|
تراث يكتب عن فيصل مصطفى..............نقلا عن الراى العام
|
مكان فيصل مصطفى
عثمان تراث
سأل مذيع التلفزيون السوداني ضيفه القاص السوداني الكبير ابراهيم اسحق: من مِن ابناء جيلك من كتاب القصة في السودان لم ينصفه الزمن؟ فأجاب اسحق: فيصل مصطفى.... مرمى في اليمن منذ عشرين سنة!
نعم ، عشرون عاما ونيف قضاها القاص والروائي السوداني فيصل مصطفى في اليمن قبل ان يقرر فجأة مغادرتها ، ويحقق ذلك في سبتمبر من العام الماضي 2005م رحيلا الى مصر في طريق عودة تدريجية الى السودان.
يحكى فيصل مصطفى عن تجربة قدومه واستقراره في اليمن:
«.. اقول: لقد اتيت الى اليمن مضطراً
.. ولم اكن اتوقع ان امكث بين ربوعها كل هذه السنين
«....»
.. حينما وطئت اقدمي ارض السعيدة
.. قررت العودة الى السودان
«...»
.. ولم يمض طويل وقت
.. حتى تغير موقفي الى النقيض تماماً
.. فسرعان ما وجدت نفسي بين ربوع وطني الثاني حقاً.
.. ارض الجذور والاجداد»1
بهذه الطريقة ، طريقة الكتابة الرأسية التي يسبق كل سطر منها ثلاث نقاط، ظل يكتب فيصل مصطفى منذ عدة سنوات، وظلت جريدة « الثورة» اليمنية، في صفحاتها الثقافية وملحقها الثقافي، يحرصان على نشر نصوصه المركبة، وقد تصدر كل منها صورة الكاتب بعمامته السودانية المميزة. وبجانب « الثورة» احتضنت نصوصه «26 سبتمبر» و«معين » و« اليمن الجديد» و« الجيش» ، ثم «الوحدة» و«22 مايو» ، حتى بلغ عدد ما نشره في المطبوعات اليمنية اكثر من 300 قصة قصيرة. وخلال نفس الفترة صدرت روايته الاولى « الخفاء ورائعة النهار» في عام 1988 ، اي بعد ثلاثة سنوات من وصوله الى اليمن، وهي نفس المكان الذي تم فيه توزيع تلك الرواية. وفي اليمن كتب فيصل مصطفى واصدر روايته الثانية« حكيم وعطاء وروضة يعبرون النيل». وظل يكتب وينشر، حامدا شاكرا لليمن فضلها عليه:
«.. اليمن حفظت تماسكي
..جعلتني متوازنا
..ولعل اعظم هبة وهبتني اياها
اشباع رغبتي الجامحة في النشر»2
وفي مقابل الكم الكبير من النصوص التي نشرها فيصل في اليمن، سودت اقلام قليلة جدا ورق المطبوعات اليمنية لتقول شيئا عما يكتبه فيصل.. اي شئ، وبأصابع اليد الوحدة نعد اصحاب تلك الاقلام: عز الدين سعيد، فؤاد عبدالقادر، والمصري محمد رجب والسوري سمير السنكيري، ثم احمد صالح غالب الفقيه، وما عدا الاخير فقد كتب الاوائل عن انتاج فيصل القصصي والروائي عندما كان كاتبنا يكتب نصوصه بالطريقة الافقية المعروفة لكتابة النصوص السردية.
ابتكر فيصل مصطفى لنفسه منذ العام 1997 طريقة جديدة لكتابة النص النثري، تعتمد شكلا رأسيا لهذا النص ، وهو شكل مفارق لم يعتده القارئ، يراه فيظن ان امامه نصا شعريا فاذا به يفاجأ بان ما يقرأه ليس شعرا بل نثرا « قصة» كان او « مقالة» فتتخلق حينها فجوة في نفس المتلقى بين ما توقعه وبين النص الماثل امامه كدال ومدلول. او كشكل ومضمون، كما ساد في النقد القديم.
ويدافع فيصل مصطفى بشدة عن الطريقة الرأسية في كتابة نصوصه النثرية فيقول:« الكتابة الافقية لم تعد بشكلها الانسيابي الرتيب هي الضرب الذي يستهويني ويعبر عن طابعي الخاص»3
ويؤكد انه وباتباعه الشكل الرأسي في كتابته النثرية، لا ينازع الشعر، بل يجاوره، يحاول ان يتقرب اليه في محاولة لـ« كسر حدة الخطوط الحمراء بين اجناس الابداع»4
ويرى ان ذلك هو الذي« ادى الي التقارب والانغماس في آنية واحدة لنظرية الانواع الادبية»5
وهو يعتبر ، ونحن معه ان روايته الثانية « حكيم وعطاء وروضة يعبرون النيل» تتسم بالشعرية.. ويشدد على ان « ليس المقصود بالشعرية هنا الوزن والقافية او موسيقى الشعر الداخلية»6 انما رؤية العالم من منظور مختلف ووجود فجوة / مسافة توتر ، كتلك التي تحدث عنها كمال ابو ديب في كتابه « الشعرية» ويصنف فيصل اسلوب كتابته هذا بأنه ضرب من نسق الكتابة البصرية.7
وفيصل مصطفى ورغم اقامته المزمنة في اليمن، ظل قلمه يعبر عن دواخل محتشدة بوطنه السودان ، ويكتب بحميمية عن تفاصيل هذ الوطن الممتد في وجدانه بمساحة مليون ميل مربع من الشوق والحنين والخيبات والآمال. ويشكل الوطن ، بناسه واماكنه وازمانه، مادته الخام للتعبير عن كل ما يود ان يقوله حتى لو كان هذا القول ناتجاً عن تجربة ولدت في اليمن وفي نصوصه يغرق فيصل كثيرا في تفاصيل دقيقة وصغيرة عن الواقع التاريخي والاجتماعي في السودان. وربما يكون هذا سبب آخر ساهم في تقليل كم مقاربة النقاد اليمنيين لما يكتب.
«.. لكن تظل اليمن في نهاية المطاف فيضا من ينابيع الهناءات
.. يتدفق دون انقطاعات
.. كنهر الحياة
.. يبعث الدهشة في جمود العيون الجاحظة»8
**
ظللنا نحن السودانيين المقيمين في اليمن نفخر كثيرا عندما نرى صورة فيصل مصطفى في الصحف اليمنية، ونقرأ بتلذذ نصه المنشور تحت تلك الصورة.. نتلمس وقائع واحداثا وانماط شخصيات نعتقد اننا نعرفها، وندهش لقدرته الفذة في اخضاعها للمعايير الابداع، حيث تنكسر اكثر مما ينكسر الضوء في الماء، فنحس ان ما نقرأه نعرفه ولا نعرفه، فتبلغ اللذة اقصاها.
يصف الروائي الكبير الطيب صالح كتابه فيصل مصطفى فيقول: « لم يكتف المشهد الروائي في السودان بالتنوع على وتر الاتجاهات والمذاهب ، او اللجوء الى التاريخ كحدث وقناع، بل تخطى ذلك الى التجريب وتجاوز النمط. ومن هذه المحاولات رواية الخفاء ورائعة النهار لفيصل مصطفى الذي حاول ان يزاوج بين ماهو واقعي وماهو اسطوري في جدلية الظاهر والباطن للقبض على اشكاليات اجتماعية وايدلوجية، كالصراع مع المستعمر ووضع المرأة في مجتمع بطريركي. واعتمد لغة غير مألوفة. زاوجت بين الشعري والدرامي وحاولت ما استطاعت ان تخرج من جلباب الواقعية المهيمن على الرواية السودانية»9
في منتدى النيلين الثقافي بصنعاء ظل فيصل يصول ويجول، يصحح دائما لغة المكلمين بمعرفة نادرة بدقائق اللغة العربية، ويقدم المفيد والممتع من الاوراق. ويساهم في حوارات المنتدى، الساخنة الطويلة. بكلمات مقتضبة ، مطبقا قول العرب: خير الكلام ما قل ودل . ومجسدا قول النفري كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» وهو معجب بهذا القول يكرره كثيرا ويجسده كثيرا. في شهر مغادرته اقام المنتدى حفلا لوداع فيصل، تحدثنا فيه، بكينا ، وصمتنا، ومن ضمن اسئلة كثيرة، اضمرنا سؤالاً يشغلنا: من يشغل مكان فيصل مصطفى في الصحف اليمنية؟
1- فيصل مصطفى، في كتاب « قلوب بيضاء» لاسعد الهلالي، اصدارات وزارة الثقافة والسياحة اليمنية- 2004م . ص. 41-.42
2- المصدر نفسه . ص .55
3- فيصل مصطفى حكيم وعطاء وروضة يعبرون النيل»، مركز عبادي للدراسات والنشر- صنعاء الطبعة الاولى 2002م توطئة الرواية ص. 4
4- المصدر نفسه ، ص 4
5- المصدر نفسه ص 5
6- المصدر نفسه ص 5
7- انظر المصدر نفسه . الصفحات من 4-6
8- المصدر نفسه . ص 22
9- فيصل مصطفى « حكيم وعطاء وروضة يعبرون النيل» مصدر سابق الغلاف الاخير.
|
|
|
|
|
|