أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 01:53 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-11-2012, 04:25 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أزمة العقل المسلم


    منطلقات وأهداف الورقة :

    نشرت هذه الدراسة تحت عنوان " كيف يمكن للمسلمين التصالح مع الحياة والإندماج في المجرى العام للحضارة الإنسانية " بموقع سودانيس أونلاين بشهر مارس 2005، وها نحن نعيد نشرها مرة أخرى بعد إجراء تحسينات تساعد في إضاءة الأفكار الأساسية التي إحتوتها الورقة الأم حيث لا يوجد جديد في الخلاصات التي توصلت إليها الورقة الأصلية و التي تتلخص في أن الأزمة التي يواجهها المجتمع المسلم اليوم إنما هي أزمة عقل جمعي في المقام الأول، وأن أزمة المسلمين وضعف إسهامهم في مجال الإقتصاد والسياسة والمجتمع إنما هي نتاج لتلك وليسست سبباً لها.

    إن الأغلبية العظمى من الأطروحات التي عكفت على دراسة أمر هذه الأزمة من ناحية تجلياتها ومسبباتها ومآلاتها، تجنبت النظر والبحث والتشريح لتلك الماكينة، الهائلة القدرة، التي يفهم من خلالها المسلم ما حوله، والتي يصدرعبرها أحكامه ويصيغ بها أحلامه ومشروعاته، وهي "العقل". لقد تم الإنتهاء من تشكيل هذا العقل بسماته السائدة اليوم مع نهاية عصر التدوين في القرن الثالث الهجري، حيث أن القواعد المؤسسة للثقافة العربية الإسلامية قد تم إرسائها في ذلك العصر، ومنذئذ أضحى العقل المسلم بتأثير تلك الثقافة متسماً بالثبات والركود وفاقداً للتاريخية، حيث لايرى الحاضر والمستقبل إلا من خلال الماضي.

    إن الخصائص الإستثنائية الملازمة لتلك الثقافة، ومن ضمنها قابليتها الضعيفة للتطور الباطني، أي من داخلها، وهو ما سنتعرض له بالتفصيل لاحقاًً، لم تتح لذلك العقل، كأداة تفكير وإنتاج للمعرفة، غير أن يكرر ذات المقولات والمفاهيم التي ما إستراحت لحظة، من فرط إستدعائها، عبر كل محطات التاريخ.

    إن مانطرحه من أفكار بديلة له أساس في داخل الدين الإسلامي نفسه، أي أننا لسنا في موقع تضاد مع رسالة السماء وإنما في حالة عداء كامل مع منتوج قوى سلفية تمكنت، بفعل عوامل مختلفة، من الإستيلاء على الدين وإحتكارها تفسيره وتحنيط تعاليمه، فجمدت العقول ودجنت الألسنة وصادرت المشاعر وحبست كل ذلك في قمقمها الضيق، ولا نرى صباحاً ينبلج لهذه الأمة المسلوبة الإرادة بدون تحطيم ذلك القمقم بما تبقى لها من بعض قوة.

    تنطلق هذه الورقة من موقع الرفض الكامل، كما أسلفنا، لبرنامج وأفكار هذه القوى السلفية التي ترفع رايات الإسلام حالياً، وتسعى – أي الورقة – لهدفين أساسيين يتمثل أولهما في فهم وتفسير هذه الظاهرة والتعرف على أسباب نشؤها، وثانيهما في صياغة رؤية بديلة تشمل وضع خطوط عامة لبرنامج عمل نعتقد أنه يؤدي إلى تقويض الأساس الفكري الذي إستندت عليه، بإعتبار أن ما تسعى إليه هذه القوى يمثل نكوصاً عن كل ما قطعته شعوب العالمين العربي والإسلامي من تقدم وازدهار نسبي في جانب الفكر والمجتمع في مرحلة التحرر الوطني السابقة، وتقف كابحاً امام أي تطور محتمل للشعوب العربية والإسلامية في كافة مجالات النشاط البشري، كما أن تيارات رئيسية من هذه القوى أصبحت تشكل اليوم خطراً متزايداً على الحضارة الإنسانية برمتها، خاصة بعد أن أصبحت تنحو منحى إرهابياً صرفاً سواءاً باللسان أو بالسنان، حيث يمثل إرهابها هذا أعلى مراحل الرفض للمستوى الراهن للتطور البشري وأعلى مستويات الكراهية للآخر.

    تحاول هذه الورقة أن تصل للخلاصة الآتية :

    1) أن إعادة تشكيل المجتمع العربي والإسلامي ليتحول إلى رافد إيجابي ومؤثر في الحضارة الإنسانية، رهين تماماً بإعادة تشكيل العقل، والذي نقصد به تلك المفاهيم والأنشطة الذهنية التي تحدد وتحكم رؤية الإنسان المسلم للعالم المحيط، وطريقة تعامله معه. ولن يتشكل العقل الجديد إلا بفضح البناء الفكري السائد وهز المرتكزات التي يستند عليها كامل بنائه ومن ثم الإرتقاء به، أي العقل، ليأخذ دوره كمرجعية هادية للأنساق الفكرية التي تسند التقدم المبتغى.

    2) لن تنجح محاولات التغيير السياسي نحو الديمقراطية وغرس بذور الحداثة بدون أن يصحب ذلك حركة تنوير ديني مؤثرة وواسعة النطاق ومتغلغلة في كافة مفاصل المجتمع.

    إننا نعتقد أن ما نرمى إليه من أفكار يتسق مع جوهر الدين، وينسجم مع بعض التجارب المحدودة والتي، رغم غناها، أشرقت ومضت عجلى في مسار التاريخ العربي الإسلامي. إن فهمنا يختلف بالتأكيد مع الفهم الذي ترسخ عبر السنين ويتناقض مع ما ألفه الناس من أفكار أضحت بمستوى البديهيات بالنسبة لهم، إلا أن أسانا على واقع الهوان الحالي وحرصنا على مستقبل أجيالنا القادمة يحتم علينا إقتحام الصعاب لتبيان ما تسبب في هذا الوضع البائس وإقتراح ما يمكن أن يفيد للخروج من هذا المآل.

    تنشد هذه الورقة وضع أفكار عامة نزعم أنها، وبمزيد من التعميق والتفصيل، تشكل أرضية سليمة لخوض معركة من الممكن أن تؤدي إلى هزيمتها، وتحرير الإنسان منها، وإرجاع الدين إلى وضعه الطبيعي كرسالة سماوية هدفها الرئيسي تكريس إنسانية الإنسان عبر إرساء نظام قيمي يستهدف شحن النفس الإنسانية بقيم الخير والجمال، والإجابة على أسئلته الحيرى عن حقيقة الوجود ومغزاه. وذلك بديلاً عن زج الدين بالكامل في الصراع السياسي والفكري، و إستخدامه كأداة لسلب العقل البشري من حريته في التفكير المستقل، وحقه في رسم حاضره ومستقبله وفقاً لما يقبله عقله، الذي حباه الله له، وما يتلاءم مع المستوى المعين لتطور البشرية في مجملها.

    إن إستعادة المستقبل للشعوب الإسلامية، وتخليص الإنسانية من هذا الخطر الذي يهددها، يكمن في إعادة صياغة العلاقة بين الدين والحياة بشكل جديد وإزالة هذا الإندماج القائم بينهما حالياً، حيث لن يفيد كثيراً إجراء تعديلات في الهياكل السياسية أو المقررات المدرسية – رغم أهمية ذلك - ما لم يكتسب العقل المسلم القدرة على التفكير المستقل الحر الجرئ، وأن يتخلص من الإستناد على الإجابات المعلبة الجاهزة والسهلة. فالعقل المسلم ولفترة إستطالت جبل على الإكتفاء بالمعلوم بدلاً عن إقتحام المجهول، ويميل للرضوخ للقدر عوضاً عن تفجير الإرادة، وينزع للتقليد خوفاً من نتائج التجديد. عقلاً هذا شأنه ينتظر مشروع حداثة متكامل لتغييره. يحتاج لهزة عنيفة تجعله ينتج رؤية جديدة، تستند على فهم جديد لمدلولات النص الديني، وقراءة جديدة لدروس التاريخ وعبره، حيث لن يغير كثيراً من وضعه الراهن إستخدام أساليب الترهيب والترغيب أو تطويع المؤسسات الحالية وإجبارها على إحناء رؤسها لبعض الوقت، كما لن يحول من تمدد هذا العقل إرساء نظام علماني، أو نشؤ مؤسسات ديمقراطية، أو مطالبة الأنظمة القائمة في منطقة الشرق الأوسط فتح أبواب الحريات، على أهمية ذلك، حيث لن يدخل عبرها غير أشباه كهنة القرون الوسطى، إذا لم ترتبط الحرية بمشروع تنوير واسع النطاق. بإختصار : المطلوب قلب الطاولة على مناهج التفكير الحالية والمؤسسات التي تنتجها.

    نظرة العالم المتقدم لما يحدث في المجتمع المسلم - فرضيات خاطئة، نتائج محبطة:

    لقد شهد المجتمع المسلم نمواً هائلاً لظاهرة الإسلام السياسي التي أصبحت تمثل أبرز الظواهر التي إجتاحت العالم في العقود القليلة الماضية، وأكثرها إثارة للحيرة. تعددت التحليلات التي تحاول تفسير البروز المنفلت لهذه الظاهرة والعوامل الكامنة خلفها، غير أن معظم الآراء ركزت في محاولات التفسير تلك، على الأسباب الإقتصادية والسياسية بإعتبارها الدافع الرئيسي والمحرك الحقيقي لها. لقد لخص لنا وجهات النظر تلك، خير تلخيص، السيد فرانسيس فوكوياما عندما عزا قوة الآيديولوجيات الراديكالية الإسلامية إلى أنه نتاج لنقص الديمقراطية ونقص التنمية والإحباط الناتج عن السياسة الخارجية الأمريكية .

    أننا نعتقد بأن معظم هذه التحليلات، إن لم يكن كلها، قد فشل في الإمساك بالحقيقة. فبنظرة واحدة إلى منابت هذه الجماعات عبر كل العالم، نجد إنعداماً للعوامل المشتركة عند النظر إلى الخصائص الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. فمن أراد رد الظاهرة إلى غياب الديمقراطية والحرية السياسية يصعب عليه تفسير وجودها ونموها وسط الجاليات المسلمة بأوروبا الغربية وشمال أمريكا إضافة لديمقراطيات معقولة في الشرق كأندونيسيا والكويت واليمن. ومن أراد نسبتها لواقع الفقر والتخلف الإقتصادي يجد صعوبة في تفسير وجودها في بلدان حققت درجات عالية من الرفاه المادي كدول الخليج العربي وبعض النمور الشرق آسيوية مثلاً. ومن أراد ربطها بسياسة أمريكا في الشرق الأوسط وإنحيازها اللامحدود لدولة إسرائيل على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، لا يفسر نموها الكبير على حساب الجماعات والتنظيمات القومية التي تفوق الجماعات الإسلامية عداء للولايات المتحدة ولإسرائيل ومنذ زمن بعيد.

    إن تزايد المد الإسلامي في دولة مثل الكويت، بعد كل الأحداث العاصفة التي مرت بها، يعتبر مخالفة صريحة لنتائج التحليل التقليدي التي كان من المفترض أن تصل لإستنتاجات وتنبؤات مناقضة للواقع الحالي. إذ أن جل التيارات الإسلامية على نطاق العالم – إن لم يكن كلها – كانت في صف المعتدي، مما كان يحتم معه أن تلجأ النخبة السياسية والفكرية الكويتية والتي خرجت لتوها من محنة وطنية وإنسانية لمراجعة شاملة، كان منطقياًً أن تؤدي لتأسيس نظرة جديدة للعلاقة بين الدين و السياسة والحياة، وتهميش للقوى الرافعة لألوية التغيير بالمنظور السلفي الإسلامي بعد أن إنكشف زيف قيمها، وأن تؤدي في نهاية الأمر إلى تكريس المنهج الليبرالي وتقوية التفكير الحر في جميع مناحي النشاط الإنساني.

