عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-11-2024, 09:44 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عثمان تراث(تراث)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-06-2008, 07:50 AM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر

    محمد الطيب محمد سعد، مثقف سوداني رماه الزمن في أقصى أنحاء اليمن، في المهرة، وهي أبعد محافظة يمنية عن العاصمة صنعاء. استغل عزلته هناك ليمارس ما يحبه: القراءة بكثافة والكتابة. والفضل لعضويتي في سودانيز أون لاين التي جعتله يعرفني في ذلك المكان النائي.. وعندما وصل قبل يومين إلى صنعاء سال عني. و"البيسأل ما بتوه". زارني في بيتي وتشرفت كثيرا بمعرفته. صادقته من أول كلمات قالها لي .. وهنا استجيب لطلبه بنشر مقال من مقالاته تشرفت بان اخترت له عنوان.


    عن النيلين وأهل البلد.. عن الطيب صالح وأمادو وأشياء أخر
    كتب: محمد الطيب محمد سعد

    الخرطوم في الوسط ، شمالها مباشرة يعني بداية الشمال السوداني، بداية ثقافة الإقليم الشمالي، فيها التقى النيلان الأبيض والأزرق.. أتى كلا منهما من فجه العميق. من أدغال أفريقيا وأحراشها جاء الأبيض، من بلاد الزنج، تكون في أكثر من خمس دول، ثم وصل الخرطوم على وعد قد قُدر، ليلاقي الأزرق الذي أتى ملهوفا من شرق أفريقيا، من بحيرة تانا، تلك التي كونتها مياه الأمطار المنهمرة على مرتفعات و قمم جبال أثيوبيا وسواحل البحر الأحمر .
    في الخرطوم التقيا وتعانقا واندفقت المياه علي بعضها نقية عذبة، عذبة لكنها داكنة. منظراً خطته ريشة الرحمن ليكون أجمل لقاء بين أثنين من أنهار الدنيا، وبعد أن يندفقا في مجرى واحد يظل كلا منهما ولمسافة محتفظا بلونه، الأبيض على الضفة الغربية، وأخاه الأزرق على الضفة الشرقية، يسيران جنباً إلى جنب، ينسابان نحو الشمال في هدوء وإصرار، حتى إذا بلغا الشلال الأول اكتمل التمازج، ومن هنا يكون شأنه لأهل تلك البقاع شأن كليوبوس أخر، إلاه يشبع المروج ويروي الظمأ، فينبت الخصب والانتماء .
    وكذلك خٌلق السودان، أفقاً لا تحده حدود ينتج أبعاداً كلما قاربتها زادت إتساعاً . فعند إلتقاء العربية والزنوجة في صحن السودان يمتزجان كما النيلين وينتجا إنساناً ذا شأن آخر، غير كل الشئون، يعطي بلا منٌ ولا أذى وبلا حدود .
    أتى النيلان يجدان السري، لا مياه فقط ، جاءت أمواجهما تحمل في هديرها إيقاعات الطبول ممزوجة بصرخات وصيحات أهازيج الأفارقة، بعد أن سكبت غيوث الله مياهها على مرتفعات كلمنجارو في كينيا وأوغندا، وقمم البحيرات في راوندي وبوروندي، وحقول الشاي في تنزانيا والكنغو، وغسلت أكواخ ومعتقدات وأجساد الأفارقة من قبائل التوتسي والهوتو والكيكويو والماوماو والمساي، ليكون النيل الذي يعنيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (النيل نهر من أنهار الجنة).
    جاءت هذه المياه تحمل ثقافات أفريقيا من عمقها ووسطها ومن شرقها، من حقول البن، جاء الأزرق يحمل معتقدات العفر، والأمهرة، والتغراي، والدانكل، والشناشة، والقبوذ، الذين تعلموا من انحدار النيل الأزرق كيف يرقصون إذا طربوا، وتجد هذا واضحا في انفعالات رقصهم وضجيج موسيقاهم في أجمل أغانيهم التقليدية (بهل زفن) (ماسكي) ( كبرو).
    وعلى امتداد الضفة الشرقية للنيل تجد آثار الخالدين في البجراوية، والضانقيل في بربر والبركل والكرو، أما من الغرب فسلسلة جبال، مثل التي بالشرق، وفي هذه المنطقة كل الناس اعتمادهم على الزراعة، وتشاهد على ضفتي النيل خلاوي الصوفية التي تمثل المعتقد الأصيل بالنسبة لأهل تلك المناطق، ففي كل قرية تجد مسيد، وفي كل مسيد مسجد وتقابه (نار لإحياء القرآن)، وطلاب حفظ القرآن وتلقي العلوم، وهناك تسمع تراتيل "الحيران"، كما تسمع دلاليك وطنابير السمار في الدليب، والجا بودي، والمولد والمدائح النبوية، التي لا تعتبر تقرباً لله فقط، بل هي في نفسها دين وصلاة وعبادة ، فهي الوسيلة التي عرف بها الناس هنالك ربهم ودينهم، وعرفوا السيرة النبوية، ومناسك الحج والعمرة، ومن كل ذلك خرجت عدة مدارس في كافة المشارب، الثقافية والعلمية والاجتماعية، ومنها مدرسة حاج الماحي الشعرية في مدحه للمصطفي (ص):
    شوقك شوي الضمير، أنا أحبه من صغير
    بريدك يا البشير

