|
|
 أطفال هوانق شي.. رحلة طريق الحرير
|
أطفال هوانق شي
ترجمة الأمين عبدالرحمن عيسى
في ربيع من عام قريب وسط زحام في مطعم ببكين إنتصب شيخ عجوز متقدم في عمره وفيما أشار لرفاقه بالصمت علا صوته مترنما بنشيد كان قد تعلمه وهو بعد طفل صغير.
فئران ثلاث عمياء ..
فئران ثلاث عمياء
إنظروا إليها كيف تجري
كيف تجري خلف زوجة فلاح..
فئران ثلاث...
في تلك الأمسية التقت تلك المجموعة من الضيوف وظلوا يتسامرون ويحكون عن ذلك الإنجليزي الشاب الذي علمهم هذا النشيد وأناشيد أخرى كثيرة، كانوا يتحدثون عن رجل يدينون له بحياتهم، واسمه جورج إيلوين هوج. والذي كان قد حقق في بضع سنين في قمة الحرب اليابانية الصينية في عام 1940 مكانة أسطورية.
في مدينة بكين عاصمة الصين علم الصحفي البريطاني جيمس ماكمانس بهذه القصة، و في مقاله المنشور بمجلة التايم في بتاريخ 9/3/2008 بعنوان البطل الإنجليزي الذي لن تنساه الصين أبدا، يذكر ماكمانس أنه كان في دار السفارة البريطانية حينما سمع أحد الدبلوماسيين يقول أنه يتعين عليه أن يطير غدا إلى شاندان في تلك البقعة النائية من الصين، لأن السلطات الصينية قد قامت بتشييد تمثال نصفي لرجل إنجليزي، وبدا إذاك لجيمس أن هناك أشياء غريبة تحدث في تلك الديار!
كان التحرير الإقتصادي الذي وضع الصين على أعتاب نهج السوق العالمي قد انتظم الصين وقد بدأ رجال الأعمال الغربيين يفدون زرافات من خارج البلاد .. إلا أن فكرة أن تقوم الصين بتكريم شخص مجهول كانت تبدو لماكمانس غريبة ومنافية للمنطق.
بيد أن الأمر كان حقيقة فعلا، فقد تجمع نحو ثمانين من السادة المحترمين من كبار السن وبعض المسؤولين من بكين لإعادة إفتتاح وتشييد مدرسة كانت قد رمست خلال الثورة الثقافية. ثم بدأ الإحتفال و نثرت الازهار وكشف عن التمثال ... فانهمرت من أعين الشيوخ الحاضرين دموع غزيرة.
|
|
 
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أطفال هوانق شي.. رحلة طريق الحرير (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
الرجل الذي أحييت ذكراه كان الإبن الأصغر في أسرة ميسورة في هاربندن، بهيرتفوردشير ببريطانيا. وكان قد تأثر كثيرا بمبادئ أمه وفلسفتها الداعية للسلم، فقد نشأ على حسن الظن بالناس وعلى التفاني في العمل من أجل الآخرين. وبعد تخرجه في كلية وادهام إتجه مع عمته موريل ليستر إحدى الناشطات من دعاة السلم لمقابلة غاندي في الهند.
كانت الصين في حالة من الفوضى منذ عام 1920، حينما بدأ النضال وسط الوطنيين والحزب الشيوعي. و كانت فريسة سهلة المنال لأطماع ضباط الجيش اليابانيين المتعطشين للحرب. ومنذ بداية العام 1930 تقدمت جحافل اليابانيين إلى شمال الصين وتوغلت تدريجيا إلى الجنوب. وعندما وصل هوج في عام 1937 للصين كان الوطنيون والشيوعيون شركاء في حلف غير مريح يقاتلون الغزاة.
في البدء مارس هوج عمله كصحفي ومراسل إخباري، بيد أنه شهد أعمالا وحشية تقع على مدنيين عزل لا حول لهم ولا قوة. ورغم ذلك كانت خطاباته المرسلة إلى وطنه مصبوغة بإعتقاده في خير الإنسانية ورفضه الخضوع لنقيضه. قاده ذلك لأن يتعاون مع جماعة التعاونيين الصناعيين الصينية، التي اهتمت باللاجئين ويتامي الحرب. وفي عام 1942 أصبح مديرا لمدرسة التعاونيين الصناعيين الصينية في المدينة الجبلية النائية هوانق شي بو، تلك المدرسة التي كانت تضم ستين يتيما.
