ما لم تقله الموجة - قصة قصيرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-26-2024, 12:06 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-30-2012, 12:25 PM

Yahia Elhassan
<aYahia Elhassan
تاريخ التسجيل: 06-13-2011
مجموع المشاركات: 57

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ما لم تقله الموجة - قصة قصيرة

    ليس الآن أرجوك...فأنا متعبة بعض الشيء..هكذا ابتدرت الموجة حديثها للنورس الذي كان يحاول –في تصميم تعرفه كل النوارس – إقناعها بأن تتدافع عاليا وتهبط كي تسمح له باللعب، ولأن هذا ما يجيده الموج ..من ناحية أخرى ، أليس هو ابن السحاب؟ إلا يحن إلى الفرار من مستقره الأرضي إلى هناك ، حيث طفولته غماما يحلق في أجواز الفضاء ؟ مزدهيا بنقائه الشفاف، وهاهو الآن متدثرا بالطين، ومليئا بكل ما يلقي في جوفه من قمامة وأوساخ، جثث وطحالب، تاريخ من شهية افتراس كائنات تسكن جوفه السحيق.. كأحزان اليتامى في ليلة شتوية تزمجر فيها الريح مرددة صدى فحيح أمعائهم الخاوية . ... حاول النورس أن يثير أشجان الموجة إلى مواطنها البعيدة، ويذكرها بما هي فيه من بؤس راهن لا يسمي الأعالي موطنا...
    لا..قالها الكاتب: هذه ليست بداية جيدة للقصة، فلأكتب حول القمر، وهذا الحزن الذي يلفه كل مساء وهو يطالع من صحرائه البعيدة، صبية القرية وهم يتقافزون بمرح، وتكركر فقاقيع ضحكاتهم البهيجة عاليا.. حتى تلامس أخاديده العميقة ، التي حفرتها أزاميل أحزانه الطويلة ،كانوا يضحكون بكل سعادة بينما تنهشه قوارض عزلته القاسية ، ويتذكر طفولته ، وكم كان شقيا حينها ... كان يطارد الخراف التي يشكلها السحاب ، وهي ترعى في أعشاب السماء ، تتقافز بمرح سعيد ، وهي تطالع الفتيات اللاتي تشكلهن مجموعة أخرى من السحب ، وكان هو جزلا بكل تلك الحفاوة ، الآن لا يرى سوى الريح تركض في سهوبه الفسيحة ، وهؤلاء الصغار الذين يتقافزون ، وهذا الكاتب الذي يطارد بهوس محموم ما يتجول في مخيلته من أطياف متسللة عبر شقوق ذاكرته المجهدة ..
    لا ...لا تبدو هذه أيضا، الافتتاحية التي أحب ، أشعل لفافة من التبغ، وراح يذرع الغرفة جيئة وذهابا عل هذه الحالة التي قرأ إنها كثيرا ما تتلبس الكتاب العظام ، تكون شفيعا له في أن يستنسل من مخياله المكدود، استهلالا رائعا يلف فسيفساء الصور المتلاحقة لشخوص قصته ، في نسيج منتظم ، يعطي لقصته ( عنها-بالطبع- عن فتاته السمراءـ.. تلك التي تتمشى على مرمر نعاسه كل ليلة حافية الروح إلا من النشوة... ) حيويتها كقصة ، ولكن ماذا يفعل بكل هذا الضجيج الذي يصدره الصبية ، وهدير الموج وصياح النسور ، وبخاصة صياح النسور الذي يذكره أشجانا قديمة ، يحاول دوما إبعادها عن ذاكرته فتمعن في إلحاحها كهذا الطارق اللعين على باب غرفته.
    حسنا-همهم في ارتياح كبير- على الأقل أدرك الآن: إن هنالك موجة ..ونورس..وقمر ...وبعض الصبية ، ثم هنالك هي-أعني –حبيبتي السمراء ..سمع طرقا صاخبا على باب الغرفة ..
    تفضل –قالها بصوت عال كي يغطي بحدته، ما يدور في داخله من فوضى الأصوات الصاخبة..قبل أن أفتح الباب أرجو أن أذكركم جميعا -يا من ستقرؤون هذه القصة فيما بعد – قال وهو يحدق في أفق لامنظور في جمع من القراء ، تذكروا جيدا ما كنا بصدده: هذه القصة تدور عن حبيبتي- كما قلت لكم ، وهنالك قمر وصبية ونورس يجادل في موج البحر .. هل اتفقنا؟ لا تنسوا ذلك ..حسنا دعونا إذن نرى من الطارق...وسنعود لنرى كيف نشرع في هذه القصة..اختفى الطرق الآن ..هل مل الطارق، هل استغرقت كثيرا من الوقت لأستجيب..أخبروني أنتم ، فأنا كنت منشغلا كما تعلمون في تتبع كل هذا الضجيج ، ولكن ..لا بأس ..سيعود الطارق حتما ..حسنا ما رأيكم في هذه الافتتاحية لقصتنا:
    كان يجلس بجوارها ..وكانت الشمس في أصيل ذلك اليوم ، تشعر ببعض اللهيب في داخلها وترنو إلى البحر ، وهي تتمنى أن تذوب في جوفه علها تلطف أحشائها بمياهه الباردة ، كانت فتاته ترنو إليه وهي متعجبة من صمته البليغ، الذي بقدر ما يمتد، بقدر ما تحس بشغف وفضول أكثر ، قال وهو يشير إلى الموج:
    أنظري حبيبتي..أنظري للماء،
    فجأة سمع طرقا مرة أخرى على باب الغرفة ، ذهب سريعا في هذه المرة كي لا يدع للطارق فرصة للغياب تعثر في طريقه إلى الباب ، بأثاث الغرفة ، التي كانت –كما هي دوما – مليئة بفوضى عارمة: هنالك أوراق تتبعثر في كل أرجائها ، بعض أجهزة كومبيوتر قديمة تناثرت أشلائها في كل مكان ، أطباق طعام بها بعض البقايا، أكواب القهوة والشاي ، وبعض من فتافيت أحزان وحدته العريقة .. على الطاولة الوحيدة بالغرفة ، يتطاير غبارها الكثيف في كل أرجاء المكان .. فكر: ينبغي أن أجد وقتا لإعادة تنظيم كل شيء هنا أو لم لا أشرع في ذلك الآن؟...أين قرأت هذه الجملة: الأنثى روح المكان ؟.. نسى إن هنالك طارقا بالباب وطفق يلملم الإطباق..يرفع الوسائد الملقاة على أرضية الغرفة، يزيح بعضا من غبار أشجان وحدته العالقة بقماشها القديم.. ثم فجأة تذكر: هنالك شيئا ما دفعني إلى مغادرة طاولة الكتابة..ماهو ..آه ..كم أنا غريب..كنت أنتوي إعداد كوب من الشاي ..ولكن ..يا للتعاسة ..لقد نفد كل ما لدي قمر..لا بل أقصد شاي ..لا أدري ماذا أصابني الليلة ..وحدها صورة أمه المعلقة على جدار الغرفة وهي تبتسم برضا صوفي ساحر لم ير مثله إلا في وجهها كانت تشع روحا من الدفء في الغرفة ، وقد كتب تحتها بخطه الطفولي –حين كان ما يزال تلميذا يتعثر بين أسنان السين وحواف الحاء ، نقاط الشين ، وذلك التجويف المهيب للعين ، كتب ما أملته عليه ذات مساء غائم:
    كن كالنخيل مرتفعا ...بالطوب يلقى فيرمي أطيب الثمر..
    نظرت فتاته إلى الماء وهمست:
    ماذا ..لا أرى شيئا ...أليست مجرد ماء؟
    لا ..أنظري جيدا ..ليست فقط ماء..أنظري..
    صاح أحد الصبية في رفاقه:
    ألا ترون كيف يبكي القمر..
    يبكي القمر؟ هل أنت مجنون ؟
    صاح به النورس الذي غفل قليلا عن محادثة الموجة ، اضطربت الأشياء جميعا في رأسي ..ماذا أفعل ..الكل يصيح في ذات الوقت ، والغرفة تمور في فوضى عظيمة ، ولم أجد بعد شايا ..فليكن ..لنعد أيها الرفاق إلى حيث كنا..
    لا أرى شيئا غريبا..
    همست فتاته وهي تمني النفس بأن يدع جانبا كل هذه التهويمات التي أعتادها كلما اختليا..ويفعل شيئا طالما سمعت من صويحباتها إن الفتيان عادة ما ...
    اقترب النورس منهما وصار يحدق بغرابة واضحة فيهما..كانت أشعة القمر المنسكبة على سطح الماء تديح دوائرا متراقصة تتراكض مد البصر .. تذكر شاعرا ألمانيا مهووسا بالقمر: ألقى بنفسه في ماء البحيرة كي يعب من هذا البهاء السماوي: أشعة القمر المتراقصة على ماء البحيرة، هل كان يشعر بالغيرة في أن يتناثر معشوقه السماوي خلايا من الضوء الفاتن تترقرق على جسد الماء في نشوة جنسية بديعة ؟ لا يهم .. حسنا ..لا ترين شيئا غريبا أليس كذلك...أنصتي إذن..ودعك من هذا النورس ..أليس مدهشا أن الماء يطل على حواف الوجود جميعها..فهو ..كما ترينه الآن سائلا..وقبلها كان مجرد غاز يسبح في السموات البعيدة ، ويكون صلبا كما تعلمين ..ولكن ..أنظري إليه، كيف تتحد ذرا ريه : هيدروجين وأوكسجين كما يقولون ..ماذا لو انفصلت ذراري الماء ..مرة واحدة والى الأبد؟
    شعرت الفتاة بخوف يتسلل ببطء إلى كل خلايا جسدها بخلس ثعباني من هذه الخاطرة ، فجأة وبنصف انتباهة تحاكي من يسير أثناء نومه ...وجدت نفسها تلتصق به قليلا قليلا..وتغمض عيناها في سكون ناسك يرتل تسابيحه .. مباخرا خفية كانت تنشر عبق صندلها ..وتلك الروائح التي تزفها النار –معشوقة الريح قربانا لانصهار الأرواح الملتاعة .. رأته ..في تلك الأمسية ..كانت تتجول مع صديقتها على رمال ذات الشاطئ الذي تجالسه فيها الآن ..وكان هو يجلس وحيدا ..اقتربتا منه ..وحين التقت عيناهما شعرت بهذه القشعريرة الغريبة تتمشى في كل أنحاء جسدها...تتسرب سابحة في الأثير ..وتحاول هي لملمتها حتى لا يفتضح أمرها ...كانت صديقتها تحكي بشغف وحماس حكاية طويلة لم تسمع منها شيئا ...فقد كان وجيب قلبها الخفاق كطبول الدراويش بقريتها البعيدة وهم يرتلون أناشيد محبتهم الوالهة يغطي على كل شيء..
    لا أريد أي أحد ..قالها بجرأة وحدة للطارق الذي صار أكثر إلحاحا ..ولا أريد هذا الشاي اللعين ..وأنتم..أيها الصبية ..أذهبوا ولتلعبوا بعيدا..
    أيقظها صوته الحاد وهو ينتهر الصبية من أحلام يقظتها...رآها تجفل فزعة..تتقافز بين سطور الكتابة.. تصعد عاليا في قمة حرف( الألف) تتلوى ثعبانا مقدسا حول( الحاء) ثم تستدير لالتقاط أنفاسها المذهولة في المهد الدفيء( للباء) ثم تتخفى في قبو( الكاف) المتعرجة لتدفن حياءا تتمشى رعشاته حول جسدها الرقيق.. حين تكتشف إنها ترسم بحركاتها الرشيقة على بياض الورقة ما يردده فتاها دوما في أذنيها ..كانت يطاردها الأطفال والموج ...ما رأيكم ..يبدو إن قصتنا تتقدم أخيرا..رأت نفسها مرة أخري تسير بجانب رفيقتها ..هاهو يقترب منهما ..ماذا يريد..شعرت بقلبها يتقافز حتى خشيت أن يقع بين قدميها...انه ينظر إليها هي بالذات ..يا للهول ..هل أحس بهذه القشعريرة في بدني ؟ اقترب أكثر ...أمسك بيديها ..مغمضا عينيه....وقال:
    أنا أيضا أحسست بذلك ...نعم ...ذات الرعشة التي تشعرين...ذات التوق ..سمعته الآن ..وهما يسيران على رمال الشاطئ يقول بصوت دافئ عميق وكأنه صادر من ينبوع باطني:
    ماذا ...أين ذهبت ؟ كنت أحادثك ...لم تجيبي على أسئلتي المتلاحقة ...وضع القلم على الطاولة ، ذهب لكي يشرب ماءا..وحين عاد ، رأى الصبية يتسللون من خلل شقوق نوافذ الغرفة كأطياف بلورية ، تواصل الطرق على الباب ، نظر إلى أحد الصبية بإيماءة ، أن يرى من الطارق ، ولكن الطفل الشقي لم يغادر مكانه المعلق في فراغ الغرفة ، كان القمر حينها يطل بكامل فتنته السماوية من خلل النافذة ، الموج يهدر بالخارج ، بينما الورقة التي يكتب عليها قصته كانت ما تزال بيضاء تماما.اقترب منها ...تشممها ..كانت معبقة بالعديد من الروائح ، استطاع أن يميز بينها، رائحة فتاته بكل أنوثتها الساحرة ممتزجة بتلك الرائحة الغريبة للبحر ، وضع الورقة في أذنيه ، صوت النورس وهو يستجدي الموج كان بائنا ، ولكن ما أدهشه حقا كان طعم الورقة حين تذوقها ، كان كطعم شفاه حبيبته الذي لم يذقه يوما لكنه يعرفه جيدا ، فكم قبلها في أحلامه ..حمل ورقته إلى إحدى الصحف اليومية، أرشدوه إلى رئيس القسم الثقافي...
    كان جالسا في مقعد وثير ، يرتدي نظارة سميكة
    أريد أن أنشر هذه القصة بصحيفتكم...لقد فرغت منها للتو...
    جيد...دعنا نراها ...نظر الرجل إلى الورقة الفارغة ...ثم نظر إلى الكاتب بريبة ...
    قصة ؟ أين هي ...هذه ورقة فارغة ...
    لا ليست فارغة ...تشممها ...تصنت إليها و لكن لا تحاول تذوقها كي لا يظن بك الناس الجنون ( كان يضمر في سره سببا آخر لدفعه بعيدا عن تذوق الورقة )..
    هل أنت مجنون؟ قالها الرجل في غضب ، إن لم تخرج حالا استدعيت لك رجال الأمن ..
    لا حاجة لذلك سأخرج الآن...ليس خوفا منك أو رجال أمنك...بل لا أود لمثل هذه القصة الرائعة أن تنشر في أي صحيفة..حمل الورقة بعناية وخوف، وقفل راجعا إلى غرفته ممنيا النفس بقراءة طويلة وممتعة.
    حين أفاق صباح اليوم التالي ، رأى كيف يناثر الفجر بثور ضيائه في جسد الغرفة فقاقيع نشوة عذبة لغزله الحميم مع ظلام ليلته الموشك على الرحيل كثلج مقبل على الذوبان ، أحس بحنين مباغت لفتاته، ومض كبرق خاطف ، لا يدري لم يذكره الاندغام الحميم للمتضادات دوما بها : تلك المسافة الشفيفة بين الصمت والصوت ، الظلمة وأول الضياء ، الغياب وبشارة الحضور ، هي موطنها الأليف يراها دوما تقطن هناك ..في تلك البرهة البرزخية ، بين العدم والحضور، حين نام تلك الليلة ، لم ينس ، كما هي عادته دوما، أن يضع تحت رأسه تلك الوسادة العجيبة.. التي أهداها له صديقه الياباني ، وأخبره بأن الجميع هناك لا ينامون.. إلا إذا وضعوها تحت رؤوسهم ، فهي ( تجعلك تسيطر على أحلامك ، تتخيل أي الأحلام ترغب في هذه الليلة وتنام فقط تاركا للوسادة مهمة صياغة ونسج هذه الأحلام تماما كما ترغبها ، هكذا أخبره صديقه ، مندهشا كان من جهله بهذه المعلومة البسيطة ، لم تسمع بها من قبل؟ يا للغرابة ، هذا أمر معروف للجميع ، لا يهم ، خذها ..وهكذا..في هذه الليلة قرر أن يرى هل تستطيع هذه الوسادة السحرية، أن تختلس فتاته من مرقدها البعيد وتغويها بنزهة سعيدة في مرمر أحلامه، ولكن...تساءل في قلق ..أي مشاهد أرغب حقا أن أحلم بها مع من تساكني عقلي وروحي ..كيف لي أن أهجر حضورها ..كي أنسج عبر نول أحلامي ما تكونه في الغياب؟ دهش حين رأى الورقة تنفسح فضاءا بديعا، كانت الآف النوارس تتصايح في أعلى يمينها ، في الأسفل يهدر الموج ، بينما كانت فتاته هناك ( كانت ساقيها تحكيان عن تاريخ من التسكع الجميل في شوارع فرح تزينها خطواتهما معا راهبين في محراب عشق خرافي العذوبة ، بينما عيناها تجهشان بأنوثة سماوية ، كتنفس ياسمينة تتشقق عن بذرتها للتو ، مانحة الفراغ عطر وجودها ، جسدها كان تلك السيمفونية التي أضاعتها سيرينيات بحر ايجة قبل ألف عام ، وهاهي - كما الموسيقا دوما- تتسرب بمكر من ذاكرة الآلات إلى أنثاه ، ( حين مر ذاتمساء بالغابة ، رأي أن هناك جذع شجرة ما ... يتمدد في صيرورة تحولاته عبر الثقوب اللامرئية في ثوب الزمن.. إلى آلة المكان التي يعزف بها صديقه ، الكوبي ذو المزاج الشاعري المفعم بأحزان الأصفياء ، نظر إلى الجذع ، اقترب منه أكثر ...وضع إذنيه في تصنت عميق لإصغائه الحميم وهو يحكي قصته ..هاجر معه في رحلة طويلة ، قاسى معه كل جراحات المناشير الكهربائية الضخمة وهي تنحت جسده ( عرف فيما بعد إن التأوهات العميقة التي تصدر من نغمات الكمان هي صدى للآلام الهائلة التي مر بها منذ أن غادر موطنه البعيد في تلك الغابة ، مقذوفا به بين أكداس من البضائع في جوف السفينة الضخمة ، لكنه لم ينسى تلك الآلام ..سترجع صداها أمسيات مدائن بعيدة ..ستكون عزاءا للحزانى ...لا بأس إذن ....هكذا كان الجذع يهمس في إذنه..أنا أكثر حظا من الجميع ...بالأمس فقط علمت بأنهم صنعوا من بعض أشلاء أخوتي رسلا للفناء..بنادق وأسلحة أخرى ..هكذا أخبروني ...أما أنا فكما ترى ...أغبط حظي كثيرا ..تتبلسم جراحاتي بتلك النظرات الفاتنة من حسان يتسمعن ما يصدر مني من أنغام ..و..و..) صار الصوت يتلاشى...رويدا رويدا..كان مستغرقا في هذه الصور البديعة من الذكريات عن صديقه الكوبي التي تتناسل بخصوبة من مخيلته وهو ينظر إلى الجذع ويستمع لهمسه.. لا يدري سرا لهذا الارتباط الذهني الغريب بين جذع الشجرة وهذا العازف ، فكلما مر بالجذع ، أحس بالاختناق من الدخان الكثيف المتصاعد من سيكار صديقه في فضاء الغرفة وهو يدوزن أوتار الكمان ، وحين يقترب من الجذع متحسسا لتعرجات الزمن وهو يتمشى في مفاصله ...يسمع تلك الضحكات المدوية لصديقه وهو يصيح به :
    لا ليس هكذا ...لا تعبث بالأوتار بهذه الصورة المضحكة ..لن تتعلم العزف أبدا بهذه الطريقة ، حاول التركيز قليلا ..اقترب من الجذع وألصق أذنيه جيدا ..وفوجئ تماما، بأنه في ذات ليلة سمع ذات النغمات التي كانت تتفجر جداول موسيقية صغيرة تجري في نسغ الجذع ، سمعها في تلك الليلة وهي تنطلق من أنامل صديقه ممتزجة بعبق سكائره في هجرة أثيرية إلى مواطن الموسيقا البعيدة في أقصى أزقة الروح وحواريها البعيدة ، تلك المواطن التي تسكنها الموسيقا كما هو معروف .
    لم يفلح النورس في إقناع الموجة بمشاركته اللعب، حاول الصبية استدراج أحد الصيادين النزول إلى الماء بزورقه البخاري كي يحرك سكون الموج، حتى يسمح لصديقهم النورس باللعب، قالت الفتاة وهي تنظر مليا في سطح الماء:
    لا أرى أي شيء غريب ..
    حسنا ..إلا تسمعي شيئا؟ ماذا تقول لك تلك الموجة ؟
    يحي الحسن الطاهر- جدة 18/12/2011م






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de