    يقول الماحي : "إنه يحبه منذ صغره، منذ سمع الذين سبقوه، وعرف عنهم المديح وحب النبي صلى الله عليه وسلم"، ويمضى في مدحه ساردا شوقه وشوق أهل تلك البقاع كاملة في سرد عجيب، من شندي إلى المغاوير، والدامر، وسقادي، وبربر، والباوقة إلى كنسيكل، ومقرات حتى دنقلا، بلاد المحس، والكنوز، و أهل تلك المنطقة لهم بصمتهم الخاصة، وطريقتهم الموروثة في كل شيء، فتجدهم يعرفون المواسم وأيها أصلح لأي محصول، وذلك بالنجوم والأيام، بردها وحرها، ولهم فيها أقوال عن تجارب صارت أمثالا وقواعد، وهم يؤرخون للزراعة بالشهور القبطية فعندهم (أبيب )، ويقولون : "النيل يمشي فيه مشي الدبيب"، (وكيهك، وبرمهات، وبرمودة) ويزرعون القمح في (هاتور)، ويقولون في ذلك "من يزرع القمح في هاتور، ينجح نجاح البصل في الروب" وهذا الأخير جزء من طعامهم الخاص (البصل و الكسرة مع الروب). ويقولون:" في فصل (أمشير) (أم شير القصير، يلحق الطويل) وأيضا (في أم شير،الرقاعة تلحق الزراعة )". وهي أيام تأتي في الشتاء مصحوبة ببرد شديد ورياح جافة، يفرحون بقدومها، وهي من أجمل أيامهم وفيها فائدة كثيرة لكل المحاصيل، وبعضها محاصيل تحتاج إلى الرياح ليكتمل نضجها، وأخرى تنفعها الرياح وتنهض بها. ولهم في فصول السعود ( سعد سعود، وسعد ذابح، وسعد خبايا،)، فلسفة تخصهم، إذ يقولون خاصة في سعد ذابح:"سعد ذابح، لا طيرا سابح، لا كلبا نابح"، وفي كل سعد لهم نص. وفضلا عن كل ذلك تجد عندهم الحكاية الموروثة من الميثولوجا الأسطورية القديمة.
    وعلى امتداد النيل شرقه وغربه أشجار النخيل، والنخلة ليست عندهم مصدرا للثمار فقط بل هي قريبة من أقربائهم، كما قال النبي (ص) "أكرموا عمتكم النخلة". ولأنها كذلك (أحد الأسودين)، وهما عندهم ماء النيل والتمر. وهي عندهم ليست مورداً اقتصادياً للربح فحسب، بل مصدر طعام الحيران في الخلاوي. وهم ينعتون أجود أنواعها بـ (القنديل،البركاوي، و المشرق)، ويسمون أجود أنواع التمور بـ (ود لقاي ) (وبت تموده).
    وهم يدعون لبعضهم بالبركة والخير، يتمسكون دائما بالأصول والجذور، ويكنون بعضهم بـ "ود فلان": "ود الدابي، ود الخدر، ود حاج الماحي"، كما يسمون قراهم ومناطقهم وأسواقهم بنفس الطريقة: "ديم ود حاج " ، "أم بكول" ، "أم الحسن". ويرتبط الفرد عندهم بقيم المجتمع الأخلاقية العالية في كل شيء، فالمرء تقيده القبيلة بأخلاقها وعاداتها وتقاليدها، حتى في بعض الأشياء التي تعتبر خاصة به، فهم عندهم وإلى عهد قريب ، تجد الأب أو الأم هي التي تختار الزوجة للابن، وقد تكون البنت مكفولة لأبن عمها تحت أي ظرف، ولهم في ذلك قول بأن "ابن الأخ لا يختار من بنات عمه"، بل الغريب الذي يختار، ولذلك تترك الأخيرة لابن العم، وعليه القبول بها علي أي حال، لأنها " الماعون، وابن عمها الغطاء"، وعندهم ثوابت في الأفراح والأتراح، منها التواصل بموجبات