هنا في مفترق طرق جبال تسن قلانق في محافظة شانكسي إلتقى هوج بقدره المكتوب. كان في السابعة والعشرين من عمره حينما أصبح مديرا للمدرسة، تلك المدرسة التي كانت تفتقر لكل إحتياجاتها من أدوات الكتابة، والتي كانت ذات مطبخ خال وعنابر خاوية من الأسرة، ثم أطفال يكسوهم الجرب ويمتص القمل دماءهم وتعصف بأجسادهم الهزيلة التغذية السيئة.
الخطوة الأولى كانت توفير مكان لينام فيه الأطفال، وتوفير غذاء لهم، تمكن في المدينة المجاورة من فتح حساب للإستدانة ووفر للأطفال الحبوب والخضر. وبنى جدران من الطين حول الفصول والعنبر.. وأسسوا مزرعة للخضر وملعبا لكرة السلة.
كان الأمر يبدو وكأنما كل ما اكتسبه هوج من خبرة قد أهله لمهمة الإنتظام والتدريس وإطعام مجموعة جامحة من يتامى الحرب الصينية، كان يغني لهم ومعهم، ويسبح معهم، ويلاعبهم كرة السلة ويتمشى في الجبال برفقتهم. أطلقوا عليه إسم هو كي. قام بتنظيمهم في صفوف وكأنهم في مدرسة إنجليزية نظامية، وقسمهم إلى ثلاث مجموعات على رأس كل منها كابتن, أرسى فيهم قواعد الإنضباط بتشجيع وتحفيز أولئك الأكثر إلتزاما بالملابس النظيفة والذين يؤدون واجباتهم بإخلاص وكان يوضح لهم أن الفشل في إرساء قواعد النظام الجديد حتما يؤدي إلى الفوضى وعودة المدرسة لحالها السابق.
القادة العسكريون الوطنيون المحليون كانوا كثيرا ما يتشككون في هوج وعمله ، وخاصه حينما يقاوم ويعترض جهودهم لأخذ تلاميذه للقتال، حتى أنه أعتقل لأسبوع في أواخر العام 1944. وازداد الضغط عليه و فاق قدرته على التحمل، أخذ الجنود يقتحمون الفصول لتجنيد التلاميذ، وحدث أن أعتقل أحد المعلمين. وفي مساء يوم بارد شاهد التلاميذ مديرهم يجلس على صخرة مشرفة على المدرسة من علٍ، رأوه ينظر للمدرسة ويجهش بالبكاء.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أطفال هوانق شي.. رحلة طريق الحرير (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
مع هذه الهواجس قرر هوج أن يفعل شيئا، قرر أن ينقل المدرسة إلى مكان بعيد، بعيد جدا .. إلى مكان آمن لا تطاله أيدي العسكريين، قرر هوج أن يذهب بالأطفال إلى مكان يبعد 700 ميلا عن هوانق شي بو، إلى مدينة في أقصى الشمال على أطراف صحراء قوبي البعيدة. على الأطفال أن يعبروا سلسلة من الجبال على أقدامهم، البعض إعترض أنها رحلة بعيدة، رحلة إلى حافة العالم. لكن كانت هناك عزيمة قوية ونية صادقة فشرع مع الأطفال في تنفيذ الفكرة وكانت الخطة أن يغادروا دون أن يلحظهم أحد.
بدأ حزم ونقل كل معدات المدرسة، وكان هوج مأخوذا بماكينة غزل القطن النادرة التي لا يوجد مثلها سوى ثلاث في كل منطقة شمال غرب الصين، ورغم أن وزنها كان يتجاوز الإثنين طن إلا أنه كان مصرا على نقلها إلى شاندان..
أبناؤه الذين تقدم بهم العمر الآن يذكرون بحثه اليائس عن شاحنة من أي نوع لتقلهم، إذ كان الجليد المتساقط عليهم في أعلى الجبال قد جعل الحاجة لوسيلة نقل آلية أمرا ملحا. كان ذلك موسم قطاع الطرق فحين يكون الطقس سيئا يكون مدعاة لإعداد كمين لإختطاف آليات ثمينة.
وفي العشرين من يناير غادرت قافلة من خمس مركبات يدوية وأخرى تجرها البغال والخيول، وشاحنة واحدة وثلاثين طفلا وثلاثة من هيئة التدريس والمدير, غادروا هوانق شي بو قبل بزوغ الفجر وتوجهوا صوب الجبال. كان أصغر الأطفال يستظل تحت مشمع يتدلى في إحدى المقطورات والآخرون يمشون، وكلما ارتفعوا في الجبال كلما زاد تساقط الجليد. ذاك الشتاء كان أبرد شتاء منذ عشرين عاما وتحول الطريق إلى وحل ضيق عندما ارتفعوا إلى عشرة آلاف قدم عند القمم.
