|
أبيي و الولاء المزدوج
|
إبراهيم علي إبراهيم المحامي متخصص في شئون الكونجرس واشنطن [email protected]
عودة شبح التاريخ: بالنظر للاقتراحات المثيرة للجدل التي قذف بها السيد/ دانفورث مندوب الرئيس بوش في وجه المفاوضين على عجل قبل أن يغادر مطار نيروبي عائدا لواشنطن والخاصة بمعالجة وضع منطقة أبيي تتضح العجلة الأمريكية في أمر السودان وبذلك تعيد الولايات المتحدة إلى الأذهان ذكرى تلك الأحداث والقرارات المستعجلة وشبح أخطاء الماضي ، حيث تصنع هذه الاقتراحات من أبيي نموذجاً مصغراُ من "جنوب السودان" أي جنوباً آخرا لما تبقى من السودان.
تؤكد هذه المقترحات أن الولايات المتحدة لم تعي درس الماضي حينما اصطدمت جهودهم بالعقبة الكئود المتمثلة في حسم الوضع المتميز لمنطقة أبيي. ففي ظل عجلتهم لإنجاز نصر خارجي في ملف السودان يضاف إلى رصيد الرئيس بوش ليخوض به حملته الانتخابية التي انطلقت مبكرا هذا العام ، يسود التخوف في أوساط الإدارة الأمريكية من أن تقف منطقة أبيي عقبة في سبيل احراز هذا النصر ،وقد تؤدي إلى نسف المفاوضات و من ثم ضياع الجهود الأمريكية أدراج الرياح ، خصوصا وان الوقت لا يكفي لاتخاذ اي عقوبات قاسية ضد حكومة السودان. وقد تجسد هذا الخوف في أقوال السيد/ شارلز شنايدر مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية أمام اللجنة الفرعية لإفريقيا بمجلس النواب حيث ذكر ان ابيي قد تنسف المفاوضات وبعد ذلك ستضطر الإدارة إلى فتح ملفات معروفة للجميع تتلخص في ملف حقوق الإنسان ، وملف الإرهاب ، ومحاولة اغتيال الرئيس حسن مبارك لاستخدامها ضد الحكومة السودانية. يتضح من هذه العجلة أن الإدارة الأمريكية لم تعي درس الماضي المتمثل في الوضع الذي واجه الإنجليز بشأن الجنوب بعد أن دان لهم السودان . فقد كانت أفكارهم تتأرجح بين ضمه لشرق إفريقيا أو ترك أمره للشماليين. وفي نهاية المطاف كما هو معلوم اختار الإنجليز ضمه للشمال دون وصفة دقيقة تحدد شكل هذا الضم وتحكم علاقاته. وقد رأينا نتيجة ذلك الضم المتعجل المتمثلة في وطن أنهكته الحرب ، وفقدان لملايين من الأرواح وفي الخراب الاقتصادي والدمار الاجتماعي الذي لحق بالسودان من جراء الحرب. فالآن يجد الأمريكان أنفسهم في نفس تلك الحيرة التي واجهت البريطانيين منذ أمد طويل. فتقدمت الإدارة الأمريكية بمقترحات من شأنها أن تجعل لمنطقة أبيي قلبين في جوف واحد بحيث يكون لها ولاء للشمال وفي نفس الوقت ولاء للجنوب.
تطور الموقف الأمريكي: لم يكن السودان مهماً في نظر الإدارة الأمريكية عندما كان على أعتاب الاستقلال ، فقد فضلت الإدارة الأمريكية عدم التدخل في شئون السودان وهو في أحرج أوقات تاريخه للاختيار بين الضم لمصر أوالاستقلال. وعموما أيدت الولايات المتحدة استقلال السودان وتمنت في خطاب تأييدها أن يشكل السودان جسرا بين شمال وجنوب الصحراء. وبعد ذلك ظل السودان بعيدا عن دائرة الاهتمام الأمريكي حتى النصف الثاني من عهد الرئيس كلينتون حيث أعيت المحاولات التجمع الوطني الديمقراطي وهو يحاول إقناع الإدارة الأمريكية بأهمية التدخل في شئون السودان. وقد تطور الموقف الأمريكي تجاه السودان تطورا حثيثا طبقا لتطور وكبر حجم ملفات الإرهاب في دوائر أجهزة الاستخبارات الأمريكية حيث كان ملف القاعدة يتضخم يوما بعد يوم ، ثم وجود أسامة بن لادن بالسودان وعلاقته بالحكومة وتضخم ملفات حقوق الإنسان في السودان ، إلى وقوع أحداث 11 سبتمبر التي غيرت السياسة الأمريكية وحساباتها بصورة جوهرية ، حيث أصبحت حرب الإرهاب من أهم علامات هذه الحقبة من التاريخ السياسي ، ثم أردف ذلك ظهور النفط في السودان وزيادة الاهتمام الدولي بالسودان وتكالب المطامع الدولية عليه. وكنتيجة مباشرة لهذه التطورات في السياسة الخارجية الأمريكية تبلور الموقف والاهتمام الأمريكي بالسودان بشكل ملحوظ ، و أحرز تقدما بصورة إيجابية بحيث وصل الأمر إلى حد منح إيقاف الحرب الأهلية في السودان الأولوية في السياسة الخارجية للإدارة الحالية. وكان أن اتخذت الإدارة الأمريكية حزمة من الإجراءات والسياسات تتمثل في القرارات التي أصدرتها الخارجية والقوانين التي أصدرها الكونجرس مثل قانون سلام السودان ، ثم جاءت ورقة معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية بتكليف من الإدارة الأمريكية التي أوصت بتطبيق نظامين للحكم في السودان ، واحد للشمال وآخر للجنوب ضمن دولة موحدة. أصبحت هذه السياسات هي المرتكز للوساطة الأمريكية في النزاع السوداني حيث دفعت الإدارة بفريق كبير من الخبراء والدبلوماسيين والعسكريين يتقدمهم القس دانفورث وطاقم السفارة بالخرطوم ، وبإشراف مباشر من السيد/ مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية ، ثم توجت هذه الجهود بزيارة وزير الخارجية نفسه للعاصمة نيروبي حيث التقى بزعماء الفريقين وحثهم على ضرورة الوصول إلى اتفاق سريع ينهي النزاع في السودان.
أهم ملامح المقترح الأمريكي: يمكن تلخيص أهم ملامح المقترح الأمريكي بشأن وضع أبيي في الآتي: - وضع إداري خاص تحت إشراف رئاسة الجمهورية أثناء الفترة الانتقالية. - يكون لها مجلس تنفيذي معين أثناء الفترة الانتقالية بواسطة رئيس الجمهورية. - يكون لمواطني أبيي حق التمثيل في ولايتي غرب كردفان وبحر الغزال. - نشر مراقبين دوليين في المنطقة. - في النهاية إجراء استفتاء على خيارين الأول: أن يكون لأبيي وضع خاص ضمن الشمال ، والثاني: أن تضم للجنوب.
وبقراءة متأنية لهذه المقترحات في ظل الوضع التاريخي والسياسي لمنطقة أبيي يتضح أن المقترح الأمريكي من شأنه أن يؤدي إلى الآتي: - خلق ازدواجية في المنطقة وبذر بذور الفرقة بين سكانها وذلك بتمثيل المواطنين في مجالس ولاية غرب كردفان ومجالس ولاية بحر الغزال (الجنوب) ، هذا من شأنه أن يفلق وجدان السكان بين ولاء لجهتين مختلفتين شمالية وجنوبية ويدعو إلى الاستثارة العنصرية في المنطقة. فكأنه أراد القول أن المسيرية لهم الحق في التمثيل في الشمال أما دينكا انقوك فيمثلون في بحر الغزال ، وهذا لعمري وضع غريب وغير مسبوق في العالم. أن حصر التمثيل النيابي في المنطقة الواحدة وتحديده بالانتماءات القبلية هو أمر غير معروف ولم يألفه القانون الدولي ، والمطلوب هو تحديد وجهة سكان المنطقة بأسرهم بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية ، ومن ثم تمثيلهم في ذلك الإقليم. - إرجاء معالجة وضع منطقة أبيي سوف يجعل منها منطقة "رمادية" وبؤرة لنزاع مستقبلي "كشمير أخرى" تندلع بسببها الحرب من جديد بين الشمال والجنوب ، كما أشار إلى ذلك الزعيم الاتحادي الأستاذ علي محمود حسنين المحامي ، آخذين في الاعتبار هذا الولاء المزدوج الذي ستخلقه المقترحات الأمريكية إذا ما قدر له التطبيق. - قام المقترح بتوزيع الثروات على أسس قبلية ، مما يعيد القبيلة إلي السطح مرة أخرى ، ويؤكد رغبة أمريكا في رسم فدرالية سودانية على أسس عرقية في المنطقة مما يهدد وحدة السودان ككل ، ووحدة إقليميه الشمالي والجنوبي كل على حده ، حيث تسود النزاعات القبلية في كليهما. - يخلق المقترح الشكوك في نوايا اتفاق السلام القادم برمته ويصور المفاوضات كأنها تهدف إلى رسم حدود دولة جنوبية مستقلة. وفي هذا مجافاة لروح ونصوص اتفاق مشاكوس الهادي و المرشد للمفاوضات ، حيث التزم الطرفان بمناقشة قضية الأراضي الواقعة جنوب خط عرض (10) كما أسلفنا ، مما يستبعد منطقة أبيي منها.
وبالنظر إلى مقترحات السيد/ دانفورث نجد أنها حاولت أن توفق بين الوضعين ، فجعلت منها منطقة رمادية – مثلما كان الجنوب طوال تاريخه لا هو خاضع لحكم الشمال ولا هو مستقل بنفسه لذا شهدنا الحرب- كما حاول أن يخلق لها قلبين وذلك بمحاولة تمثيلها في ولايتي بحر الغزال وغرب كردفان - أي "مشبّحة" كما نقول في العامية السودانية. صحيح أن وضع أبيي يهدد بنسف المفاوضات ، ولكن إذا قبلنا بمقترحات دانفورث ومنطق الولاء المزدوج لأبيي فهذا من شأنه أن يشكل تهديدا لأمن واستقرار السودان بشماله وجنوبه ، و "كشمرتها" ، و من شأنه أن يشكل قنبلة موقوتة تهدد "النظامين" بحرب ضروس تقضي على كليهما.
كذلك يلاحظ أن المقترح لم يحدد مواعيد إجراء استفتاء ابيي وهذه قضية حيوية بالنسبة لتنفيذ استفتاء تقرير المصير للجنوب ، فلابد من إجراء استفاء أبيي اولا بوقت كاف حتى تتضح لها خياراتها بصورة مبكرة ، فإذا اختارت الشمال استبعدنا مشاركتها في استفتاء الإقليم الجنوبي الذي سيجرى بعد ست سنوات ، و إذا اختارت الجنوب جاز لمواطنيها المشاركة في استفتاء تقرير مصير الجنوب. كذلك فإن المقترح الأمريكي لم يحدد تفاصيل الاستفتاء ومن هم الذين يتم استفتاءهم هل هم الدينكا عامة ، أم دينكا انقوك فقط ، أم كل شعب المنطقة عربا كانوا أم أفارقة ؟ و الأهم من ذلك فإن الاستفتاء لا بد أن يحدد النسبة المطلوب الحصول عليها لاعلان الأحقية في الضم للجنوب ، وهذا أمر معروف في القانون الدولي وقد حدث كثيرا في العالم ، وهناك سابقتين مشهورتين هما: قضية كويبك في كندا وقضية سكوتلندا حيث تم تحديد نسبة لهما يجب الحصول عليها بموجب الاستفتاء حتى يستطيعا الانفصال ، وقد عجزا عن تحقيق ذلك حتى الآن. فهل نكتفي بنسبة 51% فقط لتقرير وجهة أبيي الأبدية ، أم نحدد نسبة عالية كما حدث في المثالين المذكورين أعلاه ؟ ويفضل فقهاء القانون الدولي تحديد نسبة عالية للجهة التي ترغب في تحقيق وضعا مغايرا عما كانت عليه. لذا نرى تحديد نسبة عالية لمواطني أبيي الراغبين في الانضمام للجنوب لان الأصل هو تبعيتها للشمال. ردود فعل الحكومة والقوى السياسية الأخرى: أثارت هذه المقترحات الأمريكية جدلا واسعا في الأروقة السياسية السودانية وامتلأت صفحات الصحف بالتصريحات الرافضة لقادة بعض الأحزاب . و قد اتخذت هذه النقاشات والمداولات مسارات مختلفة ولكنها لا تزال تعود إلى نفس النقطة التي ينطلق منها الجميع وهي اتفاق مشاكوس الإطاري الذي حدد الشمال من الجنوب بموجب حدود عام 1956 والتي تشير إلى خط عرض (10) ومن ثم تطبيق الوصفة الأمريكية "نظامين في دولة واحدة" ضمن هذه الموجهات الحدودية التي تعرف حدود كل "نظام". ويفرض هذا المنطق الاختيار بين فرضيتين لتبعية منطقة أبيي: واحدة تقول أنها تتبع للشمال وتستند إلى حقائق جغرافية وتاريخية وسياسية في جدلها وأخرى تريد تبعيتها إلى الجنوب وتستند إلى أغلبية الشعب الذي يقطن المنطقة ، كما تسندها دوافع عاطفية وسيكولوجية تتعلق بحقيقة انتماء بعض قيادة الحركة الشعبية إلى هذه المنطقة ، مما يضيف إلى العقدة صعوبات أخرى. فكيف يتنازل عن وطنه الصغير من حارب من اجل وطنه الكبير ، وكيف سيتم تصويرهم من قبل الشعب الجنوبي إذا تنازلوا عن أبيي وقبلوا إعادة توطين أنفسهم في منطقة ما في الجنوب. و هكذا كم هو الوضع معقد.
للخروج من هذا المأزق قدمت الحكومة رداً شاملا تناولت فيه كافة القضايا المتفاوض حولها في صفحات بلغت السبعين يتوسطها ردها حول موضوع أبيي . وتوضح طريقة رد الحكومة شيئين: الأول انه عجزت عن المواجهة والتصريح بكلمة لا ، ثانيا: أنها قد ارهقتها طريقة التفاوض المتبعة في نيفاشا وأنها تكبدت خسائر فادحة حتى الآن تتمثل في تقديم تنازلات جمة لم ترى مقابلا لها من جانب الحركة الشعبية. لم تحرز الحكومة أي نصر حتى الآن في طريقة التفاوض المتبعة على أساس كل موضوع على حدة piece by piece فلجأت إلى تقديم ردها في شكل حزمة واحدة فألقت بمقترحاتها فيما تبقى من قضايا في ورقة واحدة حتى تكون على بينة من امرها إذا خسرت في نقطة تبقي عينها مفتوحة على الأخرى. وقد أكد ذلك السيد/ إبراهيم احمد عمر رئيس المؤتمر الحاكم أن الحكومة قدمت ردها وفق رؤية متكاملة لكل القضايا . على كل لم يغير أسلوب الحكومة في المراوغة من شئ فقد عادت المفاوضات إلي مجراها القديم ليواصل الطرفان البحث في كل قضية على حده.
أهم ملامح ورقة الحكومة السودانية هي أنها تتحدث عن نسب لاقتسام السلطة ومقاعد البرلمان بينها وبين الحركة الشعبية بصورة يمكن أن يطلق عليها شراكة سياسية بإطار دستوري جديد يكون أساسه اتفاق السلام المشهود عليه عالميا وإقليميا. وقد جاء مقترح الحكومة اكثر أريحية من مقترحات الحركة الشعبية حيث اقترحت الحكومة نسبة 25% من الحقائب الوزارية ، و16% من مقاعد البرلمان للأحزاب الأخرى. في حين لم يشغل مقترح الحركة نفسه بمستقبل القوى السياسية الشمالية الأخرى ولم يمنحها نسبة واضحة من السلطة ، بل منحها 10% فقط من مقاعد البرلمان من الكيكة القومية. ورغم ذلك ذلك فقد تراجعت الحكومة عن موقفها المعلن من تمسكها بأيي ، ووافقت على مقترحات السيد/ دانفورث بخصوص أبيي ، وقد أكد ذلك السيد/ رئيس الجمهورية البشير في حديثه المنشور الأسبوع الماضي بأن الحكومة قد وافقت على المقترح الأمريكي حول أبيي "كأساس للتفاوض حوله" . هذا الموقف يستشف منه أن الحكومة قد تنازلت بالفعل عن أبيي ولكنها لا تريد الإعلان عن ذلك فلجأت إلى فبركة حيلة الانقلاب العنصري المزعوم للتغطية على هذه التنازلات الفظيعة التي قدمتها. خطورة التجاوزات لمرجعية التفاوض مشاكوس: إن أي اتفاق إطاري للمفاوضات هو المرجعية لسير هذه العملية السلمية ، وان أي تجاوز لذلك سوف يفتح الباب واسعا ويغري الطرفين بتجاوزات أخرى مما يؤدي إلى إهدار جهود الوسطاء ، و ضياع ما تم من إحرازه من تقدم ، و نسف العملية السلمية برمتها. مشاكوس هي المرجعية والإطار العملي الذي يحكم خط سير المفاوضات في نيفاشا ، وهو إطار قد تم تصميمه وتطويره لوضع الطرفين (الحكومة والحركة الشعبية) في طاولة المفاوضات لوضع حد لمشكلة الحرب الأهلية و الوصول لحل يحقق السلام في جنوب السودان. واهم من كان يظن أن هذا الإطار يقصد به حل مشكلة السودان ككل إذ لم يحتو على أي شئ يمكن أن يستشف منه ذلك ، ولا أظن أن نسبة الـ 16% التي ستمنح للأطراف السودانية الأخرى ستحل مشكلة السودان ، وغني عن القول أن اتفاق مشاكوس غير معني أيضا بإيقاف الحرب في غرب السودان . إذن لا يهدف اتفاق مشاكوس إلا إلي حل قضية الجنوب فقط! قبل الوحدويون بالحركة أم رفضوا ، ولكن قد يؤدي اتفاق السلام السوداني إلى الاقتراب من حل مشكلة الحكم المستفحلة ، والي فتح أبواب واسعة لدخول الرياح الديمقراطية لا تقدر الحكومة على وصدها. إن أي مخالفة لهذه المرجعية من شأنها أن تخلق حالة من التوهان والفوضى كما حدث في مفاوضات ابوجا التي كانت تسير دون الالتزام بأي إطار عملي. مع وجود هذه المرجعية التي شملت فيما احتوت على موجهات بشأن الحدود الجغرافية للتأكيد على ما يقصد بالشمال وما يقصد بالجنوب حين يتم التعاطي والتداول والتفاوض وصولا إلى مرحلة النصوص والتوقيع. فقد حددت هذه المرجعية الجنوب بحدود عام 1956. مع وجود هذه المرجعية لا يجوز الغوص في تبريرات جغرافية أو تاريخية كانت أو أي جدل يتعلق بنوع السكان الذين يقطنون المنطقة ، لاثبات هوية أو تبعية منطقة أبيي . وان وجود أغلبية لدينكا انقوك في المنطقة لا يجعل منها جنوبية وبالتالي يعطل تطبيق اتفاق مشاكوس عليها ، مثلما أن وجود أغلبية للجنوبيين في منطقة الحاج يوسف لا يمكن أن يخلق منها منطقة جنوبية أيضا.
إن الضغط الشديد الذي تمارسه الإدارة الأمريكية بصورة تجاوز الحدود المرغوبة ربما دفع الأطراف إلى التوقيع على قرارات ليست في الواقع قرارات حقيقية Decisions that are not genuine مما يجعل أمر تنفيذها معقدا للغاية ان لم يكن مستحيلا ، ويدفع الأطراف للمساهمة بأيديهم في تخريب ما أنفقوا عامين ونصف في بنيانه ، وفي هدم آخر ما تبقى للسودانيين من أمل في بناء دولة المستقبل وإيقاف الحرب إلى الأبد ، وفي توقيعهم على خلق أزمة أخرى بأيديهم تكون بؤرة للحروب بين الشمال والجنوب سواء كان الوضع وحدة أم انفصالا.
صحيح إن ممارسة الضغوط الإيجابية والمرغوبة Due Influence هي أمر مرغوب فيه وقد أوصى به المحللون من اجل حث الأطراف على توقيع اتفاق يوقف الحرب ويعيد السلام المفقود لدولة السودان المنهكة. إلا أن ممارسة الضغوط الشديدة بصورة تجاوز الحدود المطلوبة أو التزيد فيها قد يدفع الطرفان على التوقيع على نقاط وشروط لا يرغبان في تنفيذها ، ويضمران ذلك خوفا من الوسيط الذي يقف لهما بالمرصاد. أو قد يدفعهما إلى اتخاذ قرارات لا تجد قبولا من الشعب ، مما يدفعهم إلى التنصل منها أو التنكر لها تحت ضغط أي مظاهرات بعد انفضاض المولد. إن ممارسة الضغط الإيجابي في المفاوضات تشبه إلى حد بعيد حق الدفاع الشرعي عن النفس ، إذا يجوز للشخص أن يقوم بأي أفعال لدرء الاعتداء عليه ولكن بمقدار رد ذلك العدوان ، وإذا تجاوز تلك الحدود فيمكن محاكمته بارتكاب القتل. نفس الوضع ينطبق على الوساطة الأمريكية التي بدلا من أن تفض الاشتباك وتقود إلى التوقيع على اتفاق سلام حقيقي وعادل ، يمكن أن تؤدي إلى إجهاض ذلك الغرض النبيل من المفاوضات ، والإيتاء باتفاق هش ، أو قتل أحد طرفيها ، مما يجعل هذه الوساطة عديمة الجدوى وذات اثر معكوس إذا استمرت على هذا المنوال.
كذلك يؤدي هذا الضغط المتجاوز للحدود الدبلوماسية إلى تكريس انعدام الثقة بين الطرفين المتفاوضين ، والي عودة أسلوب المهاترات الشخصية بين طاقم الفريقين في الصحف اليومية. كنت قد أشرت في كتابي عن الحرب الأهلية وفرص السلام في السودان إلى حزمة إجراءات رأيت اتباعها لتذويب الجليد بين الطرفين واعادة الثقة إلى قلبيهما ، وذلك بخلق برامج للارتباط والاندماج بين المفاوضين منها الاجتماعي والثقافي والترفيهي بغرض جمعهما بصورة غير رسمية . فقد كان لقاء السيد/ النائب الأول ودكتور قرنق خطوة ايجابية في هذا الاتجاه ، ولكن يبدو أن ذلك اللقاء المرتب كان لغرض الصحافة و الاعلام فقط ، فقد علمنا أن النائب الأول علي عثمان طه يتناول وجباته في جناحه الخاص بالمنتجع ، في حين يتناول د. جون قرنق وجباته بمطعم المنتجع(صحيفة الرأي العام) كما لم نشاهد الجنرال سيمبويو يقوم بتنظيم رحلت ترفيهية لأعضاء الوفدين يخرجون معا في غابات كينيا وحدائقها الغناء. عدم مشاهدتنا لمثل هذه البرامج يساعد كل فريق في السير في اتجاه معاكس للآخر مما يبعدهما من الوصول إلى لحظة الحقيقة Moment of the Truth ويوصم قراراتهما بعدم الواقعية والبعد عن الحقيقة.
إن المقترح الأمريكي من شأنه أن يهدف في النهاية إلى جعل منطقة أبيي منطقة جنوبية آخذين في الاعتبار الاستراتيجية الأمريكية للبترول التي قمت بشرحها في مقال سابق لي بالصحف السودانية ، والذي تحدثت فيه عن هوية البترول السوداني :هل هو عربي أم أفريقي؟ وترى استراتيجية تأمين الطاقة الأمريكية ضرورة الاتجاه نحو إفريقيا للبحث عن النفط ، والابتعاد عن نفط الشرق الأوسط العربي لخطورة ذلك على السياسة الخارجية الأمريكية لكثرة مشاكل المنطقة الجيوسياسية . كذلك ترى هذه الاستراتيجية أن منظمة الاوبك أصبحت منظمة كسيحة لا تخدم المصالح الأمريكية وان طريقة تفكيرها أصبحت شرق أوسطية زيادة عن اللازم. كما ترى أن تحث الإدارة الأمريكية الدول الإفريقية المنتجة للنفط على عدم دخول منظمة الاوبك باعتبارها منظمة أفسدها التفكير العربي. بالطبع لن يغفل الوسيط الأمريكي هذه الاستراتيجية وأهدافها المستقبلية وهو يحاول معالجة وضع منطقة أبيي الغنية بالنفط بين الشمال (ليصبح نفطها عربي الهوية غالبا ما يتجه نحو الاوبك) وبين الجنوب (نفط إفريقي) . فسيحاول الوسيط الأمريكي بكل الطرق تمهيد تبعيتها للجنوب المتحفز للانفصال ، أو جعلها بؤرة للنزاعات المستقبلية بين الشمال والجنوب ، ومركزا للاستقطاب الدولي كأضعف الإيمان. بهذه المقترحات تضمن أمريكا الهوية الإفريقية لمعظم مخزون السودان من النفط.
ومع بعض التفاوت والاختلافات بين وجهات النظر لما يمكن أن تؤول إليه منطقة أبيي ووضعها المستقبلي المتأرجح بين الشمال والجنوب ، أو جعلها منطقة محايدة كتلك التي بين السعودية والكويت أو "كشمرتها" بإعلان تبعيتها للشمال إداريا مع الاحتفاظ بالحقوق القانونية لتبعيتها المستقبلية للجنوب! أو جعلها "منطقة مقفولة" كتلك التي كانت في الماضي ، فانه يكاد يكون هنالك اتفاق الآن بين المراقبين والمحللين على أن هذه المنطقة ستكون مركز جذب واستقطاب استراتيجي للمصالح الدولية وبالتحديد المصالح الأمريكية التي تستهدف نفط إفريقيا في المستقبل القريب.
وعلى خلاف الوضع في السبعينات - حيث كان معظم قادة الانيانيا من الاستوائية - تكمن أزمة أبيي الذاتية في حقيقة أن بعض قيادات الحركة الشعبية تنتمي إلى هذه المنطقة. و إن كان قد تم تجاهل إجراء الاستفتاء الذي كان مقررا إجراؤه بموجب نصوص اتفاقية اديس ابابا 1972، فأملي أن تدفع هذه الحقيقة المفاوضين إلى الاستعجال بالانتهاء من موضوع ابيي حتى لا يتم تجاهله وإهمالها مرة أخرى مما يشكل تهديدا لامكانية تنفذ اتفاق السلام بأكمله. حيث يقول درس الماضي إن تأجيل استفتاء أبيي سوف يؤدي في النهاية إلى وضع العقبات أمام تنفيذ اتفاق السلام ، مثلما حدث في اتفاقية أديس أبابا ، إذ يعتبر الكثيرون إن عدم إجراء استفتاء أبيي قد شكل بداية النهاية لاتفاقية السلام لعام 1972.
انتهى إبراهيم علي إبراهيم المحامي متخصص في شئون الكونجرس واشنطن
|
|
|
|
|
|