المناسبة، فكل مناسبة لها طقوسها و لها من العادات ما يميزها، وعلى امتداد النيل تجد في كل قرية تمازج بين كل أهلها، وقد يكونون أصلا قد تكونوا من عدة قبائل أفريقية، ومعظمهم ينتمون إلى قبائل عربية عريقة، ونتج عن ذلك تمازج واضح، أظهر ثقافة وضح جمالها في تباين ألوانها، وزخارفها، فالعرب لهم ثقافتهم وحضارتهم اللغوية، والأفارقة كذلك، حيث يودي الإيقاع عند الأفارقة دورا قوي في معظم المناسبات، بل يعتبر الإيقاع أحد مكونات حضارتهم، ولذلك تجد كل ممارساتهم الشعبية، فن وإبداع، يظهر في رهافة حسهم، وهذا ما أخذوه من الإرث الضخم، المتوارث ثقافيا من آدابهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكل ذلك من الجمال الذي أخذوه من أفريقيا وغاباتها ومروجها وأدغالها، أضاف عليها ما أخذوه من العرب، من فن البداوة وإبداع اللغة، مما أدي إلي تلاقح عجيب، فكان هو زمن التوازن الحقيقي بين أجسادهم وأرواحهم، في أغانيهم ورقصهم وفنونهم والمكون لكل انفعالاتهم، التي يستمدون منها شفافيتهم ورقتهم في رقصاتهم وصيحاتهم، لذا فإنك كثيرا ما تجد في كل السودان أضدادا كثيرة يظهر حسن كلا منها ضدها، في تباين عميق، في الشعر، والألحان، والأنغام، ومثال على ذلك، تجد ارتباطهم بأغانيهم الوطنية فيه أضداد، فيها رقه و جمال غير مألوف لدي عامة العرب والأفارقة في اغانبهم الوطنية ، فتجد السودانيين يهبون إجلالا لوطنهم مع الفنان الكبير،عبد الكريم الكابلي حين يتغني في رائعته:
    ( القوما ليك يا وطني )
    وهو شيء عجيب،، وجميل في ذات الآن، حين تجدهم يقعدون في خشوع، وتوسل مع الرائع وردي .
    ( في حضرة جلالك يطيب الجلوس )
    والسوداني يطرب إذا سمع الأغاني الأفريقية حتى لو لم يفهم معاني كلماتها... وهذا لا يحدث عند معظم العرب. وكذلك يطرب السوداني لصوت المغني العربي مع الموسيقى ويفهما جيداً، وهذا لا يحرك شيئا عند الأفارقة.
    اللغة، والثقافة العربية، والموروث العربي،هذا كله، مضاف إليه الحضارة الأفريقية، حضارة الإيقاع، والفن، كانت هي الصلب الطاهر، والرحم الطيب الذي خلق فيه "الطيب صالح".
    في هذه الأرض الطيبة يظهر التزاوج بين الزنوجة المعبرة بلسان عربي والعربية المحمولة في سحنة زنجية وهذه الميزة الخاصة وسمت هذا البلد بصورة واضحة دون بلاد العالمين قاطبة وميزت هذا الأديب .
    فقد تجد شخص أمي يقرض الشعر من جمال الطبيعة في شمال السودان، فهو عندما يريد أن يقول شيء إنما يحول اللوحة الموجودة أمامه من نيل وزراعة وخضره وسماء ، إلى موسيقى تسمع بالأذن بعد أن كانت ترى بالعين. (الحوري) وهو شاعر طاعن في السن، من قبائل المناصير ويسكن في منطقة (الباوقة) المشهورة بخضرتها وثمارها ومياهها وجمال نسائها، ، يقول:
    قشيش الخلا البي نجمو رويان
    عتم البل فقع الضان
    فرقتنا الماليها مان
    كل زولا بقى في مكان