في يوم رحيلهم الأول قام كل من الطقس والبيئة بتغطيتهم من الملاحقة وفي اليوم التالي تراجع ثلاثة من الكبار تاركين هوج وسبعة وعشرين من الصغار والأشياء الثمينة. إحدى العربات التي تجرها الحيوانات سقطت في الوادي السحيق حاملة معها المعدات والحصان وقد قفز الأولاد الذين كانوا إلى جانبها فقط في الوقت المناسب، وانقلبت عربة أخرى إلا أنه تمت إعادتها لوضعها وتم الحفاظ على محتوياتها.
الرحلة للوصول إلى عاصمة الإقليم لانشاو إستغرقت شهرا تقريبا، وتبقت 250 ميلا أخرى لتعبر حتى يصلوا إلى شاندان، وفي لانشاو سمح لهم ضابط محلي باستئجار شاحنات عتيقة تعمل بالديزل. وفي زمن ما في شهر فبراير كان هوج وأبناؤه ومعداتهم يعبرون إلى سفح جبال قيليان.. الشاحنات أيضا يصيبها الوهن وتنزلق واحدة على الجليد والثلج، وتتحطم الواجهة الزجاجية لأخرى وتتفجر بعض الإطارات.
ثم عبرت القافلة الجزء الغربي من السور العظيم، لكن ليس السور الحجري المهيب في شمال الصين بل جزء من اللبن متواضع بارتفاع ثلاثين قدما. كان فعل العواصف الرملية والنشاط البشري قد أثر عليه.
وفي نحو العاشر من مارس وصل هوج وأولاده المنهكين إلى شاندان، وقادوا سياراتهم وسط الجليد المتقطع كقطع الكيك ووسط طين محاط بمبان خشبية ذات طابقين كانت معظمها خاوية، وعسكروا في معبد متهالك وعندما تجمع الستون ولدا، إثر وصول المجموعة الثانية أخذوا يعيدون بناء مدرستهم ويعيدون بناء حياتهم.
نيي قوانق بيي يتذكر.. " كنا منهكين حين وصلنا، أصبنا بخيبة أمل ، ليس هناك شئ في المعبد، بالكاد هناك سقف، وكان متسخا.."
قام هوج بتأسيس الورشة وفصول الدراسة والعنابر. كان هوج في قمة النشوة. لقد عرف الآن الإجابة على سؤال لطالما وجهه لنفسه ما الذي يفعله في الصين؟ لقد صنع من فوضى عارمة مدرسة منتظمة، قام بنقلها إلى حافة الصحراء وأعاد بنائها كملاذ ومأوى آمن لستين يتيما..
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أطفال هوانق شي.. رحلة طريق الحرير (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
أبناؤه الذين تجاوزت أعمارهم الآن الثمانين فأكثر يذكرون طاقته غير العادية وروحه العالية وطبعه اللطيف. يحكي فان ويت هاي.. " القائد في المجموعة أو المدرسة أو الجماعة التي تعمل فيها دوما يكون رمزا للرعب. أنت تحترمهم أحيانا لأنك تهابهم وتخشاهم. هوج كان مختلفا، كان يقضي وقتا كثيرا بيننا، ولا يمل، يغني لنا، ويلعب معنا الكرة، ويدرسنا بالفصل، كان برفقتنا طول الوقت. ذاك هو الأمر المختلف، لذلك كنا نحبه.
في مقاله كتب جيمس ماكمانس أنه ألتقى نيي قوانق شن وكان في التاسعة والسبعين، شن هو أحد اليتامي الستين وأصغرهم، وقد اعتاد هوج على حمله والسير به بينما كان الطفل يشبك رجليه الواهنتين حول وسط هوج ويشبك يديه حول عنقه. " .. هو كي كان محترما، كان عطوفا، لقد مر علينا عدة نظار كلهم صينيون، كانوا يعاقبونا. هو كي لم يفعل ذلك قط، كان حازما لكنه كان صديقا. عندما ذهبنا معه في الجبال لم نكن ندري حقا لماذا، كنا صغارا، لكنا تبعناه، لم نقابل في حياتنا أبدا مثله. ولن نقابل." تلك كانت إفادة شن.
| |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أطفال هوانق شي.. رحلة طريق الحرير (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
في عمل مختصر ومعدل صورت قصة حياة جورج إيلوين هوج في فيلم من أروع الأفلام السنيمائية بإسم أطفال هوانق شي في العام 2008. وإتخذ الفيلم أيضا إسم أطفال طريق الحرير ، أو الهروب من هوانق شي. أدى الدور الأول فيه الممثل البريطاني جوناثان ريز ميارز في شخصية هوج وأدى شو يونق فات دور وكيل الإستخبارات شن هانس تشنق. ولعل الفيلم قد إزدان حقا بظهور بعض الأبطال الحقيقيين للقصة بعدما غدوا شيوخا بعد حوالي الثمانين عاما من أحداث الفيلم، وهم يتحدثون في صدق وتأثر عن جورج هوج.
