دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
عطـــــبرة رواية لسعيد
|
أنزلت قبل فترة بوست أخبر فيه بصدور ثلاث كتب في صنعاء لاثنين من الأصدقاء المبدعين هما الأستاذ الحسن محمد سعيد ، وعضو البورد عبد الناصر المودع ، وكان من بين تلك الكتب الثلاثة رواية بعنوان (عطبره) ومجموعة قصصية بعنوان (لعله الخروج الذي لا يكون) للأستاذ الحسن محمد سعيد . وقلت إن الحسن محمد سعيد لمن لا يعرفه : قانوني سوداني مرموق ومثقف موسوعي ، وهو يكتب القصة منذ وقت مبكر وبدأ في نشر إنتاجه القصصي منذ 1960 . عمل في مجال المحاماة بالسودان ثم في النائب العام إلى أن جاء إلى اليمن معاراً من ديوان النائب العام في 1985 ثم استقر به المقام منذ ذلك الوقت .وحتى الآن . واضفت في التعريف : إن رواية (عطبره ) ومجموعة (لعله الخروج الذي لا يكون) قدم لهما الكاتب والناقد اليمني المعروف عبد الرحمن الأهدل . ورسم وصمم غلاف رواية عطبره ورسومها الداخلية التشكيلي السوداني المبدع المقيم في اليمن أحمد عمر . هنا للمهتمين المشتتين في أصقاع الدنيا الذين يصعب عليهم الحصول على رواية (عطبرة) أنشر نص الرواية كاملاً ، مع عتباته وموجهات القراءة متمثلة في الغلاف والإهداء والمقدمة التي كتبها الأهدل . سأنزل الرواية على أجزاء في نفس هذا البوست على أن ينزل كل جزء منها وكأنه مساهمة جديدة في البوست . وعفوا لطول المادة .
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
إهداء
* إلى والديَّ كانا نموذجاً للتسامح وقبول الآخرين على علاتهم برضى وطيب خاطر.. عاشا حياتهما ببساطة هذه الأرض.. وفارقاها في صمت دون أن يثقلا على أحد. * إلى أبنائي وجيلهم أرجو ألاَّ يجف المداد.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
تقــــديـــم عطبره رواية الحب والعطاء رواية عطبره وثيقة فنيه لقيم إنسانية كاد المجتمع أن يفقدها.. أو لنقل قيم بدأت تنأى عن حياة البشر في تلك البقعة من الأرض.. ليغتصب مكانها – أي تلك القيم – زحف من القبح وجد سنده في أسمال التخلف وبقايا الغرائز الوحشية. فالرواية تبدو وكأنها نداء يستغيث بالجمال من عواصف ظلمات العصور الحجرية التي تحاول شد الحياة إلى الخلف بحبالها المتهرئة التي ما عادت صالحه حتى للاستخدام الحيواني.. وهي – عطبــره – صورة للحب والخير والجمال. - ينقل الدكتور جابر عصفور عن (بوتشر) قوله (إن اللذة التي يقدمها أي عمل فني للمتلقي هي غاية الفن.. ولكن هذه اللذة التخيلية لها صلتها الضمنية بالإنسان. لا باعتباره فرداً منعزلاً ولكن باعتباره كائناً موجوداً داخل كيان اجتماعي عضوي. فالفن (من وجهة النظر الأرسطية واليونانية) عنصر في حياة أكثر سمواً للجماعة.. واللذة التي يقدمها هي لذة دائمة)( ). وعطبره مثال حي تجسد فيه ذلك التوصيف.. وفوق هذا هي ملحمة سودانية استقصت أو استقرأت مسيرة السودان الحديث كما وأنها أطلَّت بشكل شفيف على فاعلية الحركات السياسية الحديثة بألوانها المختلفة يميناً ويساراً ووسطاً. وأوحت عطبره الرواية بما وصلت إليه عطبره المدينة تحت سنابك الاستبداد الذي كان نكبة على المنطقة العربية بعمومها.. وكان وريثاً غير شرعي للاستعمار ووجهاً كالحاً كخلفٍ بائسٍ. وقد ألمحت الرواية من طرف خفي إلى ما مرَّ به السودان من تعرجات في مسيرته الحديثة.. والتجاذب الفكري والسياسي الذي ساد مراحل ما بعد الاستقلال!! ثم رنت إلى المستقبل مفعمة بما يجب أن يكون عليه السودان المتعدد الأعراق والديانات والموروث الثقافي. ويبدو أن من يطلع على تجربة الهند الحية يعي كيف استطاعت أن تستوعب تعددها وتخلق منه حالةً من التناغم الإنساني وأدارته بما يحقق مصالح الجميع واحترام حقوقهم - طبعاً هناك بعض النتوءات في هذه التجربة لكن الأساس قوي ويحمل بداخله قدرة الإصلاح والتطوير – وحبذا لو درس الأخوة السودانيون تلك التجربة ربما تفيدهم.. فأوجه الشبه قائمه.. وقبول السودانيين وغيرهم بالآخر في الحياة المشتركة قيمة مهمة للشخصية السوية التي يجب أن تقود هذا المتعدد السوداني. - عطبره مدينة مسقط رأس الكاتب ومدينة مسقط رأس التحديث في السودان إنها لوحة تجسد في حركة ألوانها السودان السياسي والفكري والاجتماعي والصوفي. وكأن السودان الكبير بخصائصه المتنوعة جمع بمقياس رسم مصغر ليكون عطبـره. كما وان السودان تكاد تلمس في لوحته التنوع الأفريقي.. هذا التعدد والتنوع هو ما يمنح السودان جماله وعظمته وتميزه عن باقي الدول العربية.. ولكي أرضي نفسي والقارئ وبدون استرسال ممل سوف اسمح لنفسي بقراءة عطبره الرواية قراءة تأويليه استقيها من الأحداث والإيحاءات التي جادت بها الرواية.. مجسداً ذلك في مميزات فنية ودلالية تتمثل في :- 1- القدرة الفنية الفائقة على صياغة حبكة السرد.. ففي لحظة وصول الكاتب من الغربة وقف في محراب "قيسي – حب قيس" وهو يصور لحظات اللقاء ولوعة المشتاق الغائب مما جعل دموعي تنساب تضامناً مع تلك العاطفة التي سبك معانيها وهو يستكشف مشاعر الواصل ومشاعر المستقبلين. بلغة عالية الوجد نقلت بفنية رائعة المشهد الحسي مع مشهد جيشان العواطف فتحول السرد إلى طاقة من نور وجداني منحت القارئ صوراً بدت وكأنها تحدث أمام ناظريه. لذلك أخذتني الرواية عنوة من نفسي لأشارك في وقائع تلك اللحظات فانهمرت الدموع وكأنني أحد أولئك الحاضرين وواحد من مستقبلي الواصل. ولم أشعر لحظتها أني أقرأ، إخباراً عما حدث إنه جمال فني أسبل رداءه على الجمال الموضوعي فكان جمالاً إبداعياً مركباً تكاملت فيه المشاهد فاشرق قوة تأثيريه احتلت مشاعري كمتلقٍ وأصبحتُ شئتُ أو أبيتُ جزءاً من تلك الحالة الوجدانية التي سادت تلك اللحظات. 2- القدرة على الصياغة الفنية لتعايش البشر وقبولهم ببعضهم دونما تعصب أو إقصاء كحالة النقابي قاسم أمين ذلك اليساري الذي تربطه علاقة ودٍ بوالد السارد ذلك العامل في أحد مصانع عطبره وصاحب الولاء الروحي للسيد على المرغني.. والذي يقف حائراً أيام الانتخابات بين أن يعطي صوته لصديقه اليساري أو لزعيمه الروحي ومع ذلك يصوت للسيد وتبقى مودته لقاسم أمين قائمه. إنه التعايش الإنساني النبيل فالاختلاف في الهوى السياسي لا يفسد للود قضية.. وكم نحن أمة العرب اليوم بحاجة ماسة إلى ثقافة التسامح واحترام حق الاختلاف.. هذا الباب الذي اقفل زمناً طويلاً في وجه أبناء الأمة ومن ثم في وجه التنوير وبدون فتح هذا الباب أو كسره يستحيل تحقيق أي تقدم في حياة الأمة. وقد أصبح من الضرورة بمكان الخروج من نفق الإلغاء والإقصاء، وإلا فسوف نزداد وهناً على وهن. 3- عطبـره وابن عوف والحب والاستبداد: ابن عوف شخصية نموذجية.. في الدأب والنشاط والعطاء وقوة العزم وصدق المشاعر وطهارة الروح استقينا تلك الخصال من خلال أحداث الرواية.. لكن أيضاً ومن وجه آخر قالت الرواية أن فيروس الاستبداد قد قتل تلك الموهبة وحولها إلى خرقة بالية مع أنها طاقة جبارة وعقلية فذة لو عاشت حياتها الطبيعية لكانت أبدعت وأثرت الحياة إيجـابا.. لكن لم يكتب لها ذلك. بدأت مأساة ابن عوف "عندما فقد الحب الحقيقي الذي أخصب حياته بفعل ممارسات الاستبداد والسجون وما يرافقهما مما نعلمه من الشراسة والقهر التي تصب على رؤوس المجتمعات وبالذات الشرائح الأكثر وعياً وفاعلية في الحياة العامة وابن عوف كان من هذه الشريحة وكان مشروع إنسان سوي ومفيد في كل المجالات التي تعامل معها سواء في الرياضة أو السياسة أو الالتزام الفكري والأخلاقي وكان الحب الذي جمعه بتلك الفتاة الأثيوبية التي كان لها هي الأخرى قضيتها النضالية في بلدها قد زادت من اطلاعه وديناميكيته وإقباله بكل جوارحه لتغيير حياة بلاده إلى الأفضل والأجمل في العدل والحرية.. كان ذلك الحب حسب الرواية مصدر الهام بل يكاد يكون صانع المعجزات الإنسانية، وطاقةً خلاقة يتهاوى أمام زخمها كلما يبدو مستحيلاً وكما قال الكاتب السوري نبيل سليمان (الذي يعجز عن حب امرأة فهو لاشك عاجز عن حب أي شيء في الحياة.. ومن يستطيع ذلك فإنه يستطيع أن يصنع المعجزات)( ). عندما خرج ابن عوف من السجن كانت روحه عالية وعزيمته لا تعرف الوهن.. فصدم برحيل / سهايتو / عن البلاد تلك الفتاة التي كانت وهو، بطلين إنسانيين حقيقيين، جمعهما السمو الروحي والأهداف النبيلة. ولكن في واقع قاتل لكل ما هو إنساني وجميل.. كم هو كريه ذلك الاستبداد وما يشيعه من بشاعة وفساد.. يقول الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي (إن فساد الاستبداد لا يقتصر على الحياة بل يصل إلى الأجنة في الأرحام)( ). - عطبره الرواية أوحت لنا نحن القراء بأن الإنسان بدون الحرية والكرامة ليس أكثر من حيوان ناطق بل وحيوان قليل الفائدة وربما كثير الضرر، ابن عوف في الرواية نموذج حي ودليل صارخ على بشاعة الاستبداد أنه كما قالت الرواية ذلك الذي (كان في قلب الحشود البشرية في الملاعب وفي المظاهرات وفي صفحات المنشورات والصحف يحس به الجميع قائداً فذاً يحرك الجماهير كما يشاء وكيفما يشاء.. لكن ذات ليل عبثي ٍ انفض السامر من حوله فأصبح كالسيف وحده)( ). هذا ما اختتمت به الرواية في أسطرها الأخيرة.. لتطل بنا على غابة من الأسئلة تدفع أبناء هذه الأمة حاكمين ومحكومين للبحث الجدي عن سبل تفضي إلى بناء حياة يتحقق فيها العدل والحرية والازدهار ويحفظ فيها للإنسان كرامته.. فلقد طال ليل التخلف وكادت الأمة أن تخرج من كينونة التاريخ البشري.. لتستقر في أحد متاحف الانثروبولجيا.. وهذا ما لا نتمناه لهذه الأمة. ويمكن للقارئ الحصيف أن يستخلص من عطبره الرواية برنامجاً سياسياً لسودان حديث أساسه التسامح والاعتراف بالتنوع. ولك الشكر أيها الحسن محمد سعيد.
عبد الرحمن حسن الأهدل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
نص الرواية (1) بعد سنوات طويلة من الغربة جئت السودان والشوق يستبد بي، يستحوذني ويستغرقني00 الناس وسحنتهم السمراء والسوداء المغبشة من وهج الشمس الحارقة، وارتفاع درجة الحرارة، وجفاف الجو، وقسوة المناخ، والعرق الهتون الذي يجعل الأجساد ملتصقة بالملابس حتى لا تكاد تفرق بينهما00 حديثهم السريع المتلاحق، وتعليقاتهم التلقائية بلا تعمق في الأشياء أو احتفاء بمن يكون00 سخريتهم من أنفسهم ومن ظروفهم و من حياتهم البالغة العنت00 لا مبالاتهم فيما يلبسون ويأكلون ويشربون00 أحاسيسهم بيومهم الذي يعيشون فيه كأنه اليوم الوحيد الباقي وبعده القيامة00 وانعدام شعورهم بغدهم كأنهم تخلوا عنه، أو ليذهب في ستين داهية، وربنا كريم00 كل من تلاقي يشكو دهره، ومع ذلك ففي ذيل شكواه ابتسامة كمن يتحدى الدنيا مع أريحية نفس جوَادة تجعل المرء يقف مشدوهاً أمام هذا التناقض الذي يجمع بين سوء الحال والنفس الجوادة الجذلة000 الحنين كان يحملني إلى السودان قبل الطائرة، وقد رسم لي الناس من بقايا ذكريات حملتها معي في غربتي وعشت عليها، فأخذت تتشكل في خيالات أصبحت واحدة في منامي وصحوي00 ومع شدة الشوق والحنين وبقايا الذكريات التي أصبحت كل زادي في رسم خيالات للناس تاهت عني الحقيقة المرتبطة بالبشر وحل محلها وهم من المبالغات التي أنستني واقع أهلي الذي أراه وأسمعه في الفضائيات0 ولكن قوة ما في أعماقي تدفعني إلى ما يشبه النسيان فيتغيب الواقع وتسود مكانه الأماني لأحلام يقظة ترفض تصديق ما ترى وتسمع 00 هو داء عضال لشخص حبس نفسه في الماضي وآثر أن يعيش به في غربته وأحوال الناس هناك تتغير وتتبدل 00 وهذا ما وعيته حين جئت 00 عندما وطئت قدمي أرض المطار بعد مغادرتي للطائرة صافحتني الوجوه السمراء والسوداء المغبشة وحرارة الجو مع سموم يشعل الدوامات الهوائية اللافحة هنا وهناك 00 هي حالة أعرفها جيداً ولم تفارق مخيلتي على الإطلاق، ولكني افتقدت فيمن جاء لاستقبال الطائرة تلك الابتسامة وأريحية الترحاب والمودة 00 أناس تظهر عليهم مظاهر الوظيفة العامة والمسؤولية والجدية التي في غير مكانها في حين أن الموقف في حالات استقبال الطائرات كما يبدو لي لا يتحمل غير الابتسامة الودودة وعبارة الحمد بسلامة الوصول 00 تذكرت في هذه اللحظات يوم مغادرتي في هجرتي الطويلة قبل سنوات كثيرة خلت كيف كان وداع المسئولين لنا ونحن في طريقنا إلى الطائرة حيث لم تمنعهم الوظيفة العامة ولا المسؤولية من أن يذوبوا مشاعر إنسانية لا تنال من هيبتهم ولا تمس مركزهم أو تقلل من احترامهم وإنما على العكس من ذلك كله إذ أضفت عليهم جلالاً ووقاراً واحتراماً لهم وللمراكز التي يشغلونها 00
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وقفنا في صفوف طويلة أمام دائرة الجوازات وظللنا نزحف ببطء في هذا السراط كأنه يوم الحشر00 وكنت أحمل أعداداً من الأكياس المليئة بالهدايا للأهل والأصدقاء كما هي عادتنا التي لا يمكن أن نتخلى عنها في جميع أسفارنا، فأرهقتني أيما إرهاق فتضاعف الإحساس بالتعب والملل والشعور بالضيق وعندما طال كرهت اليوم الذي جاء بي إلى هذا المكان 00 ولو ملكت قوة سحرية لقفلت راجعاً غير أسيف00 واصلت زحفي مع عدتي وعتادي حتى وصلت إلى شباك ضابط الجوازات وقد بلغ مني التعب مبلغه، فرميت الأكياس في ضيق بادٍ يعلن عن نفسه ويحكي عن حالتي فقدمت جوازي مع فورم المعلومات المملوء الفراغات بمحتويات الجواز المطلوبة 00 أخذ السيد الضابط ينظر إليَ محدقاً كأنه يتفحص مجرماً ثم ينظر ثانية إلى الصورة الملصقة بالجواز ثم يعيد الكرة مرات ومرات ويترك هذا الوضع الذي لا أجد له تفسيراً غير محاولة إثبات الذات والصلافة0 ويتصفح الجواز ويقارن المعلومات الموجودة فيه مع المعلومات التي دونتها في الفورم وعلى وجهه صرامة منفَرة تجعلك تتخذ موقفاً عدائياً منه كرد فعل لسلوكه الذي اختار أن يعامل به الناس 00 وذهب خيالي بعيداً لأقارن بينه وبين ضباط جوازات قابلتهم في أماكن شتى من أرض الله الواسعة فأجد الفارق المذهل بين من يصدمك بقسمات وجه مكفهر وآخر يأخذك إليه بتقاطع وجه ضاحك 00 وقلت في نفسي (هل من ضمن مهام هذا الضابط تعذيب القادمين إلى البلاد أم أن مهمته هي تسهيل أمورهم قدر ما يستطيع 00 فالأمر لا يحتاج لكل هذا الوقت الذي يأخذه مع كل من يقف أمامه) ومما لا شك فيه أنه شعر بضيقي وحالة الملل التي حرصت أن أشعره بها لكن كل ذلك لم يشفع لي في أن تحرك فيه نوازع الحرج بل تمادى وسألني: متى آخر مرة جئت فيها؟ لم أحضر منذ أن خرجت 00 أخذ جوازي وخرج تاركاً مكانه دون أن ينادي على من يحل محله لحين عودته 00 وغاب فترة وأنا والناس من خلفي ننتظر فتعاظم ضيقنا 00 وسمعت همهمات من طفحت روحه بغضب لم يعد قادراً على السيطرة في التستر عليه صابراً ومتحملاً 00 لابد أنه يلعني ويلعن الضابط واليوم الأغبر الذي وضعه في هذا الصف 00 ولكن أنا ما ذنبي، وأنا نفسي أعاني مثلهم جميعاً وربما أشد حنقاً 00 فترة كأنها الدهر ونحن في الانتظار الممل00 لعل كل واحد من هؤلاء الذين يقفون خلفي يتخوف من هذا المصير الذي يدل على أن شيئاً ما يقود ربما إلى اتهام معين 00 أو الشك في شخصه باعتباره شخصية معينة مطلوبة للعدالة أو القبض عليها00 انتابني قلق وخوف 00 فأنا أكره أي موقف أجدني مضطراً فيه للدفاع عن نفسي 00 وفيما أنا في هذه الحالة من الخوف والتوتر، تأخذني الظنون إلى أماكن بعيدة مجهولة ثم تعود بي وقد تقطعت أنفاسي في لهاث راكض، ظهر ضابط الجوازات في الطرف الآخر من الصالة المستطيلة وهو يحمل جوازي بيمناه ويخبط به فوق أعلى ركبته اليمنى كلما تحرك 00 وظل على هذا المنوال إلى أن وصل إلينا ودخل كبينته وجذب الباب خلفه بطريقة أحدثت دوياً تنبه على إثرها كل من كان غافلاً 00 ولم ينظر إليَّ أو يتحدث معي أو يسألني أي سؤال وإنما شرع في وضع خاتمه على صفحة يبدو أنه اختارها بعناية ثم سلمني جوازي فتنفست الصعداء 00 أخذت جوازي، وحملت متاعي من الأكياس التي حبست الدم في عروق أصابعي فأصابها اليباس وضعف الحركة، وخرجت مهرولاً كغريق لفظته أمواج النجاة بعيداً عن اليم إلى الشاطئ، فعادت إليه أنفاس الحياة تردُ إليه شيئاً فشيئاً هدوء نفسه وتماسكها00 وتحركت إلى صالة العفش وقد تحررت تماماً من حالة الخوف والهلع والتوتر وفي نفسي كثير من الفضول لأعرف ما دار من حديث حولي بين مسؤولي ضباط الجوازات وما هو سبب كل ذلك؟ وهل غيبتي الطويلة في الغربة هي التي أثارت الشكوك؟ لعل تلك الغرفة شهدت مناقشات ضد ومع وانتهت أخيراً إلى سلامة موقفي 00 تناولت عربة من عربات حمل العفش ذات خطاف وضعت فيه كل الأكياس التي نالت من أصابعي وأرهقتها بآلام حادة، فشعرت بالراحة 00 ونسيت ما حل بي من هواجس سوء الفهم مع ضابط الجوازات وانشغلت مع السير المتحرك وعليه متاع المسافرين بحثاً عن حقائبي الثلاث 00 أشعر بفرح غامر كلما وجدت واحدة منها إلى أن اكتمل عددها 00 وكنت حقيقة خائفاً من ضياعها أو تخلفها أو ضياع أو تخلف أي منها في مطار من المطارات التي مررت بها في هذه الرحلة 00 إنها حقائب كبيرة مليئة بالهدايا للأهل والأصدقاء وسأكون حزيناً إن ضاعت أو تخلف أي منها لأن ذلك سيحرم صاحب النصيب من سعادة غامرة، وسيحرمني أنا من لذة العطاء وأنا أشاهد الفرحة في عيون نال منها الحرمان زمناً طويلاً 00 أكملت وضع الحقائب الثلاث ذات الوزن المهول والحجم المفرط السعة على عربة العفش التي كانت معي فاحتوتها بصعوبة 00 وعندما دفعتها أمامي كانت حركتها أكثر صعوبة ولكن عجلاتها استدارت بشيء من الإصرار والقوة في الدفع والحذر من الوقوع إلى أن قادني الطريق المحدد بعناية إلى طاولة الجمرك، فوقفت أمام أحد ضباطه وقد أمر أحد العمال بمساعدتي في وضع عدتي وعتادي من حقائب وأكياس على تلك الطاولة المستطيلة التي يمكن أن تسع عدداً كثيراً من أمتعة السفر 00 استعداد كامل للبحث والتنقيب في متاع القادمين ونبش أعماقها بحثاً عن الممنوعات والإلكترونيات0 أمرني الضابط بفتحها وهو منكب على الأكياس يتخلل أعماقها بحذق ومهارة 00 وعندما لم يجد فيها ما يستحق اهتمامه علم عليها بلون برتقالي يدلل على خضوعها للفحص الجمركي 00 قلت مستجدياً: (داخل هذه الشنط هدايا عبارة عن ملابس وأحذية وأقمشة وثياب نسائية وبعض المواد الغذائية المعلبة وحلويات ولعب أطفال) نظر إليَ كأن خطابي لا يعنيه وقال: (أفتح الشنط) 00 قلت: (ما عندي مانع لكن ترتيبها وقفلها مرة أخرى صعب جداً، وقد لا تقفل) لم ينظر إلي هذه المرة وإنما تركني وذهب لغيري معلناً بسلوكه هذا أنه يرفض كل كلمة قلتها، فلم أجد أمامي غير الانصياع لأوامره.. ما هذا البلد الذي يعمل على تعذيب كل قادم إليه وبأساليب في إجراءات الأمـن والسلامة تجاوزتها بلاد الدنيا كبيرها وصغيرها.. وبلدان العالم الأول والثاني والثالث.. إنها إجراءات فضيحة ومنفَّرة بل طاردة لأهل البلد قبل زواره الأجانب.. فتحت الحقائب الثلاث وارتمت أغطيتها على الجانب الموازي لأرضياتها فنفرت أحشاؤها خارجة من بطونها على أطرافها الثلاثة والأغطية من الطرف الرابع لقواعدها.. وجاء الضابط الهمام وعملت يداه داخل كل حقيبة ما جعل عاليها سافلها.. وتسللت أصابعه إلى كل ركن والى كل زاوية فيها فامتلأت الطاولة بفيضان الحاجات التي كانت في بطون تلك الحقائب فانتابني إحساس أن هذا السلوك تجاوز تأدية الواجب إلى أغراض قصد منها التعذيب وربما الإهانة.. وقفت صامتاً أتابع ما يجري وهمي كله منصب في كيفية إعادة ترتيب هذه الحقائب فاعتلاني اليأس.. وأقسمت بيني وبين نفسي أَلا أعود ثانية ومهما كانت الأسباب.. عدت إلى حقائبي متثاقل الخطى وقد استبد بي الإحباط أحاول إعادة ترتيب الحاجات في أمكنتها داخل الشنط وقد أضناني هذا العمل ولولا تدخل الخيرين الذين ربما شاهدوا ما فعله ضابط الجمارك معي فأشفقوا على حالي وهرعوا لنجدتي لما استطعت قفل هذه الحقائب الكبيرة المانعة مرة أخرى.. ترى ماذا ينتظرني خارج هذا المبنى وفي الدنيا الفسيحة وقد عانيت في هذه الساعات القليلة كل هذه المعاناة؟! إنني كثير الأسفار في بلاد الله الواسعة فلم تصادفني حالة واحدة مما لاقيت الآن.. الحياة هناك تنساب سهلة بلا تعقيد تحترم فيها إنسانية الإنسان.. وهنا الحياة صعبة كلها تعقيد وتهان فيها كرامة الإنسان بإجراءات بالغة الصرامة موغلة في التخلف..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
خرجت خارج المطار وهمي كله مركز في سرعة سفري إلى مدينة عطبره.. قابلني أحد أقاربي وأصر على ذهابي معه إلى بيته فرفضت شاكراً كرمه وأريحيته واستأذنته بقبول عذري في أن أذهب إلى فندق يسهل معه سفري لمدينة عطبره سريعاً.. استغربت حين قال لي لا توجد طائرة لعطبره فقد توقفت، كما أن القطار لم يعد كما كنت قد ألفته وبالتالي لا يوجد أمامي غير السفر بالباصات.. وقال (لا تخف الطريق مسفلت حتى عطبره والباصات مريحة (ومكندشة) فالطريق المعبدة اختصرت الوقت في حدود الثلاث ساعات.. وهي كما ترى أسرع من الاكسبريس).. ودعت قريبي ولساني يلهج بالشكر والعرفان ولاحظت أنه قبل عذري على مضض وقال: (بعد السنوات الطويلة هذه ما كان يجدر أن يكون فراقنا سريعاً وإنما على الأقل كنت قضيت الليلة معي) شكرته ثانية ومضيت.. ذهبت لفندق أعرفه جيداً فكم كانت سهراتنا فيه مترعة بالبهجة والمسرة.. طلبت من إدارة الفندق حفظ متاعي في المخزن فأنا أريد ليلة واحدة وبعدها في الصباح الباكر سأغادر الفندق وسألتهم إن كان في الإمكان تجهيز عربية لي تقلني لموقف باصات عطبره، فأجابوني بإمكانية ذلك.. ودخلت الغرفة وخلعت ملابسي ورحت في نوم عميق بعد سفر طويل وتعب وإرهاق بدني ونفسي في المطار.. وقبل الفجر بقليل صحوت وقد استعدت نشاطي واستقرار حالتي النفسية وبدأت أعد حالي لسفر بالطريق البري ما كنت قد عهدته من قبل بالعربات..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
(2) وصلت موقف الباصات ودلني بعض الناس على الشركة ذات العربات الجديدة والممتازة (إنها كالطائرة) قال أحدهم، فذهبت إليها، وعندما سالت عن تذكرة علمت أن التذاكر (خلصت) فقد بيعت جميعها فانتابني ضيق من حظي العاثر.. فتذاكر هذه الشركة تحجز قبل يوم أو يومين من السفر.. اتجه بصري نحو نداءات بعض (كماسرة) الباصات الأخرى الأقل جدة وجودة، وحين هممت بالذهاب إليها لأركب في واحد منها (فأنا لا أرغب في التأخير وحنيني إلى عطبره صار مارداً يأخذ بتلابيب نفسي) جاء فتىً مسرعاً طالباً إعادة تذكرة له أو لأحد أقاربه أو أصدقائه فانفرجت أسارير (البياع) ونادى عليَ منبهاً (خلاص فرجت أدفع له قيمتها).. ارتاحت أعماقي وقلت في نفسي أي حظ هذا الذي نزل عليَ من السماء لعل الله قدر لهفتي وحنيني فاستجاب لدعائي بتسهيل أمري.. لعل حياة الناس في هذا البلد قد تحولت إلى حالات دائمة من الحرمان والمشقة، وما تجد شيئاً بسيطاً ما كان يتصور فيه حرمان أو مشقة حتى يشعر المرء بسعادة غامرة.. كنت محظوظاً حين وجدت مقعداً في منتصف هذا البص الجديد الممتاز، وأخذت مكاني حيث رقم التذكرة.. المقاعد وثيرة ومريحة، تصطف على طول البص في خطين متوازين، كل خط منهما يتكون من عدة مقاعد يتلاصق فيها كل مقعدين معاً من الأمام حتى مؤخرة البص حيث يوجد صف أخير عرضي من ستة مقاعد.. والمسافة بين كل مقعدين معقولة حيث تأخذ الأرجل راحتها سواء بالتمديد أو بالوضع على (شيالات) في أسفل كل مقعد أمامي لرفع الرجلين بطريقة مريحة.. كما إن المقعد كمقعد الطائرة يمكن أن تتراجع قائمته إلى الخلف لتساعد على النوم والاسترخاء ذلك فضلاً عن طاولة صغيرة في المقعد الأمامي تساعد على تناول الوجبات أو الكتابة.. وضع مماثل للطائرة تماماً.. هذا إلى جانب تلفزيون في أعلى مقدمة البص وفي وسطه.. شعرت براحة بالغة. لابد أنها ستكون رحلة بلا متاعب خاصة عندما تأكدت أن حقائبي الثلاث قد وضعت في مكان الحقائب الجانبي للبص بشكل مأمون ومحكم، أما الأكياس فقد أخذتها معي إلى داخــل البص ووضعتها في الرف الذي يعلو مقعدي تماماً فانتعشت نفسي.. أخذت أرقب الركاب فرداً فرداً.. من كان موجوداً قبل حضوري ومن جاء بعد أن أخذت مكاني في البص.. امرأة مترهلة في الخمسين من عمرها تدخل من باب البص الأمامي وفي يدها (بقجه) من الملابس وهي تتصبب عرقاً في هذا الصباح الباكر وفي ملامحها حزن غامض وتدعو الله في حركة طلوعها درجة البص وهي تعلو من الأرض إلى داخله، وحتى جلست في مقعدها وهي تخطو ببطء على جانبها لضيق المدخل والممر مقارنة بجسمها.. رجل بعمامة كبيرة متسخة بعض الشيء يجلس على المقعد الأول الأمامي وقد استدار إلى الوراء يتفحص في الركاب الجالس منهم والداخل أو الخارج كأنه يبحث عن شخص تاه عنه.. في نظراته فضول أبله.. ساق ملفوفة ممتلئة وقدم لها كعب مستدير في تناسق، عليها نقش حناء أبنوسية اللون، رسمت على بشرة قمحية فاتحة السمرة لامرأة انحسر ثوبها عن هذه الساق المتوردة دون أن تأخذ بالها بما تحدثه ساقها في نفوس الرجال مهما بلغت من وقار، فأحيا هذا المنظر في ذاتي ذكرى قديمة تداعت من أعماق الأعماق كنت قد ظننت أنها قد تلاشت ضمن أشياء كثيرة جميلة طواها النسيان فإذا هي ذات جذوة متقدة في تلافيف اللاوعي تهب قوية كالإعصار، فانجذبت إلى ذلك الماضي أعايشه بأحاسيس متضاربة بحلوها ومرها وقد أنعشت ذاكرتي فتمنيت أن تبقى هذه الساق كما هي حتى نهاية الرحلة.. شدني صياح في الخارج لا تفهم منه شيئاً لكنه يأخذك لمتابعته وانتهى بامرأة تبكي وتندب حظها وشاب يهدد باستدعاء البوليس وآخر يدفع عنه ذلك الشاب ويخلص ثيابه منه ثم ينطلق فارداً رجليه للريح فيجري خلفه من تطوع في شهامة للنجدة فانتبه من في البص إلى أن السائق قد أخذ مقعده وأعلن عن بدء تحرك البص في ساعته المحددة.. وعندما أعدت نظري بحثاً عن الساق المتوردة لم أجدها لأن صاحبتها قد عدلت من جلستها عندما عادت إلى مقعدها حينما كانت تتابع ما كان يجري من معركة في الخارج، فشعرت كأن الماضي الذي عاد إلي في تلك اللحظة قد تلاشى وذاب كما الحلم..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وتحرك البص وئيداً متمهلاً في سيره والكل مشدود إلى مقعده إما ينظر أمامه أو يتابع من خلال نوافذ البص يميناً أو يساراً، في حين أخذت أنا أتفحص في هذه الوجوه السمراء التي غبت عنها زمناً طويلاً في بلاد الله أتنقل من مكان إلى مكان وأقابل أناساً لهم سحنات ريانه مليئة بالحياة المتدفقة فأخذت دون ترتيب أقارن بين أولئك الناس وهؤلاء الذين أراهم في هذا البص فأحس بفارق كبير بين من يصنع الحياة وعمارتها وبين من يقف على هامشها متفرجاً بلا دور يذكر فأحس بألم يعتصر قلبي.. هذه الوجوه الصامتة الضامرة متى تعي أن وجودها أعظم من أن تقف متفرجة من مولدها وحتى مماتها دون أن يكون لها دور.. أنظر إلى ذلك الرجل ذي العمامة الكبيرة المتسخة مع نظراته الفضولية البلهاء فاحس أن الزمن عند أمثاله لا يعني شيئاً ذا بال وإنما يستهلك في التحديق في الناس وملاحقتهم بعيون متطفلة وبعقل خاو ووجدان أكثر خواءً فلا يعي معنى لحياته.. جاءها جاهلاً وسيخرج منها فارغ الفؤاد.. انتظم البص في سرعته وزاد منها بعد أن خرج من الخرطوم بحري وأخذ الطريق العام.. اهتزازاته الخفيفة الرتيبة بدت كأنها تهدهد النفوس وتدفعك للظن بأنها قد غفيت لولا حركة الرؤوس والأيادي.. لاحظت أن الركاب كلهم ساهمون في دنيا ذواتهم لا يتكلمون مع بعضهم.. حتى أولئك الذين ظننت أن لهم علاقة ما تربطهم لا أجدهم يتحدثون معاً.. فهذا الجفاء لم أكن أعهده في هؤلاء الناس الذين لا يجدون دفء الحياة إلا في بعضهم.. لعل هذا ما افتقدته في الغربة فعدت أنشده في هؤلاء البشر البسطاء ولكن البص رغم سرعته المريحة وجوه الاصطناعي البارد الذي يتناقض تماما مع جو الخارج اللافح إلا أن ذلك لم يعد مستساغاً عندي.. فأحسست بالملل.. وسرحت الذاكرة في أيام مضت من أيام السكة حديد وعنفوانها وقطاراتها التي كانت تجوب البلاد طولاً وعرضاً.. وتذكرت (الاكسبرس) ثم (مشترك) بور تسودان وكريمة وزحمة الناس في هذه القطارات.. تبدأ القصة بعراك في درجات القطار الثانية والثالثة والرابعة بل بعضها قد يكون أحياناً في الأولى والنوم.. وينتهي هذا العراك إلى نوع من التسوية الودية في قبول الأخر بطريقة غير مباشرة وفيها الكثير من الصبر واللامبالاة وتجاوز المخالفات في الحالات التي كان يجب أن يتم فيه الحجز.. ثم يتحرك القطار وتبدأ النفوس في الهدوء ثم الانشراح ثم (الونسة) والضحكات العالية وينتهي الأمر بالمشاركة في تناول وجبات الفطور والغداء والعشاء من (الزوادات) التي في الكراتين فتكفي الكل مهما كان العدد.. وتنشأ مودة وحميمية بين الركاب.. ويعالجون طول المسافات بدفء المشاركة فيصبح السفر بالقطار ممتعاً.. أما هذا البص فرغم راحته وسرعته إلا أن المسافة التي قطعها في زمن وجيز كانت مملة خالية من دفء وجداني خلقته قطارات السكة حديد يوماً.. تجاوزنا محطات ومحطات أعرفها جميعاً.. فهي كما هي لم يتغير فيها شيء ولم يلحقها التطور وإنما على العكس تراجعت إلى الوراء واضمحلت وباتت خاوية حتى من الكلاب الضالة.. أشجار النيم الضخمة اليانعة ماتت يبس عودها وتساقطت أطرافها وتحجرت سيقانها. (القطاطي) ذات الطابع المميز نال منها الزمن والإهمال، فتهدمت من أعلى ومن أسفل ووقفت شاهدة على فشل حاضرها ونجاح ماضيها.. أشعر بحنين إلى ذلك الماضي وأنا على باب إحدى عربات القطار أو أطل من إحدى شبابيكها فارداً وجهي وصدري لريح مليء بالغبار يشتد كلما اشتد القطار في سرعته فأجد متعة بالغة وقد تغبر وجهي ورأسي وصدري وملابسي, ولا يهم لعل هذا كان جزءاً من متعة السفر بالقطار.. وعندما يتحرك القطار من الدامر متجهاً إلى عطبره أظل مسمراً في سلم العربة جسمي كله خارجها لأرى شركة الأسمنت وهي تتوسد منتصف المسافة بين عطبره والدامر.. ورغم أن منظر شركة أسمنت عطبره قد شاهدته آلاف المرات إلا أنه كان يبعث في مشاعر مليئة بالشوق والحنين إلى هذا المكان وإلى مدينة عطبره التي صارت على الأبواب وبدأ صهريج الماء الأسمنتي في تلك الربوة العالية جنوب الفكي مدني يعانق الأفق إعلاناً بأن عطبره قاب قوسين أو أدنى.. وما هي إلا دقائق معدودة حتى يدخل بنا القطار كوبري نهر عطبره فنفقد الحاجة لمتابعة الصهريج الأسمنتي جنوب حلة الفكي مدني.. ولهذا الصهريج قصة سمعتها من أحد كبار موظفي حسابات السكة حديد. قال لي هذا الصديق إن هذا الصهريج بناه مهندس مصري دخل في تحد مع مهندسين إنجليز اعترضوا على فكرته في أن الصهريج لا يمكن تشييده من الأسمنت والخرسانة وإنما من الحديد الصلب فقط ولكنه ناقش مقومات اعتراضهم ودلل على خطئها بمنطق نال استحسان الرؤساء الإنجليز فمنحوه فرصة إقامة مشروعه فكان هذا الصهريج العملاق الذي عن طريقه انتهت طلمبات الأبيار من عطبره وحلت محلها مواسير المياه في وقت كانت فيه كثير من الحواضر لا تعرفها..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
شعرت أن البص أتخذ طريقاً لا يقود إلى كوبري نهر عطبره الذي أعرفه وإنما رأيته يتجه نحو قرية العكد على نهر عطبره من جهة الشرق حيث عبر النهر فوق كوبري جديد من الأسمنت والخرسانة المسلحة ثم يدخل مدينة عطبره من جهة الشرق على طريق مسفلته.. وعند عبور البص لهذا الكبري الجديد أمتد بصري جهة الغرب على نهر عطبره لأرى كوبري السكة الحديد العتيد الذي كان معبرنا الوحيد لمدينة عطبره يقف حزيناً شبه مهجور إلا من حركة قطارات قلت وتضاءلت وبعض عربات لا يزال أصحابها يحفظون له بعض الود، فقلت في نفسي (أننا أمة من الجاحدين دمرنا مرفقاً كان مديره أكبر من مدير المديرية).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
(3) - عطبره أم دالات.. - عطبره والورشة بانت كم أياد فيك صانت.. - عطبره مدينة الحديد والنار.. - عطبره مرقد الشهيد صلاح القرشي.. - عطبره التي علمت السودان العمل النقابي ولفتت الأنظار إلى أهميته وجبروته في النضال والمقاومة.. - عطبره... وعطبره... هذه المدينة التي تماثل الخرطوم في توسدها لموقع بين نهرين, جئتها اللحظة بعد غيبة طويلة لم تفارقني خلالها وإنما كانت تلبد في مكان ما من عمق الأعماق.. وعندما هممت في غربتي جاداً في العودة تحركت واهتزت من مرقدها لتقول لي بأنها لا تزال شوقاً وحنيناً يتجاوز النسيان وكرور الأيام والأزمان.. توقف البص في مكانه المخصص، ونزلت منه لأجد أخوتي وبعض أهلي في انتظاري.. عناق يساوي زمن الهجرة والغربة طولاً وعرضاً.. زماناً ومكاناً.. لهفة السنين التي لم تجد غير دمع سكيب يروي حرمانها الظامئ.. ها أنت يا عطبره كما عهدتك دوماً من البدايات الأولى أجد فيك الدفء والقلب الحاني.. صقيع الغربة الطويلة في بلاد الصقيع والمدن التي هي بلا قلب يتلاشى شيئاً فشيئاً في كل خطوة أخطوها إلي عمق المدينة إلى بيتنا الذي، والذي، والذي كما أهله قد أشرأب لعناقي.. توقف سيل العربات أمام منزلنا الذي حين رأيته تذكرت أبي وأمي وأخي الذي يصغرني رحمهم الله جميعاً فقد ماتوا وأنا في الغربة أجوب أرض الله الواسعة لا يهدأ لي بال.. بكيت بكاء حاراً لم آلف صدقه من قبل. وتحول بيتنا إلى مأتم كأن حالة البكاء على أبي وأمي وأخي قد فتحت من جديد. وأنخرط الكل في نحيب ونواح، أختلط الفرح باللقاء بحالة الحزن على الفراق والنوى.. أنها الدموع الهاطلة في الفرح والترح.. خليط العواطف التي تتداخل وتتشابك فتجعل الدمعة قريبة كأن صدق المشهد لا يتم إلا بها.. أخذتني أختي في عناق طـويل باكٍ تمايلت بي ذات اليمين وذات اليسار وأنا أبادلها بهذا الاحتواء المفعم بحرارة الشوق المتراكم فشلت فيه كل المساعي لإبعادنا عن بعضنا إلا بعد ما انهارت قوانا.. جاء بقية الأهل والجيران والأصدقاء والمعارف وأخذوا يهدئون من هذه الحالة الهستيرية الجياشة بالعاطفة.. (استغفروا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وحدوا الله) هذا السيل من عبارات التهدئة والترطيب ظلت تنهال علينا بإخلاص حقيقي وبلا توقف أو يأس حتى هدأنا جميعاً وعلى مراحل متفاوتة.. وقف خالي عميد الأسرة وأكثر الناس احتراماً وهيبة وسط الدار، ولم أره باكياً طوال عمري إلا في هذه اللحظات وقال (الحمد لله الذي مد في عمري لأراك ثانية وكنت قد فقدت الأمل) وسلم عليً من جديد معانقاً وهكذا فعل الآخرون رجالاً ونساءً وأطفالا.. عرفت الكثير منهم وتاه عني البعض أما الأطفال والصبية والشباب فلم أعرف منهم أحداً.. فهم أجيال ولدت بعد هجرتي وخلال غربتي.. وكانت الأسئلة عنهم مثار تندر وفكاهة مازحة.. واستمر بيتنا قبلة لأهل المدينة في ذلك اليوم الذي جئت فيه.. فذبحت الذبائح وأكرم الزوار جميعاً غداء وعشاء.. واستمر اللقاء طوال الليل أتذكر مع الأصفياء من الأهل والأصدقاء ذلك الذي مضى حتى غلبنا النوم ونحن نحتضن الذكريات..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
في اليوم التالي لحضوري أخبرت أختي بما في الحقائب الثلاث والأكياس من أشياء وهدايا للأهل والأحباب وطلبت منها أن تتصرف في توزيعها بمعرفتها.. فهي التي تعرف الناس وحاجتهم ومن جاملهم ومن له عليهم جميل.. وخلال حديثي معها سمعت صوتاً أعرف نبرته تماماً ينادي بالسلام وهو ما يزال بالخارج.. فهرعت أختي إلى مصدر الصوت وهي تقول (الحاجة ست البنات) ثم جاءت بها إليً وعليها ابتسامة تسع الدنيا بقدومي.. رأيت الحاجة ست البنات مع أختي وهي قادمة نحوي فشعرت أنها أكثر شباباً من أختي رغم أنها في سن والدتها.. لا تزال الحاجة ست البنات بها مسحة من الجمال لا تخطئه العين رغم سنوات العمر الطويلة التي تحملها على ظهرها.. طويلة فارعة ذات جسم جميل متماسك لم تنل منه السنون كما فعلت بمن هن أندادها ولم تهدها حالات الحمل كما فعلت بمن هن ولاَّدات مثلها.. عُرفت في صباها وشبابها بالجمال الأخاذ الذي تغنى به شعراء الشايقية فناً جميلاً خلدها باسمها وبرقصاتها التي كانت تفعل في الرجال العجب فيتسابقون في حلبة الرقص بالتصفيق الذي كان يدمي الأكف وبالحنحنة التي تصادر أصوات الحناجر.. رأيتها مرة ترقص وهي في الأربعينات كمهر جفول لا يلجمها لجام فأرهقت كل من حاول مجاراتها.. قوية، بشوشة، ضاحكة، لاذعة عند ما يفارق الكلم موضعه، لا تعرف المداراة أو الحرج والخجل عندما لا يعجبها الموقف أياً كان، فترد عليه في لحظتها ثم تمضي وقد صفا قلبها، لا تعرف حقداً أو انتقاماً أو تجاوزاً لما هو مستحق لها.. عُرفت بالشجاعة وطول اللسان، ولكنها مجاملة لا تتأخر عن الواجب.. في أعماقها امرأة متدينة فذهبت إلى الحج عدة مرات، وزارت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مرات ومرات وأطالت الإقامة في المدينة المنورة.. كما أطالت الإقامة مع ابنها المغترب في جده لشهور طويلة.. ويحكى عنها أنها في إحدى فترات تواجدها في جده مع ابنها ذهبت إلى سوق الذهب والملابس في باب شريف وكان مكاناً محبباً إليها فتطيل النظر في الفترينات والمحلات المزينة بالنيون والمعروضات التي تخلب الألباب فنسيت نفسها وهي تتحرك من مكان إلى آخر، فتعثرت وكادت تسقط أرضا لولا أن يد ابنها كانت أسرع فالتقطها من السقوط، وأصابها الذعر والخوف فقالت: (يا سيدي الحسن).. نظر إليها ابنها بعد أن استقامت وقال لها هامساً: (سيدي الحسن في السودان.. ومثل هذا الكلام لا ينفع في هذا البلد،, هنا الدعاء لله عز وجل ولا يذكر إلا اسم الله.. ولو سمعك أحد المطاوعة لقبض عليك وربما ضربك) انتبهت لهمس ابنها وقالت (ونعم بالله).. ولكن كلام ابنها الهامس لم يعجبها ولم يدخل تلافيف عقلها.. من هذا الذي يستطيع أن يضربها؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
ومن هو هذا الذي لا يعرف (سيدي الحسن) أو لا يؤمن به؟! هذه المفاهيم التي تربت عليها وكونت جزءاً كبيراً من موروثها ومعتقداتها القائمة على التصالح والتسامح واختلاط العادات والتقاليد بالدين في منظومة واحدة لا تعرف الحدود الفاصلة والقاطعة بين التحريم والتحليل، هل يمكن أن تُلغى وتٌشطب بمثل هذه البساطة التي تصادر تراكم قناعات هي والوجود شيء واحد؟! فأحست أن عزتها قد مست، ومعتقداتها قد أٌهينت، فغضبت أيما غضب، وفقدت سيطرتها على نفسها، فرفعت أصبعها الوسطى من يمناها إلى أعلى وقالت (اللي أكبر من سيدي الحسن يركب هنا) وهي تحرك أصبعها الوسطى حركة معينة بما يفيد رفضها وامتعاضها واحتقارها.. هرعت إليّ الحاجة ست البنات وحضنتني بحرارة وحنان ولسانها يلهج بأحلى الكلام وأعذبه.. فارتحت على صدرها وخياشيمي مليئة بتلك الرائحة العاطرة ذات الأثر المسكن لأي توتر نفسي.. رائحة من إحدى عطورها البلدية التي تجيد خلطتها.. هذه السيدة جميلة في كل شيء مميزة وفريدة ذات طعم خاص بها فتمنيت أن أنام على صدرها الحاني كطفل عاد إلى حضن أمه بعد أن تاه عنه زمناً طويلاً.. تلك لحظات أعرفها ولا أنساها.. آخذتني الحاجة ست البنات من يدي وهي تضغط عليها بكل دفء المودة والحنو.. أجلستني إلى جوارها، وأخذت تسألني عن غربتي وهجرتي وتجوالي في بلاد الله الواسعة غربها وشرقها.. والعجيب إنها لا تنتظر مني جواباً وإنما يختلط سؤالها بحديثها عن ماضٍ أصبح هو زاد حياتنا جميعاً، وكأني بها في هذا الحديث ترثي ذواتنا دون قصد منها.. تصدر عنها آهة عميقة من زفرة كأنها تخرج كل أنفاسها.. أيام خلت (يا ود أمي) ولن تعود ولن تتكرر.. حديثهـا أعاد إليّ طيف أبي وأمي وأخي رحمهم الله.. فقدتهم في هجرتي الواحد تلو الآخر.. وتحققت نبوءة أمي (سنموت كلنا وأنت بعيد ولن تدفنا) فيض دافق من الذكريات الحزينة، فهربت دمعة عنيدة حرى من عيني فضحت انهياري، ولكني تمالكت نفسي وداريت ضعفي كأنني أتشاغل بشيء ما.. لم تلاحظ أختي ما اعتراني وإلا لتحولت اللحظة إلى حالة من البكاء كيوم أمس فحمدت الله.. أخذت الحاجة ست البنات من يدها ودخلت بها إلى الغرفة التي وضعت فيها الحقائب والأكياس لعلها تريد أن تطلعها على الأشياء التي جئت بها.. التفاخر والتباهي ربما خصلة غير حميدة فينا.. اغتراب الأبناء والأزواج والأخوان خلق نوعاً من التمايز الطبقي فأصبحت الحياة لا تطاق إلا به، فصار هدفاً في حد ذاته وليس وسيلة مؤقتة للتكسب.. أعرف أعداداً كبيرة هاجرت ولم تجد الاغتراب كما تظن فعاشت حياة مذلة مهينة ولم يفكر الواحد فيهم في العودة.. مذلة على مذلة ومهانة على مهانة فالأفضل أن تكون في بلدك.. مآسي كثيرة عاشها المغتربون.. وبعضهم دخل السجون وما كان أن يحدث عليه هذا لو كان في بلده.. جاءت الحاجة ست البنات مع أختي من داخل الغرفة وهي تحمل شيئاً في كيس واضحاً منه أن أختي أهدتها شيئاً من الأشياء التي جئت بها.. نظرت إلي الحاجة ست البنات ممتنة وعليها ابتسامتها الجميلة التي تبعث في النفس أحلى المشاعر (شكراً يا ود أمي ما كان في داعي للتعب) هذه العبارات الطيبات جاءت من ذات سيده كل ما فيها يشعرك بأحلى ما تجود به الدنيا.. إنها عبارات تصدر عن نفس طيبة متوازنة متصالحة مع كل شيء حولها.. فشكرها للمجاملة فقط فهي غير محتاجة ولا تمثل لها هذه الهدية شيئاً.. فدنيا أبنائها المغتربين في دول الخليج ظللتها بغيمات نعيم الاغتراب، وجادت عليها برغد من العيش.. ومن عطاء الله أعطت براً وإحسانا، دون منٍ وفي صمت وتكتم دون أن يعرف أحد.. كثير من الأسر اعتمدت على عطائها وهي تعلم يقيناً أن سرها في بئر بلا قرار قاعه لن يرى العلن.. وتعلم يقيناً أيضاً أن كرامتها الإنسانية مُصانة ولن تُجرح أو تُحرج بأي حال من الأحوال.. كل شيء تستعرضه في الحاجة ست البنات تراه يفوق الوصف من جمال الهيئة والشكل إلى جمال الروح والخلق إلى الاعتداد بشموخ الذات بلا غرور أجوف أو تعال بلا عمد..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
بدأ دارنا يستقبل زواره من جديد.. الأهل والجيران والمعارف وأصدقاء الأسرة.. وشعرت أن الجفاف الذي رأيته في أختي يوم أمس قد تلاشى شيئاً فشيئاً من بداية زيارة الحاجة ست البنات إلينا متقدمة الجميع وحتى حضور هذا الحشد الذي تقاطر على دارنا فرداً فرداً.. فبدت لي ريانة الوجه كثيرة الحركة والابتسام والضحك كريمة تهدي الكل (هذا من أخي.. هدية أخي) فأرى الإشراق على وجوه زوارنا والسنتهم تكثر الثناء والشكر.. ولأول مرة أحس بلذة العطاء.. ودفء الندى.. وخلال هذا المهرجان الذي أدارته أختي بمهارة فائقة جاء أصغر أخوالي وهو في سني.. يقال أننا ولدنا في أسبوع واحد فأخذته بعد أن فطرنا وشربنا الشاي إلى خارج الدار وركبنا سيارته (البوكس) وتحركنا في مشوارنا الذي اتفقنا عليه يوم أمس.. عطبره.. شوارعك هي هي, لم تصلها يد الإصلاح أو الصيانة والمباني هي ذاتها من الطين أو الطوب الأحمر فوضع الزمن عليها بصمته كمــا وضعها على البشر.. تداعت الحيطان والأسوار وطفحت مادة دهنية على وفي جدران (الادبخانات) وقاعدتها الأسمنتية فأحدثت تلفاً ظاهراً.. وضيق ذات اليد ترك الأمر للقدر يفعل بالناس وأشيائهم ما يريد.. السينما الوطنية (برفس سابقاً) هي ذاتها كما هي. طافت بي ذكريات عن سيدهم وأخوته وأخواته، وتداخل الأقباط معنا في الأفراح والاتراح واختلاطنا بهم في أفراحهم السعيدة وملماتهم الحزينة.. وتذكرت المنافسة بين سينما برفس وسينما عطبره الجديدة كأنها مباريات في كرة القدم والخواجة جون مالك سينما عطبره الجديدة وأجزخانة غردون، وكيف انتهى به الحال إلى زواج أخت سيدهم فضاع التنافس المثير بين السينماتين.. فقدنا لحظات من متعة المعارك الدعائية حول الأفلام المعروضة.. وأخيراً انتهى الحال بانتقال ثروة أملاك الخواجة جون إلى أسرة سيدهم بوفاته.. موقف التاكسي وغربة سوق الخضار و(زنكي) اللحمة والمطاعم ودكاكين الجملة والقطاعي.. اختفت الأسماء الكبيرة الشهيرة وبقى ما هو بالأطلال أشبه.. وقف خالي عند بائع سجائر يعرض بضاعته في العراء على طاولة صغيرة بها نوع وحيد من السجائر المحلية الرخيصة فاشترى علبة (برنجي) ولفت نظري أن بائع السجائر يعرض بضاعته أمام مطعم أذكره جيداً.. مطعم الفول الشهير لعم مصلح اليماني.. لم يبق منه غير بقايا باب خشبي مهتريء وحيطان بالية.. كان عم مصلح اليماني يقف خلف (قدرة) الفول بجلبابه الناصع البياض وشاله المذهب الذي يلفه حول رأسه بعناية فائقة ويستقبل زبائنه من ساعات الصباح الباكرة وحتى قرب الظهيرة ثم مساءً من قبل مغيب الشمس وحتى ساعات متأخرة من الليل.. دنيا مليئة بالحركة وعامرة بالنفوس الراضية المطمئنة.. لا أدري كيف أنتهي الحال بعم مصلح اليماني هل عاد إلى اليمن؟ أحي هو أم ميت؟ سألت خالي عنه قال أنه لا يعرف لكن أبنه محمد سكن الخرطوم منذ فترة طويلة.. ولا يعرف عنه شيئاً الآن لكن أملاك والده العقارية لا تزال باسمه في تسجيلات الأراضي.. محطة السكة حديد هي أيضاً كما هي وكما ألفتها منذ سنوات طويلة و لكنها خاوية من القطارات التي تقف على جانبي المحطة أو القادمة إليها أو المتحركة منها مع حركة (المناورات) الكثيرة التي كانت تجوب القضبان التي تعج بها المحطة ذاهبة إلى الورش أو قادمة منها.. ماتت الحركة إلا من قطار أو اثنين في حركة سير متهالكة.. الورش والعمال بقايا حياة كانت حافلة.. المرفق الشريان صار ضحية حكام آخر الزمان.. ونسمع أنه سيتخصخص.. ولا أدري كيف يتحول الجبروت إلى معاداة مرفق عام وإلى معاداة مدينة؟! توقف خالي أمام الجامع الكبير لآري (فضاية المولد) قد وزعت إلى قطع قامت عليها بعض الدكاكين وأسوار حيشان متعددة.. هذه الساحة الكبيرة التي كانت مرتعاً للذكر النبوي الشريف والليالي السياسية المتعددة والمتنوعة قد لحقها تغير الحال كما لحق غيرها.. وأذكر كيف كانت هذه الساحة في ليالي المولد الشريف عامرة بالوجد الصوفي الذي يغسل النفوس من أدرانها.. وكيف هذه الساحة كانت مدرسة نقابية وسياسية تعلمنا فيها ونحن في سن مبكرة جداً معاني الاستعمار والنقابة والحزب والوطن والنضال والمقاومة فنضجت عقولنا بمفاهيم ودلالات صارت هي زاد وعينا السياسي والاجتماعي.. ومنحتنا القدرة على الحوار وتفسير الوقائع والظواهر.. وقد تجلى لي ذلك ونحن طلبة في الجامعة.. كيف كان وعينا يسبق وعي الكثير من أقراننا.. كل ما في المدينة أصبح ماضياً يرقد في مكان ما من الذاكرة.. هذه الساحة كانت جامعة شعبية تلتقي فيها الأفكار وتتلاقح.. وقف فيها إبراهيم حسن المحلاوي وهو بملامحه المصرية وقامته المربوعة وهيئته التي تميل إلى البدانة وطربوشه الأحمر يتحدث عن وحدة وادي النيل وبرنامج الحزب الوطني الاتحادي وثروات البلاد العظيمة والمعادن التي في باطن الأرض.. كان أول سوداني يشغل وظيفة كبيرة في إدارة عموم السكة حديد.. الدرجة (F) وكان يفخر بأنه يعرف لغات أجنبية عدة.. ناضل ضد الإنجليز وعارض الجمعية التشريعية وتحدث طويلاً عن مذبحة النادي الأهلي التي مات فيها عدد من الشباب منهم واحد من قرى أهلنا في الشمال.. كنا نحن صبية نتعمد ملاقاته ونهتف (عاش المحلاوي) فكان يبتسم لنا ويخلع طربوشه وينحني قائلاً (عاش شباب الوادي).. وكنا نحس بسعادة غامرة لهذا الاحترام الذي نجده من هذا الرجل الذي مثل عطبره في أول برلمان.. عرفت هذه الساحة قاسم أمين المناضل النقابي المعروف والسياسي المحنك بقامته الطويلة الفارعة وسحنته الداكنة السمرة وبنطاله الجبردين وصوته العميق الذي يخاطب العقل والفؤاد معاً فلا تكف الأيادي عن التصفيق (أيها المواطنون أحييكم أطيب تحية) ثم يرتجل حديثه وهو يضع كلتا يديه في جيبي بنطاله الجبردين ويكون دوما آخر المتحدثين وغالباً ما تنتهي الليلة السياسية أو العمالية بمظاهرة تجوب شوارع عطبره نكون نحن في وسطها ونردد ألفاظاً وعبارات لا نعرف معناها ولكننا نحفظها عن ظهر قلب ثم نعيد ذكرها لبعضنا البعض وندعي بطولات زائفة لكنها كانت تترسب في وجداننا لتصبح وعياً سياسياً ناضجاً مع الزمن.. كان قاسم أمين صديقاً لوالدي عملا معاً في ورشة واحدة.. وكان أبي يحبه ويرى فيه نموذجاً للإخلاص ونكران الذات وحب الخير للناس.. وكان أبي والكثرة الغالبة يعطونه أصواتهم في الانتخابات النقابية.. وعندما جاءت الانتخابات البرلمانية نزل قاسم أمين كممثل للجبهة المعادية للاستعمار.. وجاء ذات يوم أبي حزيناً وقال السيد علي الميرغني لا يرشح قاسم أمين وأنا مضطر لأن أسمع كلام السيد.. وقال هذا بشجاعة لقاسم أمين فلم يغضب منه ولكنه نظر إليه بود وصافحه ضاحكاً فكبر في نظر أبي.. وعندما حكى أبي هذه الواقعة استغربت في عدم ترشيح السيد لقاسم أمين. هذا الرجل الذي فصل عن عمله من أجل العمال وظل يناضل من أجلهم.. وكان عقلي الصغير وقتها لا يعي الاختلاف بين الأحزاب ولا يعرف أن قاسم أمين يحمل أفكارا لا تتناسب مع الفكر الديني الذي يحمله السيد.. وكان أبي بوعيه البسيط وهو رجل أمي لا يعي الاختلاف المبدئي بين معتقدات السيد وحزبه وبين أفكار قاسم أمين وحزبه.. وهو يحب الاثنين ولكن الفارق في الاقتناع والاعتقاد في الرجلين فارق نوعي ينتصر فيه السيد ببساطة شديدة لارتباط هذا الانتصار بعقيدة راسخة دونها الموت.. عرفت هذه الساحة أيضاً نقابيين عمالقة آخرين: الشفيع أحمد الشيخ، هاشم السعيد، الحاج عبد الرحمن، على محمد بشير، عبد الله بشير، الطيب حسن وغيرهم وغيرهم كما عرفت هذه الساحة أيضاً سياسيين وفدوا إليها من العاصمة: عبد الخالق محجوب، عبد الرحمن الوسيلة، محمد سعيد معروف، الشريف حسين الهندي، بوث ديو.. وغيرهم وغيرهم..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
(4) لا أعرف ما العلاقة الوطيدة التي تربط في ذهني بين هذه الساحة (فضاية المولد) وقريبنا ابن عوف الذي جاء وافداً إلى عطبره من قريتنا في الشمال، رافضاً العمل في فلاحة الأرض.. لعل ابن عوف يرتبط أكثر ما يرتبط بالمولد وبالمظاهرات التي كانت تبدأ منطلقة منها.. في الليلة الأخيرة من المولد كنا ونحن صبية نتبارى في من يقوم الليل كله وحتى الصباح في المولد ولا ينام.. ونتفق بأن من ينام سيجلد بالخيزرانة من الجميع.. وكان ابن عوف أكثرنا قوة في الاحتمال ومغالبة النعاس فلا ينوم أبداً ويكون قد أحضر خيزرانة (بصطونة) تغرز في اللحم عند الضرب.. ويتناولنا واحداً واحداً عندما يغلب علينا النوم فلا نشعر إلا والخيزرانة قد إنهالت علينا ضرباً مُبرِّحاً من يد ابن عوف القوية بفلاحة الأرض.. فيشعر بلذة الانتصار والتفوق.. وعندما وعى ابن عوف ونضج عقله صار سياسياً يقود المظاهرات من (فضاية المولد) ويجوب بها شوارع عطبره بشعارات قوية يخلقها هو في التو واللحظة، تبعث في المتظاهرين حماسة تتحدى المجهول فيتزايد الناس في المظاهرة خلف ابن عوف الذي كان زائراً مقيماً للمركز فألف سجونه وألفته السجون. فكان بطلاً حقيقياً.. جاء ابن عوف من قريتنا في الشمال وأقام في بيتنا.. فهو من أقرباء أبي وأمي.. عند قدومه أستقبله أبي ببرود وعدم حفاوة.. ولم تكن هذه عادة أبي المجامل المتسامح الذي لا يميل إلى الشدة أو التعنيف.. ولكن مع ابن عوف كان رجلاً أخـر لا أعرفه.. عنفه بشدة وانتقد سلوكه في ترك (البلد) والزراعة والحضور إلى (البندر) ليعمل أجيراً في غير ملكه وحقه.. فيصبح عبداً بعد أن كان سيداً.. ظل على هذا الوضع من الانتقاد لابن عوف فترة طويلة أمامنا، وأمام أهلنا عند اجتماعهم عندنا وحين يكون ابن عوف مع أبي لوحدهما.. وقد طالب أبي مراراً وتكراراً بالعودة إلى (البلد) ولكن ابن عوف كان يرفض هذه الفكرة تاركاً المكان غاضباً متذمراً.. وكان أبي صادقاً في نصحه.. ويرى أن ابن عوف ارتكب خطأً جسيماً حين ترك والدته وأخته التي تصغره في (البلد) لوحدهما بلا راع ليصيع في (البندر) ككثير من أبناء (البلد) ممن صاعوا.. كان ترك (البلد) والذهاب (للصعيد) ظاهرة ملحوظة من الشباب والصبية الذين اشتد عودهم أمثال ابن عوف ومن هم أكبر منه سناً.. لقد تُركت الزراعة للأباء والأجداد الذين طعنوا في السن.. وغادر الشباب أهاليهم طلباً للعيش في المدينة ولم يبق للأجداد والآباء غير استجداء أجراء الأرض لزراعة أراضيهم.. فقد بات هؤلاء الأجراء أفضل حالاً من أصحاب الأرض وملاكها.. وهذا ما كان يحز في نفس أبي ويجعله كثير الشكوى من شباب هذه الأيام الذين لا يُعتمد عليهم.. إنه زمن عجيب وغريب ويظل على شكواه هذه حتى نشعر معها بالملل ولكن لا يجرؤ أحد أن يقول له كلمة إلى أن جاء يوم اعتبرته يوماً تاريخياً في حياتنا كف بعدها أبي عن هذه الشكوى الملولة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
اجتمع الأهل عندنا كعادتهم بعد صلاة المغرب لشرب الشاي المعتاد (شاي المغرب) وما أن جلسنا، وبدأ ابن عوف في صب الشاي وتوزيعه على الحاضرين حتى أخذ أبي في مناكفته وتركه (البلد) للصياعة مع الصائعين.. فتوقف ابن عوف عن صب الشاي وتوزيعه ونظر إلى أبي بحده وتحدٍ وقال بانفعال (كرهتنا بهذا الكلام المسيخ، كلما تقابلني تعيد نفس هذا الكلام المسيخ وأنت تعلم أنني لن أعود إلى البلد.. أنت نفسك ما جيت هنا زي ما أنا جيت وتركت أمك وحبوبتك في البلد لوحدهم آيه الفرق بيني وبينك؟! ما أنت تركت أطيان كثيرة لا أحد في البلد يملك مثلها وأصبحت تُزرع من ناس جيب الله وجمعة ود سعيد وود بنده.. آيه الفرق؟ جيت البندر واشتغلت وتزوجت وعملت ليك أولاد وبيوت وبترسل إلى أمك وحبوبتك القروش والشاي والسكر والهدوم والصابون.. ما أنا كمان أعمل زيك). كان كلاماً قوياً وحاسماً ولم يُصدِّق أحد أن مثل هذا المنطق في حديث مرتب ومقنع قد يصدر من ابن عوف القروي القح الذي لا يزيد تعليمه عن ما درسه في خلاوي (البلد) وهو تعليم في غاية التواضع.. لكن الكل أحس بقوة ابن عوف وشجاعته في أن يواجه أبي بمثل هذا الكلام الذي يحمل من بين طياته ذكاءً خارقاً.. فبهت أبي وشعر بخجل وحرج فصمت وصمت الجميع معه، أما ابن عوف فقد وضع براد الشاي بقوة وعنف حتى طار غطاؤه من مكانه ووقع على الأرض وخرج وهو يلعن يومه وحظه بلهجته القروية المميزة.. منذ ذلك اليوم التاريخي الذي وضع حداً لمعاناة ابن عوف لأنه هجر البلد والزراعة لم يتحدث أبي معه إلا بكل احترام وتقدير يفوق سنه بكثير.. وكف عن مناكفته في هجره للبلد والزراعة.. بل سعى عند زميله في الورشة في أن يتوسط له لدى صهره الذي يشغل وظيفة كبيرة في حسابات السكة الحديد ويوظِّف ابن عوف (مراسلة) في العموم.. كانت وظيفة (مراسلة) تتطلب القراءة والكتابة لأنه سيتعامل مع أوراق ومستندات وملفات.. وعليه أن يعرف القراءة لحمل تلك الأشياء من والى الشخص المعني.. ورغم أن ابن عوف لم يتعلم إلا في خلاوي (البلد) إلا أنه كان يحسن القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وحفظ كثيراً من القرآن.. وعندما استدعي للمقابلة (إنترفيو) كان ممتازاً ومُميَّزاً، لفت نظر من أجرى معه المقابلة بحديثه القروي التلقائي والمباشر وما به من ترتيب وثبات، فكان أول المعينين..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وعندما استلم ابن عوف العمل مٌنح بدلة المراسلات الرسمية (يونيفورم) وهي من الكاكي عليها علامة السكة حديد (SR) من النحاس الأحمر على شريط أحمر، وكاب عليه علامة السكة الحديد في مقدمته بما يشبه التاج.. جاءنا سعيداً يشع الفرح من عينيه ووجهه الذي لا يخلو من ملاحة وجاذبية وبشلوخه التي لم تزده إلا تألقاً.. أخذ يقص عليَ حديثاً طويلاً عن المكاتب والموظفين والترتيب والنظام والنظافة والتعامل باحترام وهدوء، لا تسمع صياحاً أو كلاماً فارغاً وإنما الكل مشغول بعمله.. انضباط في كل شيء.. شعرت أن ابن عوف أحب عمله.. وكنت أظن أن هذه الوظيفة (مراسلة) لن تعجبه فهو لا يخلو من أنفة وشعور بالأنا.. لكن العكس تماماً إذ أحب حياة المكاتب والموظفين والعمل وسط هذه النظافة التي تدل على سمو المهنة وعلو المركز رغم أنه يلعب دوراً هامشياً من ذلك كله لكنه جزء من آلية العمل على أية حال.. كان حريصاً على عمله وعلى كل التوجيهات التي كانت تصدر له سواء في المواعيد أو نظافة بدلته وحسن هندامه أو أدائه لعمله بالصورة المطلوبة.. وعندما ينتهي دوامه ويأتي من عمله يرتب أشياءه بكل حرص ونظام ثم ينطلق معنا للعب في الشارع.. وقد نجح في عمله نجاحاً واضحاً. مجاراة ابن عوف لنا في (كرة الشراب)، وكنا نطلق عليها (الدافوري) كان أمراً محيراً.. عندما كنا نلعب هذه اللعبة كان يصر على مشاركتنا وهو لم يرها من قبل ولا يعرف عنها شيئاً ولا عن قوانينها.. فهي لعبة تحتاج لمهارة وحذق، ولكن رغم ذلك كان يصر على المشاركة بطريقة تدعو للضحك والتندر خاصة مع لهجته القروية التي تخالف كلام أهل المدينة.. ومع ذلك كان جريئاً لا يقبل الخنوع والهزيمة.. ساعده في ذلك قوته البدنية وشجاعته وقدرته على هزيمة أي من الصبية إذا تحداه ودخل معه في عراك.. طريقته التي يباشرها في لعبة كرة الشراب كان فيها جلفاً وفظاً، مغالطاً ومكابراً ولجاجاً في قواعد اللعبة معتمداً على قوته في خضوع الصبيان لأحكامه وأسلوبه المثير في اللعب.. لكن ما كنا نلاحظه، أنا وزملائي أنه كان يتقدم في إتقان هذه اللعبة بطريقة سريعة ومضطردة. عاونه في ذلك إلى جانب قوته وجرأته، سرعة خرافية الحركة، ومرونة في الجسم كأنه لاعب أكروبات.. وفي زمن قصير صار مميزاً مقارنة بأيامه الأولى.. وعندما ننتهي من اللعب ونجلس نتسامر في ضوء القمر أو تحت ضوء عمود كهرباء لإضاءة الشارع كان يقول وهو جاد أنه سيصبح لاعب كرة مشهور وسيلعب في (النجيلة).. والنجيلة هذه تعني دار الرياضة في عطبره فكانت منذ زمن الإنجليز منجلة ومحاطة بسور وبأشجار النيم الكثيفة التي تخفف كثيراً من وطأة الجو القائظ الشديد الحرارة.. ولعل دار الرياضة في عطبره هي أول دار منجلة في السودان.. وكنا نتندر حينما علمنا أن دار الرياضة في مدينة أم درمان والتي تلعب فيها أندية الهلال والمريخ والموردة والأهلي والنيل والتحرير وكبار اللاعبين الذين فاقت شهرتهم الآفاق هي دار ترابية كأي ساحة من ساحات عطبره..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
كان ابن عوف عندما يقول لنا أنه سيكون لاعباً مشهوراً ننظر إليه ونحن نكتم حالة من الضحك الشديد حتى لا يضربنا ولكنه لا يهتم ويستمر في أحلامه التي يصر أنه سيحققها، وتبدو لنا كالمعجزة.. ولع ابن عوف بكرة القدم ولعاً شديداً وأخذ يتحسن فيها بنفس السرعة التي أخذت فيها لهجته القروية تتعدل إلى لهجة المدينة وأسلوبها في الحديث.. وبما أنه هو الوحيد الذي يشغل وظيفة فينا وله مرتب، شكل فريقاً منا وأسماه (قلب الأسد) واشترى كرة كتلك التي يتم اللعب بها في دار الرياضة واصبح هو رئيس الفريق والكابتن وشرع في تنظيم مباريات مع الفرق المماثلة في أماكن مختلفة من المدينة.. نقلنا ابن عوف نقلة نوعية من (كرة الشراب والدافوري) إلى كرة قدم مكتملة بحجمها ووزنها الذي قرره الاتحاد العالمي لكرة القدم.. ووضع لنا القواعد والنظم التي تحكم الفريق، فصارت الساحة التي أمام منزلنا مركزاً لاجتماعاتنا نناقش فيها كل الأمور المتعلقة بالفريق.. وطلب من كل فرد منا أن يدفع مبلغاً رمزياً يدلل به على انتمائه للفريق، أما هو فقد كان يغطي جميع باقي النفقات والمصروفات من دخله الخاص بحكم أنه الوحيد الذي يعمل فينا وله مرتب شهري معتبر قياساً بنا.. وكان كريماً ولا يبخل على الفريق بشيء، فأصبح لفريق (قلب الأسد) صيتاً وسمعة لفوزه المتلاحق في أغلب المباريات التي كان ينظمها أو يُدعى إليها من فرق أخرى معروفة بقوة تنظيمها وصلابة لاعبيها.. وبكرور الأيام بدأ اسم ابن عوف يلمع في سماء كرة القدم في عطبره وأخذت شهرته تجوب آفاق المدينة من خلال هذه الفرق المتعددة والتي كانت رافداً حقيقياً لأندية الدرجة الأولى والثانية في المدينة.. ورأيت أناساً يأتون ويخبطون على باب بيتنا يطلبون ابن عوف والتحدث معه.. وشاهدت أعدادا أخرى كانت تأتي إلى تمارين فريق (قلب الأسد) وتشاهد ابن عوف وهو يصول ويجول لا تعرف نفسه التعب ولا يكف جسمه عن الحركة السريعة القوية ومع الكثير من الجماليات وفنيات السيطرة على الكرة وهي لا تنقاد إلا له.. موهبة فذة جاءت من إحدى قرى الشمال التي لم تعرف كرة القدم ولم ترها في حياتها ولم يمارسها أهلها فحقق ابن عوف المعجزة بهذه الإرادة الحديدية وهذا الإصرار الخرافي على التفوق..
انتهى الأمر بابن عوف بالالتحاق بأحد أندية الدرجة الأولى وسجل بها كلاعب أساسي.. بدأ مع هذا النادي في خانة الدفاع فأعطى وأبدع.. وحمى ناديه مع زملائه الآخرين كقوة دفاع صلبة يصعب اختراقها فأخذ اسمه يلهب الأصوات والحناجر. ثم جاء يوم كان النادي فيه مغلوباً.. وعندما قارب زمن المباراة نهايته غير ابن عوف موقعه وبجهد فردي وملحوظ أذهل الجميع أخذ الكرة وهو يتخطى لاعبي النادي الخصم بخفة وسرعة وقوة وفنيات عالية ليسجل في زمن قياسي ثلاثة أهداف يخرج بها ناديه فائزاً بثلاثة أهداف مقابل هدفين.. وكان هذا يوماً عظيماً لابن عوف إذ صار اللاعب الأول في المدينة بلا منازع..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وعن طريق ابن عوف عرفت وأقراني في (حلتنا) والمدرسة كبار اللاعبين من أندية عطبره المشهورين والمعروفين.. وصار بيتنا قبلة لهم كما أن فريق (قلب الأسد) صار يضم عدداً كبيراً من هؤلاء اللاعبين رغبة منهم في المشاركة في تمارين هذا الفريق الذي كان عبارة عن مباريات مصغرة. فنتيجة لكثرة العدد كان التمرين يوزع على ثلاثة فرق.. وبعد التوزيع كانت ترمى (القرعة) بين الفرق الثلاثة يتم اختيار اثنين ليلعبا والفائز منهما يلعب مع الفريق الثالث المنتظر.. زمن المباراة خمسة وأربعون دقيقة والفريق الفائز يلعب زمناً كاملاً وهو تسعون دقيقة.. وكانت تمارين فريق (قلب الأسد) جاذبة لأعداد كبيرة من المشاهدين كأنها مباراة في دار الرياضة.. كما أن أسرتنا أصبحت مشهورة هي الأخرى بشهرة ابن عوف.. ونلت أنا حظاً من هذه الشهرة، وسعدت بها مع كثير من الغرور.. كان والدي دائم المناقرة معنا أنا وابن عوف بشأن لعب الكرة مما جعلنا نتحاشاه وفي كثير من الأحيان نكذب عليه.. وكان يعرف أننا نكذب عليه فيتقبل كذبنا على مضض محاولاً إقناع نفسه بقبول الأمر الواقع، ومرات أخرى يرفض هذا الكذب ويثور علينا مقرِّعاً ومؤنباً.. وازدادت حالات مناقراته عندما كسرت يدي كسراً مركبا في لعب الكرة فأحال حياتنا جحيماً ومع ذلك لم نتوقف عن هذه اللعبة التي كانت معشوقتنا بلا منازع.. وعندما أصبح ابن عوف لاعباً مميزاً ومشهوراً تحسن وضعه المادي بشكل ملحوظ.. وعمل ناديه على رفعه من وظيفة (مراسلة) إلى موظف في الدرجة (K) وهو أول السلم في درجات الموظفين.. ولأن ابن عوف كان طموحاً في كل حياته لم يبق على محدودية تعليمه الذي جاء به من (البلد)، وإنما تأثر في عمله بالموظفين في (العموم) الذين عمل معهم كما تأثر بنا، وجميعنا كنا طلاباً في المدرسة الثانوية وكان هو رفيقنا الوحيد في كرة (الشراب) صاحب التعليم المتواضع جداً قياساً بنا، فأخذ في تعليم نفسه بقسوة شديدة فأدمن القراءة وشرع في تعلم اللغة الإنجليزية.. عملنا جميعاً على مساعدته والأخذ بيده فكان يتحسن ويتطور بشكل ملموس.. تحسن وضع ابن عوف المادي بفضل كرة القدم فأغدق العطاء لوالدي كما كان باراً بوالدته وأخته فانهالت عليهما التحويلات المالية الكبيرة إلى جانب الإرساليات المنتظمة من المواد الغذائية والملابس..فكان أبي سعيداً بكل هذا خاصة وأن ابن عوف قد أهتم بوالدته وبأخته فاعاد بناء بيتهما وشيد (جنينة) كبيرة من النخيل والموالح وأشجار المانجو والموز.. وكان هذا أمراًَ لافتاً لأهل (البلد) فازدادت سمعة ابن عوف بالذكرى العطرة.. وأخذ لسان أبي يلهج دوماً بالثناء عليه والدعاء له.. فتوقف تماماً عن مناقرتنا في لعب الكرة ولعله تقبلها عن رضى رغم أنها كانت السبب في كسر يدي، فنسى هذا الأمر تماماً ولم يعد يذكره إلا من باب التندر.. فشعرت أن هذه كانت الهزيمة الثانية لأبي من ضربات ابن عوف القاضية..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
في إحدى الأيام زارت شـركة النور الشهيرة العاصمية عطبره لتلعب مباراتين.. أولاهما مع النادي الذي ينضم إليه ابن عوف والثانية مع منتخب عطبره.. وكانت شركة النور تضم إليها لاعبين مرموقين من أندية العاصمة المثلثة الكبرى.. ويشكلون عدداً من لاعبي الفريق القومي السوداني.. سبق حضور شركة النور دعاية بأهمية المباراتين وأنهما – أي المباراتين – يمثلان امتحاناً لكرة القدم في عطبره.. وكنت أنا على خلاف هذا الرأي الدعائي. قد تكون المباراتان ذات أهمية من باب المنافسة لكن لا يمكن أن تكون امتحاناً لكرة القدم في عطبره.. هذه المدينة التي غلب منتخبها ذات يوم منتخب أم درمان العتيد.. وأندية أم درمان تمثل وقتها وحتى اليوم قمة الكرة السودانية.. امتلأ بيتنا كما جرت العادة بأقطاب كرة القدم من لاعبين وإداريين ومشجعين.. ودار حديث طويل عن مباراة الغد مع نادي ابن عوف.. وكان ابن عوف في هذه الليلة هادئاً لا يتكلم إلا قليلاً وبتعليقات مقتضبة جداً،ولم تكن هذه عادته.. فاعتبرته مهموماً بمباراة الغد، إذ كانت له أول مباراة يلعبها ضد عنصر خارج عطبره، وهو مهما يكن حديث التجربة في كرة القدم ولا يزال صغير السن.. كنا ننام معاً أنا وابن عوف في جانب منفصل من بيتنا له حوش مستقل.. فقد خصصه أبي لنا ولحياتنا الخاصة.. وكان هذا الحوش يضم غرفتين وحمام لكل منا غرفته الخاصة.. وفي هذه الليلة رأيت ابن عوف ينام نوماً ثقيلاً عميقاً لم آلفه عنده.. وبدأ لي كأنه قد تناول قرصاً منوماً.. وفي الصباح واصل نومه حتى الساعة التاسعة ولم يذهب إلى عمله.. ثم صحا من نومه وأخذ يستعد ويحضر حاجياته وقال لي (سيحضر الأخوان لأخذي ونذهب إلى بيت من بيوت السودنة) وهو مصطلح للمنازل الفخمة في منطقة السكة حديد القريبة من النيل والتي كان يشغلها الإنجليز.. فهي بيوت غاية في الروعة والجمال بمساحاتها الواسعة المنجلة وأشجارها الكثيفة الوارفة الظلال وجداول الماء الرقراقة التي تمر بها فتضفي عليها سحراً وبهاءً.. بدأت المباراة الأولى بين شركة النور والنادي الذي يلعب فيه ابن عوف حذره وفاترة بعض الشيء ربما لأن كل فريق يريد أن يكشف مكامن قوة وضعف الفريق الأخر، ثم تحولت إلى سجال بين الطرفين انتهت بفوز نادي بن عوف بهدف واحد سجله ابن عوف بمهارة فائقة وقوة في التهديف.. لم يكتف ابن عوف بهذا الهدف وإنما تلاحظ أنه كان يقصد ملاقاة كبار اللاعبين في شركة النور ويفعل بهم العجب بخفته وسرعته ومرونة جسمه وقدرته على المراوغة.. وقصد أن يمرر الكرة عدة مرات بين رجلي أكثر من لاعب من عمالقة كرة القدم في أندية العاصمة والفريق القومي السوداني.. وقد أشعلت هذه الحركات حماسة الجماهير فالتهبت صياحاً وتصفيقاً وتشجيعاً.. فقاد هذا إلى حرج اللاعبين وتعمدهم الظاهر عدم ملاقاة ابن عوف أو اتخاذ الحيطة والحذر عند لقاء لا مفر منه.. ولم يكن ما حدث في المباراة الأولى صدفة وإنما كان أمراً مقصوداً من ابن عوف يدلل به على مهارته وقدراته المتنوعة والمبدعة في هذا الميدان الأخضر فاثبت كل ذلك في المباراة الثانية وقصد أن يوضح في هذه المباراة إمكاناته كلاعب قادر على صنع الألعاب وخلق الفرص لزملائه لتسجيل الأهداف.. فازداد احتراماً وتقديراً وإعجابا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وفي نفس يوم هذه المباراة الأخيرة اختلى به أحد إداريي الأندية الكبيرة في أم درمان وقدم عرضاً مغرياً لابن عوف لأن يلعب في ذلك النادي الكبير.. وكانت بلا شك فرصة يسيل لها لعاب أي لاعب من لاعبي عطبره خاصة إذا كان صاحب طموح كما هي حالة ابن عوف.. وقبل ابن عوف على الفور وتم الاتفاق على مواعيد السفر.. حدثني ابن عوف بما عرض عليه وقبوله لذلك العرض فباركته أنا بدوري على الفور واعتبرتها فرصة له في أن ينتقل إلى مرحلة أخرى من عمره ليزداد شهرة وليعمل ما قد يفيده في مستقبل أيامه القادمة.. وكما هي عادة أبي لا يقبل أي جديد وإنما يقف منه حذراً متوجساً ورافضاً مفضلاً سلامة الارتباط بالواقع مادام فيه مستور الحال.. فاعترض هذه المرة بليونة ومرونة دون أن يكون حاسماً قاطعاً في رأيه.. وفي النهاية ترك الأمر لخيار ابن عوف وقال (الخير في ما أختاره الله).. ولا أدري هل لو عارض ابن عوف بشدته المعهودة ورأيه القاطع فيما يراه الصحيح في هذه المرة لواجه هزيمته الثالثة من ابن عوف أم أن الأمر كان سيختلف؟! سافر ابن عوف إلى الخرطوم وقلوب محبيه في عطبره كانت معه متمنية له النجاح والتوفيق. وبعدها بأيام سافرت أنا إلى الخرطوم للدراسة في الجامعة.. فجأة شعر أبي وأمي وأخوتي أن البيت الذي كان يملؤه ابن عوف وأنا ويعج بالأصدقاء والمشجعين قد أصبح خاوياًً من تلك الحياة التي كانت مليئة بالصخب والحيوية.. فاعترتهم آلام الفراق والأحزان.. أيامي الأولى في الجامعة كانت غير مستقرة فلم أعتد بعد على حياة تخالف ما ألفتها في عطبره.. إحساس بالكآبة والقلق وربما الخوف من مجهول.. الشوق والحنين إلى عطبره والأسرة صارا يلازماني في صحوي ومنامي.. كنا مجموعة من الزملاء القادمين من عطبره إلى الجامعة.. نجتمع ولا نفارق بعضنا إلا عند المحاضرات، كل منا في كليته.. وعند مجيئنا الجامعه ظل ابن عوف معنا دوماً.. إما نلتقي في المنزل الذي خصص له أو عندنا في الجامعة.. فاكتشفت أننا جميعاً نعاني من الحالات المرضية للشوق والحنين إلى عطبره وأهلها والحياة فيها..
عندما التقينا بابن عوف لأول مرة بعد مجيئنا الخرطوم كنا نظن بأننا سنراه سعيداً في حياته الجديدة والتي ينتظرها المجد بلا شك ولكن لاحظنا عكس ما ظننا.. فلم يكن مشرقاً منفتحاً ثرثاراً كما ألفناه، بل كان على وجهه غلالة من الحزن الدفين تأبت فيه نفسه فكف عن الشكوى.. شيء مــا في نبرات صوته وقسمات وجهه كانت تقول الكثير الذي يحس ولا يدرك.. على حد علمي أنه حتى تلك اللحظة لم يشارك ناديه في أية مباراة حتى نقول انه فشل في أن يقدم شيئاً، يجعله يستحق البقاء في هذا النادي الكبير.. ومن منطق الأشياء نرى أنه وهو بتلك المهارات والقوة والسرعة لقادر على تخطي التجربة الصعبة بنجاح لا شك فيه وسيكون ذا شأن عظيم.. ظننت أول الأمر إن حالته مماثلة لنا ونحن نكابد الشوق والحنين إلى أهلنا، ولكن شيئاً فشيئاً لمست أن حالته النفسية تجاوزت حالتنا فلم يكن ما به معاناة الشوق والحنين لحياة ألفها ورتب أموره عليها، وانما هي شيء آخر تماماً.. جاءني يوماً في الجامعة ولم يجدني، فترك لي رسالة لأقابله في مقرن النيلين الساعة السادسة مساء..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
ذهبت إليه في الموعد فوجدته في انتظاري مهموماً قلقاً وقال بعد تحية متوترة (أنا قررت الرجوع لعطبره) نزلت عليَ عبارته كالصاعقة، قد أتخيل كل ما هو سيئ ومثير إلا قراره بالرجوع إلى عطبره وهو العاشق لكرة القدم ومجدها وثرائها وهو لم يحقق شيئاً من ذلك بعد في مرحلته الجديدة فاستفسرت مندهشاً (لمَ) قال وبصره يشخص نحو أم درمان كأنه يخترقها (الحياة هنا لم ترق لي.. مجتمع اللاعبين لم أندمج فيه حاولت ولكني لم أستطع هذا كل ما في الأمر) لا يزال ابن عوف قروياً في أعماقه.. لم تعرف روحه الحياة المعقـــدة بعد، المتداخلة المتشابكة التي لا تستقر على لونية واحدة ثابتة.. ربما عطبره تختلف عن العاصمة في نمط الحياة وسلوك الناس فلا تزال أحشاؤها تبقي قيماً من القرية هي التي جعلت ابن عوف يتعايش بسهولة فلم يعد راجعاً من حيث أتى.. قلت محاولاً تغيير رأيه (لازم تحاول مجاراة الناس هنا دون أن تتخلى عن مبادئك وقيمك.. عن أخلاقك وما تحس أنه الصحيح.. هنا مستقبل عظيم ينتظرك.. عليك بالصبر ومزيداً من الصبر) أشعرني كأنه لا يسمع كلامي ولا يريد أن يسمعه.. أعرف عناده وتصميمه على ما يقتنع به.. وكانت دهشتي الثانية عندما قال (أنا مسافر بكرة بالإكسبريس) وهب واقفاً مختصراً هذا اللقاء بهذه البساطة وعانقني مودعاً وحملني تحياته لأبناء عطبره في الجامعة وهم أصدقاؤه أيضاً.. وقلت له (سنحضر لوداعك في المحطة) ولكنه رفض متذرعاً بأن الوقت مبكر ولا داعي للإزعاج وشد على يدي وقال (نلتقي في عطبره إن شاء الله).. كان هذا آخر لقاء لي لابن عوف في الخرطوم إذ سافر حقيقة في اليوم التالي بالإكسبريس صباحاً إلى عطبره ولم يكن معه غير (هاند باك) متوسطة الحجم فيها بعض أشياؤه التي رأى أهمية أخذها معه.. وصل عطبره في الساعة الثانية بعد الظهر ولم يخبر أحدا من أهلها، ولهذا لم يكن أحد في استقباله في المحطة فانطلق بالتاكسي إلى بيتنا فكانت المفاجأة.. استقبلته والدتي وأخوتي بحفاوة بالغة.. وعندما جاء والدي من عمله ورآه لم يصدق نفسه فعانقه والدموع تسيل من عينيه بصدق وحنان لم يألفه ابن عوف عنده.. وحالة من الضعف غلبت عليه ففقد السيطرة على نفسه.. وكانت سعادة أبي غامرة حين علم أن ابن عوف جاء بطريقة نهائية لا رجعة فيها للعاصمة مرة أخرى.. لم تكن الفرحة برجوع ابن عوف في بيتنا وحده وإنما كانت في ناديه الذي تحول إلى مهرجان فرح بقدومه عندما دخل عليهم والكل لا يصدق ما يرى.. أصحيح أن يترك ابن عوف بريق العاصمة وزخمها والشهرة العظيمة التي تنتظره بهذه السهولة؟! لا أحد يصدق لولا أن ابن عوف يقف أمامهم بشحمه ولحمه.. وبسرعة انتقل الخبر إلى كل ركن في عطبره وأنديتها فامتلأ النادي بالزوار بين مصدق ومكذب.. ولكن ابن عوف قابلهم بابتسامته التي لا تخفاهم حقيقة ولا يرقى إليها الشك ففرحت المدينة بعودة الابن الذي فشلت العاصمة في اختطافه.. لكن عودة ابن عوف من هجرته للعاصمة تركت في أعماقه شيئاً لم يكن هو نفسه قادراً على إدراكه، إذ أخذ عشقه لكرة القدم يتناقص شيئاً فشيئاً.. ويتحول الاهتمام إلى إدمان القراءة والاطلاع واغتناء الكتب ثم المحاولات المتعثرة في الكتابة الفكرية والأدبية.. الملاحظ أن أندية عطبره الرياضية لم تكن قاصرة على الرياضة فحسب وإنما كانت أندية اجتماعية وثقافية أيضاً.. كل نادٍ من الأندية في عطبره تجد مكتوباً عليه في لوحة كبيرة أمام المدخل الرئيسي النادي كذا أو النادي كذا الاجتماعي الثقافي الرياضي ومن هذا المدخل وجد ابن عوف طريقه إلى حياة الثقافة في ناديه, وبدأ يشارك فيها بنشاط ملحوظ ساعد في ذلك ذكاء فطري، وطبيعة ميالة إلى الحياة الجادة، ونفس وثابة إلى العلم والمعرفة.. وصفه سكرتير الثقافة في النادي: بأنه نجم في كرة القدم سطع فأعطى النادي وهجاً من الانتصارات البارقة فلمع على قمة الأندية.. وأنه هلال بزغ في الجمعية الثقافية للنادي فأخذ عطاؤه يستدير اكتمالا حتى بات فينا بدراً منيراً.. حياة عطبره الاجتماعية بذرت في نفس ابن عوف شجرة الطموح إلى العلم والمكانة الاجتماعية الرفيعة التي تتجاوز الشهرة في كرة القدم.. فهذه الشهرة مهما كانت محدودة بزمن عمري معين في الإنسان وبعده يتوقف عطاؤه فيصبح ذكرى في نفوس الناس ثم يدركه النسيان وتدركه الفاقة والحاجة والعوز.. أما العلم والمعرفة وعلو الوظيفة والمكانة الاجتماعية الرفيعة فهي شيء أخر يلازم الإنسان كلما أستزاد وتبحر في العلم والمعرفة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
ومن وهلته الأولى قرر أن يجلس لامتحان الخدمة المدنية بعد أن أعد نفسه لهذا الامتحان إعداداً طيباً وجاداً.. وكان يقول إن أردت الثريا فاجعل إرادتك القوية القادرة على الفعل تتعلق بها فلا بد أن تنالها لا محالة.. وقد نجح ابن عوف في امتحان الخدمة المدنية بتفوق وكان ثامن السودان.. وكان في إمكانه أن يلتحق بوزارة المالية في الخرطوم وهي وظيفة لها مكانتها واحترامها ويسعى لها كل من يأمل خيراً في حظوة الوظيفة الإدارية، ولكن ابن عوف رفضها وطلب العودة إلى عطبره موظفاً في حسابات السكة حديد في الدرجة (J) وكتب لي رسالة مطولة شرح فيها الظروف والأوضاع في عطبره وأحوال الأسرة والأهل وطموحه في أن يصبح رقماً في عالم الثقافة والأدب.. أذهلني أسلوبه الجميل الرفيع السليم في لغته وانتقاء عباراته.. وعلمت بنجاحه في امتحان الخدمة المدنية الذي كان يعادل الدرجة الثالثة في شهادة كيمبردج. وسعدت بذلك وكتبت إليه أن يواصل دراسته ويجلس لامتحان شهادة كيمبردج أو اكسفورد ويدخل الجامعة.. وكنت قد تيقنت من نضج مستواه التعليمي والثقافي وقدرته على النجاح إن وضع هذه الفكرة في ذهنه.. كما أنني قد لاحظت في خطابه اهتمامه بالسياسة فخفت عليه أن دخل فيها فهي بحر لُجّ بلا قرار, وهو جاد بطبعه لا يتراجع إن آمن بشيء.. فكتبت إليه ناصحاً.. فرد علي في رسالة ساخرة لا تخلو من عبثية محببة تندر فيها علىّ وعلى المجتمع وعلى نفسه وقال: اثقل الناس من يسدي لك نصيحة فأحذر أن تكون كذلك.. أما السياسة فقد بدأت تشغله فعلاً وتنال اهتمامه.. دعي اكثر من مره في لقاءات سرية للحزب الشيوعي في عطبره أملاً في تجنيده عضواً فيه وأنه آنس في الشيوعيين ارتياحا تقبلته نفسه. ولمس منهم صدقاً وإخلاصاً فدغدغ ذلك شيئاً كامناً في أعماق ذاته القروية المتصالحة مع نفسها فقرر أمراً.. أما الجامعة فقال عنها أنه لا يرغب في دخولها ويكفيه أن يجعل مثله الأعلى العقاد.. فان كان العقاد واحداً في العالم وخريجو الجامعات بالمئات والآلاف فانه لا يريد أن يسير في هذا الركب وإنما يريد أن يكون عقاداً آخر في جنوب الوادي.. أصبح ابن عوف شيوعياً فارتاح ناديه في أنه لن يتركه إلى نادٍ آخر ليلعب فيه. لم يعد كغيره وإنما أصبح الآن صاحب مبدأ وإخلاق وإلا فإن شيوعيته كذب وخداع.. والحقيقة أن ابن عوف بطبعه لا يخون أو يغدر.. فقد جاءته اغراءات يسيل لها لعاب أي لاعب في مواسم تسجيلات اللاعبين ولكنه كان ملتزماً بناديه من زاوية المبادي والأخلاق والكلمة التي ينطقها اللسان.. فلم يضف إليه الحزب الشيوعي بعداً أخلاقياً.. ربما يعرف إداريو النادي هذه الحقيقة لكن انتماءه للحزب زاد من اطمئنانهم.. كل شيء في عطبره مكشوف في شفافية تلقائية لعلاقات فيها الكثير من الأريحية والتسامح فالناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وأحزابهم تجد الود بينهم قائماً لا يفسده الاختلاف في الرأي.. ولهذا تجد الناس في كل تجمعاتهم يتناقشون ويتحاورون في الثقافة والأدب والفن والسياسة، فتتحول تلك التجمعات إلى ندوات فكرية ثرة وممتعه..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
قبض على ابن عوف في إحدى المظاهرات التي انطلقت من (فضاية المولد) بعد تجمع عمالي رهيب أعلن فيه الإضراب.. وعندما وصل الخبر إلى أبي تأكد أن ابن عوف أصبح شيوعياً, إذ كانت هذه الحقيقة في السابق غير مؤكدة عندما سمع بشيوعيته.. فالشيوعيون في نظر أبي هم الذين يقودون النقابة وهم الذين يعلنون الإضراب وهم أيضاً الذين يشعلون المظاهرات.. فخاف أن يلحق بابن عوف سوء.. وشعر أنه مقصر في مسؤولية الإشراف عليه ورقابته.. لم ينس أبداً رسالة والدة ابن عوف التي كتبت له فيها أن ولدها أمانة في عنقه.. وأبى لا ينسى مطلقاً إن والد ابن عوف أسهم في تربيته ورعايته عندما توفى والده وهو صغير يافع العود.. كل ذلك إضافة إلى طبيعته المتوجسة ومشاعر الأبوة التي تتزاحم خائفة قلقة عند أي مكروه.. سمعة ابن عوف وشهرته كلاعب كرة قدم مشهور ومحبوب لجمهور الكرة في عطبره ووساطة كبار مسؤولي ناديه وتغلغل محبيه في مفاصل السلطة أسهم في الإفراج عنه بعد فترة وجيزة من اعتقاله.. كان أبي في يوم من الأيام يكره كرة القدم لأنها كانت السبب في كسر يدي كسراً مركباً دخلت على إثره غرفة العمليات أربع مرات, وذاق أبي الأمرين في هذه الحادثة. ولكنه الآن يرى كرة القدم ليست مجرد لعبة وإنما هي شيء أعظم من ذلك بكثير. فقد كانت وما تزال مصدر خير وبركة له ولوالدة ابن عوف وأخته فأغدقت عطاءها بما لا يحلم به أحد, كما وأنها الآن تضيف إلى عطائها المادي طمأنينة أخرى في الآمن والآمان والحماية في طريق وعر وخطير اختاره ابن عوف برعونته وتهوره فشعر أبي حقيقة بالأمن الاجتماعي لأسرته, فأي ساحرة هذه الملعونة.. جاء ابن عوف إلى البيت بعد الإفراج عنه مباشرة وهو على يقين من تعنيف أبي وعتابه الذي قد يفقد فيه سيطرته على نفسه..ولكن أبي رغم إحساسه بخطورة مسار ابن عوف الجديد إلا أنه كان هادئاً رقيقاً وفي نبراته حنو لا تخطئه الحواس، فقال (لماذا الشيوعية؟) وكأنه بهذه العبارة يعاتبه بقول رقيق غير مباشر (أفعل ما تريد لكن أبعد نفسك عن الشيوعيين).. أدرك ابن عوف العبارة واستلم الرسالة فرد على أبي بخبث لا يخلو من ملاحة وخفة ظل (قاسم أمين منهم ما رأيك فيه؟ آلا تحترمه وتقدره؟ آلم تحدثنا عن زمالته لك في الورشة وأخلاقه واستقامته ورجولته؟) قال ابن عوف هذا لأنه يعرف رأي أبي في قاسم أمين وتقديره واحترامه له وإيمانه به كقائد نقابي يراعي مصالح العمال ويعمل من أجلها.. ضحك أبي عندما سمع ذلك وقال له صادقاً (ربنا يهديك) وفي هذه الأثناء جاء عدد من صحب ابن عوف وزملائه فتركهم أبي وخرج.. لا تفوتني إجازة وإلا جئت فيها إلى عطبره.. فرغم أنني أصبحت مواطناً عاصمياً أخذت الخرطوم تأخذ الكثير من مشاعري وحبي إلا أن عطبره لا تزال ذات طعم خاص له مذاقه الذي يشدك إليها كلما حانت الفرصة.. وفي كل مرة أحضر فيها ألمس تغيراً نوعياً في فكر ابن عوف وسلوكه.. فقد أصبح ماركسياً متمرساً له وضعه المتقدم في الحزب.. يترأس بعض المجموعات ويُنظِّر ويكتب المنشورات ويوزعها.. كما أنه قد أصبح كاتباً سياسياً وناقداً أدبياًًَ وكاتب قصة وصاحب أسلوب مميز.. كثير القراءة والاطلاع, رغم أن كرة القدم تأخذ جزءاً من وقته.. وكنت اندهش من هذه الطاقة الخلاقة التي لا تعرف السكون والهدوء ولا تشعر بتعب أو استكانة.. وكنت أخاف عليه من حماسه الزائد للحزب وفكره لأن هذا الاعتقاد قد يقود إلى الجمود لا محالة فكنت دوماً أنصحه بقراءة الفلسفة الوجودية والأدب الوجودي وأدب اللامعقول الذي أخذ يجد له موضعاً في الفكر العالمي وفي التراجم العربية.. كما كنت أخاف عليه من إصراره على توزيع منشورات الحزب الشيوعي في شوارع عطبره وأماكنها المختلفة بطريقة تكاد تكون حالة من التغطية الكاملة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
في مرة ونحن نتحاور قال لي (لماذا أنت دائم النصح لي بقراءة الفلسفة والأدب الوجودي؟) قلت (لأنني اعتقد أن في فلسفة هذا الفكر وأدبه مساحة كبيرة للحرية الفردية والاستقلال الذاتي للرأي وعدم التقولب في إطار لا يسمح بحرية الحركة والإنعتاق.. كما وأنه فكر تقدمي يقف مسانداً لحركات التحرر وضد الاستعمار) وكنت حقيقة لا أريد لابن عوف أن يكون أسير عقيدة واحدة تأخذ جل تفكيره ووقته وجهده.. وكنت أعلم قدراته العقلية والذهنية في هضم أي فكر أو فلسفة أن منح تلك القدرات فرصة دون أن يحصرها في إطار ثقافة معينة.. كان ينظر إلي مستنكراً أو لا مبالياً كان بيني وبينه حالة من حالات حوار الطرشان, وقد يختم ما بيننا بمقولته المأثورة (فكر بورجوازية صغيرة).. لم أخف عليه خوفي من طريقته التي قد ألمس فيها شيئاً من الرعونة وهو يباشر طريقته الخطرة في توزيع منشورات الحزب فسألته (كيف تقوم بذلك وأنت شخص مشهور معروف لكل شخص في هذه المدينة تقريباً) فرد علي مستهزئاً (أتظن نحن سذج إلى هذا الحد؟ يا أستاذ هذا العقل (أشار بأصابعه إلى رأسه) يعمل يشتغل يحاور البوليس كما أحاور خصومي في ميدان كرة القدم.. عندما أقوم بمهمة التوزيع أغير ملامحي تماماً أو أتلثم فلا يعرفني أحد.. كما أعمل احتياطاتي مع زملائي في النادي فاتفق معهم بأنني في الساعة المعينة التي أقوم فيها بالتوزيع, كنت معهم ونتفق على سيناريو محدد نقوله حينما نسأل). ذات مساء جاء ابن عوف وهو في حالة ذعر بيًّن فسألته ما الخبر؟ قال: أن البوليس قبض عليه في زاوية مظلمة وهو متلبس يوزع المنشورات.. فترجاه أن يتركه ولكنه أصر على القبض عليه كأنه وجد مطيته لترقية وشريط إضافي.. وعندما شعر أنه لم يعرفه وأن بنيته ضعيفة لطمه لطمة ماحقة فأرداه أرضاً بلا حراك وزاد من ذلك وقوع دراجته عليه بقوة على صدره ورأسه فازداد الأذى.. ربما يكون قد مات.. وحينما نطق (الموت) أرتعد وغطى وجهه بكلتا يديه قائلاً (يا إلهي مات ! أرجو ألا يكون ذلك قد حدث.. فان مات أكون قد هزمت قضيتي التي أدعو فيها وأناضل من أجل حياة الناس).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
لم أر ابن عوف حزيناً مهموماً كما رأيته في تلك الليلة.. فحاولت أن أهدئ من روعه والتخفيف عنه ولكن محاولاتي كانت محاولات يائسة بائسة وهو يرتعد أمامي.. وكلما تصور أنه قاتل ازدادت حالته سوءاً.. طلبت منه أن يغير هيئته التي يتنكر فيها دوماً كلما قام بتوزيع منشوراته وأن يعود إلى صورته الطبيعية.. واقترحت عليه أن نذهب إلى النادي وبعدها نذهب إلى مكان الحادث ثم إلى مستشفى عطبره الوحيد لعلنا نعرف شيئاً.. ففعل في انقياد من لا يعي بما حوله.. ذهبنا إلى النادي وهو لا يزال في اضطرابه وهذيانه الداخلي ثم بعدها ذهبنا إلى موقع الحادث فلم نجد أثراً لجثة أو دراجة أو أي مظهر من المظاهر التي تدل على أن أمراً جللاً قد حدث.. بعدها ذهبنا إلى المستشفى حالات الحوادث واستفسرنا بحذر عن وجود حادث ما لرجل بوليس فلم نجد شيئاً.. فارتاحت أعماق ابن عوف قليلاً.. ولكن لا يزال في النفس بعض القلق لأن الرجل كما وصفه وقع بلا حراك.. قلت لابن عوف ضاحكاً (ضربة الخائف دائماً قوية لأنه يريدها واحدة فقط خوفاً من ردة الفعل).. مرة أيام على هذه الواقعة فلم يظهر في المدينة شيء يدل على أي مما ذكره ابن عوف.. لعل رجل البوليس أغمى عليه من شدة اللطمة وعندما فاق جرجر ساقيه من العار الذي لحق به وهو الرجل الذي يناط به أمن الناس وسلامتهم ولكنه تجندل من لطمة يد.. فالأفضل أن يكتم خيبته ويستر حاله ففي هذا الكثير من الحكمة والعقل.. كنت أظن أن هذه الواقعة ستجعل ابن عوف يرعوي ويعقل فيكف عن توزيع المنشورات.. لكن ابن عوف هو ابن عوف العنيد الذي إن آمن بشيء ما فلا بد أن يمنحه مستوجبات هذا الإيمان قولاً وعملاً, وأن يوفر له كل أسباب النجاح ومهما كانت النتائج.. فعاد إلى سيرته الأولى.. في البداية أكتفي بصياغة المنشورات بأسلوبه الجميل وعباراته الملتهبة وجمله الرنانة المثيرة التي تفعل في الناس فعل السحر.. واستمر زمناً على هذا الحال حتى نسي واقعة البوليس ولطمته الماحقة له وحالات الذعر التي هزت كيانه, وفقد فيها اتزانه لزمن, فعاد إلى توزيع المنشورات من جديد وبشكل متواصل ومكثف.. في حياتي لم أسمع ابن عوف يتحدث عن النساء.. أو أن هذا الجانب يشغل حيزاً في حياته رغم ما كان لنا من مغامرات وبطولات في ملاحقة النساء ومعاكستهن بشقاوة تتجاوز المسموح إلى الممنوع والوقاحة.. أما أماكن بائعات الهوى (وكان لها مصطلح معروف في عطبره وكل مناطق السودان وهو الحلة) فكان شغلنا الشاغل.. كنا نحكي تلك المغامرات أمام ابن عوف فلا ينشغل بما نقول ونحكي.. ولا يحاول مجاراتنا في الاهتمام بالنساء.. ولم ألتفت إلى هذا السلوك منه إلا في ذلك اليوم حينما طلب مني أن نذهب إلى الحلة.. قلت (ماذا؟) قال (الحلة..).. لم يكن عدم انشغال ابن عوف بالنساء ومجاراتنا في مغامراتنا وبطولاتنا النسائية يثير استغرابي قدر ما أثار استغرابي طلبه لي في أن أذهب معه للحلة.. فهذا نشاط لم يكن من ضمن اهتمامه ولا يشكل عادة في سلوكه.. فانفجرت ضاحكاً ساخراً منه بعبارات لا تخلو من الانتصار لما كنا نمارسه من مغامرات وبطولات مع الجنس الآخر وكأني أعايره بطريقة غير مباشرة بما يفيد معنى عبارة (لم أعرف انك رجل إلا الآن).. فغاظه ضحكي وسخريتي وتهكمي فكتم غيظه في نفسه وأخذ يدي بشدة وجرني بطريقة فيها كل السباب واللعنات.. وما هي إلا لحظات وكنا أمام بيت إحدى بائعات الهوى في الحلة، فأخذ ابن عوف يخبط على الباب بطريقة فيها نغم راقص من نغمات (دليب) الشايقيه ففتح الباب, فرأيت بدراً يطل علينا مع ابتسامة كفلقة القمر عندما وجدت ابن عوف أمامها وقالت بلهجة حبشية (تفدلوا) وهي تسيل رقة وعذوبة فاتحه الباب لنا في ترحاب بالغ الحفاوة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
إنها (سهايتو) التي كم وقفت وأصدقائي على بابها فلم تفتح لنا بابها ولم ترد علينا بكلمة طيبة.. بل إنها كانت تردنا خائبين مكسوري الخاطر وهي خلف الباب حينما تعرف من الطارق.. كنت اعرف (سهايتو) من اسمها فقط لم أرها قط ولكني أعرف منزلها وأعرف عنها قصصاً من علاقاتها المحدودة مع الرجال الذين تنتقيهم بعناية فائقة من علية القوم وكبار مسئولي الدولة فلا يدخل عندها كل من هب ودب من أمثالنا.. فقلت في نفسي أية مغامرات وأية بطولات نسائية كنا ندعيها أمام ابن عوف وهو الآن يثبت أمامي بطولاته في معركة كم عدنا منها خائبين مهزومين هذا المنزل بالذات كان محرماً علينا.. دخلت مع ابن عوف ورائحة البخور والبن والأرض المرشوشة لا تخفى عليّ.. فكم ألفت هذه الرائحة التي جاءت بذكرى الشوق والشبق في النفس المحرومة ففعلت فيها ما فعلت.. جلسنا في الداخل وطلت علينا (سهايتو) بقميص منزلي واسع بلا أي جماليات في تفصيله أو تزويقه ولكن مع ذلك بدا جميلاً ورائعاً على (سهايتو) التي لم أتصور أنها بارقة الطلعة إلى هذا الحد.. وجه مستدير ضاحك وقوام عجز هذا القميص المنزلي الواسع أن يخفي تناسق تعرجات الجسم الجميل.. عندما تتحرك أمامنا مدبره يقفز كفلها نافراً فيحدث اهتزازات في القميص يكشف عن حجمه وبروزه الأنثوي المثير الذي يخلب اللب.. وان جاءت إلينا مقبلة سبقها صدر ناهد يتلاعب عند أية حركة في اشتهاء لا تملك أمامه إلا أن تقول سبحان الله أبدع الخالقين.. هذه (سهايتو) إذن التي رأيتها وجلست إليها بفضل هذا القروي الذي جاءنا على فطرته القحة في بدائيتها وسذاجتها فنجح في كل شيء تعلقت همته به حتى (سهايتو) من بنات الهوى ففاز بها علينا نحن أبناء المدينة وأهلها.. كاد الفضول يقتلني وابن عوف لا يشفي غليلي بالرد على أسئلتي الحائرة.. كيف تعرف عليها؟ وكيف صارت العلاقات حميمة إلى هذه الدرجة؟ وكم من الزمن استغرق ليدخل قلبها الذي لم نجد إليه منفذاً رغم محاولاتنا المضنية؟ كان ينظر إلى من طرف عينه كأنه يقرأ ما بداخلي, ويقف متفرجاً على هذا العطش المشتعل الذي يحرق جوفي لمعرفة كيف تم ذلك وبهذا الفوز الباهر ولكنه يتعمد تجاهلي كمن يريد عقابي على حالات الغرور الزائفة والعنجهية الكاذبة التي تلفها ادعاءات بطولات ومغامرات لا تمثل شيئاً أمام هذه الحظوة (بسهايتو).. تركتنا وذهبت لشأن من شؤونها.. وأخذ ابن عوف يحدثني في أمور كثيرة متفرعة في كرة القدم والسياسة والأدب وأنا ساهم ساهٍ عن كل ما يقوله, وبصري يتجول في كل ركن في الغرفة التي نجلس فيها ويمتد خارجها يطوف فيما تقع عينه عليه كأنه يريد أن يهتك هذا الغموض الذي يلفه.. واكاد أرى عربدة أعماق ابن عوف وهي سعيدة بهذه الحالة التائهة التي استغرقتني.. بعد برهة نادت علينا, فقمت مع ابن عوف إلى فرنده مستطيلة بها ثلاثة أسرة مفروشة بفرش مريح وملايات مزركشة غاية في جمال الذوق والاختيار.. وجلست هي على (بنبر) وجسمها لا يزال مبتلاً بماء الحمام الذي أخذته.. وغيرت قميصها بآخر فضفاض كالسابق فالتصق مبتلاً على جسمها الجميل فبدت لي آية من آيات الإبداع الإلهي.. أمامها تربيزة صغيرة وعليها عدة فناجين (وجبنة) وقد رص كل ذلك بعناية فائقة.. وبالقرب منها (كانون) مشتعل بنار فحم تجمر كله وأرسل لهباً صغيراً له ألوان قوس قزح، وفوق جانب من الكانون (شرقرق) يغلي وفي الجانب الأخر على (الكانون) كاوية شعر حديدية دُفن فكاها في الجمر المتقد.. وشعر (سهايتو) الكثيف المجعد لا يزال مبتلاً يتقاطر منه الماء على خديها وجبهتها ورقابتها وانفها وشفتيها كالدر المتناثر بلا انتظام.. فعرفت أنه وقت تناول (الجبنة).. فالحبش يتناولون البن دائماً عند مغيب الشمس.. وهي جلسة لها طعم خاص من المودة والأنس يتناول الكل البن مثنى وثلاث ورباع وقد يكون أكثر من ذلك..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
جلست (سهايتو) تسقينا بنها الذي لا يقل عنها حلاوة وطعماً وتتحدث بلهجتها الحبشية اللذيذة وهي تتكلم العربية بطلاقة رغم أنها تكسرها فتقلب حرف (ط) إلى (ت) (ض) إلى (د) و (خ) إلى (ك) ولها لثغـــه في نطقها تُجمِّل نبرات صوتها فأحس كم هي رائعة.. ومن بين تناول البن تكوي شعرها بالكاوية التي تدفنها في الجمر ويتحول الشعر المجعد المبتل إلى شعر مسندل حريري الملمس ثم تلفه بعد ذلك في (رول) حتى إذا ما انتهينا من شرب (الجبنة) كان رأسها عبارة عن كرات ملفوفة بالشعر الناعم الحرير.. فكنت أراقب كل حركة منها وأي عبارة يلفظها فمها المكتنز الشفتين.. قالت لابن عوف (من هو صاحبك الظريف ده) أعجبتني عبارتها وتمنيت أن يقول عني ابن عوف شعراً.. فقال (هذا قريبي من أهلنا أصبح مواطناً عاصمياً يسكن الخرطوم ويحبه رغم أنه عطبراوي ولا يآتي إلينا إلا في الإجازات) نظرت إلي في دلال ورقة لا تخلو من استحسان لهيئتي وشكلي وربما استظرفتني فشكلي لا يخلو من وسامة فارتحت لهذا الشعور وأصبحت ممتناً لابن عوف الذي أتاح لي فرصة تعرُّف لا أحلم بها ولا في الخيال.. (فسهايتو) الآن تعرفني وتعرف أسمي وقرابتي بابن عوف.. وهو فتح عظيم لابد أن أسعد به.. انتهت جلسة (البنه) كما سمتها (سهايتو) وقلت لابن عوف مازحاً (ثم ماذا............؟!) لم يعرني التفاتا كمن لا يسمع, لكنه أخذني من يدي ضاغطاً عليها وتحركنا من الفرندة متجاوزين الغرفة التي كنا نجلس فيها عند قدومنا, إلى حوش صغير به عدد من كراسي الجلوس وكراسي البلاستيك وفي الوسط تربيزة مستطيلة وحولها عدد من الترابيز الصغيرة (طقاطيق) وكان الليل قد استوى تماماً راخياً سدوله على استحياء.. كل شيء في هذا المكان مرتب ومنظم يبعث فيك إحساساً غامضاً بالجلال.. جلسنا على كرسيين من كراسي الجلوس الوثيرة ونسايم الليل تداعبنا في حنو مريح للأعصاب وهي نديانة بأريج الشجر الذي يحيط بالمنزل, فأضفى على المكان شاعرية من ليالي آلف ليلة وليلة, ابن عوف هو (شهريارها) دون منازع و (سهايتو) هي (شهرزادها) الأكسومية التي فاضت على صحراء حياتنا من هضبة الحبشة كما يفيض النيل.. وما هي إلا لحظات وهلت علينا (سهايتو) بألقها الباهي وطلعتها الساطعة وخطوها الشامخ.. جاءت مرتدية فستان سهرة داكن الزرقة يتعرج محتضناً تعرجات قدً مياس يعلوه صدر معتز بصاحبته مع خصر ضامر يتوسط قامة متناسقة. وعجيزة مليئة بالأسرار والكنوز فيقف عند الركبة كاشفاً عن ساقين مدمجتين في استواء ملفوف.. أي بهاء هذا الذي أرى.. فأخذت (ابجورة) ووضعتها على زاوية جانبية فأضاءتها بنور خافت هادئ وأطفأت النور الساطع ليحل محله نور حالم يعلن عن عبقرية هذه الأكسومية وهي تجلب المسرة في النفوس المكدودة.. فأشار إليها ابن عوف إشارة من فمه وهو يحرك شفتيه دون صوت مسموع مع ابتسامة ينضح بها كل وجهه فاستجابت في طواعية وهي تذهب ثم تعود بقوارير (بيرة أم جمل) الشهية المذاق فاعتدلنا جميعاً في جلستنا نتهيأ لسهرة أشبه بحكاوي الأساطير. لأول مره أرى ابن عوف يشرب الخمر أمامي.. رغم صداقتنا الحميمة التي تفوق العلاقة الأسرية إلا أنه لم يشاركنا سهراتنا الحمراء وإنما كان يجلس معنا دون أن يحتسي المنكر كما كان يسميه.. فسألته (منذ متى؟) رد علي ضاحكاً وهو يقول (يا سيدي) دون أن أعرف تحديداً بالضبط ثم أردف وهو لا يزال في ضحكته (خليها على الله). بدأت (سهايتو) في صب البيرة في كوب (الشوب) العاتي بطريقة فيها الكثير من الحرفية والإتقان حيث قلبت فم الزجاجة في داخل الكوب ثم أخذت ترفعه شيئاً فشيئاً متفادية ثورة رغوة البيرة حتى لا تفور إلى أعلى فتتجاوز سعة الكوب فامتلأ حتى قمته دون أن تراق منه قطرة واحدة.. فاكتسى الكوب من الخارج بضباب كثيف فصاح ابن عوف بالإنجليزية (Foggy).. بدأت سهرتنا وأنا أسمع من ابن عوف أمام (سهايتو) قصة لم تخطر لي على بال.. بدأ الحكاية بعد أن فرغ نصف الكوب في جوفه فقال: (أنا أشعر بك منذ أن طلبت منك طلباً مفاجئاً بأن نذهب للحلة.. بلا شك هي تحولات كبيرة اجتاحتني.. في داخلك أسئلة كثيرة وكلها تحتاج إلى إجابات شافية.. لكن لو عرف السبب بطل العجب كما يقولون.. يا سيدي هذه السيدة التي تراها أمامك الآن هي السبب في المشهد الذي تراه الآن.. لعلك لا تصدق أو قد تستغرب كيف يتم ذلك) نظر إلى (سهايتو) نظرة امتنان ظاهر ثم أفرغ بقية الكوب في جوفه حتى الثمالة ووضعه فارغاً تماماً وطلب منها في سعادة تنم عن بداية الانتشاء (إليَ بالجعة يا عيني) فأحسست به خفيف الظل ممتع الحديث في طلباته وتعليقاته وقال مستأنفاً حكايته: (كنت أقوم بتوزيع المنشورات فداهمني البوليس ولكني استطعت أن أهرب منه مستغلاً سرعتي التي تعرفها وطاقتي في التحمل متخذاً الشوارع الخلفية في محاولات الهرب، وخلال ركضي فات عليَ التخلي عن المنشورات التي أحملها لشدة ذعري فتوقف تفكيري وأنا أجري بلا هدى فوجدت هذا المنزل مفتوح الباب فدخلت فيه وحالي يغني عن سؤالي فوجدت هذه السيدة أمامي فقلت لها صادقاً وأمري إلى الله: أنا هارب من البوليس وكنت أوزع هذه المنشورات الشيوعية (وأشرت إليها في يدي اليسرى) وصمت وقد أيقنت أني هالك.. وما أن انتهيت من حديثي وقد لاحظت حالة الخوف التي تكسو وجهي حتى أسرعت إلى إغلاق الباب ثم أخذتني وبسرعة فائقة كمن تدرب على مثل هذه المواقف أخذت تغير هيئتي وتعد هذا المكان الذي نجلس فيه الآن وتنادي على شخص اسمه (قبرو النقوس) واضح أنه من بني جلدتها فأخذت المنشورات وأعطتها له وأمرته برطانة حبشية أن يتخلص منها فوراً في مكان بعيد.. في تلك الأثناء كان البوليس يتتبع خطاي في غير هدى فيدخل البيوت في هذه الشوارع الخلفية ومن ضمنها دخل بيت (سهايتو) ليجدني جالساً معها وفي هذا المكان بالذات أحتسي المنكر ولحظتها كنت ابن عوف لاعب الكرة ولم أكن ابن عوف الشيوعي موزع المنشورات..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
صدق يا ابن أخي أن هذه المرأة الطيبة كانت بارعة في إبداع تمثيلية لذيذة المشاهد، فجعلت مني زبوناً تبيع له الهوى.. والغريب في الأمر أنني رغم خوفي واضطرابي اندمجت في دور رجل يشتري اللذة والمتعة، فانطلى الموقف على البوليس فلم يعرفني حتى بصفتي الشهيرة كلاعب كرة لأنه لو عرفني بتلك الصفة لناداني بعبارة (يا كابتن).. نظر هنا وهناك ثم خرج كما دخل وأنا أحتسي بيرة (سهايتو) الشديدة البرودة فتنساب قي جوفي اللاهث المحترق برداً وسلاماً.. قصتي مع (سهايتو) أشبه بفلم التضحيات الهندي.. حينما دخلت عليها وقلت لها حقيقتي بصدق هدأت من روعي وكأنها تدثرني فنشرت أشرعة السلامة فوقي ومن حولي إلى أن زال الخطر بذلك المشهد الدرامي المبدع.. وحينما انتهت التمثيلية نهاية سعيدة بخروج البوليس دون أن يمسسني سوء لملمت أطرافي تأهباً لوداعها ولساني يكثر من عبارات الثناء والعرفان إلا أنها مسكت فيَ مصرة على بقائي إصراراً لا أملك حياله إلا البقاء.. فأخذت تنظر إليَ وعلى وجهها الجميل ابتسامة كأنها الواحة الظليلة ثم أخذت تشاغلني بعبارات لا تعني معناها الحرفي وإنما ترمي إلى دلالات ومعانٍ فيها الكثير من الحنو والإعجاب.. لقد تشربت (سهايتو) طبيعة هذه البيئة التي عاشت فيها فأتقنت لغتها بمعانيها الكلاسيكية والمحلية رغم لسانها الأعجمي وهو يكسر بعض حروفها فقالت (كايف؟!) ثم أردفت قولها بضحكة قصيرة خافتة فبدا من بين شفتيها صفان من البرد المنضّد..قلت في نفسي نعم هو كذلك فالخوف طبيعة إنسانية لا فكاك منها إلا باليقين ولكني قلت في شيء من المكابرة (يعني !!) كانت دهشتي عظيمة حينما قالت لي (تعرف أنك عجبتني!!) قلت في استغراب (معقول !!) ثم أردفت متسائلاً (ولماذا؟) قالت وقد ارتسم على وجهها شيء فيه كثير من الجدية (من يقوم بعملك هذا لابد أن يكون بطلاً.. فالأبطال هم من يعملون لغيرهم وهم يؤمنون بقضية بمبدأ.. وقد يدفعون حياتهم ثمناً لتلك القضية أو المبدأ) يا إلهي أي جنية هذه التي انشقت بها باطــن الأرض لتدهشني ولتجعلني كأني في عالم آخر.. أحلم هذا أم حقيقة؟!.. إنني لا أصدق ما أسمع قلت وأنا بين مصدق ومكذب (من أنت؟) عادت إليها ابتسامتها والبرد المنضّد يزداد بريقاً (حقيقة تريد أن تعرف؟!) قلت دون تفكير (ولم لا؟!) قالت ولا تزال ابتسامتها كما الشهد المصفى ينثال في داخلي فيرطب أعماقي (أنا من الثوار في بلدي.. وكما ترى لا أحمل رشاشاً ولكني أتبرع بما أستطيع من المال.. أليس الجهاد بالمال في دينكم مقدم على الجهاد بالنفس؟ نحن كذلك فأنا أتبرع بنصف دخلي للثوار.. وأنا مؤمنة بالثورة وقطعاً ستنجح الثورة يوماً في بلدي.. ربما حلمي هو حلمك).. توقف ابن عوف عن الحديث وقد أحس أنه ملك اهتمامي كله وأثار فضولي وهو صادق في إحساسه فقال (سهايتو الكأس فارغة.. فاتني بالصبوح يا بهجة الروح وزدني إن كان في الكأس باق) ثم تحول من هذا الشعر الجميل إلى الترنم بأغنية شعبية (دكاكينية) فأخذ يغني (البيرة أم جمل والشراب إسكوب، كب يا حلو في كبابي الشوب) وكانت نظراته تتابع (سهايتو) في هيام عاشق وله، ونظراتي بدوري لم تتركها وهي تتحرك بيننا وقد انتشت هي الأخرى وعبثت بشعرها فانكب نازلاً على جيدها وكتفيها في لا مبالاة زادتها حسناً على حسن وتضوع المكان بعطر (سوار دي بارييه) فاحترت بأي المرأتين انبهر؟ أبهذه الغانية اللعوب التي تعبث بالقلوب كما عبثت بشعرها لتزداد فتنة؟ أم بتلك المناضلة التي تحمل في جوفها قضية لا تملك حيالها إلا الاحترام؟!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
وجه ابن عوف حديثه لي قائلاً (تخيل لو أنني حكيت لك قصتي مع سهايتو في أي وضع بخلاف هذا الوضع الذي نحن فيه الآن ولم تكن سهايتو هذه أمامك كما الآن بلحمها وشحمها ألا أكون قد أفرغت المفاجأة من صدق محتواها وحقيقتها؟.. وقد لا تصدق وقد تعتبرني مبالغاً وقد لا تقف على أن في الدنيا أشياء جميله شكلاً ومضموناً كما تقف عليها الآن). قلت (ربما).. وسرحت بذهني.. أي غرائب يأتي بها ابن عوف؟ هل أستطيع القول أن هذا القروي يعايش حياة مليئة بالمعارك ومليئة بالانتصارات؟ وأي انتصار لذيذ جميل هذا الذي أراه أمام عيني وهو يفوز بهذه الغادة التي لم تعلن سرها إلا له وحده !! تذكرت في التو واللحظة (المومس الفاضلة) لسارتر.. إن هذا الكون إبداع خالق عظيم يتفنن في تشكيل نفوس مخلوقاته التي قد تبهرك بأنبل أفعال لا تتصورها فتذهلك، وتقف حائراً.. أهذا الماخور يمكن أن يتفجر منه ماء لسقاية فضليات القيم؟ أفقت من تأملاتي على صوت (سهايتو) وهي تقول (الجعة يا ابن أكيه) ومدت لي الكأس ملأى وهي ضاحكة القسمات فبادلتها بصفحة وجه يحتضن أريحيتها ويسعد بغنج لثغتها الصبيانية وبفصاحتها في لهجتها الأعجمية التي تبرز الحسن في التضاد.. كذلك فعلت نفس الشيء مع ابن عوف وناولته كأس الجعة الباردة وأخذت لها واحدة وجلست على كرسي الجلوس الوثير ولا تسعها الدنيا نشوة وفرحاً بنا.. مما لا شك فيه أن احترامي لها قد زاد.. وقلت لابن عوف: (لقد حاولت معك مراراً أن تقرأ الأدب الوجودي.. وبعد الذي سمعت فإنني أدعوك بشدة لتقرأ جان بول سارتر بالذات فقد تجد في أدبه ما يتيح لك فرصة الاطلاع على تجربة (سهايتو فرنسية) فتسعد بذلك وتعمق معارفك.. انتبه لكلامي ولكنه لم يعلق عليه وبعد أن أحتسي نصف الكوب واصل حكايته مع وعن (سهايتو) قائلاً: (يا ابن أخي كانت تلك الليلة مفاجأة لم تخطر على بال بشر فأخذت أحتسي الجعة الباردة واستمتع لـ(سهايتو) وهي تقص عليَ قصتها حتى أدركنا الصباح.. لقد جاءت إلى السودان وهي طفلة في السادسة من عمرها مع والدتها عن طريق قرية حدودية أسمها (قيسان) ومنها إلى الكرمك ثم الدمازين فسنار حيث استقر المقام بهما في القضارف فجلست في القضارف فترة حتى بلغت العاشرة ثم أرسلتها أمها لأختها في كسلا.. وصادف أن جاءت شقيقة والدتها الأخرى لزيارة أختها في كسلا بعد أيام من وصولها فأصرت على أخذها معها إلى بورسودان لتعلمها في مدارس كمبوني وتم ذلك بالفعل.. فجلست (سهايتو) مع خالتها الأخرى في بورسودان وتعلمت في مدارس كمبوني حتى بلغت العشرين من عمرها فتخرجت فيها وهي تجيد اللغة الإنجليزية والعربية إلى حد ما ودرست الديانة المسيحية الكاثوليكية أتقنت مهنة مسك الدفاتر (Bookkeeping) والطباعة على الآلة (Typing) والكتابة بالاختزال (Shorthand) هذا إلى جانب الإلمام باللغة الفرنسية إلى حد لا باس به.. ولحسن حظها وجدت وظيفة في إحدى شركات الملاحة في بورسودان أتاحت لها هذه الفرصة معرفة دنيا جديـدة من علاقات رجال الأعمال وكبار موظفي الدولة والشركات ومؤسسات القطاع الخاص.. ساعدها في ذلك هذا الجمال الأخاذ الذي تراه الآن وذكاء لماح وطريقة في التعامل غاية في الرقة والاحترام فنالت استحسان كل من عرفها وتعامل معها.. فاشتهرت حيث سعى الجميع إليها ليخطب ودها.. خلال عملها تعرفت على شاب من بني جلدتها يعمل في إحدى شركات التبغ.. وكان جل عمله مع شركة الملاحة التي تعمل بها (سهايتو) فنشأت بينهما علاقة صداقة.. وشيئاً فشيئاً أخذ هذا الشاب يحدثها عن (ثورة الجياع) وأنه عضو عامل فيها ويتبرع لها بالمال وطلب منها أن تعمل مثله فتتبرع بجزء من دخلها (لثورة الجياع) ففعلت.. وأخذت تقرأ عن الثورة وتطلع على منشوراتها ثم زادت من إطلاعها فقرأت عن الفكر الاشتراكي فتحمست وأصبحت (ثورة الجياع) شغلها الشاغل ولكنها كانت حريصة على سرها حتى لا يفضح أمرها.. تعرفت في بورسودان على مهندس سوداني من أسرة غنية فأحبته بصدق وأصبح عشيقها الذي وهبته كل حياتها.. وكان كريماً معها إلى أبعد الحدود.. وحتى تصبح له وحده طلب منها أن تترك عملها في شركة الملاحة واقسما معاً ألا تعرف هي رجلاً غيره وأقسم هو آلا يعرف امرأة غيرها.. فأحب كل منهما الأخر بصدق.. وقد أتاح لها كرمه بالصرف البذخي عليها أن يزيد تبرعها (لثورة الجياع) أضعاف أضعاف ما كانت تدفعه من دخلها في شركة الملاحة.. شاءت الظروف أن ينقل هذا العشيق المهندس من بورسودان إلى عطبره فأخذها معه وآجر لها هذا المنزل الذي نجلس نحن فيه الآن وعاشت معه زمناً جميلاً, وفعلت بقلوب رجال عطبره ما فعلته في بورسودان ولكنها كانت لعشيقها وحده, فلم يفلح رجل من أن ينالها مهما قدم لها من مغريات.. وظلت هي على وفائها لعشيقها ولمعشوقتها (ثورة الجياع) تتبرع بمال كثير ماوسعها ذلك.. جاء يوم انتهت فيه علاقة العشق مع حبيبها المهندس الذي أجبره أهله على الزواج, فتزوج وأنتقل إلى الخرطوم حزيناً صادقاً في حزنه لفراقها.. أما هي فقد تحملت الصدمة لأن عشقها (لثورة الجياع) علمها كيف تفكر بواقعية فتجاوزت تجربة الفراق بنجاح.. وظلت في عطبره لا تملك فيها إلا أن تبيع جسدها بعقل واتزان لتستمر في رفد (ثورة الجياع) بالمال..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
توقف ابن عوف ثم تنهد وقال (وكنت أنا في قلب (سهايتو) وضمن رحلة عمرها التي يختلط فيها الخيال بالواقع) وصمت قليلاً يداعب كأسه ثم أردف قائلاً (ومن تاريخ تلك الليلة الليلاء أصبحت (سهايتو) كل حياتي) فعانقته هي بمودة حين ضمها وقبلها وضوء (الأبجورة) الخافت يضفي على هذا العناق شاعرية لم تفارق خيالي قط.. عجبت لما سمعت فتضاعف احترامي لهذه المومس التي جعلت من حياتها المسحوقة معنى للعطاء والتضحية، وهو أمر قد لا يعرفه أكثر الناس إدعاءً بالشرف والفضيلة.. أسرفنا جميعاً في الشرب في تلك الليلة كما أسرفنا في الحديث عن الثورة وأسبابها ومقومات نجاحها ثم أنتهي بنا الحال لنغني معاً (عازه في هواك).. فتجسد الوجود نغماً موحداً في هذه اللحظات البالغة الكثافة مع كل رشفة من الجعة.. وصارت (سهايتو) مركز اهتمامنا وإعجابنا ومتعتنا.. نتابعها في غدوها ورواحها ونغازلها بالعبارات الموحية الرامزة, فترد علينا بما هو أبلغ وأعمق فتزداد ملاحة وإشراقا.. منذ تلك الليلة زاد حرصي على مصاحبة ابن عوف لا أفارقه حتى أستدرجه إلى منزل (سهايتو) في ليالٍ كثيرة.. وكان هو في هذا الجانب ليناً طيعاً كأنه كان ينتظر مني كلمة، فنقضي عندها بعضاً من الليل.. لاحظت فرحها الطفولي التلقائي الذي لا تداريه عندما ترانا, كما لمست سعادتها البادية في أعماقها المزغردة بلا تحفظ لوجودنا.. وكم أسعدني هذا اللقاء الذي يحيطنا بحفاوتها الدافئة فلا نملك إلا أن نبادلها بمشاعر لها دفئها وصدق إخلاصها فنتعانق في مودة وآلفة وعطرها الباريسي (سوار دي بارييه) ينعش أعماقي.. نجلس معها في ذات المكان وكؤوس الجعة تدور ويدور معها حديثنا فتشاركنا فيه حتى في جانبه الجاد عن السياسة.. لقد تركت (سهايتو) شيئاً ما في أعماقي أكثر من مشاعر الصداقة لعل ميولي تحولت إلى ما هو أبعد.. كنت أفكر فيها وأحن للقائها عندما أغيب عنها.. وقد زاد هذا الإحساس عندي عندما انتهت إجازتي وعدت راجعاً إلى الخرطوم.. طوال رحلة القطار من عطبره إلى الخرطوم وهي ما تزيد عن سبع ساعات لم تفارق مخيلتي.. سألت نفسي: إذا كان هذا هو حالي فما هو حال ابن عوف الذي يعشقها عشقاً لا مراء فيه.. وأنا أعرف ابن عوف ومشاعره الجياشة وتفكيره الذي لا يزال تغلب عليه العاطفة أكثر من العقل.. لمست هيامه بها.. وخفت عليه أن يشتد ولهه بها فيذهب أبعد من علاقة عشيقة إلى علاقة زوجة.. وابن عوف قد يفعلها أن وصل إلى قناعة تقوده إلى هذه النهاية.. وستصبح الطامة الكبرى في ذلك المجتمع المتزمت المتخلف ولن يرحمه أحد ولن ينال احترام أحد.. تصوري كان في مكانه.. كنت أتبادل الرسائل مع ابن عوف بعد عودتي من عطبره وكان طبيعي أن تكون (سهايتو) وقصتها ولياليها وجعة قواريرها الباردة هي موضوع تلك الرسائل.. وذات مرة جاءتني رسالة منه يقول فيها بصريح العبارة أنه طلبها أن تتزوجه فكانت المفاجأة أنها رفضت طلبه تماماً وطلبت أن تستمر علاقتهما كما هي دون حاجة إلى ورقة من رجل دين وقالت أن هذه الورقة ستحول حياته إلى جحيم.. وهذا الجحيم سيطالها بلا شك فلماذا يذهبا إلى جهنم بأرجلهما.. ثم أخذت تناقشه بمنطق أخر فيه الكثير من العقل والرؤى الواقعية. ذكرت له أنه يعرف أن لها قضية وأنها مجندة لهذه القضية ومن أجلها تتبرع بنصف دخلها فأن أراد أن تكون له وحده فهل يستطيع أن يغطي تلك النفقات؟! إن قضيتها أعظم في نظرها من حياتها الخاصة.. أنها ترفض أن تعيش الحياة من غير هدف تعمل من أجله.. أسقط في يد ابن عوف أمام هذا المنطق القوي فتراجع وعاد إلى صوابه وكتب لي يقول أنه شعر بالخذي لأنه كان صبيانياً في تفكيره.. بل أنها لقنته درساً في الوطنية والنضال ونكران الذات.. كتبت له قائلاً: كل مجال تطرقه تجد فيه هذه (المومس الفاضلة) عظيمة.. وأعظم ما فيها تفكيرها الواقعي المتزن الذي وعى بعمق ظروفها المحيطة فتعاملت معها بعقلانية فزانها هذا الوعي جمالاً على جمال.. شغلتني الحياة في الخرطوم وأخذت عطبره بما تعج به تتواري خلف حجب المشاغل اليومية وأخذت رسائل ابن عوف تتباعد رغم شغفه بكتابة الجوابات, إلى أن توقفت تماماً فلم أعد أعرف عنه أو عن (سهايتو) شيئاً, إلى أن جاءتني الأخبار من عطبره أن ابن عوف قبض عليه مع مجموعة رفقاء الحزب في حالة اجتماع.. وهي جريمة في حالة تلبس.. وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر.. وقع عليَّ الخبر كالصاعقة وحزنت عليه كثيراً.. وانتابني شعور بأن هذه بداية سيئة ربما تقود إلى تدمير حياته.. لعلها هذه المرة أقسى من سابقات الحبس إذ حكم عليه بالسجن.. وواضح أن علاقاته (الكروية) لم تعد مؤثره ولم تقدم نفعاً.. فعليه أن يعيد ترتيب حياته وفق معطيات وضع جديد.. قضى ابن عوف فترة سجنه وعند خروجه في تاريخه المحدد قررت الحضور من الخرطوم لاستقباله.. وفي اليوم المحدد ذهبت مع أبي وبعض الأهل والأصدقاء لاستقباله.. فخرج إلينا من باب السجن في معنويات عالية فعانقناه الواحد تلو الآخر.. وكان أبي قد ذبح في ذلك اليوم وأقام (كرامة) لخروجه.. وفي المساء أخذني إلى بيت (سهايتو) وكانت المفاجأة المذهلة حينما قابلتنا صديقتها (زنبيش). أخذت تسلم علينا بحرارة لأنها تعرف العلاقة بين (سهايتو) وابن عوف ومن خلال سلامها رمت الخبر كالشرر المشتعل وقالت: (سهايتو سافرت روما) وتركت لك هذا الجواب.. وناولته ظرفاً مغلقاً بإحكام.. ارتعد ابن عوف لسماع الخبر وأخذ الجواب بيد مرتعشة وهو غير مصدق لما قالته (زنبيش) أو لا يريد أن يصدق.. وكنت أنا في حيرة من أمري.. هل هكذا تجف الحياة فجأة فتتحول الواحة الظليلة إلى صحراء قاحلة؟! كان كل منا يحتاج إلى وقت لاستيعاب الموقف والتصرف على ضوئه بما يتجاوز صعقة الخبر المذهل.. جلس ابن عوف وجلست إلى جانبه وفتح المظروف ليجد خطاباً باللغة الإنجليزية فشرع في قراءته بصمت وكنت أقرأ معه عبارات (سهايتو) الحزينة والظروف الصعبة التي أجبرتها على الهجرة إلى روما لتعيش هناك.. لقد تبدلت الحياة هنا وأصبح كل شيء يهرول إلى الوراء فلم تعد الظروف هي الظروف, ولا الناس هم الناس, الفقر يرمي بظلاله على كل شيء.. عطبره لم تعد عطبره.. وبعد سجنك يا ابن عوف اسودت الحياة في وجهي وفقدت الأمل في كل شيء ولم يكن أمامي مخرج غير الرحيل إلى روما.. أتمنى أن ألقاك لك حبي ومودتي.. حين رفع ابن عوف رأسه كانت الدموع تبلل وجهه فقام صامتاً وأعاد الجواب إلى ظرفه وأدخله في جيبه وأخذني من يدي وخرجنا في حركات أشبه بمشهد جنائزي يسير موكبه وئيداً حزيناً فتهنا فيه يضمنا ظلام ليل بهيم.. جلست في عطبره عدة أيام، فلم يكن ابن عوف هو ذلك القروي المقبل على الحياة بكل ما فيها من طاقة وتوهج وإنما أنزوي واحترقت طاقته وخَفتَ وهيجه فصار قليل الكلام, بلا رغبة في أي شيء كأنما رحيل (سهايتو) إلى روما أخذ معه ماء الحياة من جسده.. لم تكن تلك ملاحظتي وحدي وإنما لاحظ ذلك أبي ووالدتي وأخوتي وزملاؤه وأصدقاؤه, ولعلي كنت الوحيد الذي يعرف سر ذبوله.. فقلت له (ما هكذا يجب أن تنهار, المفروض تكون أقوى من ذلك بكثير) قلت له ذلك وفي قرارة نفسي إحساس عميق بأن رحيل (سهايتو) زلزال لن يقوى عليه ابن عوف الذي عرفها في لحظة محنة فآوته وحمته وحفظت سره وأعطته سرها فناغته وسقته خمرها وحبها. وزادت من ذلك حين عرفت أنها تجربته الأولى.. فقال لي وهو يزرع بصره في الأرض (هل قدر لك أن تعرف الخل الوفي الذي قالت فيه العرب أنه أحد الثلاثة المستحيلات؟ أنا عرفته وعشت تجربته فكذبت العرب فيما قالت). جاءت كلماته رغم وهن صوته قوية عميقة تحكي صدق تجربته وعظيم معاناته.. فقلت في نفسي هذا أمر يجب آلا يسكت عليه وإلا ضاع ابن عوف.. فأخذته في حنان أحاول تهدئة فورانه الداخلي وعدم استقرار نفسه.. كان كالتائه في لج لا منجاة منه, ولكن لا بد من فعل شيء..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
حاورت أصدقاءه وزملاءه في ضرورة أن يعملوا شيئاً يخرجوه من هذه الحالة.. قال أحدهم (هل يمكن للسجن أن يفعل بمناضل مثل هذه الحالة المحبطة؟) رد آخر (عندما خرج ابن عوف من السجن واستقبلناه كانت معنوياته عالية جداً, ولكن شيئاً حدث بعد ذلك) علق أحد الذين كانوا معه في السجن (عندما يشعر الإنسان أن نضاله بلا معنى بلا نتيجة، وأن الشعب مستكين خامد هامد يشعر المرء أن تضحيته ذهبت هدراً..) قلت لهم كل هذا لا يهم ولا نحتاج نحن الآن تشخيص حالته لأننا لسنا أهل تخصص وإنما نريد بعلاقاتنا به أن نعمل ما هو في وسعنا لنخرجه من أزمته قدر ما نستطيع وقد ننجح, فهي حالة عرضية وتزول مع الزمن.. المهم آلا تترك أثاراً نفسية أو عقلية تتضاعف مع مرور الوقت.. وقبل أن أغادر عطبره اقترحت على أبي أن يزوجه بسرعة لعل الزواج يخرجه من حالة الانطواء التي هبطت عليه فجأة..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
كانت أخبار ابن عوف تأتيني من أبي.. أما هو فقد توقف عن الكتابة إليَّ تماماً.. أنتهي شغفه بكتابة الجوابات.. وكنت أعرف أن أحواله تتحسن شيئاً فشيئاً ولكنه لم يعد إلى حالته الأولى التي تملأ الدنيا حركة وبهجة ومتعة.. وتوقف تماماً عن لعب كرة القدم ففقدته الملاعب والنجيلة الخضراء في عطبره.. وزوجوه من ابنة قريب لنا يسكن مدينة الأبيض.. وزفت زوجته إليه من دار أهلها في الأبيض إلى عطبره فترك بيتنا وأجر منزلاً آخر عاش فيه مع زوجته.. زيارتي لعطبره ظلت منتظمة بلا انقطاع وفي كل مرة أجيء فيها أقضي جل وقتي مع ابن عوف وزوجته.. ولم أشعر أنهما سعداء ببعضهما.. هالني الحزن العميق الذي أراه في عيني زوجته وحالات شرودها وهي بين الناس.. وراعني أن أرى ابن عوف قد تحول مدمناً يشرب أرخص أنواع الخمر حتى يفقد وعيه وكأنه قاصد أن ينسى حياته كلها.. نحل عوده وضمر وجهه وتجعد, فاختفت في تجاويف التجعيد شلوخه التي كانت تجمله, وتحولت تلك القامة الجميلة الفارعة إلى هيكل عظمي تتخطفه رياح الزمن إلى المجهول.. ضاعف من هذه الحالة البائسة انعدام الذرية فوغر ذلك صدر الزوجة بلا معنى الوجود، فتركت ابن عوف راجعة إلى أهلها في الأبيض.. وفشلت كل أجاويد الدنيا في إبقائها ورحلت دون أن تأخذ أي شيء من أشيائها.. فعاد ابن عوف كما كان وحيداً يعيش حياة هامشية بعد أن كان في قلبها يصنع التاريخ.. ولم يبق له غير زجاجة (العرقي) تسامره فيبثها ذكريات بطولاته التي أصبحت أطلالاً كأطلال عطبره التي كانت يوماً هامة مدينة سامقة فانكسرت ذات ليل بهيم كما انكسر ابن عوف وتحولا معاً إلى ذكرى.. في ليلة قارصة الشتاء جاءني خبر وفاة ابن عوف.. كانت ميتة بالغة القسوة والحزن, تجسد فيها معنى التحول من النقيض إلى النقيض.. مات ابن عوف وحده في غرفته لم يحس به أحد غير زجاجة (العرقي) التي أبقى ربعها.. وظل ميتاً لم يتفقده أحد لمدة ثلاثة أيام حتى نادت الرائحة المارة في الشارع ليجدوا هذا المارد العملاق جثة تتحلل.. كان في قلب الحشود البشرية.. في الملاعب وفي المظاهرات وفي صفحات المنشورات والصحف يحس به الجميع قائداً فذاً يحرك الجماهير كما يشاء وكيفما يشاء, ولكن ذات ليل عبثى أنفض السامر من حوله, فأصبح كالسيف وحده, ثم ترك دنيانا بلا وداع.. تماماً كهذه الساحة التي سماها أهل عطبره (فضاية المولد)، يقف الجامع الكبير في غربها يبكي عليها وحده وهو يرثي مدينته التي شمخ فيها هادياً لأهلها كما يبكي ذكرى معانقة هدير مكائن ورشها وحركة قطاراتها لتراتيل مئذنته وهي تصدح (حي على الفلاح).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
مراجع المقدمة - جابر عصفور، مفهوم الشعر، دار التنوير، الطبعة الثالثة، ص87. - وعي الذات والآخر، دار الحوار. - طبائع الاستبداد. - رواية عطبره.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
ارجو ان لا اكون قد اخطأت في إنزال الرواية بترتيب جملها وفقراتها كما هي واذا كان هناك أي خطأً اعتذر لكم وللكاتب عنه ، وساصححه فور اكتشافه .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
أعرف ان هذه المادة ليست مادة للحوار . وان أي رأي أو تعليق يمكن ان يُكتب حول هذه الرواية لا يمكن كتابته إلا بعد قراءة الرواية . وهذا لا يحدث في التو واللحظة كما يمكن أن يحدث في البوستات القصيرة . ولكني ارجو من المهتمين الساهمة في رفع البوست ، ولو بكلمة واحدة حتى يستطيع النص الروائي الوصول الى أكبر عدد من المهتمين
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
الأستاذ والصديق .. تراث
قبل كل شئ أنا شاكر لهذا الجهد الكبير والذي يحتاج لجانب المحبة والعشق للأدب الي صبر ووقت قد لا يتوافر ومشغوليات هذه الغربة ومتعرجاتها ..
كانت المقدمة شمعة مضيئة سهّلت علينا كثيرا البحث عن مداخل لبداية الرواية ورسم الخطوط العريضة لها .. فشكرا لهذه التقدمة الشارحة من كاتب ( رغم بعده الجغرافي ) إلا انه أمسكنا بطرف الخيط ..
أوصلت صاحبنا الآن الي محطة البصات بكل ما صاحب هذه البداية من عنت ومشقة وقبول عبوث لقادم بمشاعر صدمت بهذا ( الحائط ) المتبلد المشاعر .. متعة الحكي والسرد بساطة المفردة ووضوحها الخيط المتين الذي يحيك بين أطرافها يجعلك لاهثا لألتهامها حرفا حرفا ..
اسمح لي سأقوم بطبع العمل حتى أتمكن من قرأته من سحر الورق وقدسيته ، فهذا أمر له نكهة خاصة ..
مرة أخرى نشكرك على هذا الدفق الجميل ..
تحياتي لكل الأسرة وتحية لصاحب الرواية
عبدالرحمن
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: تراث)
|
لك التحية عثمان تراث على هذا الجهد الرائع 00 وربما كانت هى المرة الاولى التى يتزامن فيها صدور رواية سودانية الكترونيا مع صدورها ورقيا 0
مع خالص التحايا عادل السعيد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: عطـــــبرة رواية لسعيد (Re: adel alsaed)
|
الأصدقاء العزيزين جداً : أمين الصغير ، تماضر ، الرحمابي، عادل السعيد وبقة قراء البوست والمهتمين بموضوعه . ضاع مني هذا البوست منذ فترة ، وعرفت مؤخراً أهيمته عندما عاد الناقد والكاتب اليمني عبد الرحمن الأهدل من القاهرة مؤخراً بعد مشاركته في مؤتمر الرواية العربية . وألأهدل لو تذكرون هو الذي كتب مقدمة رواية (عطبره) . جاء من القاهرة سعيداً بالحفاوة التي لقيها من السودانيين المشاركين في المؤتمر والمتابعين لفعالياته . قال انه اندهش وشعر بالسعادة كلها في أن رواية عطبره جعلته معروفاً ومحتفى به من المثقفين السودانيين الذين التقاهم هناك وعرف إن معظمهم عرفوا الرواية واستطاعوا قراءتها من خلال انزالها في هذا البوست . شكراً لمنبر بكري ، منبرنا. وساعود اليكم . أعرف ان البوست بطبيعته ليس بوستاً للتعليقات والمداخلات والحوار ، والغرض من وجوده هنا توفير الرواية لمن لا يستطيع الحصول على نسخة منها ، وخدمة لهؤلاء ساعدوني في أن يبقى البوست ظاهراً حتى يصل لأكبر عدد من المهتمين .
| |
|
|
|
|
|
|
|