    ويقول المغني الراحل النعام آدم:
    فجر نبحن بوابيرا يا الرايقي شتيلة قريره
    ويقول آخر من قبائل النيل:
    جادت بالعمار فوق قيفه
    الشايله الندى أيام صيفه
    قولوا لي كيفه لمان يجيها خريفه

    وفي لونية أخري يحكي شاعر للفقير(شيخ الخلوة) لوعته وبعده عن المحبوبة بنبرة صوفية حنونة:
    صغير ودابو ود لقاي وفوقوا الطير يسوي الواي
    جعلي القوم سديد الرأي ويا الخرساني يا القراي
    قلبي طار ماهو معاي قصادكم بالشرق بي جاي

    تلك هى الطبيعة والبيئة التي تشرب منها أديبنا العملاق، منذ نعومة أظافره، هذه هي ثقافة الشمال السوداني،المتشبعة من رحيق النيل، وعبق حقول النخيل، وأصوات حنين السواقي، رنم (الترابلة) خلف محاريثهم، يتنشقون روائح تراب الأرض، من تلك اللوحة الطبيعية.
    منذ بدياته الأدبية الأولي (نخلة فوق الجدول)،سما أديبنا لينطلق إلي آفاق رحيبة، من المحلية، إلي العالمية.
    سئُل مرة الطيب صالح "لماذا لم يفز بنوبل؟" فأجاب بكل بساطة وثقة وتواضع! [لم يفز بها جورج أمادو، وهو أحسن مني] نعم كذا أجاب.
    لكن أي حسنة؟؟ لم يكن أمادو أفضل من الطيب صالح. أمادو بالفعل من أشهر كتاب الرواية العالمية، وقد يكون ما نشر له أكثر مما نشر لأديبنا . أمادو ذا شهرة وصيت ذائع، مرة إني ليسعدني أن ينتقل كتابي من فم إلى فم ). وكتب أمادو في فترة كان هنالك كتاب مرموقين سبقوه عالميا في الأدب اللاتيني، كما عاصر آخرون، ابرزهم جابريل جارسيا ماركيز ، أغلبهم يجمعهم توجه فكري واحد ، وقد ظل امادو مرشحا دائما لجائزة نوبل ولكنها لم تمنح له أبدا. ويعتبر كثير من النقاد أن قول الطيب صالح: "أن أمادو، أحسن مني"، كان الترشيح الأقوى لأمادو، لنيل الجائزة التي لم يهنأ بها.
    ومن يقرأ أدب أمادو يجد تقاربا شديدا، بين الأديبين في كثير من النواحي. كتب أمادو عن ثورة البلاشفة البرازيليين، وكل اللاتينيين، فيما تحدث الطيب صالح عن القومية العربية على طريقته الخاصة آملا في تحقيق الوحدة بين العرب، قد قال في احدى مقالات (نحو أفق بعيد)، أنه كان يتمنى رؤية طريق يربط بين اللاذقية وطنجة، وبغداد ونيالا، ورأى:" إن الرواية العربية حققت بعدا تضامنيا بين الشعوب العربية، أكثر مما حققته السياسة والاقتصاد والتجارة"،ورغم ذلك، وبتواضع الأديب، في تأدبه الجم، قال عندما سألته إحدي الطالبات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة:" لماذا تأخر تحقيق الوحدة العربية؟" بأنه ليس سوي كاتب روائي، وكتابته لرواية ناجحة، لا تعني أنه رجل سياسة!
    وبين أمادو ، و صالح ، ليس شبها في الفكرة فقط، بل أيضا شبها في البيئة. فثمة شبة بين خارطة السودان وخارطة البرازيل ، وأمريكا اللاتينية برمتها تشبه أفريقيا، وشعب البرازيل يشبه الشعب السوداني في تعدد إثنياته، وثقافاته، وتتشابه صحاري البلدين وجغرافيتهما والثقافة. بيوضة في السودان، والسرتاو، والكاتنقا في البرازيل، نيل هنا، وأمازون هناك، و طنبور وإيتباك، ويامنجه وأبدماك، والسامبا والمردوم.
    كم اسفنا لرحيل أمادو. وكم نرجو دوام العافية وطل العمر لأديبنا الكبير الطيب صالح وهو لا يزال يعطي في كتاباته دفقا وسيلا فكريا مستمرا للرواية ، ليس في محدوديتها القطرية، أوالإقليمية، أو الفكرية. بل في عولمتها الكونية.
    نجد في كتابات الطيب صالح تلميحا لكل ما تطرقنا إليه، وذلك ما نراه في ارتباطاته بالأفريقانية، الغنية بالتراث الإنساني المتشعب والمتجزر في وجدان وأعماق أديبنا، وفي كثير من أقواله وكتاباته، لذلك نجد هذا الأثر ينتقل إلي وجدان ونفس الآخر بكل سهولة ، لأن أصل هذا النسيج الذي تكون في دواخله، هو من صميم هذه المجتمعات الموجودة إبتداءا من شمال السودان، والممتدة من الخرطوم حتى حلفا، وما بينهما ، مدينة دنقلا التي ينتمي إليها، فهو من (كرمكول)،ودنقلا معروفه، ولها تاريخها الحضاري العريق، النوبي، والمسيحى والإسلامي، وهي التي دخل الإسلام عن طريقها إلى أنحاء السودان، وبها مسجد منذ ما يقرب من الألف عام، ومنذ القدم عرفت بتسامح أهلها وتداخلهم اجتماعيا، وعرقيا، تجد فيها الكثير من القبائل، شكرية، وكواهله، وبطاحين، ، وغيرها من القبائل التي تسكن تلك المنطقة، ومنها قبيلة البديرية التي ينتمي إليها أديبنا، وهي قبيلة معروفة بامتدادها على ضفاف النيل، والصحراء حتى كردفان، وأيضا من قبائل الشمال، الشايقية، والجعليين، والمحس،والكنوز والحلفاويين وغيرها، وكلها مشهورة بحب جلسات السمر والمقيل، وهي قبائل مولعة بحب شراب الشاي، ولهم فيه طقوس، كما نجدها عند القبائل في مناطق غرب السودان( البرامكة، والكماكلة)، الذين كتب عنهم الطيب صالح ذاكرا شيئا من آدابهم وأشعارهم، في مقالاته "نحو أفق بعيد" مثل قولهم:
    زولا سرب سربه ختى الجبال غربه أدوني ليه شربه
    خلوني اللقص دربه
    الشاي في الصيني قريافا راميني
    يا والده سيبيني الجراري راجيني

    وعن قول الشايقية المعروف بحبهم لشراب الشاي:
    (إن كان أحمر كب تسعة،، وإن كان أبيض اسكت كب)
    والمتتبع لكتابات أديبنا يجد بصمة التراث الصوفي واضحة فيها، وهو الذي تحدث بوضوح، قولا وكتابة، في حديثه العميق عن الصوفية بروحها النقية، فقد أنصفها أكثر من مرة، موضحا أن الإسلام قد دخل السودان روحا واعتقادا حقيقيا،عن طريق الصوفية، وكتب كثيرا عن آداب المديح،والمادحين للمصطفي (ص)، ومن بينهم حاج الماحي،الذي قدمت بفضل كاتبنا الكبير الأوراق بمديحه (وطاره) ، وتم التحدث عنه في الشانزيليزيه،وصارت مدائحه مثار نقاش على ضفاف السين. وحاج الماحي يعتبر واحداً من الذين أرسوا أسس التراث الروحي الصوفي النقي في السودان، إذ أنه مدرسة وقامة في هذا المجال، الذي استقى منه كل أدباء تلك المنطقة، وتجد هذا واضحا جدا في كتابات الطيب صالح، بل في توجهه، من حيث تولعه باختيار لون معين من الشعر العربي الممتزج بسودانية أصيلة والذي تشربه واستمع له وتذوقه، وعرفه منذ الصغر، بلونية الصوفية في المدائح، خاصة مدائح حاج الماحي، الذي يقول في أحدي قصائده مادحا المصطفى (ص):
    سيفه للخودات يشقق تابعه الصقار محلق
    والذي يستمع لهذا الشعر ويطرب له لا بد أن يطربه شعراء العصر العباسي .
    عصائب طير تهتدي بعصائب
    ومثل هذا موجود أيضا في ثقافة الطيب :
    صقر الطير لغداكم إتباشرو لبلاكم
    أبشروا أبو زينب وراكم أنا فوقم بقول كلام
    دخلوها وصقيره حام

    وهذا الشعر وتنوعه كان له الأثر الاقوي في توجه الأديب الطيب صالح نحو قراءته للشاعر أبو الطيب المتنبيئ،ا لذي كتب عنه (في صحبته)، ولهذا فهو كثيرا ما يستدل بشعره ، وتلمس ذلك إذا قرأت الطيب وهو يريد أن يذكر شيء من شعره،لا يقوله كما تجري العادة عند الغالب من الكتاب،الذين يقولون "كما قال الشاعر" إنما يقول "ماذا قلت يا أستاذ" ومباشرة يطرح بيت المتنبيئ المستشهد به، لأنه فعلا دائما في صحبته في حله وترحاله، ورغم عشقه، وقراءته لشعر المتنبيئ، إلا أنك تجده ناقما عليه في بعض قصائده التي تفوح منها رائحة العنصرية ضد الزنوجة ، وفي هذا فقد أشار في إحدى مقالاته الى ان المتنبي ظلم كافور الإخشيدي وقال: "الأستاذ ظلم الأستاذ"، ما هذا؟ كافور الإخشيدي معروف بتاريخه، إنه فرد في حاشية (الملك) في القصر،رقى به الحال إلى كرسي الحكم ، بفضل حنكته، ودهائه، وقوة إرادته، وصبره، وتواصله في القوم، هذا على حسب سرد الحكاية، أما المتنبيئ، فشاعر يحلم بالسلطة، جاء من جزيرة العرب يبحث عن إمارة وجاه وسلطان،لم يرثها عن أبيه الذي كان يمتهن السقاية ( سقا)، فمدح الأستاذ كافور بأجمل قصائده، وعندما لم يجد المراد لتحقيق أحلامه، هجاه في سواد لونه، وفي غلظة مشا فره ،وفي قدميه اللتين وصفهما بأنهما ذاتا راحتين، كأنهما لحاء الأشجار، أشجار السنط الموجودة بكثرة على ضفاف النيل في شمال السودان .
    من علم الأسود المخصي مكرمة فحوله البيض أما أبائه السود
    من فهمي لهذا البيت، وتقديري لفهمه عند الطيب صالح، ونقدي بأن (الأستاذ ظلم الأستاذ)، فيه حسد واضح من المتنبيئ لكافور،وهذا على الولاية والسلطة والجاه التي أرداها، و"أستاذية" كافور تأتي من كونه يشبه أهل الشمال،شمال السودان، وله أجداد لهم تأريخ (بعنخي) و(ترهاقا) ،من ملوك (كوش) و(النوبة) ، الذين كانت لهم السيادة ولا زال لهم تأريخ، و المحس جزء من النوبة ، وهم قبيلة مشهورة، جذورها ضاربة، ولا أدري إن كانت تسميتها بالمحس قد جاءت من أفريقيتها؟ فإن كان ذلك، كذلك، فربما كان فهم الطيب بأن الأستاذ كافور مظلوم بمعنى أن (المخصي) لم تكن كذلك، وإنما لحقها خطأ في الأصل، وقد يكون الشاعر أراد أن يقول (المحسي)، والطيب صالح وفي غير هذا الموضع، كثيرا ما كتب عن أبناء كوش بن حام بن نوح، وقد تتبع آثارهم حتى استراليا، وكتب عن (راكان ) الذي قتل أخاه في قصة تشبه قصة ابني آدم، قابيل وهابيل، وكتب كثيرا عن قبائل الأبولجيين السمر في استراليا، وقد تحدث عنهم كثيرا ووصفهم بأنهم أصحاب ثقافة وحضارة وحث علي قراءة تاريخهم، ووصفهم بأنهم قوم نصف عراة. وهكذا كان حديثه على لسان أبطاله في كل رواياته،ينحوا هذا المنحي.
    وحتى حينما يصف الطيب صالح السودانيين الذين كانوا معه في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية،يقول في وصف ( أبو سن ) بأنه يقرأ النشرة كالمتفضل على الإنجليز، أما عن أحد من أبناء (أبو العلا) فيقول بأن "نبرات صوته تحدثك بأن الرجل لم يقم طويلا في بريطانيا"،ومما يؤكد تأثره بالبيئة التي عاش فيها أو الطبيعة التي جاء منها، سواء كانت أفريقية أو عربية، حتى وصوله إلي بريطانيا وإقامته فيها، والتي إضافت إلي رصيده، إلمامه بالحضارة الأوربية، وفي هجرته الغربية، التي أكسبته من الإطلاع، وقراءة الأدب العالمي، كل هذا كان له دوره. ولكن,، كان للبيئة أثرها الكبير والواضح، والبارز، الذي أنضج وصقل تجربة هذا المبدع العملاق، ولذلك تجد أن أغلب أبطاله اختار لهم أسماء من ثقافة البيئة التي نبت وترعرع فيها، فهذه "بنت المجدوب" و"ود الزين" "ود البشير" "بابور البحر" و"دومة ود حامد" و"الحنين" و"ود ميمونة" وغيرها الكثير من ذلك الفيض، وهذا ما يدلل علي عمق ثقافة البيئة في نفس هذا (الفرعون)!!!
    من بعد كل هذا الزخم، بالفعل تجد الطيب صالح، تجده يقف أمام داره في قريته يستطرد تراثه العميق الوافر الثر، ويستدعي ويستحضركل ذلك في لحظة من الصفاء والنشوة، والزهو والخيلاء،وعلي لسان بطله محيميد يردد بكبرياء مطلق:
    "أنا لست ريشة في مهب الريح أنا عريق بعراقة هذه الشجرة"......

    (عدل بواسطة تراث on 02-06-2008, 10:56 PM)

                  

02-06-2008, 09:22 AM

Emad Abdulla
<aEmad Abdulla
تاريخ التسجيل: 09-18-2005
مجموع المشاركات: 6751

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: تراث)


    تحياتي أخي عثمان ..
    و الشكر لك .

    و التحية عبرك لأخانا محمد الطيب , فقد دفق عبقاً حلواً في هذه الكتابة الجميلة .
    كتب عن " الأهل " في الشمال , هذا .. و للأزرق ضفاف هو الآخر .. و كذا للأبيض ..
    و الحال عينه عند الأنهر و الجداول السابحات في الأراضين الجنوبية و الشرقية و الغرب منها ..
    ثمة ثراء فاحش عند أهلي , حيثما أقاموا فعبقروا حيواتهم و الأمكنة .

    يا أخانا محمد الطيب ..
    النكهة التي دلقتها في كتابتك عن الأهل شمالأ .. ليتك باذلٌ لنا بعض أروماها على عزيز الخارطة السودانية المنسي أمر أهلها و ثقافاتهم و فنونهم .
    أجزم بأن تلك الأنحاء بها من فعال الحياة و صناعها ما لو أن أمادو كان فيها لنال المتمنعة نوبل مرات و مرات .

    شكرا يا عثمان ..
    أمتعتنا بكتابة مختلفة ..

    مودتي .


                  

02-06-2008, 03:52 PM

أبو ساندرا
<aأبو ساندرا
تاريخ التسجيل: 02-26-2003
مجموع المشاركات: 15493

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: تراث)

    Quote: شوقك شوي الضمير،

    بالجد ، مستوحشنك يا زعمات المغاربة
    وشوقك شوانا شي
    حمدآ لله على سلامتك
    والعودة الظافرة والغنية بالبوست المميز
                  

02-06-2008, 05:10 PM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: أبو ساندرا)


    جادت بالعمار .. فوق قيفه
    الشايله الندى .. أيام صيفه
    قولوا لى كيف .. لمان يجيها خريفه ؟

    ..
    عثمان تراث
    سلام
    صحتك كيف ؟
    زولك ده يا عثمان
    لعبو لعب تقيل .
    دى نوع كتابات مافى منها .
    ...
    عليك الله يا بكرى ارفع البوست ده
    فوق
    ..
    تحياتى
                  

02-06-2008, 10:50 PM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: Osman Musa)

    عماد وابو ساندرا وعثمان
    الحمد لله الذي بعث لي محمد الطيب حتى اتواصل معكم.. كم اشتاق اليكم والى هذا المنبر الذي ادين له بمعرفتكم، وهي نعمة من اكبر نعم الله علي.
                  

02-07-2008, 06:31 AM

Abomihyar
<aAbomihyar
تاريخ التسجيل: 03-19-2002
مجموع المشاركات: 2405

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: تراث)

    يا سلام ياعثمان

    والله ليك وحشة.. كيفك وكيف أيامك؟

    وشكرا لك لتعريفنا بمحمد الطيب فلقد أتحفنا

    بمقالته الرائعة، وأرجو ن يداوم على النشر.

    تحياتي للأصدقاء في اليمن السعيد.
                  

02-08-2008, 11:10 PM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: Abomihyar)


    فوق ..
                  

02-08-2008, 11:34 PM

Ishraga Mustafa
<aIshraga Mustafa
تاريخ التسجيل: 09-05-2002
مجموع المشاركات: 11885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: Osman Musa)

    Quote: حمدآ لله على سلامتك
    والعودة الظافرة والغنية بالبوست المميز



    ازيك يا ابو يسار.. ليك وحشة
                  

02-09-2008, 07:14 AM

محمد أحمد إدريس

تاريخ التسجيل: 08-16-2007
مجموع المشاركات: 140

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: تراث)


    شكراً لتراث يا من سقيتنا من هذا النبع العذب وشكراً لصاحب هذا القلم . إنه من أفضل ما قرات فى هذا
    الموقع الذى يزيد إلتصاقنا به كل صباحٍ جديد .
    مثل هذه الكتابة المازجة بين التغنى بثراء بلادنا وتفردها بهذا التنوع المتمازج بين الثقافات
    والإثنيات واللهجات والعادات وما أنتجت هذه العوامل مجتمة وسُمى بالسودان وبين أولئك الأفذاذ من
    عمالقة الأدب الروائى ، لقمينة بتحويل مسئولية الكتابة هنا من مجرد عملية مشاغبة إسفيرية إلى عمل
    ذو أهداف وغايات تنفع الناس .
    نطمع فى أن نكون "فى صحبة محمد الطيب محمد سعد " وتماسٍ مباشر معه ولا ندرى ما يمنعه من ذلك
    رغم توقيرنا للوسيط ، فهل من مزيد ؟؟


                  

02-11-2008, 09:24 PM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: محمد أحمد إدريس)

    شكرا لجميع المشاركين والقراء.. كم اشتاق .. ولابد ان اعود اليكم واحدا واحدا.
                  

02-11-2008, 09:29 PM

Tumadir
<aTumadir
تاريخ التسجيل: 05-23-2002
مجموع المشاركات: 14699

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عن النيلين والأهل .. عن الطيب صالح وأمادو واشياء أخر (Re: تراث)

    أولا بالتبادى ...بركة الانت جيت يا مقنع الكاشفات .....
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de