و عن أطفال هوانق شي بو وجورج هوج في الموقع الإنجليزي للصين كتبت زو زانج في الرابع من أبريل عام 2008 مقالا بعنوان ( جورج هوج يظل أبد الدهر حيا في قلوب شعوب الصين وبريطانيا).
و غير هذه المقالات تذخر المكتبة العالمية بالمؤلف الذي كتبه جورج هوج نفسه وأسماه " إني أرى الصين الجديدة" وقد كتب ذلك الكتاب وهو في الخطوط الأمامية أثناء الحرب. ثم كتاب جيمس ماكمانس المسمى محيط الشيطان: حياة وأسطورة جورج هوج . ثم قصة جورج هوج بقلم ريوي اللاي.
اما في موقع ويكيبيديا العالمي بالإنجليزية فقد ورد تقرير واف عن جورج هوج (1915-1945) حوى معظم ما ذكر أعلاه في هذا المقال، وأضاف تخرجه في جامعة أكسفورد حيث حاز على شهادة البكلاريوس في الآداب وأخبر أنه أبحر في العام 1937 على متن السفينة كوين ماري إلى نيويورك وعبر الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها على أسلوب الهيتش هايكينج، وإنضم إلى عمته موريل ليسيتر المناضلة من أجل حقوق الإنسان وداعية السلام وصديقة الزعيم غاندي، ثم أبحرا معا إلى اليابان. وفي يناير 1938 خلال الحرب غير المعلنة بين اليابان والصين غادر اليابان ليزور شانغهاي لمدة يومين.. تلك الزيارة التي كانت بداية لقصة حياته القصيرة الرائعة.
وفي يوم ما في الأسبوع الثاني من شهر يوليو من عام 1945 كان هوج يلعب كرة السلة منتعلا صندله المفتوح عند الأصابع، تعثر هوج وجرح إبهام قدمه، تورمت القدم بعد أيام، وبدأ فكه في التصلب وفي اليوم التالي إجتاحته حمى عنيفة، كان واضحا أنه أصيب بالتيتانوس، وأبرقت برقية عاجلة إلى لانشاو تطلب طبيبا. وعلى عجل إستقل ولدان الدراجة البخارية في رحلة تستغرق 500 ميلا ذهابا وإيابا لتحضر لقاحا لهوج. ولمدة ثلاثة أيام ظل هوج يعاني من آلام مرض غالبا ما ينتهي إلى موت قاس إن لم يعالج. كان هوج واعيا لكنه غير قادر على النطق لما أصاب عضلات وجهه من التصلب، يقول فان وي هاي أنه قد استلقى على قفاه وأصبح غير قادر على الحركة، يقول كنت أقلبه بمساعدة صبي آخر، العرق يتصبب من وجهه ومن خده وجبينه، كان يطلب ماءا أحيانا بصوت ضعيف، وفي البدء كان يطعم بالملعقة لكن بعد فترة لم يكن فكه ليقدر على التحرك.
أخيرا وجد فريق الإنقاذ اللقاح في لانشاو لكنهم لم يستطيعوا عبور الممر الجبلي ليلا.. ولما وصلوا شاندان كانت جنازة هوج تتعرج طريقها وسط شوارع المدينة، كان هوج قد توفي في اليوم السابق.
الأطفال الصغار في إنتظار لقاح يرجون أن يصل لينقذ من أحبوه، كانوا تخفيفا عنه ينشدون الأناشيد التي تعلموها منه. توفي هوج في اليوم الثاني والعشرين من يوليو عام 1945، وكان مرقده خارج المدينة ، وعلى حجر على قبره نقشت أبيات من الشعر كانت مفضلة لديه..
فالحياة هي لون ودفء وضوء
وجهد لا ينقطع في سبيل ذلك
ميت، هو من لا يقاتل..
ويخلد، الذي يموت مقاتلا.
لم يشهد جورج هوج إنتهاء الحرب الصينية اليابانية التي بسببها قطع مع أطفال صغار أكثر من ألف ومائة كيلومترا من أطراف الصين الشرقية إلى أقصاها في الشمال الغربي. لم يشهد إستسلام اليابانيين بعد شهر واحد فقط من وفاته.
| |
|
|
|
|
|
|
| |
الأمين عبد الرحمن عيسى
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست