأ مركز الرئيس كنيدي هنا هذا العام جماعة من قادة العمل السياسي والمدني لأنهم سبحوا عكس تيار ماتواضع عليه الناس، وقبلوا العزلة لحين، حتي بلغوا بهم اليابسة. ومن أولئك عمدة مدينة صغيرة لم يسمع نصح أهله بألا يسمح للمسلمين ببناء مسجد لهم في المدينة. واحتكم العمدة الى الأصل في عقائد امريكا في الحريات المدنية وتعالى على بغضاء قومه الدينية. وأراد مركز كنيدي بجوائزه للقادة الشذاذ هؤلاء أن ينبه إلى طلائعية القيادة بعد أن أصبحت مسابقة في ارضاء اللوبيات وخضوعاً لاستطلاعات الرأي العام. وأما المجلس المركزي نفسه فقد استثقله الحزب الشيوعي ووصفه بأنه حلقة أخرى من المجالس التمثيلية الكاذبة التي خبرناها كالجمعية التشريعية وأنه مما أوصى الرئيس كندي نظام عبود به حتي يرفع الحرج عن أمريكا في التعامل معه. ورأى في خوض الانتخابات سبيلاً للمزيد من محاصرة النظام. هل تنبه القاريء الي ورود اسم كندي مرتين في هذه الفقرة. فتأمل.
وددت لو أن التجاني توسع في حيثيات اعتذاره عن دخول حزبه المجلس المركزي حين عاد إلى المسألة في عام 2000 للرد على مؤاخذة الزميل صالحين. ولكنه اكتفي بإيراد فكرته الأولي التي أذاعها في 1993 . فقد كان من رأيه أن الجماهير لم تتجاوب مع الحزب في المساهمة في الانتخابات لأنه لم يسترشد بمزاجها في غمرة تمسكه بتجارب الغير من ذوي الظروف المغايرة. فلو أراد بالغير الماركسيين الروس كما يوحي قوله في موضع آخر يكون التجاني قد ظلم حزبه والغير معاً. فقد كانت للروس ظروف ساوموا فيها وقبلوا ب"الدنية" في جهادهم الى حين وظروف أخرى استعلوا فيها على المقايضة السياسية. ومدار هذا الحديث كما لايخفي على التجاني هو مقالة لينين "عن المساومة" المكتوبة في 1917 و التي اقترح علينا الحزب قراءتها آنذاك حتي نٌقَعد تكتيك دخول المجلس المركزي على خبرة الروس المركزية في أفهامنا آنذاك. فقد قبل الروس دخول الدوما القيصرية الرجعية الثالثة والرابعة عن جبر لأن توازن القوى لم يكن يسمح لهم بعمل ثوري مباشر. وكان عليهم أن يصبروا ويصابروا حتي تسنح تلك الفرصة. كما قبل الشيوعيون الروس طواعية في 1917 أن يهادنوا حكومة الحلف الخليط الذي جاء إثر الثورة الأولى قبل انتفاضة الشيوعيين عليه في أكتوبر من نفس العام. وكانت المساومة مقايضة: يكون الحكم خالصاً للحلف في حين يزوال الشيوعيون نشاطهم الجماهيري بغير حدود. ومن الطريف أن لينين قد نقض هذه المساومة يوم انتهى من شرحها في رسالته القصيرة لأن الحلف لم يلتزم بما وعد. وكان الدرس المستفاد، لشباب مسخن/ثوري مثلنا امتزجت المقاومة عنده بمقتضيات "الرجالة" الدارجة، أن المساومة أيضاً فرض على الثوري متي استدعاها الظرف. ففي قول لينين ليس الثوري من تفاخر بأنه لن يساوم أبداً ولكنه الذي يعض بالنواجذ على مبادئه وهو يساوم متى كان لا مهرب له من المساومة. ومدار المساومة الظرف السياسي المخصوص الملموس وقد فهمنا ذلك. وجاء بيان الحزب كما مر وكله نظر للظرف السوداني المخصوص. ولا أدري لماذا اختار التجاني نسبة هذا النظر الرشيد الى إيعاز خارجي بينما هذا الموعز نفسه قد جرب خيارات المساومة والمقاومة جميعها بنظر لظرفه الذي رأيناه يتغير في طرفة عين.
حمل الاستاذ احمد محمد شاموق خطة الشيوعيين في التأني في مداكمة النظام بلا هوادة إلى العمل على مراكمة القوي للهجوم النهائي عليه بأنها مهادنة أو ملاطفة للنظام ترتبت من جملة اعتبارات. فهي إما أثر من ما أصابهم من رهق من جراء طول صراعهم مع "عصابة 17 نوفمبر" التي اعتقلت قادتهم وكشفت أوكارهم فأرادوا الخلود "إلى نوع من الإستجمام والراحة". أو أنهم أرادوا بمصانعة النظام مناصرة المعسكر الإشتراكي حين مالت العصابة إلى الرئيس اليوغسلافي توتو والحياد الإيجابي واعترفت بالصين الشعبية وعقدت اتفاقات للنفع المتبادل مع الاتحاد السوفيتي. ومن شواهده على مهادنة الحزب للنظام أنه اعتزل الجبهة الوطنية المعارضة في يناير 1963. وسأضطر الي القول إن في تحليل شاموق تخليط كثير معذور لأنه كتبه وهو في أول الشباب وتحت تأثير "خط" جبهة الميثاق الإسلامي التي ألحت على تهافت الشيوعيين على نظام عبود وتفريطهم في تبعة مقاومته.
اعترف النظام بالصين الشعبية في عامه الثاني ولم تشفع له هذه الخطوة غير المسبوقة كثيراً عند الشيوعيين أبداً. وقد روى الأستاذ محمد سعيد محمد الحسن مؤخراً ملابسات هذا الاعتراف. وهي ملابسات مفرطة في السذاجة. فقد قال إن السيد مهدي مصطفي ، الدبلوماسي بالخارجية آنذاك، اقترح على المرحوم أحمد خير، وزير الخارجية، أن يتضمن خطاب العيد الأول للانقلاب اعترافاً بالصين. وكان مهدي من ضمن لجنة كٌلفت بإعداد الخطاب ووجده ماسخاً فأراد أن يفلفله ويبهره بشيء ذي دوي كالاعتراف بالصين الذي كان يجنن بوبي أمريكا. ولم يكن للصين هذه الدالة على شيوعيّ السودان منذ افترقت مع الاتحاد السوفيتي في حين حلق الحزب الشيوعي في سرب السوفيات. وسيشهد عام 1963 انقسام أحمد الشامي ويوسف عبدالمجيد كمرات المتهمين بالميول الصينية. ولم تغفر الصين للحزب الشيوعي انحيازه للسوفيات. فلما بطش نميري بالشيوعيين عام 1971 لم يطرف جفن للرفاق الصينيين وواصلوا ودهم مع نميري وبالغوا. واستطراداً، فقد قيل إن الرفاق الصينيين استثقلوا وجود المرحوم معاويه ابراهيم سورج (الذي خلدت اسمه محطة البص المعروفة في أركويت)، الذي خرج على قيادة استاذنا عبدالخالق في 1970 وأصبح وزيراً للشؤون الخارجية في دولة النميري، في اجتماع لهم مع الحكومة السودانية في بكين. وقد ذكر الصينيون لمعاوية تلك الأيام حين كان مندوباً للحزب الشيوعي في الخارج وكان يغشى اجتماعات الأحزاب الشيوعية ويصلي الصينيين نارا. وقيل إن الصينيين وصوا بإزاحة معاوية عن هذا المنصب الحساس إذا أراد السودان خيراً منهم. وفعل النميري بما أمروا. ولا أدري كيف جاز لشاموق الشباب الباكر أن يصور علاقة عبود بتيتو كطعم أغرى الشيوعيين بملاطفة النظام. والمعلوم أن الشيوعيين في السودان كانوا سئّ الظن بتيتو وعصبة الشيوعيين اليوغسلاف مثلهم في ذلك مثل سائر الحركة الشيوعية العالمية التي رمت تيتو بالزيغ. وعليه فلربما كان تودد عبود إلى تيتو سبباً لنفور الشيوعيين منه لا القربى.
وظن شاموق الشاب كذلك أن الشيوعيين هادنوا نظام عصابة نوفمبر توقيراً للاتحاد السوفيتي الذي اتسع له السودان بفضل نظام العصابة. وهذا مأخذ بعيد. فلم يعرف عن الحزب الشيوعي أنه إمعة السوفيات. وقد لفتت هذه الاستقامة نظر الاستاذ فؤاد مطر الذي ربما افتقدها، أو لم يجدها بذات الحضور والقوة، في أحزاب الشام الشيوعية فنوه بها مرات عديدة في كتابه الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر . وخير مرجع للباحث في شأن تجربة الشيوعيين عندنا في التعامل مع نظام وطني مستبد ذي علائق حسنة مع الإتحاد السوفيتي "العظيم" هو كتاب الماركسية وقضايا الثورة السودانية. والكتاب عبارة عن التقرير الذي أجازه المؤتمر الرابع للحزب في 1967 ولخص فيه خبرته وكسبه خلال سنوات دولة نوفمبر بما في ذلك موقفه من دولة عبود التي حظي السوفيات بنصيب من ودها. وقد خصص الكتاب لذلك باباً بين صفحتي 113و 114. فقد استبشر الحزب في تقريره بعلائق النفع المتبادل بين الطغمة السودانية والسوفيات ورأى أنها، على علاتها، قد تكون نافذة يرى من خلالها الناس عدل الاشتراكية في العقود ومهارتها في المنتوج. غير أن مربط الفرس في رأي التقرير أن الحزب الشيوعي السوداني، وحده لا غيره، هو الذي يبني خطته السياسية تجاه النظام القائم في بلده. وقال إن مقدم السوفيات إلى البلاد لم يدفع بالحزب في طريق التعامي عن الوضع الطبقي في البلاد باعتبار أن "العلاقات الإقتصادية مع المعسكر الإشتراكي ليست مقياساً لتقدمية هذا النظام أو ذاك". فالذي يحكم مواقف الشيوعيين من النظم السياسية في أوطانهم هو تحليلهم الطبقي المستقل لها ولوجهاتها في السياسة.
ولا أذكر على أيام جهادنا في صفوف الحزب أن كان تعامل السوفيات مع النظام شاغلاً لجهة الصلح مع النظام. ولا اخفي أنه ربما كان محرجاً لنا بعض الشيء. فليس يريد من كان في سننا الميالة إلى طلب الصفاء في الحالة السياسية، إما مع أو ضد، أن يرى الناس قدوتك الكبري، روسيا، "تنام مع العدو" في تعبير إنجليزي شائع. ولم تقبل لنا وطنيتنا، والشيوعيون السودانيون أصل في دوحة الوطنية منذ ترافق ميلاد حزبهم مع بواكيرها، أن نختلس الرأي من الإجنبي كائناً من كان. وليست الوطنية قاصرة علينا بالطبع وإنما هي تربية تشيع في الوطن. وقد وجد الإخوان المسلمون أنفسهم في إمتحان شبيه بإمتحاننا حين طلب منهم التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي أمره في يد المصريين، أن يصبحوا مجرد فرع يأتمر بأمر التنظيم الدولي. واستعلى إخوان السودان على هذه التابعية ولقيوا بعد ذلك عنتاً كبيراً من التنظيم الدولي في سبعينات القرن الماضي حتى كتب الشيخ صقر المصري إلى المرحوم بن باز يكفر الشيخ حسن الترابي. ونحن كذلك لم تقبل لنا ماركسيتنا، على علاتها، أن يتطفل على تحليل واقعنا متطفل. فقد رفضنا في شيعة عبدالخالق دفع السوفيات لنا لاعتبار عصابة نميري فرقة من فرق الديمقراطيين الثوريين الذين نعقد معهم أواصر التحالف بغير خشية أو تحفظ. وسمينا تلك الجماعة، بمصطلح ماظنناه الصواب الماركسي ب "البرجوازية صغيرة" مخافة منها. ولم يغفر الرفاق التشيك لنا هذه العزة بالرأي واشتهر عنهم أنهم نسبوا محنة 19 يوليو إلى ركوبنا رأسنا واستعلائنا على النصح.
ومما يحير في منطق شاموق الشاب أنه دلل على مهادنة الشيوعيين لنظام الفريق عبود بخروجهم على جبهة الاحزاب المعارضة. وكانوا سببهم لذلك قولهم إنها عديمة الجدوى. ولم يتحامل الشيوعيون في الحكم على كساد الجبهة. فهو نفسه لم يجد كلمة طيبة تقال عنها قبل مغادرة الشيوعيين ساحتها. فقد كتب شاموق بعد 4 سنوات من ذلك الحكم، وبعد قيام الثورة، في كتابه الثورة الظافرة يصف الجبهة بما وصفها به الشيوعيون. فقد وصف عام 1962 بأنه عام فتور الجبهة أو تحللها في طريق الذوبان. فقد خبت نار مناسباتها السياسية التي لم ينعقد بعضها طلباً للتقية. وكان خمول الجبهة أثراً من وفاة السيد الصديق المهدي التي أحدثت "هزة دائمة وشللاً دائماً في أوساط المعارضة". وكان أحرى بشاموق الشاب لو أراد الانصاف أن يعد بقاء الشيوعيين في مثل هذا الحلف العاطل، لاخروجهم منه، دليلاً على تقاعسهم عن النضال وتبطلهم.
وماكنت أريد للتجاني أن يتبرأ من دبارة دخول المجالس المركزي (وما وقع في نطاقه أو اتصل به) بغير نظر محيط. فلم أقرأ له مثلاً هذا الرأي في دراسة متأملة في قضايا سودانية التي يحررها في القاهرة والتي هي (أو الشيوعي) موضع مدارسة ومراجعة التكتيكات التاريخية قبل كشف حالها على الملأ في معرض دعوة عامة للاحزاب كافة أن تتطهر وترشد بكشف خبايا أخطائها. وهذا طلب كسول للرشد ومزايدة في المبادرة إليه. وأسفت أكثر لأن التجاني رد خطأ دخول المجلس المركزي إلى تأثير أجنبي مضلل مما قد يوحي للناشئة أن الأخذ عن الأمم مجلبة للخطأ والفساد والعاقل من اقتدى بما في "واقعنا ما من أكتر . . .يا بلادي". وأخشى أن لا يتوقف كشف شيطان الأجنبي عند حادثة المجلس المركزي. فإغراء نسبة مانتصوره من نقص فينا إلى الأجنبي لاتقاوم في سياق تهافت الماركسية وسقوط دولتها العظمى. ويعضد من هذا أن وجهة المناقشات الحالية في الحزب تزكي للأعضاء وللناس أن متاعب الحزب هي أثر من خبوء الماركسية العالمية بعد طي خيام المعسكر الاشتراكي. وقد كان ظن خصوم الشيوعيين دائماً أنهم ممن يوحى لهم أو من ينقلون من غير تفكير أو بصر. وكان ذلك ظلماً قاومناه بالحاح على أننا إنما نطبق الماركسية بصورة خلاقة على واقعنا. وقد كانت دبارة المجلس المركزي وما والها تطبيق بديع من تلك التطبيقات. وسيصدق قول الخصوم القديم إذا استسهل الشيوعيون مهمة تجديد حزبهم بنسبة أخطائهم إلى همس الهامسين. وبالمناسبة. لم يكن همس الهامسين، حتي حين همسوا، بخال من الحكمة. فلم يكن كل ماجاء به الرفاق السوفيات ركيكاً. فقد سألوا الحزب ألا يحل نفسه تأسياً بالمصريين حين بدأ في الذوبان في الحزب الإشتراكي قصير العمر عام 1966 . واستمع الشيوعيون إليهم، وأتبعوا أحسن قولهم، و تمسكوا بحزبهم الحي وموجود في حين أفل نجم الحزب الذي كان علىه الاتكال. وقد عٌرفت تلك الواقعة في أدب الشيوعيين ب "نصيحة الرفاق السوفيات" وفيها فقه كامل لمن طاب له الموضوع.
وكنت أريد للسيد الصادق، وهو السياسي المطبوع الخلوق، أن لا يدخل في روع الناشئة أن الدبارة ، أو التاكتيك الفرعي المساوم الذي دخل بموجبه الشيوعيون المجلس المركزي، هو مما يحكم به على الجماعة باليأس من الشعب ومعدنه الثوري. فمثل هذا القول يجعل المساومة في السياسة إلحاداً تجلب العار والشنار و يٌمَكِن للفهم أن السياسة خندقة و"استحباس" وثوابت لاينظر فيها السياسي إلى ظرفه أو كسبه أو أفقه. وهذا هو الدرك الذي بلغته السياسة عندنا حتي أصبحت على أيامنا هذه فرعاً من علم الحرب. فقد هجر حتي الدكاترة خلواتهم وكتبهم وأوراقهم وتأبطوا شراً وبندقية وخرجوا وقد شموا الدم وقالوا حرم. وقد ابتلى الله السيد الصادق بدبارة المساومة قبل حديثه عن يأس الشيوعيين هذا في لقاء بورتسودان مع نميري ومصالحة عام 1977 . وذاق من أهل الخندقة والاستحباس الأمرين من طعن في صبره على مكاره جهاد المستبدين وغيرها. كما تأذى السيد الصادق من ذات الجماعات بعد مصالحته الثانية مع النظام الحالي بعد ميثاق جيبوتي المعروف. ولم يمنعه هذا الذي رآه في نفسه مع ذلك من أن ينحى باللائمة على الشيوعيين ليأسهم من الشعب حين اختاروا دبارة ما يلتفون بها على المستبد في خاتمة الأمر. وقد قدرت دائماً للسيد الصادق شجاعته في الخروج بغير لأي عن التجمع الديمقراطي الذي هو الخندقة لا أكلت ولا شربت حتى قال فيه الأستاذ الخاتم عدلان قولة ستبقى. فقد قال إن أحزاب التجمع مثل بخلاء الجاحظ. فهم أوقدوا ناراً ووضعوا عليها القدر وجاءوا بلحمهم لانضاجه غير أن كلاً منهم أمسك بقطعته من اللحم وقد ربطها بخيط وظل ينتظر. قدرهم واحد وقلوبهم شتي: بئس ما كانوا يفعلون. وقد فهمت إلحاح السيد الصادق على السيد محمد ابراهيم نقد ان يخرج من قندهاره (من تحت الأرض) في سياق تليينه للسياسة بعلم المساومة. ولم يخرج نقد بعد (خرج بعدها بالطبع). وربما تمثل السيد الصادق بالقول القرآني لجده لأبيه: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. وربما كان لنقد عذره. فقد جرب حزبه هذه الملاينة يوماً بعيداً وماتزال "نعلتها"، كما قالت المرحومة بنت خالتي، تلاحقهم، وتقض مضاجعهم، حتي قال كبيرهم في القاهرة ياليتنا مافعلناها. وليت للترجي.
صدق شاموق الشيخ حين قال إنه لم يبق من أكتوبر غير أشباح أسئلة وتخرصات. ومرد ذلك أن الذين عاشوها لا يريدون لها فكاكاً من أسر مشاغلهم الحزبية الغابرة أو الراهنة. فنحن في السلف ما زلنا نتحدث عنها كدحاً لم يلطف النظر التاريخي غلواءه أو ينقي حزازاته. فمع "تحريش" التجمع الديقراطي لطلابه بتنزيل أكتوبر أخرى لسحق الانقاذ فهو لم ينهض في شعبه الفكرية يوماً بمشروع لدراسة الثورة على غرار مشروع المرحوم الدكتور شبيكة والدكتور أبو سليم في دراسة المهدية بعد 60 عاماً من نهاية دولتها. ولن أقبل من التجمع اعتذاراً بشح الموارد أو الرجال. فالمال واجد لشراء السلاح وعقد المؤتمرات الراتبة فكيف عز على الثقافة. وقد جاء الرجال والنساء من خيرة الدارسين إلى سوح التجمع في القاهرة وفجعوا فيه وتفرقوا أيدي سبأ. وليس يستغرب المرء، وأكتوبر على هذا اليتم فينا، أن يغيب عن الخلف أسطع مغازيها وهو نشدان الحرية وبذل الغالي طلباً لها. وأصبحت أكتوبر شينة منكورة يتساءل البعض عن أصل مشروعيتها ذاته.ولم يقف تبخيس المعاني على أكتوبر. فقد طال الاستقلال أيضاً كما سنرى حين أكتب عنه إن شاء الله حين يحين حينه. فالزمان زمان فشو skepticism وهي عصر الهازئة والمتمسخرة الذين تذروا ملحهم كل معنى ويذهب ذكاؤهم الطعين بكل فضل ومأثرة من جراء لؤم الأيام واستطالة الكساد.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964: استشهاد أحمد القرشي طه ..
بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
الثلاثاء, 11 تشرين1/أكتوير 2011
ربيع ثورة أكتوبر 1964: استشهاد أحمد القرشي طه: هل مات في طريقه للحَمَّام أم للحِمَام (الموت)؟ (4-30)
قال الأستاذ أحمد محمد شاموق إنه لم يبق من ثورة أكتوبر 1964 سوى أشباح أسئلة وتخرصات. ومن التخرصات المؤذية تلك التي دارت حول ملابسات مصرع الرفيق أحمد القرشي شهيد الثورة الأول في ليلة 21 أكتوبر. فقد ذاع بين جماعات غير واضحة التكوين السياسي والاجتماعي أنه مات نتيجة رصاصة غير مقصودة أثناء سيره من غرفته بالداخلية لأخذ حمام المساء. وظل بعض الناس يتناقلون هذا الخبر شفاهة. ولم أعثر علىه مكتوباً إلا في مقال للأستاذ أحمد على بقادي رددت علىه بشيء من القساوة في جريدة الفجر المعارضة بلندن التي ترأس تحريرها الأستاذ يحي العوض في آخر التسعينات. وليس بيدي الرد لدى كتابة هذه الكلمة ولكن أذكر أنني أرجعت الذائعة إلى صورة الطالب الجامعي الغردوني عند بعض الدوائر (وربما تكون شعبية جداً ممن لم تتفق مع ثورة اكتوبر أو خاب ظنها فيها) كتجسيد للحداثة التي غنى لها المغني: "أهم شيء الحمام ونظافة الأجسام والزول يكون بسام".
ولم أكن انتظر أن يتسرب خبر ميتة القرشي على أبواب الحمام المسائي إلى قلم الدكتور كمال حنفي (الرأي العام 21 أكتوبر 2006). فهو قلم رشيق أطربني أول ما أطربني حين تزاملنا في جريدة (الصحافي الدولي). وأشجاني أيضاً. وأعلم أنه يكن لي أيضاً مودة عظمى لا استغربها من قلم تميز بخلوه من الغصة السياسية. فهو يَرد الماء عذباً بينما يرده أهل الغصة على كدره وطينه. وهو قلم طبيب يمسك بالداء من قرونه فلا يرتج علىه وينفذ إلى العلة بسلطان.
بث حنفي خبر موت القرشي مصادفة عند حمامه الجامعي في سياق دعوة لمراجعة تاريخية نسيطر بها على مصطلح "شهيد" ونسترده من زئبقيته المشاهدة في الساحة السياسية السودانية. فأضحي شهيد قوم هو خائن قوم آخرين. فشهيد جماعة ما هو فطيس جماعة أخرى. كما أطلقنا اللقب على من مات مصادفة بغير إرادة منه. ودعا حنفي إلى غربلة القائمة الطويلة من شهداء السودان غربلة ناعمة ودقيقة لتمييز القمح من القش.
فلست اعترض على دعوة الأستاذ كمال حنفي لاسترداد المعنى للشهادة للحق بعد أن مصمصناها من الدلالة. بل سبقته إلى هذه الغربلة بكتابة ورقة علمية عن الاقتصاد السياسي للاستشهاد في السودان قدمتها لمؤتمر الجمعية الأنثربولجية الأمريكية في واشنطون عام 1996 أو نحوها. وقد إزددت رغبة في مراجعة مصطلح الاستشهاد وأنا أتابع مثل غيري مسلسل الموت السياسي في مناخ الهرج الضارب أطنابه فوقنا. فقد قرأت عند أحدهم عن مواجهة بين اللواء البلولة والرائد إبراهيم شمس الدين خلال انقلاب رمضان 1990. وسمى الكاتب البلولة "شهيدا" باعتبار اعدامه لدى فشل انقلاب رمضان. وكذلك سمى إبراهيم "شهيدا" اعتباراً لاحتراقه في الطائرة المعلومة. وغاب معنى الشهادة والحق عن الموقف الذي تقابل فيه خصمان وخرج منه كل منهما شهيداً. وكان يكفي الكاتب أن يقول عنهما المرحوم فلان وفلان طالما لم يعد ل "شهيد" قيمة أو معنى. والبلاغة هي القول بمقتضى الحال.
علاوة على ذلك لم نعد نتفق على صحة إطلاق شهيد على أي من صرعوا في الوغي السياسي. فقد تصدى قاريء بضراوة للدكتور كامل إبراهيم حسن (السوداني 30 أكتوبر 2006) لأنه طالب بتكريم الشهداء عبد الخالق محجوب ورهطه من اليساريين. وقال القاريء إن الإمام الهادي ومحمد صالح عمر، ممن قتلا خلال أحداث الجزيرة أبا وذيولها في 1970، أحق بالتكرمة والتذكر. فمن ذكرهم كامل من اليساريين، في قول القاريء، وقفوا من وراء نظام انقلاب مايو 1969 الذي أزهق أرواح الأنصار. بل وتورطوا في انقلاب 19 يوليو 1971 (واستثنى القاريء المرحوم الشفيع أحمد الشيخ) الذي لم يكن من أجل الديمقراطية والحرية بل من أجل إقامة نظام شمولي أحمر اللون. وهذا القوال مصداق لقول حنفي إن الشهيد المعتبر عند جماعة ما هو إلا مجرد "فطيس" عند خصومهم.
ولكن زبدة اعتراضي على مقالة حنفي هي أخذه بالرواية الغامضة الشفوية المتخرصة عن استشهاد أحمد القرشي ليلة 21 أكتوبر 1964. فقد أخطأ خطأ بيناً في إيراد ملابسات وقفته عند الحق وموته في سبيله. فالقرشي عنده شهيد لم يقصد الشهادة بل فرضت نفسها عليه فرضاً بينما كان يريد الحمام ونظافة الأجسام. فقال إنه إذا كان هناك الاستشهاد العمد فهناك الإستشهاد عن طريق الخطأ وهو طريق القرشي. فوصفه بأنه كان في 1964 طالباً جديداً بجامعة الخرطوم. واليك نص وصف حنفي لملابسات موت القرشي: "لم يشترك في مظاهرة ولا مقدماتها. كان ذاهباً لأخذ حمام المساء. فأتته رصاصة مجانية من رصاصات الشرطة ضالة طريقها. أصابت الرصاصة الطائشة الطالب القرشي. فصار شهيداً وصار نشيداً. وصار مجرد ذكر اسمه الآن كافياً لإخراج مظاهرة جارفة. فقد سكن الاسم الخيال السياسي السوداني الخصيب". وليس صعباً الاستنتاج أن دعوة حنفي إلى غربلة الشهداء لتمييز القمح من القش هي دعوة لإسقاط القرشي من قائمة الشهداء لموته الفطيس وهو في طريقه لحمام المساء. فقد "تفطس" القرشي لأنه كان في الموضع الغلط وفي التوقيت الخطأ كما تجري العبارة الإنجليزية.
لقد جاء حنفي بهذا الخبر المكذوب من رأسه. وأحدثكم عن الخبر اليقين عن استشهاد رفيقي أحمد القرشي من كراسي وهو مخطوطة الدكتور كليف تومسون الأمريكي وشاهد العيان على ثورة أكتوبر ومحقق وقائعها والذي يدرس تاريخها حالياً لطلابه بجامعة ويسكونسون الأمريكية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة اكتوبر 1964: أحمد القرشي طه: الجنى مو جنا نصاح .
بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2011
(5-30)
كنت على طاولة المتحدثين في أشهر ندوتين من الندوات التي ناقشت مسألة الجنوب بجامعة الخرطوم فأرهصت لثورة اكتوبر 1964. كنت متحدثاُ في الندوة الأولى بتاريخ 9-9-1964. وهي الندوة التي سرق الكاميرا فيها الدكتور حسن الترابي العائد منذ شهور قليلة بعد نيله الدكتوارة من جامعة السوربون بفرنسا. وقد حكيت ملابسات اشتراكي في هذه الندوة بكتابي "الرق في السودان: نحو أنثربولوجيا الخبر". أما الندوة الأكتوبرية الثانية فهي التي انعقدت في ليلة الأربعاء 21 أكتوبر واستشهد في ملابساتها الرفيق أحمد القرشي والمرحوم بابكر عبد الحفيظ. وقد وقع اختيار السيد أنور الهادي عبد الرحمن، السكرتير الثقافي لاتحاد الطلبة وعضو الاتجاه الإسلامي (وكان هذا الاتجاه الأكثر حماساً لقيام الندوة) علىّ لأسجل وقائع الندوة. وكنت وقتها عضواً بالمجلس الأربعيني للاتحاد عن الجبهة الديمقراطية. وابتعدت قصداً عن عضوية لجنة الاتحاد التنفيذية كطالب نهائي أريد أن أعوض عن فصلي المؤقت لعام دراسي عقوبة على مظاهرة جرت في 1963 خلال حفل تخريج. وقد استفز الجامعة والحكومة معاً أن الحفل أمَّه مدراء الجامعات الأفريقية الذين تصادف اجتماعهم الدوري بالخرطوم مع حفل التخريج.
انعقدت الندوة أمام داخلية عطبرة لتعذر انعقادها في دار اتحاد الطلاب التي سدت الحكومة أبوابها أو في ميدان أفسح لأن الحكومة أغرقت الميادين بالماء في غير موسم. وكانت عطبرة (والقاش) من الداخليات الجديدة الرشيقة العالية. وقد بنوها من الساس خلال عام 1960-1961 وهو أول سنيّ بالجامعة. وأزعجنا من البناء كرير كراكاته ومندلة ندالاته وغبار وعفار رابط عند سماء داخلياتنا. ولكن كنت ضمن أول من سكن داخلية القاش. واستمتعت بفوح المبني الجديد وملمسه .
اتخذت موقعي على المنصة بجنب المرحوم رفيقنا بابكر الحاج بابكر الذي هو من قدواب بربر. وكان زعيم الجبهة الديمقراطية ورأس قائمة مرشحيها للاتحاد. ولم أر رجلاً في فضله وذكائه ورباطة جأشه وسداد عبارته. وفرشت كراستي بعد افتتاح أنور للندوة. وكان أول المتحدثين رفيقنا بابكر الحاج. وبدأت في تدوين منطوقه. ولم يستمر طويلاً. فداهمنا البوليس يطلب منا أن نتفرق. وكان هناك من بين أعضاء اللجنة التنفيذية من طلب من الطلاب التفرق بانتظام.
ويبدو أن مزاج داخليات الجيش (البركس)، التي انعقدت الندوة في حوزتها، كان خلاف مزاجنا نحن ساكني داخليات الطلاب النهائيين. وكنت أسكن النيل الأبيض التي هي كلية القانون الآن. وقد علمت لاحقاً أن جماعة من طلاب البركس كانوا بالفعل يعدون العدة لمواجهة البوليس. فلربما ساءهم تفرقهم عن سكات في ندوة سلفت بتاريخ 10-10-1964. ولابد أن اعتقال اللجنة التنفذية للاتحاد في 15-10 قد قوى عزائمهم في الرد على الحكومة صاعاً بصاعين. فقد كوموا طوباً ونفايا بناء لرد عدوان البوليس.
طويت أوراق محضر الندوة التي عوجلت وأخذته متجهاً نحو داخليتي عبر بوابة البركس. وحَذِرت أن أقع في القبضة قبل بلوغي مكاني فدخلت غرفة بداخلية ما والتمست من ساكنيها أن يحتفظوا بالوقائع القتيلة حتى ينجلي الموقف. وخرجت. ولم استدرك أحداث ما وقع بعد الندوة إلا في مستشفي الخرطوم ومشرحتها حين تواترت أنباء عن ضحايا المواجهة. ولا زال هذا المحضر يلوح لي كلما عدت بذاكرتي إلى ذلك اليوم. فهو الأثر المكتوب من ندوة تحدث فيها الرصاص فصرع الحضور وأدماهم.
لم نكن في الجبهة الديمقراطية ممن تحمسوا للندوة. كان من رأينا أن لا نعطي الحكومة ذريعة لإغلاق الجامعة. فقد استفزتها ندوات الجنوب فندمت على أنها كانت البادي بطرح الموضوع للنقاش وقررت اخماد جذوته بأعجل ما يكون. فقد كنا اعتقدنا نحن الشيوعيين أن النظام قد تورط في أزمته الثورية. وهي في تعريفنا أنه لم يعد مسخوطاً عليه من الشعب فحسب بل أصبح هو نفسه غير قادر على الحكم. ومن أراد ان يتوسع في فهم موقفنا كشيوعيين آنذاك فعلىه بكتابي "بئر معطلة وقصر مشيد: صدأ الفكر السوداني، الحركة الإسلامية واليسار والليبرالية". والأزمة الثورية هي لحظة في الثورة تحتاج إلى تكتيكات تخلو من عنصر الاستفزاز وتتجه إلى تعبئة شاملة تحصر النظام المنهك وتلفظه لفظ النواة. ولذا اقترحنا بديلاً للندوة أن نخرج في مظاهرة حسنة التحضير شاملة لطلاب العاصمة. وصوت الطلاب في الداخليات على مقترح عقد ندوة أخرى، وقد تبناه الإتجاه الإسلامي بصورة رئيسية، فأيدوه. ولم يروا رأينا عن الأزمة الثورية. فسقط اقتراح المظاهرة.
لعل ما ساءني جداً ما روجه الأخوان المسلمون وخصوم آخرون بآخرة بأننا عارضنا ثورة اكتوبر تقية لخوفنا من نظام الفرق عبود. بينما كان مدار الأمر مجرد خلاف في التكتيك حسمته الجمعية العمومية بإجراء ديمقراطي معتمد في أداء الاتحاد. وقد أساء هولاء الوشاة إلى الديمقراطية من حيث زعموا التعلق بها وفدائها. فليتهم قالوا إن الشيوعيين قد خافوا النظام العسكري ولكنهم التزموا بإرادة الجمعية العمومية حرفاً وروحاً. فقد كان أول المتحدثين بالندوة من الجبهة الديمقراطية وأول شهدائها من الجبهة الديمقراطية وكانت زغرودتها البكر من عضو بالجبهة الديمقراطية هي الدكتورة دينا شيخ الدين. وكان من بين جرحي الندوة ديمقراطيون هم المرحوم عبد الله محمد الحسن والدكتور وديع السنوسي وطائفة اخرى لا تحضرني أسماءهم الغراء. فالخلاف رحمة في الديمقراطية وأساسها المتين. وليس السداد في العمل السياسي وتكيكاته رجماً بالحق على طريقة زرقاء اليمامة أو النظر في الكرة البلورية في عرف الغربيين. وإنما هي إجتهاد. ويبقي الفيصل أن تتنزل الأقلية عند رأي الأغلبية وأن تتحمس له كأنه رأيها ذاته. ولابد أن يذكر التاريخ لشباب الجبهة الديمقراطية في 1964 أنهم قاتلوا عند اجتهادهم عن أهدى الطرق لمقاومة نظام عبود ولما قالت الأغلبية بغير اجتهادهم كانوا في طليعة المنفذين لرأي الجماعة. كانوا أقلية جميلة فدائية.
وكان أحمد القرشي طه من أوسم شباب هذه الأقلية الفدائية كما سنرى من واقعة استشهاده ليلة 21 أكتوبر. فما بلغتٌ مستشفي الخرطوم حتى ساقني رفيق إلى جثته لقطع الشك عن هويته. وأظن اسم الرفيق كان هو معتصم من كلية الزراعة. كشف معتصم الغطاء عن وجه القرشي المسجى على نقالة وقال:
_ أليس هو القرشي؟
قلت:
-بلى.
وتلبدت غصة في حلقي. فقد تمدد جميلاً مثل الهتاف الذي أطلقه قبل استشهاده بثوان. فما كان الفتى فتى نصاح منذ رأيته لأول مرة في اجتماع موسع لرابطة الطلاب الشيوعيين بالجامعة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
Quote: فقد كان أول المتحدثين بالندوة من الجبهة الديمقراطية وأول شهدائها من الجبهة الديمقراطية وكانت زغرودتها البكر من عضو بالجبهة الديمقراطية هي الدكتورة دينا شيخ الدين. وكان من بين جرحي الندوة ديمقراطيون هم المرحوم عبد الله محمد الحسن والدكتور وديع السنوسي وطائفة اخرى لا تحضرني أسماءهم الغراء. |
Quote:
المرحوم عبد الله محمد الحسن |
المرحوم عبدالله محمد الحسن شقيق الرشيد محمد الحسن ...... يا متولي .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
أحمد القرشي طه: الشفاه التي لم تقبل قرشي ( 6-30 )
سرى بين دوائر اجتماعية سياسية فهم مفاده أن أحمد القرشي طه، شهيد ثورة اكتوبر 1964 الأول مات بإهمال. فقد كان في طريقه لحمام المساء الذي طبعته عليه "الحضارة وازدهارها في القرى والبوادي" كواحد من أفندية المستقبل. وعاجلته طلقة البوليس وقد ماتت على شفتيه الدندنة التي تسبق الحمام ونظافة الأجسام. وتيتم البشكير على كتفه. بالغت في وصف مشهد مقتل القرشي جزافاً حتى اقترب من الذهنية "البلدي" التي ربما كانت من روج لفكرة استشهاد القرشي بغير قصد منه. فلربما كانت هذه الصورة من بنات أفكار هذا القطاع البلدي الذي لا يري في الأفندية، وصغارهم بالذات، سوى "حناكيش" لا يرتجي منهم نفع.
سنترك جانباً أن القرشي أغتيل بعد الندوة في وقت أدخل في الليل منه إلى المساء وهو الموعد المضروب لحمام الطلاب الموصوف. ولن نستنكر هذه الذائعة عن القرشي. فالشهيد أيضاً كالمغني يشدو وكل على هواه. ما شق على حقاً أنها تسربت إلى الصحافة السيارة على قلم الأستاذ كمال حنفي (الرأي العام 12 أكتوبر 2006). وهو قلم عٌرف عنه الإعراض عن اللغو. وهو فوق ذاك قلم تدرب صاحبه كطبيب على أخذ الموت بمهنية. فأمثاله موكول إليهم شرعياً تحري الوفاة وتشخيص ملابساتها في ما عرف ب "أرنيك 8" الذي لا تستقيم أي إجراءات مترتبة على الموت بدونه.
قد نلتمس عذراً لحنفي في أخذه بهذه الرواية الخاطئة عن مقتل القرشي لغيبة مكتوب يوثق لملابسات مقتل القرشي في سياق صدام الشرطة والطلاب في داخليات البركس في ليلة 21 أكتوبر. ولكن ربما وجد الباحث المدقق بغيته في الصحف. فقد أسعدتني كلمة للأستاذ محي الدين محمد على (آخر لحظة 28-10-2006) علمتني عن سياق استشهاد صديقه المرحوم أحمد محمد سعد على ساحة القصر نهار 28 أكتوبر 1964. ومثل هذا يكثر في الصحف. وهذا النقص المريع في مادة توثيق وقائع ثورة اكتوبر هو ما أملى عليّ رعاية مشروع ترجمة مخطوطة كتاب البروفسير كليف تومسون، أستاذ القانون بجامعة ويسكونسن الأمريكية عن أحداث الثورة. فقد كان كليف محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم حين اندلعت الثورة فأخذته روعتها وسهر يكتب يومياتها من مشاهداته ومن لقاءاته بالثوار. وقد لقيت الأمرين في الترويج لنشر هذه المخطوطة مسلسلةً بالصحف في ذكرى الثورة. وما شقيت من هذه الأمرين بشيء مثل قول أحدهم: يفتح الله ما لنا حاجة بهذا الأمر القديم (التاريخ بالطبع) الذي حدث وانتهى. يقال إنه كٌتب على الذي يجهل تاريخه أن يعيده. وحالنا مع التاريخ أسوأ وأضل. إن جهلنا بالتاريخ يسوغ لنا ابتذاله بالإساءة إليه.
رسم كليف في مخطوطه لوحة غنية بالتفاصيل الجسورة لمواجهة الطلاب والشرطة في ساحة البركس بعد أن انفضت ندوة ليلة 21 أكتوبر. فقد تراجع الطلاب إلى "قندهاراتهم" اي داخليتهم ليقاوموا الشرطة على أرضهم. وقد أربك هذا التكتيك الشرطة ففقدت أعصابها برغم التعزيزات التي كانت تغزر عددها. فقد كانت تسقط علىها الأسرة من حيث لا تحتسب وتنهال عليها الحجارة من غرف لا حصر لها. ولما وجدت الشرطة أنها على الجانب الخاسر لأنها تلعب في غير ميدانها بدأت في استخدام الرصاص الحي. وظل الطلبة يشجعون بعضهم بعضاً لمواصلة مصادمة الشرطة قائلين: "فشنك" اي أنه رصاص كاذب. وأدرك الطلاب هول الأمر حين بدأ الرصاص ينقر الطوب فيتطاير شعاعاً. وكتب كليف عن تَنَزٌل هذا الإدراك على فرقة الطلاب المقاومين بداخلية سوباط ومنهم القرشي. والسوباط هي أول داخلية تلقاك وأنت داخل ببوابة البركس الرئيسية. وأول ما يلقاك منها حمامتها الشمالية التي تربط عندها طائرة من بقايا الجيش الإنجليزي.
قال كليف عن استشهاد القرشي ما يلي:
أدرك الطلاب في داخلية سوباط أن طبيعة المعركة قد تغيرت جذرياً ولكن غلب فيهم التحدي والغضب على الخوف. تجمع رجال الشرطة المدججين بالسلاح على بعد نحو 60 قدماَ قرب مبنى في البركس القديم . . . اختبأ العديد من الطلاب من خلف الممر الرابط داخلية سوباط بحماماتها. كان أحد هؤلاء الطلاب هو أحمد القرشي طالب العلوم الذي كان يعيد سنته الأولى بالكلية. كان نحيلاً يرتدي بنطالا ً وقميصاً أبيض كفكف أكمامه الى منتصف ساعده. كان شاباً هادئاً يحب الكرة ولعب الكوتشينة. عٌرف عن القرشي أنه كان يسارياً منذ أيام دراسته الثانوية في الدامر (الصحيح الفاشر الثانوية). وكان يؤدي أيضاً واجباته الدينية من صلاة وصوم. حمل القرشي حجراً وقفز من فوق الحائط القصير وركض في الجانب الآخر حتى صار على بعد نحو 20 قدماً من طرف الداخلية. حينها توقف وهتف بشيء ما وقذف بالحجر نحو الشرطة. لو أن رجال الشرطة رأوا ضرورة التقهقهر لما كان هناك ما يقف في طريقهم. سٌمع صوت طلق ناري مرة أخرى واخترقت طلقة رأس القرشي قرب حاجبه الأيمن وخرجت من مؤخرة جمجمته. هوى جسد القرشي على الارض الرملية فحمله زملاؤه الى الممر ثم الى غرفة في الداخلية وسٌجى على فراش. كان ينزف من مؤخرة جمجمته وسال خيط من الدم من بين شفاهه. ولكن نبض قلبه لم يكن قد توقف واستقر رأي رفاقه على نقله للمستشفى. انتهي نص كليف.
مات القرشي قبل أن يبلغ المستشفي. وطلب مني الزميل معتصم من كلية الزاعة أن أتعرف على هوية هذا الشهيد تأكيداً لما قاله لمن حوله من أن الشهيد هو القرشي. وكشفنا الغطاء عنه. قال لي معتصم : "أليس هو القرشي؟" قلت : "بلي". كان جميلاً كعادته حين ينشغل بأمر الشعب كما شهدته مرات قليلة في أروقة رابطة الطلبة الشيوعيين. وما زالت نادماً أنني لم أقبل جبهته الشماء وأنا الذي كتبت قصة قصيرة قبل سنوات من ذلك عنوانها "الشفاه التي قبلت قرشي" ونشرتها في جريدة الصراحة لو أذكر جيداً. والقرشي المقصود في قصتي هو الرفيق قرشي الطيب الذي استشهد في مظاهرة مقاومة للجمعية التشريعية بمدينة عطبرة في سنة 1948. وستجد شعراء ثورة اكتوبر يحيلوننا لتوارد أسماء الثائرين وتشابهها. قال ود المكي: "فبجنب القرشي حين دعاه القرشي حتى انتصر". وتوسع صلاح أحمد إبراهيم في المشابهة حين جاء باسم المهدي في المعادلة بقرينة تلمذته على الشيخ السماني المرموق القرشي ود الزين.
لقد أهداني الزمان فرصة مأساوية لتقبيل وجه أحمد القرشي طه لأشرف بذلك كما أوحيت في قصتي. ولكن ارتج على. ومن قال إنني من السعداء؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة 1964 أحمد القرشي طه: والبنطون حق الحكومة (7 من 30)
بعد انتصار ثورة اكتوبر 1964 صدر بيان إلى الشعب السوداني موقع باسم "الشيوعيون السودانيون عنهم عبد الخالق محجوب عثمان". وكان ضربة معلم. كان أعضاء الحزب بحاجة إلى هذه الدفعة المعنوية من القبول والشرعية. ظللنا لسنوات ست تحت ظل نظام الفريق عبود وقبله أيضاً نٌوصف بخفافيش الظلام للسرية المفروضة علىنا والمحسوبة ضدنا. وكان صعباً أن يأمن الرفاق إلى أنهم صاروا ناشطين سياسيين أسوياء بغير وثيقة ممهورة بتوقيع مبتكر ودرامي. فما كنا سنطمئن إلى ميلادنا القانوني في الساحة السياسية حتى لو وقع على ذلك البيان أرفع هيئات الحزب القيادية. وحسناً فعل الحزب بتذييل البيان باسم الشيوعيين السودانيين. لا أدري حتى الآن لماذا طيب خاطري هذا التذييل تطييباً لم يكن يعدله توقيع البيان باسم الحزب الشيوعي السوداني مجرداً. بدا لي أن التوقيع باسم الشيوعيين السودانيين ميزنا كأسرة من المناضلين وقدمنا بفخر ومحبة للشعب السوداني. وكان رسم عبد الخالق عنا في البيان محض روعة. وقد جاء باسم جده "عثمان" (ولم يكن يثلث اسمه) تأكيداً للروح الأسري للبيان. فهو الزعيم الذي أماط أذي الظلام عنا وهو يقود ركبنا برباطة جأش نادرة وخلق فدائي. كان اليأس ينتابنا كثيراً خلال مقاومة نظام "عصابة 17 نوفمبر" ويغادر قاطرتنا المغادرون خفافاً سراعاً. فقد قال رفيق قنع من عائد النضال لنا يوماً: "ناس عبود جابهم الله يشيلهم الله". ومضى إلى حال سبيله. وكان من بقى منا على العهد ينده باعتقاد مجازف: "ألحقنا يا راشد". وكان توقيع راشد على بيان تدشين لنا في مسرح السياسة السودانية مبرئاً للذمة.
وقد بقيت في خاطري من هذا البيان بعض المعاني. فهو أول من قال بأن ثورة أكتوبر من إبداع عبقرية شعبنا. وكان الخلاف قد بدأ أصلاً حول من هو صاحب الفضل في اندلاع الثورة. وحفظ البيان حقوق التأليف للجميع حين نسب الثورة لعبقرية الشعب. وقد الصادق المهديسمعت السيد الصادق المهدي يستخدم عبارة البيان هذه منذ أسابيع في معرض تزكيته للمقاومة المدنية. وجاء البيان كذلك بقبس تربوي منتظر من الشيوعيين استدعى فيه أريحية تضمنها بيت من شعر العرب. فقد زكانا البيان للشعب السوداني لأننا لا نريد من نضالنا جزاء ولا شكورا فلا نمن به ونهبه عفواً واحتساباً للشعب. فقال عن الشيوعيين إنهم يردون الوغى ويعفون عند المغنم. وعبد الخالق بصير بهذا الشعر فقد قرأه طويلاً وبذائقة مشهودة له بين رفاقه في المدرسة الثانوية قبل سفره لمصر.
أما الأمر الثالث الذي ورد في البيان فقد كان خلافياً جداً. فقد استعرض البيان تضحيات جمة للشيوعيين خلال سنوات الفريق عبود العجاف وذكر آخر هذه البسالات وهي استشهاد الرفيق أحمد القرشي طه. وثارت ثائرة خصوم الشيوعيين والأخوان المسلمين بخاصة ووصفونا بالإدعاء ونشروا أن القرشي كان مصلياً صواماً قانتاً عابداً ومعاذ الله أن يكون شيوعياً. وكأن بين الممارستين سوراً للصين عظيماً. وربما كانت هذه البذرة الأولي في تأثيم الشيوعية بالنظر إلى العبادات مجسدة في ممارسة شخص بعينه. وقد أصبح هذا التأثيم إسترايجية وحيدة الجانب للحركة الإسلامية نجحت به في حل الحزب الشيوعي في 1965 بين جماعة غزيرة من أهل الملل والطوائف.
بدا لي يومها أن البيان قد استعجل مسألة نسبة القرشي للشيوعيين مع أنها النسبة الحق. وكنت أعرف ذلك عنه عن كثب لاقول قائل. ولكن أثارت هذه النسبة خواطر كان الأفضل ان تٌركز على ما سيقع لا على ما وقع من الثورة. وقد طبع هذا التجاحد حول القرشي الشيوعيين بشيء "المجارطة" حول خطر دورهم في الثورة (برغم تربية التأني عند المغنم) لم يعجب الكثيرين من غير الشيوعيين.محمد نوري الأمين وقد كتب الدكتور محمد نوري الأمين عن استهجانه لهذه المزاعم قبل سنوات. والأكثر ضرراً أن هذه المجارطة لم تهيء الشيوعيين لنكسة أكتوبر فاستثقلوها فانغبنوا وبدوا كمن لطشوا منهم عزيز دنياهم. وتمثلت لهم نكسة أكتوبر، من فرط ضيقهم بحرامية أكتوبر، كثأر شخصي لا مشروعاً سياسياً مضاداً كان السداد من نصيبه. وربما كان ضلوع بعض الشيوعيين في انقلاب مايو 1969 هو نوع من "شخصنة" أكتوبر ومحاولة استردادها بأعجل ما تيسر ومهما كلف الأمر.
كان الحق الصراح في جانبنا في نزاعنا حول انتماء القرشي السياسي مع الإتجاه الإسلامي. فما احتج الإسلاميون على نسبة القرشي للشيوعيين في بيان الحزب حتى بدأنا في عرض البينة على إدعائنا. فقد تصادف أن نظمت جمعية الثقافة الوطنية بجامعة الخرطوم، وهي واجهة الجبهة الديمقراطية في مجال العمل الاجتماعي في الجامعة، رحلة أحسبها في بداية أكتوبر 1964، لحدائق لسقاي من ضواحي الخرطوم بحري. وأذكر أنني كنت ضمن فريق مكلف من الجمعية، وقد بلغنا موضع الرحلة، لدعوة الفنان خضر بشير ليشدوا لنا فيهاخضر بشير. وهذا إبلاغ متأخر يدنو من سوء الأدب. ولكن المرحوم قبل بأريحية دعوتنا البطيئة المفاجئة. وأشجانا في ذلك النهار وقد شعشعت بنت الحان في أكثر الروؤس. وأعتقد أننا دعونا المرحوم عون الشريف ولبى. بل اتخذ الرحلة مناسبة لعمل ميداني يجمع من نثار أحاديثنا كلمات من العامية لقاموسه المعروف. وكان بيننا السيد الماجري من طلاب كلية الاقتصاد. وكان يفخر بعلمه ويقول : "أنا اقتصاد السودان كله في رأسي دا". وكان الماجري من بلدة الكوة. وفخر بها أيضاً وكثيراً. فتصدى له السيد تاج السر محمد خير قائلاً : "يا الماجرى كوة شنو بالله. أنا شفتها. ما فيها غير بحر وبنطون. والبحر حق الله والبنطون حق الحكومة".
الشاهد أن القرشي كان ضمن من شهدوا الرحلة. وظهر في صور شتي مع شيوعيين دهاقين ليس للصدفة أي دور في أن تكون برحلة لجمعيتهم وفي صور معهم وأنت بريء مما يعتقدون ويفعلون. وما تصاعد الاحتجاح علىنا بادعاء شيوعية القرشي حتى جاءنا زميل (ما تنشللالو) بثلاث أو أربع صور من أرشيف الرحلة ظهر فيها القرشي الطلي الوسيم مع نفر من قادة الشيوعيين بالجامعة. وعلقنا الصور بقهوة النشاط قطعاً للتخرص. وحصحص الحق وزهق الباطل.
ولم أكن أعلم أن حمى توثيق شيوعية القرشي قد اجتاحت دوائر الطلاب اليساريين. فقد كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الأستاذ مكي أبو قرجة في مأتم يونس الدسوقي قبل أيام حين حكى لي عن دور رفاق طلاب المؤتمر الثانوية بأمدرمان في هذا التوثيق. فقد انعقدت علاقة بين رفاق المؤتمر والقرشي بحكم تولى الشهيد مسئولية الصلة بين مكتب الثانويات التابع لرابطة الطلبة الشيوعيين وبين فروع الرابطة في المدارس. وفي 17 أو 18 أكتوبر 1964 ذهب مسئول الصلة بالمدرسة وهو الأستاذ على آدم محمد ليتحصل على بعض المطبوعات الحزبية من القرشي بحسب موعد متفق عليه. فلم يجده في غرفته بالداخلية بالجامعة. ولكن زميل الشهيد في الغرفة سلمه رسالة تركها القرشي له يعتذر فيها لغيابه لأمر طاريء. وعليها توقيعه. فما جأر الإسلاميون بتكذيب نسبة القرشي للشيوعيين حتى خرجت جريدة "الحقيقة" الحائطية بالمدرسة تحمل خطاب اعتذار القرشي لعلي آدم محمد.
لا أعرف مصير صور رحلة السقاي. وقال مكي إن خطاب القرشي على "الحقيقة" لم يدم سوى سحابة نهار. فهم لم يجدوه لما أصبح الصبح عليه. وسيكسب ثواباً ويٌكتب من الوراقين من يرشد إلى أيي من الوثيقتين أو يعرف طرفاً من حكايتهما. لقد كف اللجاج عن القرشي حتى قيل إنه مات بإهمال. ولا نريد هذه الوثائق لتجديد نزاع باخ حول القرشي ولم يعد أحد أطرافه يحفل بالأمر كله. ولا نريد غير الترجمة لواحد من أوسم شباب السودان. أوسمهم قاطبة. وسيد رعيل شهدائه في سبيل الحرية والتقدم والعدل الاجتماعي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة اكتوبر 1964
دفع الافتراء عن ثورة أكتوبر الغراء : هل أفسدت الخدمة المدنية؟(8 - 30)
خضع تجديد ذكرى ثورة أكتوبر 1964 خلال 43 عاماً إلى نهج أبله. فالثورة الآن طريدة يتعاورها الشعر والنثر. فكلما أزف عيدها جرت الصفحات بالأناشيد المستعادة التي تلهج بحسنها بينما خاض النثر في سيئاتها. فالناثرون ما تركوا لها جنباً ترقد عليه. فهي في نظرهم قد أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. كما زعزعت الإدارة الأهلية فأنفرط النسيج الاجتماعي الذي حفظه أعيان القبائل. ناهيك من قولهم أن أحمد القرشي شهيد حيرة لا عزيمة لأن الرصاصة أصابته وهو في طريقه إلى حمام داخليته بالبركس بجامعة الخرطوم. وترهات أخرى.
لسنا نتوقع بالطبع أن تسلم أي ثورة من الشانئة. ومن شنأها قصداً فلا سبيل لشفائه من الغل على الحيوية الشعبية التي جسدتها الثورة إلا من رحم ربي. ولكن وجدتني في السنين الأخيرة محجوب محمد صالحاتصدى بصورة راتبة ليساريين طعنوا في الثورة بمراجعات خففت من نكيرهم التاريخي المعروف على نظام الفريق عبود الذي دكته أكتوبر دكاً. فقد اعتذر الأستاذ التيجاني الطيب عن اشتراك حزبه الشيوعي في إنتخابات المجلس المركزي. وهذا نقض لتكتيك لم تكن لتفلح الثورة بدونه كما بينت في كتابي "بئر معطلة وقصر مشيد: صدأ الفكر السياسي". وأخذت على الأستاذ محجوب محمد صالح قوله إن النظام لم يكن "بطال جداً" من جهة حرية الصحافة. وعاتبت الأستاذ محمد إبراهيم نقد لقوله إن نظام عبود التزم بسنن الخدمة المدنية.
إعادة النظر في تاريخ العهود التاريخية وتجديد فهمنا لسياساتها والتدقيق في ذلك فريضة فكرية. ولكن ما نقوم به حيال نظام عبود لا يمت لإعادة النظر التاريخي في شيء. فهو، من جهة، مواتاة سياسية طغى فيه التدليل بما اتفق (أو ما يسميه أهل النظر في اللغة الإنجليزية بالدليلanecdotal أى المزاحي العشوائي). فمن شروط إعادة النظر في سيرة نظام ما أن تقوم على دراسة لوثائقه ما استحصلنا عليه وما يستجد. ولم أقرأ بعد مكتوباً لكاتب نفذ من مثل هذا الجسد الوثائقي مثلاً ليثبت دعوى إفساد ثورة اكتوبر للخدمة المدنية. والوثائق عن هذه المسألة لابد انها متوافرة في موضع ما لأن حكومة أكتوبر كونت لجان تحقيق عديدة للنظر في أوجه فساد من أرادت تطهيرهم أو عقابهم. وقد قرأت للأساذ شوقي ملاسي ما كتبه عرضاً عن اللجنة التي كان بها وحققت في كسب الأستاذ عبد الرحمن مختار صاحب جريدة الصحافة الموصوف بالحرام. وقس على ذلك.
وتَلَطٌفنا مع نظام عبود، من الجهة الأخري، هو من باب اسقاط التهم بالتقادم والمقارنة. فقد جرت تبرئة النظام من ضروب ظلمه الكثيرة في واحدة من عشوائيات المعارضة للنظم المستبدة التي تلته. فقد سقطت ذنوب نظام عبود من فرط حرص هذه المعارضة على البرهان أن المستبد الجديد كنميري والبشير "ورَّانا جديد ما كان على بال". واستفاد حتى الرئيس نميري من لهوجة المعارضين وضيق أفقهم. فلما استفحلت دولة الإنقاذ وعضت المعارضة عضاً شديداً تذكروا أياماً كاذبة سعيدة في ظل نميري سماها منصور خالد ب"سنوات الوعد".
ومن أوضح دلائل تبرئة نظام عبود من مثالبه بدافع المعارضة لنظام مستبد قائم ما قرأته مؤخراً للأستاذ فتحي الضو. فقد نفى في كتابه "سقوط الأقنعة" أن يكون نظام 17 نوفمبر فاسداً رغماً عن بؤس ممارساته في مجال الحريات العامة. فهو عند الضو لم " توجه أو تثر أي تهم بالفساد لرواده من العسكريين وكذا المدنيون . . . وعلى العكس فقد كان بعضهم مديناً لآخرين، وكانت أرصدتهم البنكية خاوية على عروشها". وهذا نظر غليظ في المسألة لم يطّلع فيه الضو على ملفات التحقيق في فساد عسكرييّ أو مدنييّ النظام ولم يستعن فيه بمصدر ثانوي في كتابه القسيم جيد التوثيق.
وبدا لي أن الضو يفهم الفساد كخصيصة أخلاقية إذا سلم منها القائم بالأمر كتبنا له صك البراءة حتى لو تمكن من نظامه آكلو السحت . فقد يستشري الفساد في زمنه ولكن بوسعه أن ينسل من عجين هذا الفساد كالشعرة متى انقضى حكمه وهو ناصح الجيب. فنميري في نظر الضو غير فاسد بينما أخرج نظامه طبقات رأسمالية أثرت بالفساد. ولو خفف الضو من غلواء العاطفة المعارضة لنظام الأنقاذ العصيب ونظر للرابط المثير الذي أقامه بين الفساد والطبقة لتوصل إلى أن الفساد هو في قاعه تراكم بدائي لرأس المال في السياق الطبقي الأفريقي كما أفتى بذلك إيمانويل واليرستين الخبير بالنظم الرأسمالية العالمية وأفريقيا. ومع أن نقاء الحاكم من الدنس مما نطرب له في كل الأحوال لكنَّا، متى خرجنا للتغيير الاجتماعي، ركزنا النظر لا على نقاء القائمين بالأمر بل على المصالح والقوى التي رَكِبت النظام فصَلٌح بها ولها. فلم نخرج للسياسة لهداية الأفراد بل إلى إصلاح النظم.
نعود إلى ثورة أكتوبر لننظر من هذه الزاوية إلى فساد ولاة العهد الذي أطاحت به ورهطهم. وما يزال أفضل ما نرجع إليه في هذا الخصوص هو ما جاء في "الماركسية وقضايا الثورة السودانية" (1967)، تقرير المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني. فقد جاء التقرير بالسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمهني الذي كسبت به دعوة تطهير الخدمة العادة لثورة أكتوبر معناها. فقد رصد الحزب الشيوعي في تقرير مؤتمره ما أطلق عليه "البرجوازية البروقراطية". وهي فئة تكونت من كبار موظفي الدولة دخلت صفوف الرأسماليين كوكلاء للشركات وفي الأعمال التجارية. وهي فئة جديدة من البروقراطيين أمدت الشرائح الرأسمالية السودانية بقوة ذاتية جديدة. ووصف التقرير هذه الفئة البروقراطية بأنها مما هيأ لها الاستقلال مناخاً للتطلع الرأسمالي في البلاد. فقد تمتعت بامتيازات وبعلاقات وطيدة بالمؤسسات الأجنبية وخاصة البريطانية منها، وبصعود مفاجيء في مستوى معيشتها. فمنحها الاستقلال أكثر من 25% من مجموع الأجور الأساسية لجميع العاملين في قطاع الدولة، بينما لا تتعدى نسبتها العددية أكثر من واحد فاصل ستة في المائة من هذا الجمع. وهذه مناشيء تطلعاتها الرأاسمالية التي لعبت بها دوراً مميزاً في ميدان التجارة الخارجية.
ومن رأي الحزب أن حكم عبود مَثَّل ديكتاتورية هذه الفئات البروقراطية. فهي في وصفه كادر جديد في صفوف الرأسمالية مستنير ومدرك لمالآت مشروعه الرأسمالي وله علاقات دقيقة بمؤسسات الرأسمالية العالمية. ونظر الحزب إلى نشأة هذه الفئة في سياق:
1- وجود جديد للرأسمالية السودانية بعد الاستقلال اتسم بالاعتماد على استجلاب رأس المال الأجنبي من البنك الدولي والدول الغربية بعد أن كانت الرأسمالية السابقة تعتمد على قدرات الاقتصاد السوداني الذاتية. وشكل هذا كله أساساً مادياً لتطلعات تسوق بها البلاد في طريق الرأسمالية وخلق طبقة رأسمالية تابعة لرأس المال العالمي. ومن رأي الحزب أن مشروع العشر سنوات الاقتصادي لنظام عبود جسد هذه القوى وتطلعاتها المبتكرة. ولا نفصل. وحلل التقرير قانون الميزات الممنوحة في الصناعة لعام 1956 ووجده خادماً لمصالح تلك القوى والتطلعات.
2- وهي، بحسب تقرير الحزب الشيوعي، الفئة التي طرحت سودنة التجارة الخارجية. فقد أغرتها الأموال المستحصلة في هذا القطاع، الذي بلغت الأرباح منه بين 12 و15 مليون جنيه سنوياً، لوضع يدها عليها.
3-عطا البطحانيواقتحمت هذه الفئة ميدان الزراعة الآلية. فقد هرع إلى هذا الميدان عدد من كبار التجار وكبار الموظفين والمثقفين البرجوازيين. وصافي ربح هذا القطاع في الفترة 1955-1967 ما يقرب من 11 مليوناً من الجنيهات. وكان نصيب اللواء أحمد عبد الوهاب مثلاً 3000 فدان من أرض الحكومة تعويضاً حين خرج مغاضباً من حكومة عبود بعد انقلاب شنان ومحي الدين في مارس 1959. وقد شرح الدكتور عطا البطحاني بإتقان كيف فرض نظام عبود على الحكومة المحلية في جبال النوبة "تسليع" أرض مجالسهم، أي جعلها سلعة تباع وتشتري خضوعاً لغرائز الربح في طبقة الأفندية الناهضة المستثمرة. وكانت سياسة الأرض بالجبال منذ عهد الإنجليز (في إطار سياستهم المعروفة تجاه جبال النوبة) أن تكون للنوبة لا يداخلهم فيها أحد. واستباحة أرض الهامش بواسطة البروقراطية البرجوازية هي التي أغضبت أهله على المدي الطويل وألبتهم على الحكومة المركزية في حروب السودان الأهلية الشتى كما أوضح ذلك الدكتور دوقلاس جونسون في كتابه عن تلك الحروب.
عليه كان مبدأ تطهير الخدمة المدنية في ثورة أكتوبر موقفاً طبقياً من هذه الفئة من "البروقراطية الكبيرة" في جهاز الدولة "ذات الولاء للاستعمار". فقد صنفها الحزب من بين القوى التي تقف في وجه استكمال الثورة في بلادنا وإعادة بناء الحياة فيها لتخرج من التخلف إلى رحاب البعث الوطني. وكان هذا التحليل ومترتباته هو الذي ألهم ثوار أكتوبر، ممن عاشوا حقائق هذا الاقتصاد السياسي بالقريحة وعانوا منه، ليطالبوا بتطهير الخدمة المدنية. فلا يمكن للناس أن تصدح بمثل هذا الشعار عن غفلة أو تهريج.
ويقع الضو في براثن التناقض إن قال إن نظام عبود كان نظيف الذيل مترفعاً عن الفساد وأردفه بقوله إنه حارب حرية التعبير حرباً وسوس فيها لدرجة منعه الصحف التعليق عن إدارة نادي الهلال ضمن قائمة طويلة من المحرمات نشرها الشيوعيون في كتاب "ثورة شعب" (1965). فلابد من مسائل للضو: "ما الذي يخشاه نظام مسربل بالعفة والطهر؟". ولن يستقيم قول الضو إلا إذا هجر شوارد الأدلة المزاحية أو المزاجية وتنصل عن عادة المعارضة كما اتفق ونظر إلى الاقتصاد السياسي لدولة عبود بمثل ما فعل الحزب الشيوعي وإن اختلف معه. فطاقم الحكم في نظام عبود مذنب عندنا لتعهده برعاية نشأة برجوازية بروقراطية تراكم رأسمالها عن طريق استخدام مواقعها في جهاز الدولة وعلاقاتها العالمية وتغولها على حقوق المستضعفين. ولا يريد مثل هذا الظالم آكل السحت بالطبع أن يقول له كائن ما: "البغلة في الإبريق".
# أرجو أن أعتذر عن ورود اسم داخلية الشهيد الثرشي بجامعة الخرطوم ك"بحر الزراف" في بعض حديثي بينما قال كليف تومسون، الأكثر تحقيقاً للمسالة، إنها "سوباط"
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة اكتوبر 1964
هل كان تطهير ثورة أكتوبر للخدمة المدنية جزافياً؟ (9-30)
(محجوب محمد صالحخصصت احتفالي بثورة أكتوبر 1964 هذا العام 2006 لدفع الإفتراء الذي راج عنها من أنها أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وأنشر هنا مقالاً يعود إلى 2001 ورد في (الصحافي الدولي) ألقيت فيها بعض الضوء على هذا الذائعة الضارة. وأعتذر في هذا المقام للأستاذ محجوب محمد صالح، رئيس تحرير جريدة (الأيام)، لأنني كتبت منذ أيام أنه زكي نظام عبود من جهة احتماله للصحف أو نحوه. وستجد في هذا المقال أن محجوباً زكاه من جهة حفاظه على سمت الخدمة المدنية. وسأعود في حديث قادم لأعرض بعض مباحثي الجديدة عن بؤس الخدمة المدنية في ظل نظام عبود)
كان من عادة الحزب الشيوعي أن يصدر كتاباً أسود عن مخازي نظام عبود (أو عصابة 17 نوفمبر كما كان يسميها) قبايل احتفالات النظام بالذكرى السنوية لقيامه. ويؤسفني أن اضطر إلى تجديد شيء من هذا التقليد هنا. فقد انزعجت لما قرأته وسمعته من آراء و"صمت" نظام عبود بنقاء السريرة وكريم الشمائل حتى شككنا حول مشروعية ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت به. ويؤسفني أن اضطر إلى هذا الذكر السيء للنظام ورجاله الذين طوى أكثرهم الموت وأصبحوا بين يديّ غفور رحيم. غير أنه لا حياء في التاريخ كما لا حياء في الدين.
أنا من الجيل الذي قدح فيه نظام عبود السياسة قدحاً. ولا أكن في ذاكرتي، أو مصابرتي للنظام، أو دفعي له، المعاني الإيجابية التي نسبها له الأستاذ محجوب محمد صالح (الأيام 25-10-2001). فقد ميزه بقوله إنه، خلافاً لنظم عسكرية تالية، تمسك بحيدة الخدمة المدنية واستقلال القضاء وعدم تسييس جهاز الدولة. ولا أجد لتمثيل محجوب لعصابة 17 نوفمبر صدى في نفسي. وسأترك أكثر ما ذكره محجوب عن مزايا نظام عبود، مقارنة بنظم عسكرية أخرى، وأركز على نقض رأيه عن حفاظ عبود على استقلال القضاء. وقد سمعت الطنة من آخرين لا مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
لا أذكر أن أياً من شهد أكتوبر خالجه أدنى شك في "تطهير" السيد أبورنات رئيس القضاء على عهد 17 نوفمبر. فرئيس القضاء لم ينتظر حتى إجراءات التطهير اللاحقة لأنه قد سقط من سدة القضاء في نفس الوقت الذي سقط فيه أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة من سدة الحكم. فقد كان أبورنات في نظر الثائرين مفردة ركينة في النظام تبقى به وتسقط معه. وقد نقش الثائرون بند استقلال القضاء في ميثاق ثورة أكتوبر بالنظر إلى حس الناس آنذاك بأن النظام والقضاء قد أصبحا وجهي عملة واحدة.
سأعرض بسرعة هنا للشروط السياسية الظالمة التي أحدقت بعمل القضاء فهدمت استقلاله في ظل نظام عبود. فقد خيم عليه طوال سنوات النظام الست شبح قانون دفاع السودان (1958) الذي هو الجانب المظلم من قمر العدالة. وقد رأينا هذا القانون يتكرر في أنظمة عسكرية لاحقة. فقد كان لنميري قانون أمن الدولة (1973). وجاء النظام الحالي بقانون الأمن الوطني (1991) وقد ألقت هذه القوانين دائماً بظلها الثقيل على الأداء العدلي. وقد كرهها القضاة وقاوموها بأشكال شتي. وأبطل قانون دفاع السودان الحقوق المدنية والدستورية للمواطنين بالجملة: عطل حرية التعبير والتنظيم وحرية الانتقال حتى أنه قضى بتحديد إقامة المرحوم محمود حسيب في مدينة كتم.
عثمان خالد مضويوقد أرسى قانون دفاع السودان ممارسات مجافية للعدالة ما تزال معنا. فقد أقحم المحاكم العسكرية فنظرت في قضايا تطالها قوانين السودان السارية ومحاكمه العادية. كما أنه قَنَّن الاعتقال التحفظي. ولم يكن بوسع القضاء التمتع باستقلاله وقد خضع لاستبداد جامع مانع تمثل في قانون دفاع السودان. فلم تقدر المحاكم النظر في قضية قتيل المقرن المشهورة التي اشتبه الناس في أن القاتل كبير في الحكومة. ونكص القضاء عن المحكمة حتى بعد أن أعدت نقابة المحامين عدتها لتمثل الاتهام في القضية. بل أن القضاة الذين أزكمت أنوفهم الفضيحة فٌصلوا لأنهم تحروا القضية وتمسكوا بسير الإجراءات فيها. وكان من بين هؤلاء القضاة السيد علي محمود حسنين والسيد عثمان خالد مضوي. ولم ينبس رئيس القضاء ببنت شفة.
ومما يذكر لجريدة الأيام (وكان وما يزال محجوب محمد صالح محرراً مرموقاً بها) أنها دافعت عن سيادة القضاء بما لم تفعل القضائية نفسها أو راعيها. فقد طالبت الجريدة في افتاحيتها (30-1-1959) المحكمة لعسكرية التي أدانت المرحوم الشفيع أحمد الشيخ، سكرتير اتحاد نقابات عمال السودان، ورفاقه بالسجن أن تنشر حيثيات حكمها على الملأ. وكان جزاء الأيام الوفاق هو الإيقاف والتحقيق مع الأستاذ محجوب عثمان تحت المادة 4 (أ) من قانون دفاع السودان.
لقد حز في نفسي أنني لم أكتب كلمة راضية مرضية في مناسبة احتفال الأيام بمرور 47 عاماً على صدورها (1954-2001). وقد أحسنت الجريدة إليّ كل ما جئتها أحمل أوراق الخاطر الكسير. وربما خففت كلمتي هذه عن شجاعة الأيام في ذلك الوقت العصيب حسي بالذنب لهذ القصور على أنني كتبتها في سجال مع محرر الجريدة. فقد وقرت الأيام القضاء في منعطف صعب توقيراً لم يجده ممن تقلدوا التبعة المهنية والأخلاقية للجسارة في فعل ذلك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة اكتوبر:
الإنجليز: زرق يحكمون سود (10-30)
(تصلني تعليقات غاية في الحرص على سلامة رواية أكتوبر من جهة الوقائع. فقد أيدني الأستاذ أحمد بابكر، الذي كتب رسالة جامعية حسنة عن ثورة أكتوبر، بغياب الشهيد القرشي عن الخرطوم ليومين في أكتوبر 1964. فقد جاء رفيق من المؤتمر الثانوية، حسب الرواية، إما يوم 18 أو 19 أكتوبر إلى غرفته بجامعة الخرطوم لياخذ بعض المنشورات منه. فوجده ترك له المنشورات مع زميله بالغرفة مع ورقة اعتذار بالغياب. وقال أحمد بابكر إن القرشي كان يوم 17 و18 بالفعل في قريته القراصة بالنيل الأبيض يحضر زواج أخته الصغرى. وواضح أن رفيق المؤتمر جاءه يوم 18.
أما صديقنا الرفيق المهندس محمد يوسف أحمد (فائق) والقطب الاتحادي المرموق فكتب يقول إن القرشي لم يستشهد لا بداخلية بحر الزراف كما قلت أنا ولا بداخلية السوباط كما ذكر كليف تومسون بل بداخلية الدندر الفارعة. وقد كنت رئيسها يوماً ما وسماها طالب أفريقي زائر ب"الهند الصينية" من فرط كثافة سكانها. والحق في الواضح مع فائق. فقد سكن مع القرشي في تلك الداخلية. بل واصيب في ذلك اليوم وفات عليّ إيراد اسمه ضمن الجرحي. وستصطدم رواية فائق على هذا مع الأستاذ شاموق القديمة في "الثورة الظافرة" التي فصّل مشهد استشهاد القرشي وقال إنه وقع في داخلية سوباط وودت لو سمح وقت فائق بأن يكتب عن تلك الليلة فقد ناشتها التخرصات والأقاويل).
صفوة المعارضة البرجوازية الصغيرة في الشمال مصابة في خيالها. وبئس المصاب. فقد طاش صوابها من فرط تعاقب الأنظمة المستبدة طيشاً طَلًّقت به المستقبل طلاق بينونة وترامت عند رسوم الماضي. فقد انتهت المواصلات عندها بالترام والتعليم ببخت الرضا والرغيف ببابا كوستا والفصاحة بالمحجوب وكرة القدم بجكسا والخدمة المدنية بالإنجليز. ويسمون هذا ب "الزمان الجميل" عياناً بياناً. وتشخيص ما تعاني منه هذه الصفوة سهل. فقد أنشبت فيها النوستالجيا حمانا الله وإياكم. وهي حالة ذهنية تنكفيء بها الجماعة على الماضي لأنها لم تعد تملك للحاضر القبيح دفعاً وتوارى عنها المستقبل فلا تملك للنفاذ إليه آلة من خيال أو ممارسة. فالمصاب بالنوستالجيا هو من ضرب خيمته عند الماضي. فهو لا يستلهم الماضي بل يؤلهه (والعياذ بالله) ويكتفي به فهو الغاية التي لن تتكرر والمأثرة التي انطوت. وكل من عليها فان.
ومع ذلك فالنوستالجيا نوع حميد وخبيث. فالحميد منه هو حس بالتاريخ لا مهرب منه لكل مشروع تاريخي. أما الخبيث فهو حمل كاذب. فعقيدة أهل خبائث النوستالجيا عندنا في أنه كان لنا ماض مشرق لن يتكرر وهم كبير. فلم يكن ماضينا مهما كان على الصورة الخاتمة التي صوروها لنا. فهم من فرط يأسهم يضفون عليه هالة من الوهم. وينقونه من أوشاب تاريخه المعطون في النزاع والخلاف ويسطحونه ليكون لوحة جميلة ممصمصة من نقش الواقع.
وصفوتنا الشمالية المعارضة ابتلاها الله بشر أنواع النوستالجيا. فكيف لا وهم على عقيدة جامعة مانعة من أن العهد الذهبي للخدمة المدنية كان في عهد الاستعمار. ومن رأيهم أن تلك الخدمة لم تقل "أحيا آ العافية" منذ ذلك التاريخ. وهذا تهافت عجيب. فالاستعمار بتعريفه ذاته لا ينتج خدمة مدنية. فالخدمة المدنية تفترض قيام جماعة من الموظفين بخدمة أمة من الناس شريطة أن تكون هذه الجماعة المخصوصة مساءلة أمام هذه الأمة مهما اشتطت في بروقراطيتها أو إذعانها للمستبدين من الحكام. والاستعمار براء من الخدمة المدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة المستعمرين قد نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء. ولهذا لم يسلموا من الإبادة في الأمريكيتين واستراليا ونيو زيلنده والجنوب الأفريقي وغيرها لكي تخلو الأرض للغازي الذي جاء ليتملكها بآخرة. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم".
وترتب علي غربة دولة المستعمرين عن رعاياها أنها ترفعت عن أن تتوطن بينهم كما تريد ذلك أي حكومة حاقة الاسم لنفسها بالغاً ما بلغت من الاستبداد. فالمستعمر الأوربي يعتزل الأهالي عنوة ليغرق في عوالمه الخاص. ووجدت أفضل تعبير عن نفور المستعمر عن الأهالي في ما كتبه السيد بيلي (1920) من المفتشين الإنجليز في السودان. فقال إنه وصحبه من الإنجليز كانوا ينفقون الليل في حفلات عشاء متلاحقة لا تكاد تنتهي ورقصها يسر قلوب صديقات وحسان. وأضاف أن الطبقة الحاكمة كانت تصحو صباحاً والسكرة بايتة معها وتتجه إلى مكاتبها لتدير شأن الرعية. وأضاف أن صلتنا بمرؤوسينا (الأجانب وشدد عليها في الأصل، وهم الأهالي السودانيون) تنتهي حين يحل وقت الغداء ولن نعاود كرة التعامل معهم إلا في صباح اليوم التالي. فيذهب البريطانيون إلى دورهم الهانئة على النيل بحدائقها المترعة بالسقيا وأشجارها الباسقات بينما يذهب مرؤوسونا الذين انزَقَلت بيوتهم عنا وقد تراصت بكآبة في ظهر المدينة الترابي. وزاد بيلي أنه قد يحدث أن نرتب لنجتمع بهم في مناسبات اجتماعية ولكن غالباً ما جاءت ماسخة أملاها الواجب وافتقرت إلى الخيال.
ومن أبلغ ما قرأته في وصف غربة حكومة الاستعمار قول أحدهم إنها دولة مٌفَكَسة (من fax) أي أنها صورة من أصل. والأصل هو الحكومة في حواضر الإمبريالية مثل لندن وإنجلترا ولشبون. فمرجع الحكومة في البلد المستعمر مثل السودان هو الحكومة الإنجليزية. فالإدارة الإنجليزية عندنا مكلفة من قبل حكومة الحاضرة الإمبريالية باستنزاف موارد البلد المستعمر ومٌحَرَج عليها ألا تضيع مال دافع الضرائب البريطاني في ما لاعائد منه رفعاً لعناء الأهالي أو شفقة بهم. ولهذا كان الجنوب السوداني خارج خارطة الاستثمار الإنجليزي جملة واحدة. فحتى التعليم فيه سندوه للإرساليات التي تريد التنصير قبل كل شيء. وتدير حكومة الحاضرة الإمبريالية مثل لندن مستعمراتها عن طريق وزارة المستعمرات وإن كان للسودان وضع مختلف لشراكة مصر في استعماره. ولكنه اختلاف أحمد وحاج أحمد. وعليه يصبح من الركاكة بمكان قول صرعى النوستالجيا بأنه كان للإنجليز خدمة مدنية مرموقة يذرفون عليها دموع التهافت.
ومن نتائج اعتزال دولة الإنجليز الاستعمارية المجتمع الذي تديره أنها اصبحت دولة بلا رابط وثيق خاص مع فئة دون فئة مما طبعها بقدر من الحيدة في تدافع السودانيين وظلم واحدهم للآخر. وربما أٌعجب الناس بالعدل الذي يتأتي من مثل هذه العزلة. ولكنه عدل ناشيء من تعالي الدولة على المجتمع وتساميها لا انشغالها به وتورطها فيه والسهر على خدمته. ومع ذلك كان للإنجليز تحالفات سياسية أملت عليهم التحيز لمن ارتبط من السودانيين بهم. وهي تحالفات عابرة يعقدها الإنجليز وسرعان ما يملونها لأنها غير قائمة على ميثاق ثقافي متين. فأقصى هم الدولة المستعمرة هو تأمين الرقعة الجغرافية التي استولت عليها من شغب الأهالي وحسدهم وهي مستعدة للتحالف مع الشيطان لهذه الغاية. وقد رأينا قصر حبل هذه التحالفات الإنجليزية مع قطاعات سياسية وثقافية سودانية. فقد تحالف الإنجليز مع علماء المشيخة الدينية في أول عهدهم ثم زقلوهم واستبدلوهم بزعماء الطوائف الدينية. وتحالفت مع الأفندية أولاً ثم ألقت بهم على قارعة الطريق حين تمردوا عليها في ثورة 1924 لتصطنع الإدارة الأهلية التي مكنت بها لزعماء القبائل. ثم انقلبت على السيد عبد الرحمن المهدي حين ألح على الحكم الذاتي من داخل الجمعية التشريعية في أوائل الخمسينات وأنشأت الحزب الجمهوري الاشتراكي بزعامة إبراهيم بدري وطائفة من زعماء القبائل المحسوبين على الأنصار. فالحكومة الاستعمارية لا توقر حلفاً. فما عقدت عهداً مع جماعة من الأهالي حتى نكثت عنه. فشاغل الأمن ووساوسه يجعلها تبدل الأحلاف كما يبدل المرء أحذيته. ومن رأي مؤرخ ضليع أن هذا الملل الاستعماري بالأحلاف هو بالضبط ما ذهب بريح المستعمرين. فقد جربت معظم الدوائر السودانية التعامل معهم ثقة منها بعهدهم لها ولم تجد منهم سوى الخذلان. وقَنِعت منهم ظاهراً وباطناً ففقد الاستعمار الظهير وسقط من عل في مزبلة التاريخ الشيوعية المعلومة.
هبطت صفوتنا المعارضة الشمالية إلى درك سخيف في نوستالجاها حتى "اخترعت" للاستعمار خدمة مدنية. وتولهوا بهم لأنها حوت خريجي أكسفورد وكمبريدج لا غيرهما. ومن يعصي لإكسفورد وكمبريدج أمرا! وطلاب الجامعتين مما يطلق عليه الإنجليز "الزرق" في سياق منافسات الطلاب الرياضية أو نحوه. يا سبحان الله. وماكان للاستعمار خدمة مدنية ولا ينبغي له حتى لو صب فيها سكر أكسفورد وعسل كمبريدج. فحتى الإنجليز سموا خدمتهم في السودان ب "قلم السودان" لو صحت الترجمة عن ""Sudan service واشتهرت في الحركة الوطنية بإسم حكومة المفتشين. والمعنى الأخير غاب عن الصفوة المعارضة الشمالية بينما الصيد المعرفي كله . .. في بطن هذا الفرا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
Quote:
فالاستعمار بتعريفه ذاته لا ينتج خدمة مدنية. فالخدمة المدنية تفترض قيام جماعة من الموظفين بخدمة أمة من الناس شريطة أن تكون هذه الجماعة المخصوصة مساءلة أمام هذه الأمة مهما اشتطت في بروقراطيتها أو إذعانها للمستبدين من الحكام. والاستعمار براء من الخدمة المدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة المستعمرين قد نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء. ولهذا لم يسلموا من الإبادة في الأمريكيتين واستراليا ونيو زيلنده والجنوب الأفريقي وغيرها لكي تخلو الأرض للغازي الذي جاء ليتملكها بآخرة. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم". |
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
التطهير: حتاما نساري ثورة أكتوبر في الظٌلَم! (١١-٣٠)
تمر اليوم الذكرى الخامسة والأربعين لثورة 21 أكتوبر. وهي ثورة أراد منها أكثر أهلها جذرية "أرنباً" وهو عودة الجيش للثكنات وتغيير نظام الحكم العسكري للفريق عبود (1958) بآخر مدني ديمقراطي فخرج لها "أسد مربعن". فالثورة أثمرت نظاماً طرق باب التغيير السياسي والاجتماعي بقوة. فدخلت الحكومة لأول مرة قوى مهنية وشعبية كانت خارج النادي السياسي القابض. وأفاضت الثورة المواطنة على النساء والشباب والجنوبيين بصورة غير مسبوقة. ولم تدم في الوطن. فكانت ظلاً وقف ما زاد. وقد انتكست بفعل فاعل لوث ذكراها بجرائر نسبتها إلى الفوضى وارتجال الحكم. وما كانت كذلك. و"جرحها العدا" كما قال الشاعر على عبد القيوم بالباطل. وجرحها "ثوار المجد" بإضغان تاريخها كتاريخ أو لاعج خاص جداً يتمرغ في أناشيد مريرة المذاق. ولم يجعلوها شاغلاً لتاريخ آخر للشعب.
من أفدح ما قيل عن ثورة أكتوبر إنها أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وقد رددت على هذه الفرية في مناسبة احتفالنا بالثورة في العام الماضي. وأغلط ما قيل عن التطهير إنه كان جليطة يسارية عشوائية. ولم يكن التطهير كذلك. كان من جهة إجماعاً قومياً. وتولته لجان تحقيق تثبتت من الإدعاءات حول المطهرين قبل نزول الفأس على الرأس. فقد صرح أستاذنا عبد الخالق محجوب في يناير 1965 عن أحزاب تزعم إعادة النظر في التطهير متى فازت في الإنتخابات. ووصف ذلك بأنه انقلاب دستوري. فالتطهير هو استكمال للتحرر الوطني. وقال إنه سبق أننا لم نستكمل السودنة على أسس وطنية فبقي من وضعهم الإنجليز على قمة الإدارة على حالهم. وأضاف أنه يجب ألا نسمع للمتباكين على الخدمة المدنية لأنهم لم يكونوا حيث ينبغي في صف حرية البلاد خلال النضال الوطني وتستروا لاحقاً على جرائم نظام عبود.
ولم يعجب الأحزاب هذا التعريض بانقلابها على التطهير. فقال مصدر في حزب الأمة إنهم مع التطهير شريطة أن لا يحيق الظم بأي مواطن. ونفى أن يكون الحزب قد اتفق له إعادة النظر في التطهير. وكذلك صرح مسؤول من الأخوان المسلمين نافياً تنصلهم عن التطهير. وقال: "إننا كنا أول من نادى بالتطهير في بياننا الأول الذي نشرناه أول أيام ثورة 21 أكتوبر." ومن رأيهم أن معالجة الحكومة للتطهير صحيحة. وفي بيان رئيس الوزراء الأخير ضمانة أن لا يتضرر بريء. ومجلس الوزراء كفيل بإدارة التطهير ورده إلى نصابة متى انحرف عن أغراضه الأصلية (5 يناير 1965). فمن أين لمراجعي التاريخ الزعم بأن التطهير كان عملاً شيوعياً طائشاً؟
من الجهة الأخرى لم تقع حالة تطهير إلا بعد تحقيق في اتهام صاحبها بالفساد أو سواه. وطفحت الصحف بأخبار انعقاد هذه اللجان وعرضها نتائج تحرياتها على مجلس الوزراء وما اتفق للمجلس حيالها. فجاء في الصفحة الأولى من جريدة الأيام خبر إحالة وكيل الري السابق إلى المعاش المنتظر أن يجري معه تحقيق جنائي حول تهم تتعلق بمخالفات مالية (الأيام 17 فبراير 1965).
وجاء في الصحف أن مجلس الوزراء نظر في تقارير لجان التطهير في عطبرة، ومصنع سكر الجنيد، وأراضي الحلفاية، ومصلحة المخازن والمهمات، والنقل الميكانيكي، وسينما النيلين، وممتلكات أعضاء المجلس الأعلى المنحل، وموضوع الزراعة الآلية في القضارف، وأن المجلس سيصدر قرارات نهائية بشأن هذه التقارير في اليوم التالي لنظره فيها. كما أنهت لجان التحقيق في الشكاوي الموجهة ضد بعض موظفيّ وزارة الصحة من أعمالها. وأجتمع الوزير باللجان اليوم لبحث تقاريرها (الأيام 16-12-1965).
ويقف التحقيق في فساد منشآت وقرى خشم القربة (التي رٌحِّل إليها شعب الحلفاويين عام 1963 بعد إغراق أرضهم) شاهداً على سمت العدل الذي اكتنف التطهير. فسنرى أنه كان للتحقيق في فساد كبار موظفي الأشغال المتهمين بالتواطؤ مع المقاولين أساساً بين الناس لا مجرد وحي شيوعي. ومن جهة أخرى سنرى أن منهج لجان التحقيق في طلب الحقيقة ساقها إلى عمل ميداني زارت به حقول الفساد. ولم يقتصر عملها على التحقيق في المكاتب بل نفضت الغبار عن مواضع الفساد وتفرستها بنفسها.
فقد جاء في الصحف خبر فراغ لجنة التحقيق في فساد مشروع خشم القربة (متصل بترحيل النوبة) وعطاءاته التي زكمت الأنوف. ورفعت اللجنة تقريرها للوزير عبد الرحمن العاقب. وكانت اللجنة استجوبت في اليوم الذي سبق النشر السيد علي دنقلا أحد مقاولي ذلك الإسكان. وكتب الدكتور حسن هابش، الزراعي الذي صار نائباً لمدير جامعة الخرطوم في ما بعد، في جريدة الأيام مؤمناً على همة لجنة التحقيق في فساد خشم القربة وانتظار الناس، الذين أزكم أنوفهم فساد إدارييّ العهد الماضي، لنتائج شغل اللجنة. وكانت وفود متتالية قد جاءت من حلفا للخرطوم لتطالب بتكوين هذه اللجنة. وقد قال إن اللجنة ذهبت للقربة وحققت في كل المقاولات وبخاصة مقاولات الري والمباني. واقترح هابش خطوة أخرى بعد التحقيق تنظر في مستقبل المشروع تزيل آثار مترتبات التوطين المجازف.( الأيام 6 يناير 1965).
وكان عمل لجان التحقيق منهجياً وافياًً. فجاء في وقت لاحق أن لجنة التحقيق في فساد خشم القربة سافرت إلى بعض قرى المرحلين من حلفا القليلة التي لم تزرها من قبل. أي أن اللجنة قامت بضبط هذا الفساد من عدمه بعمل موضعي ميداني غطى القرى جمعاء. ولم تك زيارتها سدى. فقد وقفت بنفسها على طبيعة فساد البناء ومواصفاته بحفريات قامت بها في الأساسات. ورفعت بعض السقوف لتتأكد من أن كل المباني قد شيدت حسب المواصفات (الأيام 9 فبراير 1965).
متى نكف عن التخرص عن ثورة أكتوبر؟ متى نكف عن لوك الأناشيد هوناً لنمنع العدا عن ورود حوض أكتوبر وتركه كدراً وطينا؟ متى يسعف النثر الشعر في رد الاعتبار لأكتوبر؟ متى يلحق الفكر بالنشيد؟
حتما نسارى أكتوبر في الظٌلَم!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة 1964
انقلاب 17 نوفمبر وجامعة الخرطوم: لا حافظ على خدمتها المدنية ولا حاجة (12 من 30)
في مثل هذا اليوم قبل 49 عاماً تجرأت قيادة الجيش السوداني في أعلى مستوياتها، و بعد عامين لاغير من استقلال السودان، على أخذ زمام الحكم عنوة من نظام ديمقراطي. ولا تزال ملابسات هذا الخرق البين للدستور غير واضحة. واكتفينا من غنيمة ذلك الوضوح بتخرصات مثل مضغنا من غير ملل القول بأن الانقلاب كان "تسليماً" من رئيس الوزراء عبد الله بيه خليل و"تسلماً" من الفريق عبوده وصحبه. وكانت يا عرب. وهناك من اتهم الأمريكيين بأنهم كانوا من وراء الانقلاب واكتفى من ذلك بالبينات الظرفية. وصهين. ولعل أكثر القول مجاجة هو نظرية "الجزاء الوفاق" التي ظل يروج لها الدكتور منصور خالد. فمن رأيه أن الانقلاب كان العقوبة المناسبة لأننا أخترنا النهج الديمقراطي ونحن "بببح" من ثقافته ففشلنا وأدمنا الفشل. فهو كمن يقول إننا لم نكن نستحق الديمقراطية. ومن وقف على وقائع تلك الأيام بقسط ومنهج ووجدان سليم لرأى أن الديمقراطية كانت بخير لسبب بسيط هو أن الناس أختلفوا فيها اختلافاً بيناً كما ينبغي لهم في الديمقراطية.
من سخرية القدر أن أكثرنا ظل يحاكم نظام 17 نوفمبر لا بما عمل كما طلب منا بشعاره الشهير: "حاكمونا بأعمالنا" بل بأعمال النظم العسكرية التي تلته في 1969 و1989. ولذا غلبت في حديثنا عنه صيغة "أفعل التفضيل". فأكثرنا لا يقول عنه إنه نظام جيد بل نقول إنه نظام أجود مما نحن فيه سواء في عهد نميري أو البشير. وهذه هي الصيغة التي استخدمتها الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم في حديثها عن نظام عبود في لقاء صحفي بمناسة ذكرى ثورة أكتوبر القريبة.
وبدا النظام من فرط استخدامنا الاعتباطي لأفعل الفضيل في تقويمه وكأنه جنة بلال. وأتعس ما نروجه عنه قاطبة أنه حافظ على كفاءة وحيدة الخدمة المدنية دون النظم العسكرية اللاحقة. وهذا "كلام ساكت" بشكل لأن صاحبه لا يؤسسه علي درس ممحص لا للقوانين التي سنها النظام للحفاظ على كفاءة الخدمة المدنية أو لهدمها ولا لممارساته على ضوء تلك القوانين. ويقع هذا الكلام الساكت من جماعة مستنيرة حسنة التدريب في النظر الدقيق في تلك السنن والممارسات في أصولها أو في المصادر الثانوية.
ومن المصادر الأخيرة التي لا يلق لها النفر في صفوتنا السياسية بالاً كتاب بالإنجليزية عنوانه "مائة عام على نشأة جامعة الخرطوم، 1902-2002" للأستاذ الزين على إبراهيم. فقد خصص الفصل السادس منه لسياسة نظام الفريق عبود حيال الجامعة. والصورة التي رسمها لتلك السياسة تسقم الخاطر. فقد رجع نظام عبود بالجامعة إلى ما قبل عام 1956 من عهد الإنجليز الذي مكنوا فيه للحاكم العام ومدير مصلحة المعارف منها. وانقلب نظام عبود بذلك على النموذج الذي سماه الزين ب "النموذج البريطاني المدني" الذي ترعرع في ظل الاستقلال. وهو نموذج وطده قانون الجامعة لعام 1956 الذي كفل استقلالية الجامعة. فقد عقد لها القوامة على نفسها في اختيار الطلاب وتعيين هيئة التدريس والموظفين ووضع المناهج ورسم خطة البحث وتحديد أوجه صرف ميزانيتها. وحرص القانون على تمكين مجلس الأساتذة في هذه القوامة على حساب مجلس الجامعة، وبه أعضاء معينون من قبل الحكومة، لخشية أن يتطفل المجلس على باطن الجامعة.
من المعلوم أن نظام 17 نوفمبر لقي الأمرين من طلاب جامعة الخرطوم. وبدلاً من أن يواجه النظام مصيره مع خصوم ذوي خلاف سياسي معه قرر أن يجفف تلك الخصومة باقحام نفسه في إدارة الجامعة بتعديل لقانونها في 1960. فجعل التعديل الفريق عبود راعياً للجامعة بحكم منصبه كرئيس للدولة. وهذه عودة بالجامعة إلى أيام كان الحاكم العام راعياً لكلية غردون بحكم المنصب إلى ما قبل 1955. وكان قانون 1956 قد نزع رعاية الجامعة عن رئيس الدولة بالكلية في حين أعطاه حق اختيار الراعي لسنوات ست.
وجعل تعديل قانون الجامعة لسنة 1960 تعيين المدير من سلطة راعي الجامعة. ولمجلس الجامعة حق أن يستشار في الأمر (ويٌخالف). وهذا عكس لآية قانون 1956 الذي يٌعين فيه مجلس الجامعة مديرها مستشيراً راعي الجامعة. وهكذا جرد نظام عبود المجلس من صلاحية أساسية وجعل منصب المدير أدخل بالدولة منه بالجامعة. وبوسع رأس الدولة بالطبع أن لايستشير المجلس. ومن رأي الزين أن نظام عبود أبعد النجعة في التحكم في الجامعة بما لم يقع للإنجليز أنفسهم. كما أعاد النظام تشكيل مجلس الجامعة لتكون للحكومة فيه الغلبة في الأعضاء. وأعطي القانون المجلس حق اختيار مندوبي الخريجين فيه علماً بأن المجلس حكومي الهوى. ومحصلة كل هذا أن ضرب النظام حكم الجامعة لنفسها بنفسها، كما أراد لها قانون 1956، في الصميم. وما اكتمل هذه التطفل الحكومي على الجامعة حتى صدر عن مجلسها القانون رقم 9 في 1960 يحجر على اتحاد الطلاب أن يدلي بدلوه في المسائل القومية. ولم يقبل به الطلاب فحلت الجامعة الاتحاد الذي عاش في السرية حتى عام 1963.
أما عن سلطات وزير المعارف في الجامعة فقد ظلت غامضة قياساً بالوضع في الجامعة المصرية سوى أنه يزكي لراعي الجامعة من سيكون مديراً لها. وزج النظام بوزير المعارف في شأن الجامعة عودة إلى عام 1944 حين كان مدير مصلحة المعارف عميداً لكلية غردون. وغموض وظيفة الوزير ربما كانت مقصودة أراد بها النظام تنفيذ مشروعه للهيمنه على الجامعة بالقطاعي اعتماداً على أن وزير المعارف كان عسكرياً وتكفيه حاسته للضبط والربط ليتصرف في الجامعة بما يحيدها في الصراع السياسي.
ارتد نظام نوفمبر بالجامعة إلى نمط إداري إستعماري كانت قد تركته من ورائها وهي تتدرج في درب تطورين دراميين: تحولها من كلية جامعية إلى جامعة وتنسمها عبير الاستقلال الذي سيفسح لها ويمكنها من إدارة نفسها بنفسها. وارتكب النظام هذه الأذية للجامعة لا لشيء سوى استبداد هاجس الأمن به لا غير. فقد تورط في إدارة الجامعة بينما لم يكن يطلب أكثر من كف أذى الطلاب السياسي عنه. فلم يٌعرف عنه أنه تدخل في تعيين الأساتذة ولا وضع المناهج ولا تصريف ميزانية الجامعة. ولما تفجرت ثورة أكتوبر من جامعة الخرطوم كان استقلالها شاغلاً ثورياً كبيراً جرت به أنهر ميثاقها وعكفت بهديه اللجان لتخرج بقانون 1965 الذي منح الجامعة استقلالاً ما حصل. وما كادت اللجان تفرغ منه حتى قام انقلاب مايو 1969.
قل لي بربك يا صاح أين حيدة الخدمة المدنية وحفاظ نظام عبود عليها؟ فسوءة النظام الكبرى خلال استيلاء هاجس الأمن عليه أنه أشعل فتيل الفتنة بين الطلاب وإدارة الجامعة (وهي من خيار الأساتذة) حول أشياء ليست في أصل وظيفة الجامعة. وكنت شاهداً على ذلك خلال عملي باتحاد الطلاب في تلك السنوات العجفاء. وأكثر من شقي بهذه المواجهة الرجل الفاضل العذب الدكتور النذير دفع الله مدير الجامعة خلال ثورة اكتوبر. رحمه الله. وتلك قصة أخرى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
الخميس, 20 تشرين1/أكتوير 2011
ربيع ثورة أكتوبر 1964 عن تطهير سر الختم الخليفة: البربري دا طبعاً ما ممكن يديك الحقيقة (13 من 30)
قرأت بكثير من الأسف كلمة للدكتور حسن أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم سابقاً وبالجامعة الإسلامية بماليزيا حالياً، ينعى فيها خاله المرحوم سرالختم الخليفة التربوي ورئيس ورزاء دولة ثورة أكتوبر (سودانايل 17 مارس 2006). ما تأسفت له أن كلمة حسن اقتصرت على ما لقيه المرحوم من عنت على بداية عهد انقلاب مايو. وحياة الرجل أعرض وأذكى وثمرها مما يدنو قطافه لمؤرخ في تمام تأهيل مثل حسن. وأسفت أيضاً لتلميح حسن أن خاله لقي الأمرين من الشيوعيين. فهو يذكر أولئك الذين خرجوا في مظاهرات عام 1965 يهتفون: "يا خرطوم ثوري ثوري خلي خليفة يلحق نوري." وسماهم أهل "الأجندة الحزبية الضيقة" و"بعض الحزبيين قصيري النظر". وياهم الشيوعيين ذاتم. لست أخفي أننا استنكرنا حل المرحوم لمجلس وزراء ثورة اكتوبر الأول تحت ضغط الأحزاب وإلحاحها قبل أن يكمل دورته. وهذه هي الملابسة التي نحتنا فيها مصطلح "نكسة أكتوبر." وددت شخصياً لو أن المرحوم لم يبق على رأس مجلس وزراء أكتوبر الثاني الذي تغير تكوينه ومحتواه كثيراً إبراء للذمة. ولا أعتقد أن المرحوم ممن يستحق أن يمثل ب "نوري السعيد"، طاغية العراق. ولكنها شعارات مغلوبين على أمرهم. وكنا نعلم أن كفة توازن القوى مالت لغير صالحنا: أحياناً لأخطاء منا ربما. وبلا جريرة في أغلب الأحيان لأن هناك من كرهوا أن يستمر فينا مجلس للوزراء في وسامة مجلس ثورة اكتوبر الأول. وهو ظل آخر وقف ما زاد. وتاريخ هذه الفترة غامض لم يتناوله حسب معرفتي مؤرخ شاطر بعد على أنها الفترة القصيرة العذبة التي تسنم فيها حلف القوى الاجتماعية الجديدة الحية دست الحكم لأول مرة وآخر مرة. هذا ما أسفت له. ولكن ما أزعجني تلميح حسن إلى أننا في الحزب الشيوعي قد انتهزنا فرصة انقلاب مايو وطهرنا المرحوم الذي شغل منصب سفير السودان بالمملكة المتحدة. ومع أنه خص رئيس الوزراء ووزير الخارجية السيد بابكر عوض الله بواقعة الفصل إلا أنه جعله أداة لجماعة كانت لها غصة من مواقف المرحوم المشرفة فتربصت به فطهرته. وهي لابد تلك الجماعة من قصيري النظر ونحوه التي ذكرها.
واتيح لي من بعد أن أقف على بعض تفاصيل واقعة تطهير سر الختم من الجزء الأول من كتاب الأستاذ علي ابو سن " المجذوب والذكريات" (القاهرة 1997). ولو صدقت هذه الوقائع لجلل العار وجوه جميع من اتصل بمايو الأولى بسبب حتى نحن الشيوعيين الذين لم نألوا جهداً في تمييز أنفسنا عنها في شغل لم يسفر تاريخه بعد. وليس مصدر استنكاري الأكبر هو التطهير. فقد كان هذا وما يزال كيد أفندية. ولم يكن تطهير ثورة أكتوبر كيدي مع ذلك. ولم يقع ذلك لأن ثوار أكتوبر فوق الضغائن بل لأنهم لجموه بالقانون. وقد توسع السيد شوقي ملاسي، عضو لجنة من لجان التطهير في أكتوبر، في وصف ضبط القانون لذلك التطهير في كتاب ذكرياته المسمى "أوراق سودانية" (2004). تلقت هذه اللجان بلاغات عن الفساد في عهد الفريق عبود فحققت فيها وبرأت ساحة من لم تثبت عليه تهمة بما فيهم اللواء المقبول الأمين الحاج عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة. بل قال ملاسي إنه خلافاً لما اتفق للناس فالذي تشدد في التطهير هو المرحوم محمد صالح عمر ممثل الأخوان المسلمين في اللجنة. وكان السيد احمد سليمان (المظنون فيه تشدد الشيوعيين)، لين الجانب. المعيب في تطهير سر الختم الخليفة هو ما خالطه من روح ثأرية جزافية لا ضابط لها ولا رابط. فقد قال أبو سن، الذي ربطته علائق سياسية مع بابكر عوض الله في الحزب الوطني الاتحادي ثم في حركة القوميين العرب، إن بابكر استدعاه من موقعه الدبلوماسي في لندن ليعينه وكيلاً لوزارة الشباب المستحدثة. وكان هذا منه غطاء. فما كان يريد منه حقاً فهو أن يتخذ من المنصب قاعدة لبناء التنظيم السياسي لانقلاب مايو (ما حأقول ثورة لو شنقتوني. نحن كده). واتضح لأبي سن أن كل ذلك لم يكن غرض الاستدعاء. كان مولانا يريد أن يستخدمه ضد سر الختم سفيرنا بلندن. وجاء أبو سن والتقى بمولانا. وانقل من كتاب أبي سن نص ما جرى بينهما: بادرني بابكر: ماذا يفعل سر الختم الخليفة؟ هل ما زال يمارس مهام السفير. كيف؟ لماذا؟ لقد رفتناه. هل ما زال يسكن في مقر السفير؟ ماذا تفعل وزارة الخارجية؟ تلفون . . هالو يا جمال (محمد أحمد)، وكان ووكيل الخارجية، معاي علي أبوسن قال لي إنو سر الختم الخليفة لسه ماسك السفارة إنت تقول لي ما ماسكها؟ اهو علي معاي . . تعال اسمع كلامه). يقفل الخط.
وفي إنتظار جمال سأل أبو سن مولانا عن من هو الرأس المدبر للانقلاب. وتعذر مولانا بالعمر دون تصدره لمهام مثل الانقلاب تحتاج إلى طاقة شابة. ودخل جمال محمد أحمد. تغير وجه بابكر. جمال، كالعادة هادئ وكبير. بابكر لجمال: أهو قدامك أسأله. جمال لبابكر: بس ..يعني علي حيقوليك شنو. . يا مولانا؟؟ بابكر ينظر إليَّ ساخراً ويقول لي: البربري دا طبعاً ما ممكن يديك الحقيقة . . . . وأصدر وزير الخارجية تعليماته إلى وكيل وزارة الخارجية ليأمر سر الختم الخليفة بعدم دخول السفارة ومغادرة منزل السفير فوراً. قلت له يا مولانا! مغادرة السفراء لها نظام وبروتكول. لابد أن يقوم السفير بتوديع السلك الدبلوماسي. رد علي باقتضاب: كلام فارغ! وحينما علمت الخارجية البريطانية بتصرف حكومة الانقلاب عرضت على سر الختم الاستضافة أو اللجوء الساسي ولكنه لم يقبل. توقف عن الحضور إلى السفارة ولكنه بقي في منزل السفير حتى غادر لندن بطريقة طبيعية. هذه قصة حزينة أخرى للتطهير في انقلاب مايو. وسيتعذر على أولئك الذين كرهوا من مايو التطهير والتدني بالروح في الخدمة المدنية نسبتها إلى الشيوعيين بحال من الأحوال. فقارئ كتاب أبي سن سيجد أن جذور واقعة تطهير سرالختم جاثية في سيرة مولانا بابكر من لدن ثورة أكتوبر 1964 حتى استقالته من رئاسة القضاء في 1965. وليطلبها من أراد ذلك في مظانها. بل أن واقعة تطهير أساتذة جامعة الخرطوم (البروف عبد الله الطيب وآخرين) ما تزال مجهولة المؤلف واكتفى الشيوعيون من جناح عبد الخالق باستنكار ارتكاب مايو لها من وراء ظهرهم أي من غير شورى الثوريين الآخرين في الحلف. وهذا قريب من قولهم عن 19 يوليو: تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه.
لم أرد بهذه العودة إلى موضوع التطهير في عهد مايو تجريم أحد ولا تبرئة أحد. فقد كانت مايو التي عشت سنواتها حتى انقلاب 19 يوليو 1971 فترة عاصفة أخذتنا على حين غرة فاضطربنا فيها (بقدر ما كان بيد أي منا من سلطة ونفوذ) بين الباطل والحق. وكثيراً ما أويت إلى فراشي إلى يومنا هذا مثقلاً بذنب جنيته بحق أحدهم في تلك الأيام. أذكر أنه جاءني رفيق من طلاب جامعة الخرطوم منزعجاً بعد تطهير الأساتذة وقال لي لقد حصرنا الطلاب وأحرجونا حول هذه المسألة فماذا نفعل. فقلت له بما هو قريب من التأنيب: "أليس بوسعكم الدفاع عن هذه الخطوة؟ أيخذيكم الأخوان المسلمون؟" ولم يكن هذا راياً يشفي غليل السائل بل تهرباً من موقف صعب لا علم لي به. ولم نكن في أحسن احوالنا. فلم تكن مايو حقيقة سياسية مقطوعة عنا. فقد اقتحمت أسوار الحزب وقسمته فأختلط الحابل بالنابل. بل كنت تجدنا في غالب الأحيان مشغولين عن رداءات مايو العديدة بتأمين موقعنا في وجه رفاق ضالين هم أقرب إلينا من حبل الوريد. فمن المؤسف أن استقر دور الشيوعيين في مايو على دور "الخائن". وهو ليس كذلك. وهناك من يرغبون في تطويل هذه الصورة عن الشيوعيين دون غيرهم من صناع مايو لأنه الحزب (القديمة!) ذو الخيار التاريخي لأجل الكادحين والنهضة الوطنية الديمقراطية. وكلما جرجروه في طين رذائل الأفندية من البرجوازيين الصغار والكبار في "ثوراتهم" المزعومة كلما تناقصت فرص وعده الحق.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
في ربيع ثورة أكتوبر في حكاياتنا مايو: حين طلب هاشم العطا العفو والعافية من إبراهيم دقش (14 من 30) يصادف غداً الأحد الذكرى التاسعة والثلاثين لانقلاب 25 مايو 1969. ولا تزر وازرة مايو إلا وَزِر الشيوعيون. لم ينفعهم طول تنفيهم من مايو لحمل الناس إلى غير عقيدة أن الانقلاب شيوعي المنشأ. فسيك سيك معلق فيك. ولم تنجح كتب في وسامة كتاب المغفور له الدكتور محمد سعيد القدال المعنون "الحزب الشيوعي السوداني وانقلاب مايو" (1986) في فض اشتباك الانقلاب والشيوعيين. وهذا التشبيك الذي لا خلاص منه تاريخ كاسد ضرير. ولا أقول هذا راثياً (عاميتها: راتياً) للشيوعيين. فهم من أسوأ من يتعاطى التاريخ. وقد أخذت عليهم إسقاطهم ذكر السادة أحمد سليمان وعمر مصطفى المكي وغيرهما من عرض سيرة حزبهم في عيدهم الأربعيني في 1988 . وقلت لهم إنكم حركة تاريخية وستكون خسارتكم هي الأفدح إذا دغمستم التاريخ وحرفتم كلمه. وعليه فدعوتي للتمييز بين مايو والشيوعيين دعوة مهنية محض نريد بها لتاريخنا أن لا يكون علم شماتة وإخذاء وتبكيت بل وعياً نترحل به عن الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
أجد ( كناشط سياسي تام النصاب يوم وقع الانقلاب) أن من أشق الأمور على نفسي تحميل الناس لنا،نحن الشيوعيين، مغبة التطهير الذي دمغ الانقلاب بخرق حقوق الإنسان. وهي تهمة على العواهن ما تزال بعد نحو أربعين عاماً لم ينهض عليها دليل مادي دامغ. لقد كان الشيوعيون ضمن جماعات عديدة انشغلت بالانقلاب. ففي جامعة الخرطوم وحدها نشأ تنظيمان للأساتذة الاشتراكيين. وكان دا ما بريد دا. وكان التنظيم الذي ضم الدكاترة عون الشريف وعبد الوهاب بوب وبشير عبادي هو الأقرب لأذن الحكومة بعد استرابة الشيوعيين في مايو وهم فيها. بل كان الشيوعيون أنفسهم أجنحة من قولة تيت. فهناك شيعة أستاذنا عبد الخالق محجوب الذين انصاعوا لإرادة أغلبية اللجنة المركزية بالتعاون مع النظام في وجه خطة عبد الخالق التي دعت لتركه وشأنه. وكان هناك بين هؤلاء وهؤلاء. واضطربت أنا شخصياً بين بين حتى استردني أستاذنا من البلبلة. باختصار كانت الساحة غاصة بمراكز سياسية. بل ظهرت مركز لم تكن في الحسبان أغراها السلطان الجديد. وكان لكل هذه القوى أجندتها وتصورها لما يكون عليه النظام "الثوري" الجديد ومنازل الأفندية فيه. ولم اقرأ بعد بحثاً علمياً يعالج صراع هذه القوى ووقائعها ويقوم تأثيرها في سائر قرارات النظام بما في ذلك التطهير في الخدمة المدنية. لم انتزع الوقت بعد للكتابة عن هذه المادة بعد درس وتمحيص. ولكنني بدأت ألاحظ الدور البارز للسيد بابكر عوض الله في حملة التطهير المايوية في ما قرأت من مذكرات وكتابات أخرى تيسرت في السنين الأخيرة. وقد انزعجت لصورة بابكر التي رسمتها وقائع التطهير التي كان رمح حربتها. فهو لا يتورع عن تطهير زملاء مهنة مرموقين غير واضح ذنبهم للعيان. وهو في أحوال أخرى يختزن مرارت يظن المرء أنها مما يتجاوزه من كان في سنه وتدريبه في فروع القضاء والتشريع في الدولة. فالمعروف أن بابكر طهر نحو 13 من القضاة العدول بالمحكمة العليا. وقد أغم هذا الفصل الناس لأن ذلك الجيل الأول من القضاة كانوا كالنجوم واشتهروا بالمعرفة والقسط. فقد روى الأستاذ شوقي ملاسي في كتاب مذكراته كيف سخط على قرار بابكر حتى من أيدوا الانقلاب بغير تحفظ. فقد طلب السيد فاروق أبو عيسي، وزير شئون الرئاسة وصديق بابكر، من الأستاذ شوقي ملاسي أن يرتب له لقاء مع المحامين ليتداول معهم حول موقف الحكومة وآفاقها. وتحول اللقاء إلى حساب دقيق لفاروق (ومنه لبابكر) حول تطهير القضاة الجزافي. وقال ملاسي إن فاروقاً خرج من ذلك الاجتماع وقد قر في ذهنه أنه شرب مقلباً دبره له ملاسي. وانعكس ذلك سلباً على مودتهما.
وروى الدكتور إبراهيم دقش (وسنعود لقصته هو نفسه مع بابكر بعد قليل) كيف لقي نميري. وحكى الرئيس أنه في أول عهد الانقلاب جاءه بابكر بقائمة قضاة يريد تطهيرهم. فقال له نميري إنه لا يعرف من القضاة إلا مولانا عبد العزيز شدو الذي درس معه بمدرسة حنتوب. وسرعان ما قال له بابكر إنه سيدرج اسم شدو ضمن قائمة الفصل. ولمّا مانع نميري هدد بابكر بتقديم استقالته. وهي قصة تحتاج إلى مثن لصدورها عن نميري بالطبع. ولربما خف غلواء تحميل الشيوعيين وزر تطهير مايو جملة واحدة متى توقفنا عند حالات التطهير وزارة بعد وزارة بل متى جردنا المطهرين حالة بعد حالة. فقد روى دقش في كتابه الموسوم "في حكاياتنا مايو" معاناته مع التطهير في بداية انقلاب مايو. ولن تجد في ما رواه تذنيباً واضحاً صريحاً للشيوعيين بالتطهير. خلافاً لذلك تجده يثني على مروءتهم خلال محنته وما بعدها بما يدخل في عداد الشعر. فقد تم فصل دقش من هئية توفير المياه والتنمية الريفية مع آخرين في ملابسات ضغط "ثوري" في أشهر الانقلاب الأولى. وتشتم رائحة شيوعيين ونقابيين من وراء هذا الضغط للتطهير. ولم ترد في القصة أسماء الناهضين بالتطهير ولا ولاءاتهم. ولكن دقش اهتم بذكر فساد بعض من طالبوا به مما يصعب تصنيفهم بين شيوعيّ ذلك العهد بسهولة. غير أنه من الواضح في القصة أن من سعوا بالتطهير قصدوا جماعة أصلاً منتدبة من وزارات أخرى. فهم لم يفصلوا بل أعيدوا لتلك الوزارات. وربما كان من وراء مطلب تطهيرهم الضيق بهم كضيوف ثقلاء. ثم انتهى الأمر بإرجاع الوزير عثمان أبو القاسم لهم لاحقاً للهيئة ما عدا دقش الذي تحول إلى وزارته القديمة: التربية والتعليم.
واكتسبت قصة محنة دقش في وزارة التربية والتعليم تفاصيل برأت ساحة الشيوعيين (من جناح عبد الخالق) من سوء الزمالة كما كشفت عن نهج بابكر في التصرف الجزافي في حقوق العاملين. فقد سعى الدكتور محي الدين صابر، وزير التربية والتعليم، ليبعث بدقش إلى لندن مساعداً للملحق الثقافي لسابق مودته له بصحيفة الزمان التي كان يصدرها الأستاذ عبد العزيز حسن في الخمسينات. وكانت دارها بطرف السوق العربي على جهة كلية الطب. وعاد محي الدين يراجع القرار لأن نقابات المعلمين قد لا ترضى. فذهب دقش إلى قادة اتحاد المعلمين وهم الأساتذة عبد الله علي عبد الله ، نقيب المعلمين، ومكاوي خوجلي، سكرتير الاتحاد، فقالا له إنه لا اعتراض لهما على شخصه أو قرار الوزير. بل ذهب عبد الله بنفسه للوزير بحسب طلب دقش وبارك الخطوة. ولما طلب الوزير من دقش في يوم آخر أن يأتيه بموافقة مكتوبة ذهب لثلاثة أيام طوال يبحث عن ضابطيّ اتحاد المعلمين بدار الاتحاد بمدرسة الخرطوم شرق فلم يجدهما. وأشفق عليه رفيقنا الجنتلمان صالح خليل سكرتير العلاقات الخارجية بالاتحاد. ووصف دقش المشهد كما يلي: وقلت لصالح ما عندي بوضوح والرجل يعرفني حقاً فعبر لي عن أسفه أن أتردد على مقر اتحاد المعلمين لثلاثة أيام دون نتيجة. وأخيراً ضاق هو مثلي فيما يبدو فطلب مني أن أقص عليه الرواية. وقد فعلت فأنفعل قائلاً: "أصدقك. فمادام الرجلان (ويعني النقيب والسكرتير) قالا ما قالاه أمام الوزير وحضورك فنحن لا نعرف التعامل بلسانيين أو وجهين. فتدخلت هنا وقلت له: حماية لك كسكرتير للعلاقات الخارجية في اتحاد المعلمين أنا على استعداد لرد مكتوبكم للوزير متى أنكر الطرفان المعنيان ما قالاه. وقبل هو ذلك كوعد شرف. ومن ثم كتب أمامي ما طلبه الوزير صادراً من اتحاد المعلمين. وأفهمني أنه سيتحمل تبعات المواجهة والمحاسبة إذا دعا الحال (وهذه محرية في أبي خليل: يا أيها الجبل الأشم). ومن ثم كتب لي ما طلبه الوزير وأكبرت في الرجل حميميته ووعدته بأنه متى ما ثبت له عكس ما أفدته به فأنا متنازل عما طلبت. وأخذ الرجل كلمتي في وقت ندر فيه الصفاء والوفاء." واجتاز دقش عتبة الرفاق الشيوعيين ولسانه كما رأينا يلهج بمروءتهم. ولكن جاءته الطامة من بابكر عوض الله نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ووزير الخارجية. فبينما كان دقش يمني نفسه الأماني بعودة إلى لندن، التي عرفها مبعوثاً، طاشت بأحلامه برقية من بابكر تقول له إنه لا يشرف ثورة مايو أن يكون لها وجه في الخارج. وتلتها برقية أخرى من وزارة التربية تقول إنها قد جمدت وظيفة لندن لأجل غير مسمى لعدم الاعتماد المالي. ومضى دقش يفتش عن سبب غضبة بابكر عليه. فوجد أن محي الدين قد زار بابكر في الشأن. ففتح الأخير درجاً أيمناً وأخرج له ملف دقش "الأسود". وكان فيه قصاصات من صحف. في الأولى مناظرة بين دقش والرفيق الحاج عبد الرحمن، نائب سكرتير اتحاد العمال، حول إضراب عمال هيئة توفير المياه. وحوى بياناً وضح فيه دقش، السكرتير الإعلامي بالهئية، الموقف الرسمي من الإضراب. أما القصاصة الأخرى فقد حوت مقالة لدقش (جريدة الناس 1965) انتقد فيها تعليقاً سلبياً لبابكر عن ثورة أكتوبر. وكان من رأي دقش أنه لا يحق لبابكر لوم أكتوبر لأن أمانتها جاءته فردها, فقد كان بابكر أول من رشحه الناس ليكون رئيساً لوزراء حكومة الثورة فرفض. وفي السياق نفسه فهناك مقالة أخرى (جريدة السودان الجديد 1968) قسا فيها دقش على بابكر الذي كان يزمع ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في 1968 ضد الزعيم الأزهري والإمام الهادي. وتعجب دقش لحرص بابكر على هذه القصاصات وسأل الأستاذ عثمان حسن أحمد الكد، المعروف بالصبر على جمع الوثائق، عمن عساه جاء بهذه القصاصات. فقال عثمان إن فاروق أبو عيسى، وزير شئون الرئاسة، اتصل فيه وطلب منه توفير هذه المقالات ففعل.
وبقية القصة طريفة جداً. وحكى دقش فيها عن مجريات مسألته مع بابكر وتداولها في مجلس الثورة والوزراء وفي ما بينهما. وأترك للقارئ أن يطلبها حيث هي في كتاب دقش. واستوقفني منها مشهد مع ذلك لدقش مع المرحوم هاشم العطا زعيم انقلاب 19 يوليو القتيل. فقد لقيه بعد خلعه من مجلس قيادة الثورة في نوفمبر 1970. وقال دقش إن هاشماً، وكان يقود سيارته،أوقفه عند حديقة الموردة. ولدهشته طلب منه العفو والعافية لأنه أخطأ التقدير وصدَّق مطاعن بابكر فيه حين عرضوا المسألة على مجلس الثورة. وقال دقش :" أذكر كلماته التي كانت تخرج من بين أسنانه : "لو حسمنا قصتك معه لما كنا خارج اللعبة الآن." قصوا أحزن قصص التطهير وستحرركم من الباطل وتورثكم الحق والسداد.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
خبرك خبر يا مذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965)! (15 من 30)
انتهزت سانحة حديث الدكتور أبو شوك عن مذكرة رفيقنا المرحوم الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965) في مقالاته الأخيرة عن تاريخ الانتخابات في السودان فطلبت منه أن يبعث لي بنصها. وفعلها الرجل الأرباب الورّاق الذي لم يقل "لا" قط إلا في تشهده. ومذكرة الشفيع سارت بها الركبان وأصبحت مثلاً في الإسراف السياسي حذارى أن نقول الطيش السياسي. فمحنتنا السياسة في أرياف السودان وهامشه المزمنة مما تنسبه الصفوة السياسية إلى تلك المذكرة التي ذاع أنها أمرت بحل الإدارة الأهلية. ووقع الحل الفعلي في 1970 في طور نظام نميري اليساري. وهكذا أصبح اليسار ملعوناً في نظر النادي الصفوي لأنه حل الإدارة الأهلية "غفيرة" الريف وترك الحبل على الغارب. وعينك ما تشوف!
وأصبح النظر في "عنف البادية" السودانية يبدأ عند لعن اليسار والمطالبة بإصلاح خطئه بعودة الإدارة الأهلية عودة ناجزة. كم مرة سمعت هذا القول ايها القاريء الكريم؟ ربما أخطأ اليسار ولكن أليس من حيلة العاجر أن تكون مؤسسة جرى حلها عن طريق الخطأ (ونقول بهذا جدلا) ستنزل برداً وسلاماً على بلدنا متى عادت بعد 40 عاماً؟ دا حصل وين يا جماعة الخير! هذه مجرد أضغاث استغنت عن التحليل العياني للمؤسسة (باستقلال عن تذنيب من حلها) لتتيقن بصورة جديدة عن نفعها متى عادت. ولأننا لم نقم بهذا "الجرد" الفكري ظللنا نعيد هذه المؤسسة أو نخترعها مرة بعد مرة والحال في حالو.
أردت أن أحصل على نص مذكرة الشفيع لأنني لا أذكر أنني قرأتها نصاً. ولي ذكريات بالطبع عنها مما دار من جدل حولها وحول ما تفعله ثورة أكتوبر للإدارة الأهلية في سعيها لديمقرطة الريف. وهذه الدمقرطة هي عصب تجديد الوطن على نهج وطني ديمقراطي. وسأتطرق لهذه الذكريات متى عدت لصحافة الفترة وقرأت المادة المنشورة في هذا الباب. فلا يكفي أن نقف عند طلبنا معرفة موقف اليسار من الإدارة الأهلية بمذكرة الشفيع. فهي مذكرة خضعت لنقاش طويل في الوسط الحكومي وغير الحكومي. وربما خفف هذا النقاش من غلوائها أو زادها طيشاً كما يزعم خصومها.
واتفق لي أن أبدأ بعرض هذه المذكرة أولاً ثم التعليق عليها وعلى ذيولها السياسية في ما بعد.
كتب الشفيع المذكرة بتاريخ 21 يناير 1965 بصفته وزير شئون الرئاسة لحكومة ثورة أكتوبر الأولى برئاسة السيد سر الختم الخليفة. وجاء الشفيع لموقعه الوزاري منتخباً من نقابات العمال لتمثيلها في جهاز الحكم بعد نجاح ثورة أكتوبر. وكان هذا التمثيل بمثابة عرفان لدور العمال المشهود الطويل في القضاء على نظام 17 نوفمبر ودولة الفريق عبود.
تكونت مذكرة الشفيع من خطاب منه إلى سكرتير مجلس الوزراء بتوقيعه هو كوزير لشئون الرئاسة. وكان موضوع الخطاب هو مقترحه لإعادة النظر في الإدارة الأهلية. وجاء الموضوع في 5 أبواب هي 1) مقدمة تاريخية عن نشأة الإدارة الأهلية، 2) وضع الإدارة الأهلية الحالي، 3) سلطات وواجبات الإدارة الأهلية، 4) نظرة إلى فساد الإدارة الأهلية بجمعها السلطات القضائية والإدارية (أي أن يكون الناظر مثلاً إدارياً يجمع الطلبة وقاضياً يحكم بالسجن والغرامة)، 5) ثم التوصيات بما ينبغي فعله بالإدارة الأهلية.
شمل خطاب الشفيع لسكرتير مجلس الوزراء عرضاً موجزاً لسيل الشكاو من جور الإدارة الأهلية التي وصلته من جماعات عديدة.. فقبيلة البني عامر تطالب بإقصاء ناظرها مكرراً وقد سعت إلى ذلك قبل قيام ثورة أكتوبر. وشكوى من قبيلة الرزيقات يطلبون حق اخيتار زعاماتهم وتعيين قاض للفصل في النزاعات. وشكوى أخري من كنانة أبي جبيهة بالجبال الشرقية بالنوبة ضد عمدتهم المفروض عليهم بواسطة نظام الفريق عبود المباد. ومطالبة من عمودية ود راوه لينفصلوا عن مجلس ريفي رفاعة الشكرية. وتلغرافات من أبناء دنقلا يطالبون بإقصاء ناظرهم القبلي. وكذلك تلغرافات من القضارف تطالب بإزالة نظارة ود بكر. كما طالبت جماعة المعاليا بالانفصال من إدارة الرزيقات. كما تعرض الخطاب ل "ثورة ودحامد" ضد شيخ خطها بما أقنع القاضي المقيم بشندي بإغلاق محكمته. ثم شكوى من عمودية حمدنا الله بمركز سنار تستنكر إبعاد عمدتهم المنتخب وتعيين عمدة عليهم. وكانت هذه المادة وغيرها في الاحتجاج ضد الإدارة الأهلية نصب عين مذكرة الشفيع لتغيير نظامها.
ونستعرض فصول المذكرة "الملعونة" في حديث قادم.
ربيع ثورة أكتوبر 1964
مذكرة الشفيع أحمد الشيخ عن الإدارة الأهلية (1965): إلا شقي الحال يقع في القيد (16 من 30)
قرأت ما قاله الأستاذ عبد الرحيم حمدي لجريدة الرأي العام (30 مايو 2009) عن الإدارة الأهلية. ووجدت فيه مصداقاً لقولنا المجانين كتار ولكن شقي الحال يقع في القيد. وشقي الحال الواقع في القيد هو مذكرة المرحوم الشفيع أحمد الشيخ التي كتبها في يناير 1965 من موقعه كوزير شئؤون مجلس الوزراء في حكومة ثورة أكتوبر 1964 الأولى. وقد دعا فيها إلى حل الإدارة الأهلية في شمال السودان. فحمدي كان واضحاً في أنهم كانوا والشيوعيين سواء بسواء في عداء الإدارة الأهلية بعد ثورة أكتوبر. بل قال إنهم فازوا بدائرة يتيمة في دارفور لوقوفهم ضد تلك الإدارة. وقال إن من "قسسهم" لعداء الإدارة الأهلية هما المرحوم محمد صالح عمر وسليمان أبكر النائب الدارفوري عن جبهة الميثاق الإسلامي. من الصعب القول بان تنظيماً ما تبنى خطة في خطر خصومة الإدارة الأهلية محرشاً من عضوين من أميز أعضائه. الحكاية أعمق وعائدة إلى أصول في حركة الخريجين الوطنية ومزاج ريفي ديمقراطي كما سنعرض لذلك لاحقاً.
وتنصل حمدي اليوم عن حمدي الأمس. فقال إنه لو استقبل من أمره ما استدبر لامتنع عن منازلة الإدارة الأهلية ولقبل بها أساساً في نظم الحكم السودانية. ومع هذا الموقف الصريح من الإسلاميين ضد الإدارة الأهلية فقل من يأخذه عليهم كزعزعة كبرى لموروث البلاد وأعمدتها. بل لن تجد من يؤاخذ الأستاذ على محمود حسنين (في طوره الوطني الاتحادي بعد هجره الإخوان المسلمين) النائب البرلماني في 1965 الأعلى صوتاً في مقارعة الإدارة الأهلية. فاللوم على التعجيل "الطائش" بحل الإدارة الأهلية معلق برقبة "القشيرين مقطوعين الطاريء" ومذكرة شفيعهم سيئة السمعة: مجنونة وقعت في القيد دون المجانين الكثر.
لم تكن خصومة الإدارة الأهلية وساوساً شيوعياً أو إخوانياً. كان لمطلب التخلص من الإدارة الأهلية قواعده الاجتماعية في الأرياف نفسها وبين صفوة الخريجين. ولكن تاريخ الناقمين على تلك المؤسسة لم يكتب بعد. وما نقرأه عنها هو تباكي صفوة الحكم والإداريين التي لا مداخل لها للرعية سوى الإدارة الأهلية. وجعلوا من هذه الخيبة مأتماً قومياً لشق الجيوب على تضعضع تلك المؤسسة. يالبكاء الجاهلية الأولى!
اعتنت مذكرة الشفيع بتأكيد أنها دعت لحل الإدارة الأهلية استجابة لمطلب شعبي. وبدأت بعرض سريع لمواقع شعبية ضاقت ذرعاً بالإدارة الأهلية وطالبت بحلها. كما اتبعت ذلك بإعطاء تاريخ موجز لنشأة المؤسسة لتنزع عنها هالة التقليد: "من واقعنا مامن من أكتر يا بلادي". وأصبح الرأي أن الإدارة الأهلية صنيعة استعمارية من المعلوم بالضروة في علم السياسة الأفريقي والمجتمع. وسنعرض لكتاب الدكتور محمود محمداني "مواطنون ورعايا" (1996)في حلقة قادمة. وهو الكتاب الذي ناقش غربة الإدارة الأهلية عن نظم أفريقيا الإدارية السابقة للاستعمار بصورة سديدة حصل بها على جائزة الجمعية الأفريقية الأمريكية لأحسن كتاب عن أفريقيا لعام 1996.
قدمت المذكرة لغرضها في بيان أجنبية الإدارة الأهلية في ظل الإنجليز بتاريخ لها عاد بنا إلى عهد الفونج. وهذه حيلة فكرية للقول إن نظام الإدراة الأهلية لم يكن هو ذاته في كل زمان ومكان. فهو ليس أرثاً مؤبداً كما يزعم كثير ممن نعوا ذهاب هذا النظام واشتهوا عودته ليرتق النسيج الاجتماعي الذي تهرأ من بعده.
خلاصة المذكرة عن وضع تلك الإدارة في عهد الفونج أنها كانت ديمقراطية من جهة اختيار الجماعة لأميرها على ضوء مؤهلات في الكرم والشجاعة. وأهم قسمات حكمها أن الجماعة هي المرجع يعود لها الزعيم للشورى ولا يمكث إلا بها. وقالت المذكرة إن الأتراك خرقوا هذا السمت الديمقراطي. فقد أدخلوا زعامة القبائل في إطار وحداتهم الإدارية الأكبر وهي المديرية. واستبدلوا الزعماء الذين قاوموهم بمن خضع حتى كان من الأخيرين من أصبح مديراً لمديرية. والخلاصة أن الزعيم القبلي أصبح تابعاً للأتراك منفذاً لسياستهم في ضبط الأمن وجباية الضرائب. ولم تعد مرجعيته القبيلة بل السلطان التركي. أما المهدية فقد أضعفت النظام القبلي الذي تورط زعماؤه في ظلم الأتراك. وأنبنت المهدية على نظام مركزي يمثله محاربون مهدويون في العمالات أو المحافظات. ولم يعد للزعامة القبيلية من دور.
ثم توقفت المذكرة عند الإنجليز ونظم حكمهم. فاتبع الإنجليز من بعد المهدية سنة الأتراك في تطويع زعامات القبائل لخدمتهم هم لا أهلهم المزعومين. فقد حكموا البلد بصورة مباشرة حتى 1921 حين قرروا بناء حكم الأرياف على زعامات القبائل. فبدأوا في منح هؤلاء الزعماء سلطات قضائية. ثم مكَّن الإنجليز لهم بعد ثورة 1924. وتوجس الإنجليز شراً من بواكير الحركة الوطنية حتى قال جون مافي، الحاكم العام، في 1927 "إن تنظيم القبيلة ونفوذها وتقاليدها القديمة ما زالت باقية رغم أنها تختلف قوة ونفوذاً من مديرية إلى أخرى ولكنها ستنهار تحت تأثير الأفكار الجديدة وبظهور جيل جديد إلا إذا دٌعمت قبل فوات الأوان".
وقد اشتهر عصر الحاكم العام مافي بنشاط تشريعي وسياسي"محموم" لإنقاذ الإدارة الأهلية من حكم الأفكار الجديدة المحمولة بجيل جديد. وتراجع الإنجليز أنفسهم من "غي" مافي القبائلي الشديد. فلما تصاعدت الحركة الوطنية لم يجد الإنجليز بداً من مسايرة هذا الوعي الجديد بتطوير نظم الحكم المحلي. وتوجت ذلك باستدعاء الدكتور مارشال الذي وضع قانون الحكم المحلي في 1951. ولم يحد القانون من سلطان الإدارة الأهلية مع ذلك. فقد دخلوا تلك المجالس برغم نص في القانون يحرم كل متول مسئولية إدارية وقضائية ومتقاض لأجر من الحكومة (وهذا وضع زعماء الإدارة الأهلية) من الترشيح لمقاعد المجالس المحلية. وبدا أن الإنجليز استخدموا الرخصة المكفولة بالقانون للاستثناء لإدخال الإدارة الأهلية كلها في الحكم المحلي.
وخلص التقرير من هذا العرض التاريخي إلى 1) الإدارة الأهلية التي ورثناها عن الإنجليز خلق استعماري،2) يرجع استمرار نفوذها بعد إصدار قوانين الحكم المحلي في 1951 إلى حاجة كل من الإنجليز والأحزاب السياسية لخدماتها، 3) ومع ذلك فنفوذ الإدارة الأهلية إلى محاق تحت تأثير أشكال الاقتصاد النقدي المتسعة والوعي المصاحب لها.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964 (17-30) ..
بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم الإثنين, 24 تشرين1/أكتوير 2011
ياما في سجن الإدراة الأهلية من مظاليم (17 من 30)
لا أعرف عدد المرات التي حاول أحدنا أن يقول للصحافة إن استحقاقها للحرية هو أقرب إليها من حبل الوريد. فهذا الاستحقاق في ملعبها هي بصورة دقيقة وطويلة المدى. وعلى سداد النظر لهذا الاستحقاق من جهة جحود الدولة له إلا أن حرية الصحافة هي تبعة مهنية في نهاية المطاف. وحتى أذى الدولة لحرية التعبير هو مما يستأهل جراءة مهنية وحيل. فالصحافة العاطلة تخسر في معركة حريتها ضد الدولة وتكثر من العياط.
وآخر من نقل معركة حرية الصحافة إلى ميدان الصحافة هو الأستاذ السر سيد أحمد في كلمة له عالية المهنية قبل أيام بجريدة الرأي العام (11 يونيو 2009). فنبه السر إلى عاهة ضآلة المعلومة بطرف الصحفي التي تقعد به دون ملاحقة النبأ أو التصريح او الواقعة بأسئلة كاشفة. وقد شكوت قبله لطوب الأرض من إحجام صحافتنا من "إرتكاب" النظر النافذ الناقد لشغلها المهني. وكأني بها تنتهز سانحة لؤم الدولة البائن حيالها لتعفي نفسها من مواجهة الذات بتقويم نقصها بلا شفقة. ووجدت مصداقاً لذلك دائماً في قبول الصحافيين بعض أساطير الحكم والسياسة بغير زمجرة مهنية. وعلى رأس هذه الأساطير ما شاع من أنه لو كانت بيننا الإدارة الأهلية لما انفلت البلد واضطربت أطرافه وهاج هامشه وماج. وعشعشت هذه المعلومة فينا كالحق لا معقب عليه. وهي مجرد وجهة نظر تحملها طائفة من السياسيين والإداريين الذين تأسس شغلهم منذ عهد المستعمرين على بلوغ الريفيين في السودان من وراء حجاب هو الإدارة الأهلية. ومن العيب أن يرتضي إداري سوداني بهذه الوكالة عن جمهرة شعبه كما ارتضاها (أو دبرها في الواقع) الإنجليز وهم الدخلاء (وكانت هذه العبارة من مصطلح الحركة لوطنية).
لم يطلب الصحافيون زاوية أخرى للنظر لمسألة الإدارة الأهلية حذراً من أن تستلبهم رواية وحيدة الجانب لمأثرتها. فياما في رواية الإدارة الأهلية من مظاليم. ومتى امتنعنا عن تضمين شكواهم منها صرنا إلى رواية شكارتها دلاكتها وهو أقصر الطرق إلى إنشاء الأساطير عن المسائل الاجتماعية. ومتى صار الأمر أسطورة فحلَّالها فوق.
أنا واحد من الناس لا أشتري ما يروجه بعض الناس عن مأثرة الإدارة الأهلية ولا فرش البكاء عليها الذي طال تجديده بين صفوة الإدارة والسياسة والفكر. عرفت من رجالها من يملأون العين. خذ عندك الأرباب الطيب مصطفى ابو حجل عمدة الكدق بالرباطاب. هذا شخص نادر. وعرفت الشيخ موسى علي التوم في الكبابيش. رجل مثقف كبير بين أهله ومن خريجي مدرسة حسن نجيلة التي أقامها في البادية. وسمعت لنوادر آخرين من رجال تلك الإدارة وهي أطرف من كثير ممن أعرف من المحدثين وأبلغ. ولكننا لا نناقش أمر الإدارة الأهلية من زواية أقدار الرجال بل اقدار النظم الإدارية. ولسنا نقول إنه ليس من بيننا من تصدى لتلك الإدارة بطيش أو بغيره وأصلحها فأفسدها ربما. ولكن ليس فينا شق الجيوب ودعاء الجاهلية. فنحن بإزاء نظام إداري تحكم في حياة نسبة 85 في المائة من السودانيين. ولا بد أن نرتقي بمساءلته فوق عادة "فتح البكاء" الذائعة.
أنا واحد من الناس لا اشتري ما تروجه الصفوة المحدثة عن فقدنا الفاجع العظيم للإدارة الأهلية لأنني نشأت من بين من أكتووا بها وأكتويت بها شخصياً. فقد كان أهلي الشقتاب من أهل جزيرة أم درق بجهة كورتي على خلاف عميق مع العمدة الطاهر وقيع الله بجلاس. شكوا أنه أقطع أرضهم بالجزيرة، بعد عودة أطراف منها بعد طول غرق بغير حق، لمن اصطفى. وتقاضينا مع العمدة أمام المحاكم منذ نعومة أظفاري حتى متى لا أدري. يكفي أننا "تورنا" أجيالاً من المحامين للقضية بدأ بالمرحوم ابراهيم المفتي المحامي حتى بلغنا الصديق يسن عطا ممن يلده إبراهيم مراراً. كانت "حِجة" الجزيرة حاضرة بين أهلي متى اجتمعوا في فرح أو كره. وبينما جمع الآخرون المال لتحسين حالهم في المدينة جمع أهلي المال لمناهضة العمدة أمام المحاكم. وربما اتبعوا وسائل أخري بحسب رواية الحاجة الوالدة جمال أحمد حمد التي لم تعد تحبنا معشر الشقتاب. فقد نسبت المرض "الكعب" الذي أقعد العمدة إلى أحدنا ممن تمرسوا في سحر الصعيد. وستجد أصداء هذه التربية المعادية للإدارة الأهلية في مسرحياتي: "السكة الحديد قرَّبت المسافات وكثيراً"
أما القصة الثانية فهي عن وكالتي عن الوالدة وأختي المرحومة قمر القسوم عن قطع أراض اشتروها في الكلاكلة بواسطة عصابة الثلاثة المعروفة التي روعت الحي. ووقفت أول مرة أمام المحكمة فإذا على منصة أعضائها الرجل الذي اشترينا منه الأرض وغشنا. وطلبت من رئيس المحكمة أن "يعفي" العضو من النظر في القضية لأنه صاحب غرض. ولا أذكر أن رئيس "محكمة الفراودة" عبرني. وانغبنت أختي قمر القسوم فقاضت في أرضها سنوات طويلة حتى كسبت القضية. وأخذت تعويضها وحجَّت به ولم تكترث لحاجتها الدقيقة لذلك المال التي أعرفها. فقد كان ظلمها حقراً وأرادت بالحج أن تزيل آثار عدوان ذلك الجور. ما تنشلللاها. وهذه عبارة الوالدة في الاستحسان.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
اليسار والإدارة الأهلية: مذكرة الشفيع الما شَهَّدوها (18 من 30)
بعد عودتي للبلاد غشيت دار الوثائق لمراجعة صدق قول القائلين إن مذكرة رفيقنا المرحوم الشفيع أحمد الشيخ في يناير 1965 هي التي صفت الإدارة الأهلية ومحَّنتنا إلي يومنا هذا لأنها استعجلت بحلها قبل تدبير البديل. وبعد تقليب صحف 1965 تبين لي أن المذكرة بريئة من تصفية الإدارة الأهلية براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وأن دمغها بالتصفية هو "حدرة في الظلام" لليسار ممن ربما لا يطيقونه. وأنا نفسي كثيراً ما لم اطق اليسار الذي أنا منه وباريء منه في وقائع عديدة. ولكن تقتضي الرجاحة أن نفرق بين اليسار وثورة أكتوبر 1964. فكثيراً ما اقترن الزعم بفساد مذكرة الشفيع بشجب ثورة أكتوبر لطيشها من جهة تصفية الإدارة الأهلية وزعزعة الخدمة المدنية وهلمجرا. فمع الدور المشهود لليسار في الثورة غير أن الثورة كانت أرجح عقلاً وأغزر عدداً وسقفاً منه.
لم يجد اليسار ضالته من الثورة دائماً. فقد رفض مجلس وزراء الثورة (المتهم بالوقوع في قبضة الشيوعيين) مثلاً تخصيص دوائر للعمال والمزارعين. وكانت هذه بعض مشتهيات اليسار الإنتخابية وربما لا تزال. واحتجت نقابات العمال والمزارعين والشيوعيون على ذلك. ولم ينفعها الاحتجاج.
ووجدت من إطلاعي على صحافة 1965 أن مجلس الوزراء لم يتفق مع مذكرة الشفيع (21 يناير 1965) التي دعت إلى حل الإدارة الأهلية في شمال السودان وتكوين لجنة لدراسة مآلها في جنوب السودان. فقد ناقشها في اجتماعه بتاريخ 13 فبراير 1965 وأحالها للجنة. وصدر البيان التالي في صحف الغداة:
إتخذ مجلس الوزراء أمس في جلسة امتدت إلى ما بعد الظهر بعض القرارات الهامة الخاصة بتصفية الإدارة الأهلية. فقد وافق المجلس مبدئياً على فصل القضاء عن الإدارة الأهلية على أن يطلب من رئيس القضاء أن يعين الأماكن التي يمكن أن يعين فيها قضاة أو مجلس قضاة في شمال السودان وتكاليف المشروع وكل التفاصيل المتعلقة به. كما قرر المجلس تكوين لجنة لدراسة أنجع السبل لتصفية الإدارة الأهلية من مندوبين من وزارات الحكومة المحلية والداخلية والمالية والهيئة القضائية وذلك لدراسة مذكرة شؤون الرئاسة الخاصة بتصفية الإدارة الأهلية على أن ترفع لمجلس الوزراء في أسرع وقت ممكن تقريراً حول سبل إنجاز المشروع والبديل للإدارة الأهلية والتوقيت الذي يمكن أن تتم فيه التصفية. وخول للجنة أن تضم في عضويتها من تريد من ذوي الخبرة الأيام (14 فبراير 1965).
وشرع وزير الحكومة المحلية المرحوم أستاذنا عابدين إسماعيل في تنفيذ القرار. وقال في صحف اليوم التالي إنه سيفرغ في اليومين القادمين من تشكيل لجنة تصفية الإدارة الأهلية. ولم يكتب لتلك اللجنة أن تقوم بالنظر إلى انتكاسة الثورة. ففي أقل من أسبوع نجحت القوى المحافظة من النادي الحاكم (الأمة والوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي وشيعتهم) في قلب ميزان قوى الثورة لصالحهما. ففرضا على السيد سرالختم الخليفة الاستقالة. فقد ألبا عليه الشارع والشارع الأنصاري خاصة. جابوا شوارع العاصمة شاهرين السيوف. ووجهوا المنظمات التي لهم فيها نفوذ لخلع أنفسهم من جبهة الهيئات (سوفيات الثورة) كما صرح بذلك الاستاذ عبد الرحيم حمدي. فخرج على تلك الجبهة كل من اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ونقابة اساتذتها والبياطرة والقضاة الشرعيين. بل جاء وفد من الإدارة الأهلية إلى المدينة وهدد بالإضراب إن لم ينظر مجلس الوزراء في تظلمهم من قرار التصفية (أو وجهتها ومراميها). وطوق ساسة الأحزاب المحافظة رئيس الوزراء وأسهروه. ولم يعرف الناس عن الرجل اشتغالاً بالسياسة أو مزاجاً لها. وجاء على رئاسة الوزارة إكراماً للجنوب الذي خبره كإداري تربوي. وكان رائي دائماً في استقالته أنها لم تأت عن رداءة سياسية. صفوة القول أنه لم يحتمل ضغط المحافظين ومكرهم اللذين لم يتهيأ لهم في حياته المهنية الرشيقة.
وما غلب المحافظون على مجلس الوزراء حتى راجعوا الموقف من الإدارة الأهلية. فنزعوا منه فتيل الجذرية اليساري الذي أراد منه أهله تحرير الريف من قبضة بيوت للحكم مكنها الإنجليز لغايات لا علاقة لها ب "الأهلية" الخادعة. وذهب بيان للحكومة نشرته الصحف يوم 29 مارس 1965 إلى تطمين رجالات الإدارة الأهلية إلى أنهم في مأمن من اليسار المنهزم. فإلى البيان الذي صدر عن وزارة الحكومة المحلية:
إشارة إلى قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 13-3-1965 (بعد مناقشة مذكرة الشفيع وتسويفها) الخاص بموضوع الإدارة الأهلية تود الحكومة أن تصدر التوضيح الآتي:
من الواضح أن بعض المواطنين قد أساء فهم المقصود الحقيقي من ذلك القرار مما أحدث كثيراً من البلبلة وتضارباً في الآراء على الأخص في المناطق المتخلفة في بعض المديريات. وقد دفع هذا الموقف المسؤولين في تلك المديريات أن يلفتوا النظر إلى ذلك موضحين بعض نتائج تلك البلبلة التي حدثت بالفعل والتي ينتظر أن تحدث إن استمر ذلك الفهم الخاطيء. وعليه فقد رؤي من المناسب أن نوضح للجميع أن المقصود من القرار هو العمل على إصلاح وتطوير الإدارات الأهلية بما يجعلها تتمشى مع ما بلغته البلاد من وعي وتطور في كل المجالات هادفين إلى توفير العدالة المطلقة للمواطنين والإدارة الحسنة الرشيدة في أقاليم السودان المختلفة. ولعله من المناسب أيضاً أن نوضح أن مثل هذا الإجراء يحتاج إلى دراسات مستفيضة. وواضح أيضاً أن الدراسات تحتاج لوقت ليس بالقصير يتفاوت من منطقة إلى أخرى. ومن أجل ذلك فقد اشتمل القرار على تكوين لجنة من الوزارات المعنية للقيام بهذه الدراسات والتقدم بتوصياتها.
هذا ونود أن نوضح في هذا المجال أن فصل السلطات القضائية من الإدارية سياسة ليست بالجديدة ولكنها أيضاً تحتاج لدراسة وافية. والإتجاه هنا أن يستمر تطبيقها في المناطق التي انتشر فيها الوعي وأصبح الفصل علنياً. وإلى أن يتم ذلك فسيظل رؤساء المحاكم الحاليين يمارسون سلطاتهم القضائية. هذا وليس من سياسة الحكومة خلق رئاسات منفصلة للمحاكم في الوقت الحاضر لأن ذلك لا يحقق أي فائدة بل على العكس سيؤدي إلى مضاعفة المصروفات وخلق مشاكل كثيرة على القبيلة الواحدة تؤدي إلى تدهور في حالة الإدارة والأمن.
بناء عليه قصدنا بإصدار هذا البيان أن نوضح للمواطنين جلية الأمر حتى نزيل هذه البلبلة وتعود الأمور إلى مجاريها. ويمارس الشعب ورجالات الإدارات الأهلية حقوقهم وواجباتهم دون زعزعة أو اضطراب وأن يعلم الجميع أن ما يشمل الإدارات الأهلية من تطوير سيكون شأنه في ذلك شأن أي جهاز آخر في الدولة.
وختاماً نود أن ننتهز هذه الفرصة ونوجه المواطنين أن يقوموا بواجباتهم وأن يظل التعاون كاملاً بينهم وبين مشائخهم وأن يعلموا أن أي تقصير في سداد الضرائب لن يمكن مجالسهم المحلية من أن تستمر في تقديم خدماتها العديدة لهم كما أننا لا نشك بأن رجال الإدارة الأهلية سيؤدون واجباتهم بنفس الروح الوطنية العالية التي اتصفوا بها دائما (الأيام 29 مارس 1965).
إن الوثائق متى تناظرت وتناصرت لا ترجح كفة من نسبوا إلى مذكرة الشفيع بلاوينا بأسرها لأنها صفت الإدارة الأهلية. فالمذكرة لم يكتب لها أن تنفث جذريتها في أضابير الدولة سوى لنحو 3 أشهر بالأكثر. ثم لفظتها الدولة المخافظة لفظ النواة وأرجعت الفارغة لليسار. وعادت حليمة لقديمها.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة 1964
ثورة أكتوبر والجامعة: يوم هتفنا بعقلنا (19 من 30)
عبد الله علي إبراهيم
(مقال في تقويم ثورة أكتوبر نشر في يوم 24 يناير 1998 بجريدة الفجر التي صدرت بلندن وحررها الأستاذ يحي العوض)
استضافني الدكتور أحمد خير في برنامجه المشرف "على المائدة" بالشبكة العربية الأمريكية بواشنطن للحديث في مناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لثورة أكتوبر 1964 في العام المنصرم (1998)، وقلت في كلمتي إننا بحاجة، بعد هذا الزمان المتقادم على الثورة، أن نردف طقوس الاحتفال بها إلى طقوس "جردها" في لغة رجال الأعمال. وأعني بالجرد هنا تقليب الثورة على جمر الخبرة التاريخية منذ 1964، عام وقوع الثورة، حتى يومنا هذا لنرى كيف شكلت فكرنا وجسدنا السياسي والثقافي سلباً وإيجاباً. فالثورة ما تزال الحادثة المعارضة الموفقة التي نجترها لغة، وشعائر، وزعامات، وتوقعات، وآمالا كلما أحدق بنا ظلم النظم السياسية الحاكمة . فقد أضحت ثورة أكتوبر هي الشفرة التي تستبطن أداء السياسة في الحكومة والمعارضة، وقراء هذه الجريدة (3/1/1999، وهي جريدة الفجر المعارضة الصادرة في لندن) ربما لاحظوا عنواناً رئيسياً على عدد مضى من الصفحة الأولى قال: "اقتراب المواجهة الحاسمة، الخرطوم تعيش أجواء أكتوبر" لوصف تطورات جارية على أيامنا هذه بين المعارضة والحكومة في السودان. ولمَّح الخبر إلى أن الحكومة لم تتعرض لندوة طلابية معارضة بجامعة الخرطوم خشية أن تكون الندوة هي فتيل الثورة عليها كما جرى تماما في أكتوبر 1964.
لابسني أخيراً خاطر ملحاح أن ثورة أكتوبر، في حساب الخسارة، هي التي جردتنا من المؤسسة الأكاديمية، في خصائصها الأساسية في بلوغ الحقيقة " المجردة" حين تسيست جامعة الخرطوم تسيسياً خرج بها عن طورها. فخلال ثورة أكتوبر خرج هذا البرج العاجي في مستوى هيئة التدريس، ناهيك عن الطلاب الذين فٌطموا على السياسة، إلى العمل السياسي العام خروجا فجاً تساقطت به شرعية الجامعة الأكاديمية سقوطاً شنيعاً. وظلت المعارضة المدنية لنظم الطغم العسكرية تقصد سوح جامعة الخرطوم تستحصل على كبش فداء من الطلاب في مقام المرحوم أحمد القرشي طه لزحزحة الطغمة الحاكمة عن السلطان. وقد انتهزت الحركة الإسلامية، التي ظل الطلاب وما زالوا وقودها والحجارة، المؤسسة الأكاديمية، ذات الإمكانيات الطيبة، لتحول اتحادها الطلابي على الأقل، إلى حزب سياسي من الطراز الأول. و الذي يقرأ رسالة الدكتور التيجاني عبد القادر عن الحركة الإسلامية سيرى بغير مواربة كيف خدم اتحاد الطلاب بجامعة الخرطوم، الذي سيطر عليه الاتجاه الإسلامي دهراً طويلاً في السبعينات والثمانينات، مباديء وتوجهات الحركة خدمة لم تكن الحركة نفسها قادرة عليها.وذلك مجانا، ولوجه الله، وعلى حساب دافع الضرائب.
ولم تكن جامعة الخرطوم بعيدة عن السياسة من زاوية عناية طلابها بهذا الأمر دائما منذ عهد الاستعمار. غير أن الذي جد في الأمر أن أكتوبر جعلت السياسة والسياسة الحزبية، لو تحرينا الدقة، هي العليا والأكاديميات هي السفلى مما أفرغ الجامعة من ميزة الأصل والتأسيس. وأضرب لذلك مثلا في المواجهة بين اتحاد الطلاب وهيئة التدريس التي عرفت باسم " معركة الميكروفونات" بعد انتفاضة إبريل 1985. فقد بلغ استخدام الميكرفون في ميادين كلية الآداب والاقتصاد خاصة حداً لم يعد معه المدرسون قادرين على تبلغ أصواتهم بالمعارف لطلابهم في الفصول. واشتكى المدرسون، و على رأسهم الدكتور علي عبد الله عباس، من هذا العنت إلى إدارة الجامعة . واقترح الأساتذة أن ينقل الطلاب نشاطهم السياسي الميكرفوني إلى مباني اتحاد الطلاب على شارع النيل قريبا من وزارة التربية. غير أن التنظيمات الطلابية أصرت على كسب الميكرفونات التاريخي الأكتوبري-المايوي- الأبريلي في إذاعة معارفهم نهاراً جهاراً وفي حرم المدرجات. وتوصلت الجامعة إلى حل وسط هو أن يكف الطلاب عن استعمال الميكرفونات طالما كانت المدرجات منعقدة، وأن يعودوا إليها بعد انتهاء الدوام. ولم تلتزم التنظيمات قاطبة بنص أو روح هذا الاتفاق . فأنظر كيف أصبح التدريس هو الأدنى وكيف أصبحت السياسة الحزبية هي الأعلى.
جاءت ثورة أكتوبر 1964 للجامعة بسلطان السياسة. وبدلا أن تأخذ الجامعة منه بقدر حاجتها لبلوغ مجتمعها وتغييره، وجدناها قد أخذت ذلك السلطان كله: بقضه وقضيضه، بغثه وثمينه، بما ينفع وبالزبد الذي يذهب جفاء. لقد أعجب الجامعة دور الريادة السياسة فتنصلت عن ريادتها بمقتضى تأسيسها: البحث عن الحقيقة . ومع ذلك استمسكت "ببقية أكاديمية" في القبول والترقيات والامتحانات بفضل نفر ذوي كبرياء من الأساتذة والإداريين المجهولين تحت ركام ضجيج السياسة ولغطها المكرفوني الغليظ جاء عند الدكتور عبد الوهاب الأفندي أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، الذي هزه العدوان الثلاثي على مصر عام1956، جاء إلى المرحوم عبد الله خليل (البيه)، رئيس الوزراء، يطلب منه، ضمن أشياء أخرى، أن يمنع الطائرات البريطانية أن تهبط في مطار الخرطوم بمثابة احتجاج وعقوبة. وقيل إن البيه قال لهم : وماذا لو هبطوا رغماً عنا جميعاً؟ هل تريدون أن أذكرهم أن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم غير راض وسيرد الصاع صاعين . أذهبوا يا أولادي إلى مذاكرتكم الله يهديكم . ليست هذه النادرة مما أستسيغه لأسباب في تاريخي الشخصي وقناعاتي . وليس المرحوم البيه من رموزي السياسيين حتى في زمن النوستالجيا هذا. غير أن في الكلمة حكمة من حكم الخوف والواقعية . فللسياسة حدود مهما قلنا في شأن الإدارة والبسالة . ولست معجبا بالمرحوم الأزهري حتى في زمن النوستولجيا هذا . غير أنني سأحكي عنه نادرة عن جامعة الخرطوم أيضا لبيانها الجيد للحد بين بيض الصحائف وسود الصحائف أي بين السياسة والأكاديمية . وتلك وقفة أخرى أن شاء الله .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
17نوفمبر 1958: نعي الديمقراطية الأول (20 من 30)
تمر علينا اليوم ذكري طغمة 17 نوفمبر 1958. وهذا يوم الشؤم العظيم لبلدنا. فعصابة نوفمبر ، في لغة التصوير، هي "النجتيف" الذي طبعنا منه نظم الطغم التي توالت علينا. فقد صادر الإنقلاب الحوار الوطني الذي دار حول منهج الحكم آنذاك وعرض المعونة الأمريكية لنا في ملابسات الحرب الباردة. ولم تقبل دوائر واسعة منا بهذه المعونة. وقد تحالف هؤلاء في موكب 21 اكتوبر 1958 الذي اقتحمه السفير الأمريكي آنذاك لسبب غامض ما يزال. وصور المنقلبون هذا الحوار بأنه قلاقل استحقت القمع والوصاية. وقد رد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم علي هذا المنطق بمذكرتهم للطغمة النوفمبرية في سبتمبر 1959 قائلين: "وكنا نري منذ البداية أنه في ظل الديمقراطية لا في غيبتها يتدرب الشعب علي الحكم النيابي والاستمساك به". وهكذا فرط الانقلاب في عادة الديمقراطية وأرسي عادة الاستبداد. وقد فشت العادة في الحكومة والمعارضة معاً وتأبطت الطغم شر السلاح وشرهه وأفرغوا السياسة من الشعب مصدر السلطات.
لقد اخذت الطغم اللاحقة قسماتها الدميمة كلها من نطفة نوفمبر الأولي. فقد أصدرت حكومة 17 نوفمبر قانون دفاع السودان (1958) الذي أساء للعدل بسنة المحاكم العسكرية للمدنيين والاعتقال التحفظي. وتعدت علي حرية التنظيم بالغاء قوانين العمل النقابي بأخري موسوسة مثل قانون نقابات العمال 1960 وقانون رقم 9 لاتحاد طلبة جامعة الخرطوم وقانون المجلس المركزي الذي كان رئيس القضاة وقتها قيماً على اللجنة التي وضعت مسودته الظالمة. وصادرت استقلال الجامعة حتي ضمتها للتربية والتعليم في 1963. وأرادت تأميم الصحافة واكتفت بصحيفة لسان الحال: البرش بقرش. وضيقت علي الصحف تضييقاً جعل الكتابة مستحيلة. وشملت قائمة المحرمات "الكتابة عن كيشو ولجنة نادي الهلال" و "التعرض بالنقد للإذاعة ومراقبها التاج حمد". وبدأت الطغمة حرب الجنوب الثقافية باستخدام الأسلمة والتعريب كأداوات حكومية. فقد هدفت "البلدوية"، المنسوية الي علي بلدو، مدير مديرية الإستوائية على أيامها، عكس مجري السياسة الاستعمارية بنشر الاسلام والعربية بدلاً عن الانجليزية والمسيحية. واحتج الجنوب علي ذلك حتي توج ذلك بتأسيس حركة أنانيا. وعلقت دولة نوفمبر رفاق السلاح المعارضين علي المشانق وقتلت الأنصار في المولد ورحلت جماعة النوبة التاريخية من موضعها بغير استئذان. وقد مشت الطغم اللأحقة علي دربها.
انتهت طغمة نوفمبر الي شيء من القبول عند بعض العامة والخاصة. وقد يصدق عليهم قولنا إن ال.ك.ل.ب يحب خانقو . . . الأول. ويثني البعض عليها بزعم أنها استسلمت للأرادة الشعبية بغير ملاواة مع أنها أزهقت في أكتوبر أربعين نفساً في مدن البلاد المختلفة. ولم يكن بوسع الطغمة البقاء لأكثر ما بقيت. فقد حانت ساعة أزمتها الثورية. وهي أزمة يكون بها النظام المقوض ليس قادراً علي الحكم وحسب بل لا يعود الناس يطيقون البقاء في ظله لأطول مما فعلوا. وقد صور ذلك استاذنا عبدالخالق محجوب بقوله أن نظام نوفمبر رأي الدولة نفسها ،ناهيك عن المجتمع المدني، تنفصل عنه بالكلية بالإضراب السياسي العام وتتركه عارياً من الغطاء.
نشأ غفران الكثيرين منا لطغمة نوفمبر من فساد منهج معارضيّ الطغم اللاحقة. فقد تبنوا في تهافتهم علي السلطان فكرة أن الطغمة المكتوين بها في يومهم نظام لم يقع لنا من قبل "و"ورانا جديد ما كان علي بال". ولهذا غابت عن وعينا شفرة نوفمبر التي هي في صميم كل الطغم. ومن الجهة الأخري ركزت المعارضة علي الأحتفال بثورة اكتوبر كأداة مجردة لتغيير النظم وليس كحدث تاريخي لا يستقيم فهمه بغير تحليل نظام نوفمبر. وهكذا دعا د. الترابي من أيام الطلاب الي القيام بثورة إكتوبر كأنها يمكن أن تقع لمجرد أن شيخنا قد ترك طغمته مغاضباً.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
كليف تومسون: شاهد عيان ثورة اكتوبر الذي يدرس تاريخها بجامعة أمريكية (21 من 30)
إذا كانت ثورة أكتوبر 1964 قد جاءت بالإضراب السياسي العام لإسقاط نظام الفريق عبود فقد يصح القول إننا نعاقبها على أيامنا هذه بالإضراب التاريخي عن بعث ذكراها ومغازيها. وأكثر ما تسمعه عنها هو الذكرى المضادة أو الذم. فعادة ما قيل إنها هي التي أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير. وهذا هراء كشفنا سوء نيته. وأصبح النظام الذي أطاحت به ثاني حكومتين أحسنتا للسودانيين بالإجماع الصفوي السكوتي. وأما النظام الآخر فهو دولة الإنجليز. فأنظر كيف هوينا إلى هذا الدرك السخيف من قلة القيمة والهزء والعيب لا نقيم وزناً للحرية ولا نظن أننا نستحقها.
فقد مر عيد الثورة الثاني وأربعين بلا صدى. فحتى المعارضة اختارت أن تغطي على ذكراها بتظاهرة لذكرى انقلاب رمضان 1990 المؤود. وهو حادث سياسي ( مهما قلنا عن تراجيدته ودمه المسفوك ومقابر ضحاياه المجهولة) خلافي جداً. فهو مما يمكن وصفه ب "انقلاب المسبوق". دبره حزب البعث العربي السوداني، كما جاء في اعترافات توالت من زعاماته مؤخراً ليزيل النظام الديمقراطي (1985-1989) غير أن الإسلاميين كانوا أشطر. والانقلاب، مهما زيناه، لن يرقي لأكثر مما فعل انقلاب 19 يوليو 1971: فجيعة حزبية شيوعية غراء تطراها جريدة الميدان في ما يشبه الواجب لا الشوق.
لقد طال إضرابنا عن فهم دلالة ثورة اكتوبر كثورة سياسية إجتماعية على بينة من تاريخها. وحصل علينا قول أحدهم إن من جهل التاريخ كان كمن يأوي إلى منزل بلا نوافذ. ولهذا صار بلدنا ضريراً يتخبط في الظلام من مس الجهل والمزاعم وسوء الطوية. وأحاول مع الدكتور بدر الدين الهاشمي (وهو قسيم اهتمام طويل حميم مع أنني لم اتشرف بعد برؤيته برغم كثرة أحاديثنا واتصال رسائلنا) رعاية مشروع للتعريف بثورة أكتوبر كما كتبه شاهد عيان. وهذا الشاهد هو الدكتور كليف تومسن العميد السابق لكلية القانون ومدير معهد الدراسات الأفريقية بجامعة ويسكونسن-ماديسون.
وكان كليف إبان اندلاع الثورة محاضراً حدثاً للقانون بجامعة الخرطوم يطرق اسمه سمعي من زملائي بالكلية من أمثال المرحوم عبد الله صالح والمرحوم الشيخ (حسب الرسول) رحمة الله والدكتور على سليمان. ولم اتحسب وقتها لأنني سأسمع عنه ثانية من السيد عبد الحميد عبد الرحمن، طالب الدكتوراه بجامعة ويسكونسن الأمريكية، أو ألقاه شخصياً بعد نحو ثلاثين عاماً. فقد حدثني عبد الحميد في 1993 عن أستاذ بالجامعة استأجره ليترجم له في الإنجليزية مقابلات أجراها في السودان مع قادة ثورة اكتوبر وطائفة صالحة ممن شاركوا فيها. وأعجبتني همة الرجل. ثمم انصرفت إلى شأني. وظللت اصطدم باسم كليف خلال قراءاتي في أدب القانون السوداني وأنا أعد كتابي عن تاريخ القضائية الذي صدر عن دار بريل بهولندا ونشرت أطرافا منه في كتابي "الشريعة والحداثة". وأعتقد أن مقالتيه عن القانون السوداني ما زالا من أفضل ما كتب في تاريخ ذلك القانون. وحين فرغت من مخطوطة كتابي سألته أن يقرأها ويعينني في مادتها العلمية ولغتها. وكان الرجل عند حسن الظن بل بالغ. ونقول عن الرجل لين الجانب إنك تأكل وتقش يدك في طرفه. وقششت يدي في طرف كليف حين وضعت اسمه ضمن من سيقيمون المخطوطة لتعتبرني الجامعة التي أخدم فيها ضمن طاقمها المستديم. واختارته الحامعة ليعلق على المخطوطة وكتب عنها خريدة من التقريظ.
ثم كان لقائي به في مدينتي كولمبيا بولاية ميسوري حين جاء ليلقي محاضرة بكلية القانون بجامعتنا. وكان ينوي أيضاً زيارة والدته التي تقيم بمنزل لرعاية المسنين بمدينة برانسون بولايتنا. وبرنسون مدينة ملاهي يفد اليها أهل الغرب الأمريكي الأوسط للترفيه. وتحدثت إليه خلال الزيارة عن مشروعه للكتابة عن ثورة أكتوبر السودانية. وطلبت منه أن أقرأ ما كتب إن فرغ منه. فعلمت منه أنه عاكف على اللمسات الأخيرة منه. وقد إنبني كتابه على مشاهداته وملاحظاته عن الثورة التي هبت حيث كان يدرس بجامعة الخرطوم لأربع سنوات وأخذته بروعتها في نشدانها للحرية بقوة وسحرته بطولة طلابه. فقد كان يعلمهم القانون للعدل فإذا بهم يطلبونه جهاراً نهاراً في عمل سياسي بطولي قاصد. وقد ساعده في ضبط ذاكرته التقليد الأوربي المعروف في كتابة اليوميات أو journals . وهي أن تكتب ما مر بك في يومك من أحداث وما سمعت من أشياء قبل أن تأوي إلى نومك. وفي هذا تأمين للذاكرة من السهو والنسيان.
ويبدو أن شهيته لتدوين وقائع هذه الثورة المدنية الأفريقية قد اخذت منه كل مأخذ. فراح يجرى مقابلات مع قادة الثورة وأفراد وقودها في سنوات 1964-1965. ثم واصل تلك الأحاديث التي شملت نحو 70 شخصاً في فصل الربيع من عام 1966. ثم عاد في 1969 إلى الخرطوم ليستكمل تلك المقابلات. واستعان بالدكتور سعيد محمد أحمد المهدي والدكتور الفاتح حامد، مساعد أبحاثه، ليترجما له المقالات عن الثورة في الإنجليزية. وبدأ كتابة المخطوطة في خريف 1975 وظل يوالي الكتابة حتى ساعة لقائنا في نحو 2001.
وكان كليف خلال حديثنا مفتوناً بمولانا عبد المجيد إمام الذي قاد إضراب القضاة وشق طريقه إلى كردون البوليس على القضائية ليأمر الضابط المسئول بفضه والانصراف بلغة القاضي العدل الثائر. فسألته أن يبعث لي بما كتبه عن مولانا عبد المجيد فترجمته ونشرته قبل عامين في مناسبة ذكرى الثورة. وما فرغ كليف من المخطوطة حتى استأذنته أن نترجمها للعربية وننشرها بالصورة والحرف في السودان. وكان كما كان سباقاً إلى الفضل. وقال إن الثورة هي إرث للسودانيين بشكل رئيسي ومن حقهم الإطلاع على تاريخها قبل الآخرين. وفاتحت الدكتور بدر الدين الهاشمي، وهو عالم صيدلاني ومحب للتاريخ ومترجم مجيد، أن ينهض بأمر الترجمة وقد فرغ منها. وتنتظر المخطوطة بعض التحرير والتمويل لتكون جاهزة للمشاهد والقاريء (نشرت مسلسلة بجريدة الأحداث أول ظهورها).
وقد فاجأني كليف قبل نحو عام بقوله إنه سيقوم بتدريس كورس في القانون الأفريقي عن ثورة أكتوبر. وقد بعث لي بفكرته المكتوبة التي ستكون بأيدي الطلاب متى سجلوا للكورس. وحين تضرب أوساطنا الصفوية عن ذكرى أكتوبر وتتخبط في ظلام الغرف التي بلا نوافذ من نيفاشا حتى أسمرا يجلس نفر من طلاب جامعة ويسكونسون في المدرج يقلبون تاريخ تلك الثورة مع شاهد عيان. ويظن البعض إن العلم هين وأن التاريخ غلاط أو زائد عن الحاجة. ولهذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم غيرهم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
من دارفور إلى أكتوبر: 32 طالباً جامعياً أمريكياً يدرسون مأثرة ثورة أكتوبر السودانية (22 من 30)
اندلعت ثورة 21 أكتوبر 1964 بينما كان الدكتور كليف تومسون يقضي عامه الرابع في السودان كمحاضر مبتديء بقانون جامعة الخرطوم. وقد صار فيما بعد عميداً لكلية القانون بجامعة ولاية ويسكنسون الأمريكية بمدينة ماديسون ومديراً لمعهد الدراسات الأفريقية بها. وكانت تلك ستينات القرن الماضي التي تميزت بحركة غير عادية لتغيير العالم كما عرفناه. كان الاحتجاج هو العادة والسكون هو النشاز. ووجد كليف، الفتى الأمريكي (وكانت بلاده وجامعاتها أكبر بؤر الدعوة لتجديد شباب العالم)، نفسه في طيات تلك الثورة وخفاياها. فسهر يدون يومياته عنها ثم تعقب قادة الثورة وروادها في السنوات المباشرة اللاحقة يسألهم عن أدوارهم فيها. وتوفرت له مادة كثيفة طازجة ظل يكتب بفضلها تاريخ تلك الثورة حتى فرغ منه قبل سنتين أو نحوها. وقد قيض لي الحظ الحسن أن أتعرف عليه قبل فراغه من الكتاب وكلمته عن رغبتي، والدكتور بدر الدين الهاشمي، في ترجمة المخطوطة في العربية وتحريرها. وأَذِن بذلك بسخاء منوهاً بأن السودانيين أحق الناس بالإطلاع على إرث أكتوبر قبل غيرهم.
ويبدو أن الذي بين كليف وثورة أكتوبر مما لا يستنفده مداد كلمات كتاب. فقد فوجئت برسالة منه منذ عام أو أقل تحدثني عن نيته تدريس كورس عن ثورة أكتوبر والقانون لطلاب القانون والدراسات الأفريقية بجامعة ويسكونسون. وهذا الكورس منعقد على وقتنا هذا من خريف 2006 بقاعات الجامعة. ويؤمه 32 طالباً. وقد بعث لي كليف بكلمة أخيرة كشفت لي عن تعلقه المهني قبل السياسي بثورتنا. فقال إن جامعته ظلت تفخر بمنزلة الدراسات القانونية فيها بما دربت من قانونيين بارزين وعديدين. وقد تميزت بتغليب القانون كممارسة نحو تحقيق العدل لا كمادة أكاديمية فقهية بين طيات الكتب. وترتيباً على ذلك فإن ثورة اكتوبر السودانية هي غاية الغايات لجامعة مطلبها من القانون تنزيل العدالة على الأرض.
وأطلعني كليف على ديباجة كورسه عن ثورة أكتوبر الذي انطوى على فكرة أن العلم بثورة أكتوبر باب في إحسان الأكاديمية وتوطينها في المجتمع لا لجاجاً سياسياً تتربص به المعارضة لشقلبة الحكومة والبادي أظلم. وهذا ابتذال للثورة مشهود عندنا. فالمعارضة تهدد الحكومة ب "رياح أكتوبر التي تتجمع في الأفق". والحكومة تنكر ثلاثاُ أن ثورة مثل أكتوبر قد حدثت أصلاً. فيصمت مذياعها وينضب تلفزيونها وتبتلع عطلة اليوم المشهود (السخية بالبطالات) وتعف عن الإبرة. ويبلغ الجهل بالثورة حداً قال طالب نابه يوماً لمحرر بصحيفة أن أكتوبر شيء رائع حدث في الغناء والنشيد. وكفى.
وإلى القاريء ترجمة في العربية لديباجة كورس كليف لطلابه الاثنين وثلاثين في مادة القانون الأفريقي عن ثورة أكتوبر السودانية بجامعة ويسكونسن:
"انتهى حكم بريطانيا للسودان في يناير 1956. غير أن الاستقلال لم يسعد السودانيين. فقد وصف ج ت روبرتسون (السكرتير الإداري الاستعماري السابق بالسودان) السودان المستقل ب "تلك البلاد التعيسة". استحكمت فيه حرب أهلية بين الشمال والجنوب. وأنجزت من قريب حكومته استئصالاً عرقياً في دارفور. وساد البلاد حكم الجيش وضمر حكم النظم الديمقراطية.
وشهدت البلاد مع ذلك هبات مثل ثورة أكتوبر 1964 انقدحت منها شرارة الديمقراطية وفاح مسكها. وكانت ثورة أكتوبر هبة وطنية قام بها مواطنون مدنيون عٌزل صمموا على إسقاط نظام عسكري طغى وبغى ونجحوا في اقتلاعه. ولم تدم الديمقراطية المستعادة بالثورة سوى سنوات قليلة فعاد الحكم للعسكريين في 1969. ولم يزد ذلك السودانيين غير عزة بالثورة فهي مصدر فخر لمن شاركوا فيها ورأي فيها الجيل الحدث بارقة أمل يأوون إليها في الملمات كما رأى فيها غير السودانيين سبباً للاعتقاد بحق الشعوب في أن تقرر لنفسها وبنفسها صورة الحكم الذي تريده لبلدها تخطيء وتصيب.
المقرر الرئيسي للكورس هو مسودة كتابي عن ثورة اكتوبر. وفيه قصصت إنتفاضة السودانيين في 1964 ووقفت على حيثيات النبض الوطني الذي استولدها وبث فيها حياة وأنفساً شجاعة صميمة. فأكتوبر قصة إنسانية غراء تستحق أن تروى على الملأ لازدحامها بمشاهد من الشجاعة المثيرة غير المتوقعة. وكان أكثر قادتها من القانونيين طلاباً وأساتذة ومحامين وقضاة.
عند اندلاع الثورة كنت في سنتي الرابعة بالسودان أحاضر في القانون بجامعة الخرطوم وأدير مشروعاً وثقنا به للقضايا بمحاكم السودان. وقد وصفت في المخطوطة أحداث الثورة وضمنت وصفي ملحوظاتى من واقع معايشة مباشرة للأحداث وزخمها. ولكن الكتاب انبني بصورة رئيسية على مقابلاتي للقادة الأعلام للثورة وغيرهم من المدنيين والعسكريين وأحاديثي المطولة معهم. فقد تحدثت إلى 68 قائداً ونفراً من هؤلاء والذاكرة خضراء بين 1964 و1976. واستثني من هؤلاء شخصين تحدثت إليهما في ما بعد. كنت مشغولاً لأعرف خفايا أحداث الثورة لأقف على خطرها وديناميكيتها ومغزاها للمجتمع السوداني.
واستغرقني النظر في مادة لقاءاتي وبحثي وكتابة الفصول وقت طويل قبل اكمال كتابة المخطوطة. ولم أتفرغ للكتابة بل فعلت ذلك في أوقات الفراغ الخاصة. وأصبحت الكتابة عن أكتوبر بين 1971 و2003 هوايتي المفضلة. وأردت بحكايتي عن أكتوبر الثورة أن يستشعر القاريء إنني أتحدث من طيات الحدث حتى يتاح له أن يفهم الحقائق المتغيرة والفوضوية حتى التي كمنت من وراء مسميات مثل "جبهة الهئيات" و"مذبحة القصر" و"الميثاق الوطني" مثلاً لا حصراً.
وفي عام 2004 كتب لي أستاذ بجامعة ميسوري-كولمبيا من العالمين بإهتماماتي السودانية (وهو العبد الفقير) إذا كان انشغالي بالأمر قد شمل مولانا عبد المجيد إمام. وهو قاض عدل شارك في الثورة وقال عنه سفير سوداني بلندن يوماً مفاخراً: "لقد عشنا في عصر عبد المجيد إمام" (أنظر الهامش). فزودته بما أراد. ونشر الأستاذ الجزء الخاص بعبد المجيد إمام من مخطوطتي بصحف السودان السيارة. ويقوم هذا الأستاذ الآن بترجمة المخطوطة في العربية لنشرها (الذي يقوم بالترجمة هو الدكتور بدر الدين الهاشمي وإنما أشرف على المشروع وأحرره وأروج له ما استطعت سبيلا).
أما عن سير الدراسة في الكورس فسيجتمع الفصل ساعتين أسبوعياً (ويمكن أن نمدد ذلك لثلاث ساعات). ولأنني لم أستقر بعد على خطة لنشر الكتاب في لغته الإنجليزية فإنني اتوقع من طلابي أن يعينوني لاستقر على شيء بقراءة المخطوطة قراءة حصيفة. فسأوفر لكل طالب نسخة من المخطوطة. وسأقرر للقراءة فصلاً في كل أسبوع. وسأطلب من كل منكم أن يعيد الفصل في نهاية الأسبوع وعلي هامشه تعليقاتكم. وسنحلل ما وقع من حوادث في الفصل المقرر في نقاشنا ونحدس بناء على ذلك ما سيقع من حوادث في فصلنا القادم. وسيكون الامتحان مما نأذن فيه باصطحاب المخطوطة إلى غرفة الاختبار والرجوع إليها في الإجابة. وسأقرر إن كنت سأطلب منكم كتابة مشروع بحثي متى اجتمعنا في الفصل."
هذه ديباجة هذا الكورس الذي وصفه صاحبه نفسه بأنه "غير عادي" والذي سجل لدراسته 32 طالباً أمريكياً وهو عدد غير عادي للكورسات المتقدمة في الجامعة، وبالنسبة لطلاب القانون الذين هم طلاب دراسات عليا قليل عددهم. وسيفرغون منه قبل حلول موسم أعياد أمريكا في منتصف ديسمبر. وقد كتبت لكليف ليشرك القاريء السوداني في معرفة خبرته في تدريس هذه المأثرة السودانية لطلاب في أمريكا تنام على محنة دارفور وغير دارفور وتصحو.
تصويب: لقد ضللت كليف حين قلت له أن سفيرنا في انجلترا (وهو القائم بالأعمال الأستاذ سيد احمد الحردلو) قال عن عبد المجيد إمام بفخر إنه يكفينا أننا عشنا في عصره. والصحيح أن الحاردلو قال عبارته الغراء عن الأستاذ عابدين إسماعيل سفيرنا في انجلترا إبان محنة 22 يوليو. وقد وقف عابدين بين الإنقلاب والإنقلاب المضاد على حافة الخلق القويم ورباطة الجأش فاستحق ثناء الحاردلو. وتنطبق كلمة الحاردلو على عبد المجيد حذوك النعل بالنعل. فكلنا فخور لحسن طالعنا لأننا عشنا في عصر عبد المجيد وعابدين ورجال آخرين ونساء أخريات.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964
شعبك أروع وأكبر: ماذا قال طلاب جامعة ويسكونسن الأمريكية عن ثورة اكتوبر 1964؟ (23 من 30)
قدم تومسون كورسه عن ثورة أكتوبر 1964 من خلال كلية القانون بجامعة ويسكونسون باسم "القانون الأفريقي: ثورة أكتوبر في السودان" بالنظر لدور أهل القانون من زملائه في الثورة ولأن الثورة انطوت علي مسائل دستورية في المواطنة ما تزال معنا. وقد لقي الكورس إقبالا من الطلاب فاق التوقع من مساق من جنسه. فقد سجل له 32 طالباً (29 طالب قانون في الفصول النهائية. والقانون دراسة عليا بالجامعة الأمريكية. وطالبان نهائيان بالجامعة) بينما لا يزيد من يسجلون أنفسهم لمثل هذا الكورس المتخصص عن عشرين وقد يتدنى الرقم إلى اثنين. وقد علم الدكتور جعفر كرار، وهو من أعضاء جبهة الهيئات التي قادت ثورة أكتوبر، بخبر كتاب تومسون وكورسه فراسله وحياه على حفظه ذكرى هذا الجزء الجوهري من تاريخ السودان. وسر ذلك تومسون جداً.
كنت قد ألحفت على تومسون أن يطلعني على رأي طلابه في مادة ثورة أكتوبر متى فرغوا من الكورس وكتبوا ملاحظاتهم عنه. فوعدني بذلك وبر بوعده. ووجدت الطلاب قد فتنوا بهذا التغيير العميق في السودان. واسترعاهم طلب السودانيين الحثيث للحرية بعزيمة لا تفتر وتحقيق مرادهم بقوة لا بالقوة وبسماحة تميزت بملكة المساومة وبلوغ الغاية عن طريق الإجماع. سأكتفي بترجمة بعض ما كتبه هؤلاء الطلاب. وسمح النضم في خشم سيدو.
كتب ن ميديث بوريمبسكي: "حين سجلت لهذا الفصل توقعت أن أكتسب علماً عن جزء مختلف عن العالم. غير أن قصة ثورة أكتوبر فاقت توقعاتي. فليس كتاب تومسون غاصاً بحقائق التاريخ فحسب بل اشتمل على قصة عن السودانيين وكيف تمكنوا من إرساء الساس للديمقراطية من خلال شجاعة محضة، وكدح كادح وبعض الحظ بالطبع."
وكتب هوستن جون قودول: "لقد انشرحت جداً للفرصة لمعرفة تفاصيل عن ثورة لا نعرف عنها شيئاً في أمريكا. واضح أن السودان بلد ظل يعاني الأمرين لسنوات كثيرة مما جعل الانطباع السائد عنه في أغلب أمريكا أنه ربما تفرق أيدي سبأ من فرط الحرب. لقد أٌخذت بالسكينة والذكاء لقادة الثورة من المدنيين والعسكريين الذين قرأنا عنهم. وقد خلصت من قراءة كتاب تومسون عن ثورة أكتوبر إلى أن السودانيين من بين أذكياء الناس بلا خفاء.
من المتعذر جداً أن تٌوحد الثقافات المختلفة والأديان والناس الشتى كما رأينا في شغل أمريكا في العراق. وأتمنى على السودان، الذي ظلت تمزقه الحرب لأمد طويل، أن يتمتع بالسلم وأن يجمع أهله بين دفتيه من واقع تنوعهم لا أن يكون هذا التنوع سبباً في خرابه."
كتبت ليندسي آن بيرن: " لقد خرجت من الحوادث التي ذخر بها الكتاب بصورة واضحة عن عزيمة السودانيين وقدرتهم على المساومة التي أذنت بمزاوجة أوجه التنوع الضارب في الاختلاف في حياتهم. إن تمكنهم من إنشاء نظام تمثيلي في الحكم أرضى شتيت جماعاتهم لهو درس ينبغي للسياسة العالمية الراهنة أن تعتبره وتستصحبه."
كتب ماثيو قاردنر: "لقد استمتعت بقراءة الكتاب وسرني اطلاعي على هذه الحادثة عميقة الدلالة في السودان الذي لم يسبق لي علم به. وأعتقد أن المؤلف قد أحسن توثيق وقائع الثورة ومشاعر الفاعلين فيها ودوافعهم. لقد هزني أن أرى ما تمتع به السودانيون من تضامن وشجاعة حتى أنجزوا تلك الثورة."
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ربيع ثورة أكتوبر 1964 (24 من 30)
بعد دراستها لثورة أكتوبر 1964 طالبة أمريكية تقول: "حبيت عشانك كسلا!"
للسودانيين كلمة حكيمة عن داء الجهل. قالوا الما بعرفك بجهلك. وهم لا يريدون ب "بجهلك" الأخيرة أنه لا "يعرفك". ولو صح هذا لم تزد العبارة عن قولنا إن الذي يجهلك يجهلك. ولكانت تفسيراً للماء بعد الجهد بالماء. ولكن أرادوا ب "يجهلك" أن الذي لا يعرفك يفتري عليك ولا يقيم لك وزناً. وقد لمست صدق العبارة في الطريقة التي لم يعرف بها بعض زملائي الكتاب ثورة أكتوبر في حولها الثاني والأربعين . . . فجهلوها.
فقد كتب الأستاذ إسحاق فضل الله أن ثورة أكتوبر هي ثمرة لمؤامرة استعمارية صهيونية. وقد أسفت أنني لم أقف على أعمدته كلها بهذا الخصوص لأعلم إن كان هذا الرأي الطارف في ثورة أكتوبر هو مما تنزل لإسحاق نتيجة بحث متأن في وثائق مستجدة في أرشيف استعماري صهيوني ظهر للعيان بعد خفاء أم أنه مما وقع له "كشف" كده. من الجهة الأخرى كتب زميلي العارف بالمعاني الدكتور حنفي (الرأي العام 30 أكتوبر 2006) يطلب من مؤلف ومغني نشيد "شعبك يا بلادي" إصدار طبعة منقحة منه ليتحول من نشيد سياسي اقتصر على حادثة سياسية هي ثورة اكتوبر إلى نشيد وطني "نسمعه في أي زمان فتسري بداخلنا رعشة الوطن". فالنشيد السياسي في قول حنفي لا يرشح فينا هذه الرعشة بل يصيبنا ب "الهرش السياسي". وصب حنفي جام نقده على مقطع النشيد الذي يقول :"شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور". ومصدر هرش حنفي السياسي أنه لا عبود ولا طلعت فريد (مثلاً)، وهم من نظام 17 نوفمبر 1957 الذي ثار عليه الناس في أكتوبر 1964، أعداء للسودانيين. وحجة حنفي على نفي التعدي عن هؤلاء الحكام هي أن للأول "صفحات سودانية ومنتزه" ببحري وللثاني "سطور وصالة العاب أولمبية" بحي المطار. وإذا استقام منطق حنفي فلن يكون لشعبنا، وأي شعب آخر في المعمورة، عدواً طالما كان للخصم صفحات وسطور ومنتزه وصالة العاب ما. ولم تكن عداوتنا مع نظام 17 نوفمبر حول المباني بل حول المعاني مثل الحرية وهلمجرا. وقد أزعجني أن قرأت في تحقيق مع الفنان وردي أنه بصدد نزع لحن "يا حارسنا وفارسنا" عن قصيدته المايوية المعروفة ليزين به قصيدة أخرى. لبس تكسب. ولو صدق النبأ لكان فعل وردي هذا أول تطبيق لدعوة حنفي في تنقيح الأناشيد الوطنية لتكون غير ما كانت. وهذا تزوير في التاريخ يجري على مشهد من الملأ.
كنت قد بدأت عرض آراء الطلاب الأمريكيين الذين درسوا ثورة أكتوبر 1964 على يد البروفسير كليف تومسون في مساق بكلية القانون بجامعة ويسكونسون بمدينة ماديسون الأمريكية في موسم خريف 2006. وتومبسون شاهد عيان على ثورة أكتوبر التي وقعت في عامه الرابع مقيماً بالسودان محاضراً بكلية القانون بجامعة الخرطوم. وقد كتب يومياته عنها وظل لسنوات يتعقب قادتها وغير قادتها يسألهم عن أدوارهم فيها حتى توافرت له المادة التي بنى عليها كتابه المخطوطة ما يزال. وكان تومبسون قد أذن لنا بترجمته للعربية ونشره بصور مختلفة. وربما كان هذا الكتاب، متى صدر ، هو الأول في بابه. فلم ينشر بعد كتاب تاريخي منهجي عن الثورة. فقد كتب الأستاذ شاموق كتاباً عنها لما كان السؤال عمن أشعل الثورة سؤالاً ملحاً بل استثمارياًً. ونشر الشيوعيون كتاباً ضخماً عن الثورة أميز ما فيه أنه الأرشيف الحي لمعظم ما صدر عن الحزب الشيوعي خلال صراعه لنظام عبود مع وصف سياقاته ومناسباته. وانتظر بفارغ الصبر صدور كتاب الدكتور جعفر كرار عن الإضراب السياسي العام، أداة ثورة أكتوبر في إزاحة نظام الفريق عبود. فلجعفر قلم حاذق كشف كتابه عن موقف الحزب الشيوعي من مسالة الجنوب عن بلاغته وبعد تقصيه.
وسيرى القارئ في هذه الدفعة الأخيرة من آراء الطلاب الأمريكيين في ثورة أكتوبر بحسب كتاب تومسون أنها ثمرة علم بالثورة. فقد عرفوها عن كثب ومن عالم وشاهد عيان فسدت هذه المعرفة عليهم باب الجهالة أو التجاهل. وقد درسوا ثورة السودان في عام هو عام أمريكي عالمي للاستهانة بالسودان والإزراء بسياسته وثقافته. وستجد في آراء الطلاب مقايسة غير معلنة بين وحدة الشعب السوداني وإرادته لنيل الحرية في ثورة أكتوبر 1964 وبين حاله في 2006 يتخبط في دارفور وغير دارفور ويتخطفه الناس والأمم المتحدة. لقد كان درسهم لأكتوبر سبباً لتفاؤلهم أن بلادنا ستنجو لأنها جاءت بالعجب العجاب في طلب الحرية في وقت باكر في عهد استقلالها. والكلام حلو في خشم سيدو:
كتبت الطالب كولن فيشر عن مساق ثورة أكتوبر: "يعيد كتاب بروفسير تومسون رواية حادثة ملهمة شجاعة هي ثورة أكتوبر 1964 في السودان. لقد استطاع السودانيون أن يزيحوا نظاماً مستبداً بوسائل سلمية في الغالب الأعم. لقد عمل المهنيون والأكاديميون والطلبة ومنتسبو الأحزاب السياسية وغمار الناس وبعض العسكريين حتى بدرجات متفاوتة بهدف نيل الديمقراطية. لقد برهن السودانيون في 1964 على أن الأشياء الجليلة يمكن أن تقع لنا متى أطرح الناس الأنانية وحب الذات وركزوا بصورة جماعية على الهدف الذي يعم نفعه المجتمع بأسره."
وكتبت جيسكا س فيرناندز: "أعد نفسي من السعيدات المائزات لدراستي ثورة أكتوبر السودانية من كتاب بروفسير تومسون. لقد أثرى عقلي نظر الكتاب الثاقب في وقائع الثورة وجوانبها الإنسانية وحكايات الناس الذين تحقق على يدهم هذا العمل السياسي الكبير. فلا يملك المرء إلا فرط الإعجاب للشجاعة والفدائية التي أسفر عنها طلاب الجامعة وهيئة التدريس فيها وموظفوها والمهنيون وسائر قوى المجتمع المدني. ولقد أعجبني بخاصة توكل مواطني مدينة كسلا الذين استقلوا قاطرة خاصة للخرطوم لدعم الثورة. فلم يكترثوا للخطر الذي ربما خبأه لهم القدر. فقد توكلوا رغم أنه ربما كانوا يسعون لحتفهم بظلفهم. وقد تبين لي بعد الفراغ من قراءة الكتاب أن نجاح الثورة عائد لكفاح السودانيين الشاق والتزامهم بنيل الحرية. وقد قر في نفسي كطالبة مكسيكية تدرس بالولايات المتحدة أننا كثيراً ما ننسي أن الحرية التي نتمتع بها قد انتزعها لنا سلف من بين أنياب الاستبداد. لقد عادت بي ثورة السودانيين إلى ثورتنا في المكسيك وتيقنت أنه لا ينبغي لنا أن نهمل تاريخنا وأن نفخر بالتضحيات التي تطوع بها من جاءوا قبلنا في الصراع من أجل الحرية. أتمنى من أعمق أعماقي أن ينعم السودان من جديد وعن قريب جداً بالسلم والحرية."
وكتب مايكل جيمس بيترسون: "لقد راعتني قدرة مندوبي الهيئات المهنية والنقابية والأحزاب للاتفاق على الأمور برغم التزامهم بشتيت الجماعات التي استمدوا منها القوة. وكان سائر من شارك في المفاوضات لميلاد عهد ما بعد أكتوبر مصممين على البشارة ب "المصلحة العامة" وتعليق الأمل عليها في أن ينعم السودان بمستقبل طيب. فمن النادر أن يطرح أنداد في الشوكة مثل قادة أكتوبر شاغلهم عن قدرهم ومكانتهم ليؤمنوا لمواطنيهم الحريات الإنسانية الأساسية. فحتى أولئك الذين وصفوا الآخرين بغير لياقة بأنهم "شيوعيين" ظلوا مصممين على إزاحة النظام العسكري الجاثم على صدور الناس.
أعتقد أن قصة ثورة أكتوبر في السودان توضح ملكة الناس العاديين للوقوف بقوة يطلبون التغيير حين تغالي الحكومة في حجب الحريات الإنسانية الأساسية عنهم. إنها مثل يضرب عن استعداد الناس لينظروا لأبعد من أرنبة بنياتهم الطبقية ويفيقوا لشوكة الفرد حين يقف دفاعاً عن حقه في الحياة الكريمة. فمن أشد المخاطرات التي يضطلع بها الإنسان شأواً ومن أعلاها قدراً من جهة الشجاعة أيضاً أن يضع المرء أمله في العمل الجماعي لتغيير ما بنفس مجتمعه ويرفض أن ينصاع لمقتضى الأمر الواقع. لقد استفادت التطورات في السودان من أمرين هما البخت السعيد وحقيقة أن الشعب لم يكن سلبياً في طلبه الحرية. فقد توحدوا بقلب رجل واحد مصممين أن يوفروا لأنفسهم عيشاً كريماً ولكل السودانيين الآخرين. وقد سادت هذه الطاقة للخير والتغيير حتى الغرف الخلفية المعججة بدخان السجائر التي كانت تطبخ فيها القرارات المصيرية للثورة."
وكتبت جني داي وهي أفضل طلاب الفصل معرفة بالسودان عن خيبة أملها في بعض قادة الثورة الذين تورطوا لاحقاً في القيام بنظم استبدادية أو خدمتها: "لقد أدخلني هذا التنصل للثورة في حيرة. فقد فجعت في هؤلاء القادة الذين لم يرتفعوا للتوقعات المنتظرة منهم. وليس بوسعي تصور ما يحسه السودانيون تجاه تنكر هؤلاء القادة للثورة إذا كنت أنا، الأجنبية، قد استهولت الأمر.
أستاذي تومبسون: شكراً لتدريسك هذا المساق الذي زكانا لطلابك فأشرق به السودان (الذي ما هان أبداً علينا) في كتاباتهم الرشيقة. البلد الطيب يخرج نباته طيباً.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
ثورة أكتوبر 1964 في ماديسون ويسكونسون (25- 28 من 30)
1-أكتوبر: سهد ليلة في سبتمبر 1963
احتفظت بالذِكر عن ثورة أكتوبر 1964 التي تركها لقائي في سبتمبر الماضي بالطلاب الذين يدرسون تاريخها بجامعة ويسكونسون إلى حين يأزف عيدها السنوي. ويقوم على الفصل الدكتور كليف تومسون الذي درّس بقانون جامعة الخرطوم أيام قيام الثورة وكتب يومياتها في مجلدين هما مقرره للفصل. وغرضه من الفصل، الذي انعقد لدورات ثلاث حتى تاريخه، أن يقف طلابه على ما بوسع مهنة القانون أن تقوم به من إحقاق الحق كما فعل ذلك جيل من القانونيين السودانيين في ثورة أكتوبر.
حضر اللقاء 8 طلاب من كلية القانون وتاسع شيخ من الطلاب الناضجين وتغيب اثنان أو نحوهما. وأقرب تجارب الطلاب من السودان طالبة سمحة اسمها جل رعت صبيين سودانيين من "الأطفال الضائعين" حتى اجتازا إجراءات اللجوء. أما الطالب الشيخ فهو موسوعة أسفار. فقد قرر بعد عودته من الحرب الكورية في 1954 أن يرى العشرة بلدان الأغزر سكاناً في العالم واستوفاها ما عدا البرازيل التي استعاض عنها بمكسيكو. وداعبه كليف قائلا:
-حدثتني زوجتى أن إدارة الجامعة قالت للطلاب العجائز أن يقتصدوا في الحديث في الفصل ليتيحوا الفرصة للطلاب الصغار ليعبروا عن أنفسهم.
وكان نقاش ثلاثة أو اربعة منهم حفياً مشغولاً وأسئلتهم ذكية.
عرَّفهم كليف بي بقوله إنني ترشحت لرئاسة جمهورية السودان. وميزت قوله حين أٌتيحت لي الفرصة للحديث بقولي إنه لولا ثورة أكتوبر لما عرفت طريقي إلى هذا الترشيح. فقد كنا نريد أن نزيل ديكتاتورية عسكرية ككل طلاب الدنيا. ولو لم تسقط قبل تخرجي من جامعة الخرطوم لربما قلت "هذا نظام جابو الله ويشيلو الله" كما عبر زميل لنا في معرض اليأس من الإطاحة به. وكان يمكن لي أن اتخرج من غير أن أشهد الثورة لولا ملابسات سترد. ولو لم اشهد الثورة طالباً لربما تناقص اهتمامي بالسياسية. فقد كنت أحب أن أكون ضابطاً بالحكومة المحلية. ولربما أخذتني تلك الوظيفة الغراء قديماً عن الانشغال بالسياسة. ولكن أكتوبر لمن شهدها مصداق لأن التغيير يقع. وقد يكون أكثر عمقاً من مجرد استبدال نظام بنظام: تغيير في القاع.
قلت للطلاب كان من المفروض أن أتخرج في أبريل 1964. وستجدون ما أخرني على صفحة 7-8 من كتابكم المقرر. فقد ورد فيه أن طلاب الجامعة نظموا في منتصف سبتمبر 1963 مظاهرة داوية في حفل التخريج المقام بميدان النخيل الزائف العتيق انسحبوا على إثرها منه. وقلت إنني كنت سكرتيراً للجنة الاتحاد التي نظمت الاحتجاج ممثلاً للجبهة الديمقراطية. وكان احتجاجنا المخصوص في هذه المناسبة هو قرار نظام نوفمبر ضم الجامعة إلى وزارة التربية والتعليم. واخترنا مناسبة التخريج لأنها وافقت إنعقاد مؤتمر مديري الجامعات الأفريقية الأول وقلنا سننتهز حضورهم الحفل لتكون ضربتنا للنظام أوجع. (للشفافية: كنت من ضمن الطلاب الذين أعانوا دكتور محمد إبراهيم الشوش، أستاذي، في التحضير لمؤتمر مدراء الجامعات ذلك).
وكان الاتحاد مجنوناً وعاقلاً. فعمم قراره بأن ننسحب بصمت ونغادر. ولكن ما بدا الإنسحاب حتى تصاعدت الهتاف بسقوط "عصابة 17 نوفمبر وإلى الثكنات يا عساكر". ونظرت إلى بؤرة الهتاف ووجدت من لم أخطيء حماستهما: الرفيقين سراج اللبني وعبد المنعم عطية. وسارعت أذكرهم باتفاق الانسحاب الصامت ولكن لم يوجد في الأرض يومها من سيسكت صوت الحق من على لسانهما خاصة وقد اكتنفتهما حلقة كبيرة تكيل للعصابة كيلاً بالربع الكبير وتريهما الباب إلى الثكنات. وعلمت أن الخرق اتسع الخرق. وأخذت أفكر في يوم غد الذي ستتخطفنا "الأحزاب" لخروجنا الشيوعي عن الخط. ناهيك عن الحكومة. ونمت أفكر.
2-ثورة أكتوبر 1964: كوبا كوبانا
قلت لطلاب جامعة ويسكونسن الأمريكية الذين يدرسون ثورة أكتوبر 1964 في زيارتي لهم في سبتمبر الماضي إنه لو مظاهرة 1963 (على صفحة 8 من كتابهم المقرر) لما حضرت الثورة في جامعة الخرطوم. وربما ساقني ذلك إلى إنشغال آخر غير الذي ساقتني إليه تجربة شهود الثورة والتبلبل فيها. وقلت أمس أن تلك الوقفة السياسية نظمها الاتحاد، وكنت سكرتيره عن الجبهة الديمقراطية، للاحتجاج على ضم الجامعة لوزارة المعارف. واخترنا لها مناسبة التخريج التي حضرها مدراء الجامعات الأفريقية ممن انعقد اجتماعهم الأول بالخرطوم.
ولم نقرر أن تكون المناسبة مظاهرة بل انسحاباً صامتاً محرجاً للحكومة. ولكن شاء الرفيقان سراج اللبني وعبد المنعم عطية أن يصخبا خلال الانسحاب فهتفا بسقوط عصابة 17 نوفمبر فصارت مظاهرة.ومن كان قريباً من رفيقنا السر مكي فليسأله أن يصف له كاريكاكتورياً كيف تناوب جسد اللبني وعطية وصوتهما في توقيع الهتاف وترويح النفس الشيوعية الغبينة. وكان نتيجة هذه التظاهرة أن تم إيقاف لجنة الاتحاد لمدة عام. وكان رئيسها هو المرحوم مجذوب سالم البر ومعه من الأخوان المسلمين على الحاج، وحافظ الشيخ، ومنير سالم الحكيم. وكنا من الجبهة أنا وبابكر الحاج ومحمد الأمين محمد نور وعبد الله محمد الحسن. ومن المستقلين حسن عابدين ومن الجبهة المتحدة على الخضر. ولو لم توقفني الجامعة لعام لتخرجت في إبريل 1964 وفاتتني الثورة.
قلت أمس إنني بت مسهداً ليلة المظاهرة. فقد خرق رفاق لنا بالاسم قرار الاتحاد وعلت عقيرتهم بالهتاف. وسنصحو وقد أصبحنا مضغة الأفواه السياسية تلوك إنتهازيتنا التي هي حرسنا من لينين او غيره. وكنت أعرف أنني الذي سأكتب بيان الجبهة لتوضيح موقفنا كما درجت. وكانت البلاغة وحدها هي حليفي للخروج من هذا المأزق الصعب. وقلبت العبارات في رأسي طوال الليل اتخير تلك التي تغطي على عيبنا وتستعطف الطلاب على مخطيء أواب. ولا اذكر بالطبع تحديداً ما كتبته. ولكنه بدأ بمثل: "إنه مما نأسف له في الجبهة الديمقراطية أن تحول انسحاب الأمس إلى مظاهرة على غير ما تواثق عليه اتحاد الطلاب. وإنه لمما يؤسفنا أكثر أن يقع هذا الخرق للميثاق بواسطة أفراد منا". وشفعت هذا الإعتذار ربما بوعد للطلاب أن نقوم من جانبنا بالتحقيق مع زملائنا لمعرفة أسبابهم للخروج على قرار الاتحاد.
عملت خلال هذا التبطل المفروض مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة الجمهورية الوسطى لصاحبها الشاعر عبد الحفيظ هاشم. وكانت تقع عند مقابر حمد النيل بعد فريق الصقور بأعلى حي بانت. وكانت عيادة عابدين شرف على شارع الأربعين هي معلمي الشهير فأنزل عنده وأتجه شرقاً نحو المدرسة. وكان المرتب (30 جنيهاً) وفيه فضل إلا من تأخر صرفه. وكنا ننتظر عربة عبد الحفيظ الموسكوفتش الخضراء طوال نهاية أيام الأسبوع الأول من الشهر حتى تعود من الخرطوم. فلربما وقع على مرتباتنا أو استلفها. وكان المرتب يأتي في قسطين غالباً. وكان من طقوسي بعد صرف أولها أن أغشى مطعم كوبا كوبانا بعمارة أبو العلا الجديدة بالخرطوم. فأطلب لحماً ثريداً والذي منه. وكان يغشى المطعم والبار موظفو السفارة الأمريكية في مكانها القديم على شارع الجمهورية. ويجلسون على الكراسي التي تحف بالبار. وكنت أنظر إليهم بيض بيض كمن ينظر إلى فيلم سينمائي.
وكانت تلك الفترة التي ثوثقت معرفتي ومحبتي بصديق العمر المرحوم عبد الله محمد الحسن. وكان اشتغل مديراً لإعمال علي دنقلا (لرابطة الحصاحيصا بينهما) المكول لها بناء بعض قرى حلفا الجديدة. وكان في بحبوحة من العيش: سيارة وكله. وانعقدت بينا محبة في أستاذنا عبد الخالق والماركسية (وكتاب الثامن عشر من برومير لماركس خاصة) عاجلها موته الفاجع عام 1975.
3- أكتوبر 1964: عذاب الحريق
حضرت في سبتمبر الماضي بمدينة ماديسون فصلاً لطلاب جامعة ويسكونسون يقوم عليه الدكتور كليف تومسون ويدرس فيه ثورتنا في أكتوبر 1964. وهيي ثورة شهدها تومسون وهو محاضر بقانون جامعة الخرطوم. وكتب عنها مخطوطة هي كتاب الفصل الدراسي. ولتقديم نفسي للطلاب قلت لهم سأختار من الشوط القليل الذي قطعتموه من كتابكم مشاهداً لعبت فيها دوراً ما كطالب بالجامعة وعضو في قيادة اتحادها آنذاك.
أشرت لهم على صفحة 13. قال تومسون فيها إن الجنوبيين رحبوا بفتح حكومة عبود باب النقاش العام في 1964 حول مسألة الجنوب. وكانت تريد بذلك تغطية إخفاقات جنوبية مشهودة لها آنذاك. وقال تومسون إن طالباً بجامعة الخرطوم كتب على الصفحة الأولى من جريدة "المورننق نيوز" يحتج لرفض الشماليين آراء الجنوبيين بشبهة أنها مما علمهم المبشرون المسيحيون. وقال الطالب إن أكثر قادة التحرر الوطني في أفريقيا من خريجي مدارس التبشير ولم يفت ذلك من عضدهم الوطني. وقال إن نسبة آرائهم إلى الكنيسة لا يعدو أن يكون ضيقاً منهم ذرعاً بتلك الآراء. وزاد تومسون بأن لكلمة ذلك الطالب الجنوبي خلفيات في الجامعة. فمنذ فبراير 1963 تدابر الطلاب الجنوبيون والشماليون. فأنسحبت جبهة الأوائل المسماة "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" من الاتحاد برغم أنها لم يكن لها وجود في مجلسه أو لجنته التنفيذية.
وبعد فراغ الطلاب من قراءة النص من كتابهم قلت لهم: "أنا الذي اقف أمامكم هنا من تسبب في هذه القطيعة بصورة رئيسية". فقد كنت سكرتيراً للاتحاد في فبراير 1963. واتصلت بي قيادة جبهة الجنوبيين تحتج على لوحة بمعرض مقام بدار الاتحاد الحالية وطلبت نزعها. ووجدت في كتاب تومبسون وصفاً أفضل لما أزعج الجنوبيين من اللوحة. قال إن اللوحة "المسئية" صورت باخرة على النيل الأبيض. وفصَّلت في رسم من على الشاطيء وكان بينهم إمرأة جنوبية واضحة الحمل وعارية. وبدا كمن تلتقط طعاماً مما يلقيه نحوها ركاب الباخرة. ولما لم يقبل الطلاب الشماليون نزع اللوحة تجمع الجنوبيون ونزعوها من صالة العرض وخرجوا إلى الباحة الغربية من نادي الاتحاد وحرقوها في جمهرة كبيرة. ونسب تومسون الواقعة إلى الكبرياء الجريح لكل من الشماليين والجنوبيين. فالشماليون عدوا الحريق استفزازاًً وفوق مطلوب مثل ذلك الموقف. وكان من رأي الجنوبيين أن الشماليين، لو فكروا أصلاً في المسألة، ظنوهم احتجوا على حقيقة عرى أهلهم. ولكن ما أغضبهم حقاً ليس العري بل رسم إمرأة حامل بغير الخرقة التي عادت ما تستر بطنها. كما أنهم سقموا رسم الفنان لجنوبية تتكفف ركاب الباخرة وعدوها من الذوق الفاسد خاصة وكانت منطقة بور، التي رست عندها المركب، تعاني من مجاعة قارصة.
حقائق نزاع اللوحة حق. وتترآى لي تلك اللوحة اليوم كما رأيتها معلقة بالمعرض منذ 47 عاماً. ولا زلت أذكر بلوغي دار الاتحاد وقد بدأ تفرق الجمهرة الجنوبية وقد أنجزت حرق اللوحة بقيادة الشاب الشلكاوي الماكن أوثوان داك. وكان جاري بداخلية الدندر (أو الهند الصينية كما قال طالب زائر من ملاوي لكبرها فكثرة قاطنيها). وكانت في داك روح زعامة تسربت إليه من إرث "الرث" الذي هو في أسرتهم. وربما كان معه أمبروز بني، الذي صار استاذاً للغة الإنجليزية بجامعتي الخرطوم وجوبا، وبيتر جاتكوث الذي برز على دولة نميري وفترة التصالح مع القوميين الجنوبيين. وتوفي داك وبني اللذان امتدت صلتي بهما بعد الحريق وعرفت فيهما عزة وإنسانية مطاوعة وحباً باسلاً للسودان.
حقائق نزاع اللوحة حق. ولكن تأويلات تومسون له تحتاج إلى الاستماع إلىّ كشاهد على ما حدث.
4-ثورة أكتوبر 1964: the so-called الكانت السبب
قلت لطلاب بجامعة ونسكونسون يدرسون منهجاً عن ثورتنا في أكتوبر 1964 لدي زيارتي لهم إنني من "تسبب" في جفوة الجنوبيين للاتحاد في 1963 كما جاء في كتابهم المقرر. احتج الجنوبيون على لوحة بمعرض الاتحاد رأوا فيها تنقيصاً لهم كما ورد. ولما لم يلقوا من الاتحاد رداً شافياً نزعوا اللوحة عنوة وحرقوها. ورد كليف تومسون، كاتب المقرر ومدرسه، الواقعة إلى حساسيات شمالية جنوبية تاريخية. ولكني الذي شهدت الواقعة أعتقد أنها انطوت أيضاً على معان أخرى ليست "عربوإسلامية" بالضرورة.
تسلمت كسكرتير للاتحاد مذكرة بالإنجليزية موقعة باسم "جبهة رفاه الطلاب الجنوبيين" تحتج على وجود اللوحة في المعرض. وهذا التوقيع هو مربط الفرس كما سنرى. عرضت الأمر على لجنة الاتحاد. فأعترضت على الخطاب لأنه ليس من تقاليد الاتحاد أن تخاطبه المنظمات الطلابية "السياسية" باسمها عارياً. ولا أعرف للتقليد دلالة و لا بد أنه من أعراف التمثيل النسبي التي تطَّبع بها الاتحاد. وسيكون مثيراُ معرفة مغزى هذه السنة في أدب الخطاب في اتحادنا آنذاك.
كلفتني اللجنة بعد تداول قصير حول المذكرة بالرد على مقدميها بلفت نظرهم لسنة الحديث للاتحاد. وفعلت بقدر ما وسعتني إنجليزيتي. وأذكر أنني وصفت جبهة الجنوبيين ب"المزعومة" أو "so-called" وحسبت أنني بلغت الغاية في تبليغهم أن تنظيمهم كلاشيء في نظر الاتحاد مثله مثل أي تنظيم آخر. وأرجو ألا يتبرع أحد هنا ليرمينا ب"الاستعلاء" العروبي حيال أهل الجنوب. فقد كان من قادة الاتحاد غير عرب كثيرين. وتذكروا أن هذا الاتحاد نفسه الذي جعل قضية الجنوب قطب نشاطه حين رأى إسراف حكومة عبود في البطش بالجنوبيين. بل كان بينهم 4 من الأخوان المسلمين ما أدخروا وسعاً في حرب الديكتاتورية التي كانت تفرض التعريب والأسلمة في الجنوب في ما أتفق لي تسميته ب"البلدوية" بالنظر إلى بلدو مدير الإستوائية الذي أراد عكس همة الإنجليز فينشر العربية والإسلام حيث نشروا الإنجليزية والمسيحية. فلم "يزغلل" حتى التعريب والأسلمة البلدوية نظر الإخوان المسلمين عن النضال من أجل الديمقراطية.
مؤكد أنه كانت هناك خطط أخرى لمعالجة حكيمة للأمر. والقول بذلك تحصيل حاصل. لربما لو كانت إنجليزيتي أسلس لوقعت على عبارات ألطف. ولكني كنت من الجهة الأخرى من ضمن المطاليق، كتاب الجامعة وفنانيها، ولا استمزج أي دعوة لمصادرة أي عمل فني كان. وكنت شيوعياً طمت بطنه من أشكال التضييق السوفيتي على الكتاب والفنانين حتى صار يقعقع للاشتراكية بتلبيس جائزة نوبل على الكتاب الخوارج عليها. وكان ذلك يحزننا و"يشمت" فينا كل من هب ودب. ولا اعتقد أن زملاءنا الجنوبيين وفقوا بحرق اللوحة في طقس سياسي لافح. ومن سوغ لهم ذلك سوغ لمسلميّ بدفورد في بريطانيا حريقهم لكتاب "آيات شيطانية" لسلمان رشدي قبل أي جماعة مسلمة أخرى.
واستعدت يوم الحريق حين صرت في 1994 ضمن لجنة مكلفة بتصور محتوى أفضل لقاعة أفريقيا في معهد الأسميثونيان الفخيم بواشنطون. فقد تكاثرت شكوى الأمريكيين الأفارقة من صورة أفريقيا في تلك القاعة التي حملت وقت نشأتها في 1960 كل حزازات الغرب عن القارة. وكتبت لهم مرة عن تجربتي يوم الحريق. وقلت إنني تعلمت منها أن الفن يراوح بين قطبين: حرية تعبيره من جهة وحق الجماعات في صون هويتها. وهذا توتر معلق كالسيف فوق الفن في الغرب مع تبجحهم بأن حرية الفن هي عقيدتهم الخالصة لا تشوبها شائبة. فقال كاتب حاذق أن مسألة رشدي لم تكن عن لاهوت الإسلام بل عن ناسوته: ويعني هوية المسلمين في الغرب.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
اكتوبر 1964 : من بر الله بنا عشنا عصر عبدالمجيد إمام (29 من 30)
بقلم البروفسير كليف تومسون
استاذ القانون السابق بجامعة الخرطوم و بجامعة ويسكونسون الأمريكية حالياً.
(مقتطف من كتاب تحت النشر للبروفسير كليف تومبسون عن ثورة اكتوبر وقد عرب هذا القسم منه عبدالله علي ابراهيم)
فرغ الدكتور كليف تومبسون استاذ القانون بجامعة ويسكونسون من وضع كتاب عن ثورة اكتوبر 1964. وهي ثورة كان من شهود عيانها حين درس القانون في جامعة الخرطوم منذ 1960. واستعان في تأليفه علي مقابلات أجراها لاحقاً مع من رصد أدوارهم في الثورة. وقد الزم نفسه بكتابة قصة الثورة لم تصرفه الصوراف عنها خلال نحو ثلاثين عاماً. وقال عن الثورة انها قصة انسانية حقيقة بأن تحكي لأنها عامرة بمواقف من المفاجأة والشجاعة النادرة.
وكنت سمعت بدكتور تومبسون من زملائي طلابه بكلية القانون ,وهم المرحومين عبدالله صالح والشيخ رحمة الله. غير انني تعرفت علي علمه بقوانين السودان حين شرعت في كتابة بحثي عن تاريخ القضائية السودانية. فقد وجدت مقالتيه "فترة التكوين التأسيسية لقوانين السودان" التي نشرها بالمجلة القانونية السودانية في 1965 و"مصادر القانون في أمم افريقيا الناهضة: دراسة حالة جمهورية السودان" التي نشرها بمجلة حامعة ويسكونسون القانونية في 1966 –وجدتهما غاية في اليسر لغير المختص مثلي علاوة علي بعد نظرهما. وسعيت بعدها للتعرف عليه ووجدت أن معزته للسودان كبيرة. وعلمت منه بأمر كتابه عن ثورة اكتوبر فالتمست منه أن يشرفني بتقديم الكتاب للقاريء السوداني. وقد استصفيت ان اترجم ما كتبه كليف عن المرحوم عبدالمجيد امام. وكليف مسحور باستقامة وشجاعة ومثالية عبدالمجيد امام. وقد صفه قائلاً:
لعبد المجيد امام قامة طبيعية تجعل من رآه مرة لا ينساه أبداً. فهو يبلغ أكثر من ست أقدام طولاً ونحيل وممشوق وقوامه سائغ. ويغلف جلده الأسود الناعم عظام خده بصورة وثقى. وله مع ذلك وجه منبسط يشع بالمودة. وهو خفيض الصوت إذا تحدث، وله أفانين مرح في القول، وإذا طلبت النصح أبداه لك بأريحية ودون ذلك تجده يصمت ولا ينم عن بنت شفة. بياض عيونه كالعاج فاقع، لا يشوبه لون آخر، ولا حتى ذلك اللون البنفسجي الباهت الذي تجده في ركن عيون الناس. إذا نظر نظر إليك عديلاً. ولا ينوي بذلك تحدياً بل من فرط عذوبته وقبوله لك وكأنه يتعاطف مسبقاً مع ما لم تصرح به من قلق وشكوك.
وفصل عبدالمجيد يبدأ بصورة قلمية غاية في الانسانية عن الرجل، مشروع زواجه، حديقته، ورفقته العاشقة للكتب. ثم ندلف الي دوره في الثورة بزيارة السيد بابكر عوض الله، قاضي المحكمة العليا، له، بمنزله الحكومي بصحبة السيد شوقي ملاسي في مساء 22 اكتوبر1964. وكان المرحوم، قاض المحكمة العليا ومسوؤل الجهاز القضائي في الخرطوم، في إجازة من العمل وقد خلد الي منزله منقطعاً عن مجريات السياسة. وكان بابكر يريد منه توقيع مذكرة القضاة التي تحتج علي تجاوز الحكومة للقانون بمداهمة الجامعة وقتل الطلاب. ووقع عبدالمجيد كقانوني لا سياسي على المذكرة وطلب من بابكر أن يواليه بالمستجدات.
وننتقل الي يوم السبت 24 اكتوبر. وكان المهنيون قاطبة وجمهرة من الشعب قد تجمعت داخل وحول القضائية تنتظر ساعة تحرك موكب يحتج على تجاوزات الحكومة وقتل الطلاب. وكان الأمر كله فطيراً بعد غير أن المعلوم أن ممثلي المهنيين كانوا بقاعة المحكمة العليا يلقون بخطبهم وعرائضهم علي الاسماع وكان عبدالمجيد إمام بينهم. ولم تعجبه اللهجة الساسية في الخطب وقال لهم لكم ماشئتم غير أننا ملزمون بعريضة القضاة التي اتجهت إلى طلب التحقيق في تجاوز الحكومة ومعاقبة المتسببين فيه. من الجهة الأخري كان بابكر عوض الله والمرحوم عابدين اسماعيل، نقيب المحامين، مع المرحوم أبو رنات، رئيس القضاة، ليحصلا علي تصديق بالموكب. وكان أبورنات علي صلة بالقيادة السياسية يريد أن يستخلص التصريح. كانت الحكومة تريد أن يقتصر الموكب على جماعة قليلة العدد تسلم المذكرة وتمضي الي حال سبيلها. ولكنها من جهة اخري تحوطت للأمر وبعثت المرحوم قرشي فارس، ضابط البوليس، علي رأس قوة لفض الجمهرة التي طوقت القضائية تهتف بسقوط النظام ولم يأزف الموكب بعد. وساء ذلك عبدالمجيد الذي أراد محاكمة الحكومة علي فعلها لا الهتاف ضدها والاساءة لها. ونبه المحامين الي بؤس فكرة التظاهرة. وخشي المحامون أن ينسحب عبدالمجيد من فرط ضيقه بالهتافات. واعتذروا له أن الهتاف لم يصدر من حملة العريضة بل من العامة. وكان عبدالمجيد يريد لأبي رنات أن يعلم أن المهنيين لا دخل لهم بالتظاهرة لكي لا يختلط عليه ويتوقف عن مسعى طلب الإذن بالموكب. ومضى عبدالمجيد ليلحق بمن كانوا مع أبي رنات. وكانت المشاورات جارية بالتلفون مع المرحوم اللواء حسن بشير في طرف الحكومة التي تريد تضييق الموكب بالإذن لمندوب فقط كل هيئة مهنية وطرف المهنيين الذين يريدونه موكباً لكل المهنيين.
وبينما كان أمر الموكب بين شد المهنيين وجذب الحكومة بدا البوليس في تفريق الحشود. وأجلا البوليس قسماً من الحشد من أمام القضائية وبرز قرشي فارس بلبس خمسة يطلب من الناس ان يتفرقوا بالحسني. وساد اضطراب. ومضي اليه السيد احمد عبدالحليم، سفيرنا الحالي بالقاهرة، يستوضحه الأمر فنهره قرشي قائلاً له "أبعد، يالزول أبو فرجية إنته". وكان أحمد يرتدي روباً جامعياً. وحين رأي قرشي وجه أحمد عرف أنه ابن دفعة من حنتوب. فطلب من أحمد بحق الزمالة أن لا يضعه في حرج مع رؤوسائه. وانتهي البوليس إلى وضع قيام راقداً وبنادقهم مصوبة تجاه الحشد أمام القضائية. وأطلقوا رصاصات إلى أعلى للتحذير. وأحدث ذلك اضطراباً وتراجع الحشد بغير انتظام إلى داخل القضائية. ثم أطلق البوليس أعيرة تحذير للمرة الثانية. وأبدأ من هنا ترجمة ما جاء في كتاب تومسون:
"سمع عبدالمجيد إمام بطلقات الإنذار الأولى وهو في مكتب رئيس القضاة حيث مكث لمدة نصف ساعة. وهلع الحضور لسماعهم صوت الرصاص. وكانت أصوات بوق البوليس للناس بالتفرق تصل إلى من بالمكتب أيضاً. وبدا المشهد غير معقول لعبد المجيد. فقد كان ومن معه يتفاوضون مع اللواء عروة، وزير الداخلية، حول الموكب بينما بعث اللواء نفسه بالشرطة لفض الموكب بالفعل. وفكر في عاقبة الموقف من جراء تطفل البوليس علي مشهد لا يزال تحت التفاوض. فلم يكن أمام الحضور إلا خيارين: إما تفرقوا وفسدت فكرة الموكب والعريضة أو تمترسوا وترتب على ذلك نقص في الأنفس والأرواح. وانقبض عبدالمجيد للخيارين كليهما.
سارع عبدالمجيد تاركاً المكتب من غير أن ينبس ببنت شفة. وهبط السلم مسرعاً حين كانت تنطلق رصاصات التحذير للمرة الثانية. وكان الناس على أدراج القضائية قد تراجعوا مذعورين أيضاً من هذا التحذير المجدد والبنادق مصوبة إلى صدورهم. واستخلص عبدالمجيد بصعوبة طريقة له بين الناس المتعاصرة الذين كانوا قد ارتدوا يلوذون بصالة القضائية. وانضغط بينهم حتي تخارج إلى عتبات القضائية الخارجية وشق طريقه كالسهم بين وفود المهنيين.
وصاح قرشي في عبدالمجيد إمام :"توقف وإلا اطلقت عليك النار" . ولم يتوقف عبدالمجيد. ولم يبق الا هو وفارس على الشارع. وتجمد المشهد كله وخمدت كل حركة سواء ما صدر من عبدالمجيد. وخطا نحو فارس الذي وقف معتدلاً بمسدسه وقد أخرجه من كنانته. وضاقت المسافة بينهما فيما بدا كلحظة للبعض وكدهر لآخرين. كان الهدوء قد أرخي سدوله حتي أن المرء ليصدق أنه لو اخذ نفساً عميقاً لتسبب في إطلاق النار. قال بعض الشهود إنهم رأوا بلا شك فارس يشهر مسدسه في وجه عبدالمجيد. وبات واضحاً للجميع أنه لم يعد ثمة مسافة بين القاضي والضابط وقد تشاهق القاضي الطويل عليه ونظر له في وجهه.
قال عبدالمجيد: "أنا قاض". كانت لهجته مدروسة وعاقلة. "وتابع :إنني أمرك وقوة الشرطة التي معك لتنصرفوا. إنني ساتحمل كل مسؤولية الموقف ". وصاح فارس بشيء ما. وصوب عبدالمجيد سبابته إلى وجه فارس محذراً: "كرامة! خلي عندك كرامة". ورد فارس أن الشرطة تلقت أوامرها من وزارة الداخلية وأنهم مأمورون بتفريق الحشد.
قال عبدالمجيد: "ليس هذا ما يعنيني. أنت الذي تعنيني. أنا رئيس الجهاز القضائي لمديرية الخرطوم وتنتهي المسئولية عنك وعن القوة التي معك عند بابي. إذهب في امان الله".
وأعتدل فارس وحيا عبدالمجيد عسكرياً برشاقة واستدار الي الخلف دور ومضي بعيداً وأمر القوة أن تتبعه. وتباطأ الجمهور في استيعاب ما جرى أمام ناظريه. ولم يفق لدلالة المشهد إلا بعد عودة القاضي إلى المبني ودخوله فيه وانصراف البوليس. وبدا التصفيق ثم دوي ثم دوي. وتقاطرت الهتافات : " عاش عبدالمجيد إمام، عاش عبدالمجيد إمام". وسارع الي كورس الهاتفين من كانوا علي نوافذ القضائية ثم اتبعهم من كانوا في حديقتها. وكأن الهتاف موجات تتراكض من جماعة الي أخري: "عاش عبدالمجيد إمام، عاش عبدالمجيد إمام". وكأني بالناس قد شهدوا كرامة ما فأخذ واحدهم ينقل إلى الآخر كلمات عبدالمجيد إمام وتقاسموها مع جيرانهم ثم حلقت في الآفاق.
وأعدي الجمهور بحماسته من كانوا بمكتب رئيس القضاة. فقد علموا أن المجلس الأعلى الحاكم قد علم بانسحاب الشرطة وغضبوا جداً. ولم يسرع انسحاب الشرطة بالتصديق بالموكب. وكان كل من المرحوم حسن بشير وعروة علي اتصال بالمرحوم أبو رنات الذي واصل تطمئنهم ومحو غضبهم. وأخبرهم أنهم لم يقدروا الأمر تقديراً حسنأ كما فعل هو ومايزال. ونصحهم بالإذن للموكب ان يسير وأنه قد تلقي تأكيدات أن الموكب سيخلو من الرجرجة. وقال: " ان الرجرجة لن تكون في الموكب".
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أها قولوا (د. عبدالله علي إبراهيم) كضاب برضو ! (Re: عاطف مكاوى)
|
إنني لأنتهز اكتمال حلقات كتابي عن ثورة أكتوبر أو شبهات حول تلك الثورة لأشكر المهندس بكري أبوبكر لعنايته بنشرها على منبر سودانيزأونلاين بما الثورة أهل له. فوضعهافي مقدمة المنبر ووالى النشر وزينها أيما زينة. كما أود أن اشكر الأستاذ عاطف مكاوي لحرصه على نشر المقالات في بوست افترعه ووالاه يرفعه حين يغطس. وقد أتاح ذلك لعدد كبير منك قراءة الكتاب كله أو أنقص منه قليلاً. وآمل أن يتقوى الوعي بأكتوبر ويطرد. عبد الله
ثورة أكتوبر 1964 السودانية: لما يَطِل في فجرنا ظالم عبد الله علي إبراهيم (30 من 30) من الجزيرة نت إذا كنت في أي حفل لسودانيين ، أي حفل، وكان مغنيه الأستاذ محمد وردي، لأنتهى ب "أصبح الصبح": أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق وإذا الفجر جناحان يرفان عليك وإذا الحزن الذي كحَّل هاتيك المآقي والذي شد وثاقا لوثاق والذي بعثرنا في كل واد فرحة نابعة من كل قلب يابلادي . فالجمهور كما الفنان يعرفان أن الأغنية الوطنية، أصبح الصبح، التي صارت فينا نشيداً وطنياً غير معلن، ستكون أغنية الختام كما ينبغي لأي نشيد وطني. وكان ميلاد الأغنية بعد نجاح ثورة أكتوبر 1964 التي انهت الديكتاتوية العسكرية الأولى التي أزاحت قيادة الجيش بها النظام الديمقراطي بعد عامين من قيامه بعد استقلال السودان في 1956. وكتب نص الأغنية الوطنية الشاعر محمد مفتاح الفيتوري. لا أعرف ثورة اكتنفها الشعر وأرخص بها النثر مثل ثورة أكتوبر. وبلغ من احتفاء الشعر- الغناء بها أن أجاب طالب على سؤال صحيفة في ذكرى الثورة قبل عامين أو ثلاثة عن مدى معرفته بها فقال إنه لم يسمع بها إلا في الأغاني الوطنية. وماسمعه منها شديد الدلالة على أنها كانت ثورة قيمة. وحدا استسخاف النثر بالثورة الأستاذ أحمد محمد شاموق، مؤلف كتاب "ثورة أكتوبر"، للقول بإنه لم يبق منها سوى أشباح أسئلة وتخرصات. فهي في نظر صفوات مختلفة ثورة شيوعية مرزولة أو مما أدعاه الشيوعيون، وأنها أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير، وزعزعت الإدارة الأهلية (دويلات زعماء العشائر) بالحل فأنفرط النسيج الاجتماعي الذي حفظه أعيان القبائل. ناهيك عن قولهم أن أحمد القرشي، الطالب القتيل في ندوة معارضة بحرم جامعة الخرطوم والذي كان موكب تشييعه صباح الخميس 22 أكتوبر بدء شرارة الثورة، شهيد صدفة لأن الرصاصة أصابته وهو في طريقه إلى حمام داخليته بمجمع "البركس" الشرقي بجامعة الخرطوم.
أطلت ثورة أكتوبر برأسها بحياء خلال الربيع العربي. وأكثره من باب الاحتجاج أو الاستلهام أو النصح. فتجد احتجاج السودانيين على كٌتَّاب عرب قالوا عن ثورة تونس أو مصر إنها الثورة العربية المعاصرة الأولى. وليس بين هؤلاء الأستاذ فهمي هويدي الذي شهد باكراً بأن ثورة أكتوبر 1964 هي الحالة الأولى التي أزاح فيها شعب عربي أعزل ديكتاتورية متمكنة وفرض على القوات المسلحة أن تقف إلى جانبه. وقد جرب الأستاذ عبد الرحمن الراشد مراراً احتجاج السودانيين من جهة الحكومة على خاطراته عن دولة الإنقاذ والبشير. ولكنه جرب من قريب احتجاجاً سودانيّاً من المعارضة أيضاً حين قال إن ثورة تونس هي الأولى عربياً. فمن بين 28 معلقاً على عبارته كان بينهم عشرة سودانيين لم يٌذَكِروه بسبق ثورة اكتوبر لثورة تونس فحسب بل بثورة 1985 التي أعادوا فيها المأثرة وأزحوا الرئيس نميري بعد 17 عاماً من حكم الفرد والطغيان. وتدارك الجيش الموقف فتولى الحكم شريكاً للمدنيين في حالة قريبة من وضع مصر الحالي, ومن بين مشروعية ثورة 1985، المعروفة ب"انتفاضة 1985" أنها قامت لتستعيد ثورة اكتوبر وتنفض عنها غبار السنين والظلم. وجدد المعلقون في ردهم على الراشد اصطراع الهوية السودانية بين العروبة والأفارقة. فقيل له إن قلت إن تونس هي ثورة العرب الأولى فلا تثريب ما دمت أخرجت السودانيين من حظيرة العروبة.
الشبهات حول ثورة أكتوبر كثيرة ولن يصمد أي منها للحقائق. فقيل إنها ثورة شيوعية في حين تنصل الشيوعيون عن دورهم المزعوم في قيادتها منذ مؤتمرهم الرابع في 1967. وقالوا إن الثورة تمت تحت قيادة البرجوازية الصغيرة. ومعروف أنه لا يأتي ذكر هذه الطبقة على لسان الشيوعيين إلا مقروناً بالثورية قصيرة النفس. ورصد التقرير أنواع الضعف التي حالت دون الحزب وتسنم قيادة الثورة. وملأت الفراغ الحادث جبهة الهيئات (نقابات واتحادات الأطباء والقضاة والمحامين والطلبة إلخ)، التي أدارت العملية الثورية. وقال التقرير إن قيامها يعبر عن تطلع الأقسام التي تقدمت الإضراب (مثقفو البرجوازية الصغيرة) لإيجاد قيادة تعبر عن مطامحهم. ولا يعني هذا بحال أن الشيوعيين لا يثمنون تضحياتهم الغراء الكبيرة بما لا يقارن مع أحد خلال ست سنوات عجفاء للإطاحة بنظام عبود.
سنتوقف نوعاً ما عند شبهة أنها افسدت الخدمة المدنية بإجراءتها الفالتة في تطهير كادراتها. وقرأت للاستاذ عبد العزيز البطل يحذر ثوار مصر من "ارتكاب" تطهير الخدمة المدنية حتى لا يلدغوا كما لدغتنا تلك الدعوة في ثورة أكتوبر. وزاد بأنه سارت في هذا الطريق المؤذي للخدمة العامة كل من "ثورة" مايو 1969 بقيادة النميري و"ثورة" الأنقاذ في 1989 التي ما تزال تحكم السودان. فكلاهما فرّط في حيدة تلك الخدمة بإحالة رجالها ونسائها للمعاش بزعم "الصالح العام". ووجدت البطل لا يفرق بين الثورة والانقلاب. فوراء انقلاب النميري والبشير إرادات سياسية حزبية (أو ثأرات) معلومة يسارية أو إسلامية. وجاء التطهير في الحالتين لا للخدمة المدنية بل للخصوم في تلك الخدمة. وشتان. ولعل العلامة الفارقة بين تطهير الانقلاب والثورة أن الأخيرة، بحسها بالعدل الذي خرجت تطلبه وبالحق الذي أوجدها في المقام الأول، تتبع في التطهير البينة على من إدعى.
وخلافاً لما دأبت على ترديده بعض صفوتنا من أن الثورة أفسدت الخدمة المدنية سنرى أنها هي التي استنقذت تلك الخدمة من الضياع. فقد حمل ميثاق الثورة فقرتين صريحيتن عن التزام الثوار باستقلال القضاء والجامعة-جامعة الخرطوم. وكان القضاة واساتذة الجامعة طليعة للثورة وقد عَرِفوا عن كثب تخريب النظام لمؤسساتهم. فمن بين أوضح من طهرتهم السيد ابورنات رئيس القضاء. والحق أنه لم ينتظر حتى بدء إجراءات التطهير فسقط مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. فقد كان عضواً فيه من وراء ستار. بل ربما كان عضواً مؤسساً خرق الدستور مع سائر أعضاء ذلك المجلس. فقد جاء في التحقيق في ملابسات انقلاب 1958 أن رئيس القضاء هو الذي جاء بالرجل الثاني في الانقلاب، اللواء حسن بشير، صباح الانقلاب إلى دار السيد أحمد خير المحامي، وزير الخارجية لاحقاً، ليعينه في الصياغات القانونية لأوامر الإنقلابيين "الدستورية" التي توالت في يوم انقلابهم.
لم يكن رئيس القضاء في نظر الثائرين سوى مفردة سلطوية. فقد روع السياسة بقانون دفاع السودان (1958) الذي استنسخته النظم الديكاتورية اللاحقة: قانون أمن الدولة (1973) في دولة النميري وقانون لأمن الوطني (1991) الحالي. فأبطل قانون دفاع السودان الحقوق المدنية والدستورية للمواطنين بالجملة: عطل حرية التعبير والتنظيم وحرية الانتقال. وأرسى ممارسات مجافية للعدالة ما تزال معنا. فقد اقحم المحاكم العسكرية في التقاضي فنظرت في قضايا تطالها قوانين السودان السارية ومحاكمه العادية. كما أنه قَنَّن الاعتقال التحفظي. واعتدى على الديمقراطية من جهة أخرى بقيادته للجنة وضعت تشريع المجلس المركزي البرلماني الذي دمج دمجاً عقيماً بين مجالس الحكم المحلي والبرلمان وزخر بالتعيينات ناهيك عن قيام انتخاباته في ظل قانون دفاع السودان. أما في الجامعة فقد عطل النظام قانون الجامعة لسنة 1956 الذي أراد أن ينتقل بها من شبه مصلحة حكومية في ظل الإنجليز إلى جامعة وطنية مستقلة في رحاب الاستقلال. ولسنا نفصل في ذلك. فيكفي أن النظام عدّل قانونها في 1960 ليجعل تعيين مديرها من سلطات راعيها، وهو الفريق عبود رئيس الدولة، في حين عقد قانون 56 هذه المسؤولية على عاتق مجلس الجامعة ديمقراطي التكوين. وقس على ذلك في بقية القانون ولواحقه.
وخلافاً لنظاميّ الرئيسن نميري والبشير، حيث كان التطهير على شبهة السياسة الحزبية، كان التطهير في أكتوبر على بؤس الأداء الوطني والطاعة الخاسرة للمستبدين. فقد وقف من طٌعن في أدائه خلال فترة الديكتاتورية أمام لجان تطهير في مناخ ديمقراطي طليق. وذكر الأستاذ شوقي ملاسي المحامي الناشط في حركة البعث أنه كان في لجنة حققت في كسب حرام لصحفي معروف سلقها بألسنة حداد في صحيفته. وطفحت الصحف بأخبار انعقاد هذه اللجان وعرض نتائج تحرياتها على مجلس الوزراء وما اتفق للمجلس حيالها. فجاء في الصفحة الأولى من جريدة "الأيام" خبر إحالة وكيل الري السابق إلى المعاش وأنه ينتظر أن يجري معه تحقيق جنائي حول تهم تتعلق بمخالفات مالية (الأيام 17 فبراير 1965). وجاء في الصحف أن مجلس الوزراء نظر في تقارير لجان التطهير في عطبرة، مصنع سكر الجنيد، أراضي الحلفاية، مصلحة المخازن والمهمات، النقل الميكانيكي، سينما النيلين، ممتلكات أعضاء المجلس الأعلى المنحل، وموضوع الزراعة الآلية في القضارف. وأن المجلس سيصدر قرارات نهائية بشأن هذه التقارير في اليوم التالي لنظره في التقارير. كما أنهت لجان التحقيق في الشكاوي الموجهة ضد بعض موظفيّ وزارة الصحة من أعمالها. وأجتمع الوزير باللجان اليوم لبحث تقاريرها (الأيام 16-12-1965). ونكتفي بهذا القدر لانه كثير وكان الديدن. وشتان بين هذا وبين البؤر الغامضة البغيضة التي تكتب قرارت الأحالة للصالح العام الكاذبة نيابة عن نظم الإنقلابيين. ولك أن تقارن ذلك بالتطهير بليل لأساتذة جامعة الخرطوم "اليمينيين" على يد انقلاب النميري وتطهير اساتذة آخرين "يساريين" على يد انقلاب البشير الحالي في 1992. ففي الحالين لم يٌكفَل لأي من هؤلاء الأساتذة أن يعرف حتى قضاته.
ظلت ثورة اكتوبر فحولة سياسية ما في قرارة وجدان السودانيين برغم قيل نثرها وقاله. تركت فينا عقيدة غامضة ملحة (ربما قاربت الخرافة) من أن للظلم آخر ولكل داء انقلابي استبدادي دواء أكتوبري كاف شاف. وفخخنا هذه الأغاني لتنفجر في وجه الطاغية قبل أن ينزاح عنا ونرتاح. ومن تلك الأغاني المفخخة نشيد "الملحمة" وهي ملحمة أكتوبر من وضع الشاعر والمسرحي هاشم صديق وتلحين غناء الأستاذ محمد الأمين. ففي مقطع منها تقول: ولسة بنقسم يا أكتوبر لما يطل فى فجرنا ظالم نحمى شعار الثورة نقاوم والعبارة المفخخة هنا هي "لما يطل في فجرنا ظالم". ولما كنا عشنا أغلب سنوات استقلالنا في ظل ديكتاتوريات تطاولت إدخر الجمهور تلك العبارة للظلمة المتعاقبين. ويظل المغني يراوح عندها ويتفنن فيها صعوداً وهبوطاً. و ينتشي لها الجمهور حقاً متى انشدها الفنان في حضرة الظالم نفسه. و استمع لها مؤخراً الرئيس البشير شخصياً في خيمة الصحفيين الرمضانية لهذا العام. واعتقد أنه شقي لابد بزخرفها وتفخيفها. وعرف أنه قد وقع في الفخ.
| |
|
|
|
|
|
|
|