    لا نحتاج لكثير عناء لنبرهن على فشل المفهوم الذي يتبناه الكثيرون والقائم على أن فتح أبواب الديمقراطية والحرية السياسية في الوطن العربي والشرق الأوسط "الكبير" كفيل بتحريك المنطقة للأمام والخروج بها من دائرة البؤس السياسي/الإجتماعي/الفكري، وضبط هذا الجنوح المتزايد نحو العنف. فوفق هذا المفهوم تحركت أساطيل كثيرة، وجرت أنهار دماء غزيرة، بدون أن يتقدم شيئ للأمام. بل بالعكس، كلما إعتقد البعض بأن هناك كوة للضؤ فتحت، مد القبح لسانه هازئاً. تدك الجيوش صروح صدام وتخرجه من حفرته ليحاكم أمام العالم جراء ما إرتكبه من جرائم وما صادره من حرية، فيكون الناتج إقامة نظام سياسي يستند برنامج قادته السياسيين على الدين ويصبح آيات الله و"هيئة علماء المسلمين" هي القوى الفاعلة في السياسة والمجتمع، و يحط من قدر المرأة العراقية وتذروا الرياح كل ما حققته من مكاسب بشكل يجعل صدام بطلاً من أبطال الإستنارة !!. تعطى المرأة الكويتية الحق في التصويت والإنتخاب بضغط من الأسرة الحاكمة، فيكون الثمن مزيداً من المقاعد للسلفيين بالبرلمان بأصوات النساء !. تتحرر أفغانستان من طغيان الطالبان أملاً في تحرر المرأة الأفغانية من البرقع، فيتمدد البرقع إنتشاراً حتى ساد في وزيرستان واستولى على وجوه وعقول الصوماليات. تفتح مصر باباً صغيراً لديمقراطية محدودة فيقترب الأخوان المسلمون من قصر عابدين. تفشل سلطة الإسلاميين في السودان، ولما يربو على العشرين عاماً، من تحقيق أي تقدم ملموس على الصعيد السياسي والإجتماعي والإقتصادي، بل تتحول لمستنفع فساد مكشوف، فتزداد قوة ومنعة. تقتل إسرائيل قادة حماس الشيخ أحمد يس والرنتيسي، وتفشل حماس في الإيفاء بوعدها بالإنتقام المزلزل، ورغم ذلك تكتسح الإنتخابات ! يجد المسلمون في بريطانيا حرية دينية وسياسية وإجتماعية تفوق أي معيار يمكن أن يحلموا به في بلدانهم الأصلية، فتتفجر قطارات لندن !! وهكذا !.

    لقد تنوعت الوسائل والأساليب التي حاول ويحاول أعداء التيارات السلفية وخصومها إستخدامها للقضاء عليها وإرجاع الوضع السياسي والإجتماعي لما كان عليه الحال قبل الصعود الأخير لهذه القوى، إلا أننا نعتقد – إن لم نكن نجزم – بفشل تلك المحاولات في إقتلاعها ووضع حد نهائي لها. قد يفلح القمع الشديد، بل هو يفلح في معظم الأحيان، في تحجيمها وتقليص نفوذها وإضعاف أثرها على الحياة العامة لفترة مؤقتة، بحساب التاريخ، كما هو الحال في الفترة الإستعمارية أو فترات الحكم الوطني التي تميزت بالفكر الشمولي المصحوب بالقهر الشديد، لكن تبقى أفكارها تلك كامنة في إنتظار اللحظة المواتية والقيادة المناسبة.

    لنترك الوجه السياسي للأزمة جانباً، ونسحب دائرة الضؤ مؤقتاً ونركزها على منطقة أخرى ترتبط بعلاقة المجتمع المسلم بمناحي وضروب الحياة الأخرى، وذلك بغرض تبيان أن الأزمة أكبر من كونها أزمة إرهاب وعنف وتردي سياسي، حيث أن هنالك جانب أكثر أهمية يتعلق بفشل في كل المجالات، يفترض معه أن تكون المعالجة مختلفة نوعياً من تلك المطروحة في الساحة حالياً.

    موقع المجتمع المسلم من المستوى الراهن للتطور الإنساني:

    لا يحتاج العاقل لكثير معاناة لاكتشاف مدى انحطاط وتخلف المسلمين عن الشعوب والأمم الأخرى في جميع مجالات الفعل والنشاط البشري المفيد تقريباً. بل لن يجد فيهم اكثر من كونهم أمة متطفلة على الحضارة الإنسانية، وعاطلة عن الإيفاء بإحتياجات بقائها، دعك عن العطاء لمصلحة التطور البشري في مجمله. والمؤشرات كثيرة منها الذي يمكن قياسه كمياً، حيث تكون الجوانب المادية الملموسة هي أساس التقييم، ومنها الذي يقاس نوعياً عبر مؤشرات تعتمد في جزء كبير منها على المضاهاة بنماذج معيارية تمثل أفضل ما أفرزه التقدم البشري، حيث يدخل فيها درجة الإحترام لحقوق الفرد ومكانته، ومستوى الشفافية في الآداء العام، ومدى إزدهار الفن والثقافة والرياضة إلخ، وهي مؤشرات غير أنها متواضعة جداً في عالمنا الإسلامي، لا يزال الوقت مبكراً لدى دول عالمنا الإسلامي مرحلة أن تناقش معاييرها بشكل موضوعي، أي أنه ربما يكون من السابق لأوانه إقناع الناس بها. وحيث أن القياس الكمي هو الأكثر إفحاماً، والأقدر على إثارة التأمل، والأقرب للفهم، من قبل أمة فقدت البصيرة واستبسلت من أجل البقاء في الذيل، رأينا أن نختار من ضمن مئات المؤشرات الكمية ثلاثة فقط وهي الناتج القومي الإجمالي، براءات الإختراع المسجلة، و عدد الجامعات المدرجة في قائمة أفضل 500 جامعة في العالم. وذلك لتسليط الضؤ على الفجوة الهائلة التي تفصل عالم المسلمين المعاصر عن العالم المتقدم. رصدنا في هذه المقارنة مؤشرات سبعة دول تنتمي لذلك العالم تم إختيارها بشكل مدروس لتعكس تنوعه حتى يسهل إستخلاص العبر وكل أملنا أن يكون قد تبقى قدراً من العقل ييسِر الإعتبار.

    أدرجنا، في مقارناتنا تلك، الولايات المتحدة بإعتبارها الدولة الأغنى والأقوى والأكثر نفوذاً وتأثيراً على العالم وأيضاً بإعتبارها الدولة العدو الأولى للمسلمين – وفق الطرح الحالي للإسلام السلفي – والتي لاسبيل للإنتصار عليها، من الناحية المنطقية، إلا بالوصول لدرجة تماثل أو تقارب مستوى تطورها. أدخلنا في المقارنة إسبانيا بإعتبارها الأقل تطوراً، حتى لانصدم مشاعر القارئ بأكثر مما يحتمل، من رصيفاتها الأوروبيات الكبريات من ذات الوزن الثقيل كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبإعتبار أنها ليست عضواً في نادي الدول الصناعية الثمانية الكبرى، كما تهمنا أسبانيا أيضاً من ناحية أنها كانت يوماً جزءاً من الدولة العربية الإسلامية. أضفنا في المقارنة الدنمارك وهولندا لتمثلا مجموعة الدول الأخف وزناً في أوروبا من حيث المساحات الجغرافية وعدد السكان وبإعتبار أنهما تمثلان أحد القوى المعادية للإسلام من منظور الإسلام السلفي بحكم أن الدنمارك هي مصدر الرسوم المسيئة للرسول (ص) وهولندا مصدر الفيلم السينمائي "فتنة" المثير لغضب المسلمين. تم إختيار سنغافورة لتمثيل مجموعة الدول الآسيوية بسبب التقدم الإقتصادي والتقني الهائل الذي أحرزته، رغم إفتقارها شبه الكامل – بعكس كل الدول العربية تقريباً - لمميزات رئيسية كغزارة الموارد الطبيعية وعدد السكان وتفرد الموقع الجغرافي، وأيضاً لحصولها على إستقلالها من الإستعمار البريطاني في وقت مقارب لذلك الذي حصلت عليه الدول العربية. ثم ألحقنا إسرائيل بجدول المقارنات لأسباب لا تفوت على فطنة القارئ العادي بالطبع. أخيراً تكتسب هذه المقارنة أهميتها بمضاهاة المؤشرات التي إنتقيناها بين ما أنجزته العينة أعلاه، وبين ما أنجزته عينتان أخريتان، إحداهما تمثل جميع الدول العربية مجتمعة بإعتبارها تمثل لب العالم الإسلامي السني من ناحية، والأخرى إيران التي تمثل العالم الإسلامي في جانبه الشيعي والتي ترفع لواء التحدي للعالم المتقدم بأجمعه تقريباً.

    ليس من أهداف هذه الورقة إجراء مقارنة دقيقة بين وضع المسلمين الراهن وأوضاع الأمم الأخرى في مختلف المجالات عبر الإستفادة من المؤشرات المتاحة، وهو هدف يستحق الإنجاز على كل حال، إلا أن تسليط الضؤ على جزء بسيط جداً من هذه الفوارق يبدو ضرورياً لمساعدة القارئ في فهم الرسالة التي يود الكاتب إيصالها، ومن هنا تنبع أهمية إيراد المؤشرات الواردة في الجدول التالي:




    الدولة عدد السكان – تقديرات 2008 (مليون نسمة) الناتج القومي الإجمالي GDP لعام 2005 (بليون دولار) عدد براءات الإختراع المسجلة في الفترة 1963 – 2007 عدد الجامعات المدرجة في قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم لعام 2005
    الولايات المتحدة الأمريكية 303.8 12,970 2,460,775 168
    أسبانيا 40.5 1,100 5,852 9
    الدنمارك 5.5 257 9,948 5
    هولندا 16.6 598 36,817 12
    سنغافورة 4.6 120 3,698 2
    اسرائيل 7.1 129 15,641 7
    إيران 65.9 187 73 0
    مجموع الدول العربية 342.0 920 768 0

    لنترك المؤشرات تتحدث:

    • الناتج القومي لكل الدول العربية أقل من الناتج القومي لأسبانيا، التي تعتبر في الصف الثاني من دول المقدمة في أوروبا، رغماً عن أن عدد سكان الدول العربية أكبر ثمانية مرات من عدد سكان أسبانيا ومساحة الدول العربية الإجمالية (12,750,000 كيلومتر مربع تقريباً) أكبر بحوالي خمسة وعشرون مرة عن مساحة أسبانيا، ورغماً عن مصادره الطبيعية الهائلة كإحتوائه على أضخم مخزون نفطي في العالم ووجود أفضل موارد سياحية على مستوى العالم كالآثار والشواطئ والمزارات الدينية إلخ. من الجدير بالملاحظة أن القسم الأكبر من الناتج القومي للدول العربية لم ينتج كحصيلة للجهد الذهني والبدني الشاق، أو البناء التنظيمي المقتدر، أو التخطيط الإستراتيجي السليم، حيث يتمثل في العوائد البترولية التي لايتطلب الإستفادة منها أكثر من التعاقد، وفق صيغ تعامل وتعاقد معلومة في عالم الأعمال، مع جهات اجنبية تمتلك التقنية المطلوبة والمعرفة الفنية اللازمة.

    • يساوي إسهام كل الدول العربية وإيران (بمجموع سكان 407 مليون نسمة تقريباً) أقل من 6% من إسهام إسرائيل (7.1 مليون نسمة) في براءات الإختراع المسجلة وأقل من 3% من إسهام هولندا (16.6 مليون نسمة).

    • لم تدخل جامعة واحدة من كل الدول العربية وإيران (بعدد سكان أكبر من 400 مليون نسمة) في سجل أفضل 500 جامعة في العالم بينما أدخلت إسرائيل (بعدد سكان 7 مليون نسمة) 7 جامعات وهولندا (12 مليون نسمة) 12 جامعة.

    الفقرة التالية مقتطفة من مقال ورد بمجلة نيوزويك – عدد 30/10/2007 بعنوان "متى يتقدم العرب؟" ويعبر ماجاء فيه بوضوح عن تزايد حجم الفجوة التي تفصل عالمنا العربي والإسلامي عن بقية العالم المتقدم : "في مطلع ستينيات القرن الماضي، كانت مصر وهي أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان تصدّر السلع المصنعة بمعدل التصدير نفسه للفرد الواحد الذي تشهده كوريا الجنوبية وتايوان. والآن تصدران في ثلاثة أيام أكثر مما تصدر مصر في سنة، والفلبين تصدر 10 أضعاف السلع المصنعة التي تصدرها مصر، وقد ارتفع معدل صادراتها السنة الماضية بنسبة تفوق مجمل الصادرات المصرية. ومن ثم هناك تايلند، التي تصدر وحدها سلعا مصنعة أكثر من كل دول العالم العربي، بالرغم من أن عدد سكانها هو ربع عدد سكان العالم العربي ... الفلبين وحدها تنفق على التكنولوجيا الأجنبية أكثر مما تنفق البلدان العربية مجتمعة".

    بما أن الظروف الإقتصادية أو السياسية، كما أوضحنا، ليست هي المفسر لهذا النمو المتعاظم للإسلام السلفي، ولا يؤدي تحسنها إلى كبح جماحه، كما أن المجتمع المسلم يتميز بالفشل في الآداء في النواحي الحياتية الأخرى، بشكل لا يمكن عزوه للإختلالات السياسية والإجتماعية، بمعنى آخر فإن الفرضيات التي بنى عليها الفكر السياسي الإجتماعي الغربي، في مجراه العام، تقييمه لأزمة المجتمع المسلم قد أوصلتنا لنتائج غير حقيقية، فأين تكمن الإجابة إذاً؟ دعونا نرى ما يقوله المسلمون السلفيون أنفسهم عن أسباب الضعف في آداء مجتمعاتهم قبل الولوج في رؤيتنا التي نعتقد أنها الأنسب لتفسير الأزمة والأقرب للإمساك بمفاتيح الحل.

    تفسير المسلمون لأسباب ضعفهم – وجهة النظر السلفية:

    نسبة لجملة من الأسباب التي سنبينها لاحقاً في هذه الورقة، يجنح العقل المسلم لتبسيط القضايا وإستسهال الإجابة على الأسئلة الصعبة. عليه لن يخرج العقل الإسلامي السلفي، غالباً، عن ثلاثة أسباب نمطية يراها مسئولة عن نشؤ الوضع أعلاه نختصرها في التالي:

    الاول: بعد المسلمون عن دينهم. والمقصود هنا أن المسلمون لا يطبقون تعاليم دينهم بالشكل المطلوب سواءاً من ناحية الإلتزام بالجوانب التعبدية والتمسك بالقيم والآداب، أو من زاوية تنفيذ التعاليم المرتبطة بالمعاملات. وهي إجابة لا تضع أي معايير يمكن من خلالها قياس البعد أو القرب عن الدين حتى يمكن التحقق من صحة هذا التفسير بشكل منهجي. كما لاتوضح هذه الإجابة لماذا، إذاً، تطور أولئك الذين لايدينون من الأساس بدين الإسلام بل أن بعضهم لايدين بأي دين. الطريف أن التجربة تثبت العكس، فحيثما إقترب المسلمون من تطبيق النموذج السلفي، الذي يرونه صحيحاً، مثل تطبيق الحدود وفرض الحجاب على المرأة وامتلاء المساجد بالمصلين وإكتظاظ كليات الكهانة بالطلاب واجهزة الاعلام بالشيوخ، كلما إتسعت الفجوة التي تفصلهم عن الآخرين، وكلما زادوا بعداً عن الإسهام في التقدم الحضاري للعالم، وكلما زاد تطفلهم واعتمادهم على انجازات الغير، وكلما زادت غلبة الآخرين عليهم.

    الثاني: كيد اليهود و مؤامراتهم المتصلة ضد الإسلام والمسلمين. نتج هذا الإعتقاد من القناعة الراسخة بأن عداء اليهود للإسلام ذو طابع أزلي، وأن لليهود باع طويل في التآمر، ومهارات إستثنائية ووسائل غير محدودة في تحقيق مآربهم، ترقى لمستوى الأسطورة. على كل حال، فإن إتهامهم بالتسبب في حالة التخلف والوهن الضاربة الجذور في المجتمعات الإسلامية يعوزه الإثبات والدليل ويفتقر لوسائل التحقق. وفوق ذلك فهو تفسير أقرب للعذر الأقبح من الذنب، ودليل إدانة للنفس قبل الخصم، حيث أن هذا الإعتقاد يطرح سؤالاً محرجاً يحتاج لإجابة جازمة : كيف تقبل أمة يهديها كتاب إكتملت عبره رسالة السماء للأرض، أمة ملأت بيارقها، يوماً ما، مشارق الأرض ومغاربها، كيف لأمة مثل هذه أن يتغلب عليها شعب صغير للغاية عانى عبر تاريخه كله تقريباً، ومن قبل نشؤ الدولة العربية والإسلامية، وحتى وقت قريب جداً من حالة إضطهاد وضعف وشتات لدرجة أنكرت فيها حتى آدميتهم من قبل بعض الشعوب كما هو الحال في ألمانيا ما قبل الحرب الكونية الثانية؟

    إن الإعتماد على آية "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" في تبرير هذا النزوع التجريمي لليهود، فقط لأنهم يهود، لا يتفق مع المنطق السليم، ولا مع جوهر الدين نفسه. فالواقع يقول أن المشركين الذي كانوا في درجة واحدة مع اليهود من ناحية عداوتهم للمسلمين، كما جاء بالآية السابقة، دخلوا أفواجاً في الإسلام بعد أن آذوا الرسول (ص) كثيراً، كما أثبت الواقع أيضاً أن هذا الخلاف مع اليهود إنما كان خلافاً حول السيادة وأنتهى بالإنتصار النهائي للإسلام في جزيرة العرب. ودليلنا على أن العداء لليهود ليس قائماً على أساس الديانة، أن الإسلام أباح الزواج منهم، كما تؤكد الروايات أن الرسول (ص) إنتقل للرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله، مما يؤكد إمكانية التعايش المشترك وأن الأمر لا يقوم على العداء على الهوية، كما أن هذا العداء لايمكن أن يكون سرمدياً.

    الثالث: الإستعمار. وهي إجابة أسطح من رفيقاتها ولا توضح لنا أصلاً لماذا كانت الأمة الإسلامية من البداية من الضعف حتى تكالب عليها الإستعمار، كما لا تفسر تلك الإجابة السهلة إرتقاء معظم الأمم الأخرى التي نالت إستقلالها في سلم التطور الإجتماعي والإقتصادي والعلمي، على الرغم من تعرضها لإستغلال أبشع من الذي تعرضت له الأقطار الإسلامية، وعلى الرغم من فقدانها لمقومات أساسية لتسريع التقدم الإقتصادي والإجتماعي تذخر المنطقة العربية بفائض منها. وحتى لا نبعد كثيراً عن أمثلتنا الساطعة أعلاه، لماذا تحقق دولة مثل سنغافورة نالت إستقلالها من نفس الإستعمار الإنجليزي في نفس الوقت الذي ناله السودان ناتجاً إجمالياً يعادل 120 مليار دولار خلال عام 2005 مقارنة بـ 23 مليار دولار للسودان لنفس العام رغم إفتقارسنغافورة تقريباً لأي مورد يذكر، وتمتع السودان تقريباً بكل مورد مطلوب؟ أين يمكننا البحث عن إجابة لهذه المفارقة؟

    لب المشكلة - بدائية وجمود العقل المسلم:

    كانت المنطقة العربية الحالية وإيران (مع وجود بعض الإستثناءات القليلة) تمثل المهد لحضارات العالم القديم تقريباً (الفرعونية، الآشورية، الحميرية، الفارسية إلخ)، يشهد على ذلك آثارها التي لا يزال بعضها يشكل مصدر حيرة للعلم المعاصر كأهرامات مصر. لقد شهدت بعض تلك الحضارات إرساء بدايات التفكير العلمي والعقلاني، بشكل أثمر نزوعاً قوياً لإنتاج معرفة متحررة عن الخرافة، يتميز العقل فيها بالموضوعية التي تدفعه للبحث في كنه الأشياء بإستقلالية عالية عن المؤئرات الثقافية الموروثة، المرتبطة بالأسطورة عادة.

    لقد كان من المفترض منطقياً أن يؤدي إمتزاج شعوب هذه المنطقة، بكل هذا التاريخ العريق، بالفاتحين الجدد القادمين من الصحراء بما يحملونه من فكرة جديدة وملهمة، هي الإسلام، إلى أن تعيد المنطقة إنتاج نفسها من جديد وتعود لصدارة العالم القديم بجدارة. إلا أن الحصيلة، ومهما أطنبنا في مدح الدولة الأموية والعباسية وما أعقبها من كيانات غلب عليها تأثير العقل والرؤية البدوية، ومهما تحدثنا عن الظلام الذي كان يغرق أوروبا حينها، لا ترق إنجازات الدولة العربية الإسلامية لمستوى التوقعات المبتغاة من عملية الإنصهار. بل أن هناك من الشواهد ما يؤكد بأن قدراَ مؤثراً من إسهام المنطقة في المعرفة الانسانية العامة، على الرغم من محدوديته، يعود لعناصر من غير ذوي الأصول العربية إستطاعت النجاة من أثر العقلية البدوية المسيطرة (الرازي، الخوارزمي، ابن سينا، الخيام، الفارابي، سيبويه، إلخ) . بل أننا نذهب أكثر من ذلك حيث نعتقد بأن العقلية البدوية للفاتحين الجدد مسئولة عن الإحباط التام لتطور المنطقة وريادتها للعالم التي كان من الممكن أن تتم بإعتبار ما ورثته من أساس حضاري متمدد منذ القدم.

    صحيح أنه وفي فترات محددة سابقة في التاريخ الإسلامي، نعتبرها استثناءاً لايصح القياس عليه، تصدر المسلمون العالم في الإنجاز العلمي والمعرفي إلا أن حجم الإنتاج ونوعيته لا يتناسب ودرجة تمدد المسلمون في الزمان والمكان، كما أن هذا الإنتاح العلمي لم يتخط المستوى العام للمعارف السائدة في زمنه، ولم يثمر أسس ومفاهيم جديدة ومغايرة تهز الثوابت ويمكن أن تضعه في تحد وصراع مع السلطة السائدة والمعايير المسيطرة وقتئذ كما حدث من قبل في أوروبا العصور الوسطى.

    إذاً، ما هي الأسباب التي تفسر لنا هذا الآداء المتدني للدولة العربية الإسلامية سابقاً وحالياًً كما تبينه الأرقام والحقائق التي أوردناها آنفاً؟

    لقد أوضحنا من خلال سردنا لوجهات النظر أعلاه أن السبب الحقيقي والجوهري وراء هذا التخلف لا يكمن في تلك التعليلات الهشة آنفة الذكر، التي يتزرع بها الإسلام السلفي، والتي لاتصمد لأي منطق كما بينا. كما أن الإجابة في تقديرنا لا تكمن في تخلف البنى الإجتماعية والإقتصادية، أو هشاشة البنية السياسية وغياب الديمقراطية، كما تنزع الأغلبية العظمى من المنظرين اللبراليين، حيث نرى تلك العوامل بإعتبارها نتاج أزمة أكثر من أنها سبباً لها. ربما يساعدنا البحث في هذه الجوانب في توضيح بعض القضايا، لكن الإجابة الصحيحة تكمن في نطاق آخر في رأينا. لسبب بسيط وهو أن ملامح الأزمة موجودة في كل العالم الإسلامي بشكل يكاد يكون متطابقاً، رغم الإختلاف الشاسع والتباين الكبير بين مختلف مكونات هذا العالم لو نظرنا إليه من خلال مناظير الإقتصاد والسياسة والإجتماع. إذاَ هناك عاملاً رئيساً يبدو أنه القاسم المشترك والذي من خلال الإمساك به وإخضاعه للتحليل يكون متاحاً تفسير كل هذا، وهذا العامل هو العقل الجمعي المسلم .

    مظاهر وتجليات أزمة العقل المسلم:

    لجملة من الأسباب التي سنأتي لها لاحقاً، أصبحت نصوص الدين وفق تفسير فقهاء القرون الأولى للدولة الإسلامية، تمثل تقريباً المصدر الوحيد للمعرفة والمرجع الأساسي للقياس لدى عامة المسلمين. نتج عن إهمال المسلمين لمصادر الفكر والمعرفة الأخرى إلى ولادة عقل ومجتمع مسلم يتميز بملامح جد سلبية تتجلى في الآتي:

    • ميل مفرط لتبسيط الأشياء، والبحث عن حلول سطحية للقضايا التي تواجه المجتمع المسلم رغم تعقيداتها، والإصرار على إضفاء طابع ديني على كل جانب من جوانب النشاط الإنساني، بما في ذلك العلم التجريبي، حتى لو أدى ذلك لإبتذال الإستشهاد بالنصوص لإثبات ذلك. وبما أن السمة العامة لعصرنا الحالي هي التسارع الشديد في الإنتاج العلمي والتقني، أصبح موضوع المسلمين المفضل، بما في ذلك قطاع مؤثر من المختصين في جوانب العلم التجريبي المختلفة، البحث عن إثبات وجود متوهم للنظريات العلمية والمنتوج العلمي بشقيه الإنساني والتجريبي في النص الديني، عوضاً عن الإسهام في هذا التسارع. وذلك رغم أنف الحقيقة البسيطة التي من المفترض أن يدركها متوسطو العلم والمعرفة ، وهي أن العلم والدين لا يلتقيان مطلقاً، ليس لقصور في الدين، وإنما لأن كلاهما يبحث في مجال مختلف مطلقا عن الآخر، وكلاهما يتوسل للوصول للحقيقة بإستخدام منطلقات وفرضيات مختلفة، وكلاهما يستخدم لإثبات حقائقه أدوات ومناهج جد مختلفة عن الآخر. وكل ذلك على الرغم من وجود نصوص دينية لا تقبل الجدل تشير لإستحالة إشتمال النص الديني على الحقيقة العلمية .

    • سيطرة نظرية المؤامرة كأداة لتحليل وتفسير ما يتم أمامنا من أحداث إجتماعية و سياسية، أو إسناد أدوار غير حقيقية أو مبالغ فيها للعامل الخارجي، وذلك كإنعكاس موضوعي لضحالة الفكر وضمور الخيال وكسل الذهن. النتيجة المباشرة هي إتخاذ القرارات الخطأ لإستنادها على فرضيات وتقديرات خطأ. ليس سراً أنه وحتى الآن، يعتقد قطاع مقدر من المسلمين، ومنهم مثقفين تلقوا أرفع الدرجات العلمية، أن اليهود هم المسئولون عن تدمير برجي التجارة العالميين بنيويورك، شاهدهم في ذلك غياب حوالي ثلاثة الاف موظف يهودي عن المبنيين ساعة حدوث الإنفجارات !!!

    • غياب المعيارية والقياسية والعناصر المرجعية في الوصول للإستنتاجات والحكم على الظواهر والأحداث. برجع هذا بدون شك لغياب التفكير العقلاني المنطقي إبتداءاً، حيث يستحيل، بداهة، الوصول لنتائج أو قرارات صحيحة في غياب مثل تلك الموازين. صحيح أن العقل المسلم يتسم بفقدان الموضوعية، من الأساس، بإعتبار أنه يعتمد بشكل كامل تقريباً على الإطار المرجعي الثقافي الذي تأسس خلال فترة التدوين كما أشرنا من قبل. لكن صحيح أيضاً أن ذلك الإطار المرجعي مليئ بالفجوات والثقوب التي تعاظمت عبر الزمن بشكل يمكن أن يتيح للعقل المسلم بعض المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها. بيد أن العقل المسلم، في وضعه الراهن، وبدلاً عن أن يلتفت لتطوير معايير ومواصفات غير تلك التي تم إرسائها في ذلك العصر وأستقرت في داخله منذ ذلك الحين، يستنزف طاقته بحثاً في منظومة القيم الموروثة – رغم عدم ملاءمتها أو إتساقها مع قضايا عصرنا - عن مرجعية للظواهر الناشئة مما يورطه في حرج عظيم. لقد مثلت الفتوى الخاصة بإرضاع الكبير، لتقنين الإختلاط بين الرجل والمرأة في مكان العمل، نموذجاً ساطعاً عن مدى التخبط الذي يقع فيه العقل المسلم نتيجة لهذه الأزمة. فمن ناحية، فإن الفتوى تتسق تماماً مع مرجعية ذلك العقل، إلا أنه وفي ذات الوقت، يأباها الحس السليم والفطرة البشرية للإنسان المعاصر، وهما مما لا يؤخذ به كمعيار في الحكم على الأشياء، مما أدى لوضع مجمل الفكر السلفي ومؤسساته وشخوصه في وضع يدعو للرثاء، على أحسن تقدير.

    تتجلى أزمة المعيارية والمرجعية أيضاً في فقدان العقل المسلم القدرة على وضع معايير ومقاييس لإدارة الحوار مع الآخر، المختلف، بغرض الوصول لأرضيات مشتركة على مستوى النشاط الحياتي العام، وتسمح بتحديد مدى التقدم أو التأخر في أي شأن حتى يمكن الإستناد عليه في الوصول للأحكام. وكمثال على ما نقول تلك المقولة الشائعة الموجودة في متناول يد الغالبية العظمى من المسلمين والتي تعزي إنحطاط المسلمين، مثلاً، إلى بعدهم عن دينهم أو لعدم تطبيقهم لتعاليم الدين بالشكل الصحيح، حيث لن تسعفك كل دوائر المعارف المتاحة في تبيان المعيار الذي يمكن من خلاله قياس هذا الإدعاء ولا كيفية التحقق منه ولا تفسير لماذا يتقدم العالم الغير إسلامي على حساب العالم الإسلامي الذي يزداد تخلفاً، وياللغرابة، كلما إقترب من الدين بشكله السلفي الذي يطغى عليه التمسك المزعوم بمظاهرالدعوة الإسلامية الأولى كالتدين الظاهري الواسع في مختلف جوانب الحياة. نسمع آلاف الدعاوى ومن كل مدارس السلفية الإسلامية أن الإسلام هو دين الوسطية ودين التجديد بدون أن تتفق هذه المدارس مرة على أسس هذه الوسطية وذاك التجديد، وكيف يمكننا قياس مدى وسطية هذا أو ذاك من التنظيمات والمذاهب التي تملأ الساحة والتي تدعي كل منها، بما فيها الوهابية، تبنيها للوسطية وتمسكها بأسس التجديد.

    أذكر في نقاش لي مع أحدهم يتعلق بإحدى ميزات الثقافة الغربية الراهنة، وهي قدرتها على نقد ذاتها ونبذ سلبياتها، إستشهادي في إطار الدفاع عن وجهة نظري، بقبول تلك الثقافة تولي أشخاص كانوا على هامشها حتى وقت قريب لمناصب في غاية الحساسية، كتولي السيدة سوزان رايس والسيد كولن باول حقائب وزارات هامة للغاية في الإدارة الأمريكية، بل وصل الأمر تولى شِخص منحدرمن أصول أفريقية المقعد الأول والأقوى على مستوى العالم. كان رد محدثي أن ذلك مجرد محاولات شكلية لذر الرماد في العيون لإثبات أن النظام الأمريكي قائم على الإنفتاح المجتمعي، حيث أن القرارات الرئيسية أصلاً في يد البيض واليهود، وأن كل هؤلاء الساسة الذين يملأون سوح الإعلام ليسوا إلا أدوات لها دور محدود ومرسوم سلفاً. إن غياب أي معيار لهذا العقل لقياس التقدم أو التأخر فيما يخص الحقوق المدنية في المجتمع الأمريكي، كمثال، يوصلنا لنتيجة واحدة وهي أن عار العنصرية كتب على المجتمع الأمريكي للأبد، حيث أن عدم وجود أشخاص من أصول أفريقية في مواقع إتخاذ القرار في تلك الحكومة يمثل تأكيداً واضحاً على عنصرية النظام أوعلى أحسن الفروض عدم تكافؤ الفرص به، وإذا وجدت عناصر من اصول افريقية في مراكز إتخاذ القرار يصبح هذا جزءاً من لعبة أكبر، الغرض منها تعمية بصائر الآخرين!!

    • النظرة القدرية للعالم ولأفعال الطبيعة والبشر، والإستسلام لحقيقة أن كل ما يحدث أمامنا مقرر سلفا،ً وبالتالي لا جدوى من إجهاد الذهن لافي تفسيره ولا في تغييره. النتاج الرئيسي والمباشر لهذه النظرة هو غياب روح التحدي وضعف الرغبة في إرتياد المجهول لدى المسلم بغض النظر عن مستوى تأهيله العلمي والمادي، والإكتفاء بالإسترخاء على الضفاف في إنتظار رزق تأتي به الأقدار!

    • اللجؤ لمسرح الخرافة والإستسلام للخزعبلات كنتيجة طبيعية للعجز عن التفاعل الخلاق والعطاء الإيجابي في ساحات الحضارة الإنسانية. أدت الهيمنة الطويلة للمدرسة الجبرية التي تؤكد بشكل عام على أن أفعال العباد وأحداث الحياة مقررة سلفاً، وأن الإرادة الإلهية قد رسمت كل شئ بدقة نافذة، إلى وسم العقل المسلم بصفة التواكل وإنتظار الحلول من السماء، والقناعة الشديدة بأن مسار حياة الإنسان غير خاضع لنواميس الحياة المعروفة ومعطيات الواقع. كان من نتائج هذا الإعتقاد بروز فكرة المخلص أو المهدي المنتظر وكمونها في الوجدان المسلم، حيث تعبر عن نفسها بشكل حركي معلن أحياناً، وذلك بظهور من يدعي مهديته ويدعو الناس إليه عبر ثورة مسلحة لتأسيس مجتمع تطهري قائم على نموذج الدولة الإسلامية الأول، وبشكل ساكن ومستتر في معظم الأحيان حيث ينزع المسلمون للخمول والسكون والسباحة في الوهم في إ نتظار الفرج والخلاص الذي يأتي بدون جهد وبدون مقومات .

    لقد بلغ من ضعف العقل والخيال لدى المسلم بفعل الذهنية أعلاه، ان يقدم حتى على التسليم السهل بالخزعبلات في سبيل الإطمئنان على صواب إعتقاده وقوة عقيدته، كالإهتمام الزائد عن الحد بظواهر غير مألوفة – وفي غالب الظن غير حقيقية – بإعتبارها معجزات إلهية كولادة خروف مرسوم في جلده إسم الجلالة، أو وجود غابة يشابه وضع الأشجار بها جملة "لا اله الا الله"، أو إنبعاث رائحة المسك من أجساد الشهداء، وما إلى ذلك، رغم أن الدين نفسه يرفض ذلك .

    • فقدان الإتساق المنطقي في الإستدلال وعدم الموضوعية في إستنباط الأحكام. والأمثلة كثيرة، فبينما ينقل لنا ابن عباس "أن أخاه الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلّم، في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم، يصرف وجه الفضل إلى الشق الأخر" ، وهو مايعني أن المرأة المعنية كانت حاسرة الوجه، وبائنة الحسن على الأقل، نجد له، أي لإبن عباس، قولاً مختلفاً جداً في مسألة زينة المرأة وملبسها لا يمكن أن يكون متسقاً مع الحديث السابق حيث جاء بتفسير الطبري عن بن عباس قوله "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة" وجاء هذا في معرض تفسير الآية "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"، ففيماذا إذاً كان الفضل، في الحديث الأول، يتمعن حتى يتدخل النبي ويصرف وجهه، أي الفضل، لجهة أخرى؟ أفي هذه العين الواحدة؟.

    كمثال صارخ أيضاً على ذلك الإضطراب الذي ساد الفقه السلفي، الذي يكنً لصحيح البخاري مرجعية لا تقل عن القرآن تقريباً، عندما أفتى أحد كبار "علماء" الحديث بل رئيس قسم الحديث بأهم مؤسسة دينية إسلامية، وهي الأزهر، بجواز إرضاع الكبير إستناداً على أحاديث واضحة جرى العمل بها من أمهات المؤمنين ووردت بأهم كتب الحديث كصحيحي البخاري ومسلم وذلك كمخرج، في رأيه، للمشكلة الناشئة بحكم تبدل الأزمان، والتي تطلبت قدراً من الإحتكاك بين المرأة والرجل في أماكن العمل. لقد تم إذلال الرجل بشكل مسرحي للغاية، وإنكار إستدلاله، على الرغم من إستناده على نفس المصادر التي تشتق منها الأحكام، وبإستخدام نفس المناهج والأدوات، وعلى الرغم من درجته الدينية الرفيعة وتخصصه بنفس المجال الذي أفتى فيه، وذلك فقط لعدم إستساغة هذه الفتوى من قبل الناس، رغم أن الفقه التقليدي لايضع مسألة الإستساغة أصلاً في الإعتبار .

    أيضاً نجد أنه وبينما يتفق الغالبية الساحقة من الفقهاء و"العلماء" على جواز زواج الطفلة، كما هو معلوم، إستناداً على زواج الرسول (ص) من السيدة عائشة في سن التاسعة ، نجد أن نفس المرجعية السلفية وبالإستناد على ذات المصادر، وبإستخدام نفس المناهج، تنكر ذلك في المغرب وتهاجم أحد دعاتها السلفيين عندما نادى بجواز ذلك، فقط لأن الأمر يبدو غير مستساغاً هنالك !!.

    • سيطرة الإحساس بقلة الحيلة وإنعدام القدرة على إتخاذ المبادرة. يعبر هذا العجز عن نفسه سياسياً بسهولة إستسلام المسلمين لأنظمة القهر، وتعلقهم المفرط بالأبطال والقادة، حتى غير الجديرين منهم، وإضفاء طابع أسطوري على قدراتهم وملكاتهم. كما يعبر هذا العجز عن نفسه فكرياً بالتعلق بفكرة المهدي المنتظر أو اللجؤ للأولياء والصالحين وما إلى ذلك.

    • جنوح الخطاب السياسي والفكري لإستدرار العاطفة وإثارة الحماس وإلهاب المشاعر بالإستخدام المكثف للجوانب البلاغية في اللغة العربية، وبالتركيز على إسترجاع صور زاهية من ماضي الدولة الإسلامية الأولى وتقديمه بشكل يوحي بإمكانية تكراره رغم إختلاف الشروط الموضوعية والذاتية. أدى هذا إلى إرتباط الوجدان الشعبي بالماضي، والعيش في أسره، والنظر إليه باعتباره أقصى ما يطمح إليه الانسان ويسعى إليه، بدلاً عن إطلاق الخيال وشحذ الفكر و التطلع بثقة وهدؤ للمستقبل وفتح أبوابه عبر الإستخدام الذكي والطموح لمفاتيح العلم والمعرفة التي راكمتها البشرية عبر مسيرتها الطويلة، وعبر الإستناد على حقائق الواقع الماثل أمامهم وإستصحاب ماهو إيجابي وواقعي في ذلك الماضي. لقد عبر أحد الحركيين الإسلاميين المعاصرين، وأظنه راشد الغنوشي، عن ذلك برشاقة حيث قال بأن أحلام كل الناس تقع في المستقبل، إلا المسلمين فحلمهم يرقد في الماضي.

    • التواضع الشديد في مؤشرات الآداء الكمي والنوعي التي تعكس إنجازات المجتمع المسلم في المجالات المختلفة (الصحة، التعليم، دخل الفرد، الرياضة، العلم، الثقافة ، الفن، الأدب) قياساً بالمجتمعات الأخرى. لا يمكن أن يكون هذا الضعف مجرد صدفة، أو نتيحة مؤامرة إستمرت لمئات السنين ولكل أقطار العالم الإسلامي، إنما يمثل نتاجاً طبيعياً للأبنية الإجتماعية والفكرية التي حكمت معظم العالم الإسلامي عبر السنين. إنه دليل تخلفها وعجزها وقصورها عن إنجاز مشروع تحول يضع العالم الإسلامي في صدارة العالم بقوة العلم والمعرفة. إن القول بغير ذلك لا يعدو أن يكون نوع من العبث الفكري خاصة وأن المركز الرئيسي للمحيط الإسلامي، وهو المنطقة العربية، تتوسط العالم القديم كما أنها تستمتع بإرث حضاري بالغ القدم وعالي الحيوية، وهو ما يعطيها مزية أن تكون في المقدمة وليس الذيل.

    أسباب أزمة العقل المسلم:

    بنهاية القرن الثالث الهجري كان الوضع النهائي، الحالي، للعقل المسلم قد تشكل وتم صياغته بالكامل. لقد تضافرت مجموعة من العوامل المترابطة للوصول لهذه النتيجة نلخصها فيما يلي:

    1) تخلف البنية السياسية/الإجتماعية/الفكرية لبيئة النشؤ:

    • خلافاً لما كان الحال عليه بمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا من وجود تاريخ لدول قديمة حافل بحراك سياسي نشط وأنماط إقتصادية حية، تميزت الجزيرة العربية، مهد الرسالة، بغلبة البداوة كأسلوب حياة إقتصادي يرتبط عادة بتخلف كبير في الأبنية السياسية والإجتماعية والثقافية. يتميز هذا الأسلوب الإقتصادي بخواص سالبة، حيث تتميز العقلية البدوية بالركون للقدرية وللتقليد بسبب إنعدام روح التحدي بفعل ركود الإقتصاد البدوي وإعتماده على نمط متكرر ورتيب من النشاط. كما يتميز السلوك البدوي، وهو أمر لا يتوقف على شبه الجزيرة العربية وحدها، باللجؤ السهل للعنف والتعامل الوحشي مع الآخر نتيجة لشح الموارد وحدة التنافس عليها.

    لم تشهد الجزيرة العربية، حيث نزلت الرسالة على النبي (ص) في مكة، أي مظهر لبروز الدولة بالشكل المعلوم. كانت القبيلة هي البناء الإجتماعي الأساسي، وأعراف القبيلة هي التي تشكل الإطار القانوني والسياسي والأخلاقي لها. غير أنه يمكننا ملاحظة ظهور شكل جنيني بدائي للدولة ومؤسساتها يتمثل في توزيع الأعباء الإجتماعية المحدودة، كسقي الحجاج ورعاية الكعبة، على مجموعة صغيرة من العائلات الكبرى في مكة. نلاحظ أيضاً غياب أي فكر سياسي أو نظرية إجتماعية أو فلسفية هادية بإستثناء الشعر حيث كان الشعر، بأنواعه من غزل وفروسية وما إلى ذلك، هو التجلي الفكري الوحيد. في تقديرنا أن تلك المكانة العالية التي بلغها الشعر الوصفي بأنواعه المختلفة في الحياة الفكرية للعرب، يعبر عن أحد المؤشرات الرئيسية الدالة على قوة البداوة تلك.

    صحيح أن مجتمع الجزيرة العربية بدأ يشهد ملامح تغيير من أبرزها وجود دعوات للوحدة السياسية وللتوحيد الديني هنا وهناك، إلا أنها لم ترق لمستوى أن تتحول لحركة مجتمعية عامة. على مثل هذا الواقع لابد أن تشكل شخصية الرسول (ص) القيادة الروحية والسياسية في آن واحد. كان نتاج ذلك أن قامت أول دولة موحدة في التاريخ في الجزيرة العربية في تلازم تام مع سيادة الإسلام على كامل الجزيرة العربية.

    على الرغم من أن القرآن لم يتضمن أحكام مفصلة، فيما يخص شكل الدولة ونظام الحكم، إلا أن تجربة تلازم السلطتين الروحية والزمنية في شخص الرسول (ص)، أصبحت مرجعاً وحيداً قام بترسيخ مبدأ التلازم في شكل الحكم اللاحق. إنه، وفي فترة قصيرة للغاية، وبما يشبه الإنفجار، أضحت الدولة الإسلامية الوليدة إمبراطورية مترامية الأطراف ذات مركز واحد في الوقت الذي لم يكن يوجد فيه شكل مكتمل للدولة، أو نظام للحكم. كما لم تتوفر تجربة سابقة في إدارة السلطة لدى الحكام الذين خلفوا الرسول (ص)، ولم تنشأ أو تتبلور نظريات سياسية وإجتماعية تناسب الوضع الجديد. لذا كان محتماً الإستناد على تجربة الرسول (ص) في الحكم بعد إضفاء القداسة على ما هو بشري منها والإعتماد على النصوص الدينية، كغطاء فكري، وذلك بعد إعادة إنتاجها بواسطة العقل البدوي الذي أحاطها بحباله الخانقة، وألقى بظلاله القاتمة عليه. فالنمو الهائل والسريع للدولة والإنشغال بالفتوحات الجديدة والأساس الإجتماعي البدوي للقوى الصاعدة لم يتح فرصة لبروز أفكار مستقلة عن الإطار الديني.

    • لقد إتسم قدر كبير من نصوص القرآن والسنة بالعمومية أو إحتمال النظر بأكثر من وجه، كما إتسمت بعض القضايا بتعدد النصوص التي تتناولها بشكل يوحي أحياناً بوجود تناقض أو تعارض بينها، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار غياب آلية لشرح وتفسير النصوص في فترة نزول الوحي لتضمن فهم المسلمون للنصوص بشكل موحد في وجود صاحب الرسالة نفسه، الذي كان يمكنه فض الإشتباك عند التنازع في الفهم. إنه وفي غياب التسلسل الزمني الواضح للنصوص وصعوبة الإهتداء الدقيق للسياق الذي وردت فيه أغلبيتها، أصبح التوحد حول فهم واحد للنص الديني صعباً، خاصة تلك النصوص التي ترتبط بالمعاملات البشرية التي تتسم بطبعها بالتغير، وهو جوهر ما عناه وعبر عنه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عندما قال "القرآن حمال أوجه".

    لقد وفر ذلك التعدد في زوايا النظر للنص الديني، إمكانية كبرى لأن تعبر القوى السياسية والإجتماعية التي بدأت في الظهور و الإختلاف منذ لحظة وفاة الرسول (ص) عن نفسها بإستخدام النصوص الدينية، وذلك عبر الإستفادة من المرونة المتاحة بها . لقد أدى ذلك لنتائج كارثية مستقبلاً، تتمثل في تكريس الإعتماد على النص الديني كمرجع وحيد للأحكام، وبالتالي إضعاف النزعة لصياغة منظومات فكرية من خارجه، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار أن التيار الفكري الغالب هو التيار الرجعي، وذلك بحكم سيطرة القوى السياسية المحافظة لفترات طويلة بشكل شبه كامل ومنذ وقت مبكر على الحكم وتبنيها للمنهج الجبري الذي إمتدت آثاره السالبة إلى يومنا هذا.

    للتدليل على سيطرة التيار التقليدي المحافظ نلاحظ أنه بينما كان الخليفة عمر بن الخطاب يرفض منح سهم المؤلفة قلوبهم لمستحقيه والثابت بحكم الآية :" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" بحيثيات عقلية محضة وهي إنتفاء العلة من إصدار الأمر، أو بتجميده لحد السارق في عام المجاعة بإعتبار عدم ملاءمة الظرف للتطبيق، نجد أنه وحتى بعد أربعة عشر قرناً من الزمان لم يتجرأ حاكم أو فقيه بعقلنة تطبيق أي نص، والوصول لجزء من بعد نظر ما وصل إ ليه الخليفة الثاني، رغم أن الحاجة ماسة أكثر من ذي قبل نسبة لإختلاف الزمان والمكان. ورغم أن تجربة الخليفة الثاني الجريئة تؤكد إمكانية تأسيس فقه بديل تشكل المصلحة العامة ومتطلبات الواقع أحد دعاماته الرئيسية، حيث تتغير الأحكام بتبدل الأحوال، إلا أن مسار الأمور بعد وفاة الخليفة عمر رضي الله عنه، يعكس بجلاء قوة تأثير المدرسة التقليدية وسيطرتها على الساحة الفكرية بشكل حجبت معه، عبر إنتاجها الغزير والمكرور، وفرضها لقاعدة "لا اجتهاد مع النص"، حجبت تلك المحاولات المضيئة وأجهضت تأسيس مسار جديد لفكر أكثر إلتصاقاً بالعقل وأكثر قرباً للوجدان الإنساني.

    • بإعتبار ان النص الديني أصبح هو المرجعية الوحيدة لكل ما يتصل بالحياة، على ما قدر ما تتصف به من تنوع وتعقيد، كما اوضحنا اعلاه، تناقص دور التفكير العقلاني الموضوعي ومدى تأثيره، مما قاد تلقائياً لنشؤ مناهج التفكير التي يغلب عليها الطابع القدري والتبريري والتلفيقي، بل أدى في نهاية الأمر بالمسلمين للولوج المباشر في عالم الخرافة والإستسلام للوهم. كنتيجة طبيعية لذلك برزت بكثافة التجليات التي يتميز بها العقل المسلم والتي أشرنا إليها سابقاً كالتبسيط المخل للمشاكل، والسطحية في الوصول للأحكام، واللجؤ الكثيف لنظرية المؤامرة وما إلى ذلك.

    لقد سيطر على العقل المسلم، كمثال، وهم كبير في أعقاب حرب أكتوبر 1973 بأن السبب الرئيسي للإنتصار على إسرائيل كان بسبب القرب من الله الذي تجلى في التكبير الذي لازم إقتحام الجيش المصري لخط بارليف، بدون أن يكلف أحد الناس تفسه عناء التساؤل عن لماذا إنتصرت إسرائيل من قبل ومن بعد رغم أنها العدو الأول للمسلمين كما هو راسخ عند الفكر السلفي التقليدي، ولماذا فشل مسلمو البوسنة في صد العدوان البربري عليهم والذي وصل مرحلة إغتصاب نسائهم كتتويج للإذلال والمهانة التي، ويالعجائب التاريخ، خلصهم منها صليبيو الغرب. لقد وصل بؤس المناهج الناتجة عن سيادة النص الديني كمرجع وحيد، درجة تفسير حتى الظواهر الطبيعية من خلال الدين، مثل إطلاق صفة الإبتلاء على الكوارث الطبيعية التي عادة ما تؤثر على مناطق المسلمين أكثر من سواها من ناحية النقص في الأنفس والثمرات .

    • أعقب الإنتصار الكامل للقوى السياسية الرجعية ذات المنشأ القبلي والعصبية العرقية، ونعني بالتحديد بني أمية، وما أرسته من حكم قائم على الإستبداد والقهر والعنف وسيطرة الفكرة الواحدة، أعقب ذلك سيادة كاملة للمنهج الجبري بإعتباره الأقدر على حماية تلك الدولة وإعطائها المشروعية الدينية التي تحتاجها بشدة. وبإعتبار ان المنهج الجبري يستند أساساً على إقصاء أو تهميش الدور البشري في الحياة، أصبح التلازم بين الدين والحياة محتوماً مما جعل من الصعوبة نشؤ تيارات فكرية معارضة تنطلق من عقول الناس وخبرتهم الحياتية، ولها القدرة على الإستجابة لأسئلة الإنسان وتلبية إحتياجاته بشكل إيجابي.

    2) سيطرة الفقه التقليدي:

    نسبة لغلبة الطابع البدوي للقوى التي صعدت لصدارة العالم القديم في وقت وجيز للغاية، بمقاييس بناء الإمبراطوريات والدول الكبرى، وذلك بفعل الزخم الهائل الذي وفره لها الإسلام كعقيدة، ونظراً لغياب أي فكر سياسي/إجتماعي لديها يشكل أساساً لنشؤ منظومة فكرية متكاملة، أصبح النص الديني وتجربة الرسول (ص) في الحكم، بعد إحاطتها بالقدسية الكاملة، هو الزاد الفكري الوحيد المتوفر تقريباً لمجابهة قضايا الواقع الجديد بكل مايطرحه من أسئلة حرجة وما يستجد به من قضايا معقدة.

    حتم هذا الواقع بروز دور ما يعرف بالفقه لملء الفراغ الفكري الناشئ وذلك عبر تأسيس قواعد وآليات متعددة يجري من خلالها تحليل المستجدات وإستنباط المعالجات، جرى التعامل معها لاحقاً وكأنها جزءاً من الدين رغم أنها منتوج بشري محض. كما تم وفي ذات السياق إعتماد السنة النبوية كمصدر رئيسي للتشريع ومنبع مؤسس لإصدار الأحكام وإعطائها صفة الأبدية بدون أن يجرى تصنيفها بين ماهو ديني يدخل في إطار صفة الرسول (ص) كمبلغ لرسالة السماء، وبين ما صدر عنه بإعتباره بشراً يسعى بين الناس. إن إطلاق صفة التقليدية على الفقه السائد منذ ذلك الزمن البعيد لم تأت من فراغ، حيث أن تلك القواعد والمصادر وما صدر على ضؤها من أحكام لم تشهد أي محاولة لتطوير جوهري لها. لقد ظلت تلك الأسس ثابتة بشكل عام طيلة العشرة قرون الماضية وتم، بشكل تقريبي، إحباط وسحق كل المحاولات المستنيرة الرامية لوضع قواعد جديدة تسمح بمعالجة العلاقة بين الدين والواقع بشكل مختلف يمكن المسلمون من الإنطلاق. فيما يلي نسقط بعض الضؤ على محوري إرتكاز الفقه التقليدي وهما قواعد التفسير والحديث النبوي، وتقديم نماذج عن مسئوليتهما المباشرة في حالة التدهور السابقة والراهنة للعقل المسلم:

    أ) تخلف قواعد التفسير:

    لقد بدأت صياغة تلك القواعد، حتى ولو بشكل غير مكتوب حينها، لحظة وفاة الرسول (ص) وذلك حينما تنازع الأنصار والمهاجرون في أمر خلافته حتى قضي الأمر بإحتجاج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة بحديث "الناس تبع لقريش"، حيث حسم الخلاف السياسي بتوظيف النص الديني بعد تجريده من مدلولاته وإخراجه من سياقه.

    لم يحتج المعارضون، في عراكهم مع الآخرين المستندين على النص، على أن الأصل في الإسلام هو المساواة بإعتبار تصريح النص القرآني: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، أو أن النص لا يقصد به قبيلة بعينها وإتما جاء في إطار الإشارة للعصبة ذات البأس إلخ. من هنا، من هذه اللحظة الفارقة التي إنقطعت فيها الصلة المباشرة مع السماء، نبع مبدأي "لا إجتهاد مع النص" و "العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب".

    إكتمل بناء القواعد المشار إليها في الثلاثة قرون التي اعقبت الرسالة تقريباً، حيث بنيت وفقاً للحيثيات التى توفرت في تلك اللحظة الزمنية من التاريخ تاسيساًً على مستوى التطور الفكري والحضاري، والقدرات المعرفية المتاحة في ذلك الزمن، إضافة للخصائص المتعلقة بالقوى ذات السيادة المنحدرة من اصول بدوية رعوية، تلك التي القت بظلالها بشكل واضح على المنتجات الفكرية لذلك الزمان.

    لقد تم إضفاء قدسية كاملة على تلك القواعد، على الرغم من أنها منتوج بشري، بشكل أعطاها مشروعية ظلت تحكم وتحاكم بها المجتمع المسلم حتى الآن. لقد أطاحت قواعد "العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوصية السبب" و" لاإجتهاد مع النص" و"المعلوم من الدين بالضرورة" بقدرة المسلمين في النظر للنص الديني في إطاره التاريخي الذي يضفي عليه الحيوية ويمكنه من التواؤم السلس مع مستجدات التطور البشري خاصة في جانب النصوص المرتبطة بالمعاملات.

    إن تلك القواعد التي فرضها الفقه التقليدي لا تتعارض مع جوهر الدين نفسه، بل حتى مع نصوصه.
    فالقرآن طلب بوضوح إعمال الفكر عند العمل بنصوصه حيث قال: "والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً" ، و "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" .

    الغريب أن أولئك المتمسكون بتلك القواعد يخالفونها بكل جرأة وبدون إعتذار عندما يحتاجون لذلك لرفع الحرج عن أمر ما، وبدون منح الآخرين نفس هذا الحق. فإذا كانت الحجة هي العمل بالنصوص دون التمعن في أسباب وملابسات ورودها، فلماذا لا ينهى السلفيون الناس عن إستعمال الأدوية ويأمرونهم بالتداوي بالحجامة والرقية والحبة السوداء بإعتبار أن هناك نصوص صريحة تنادي بذلك، ولماذا يقبلون بتوقيع أولياء الأمر في دولهم على مواثيق دولية تحرم الرق الذي أحله الله ؟

    أنظر بالله في التحنيط الذي فرضه الفقه التقليدي على النص الديني لدرجة أعمت الناس عن إستيعاب مغزى ما توصل إليه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وبكل ما يحمله له الوجدان المسلم من معاني التقوى والتجرد والعدل وإنفتاح العقل والقوة في الدفاع عن الحق، عندما "إجتهد مع النص" وعطله صراحة عندما دعت الحاجة لذلك على الرغم من قرب زمانه ومكانه من زمان ومكان الدعوة نفسها . كم نص ياترى تحتاج للتعطيل، أو فالنقل لإعادة التفسير، بعد أربعة عشر قرناً من الزمان؟!! ألم يتجاوز عمر آليات الإجماع والقياس وأتى بآليات جديدة يرفضها الفقه التقليدي، ضمناً، كالمصلحة والحكمة والعقل والوسع والعدل؟!! لماذا يمتنع المسلمون عمداً عن الإقتداء بعمر ويغلقون عقولهم أمام هذه الهبة الربانية المجانية لمصلحة آراء بشر مثلهم ؟!!

    ب) النظرة المتعسفة للحديث النبوي:

    لقد ذهب الفقه التقليدي إلى جعل السنة، وهي قول الرسول (ص) وفعله وإقراره، في موقع مساو للقرآن الكريم، تقريباً، من حيث كونها منبعاً مؤسساً للأحكام. لقد إحتوت كتب الحديث على عدد كبير من النصوص التي فرض الفقه السلفي التقليدي على المسلمين قبولها بدون مناقشة، وهي نصوص تؤسس لأحكام كثيرة تقيد قدرة المسلمين على التقدم الإجتماعي والإصلاح السياسي، خاصة وأنها جردت من سياقها التاريخي. كمثال على ما نقول نورد الأحاديث التالية التي وردت في الصحاح : "من بدل دينه فأقتلوه"، "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة"، " لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"، "إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابا المصورون" إلخ.

    من المعلوم أن الرسول (ص) منع تدوين أحاديثه بحياته وفقاً لما جاء بالحديث المروي عن أبي سعيد الخدري: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" . في إعتقادنا أن سبب هذا المنع إنما كان بسبب خوفه (ص) من أن تعامل آراءه الشخصية وعمله في خاصة نفسه بإعتبارها مقدسات، وتأخذ بالتالي صفة الأبدية والخلود التي يجب أن لا تتوفر إلا للنصوص الخاصة بالعقيدة، حيث ما عدا ذلك يدخل في إطار المتغير والمتحول وفقاً لسنن الكون، سواءاً كان ذلك على مستوى الطبيعة المادية، أو المجتمع، أو النفس البشرية.

    إذا كان الرسول (ص) قد أراد لسنته التدوين والفهم على النحو الذي أفاد به اللاحقون فلماذا لم يأمر صراحة بذلك، وهو أمر سهل جداً، خاصة وأن الأمر في غاية الخطورة والحساسية ويمس في الصميم مصادر التشريع للمسلمين. أن البخاري نفسه، ومعلوم أنه أصح مدوني الحديث عند السنة، يروي حديث أبو هريرة الذي يقول : "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" فكيف يستقيم عقلاً أن يصرح الراوي الرئيسي للحديث النبوي بإخفائه جزأً هاماً من الحديث إذا كان الحديث فعلاً يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام والتشريع؟

    إنه على الرغم من وضوح حديث المنع، ومن وضوح الدليل العقلي الذي لايرى منطقاً في أن يكون ماجمع من حديث الرسول (ص) مساوياً في المرجعية للقرآن الكريم، وعلى الرغم من عدم وجاهة الرأي القائل بأن سبب المنع كان بسبب خوفه (ص) من إختلاط السنة بالقرآن حيث أنه كان من الممكن والمتاح في ذلك الزمان تخصيص كتبة للحديث مختلفين عن كتبة الوحي. على الرغم من كل ذلك، فلقد فندنا في دراسة لنا عن حجية الحديث آراء أولئك الذين جعلوا السنة النبوية مكملاً للقرآن وليست شارحة له . ولفائدة المتابعة نوجز حججنا في تلك الدراسة في النقاط التالية، علماً بأن مانورده هنا له دلائله من مصادر ثلاثة، القرآن، الأحاديث الصحيحة، العقل والمنطق :

    • أشارت عشرات الآيات القرآنية إلى أن القرآن هو كتاب المسلمين، وبالتالي مصدر دينهم وأساس أحكامهم بغيرذكر لمصدر آخر.
    • الرسول (ص) بشر وبالتالي له آراءه وأفعاله التي تتم وفقاً لبشريته هذه، ولا يمكن أخذها كتشريع، حيث أنها ليست جزءاً من الوحي، كما أن الأخذ بها أو تركها ليس من الدين.
    • الرسول (ص) قائد سياسي وحاكم لدولة، وبالتالي له أفعاله وآراؤه المبنية على هذه الحقيقة، وبالتأكيد تعتبر هذه الأفعال والآراء نسبية الطابع لتأثرها بعنصري الزمان والمكان، ولطابعها البشري في النهاية.
    • هناك أحاديث نسبت للرسول (ص) يمكن أن يشتم منها، بعد عنت شديد، أنه سمح بتدوين حديثه. قمنا بتفنيدها واحدا واحداً في ورقتنا المشار إليها أعلاه. بل أثبتنا، ومن صحيح البخاري نفسه، أنه ليس هنالك كتاب للمسلمين غير القرآن : " عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟ قال لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت فما في هذه الصحيفة ؟ قال العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر".
    • هنالك آيات قرآنية تأمر بطاعة الله ورسوله تم تفسيرها بإعتبارها تؤكد أن سنته (ص) لها نفس حجية القرآن "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وقد أثبتنا أن الطاعة المعنية إنما هي في الجوانب السياسية، بدليل إشتمال الآيات على طاعة أولى الأمر.
    • عدل الرسول (ص) عن بعض آرائه نزولاً عند آراء صحابته، مما ينفي أن يكون أن كل ما حدث به (ص) كان مكملاً للوحي، حيث لا يستقيم عقلاً أو ديناً أن يحاجج أحد الرسول (ص) في قول مصدره السماء، وهو ما يبينه الحديث التالي بكل جلاء : "عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إياكم والجلوس في الطرقات). فقالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال (فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا وما حق الطريق ؟ قال (غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)" .
    • هنالك الكثير من الأحاديث الواردة بصحيح البخاري، وهو أصح كتب الحديث عند أهل السنة، لا يمكن القبول بها عقلاً، وتصطدم بحقائق العلم، وبالتالي لا يمكن لنا أن نقول أنها إلهية المنشأ. وكأمثلة لذلك : "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس (أتدري أين تذهب). قلت الله ورسوله أعلم قال (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها.."، " لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان أو الشيطان" إلخ من الأمثلة والنماذج.

    3) إختلالات الوجدان :

    تتسم الشخصية المسلمة، بغض النظر عن الإختلاف المذهبي، أو الموقع الطبقي، أو المنحدر القومي، أو الإنتماء الجغرافي، بوجود وجدان مشترك ذو خصائص عامة متشابهة ومتماثلة، تتجاوز كل تلك الإختلافات وتقفز فوق الحدود الفاصلة بينها. لقد تم تشكيل هذا الوجدان، والذي نعني به مزيج المشاعر والعواطف الذي يتحكم في نشاط وتصرفات الفرد ويؤثر في تحديد أهدافه الحياتية، عبر قرون طويلة تحت تأثير سلطة بالغة السطوة، وطاغية القوة والتأثير، وهي سلطة التقليد، والتي نعني بها تلك السلطة المعنوية التي تشير لسيطرة منهج وفقه وفكر القرون الأولى التي أعقبت الرسالة المحمدية على كامل طريقة تفكير المجتمع المسلم في العصور اللاحقة.

    لا جدال في أن كل الأديان تقريباً تحتوي بشكل أو آخر على مجموعة كبيرة من التعاليم منها ما يتعلق بالعقيدة ومنها مايرتبط بالسلوك، منها ما يتوجه للفرد في ذاته ومنها ما يستهدف المجتمع في مجموعه، منها ما يركز على الكليات ومنها ما يتناول الجزئيات. لكن يظل الوجدان هو ذلك الساحر الذي له الدور الخطير في التأثير على الإنسان في تلك المسيرة الأزلية الأبدية نحو معرفة الحقيقة وإدراك كنه الكون والسيطرة عليه، والذي يترجم تلك التعاليم لسلوك شخصي وجمعي متفرد الخواص.

    ما يميز الوجدان المسلم القناعة المطلقة بأن الدين الإسلامي يحتوي على إجابة شافية لكل جانب من جوانب الحياة، مهما صغرت، والميل للإعتقاد بأن تعاليمه تحتوي على منظومة فكرية جاهزة ومكتملة لدرجة التدخل في صغائر الاشياء كطول الجلباب وشكل اللحية واستخدام المرحاض، وبالتالي يتم النظر لكل الأمور الحياتية بمنظور الدين مما يؤدي في نهاية الأمر لوسم كل شئ بديباجة الحلال أو الحرام، الإيمان أو الكفر، مما أدى لآثار ونتائج مختلفة عن تلك التي أفرزتها الأديان الأخرى. إنه، ورغم التشابه في بعض أوجه التأثير بين الأديان، إلا أن ما يميز الوجدان المسلم هو عمق هذا التأثير بدرجة عالية للغاية ترتب عليها في نهاية الأمر إغلاق المنافذ أمام المؤثرات الخارجية لتلعب دورها في التفاعل الإيجابي والتأثير المتبادل.

    يميز هذا الوجدان أيضاً الدرجة العالية من الثبات والصمود في وجه التغيير والرفض للجديد حتى إذا تم الوصول لهذا الجديد بإستخدام نفس المؤثرات القديمة التي تم بها صياغة هذا الوجدان نفسه !!. الأمثلة كثبرة سواءاً إستدعينا الماضي، أم تمعنا في الحاضر. فليس بعيداً الضيق والتبرم العالي الذي أبداه التيار الغالب من المسلمين لإجتهادات أحد اعمدة السلفية، وهو الدكتور الترابي، التي صاغها بإستخدام نفس الأدوات، وبالإغتراف من نفس المنابع، عندما جوز زواج الكتابي من المسلمة أو عندما أضعف من حديث "الذبابة" أمام حقائق العلم المعاصر. لم يشفع له لا تاريخه العريق، ولا موقعه الفكري الرفيع، ولا سطوته السياسية الهائلة، عندما كان في أعلى قمم السلطة، من تجنب حملات التكفير التي ألصقت به مثلما ألصقت بخصومه العلمانيين. نفس المثال ينطبق على الدكتور عزت عطية الذي لم تحمه مؤهلاته الدينية الرفيعة بدليل رئاسته لقسم الحديث بأهم جامعة إسلامية إطلاقاً، وهي الأزهر، عندما لفت إنتباه الناس للحديث الصحيح المرتبط بإرضاع الكبير ، في اطار سعيه لإيجاد حل ملائم وينسجم مع صحيح الدين في نظره، لمعضلة الإختلاط بين المرأة والرجل التي فرضها العصر. هجموا عليه هجمة وحش واحد، واضطروه قهراً لسحب آرائه بشكل مذل، فقط لأنها غير مستساغة رغم إستناده على نفس المراجع والنصوص والمناهج التي يستخدمونها.

    4) الدور السالب لرجال الدين :

    كان لابد للتلازم الكامل بين الدين والدنيا ذلك الذي أشرنا لبواعثه في مكان سابق من هذه الدراسة، أن يؤدي لميلاد فئة "العلماء" والفقهاء حيث أن إعتبار النص الديني مصدراً وحيداً للمعرفة في عالم متغير زمانياً ومكانياً، جعل من المحتم ظهور هذه الفئة لتقوم بالإجابة على الأسئلة الملحة التي لا توجد لها إجابات جاهزة. كل ذلك على الرغم من عدم وجود نص من القرآن أو السنة يعطي بعض الناس إمتيازاً خاصاً في معرفة الدين أو حقاً في الإفتاء، بل أن الخطاب القرآني، شكلاً ومضموناً، موجه للفرد مباشرة، كما أن جوهر التكليف الديني قائم على مسئولية الفرد عن أعماله وعليه وحده تحمل نتيجة قراراته يوم الحساب حيث لن يشفع له عالم أو فقيه .

    لقد تحول دور هذه الفئة بمرور الوقت من شراح لتعاليم الدين إلى مصدر من مصادره، رغم إنكارها لذلك نسبة لإدانة الإسلام بوضوح للوسطاء في الأديان السماوية الأخرى ، بل أن إنتاجها إكتسب صفة القداسة عبر تثبيت آليتي القياس والإجماع، اللتين تعتبران فعلاً بشرياً محضاً، كمصدر رئيسي للتشريع وتوليد الأحكام. لقد بلغت سيطرة هذه الفئة على قلوب المسلمين وعقولهم حداً مفرطاً لدرجة تحول قطاع منهم كالشيخ الشعراوي أو القرضاوي، في العصر الحديث، لقادة كونيين تشرئب إليهم قلوب وعقول ملايين المسلمين، ومن ضمنهم، وياللأسى، علماء حقيقيون في مجالات العلم الطبيعي والإنساني، بدون أن يتجاوز رأسمال هؤلاء القادة غير الإمساك بناصية اللغة العربية وذرابة اللسان وترديد مقولات فقهاء القرن الثالث الهجري .

    الطريف أن هذه الفئة وفي كل أدبياتها تهاجم الدعوة لفصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي والمنادين بها بإعتبار أن هذه الدعوة وليدة المجتمع الأوروبي الذي إكتوى بنار الكهنوت الذي أعاق تطوره حتى ثار عليه، وأن هذا الأمر غير موجود بالإسلام وأن الإسلام لا يعرف الكهانة أصلاً لاعلى مستوى الدين ولا على مستوى التاريخ!! نوع من الإنكار الذي لابد من أن يشير إلى وجود أزمة جوهرية في مكان ما !!

    أذُن بروز هذه الفئة بتحول الدين لمهنة للإرتزاق من خلال تولي مهام الدعوة والإفتاء والقضاء في المجتمع الإسلامي، وشيئاً فشيئاً إكتسبت مشروعية لا يمكن زحزحتها عنها بدون إجراء تحولات عميقة على مستوى الفكر والمجتمع.

    لن تستطيع هذه الفئة الحياة بدون الحفاظ على دورها كوسيط لا يمكن تجاوزه في المعرفة الدينية، والذي لن يتحقق لها بدون سلب الفرد المسلم من حقه في فهم الدين بنفسه عبر إستخدام عقله وحواسه التي أعطاها له الله، وتحويل هذا الحق لها لتفكر نيابة عن الجميع وتجاوب هي على أسئلتهم بما يتفق مع تصوراتها وقدراتها ومصالحها. لذا تلجأ هذه الفئة بشكل مدروس جيداً لإذكاء الخوف وإشاعة الهواجس العارمة لدى المسلمين بأن هناك مؤامرة مطبوخة وخطراً ماثلاً يتطلب، بشكل إيحائي، إلتفاف المسلمين حولها للدفاع عن أنفسهم والذود عن دينهم.

    ساهم وجود هذه الفئة في تكريس حالة التديين الواسعة لجوانب الحياة المختلفة على حساب نشر المعرفة العلمية الكفيلة بإنتشال الشعوب الإسلامية ووضعها في مدارات موازية لتلك التي إرتقى إليها العالم المتمدن، فبحكم الأفق المحدود المتاح أمامها فليس لها ما تضيفه سوى معرفة دينية أيضاً. كما لابد من الإشارة أيضاً إلى أن مبرر وجود هذه الفئة يعتمد على تحويل الدين إلى مهنة، مما يقتضي معه توسيع مظلته ليتعامل مع كل مناحي الحياة حتى مستوى التفاصيل، وهو ما تعمل هذه الفئة لأجله بكل قوة حماية لمصالحها الإجتماعية والإقتصادية حتى برز أخيراً مشروعها الجديد في الطب الإسلامي والتداوي بالقران بعد إنتهائها من مهمتها الجليلة في إرساء أسس الإقتصاد الإسلامي!!.

    لقد لعب قطاع من هذه الفئة دوراً هاماً في بعض مراحل تطور الدولة العربية/الإسلامية كالحفاظ على روح الإنتماء، ورفع ألوية الإصلاح السياسي الإجتماعي، إلا أن الإتجاه الحاسم ظل هو تيار النكوص والتخلف والإرتماء في أحضان الماضي، حيث اصبحت القضية المركزية بالنسبة لهذه الفئة الحفاظ على إرتباطها بالفقه التقليدي الذي يوفر لها الحماية ومصادر الرزق.

    الحل – فصل الآيديولوجيا عن الدين وتأسيس فقه جديد :
    لقد تم إستخدام الدين كغطاء آيديولوجي من قبل كل القوى الإجتماعية المتصارعة منذ نشؤ الدولة الإسلامية، حيث كانت الغلبة بشكل عام لأكثر التيارات رجعية. إن فصل الدين الإسلامي عن الآيديولوجيا، غض النظر عن القوى التي تخدمها تلك الآيديولوجيا، شرط ضروري لتطور وإزدهار المجتمعات الإسلامية. بذلك يعود الدين لوضعه الطبيعي كمستودع للقيم، أكثر منه منبعاً للفكر السياسي والإجتماعي، وبالتالي يضحى الصراع الإجتماعي والسياسي والفكري قائماً وفق معايير بشرية تحتمل الرفض والقبول، الخطأ والصواب.
    من المعلوم بداهة أن الدين الإسلامي يحتوي بالإضافة للموجهات الخاصة بأمور العبادة ومقاييس الأخلاق، على طائفة واسعة من الأوامر والنواهي في مجال المعاملات التي يرى المسلمون وجوب العمل بها وتضمينها في القوانين التي تحكم حياتهم بشكل أو آخر. أننا نرى، أنه وبتثوير الفقه والخروج به من النمطية التي سادت طيلة الحقب الماضية، يستطيع المسلمون تضمين قيم دينهم في مختلف جوانب حياتهم بدون أن يتعارض ذلك مع القيم العامة التي بلغتها الإنسانية اليوم.
    إن تثوير الفقه المنشود يستدعي ويشترط وضع مناهج وقواعد فقهية جديدة تتيح تحقيق التوازن المطلوب بين مقتضيات الدين القائمة على القبول والتسليم، ومتطلبات الدنيا المستندة على إعلاء شأن العقل والإرتقاء بميزة الخلق والإبتكار التي منحها الله لأعظم مخلوقاته. يتطلب تحقيق هذا التوازن تغيير جوهري في الكثير من الثوابت والمرتكزات الفكرية، مما سيؤدي لا محالة إلى صدام فكري عنيف مع قوى واسعة ستفقد مبررات وجودها في حالة خسارتها للمعركة. لذا كان لزاماً على من يتصدى لواجب التغيير أن يتدثر بجسارة العقل، وأن يتسلح بفؤاد من حديد. إننا ندعو لإستخدام المحاور و المنافذ التالية لتشكيل وتأسيس فقه بديل في منطلقاته وفي آلياته، يسمح بتكييف أوضاع المسلمين بشكل يسمح لهم بالتصالح مع العصر، والتفاعل الإيجابي مع الحياة، والإسهام مع بقية شعوب الأرض في إعمارها وتقدمها وترقيتها:

    1) التركيز على الغايات والأهداف والمقاصد الكلية وإستنباط الأحكام من المنظومة القيمية وليس النصية، وذلك من أجل إكساب التشريع الحيوية والقدرة على الإستجابة لمتطلبات الواقع الدائم التطور والتغير. إن قيمة الحرية الإنسانية التي أكدها الإسلام بشكل مباشر أحياناً وبشكل غير مباشر أحياناً أخرى في الكتاب الأساسي، القرآن الكريم، تتنافى – كمثال- مع النص القائل "من بدل دينه فأقتلوه". عليه تصبح قيمة حرية المعتقد والضمير المشار إليها في القرآن الكريم، هي المرجعية وليس النص اللاحق.

    2) فتح باب الإجتهاد على مصراعيه لكل من يمتلك الحجة والقدرة على الدفاع عن قناعاته بشرط التمسك بالقيم الأخلاقية والسلوكية العامة المتعارف عليها، هذا بالإضافة إلى تنويع المواعين والمنابر التي يتم من خلالها الإجتهاد. إن إمتلاك ناصية اللغة العربية ومعرفة تراث السلف وما وضعوه من قواعد يعتبر أفضلية وليس شرطاً لممارسة الإجتهاد. بل نمضي أبعد من ذلك حيث نرى أن الإلمام بمعارف العصر في العلم التطبيقي والإنساني تسبق أهمية الإلمام بعلوم اللغة والدين التي وضع قواعدها القدماء.

    3) الإقرار بأن الإجتهاد فعل بشري بكل معنى الكلمة وأنه ليس هناك قدسية لرأي بشر، سابقاً أم لاحقاً، مهما كانت مكانته، حيث أن الشرط الرئيسي لقبول الرأي هو مدى توافقه مع مصلحة البشر ومقاصد الدين وإنسجامه مع العقل. كما لابد من الإقرار كذلك بأن القواعد التي تحكم الإجتهاد هي أيضاً من صنع البشر حيث يمكن الإضافة لها أو إعادة تشكيلها وفقاً لتطور الأحوال وإختلاف الظروف و العقول. إن الإجتهاد المبتغى يتجاوز الثوابت والسقوف الأعلى والخطوط الحمراء التي يخطها بعض البشر لتضمن الثبات والديمومة لأفكارهم هم. إنه وحتى القاعدة التي وضعها القدماء بأن لا إجتهاد مع النص، قاصرة عن التعبير عن مقاصد وغايات الدين ويمكن تجاوزها، حيث أن النص تفهمه وتفسره العقول ولا يفسر نفسه بنفسه. ألم يدرك عمر بن الخطاب حقيقة أن تطبيق النص رهين بوجود العلة وأن تحديد وجود العلة أو إنتفائها إنما يحددها العقل والمصلحة وذلك عندما عطل حد السرقة في عام الرمادة وعندما أبطل حق المؤلفة قلوبهم الثابت بنص الآية ؟. لماذا إذن نحرم أنفسنا من حق أتاحته لنا السماء وأثبتته التجربة ؟

    4) تقف آليات الإجتهاد التي إتفق عليها القدماء، وأهمها القياس والإجماع، حجر عثرة أمام تطور الفقه والفكر الإسلامي ولا بد من اللجؤ لآليات أخرى ربما من أهمها ما لخصه لنا السيد الصادق المهدي : أ) المقاصد، ب) الحكمة، ج) المصلحة، د) العقل، هـ) العدل، و) السياسة الشرعية، و ي) المعرفة، ويمكن إضافة مجموعة أخرى من ضمنها درجة وسع المجتمع ومستوى تطوره التاريخي .

    يتطلب الأمر أيضاً إعادة النظر في موضوع عمومية النص و خصوصية السبب بالنسبة لإستنباط الأحكام من النص الديني بما يساعد في إدراك مقاصد الدين التي لا يمكن أن تبرز وتفهم إلا من خلال دراسة علاقة النص بالواقع.

    إن اللجؤ لهذه الآليات والمبادئ، إضافة لكونه يحقق مقتضى الدين والدنيا، يجعل الصراع بين الآراء المختلفة والقوى المتنافسة صحياً، ويدور في إطار بشري محض. فالمصلحة، كمثال، مفهوم إنساني يختلف الناس في كيفية تحققه وتقع وجهة نظر كل متجادل فيه في مكان ما بين الخطأ والصواب وليس بين الحلال والحرام. إن مبدأ الضرورات تبيح المحظورات يؤصل لآلية المصلحة التي عمل الفقه التقليدي جاهداً لتضييقها كما يؤشر لأصلها في الدين و نريد من الفقه الجديد توكيدها وتوسيع نطاقها لتصبح بحق "أينما توجد مصلحة لأمة فثم شرع لله". إن مصطلح "الضرورات" لا ينبغي إختزال تعريفه في ما يرتبط بإبقاء حياة الفرد أو الجماعة فقط كما يفهمه الفقه التقليدي بل يجب أن يتمدد ليشمل كل ما يحقق رفاهية الإنسان نفسه بإعتباره أسمى مخلوقات الله. فتحقيق الإزدهار الإجتماعي والنماء الإقتصادي والرفاه المادي كلها ضرورات لا غنىً عنها للمجتمع المسلم إذا أريد له البقاء والريادة. لقد قدم الرسول (ص) نموذجاً باهراً على ذلك حين أباح بيع السلم على الرغم من سيادة المبدأ التشريعي بتحريم بيع ما ليس بموجود وبيع ماليس عند البائع.

    في واقع الأمر، قبل الفقه التقليدي، لكن على إستحياء وبحذر شديد وفي نطاق محدود وبدون إعلان، توسيع قاعدة الضرورات ليدخل في نطاقها رؤى مستحدثة تنصب في تحقيق مصلحة المجتمع المسلم، كضرورة الإنصياع للقوانين والأعراف والمعاهدات الدولية. حيث تجلى ذلك كمثال أول في نبذ مجتمع المسلمين، وبقبول من الفقه التقليدي، لممارسات كانت مقبولة ومحللة سابقاً وتوجد لها إشارات قوية في سنة الرسول (ص) كالغزو ومستتبعاته من سبي للنساء وغنم للممتلكات على الرغم من وجود النص الصريح الواضح الذي يمنع تحريم ماهو حلال : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" . وكمثال ثان في قبول التعامل بالفائدة المصرفية عند الإقتراض من المؤسسات والمصارف الدولية لتمويل المشاريع التنموية كمشروعي سد مروي ومصنع سكر النيل الأبيض بالسودان . بل أن تجربة حزب العدالة الحاكم في تركيا الآن تشكل تجربة غير مسبوقة وجديرة بالدراسة بإعتبارها أول تجربة في التاريخ الإسلامي القديم أو الحديث تقدم فيها جماعة إسلامية على تأسيس مجمل برنامجها إستناداً على فهم أوسع لمعنى الضرورات، حيث أدركت بجرأة ضرورة الإندماج في المجتمع المتقدم إن أرادت تحقيق مستوى عال من الرفاهية والتطور الإجتماعي والسياسي لشعبها.

    5) إعادة النظر في منهج إستنباط الأحكام من السنة النبوية الشريفة، وهو أمر يحتاج لاجتهاد كثيف خاصة وأنه يمس جانب في غاية الحساسية يتعلق بحجية الكثير من نصوص الحديث. وكما أشرنا من قبل، فالرسول (ص) منع في حياته تدوين أحاديثه وهو ماأدى لتدوينها بعد ما يقارب المائتي عام مما أدى لتضارب الروايات بحكم النسيان وتعدد النقًال من ناحية والى احتمال زج كثير من الأحاديث خدمة لأهداف بعض الرواة من الناحية الأخرى. فلا يعقل مثلا ان يوصي الرسول (ص) بجعل أمر الحكم في قريش "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم إثنان" والمبدأ الإسلامي الأصيل والمؤكد في رسم العلاقة بين الناس يتأسس على المساواة، ويقوم على التكافؤ، وينبذ العصبية بجميع أشكالها سواءاً كانت قبلية أو عنصرية أو طبقية. كما لا يعقل أن يصرح الرسول (ص) بأن الميت يعذب ببكاء أهله، بينما المبدأ المعروف دينياً وعقلياً يقوم على المسئولية الفردية في العقاب والثواب بناءاً على أفعال الفرد نفسه وليس أفعال الآخرين.

    إن الإجتهاد الكثيف المطلوب يجب أن يستهدف وضع معايير وأسس للفرز بين ماهو راي شخصي للرسول (ص) بنى على واقع أنه بشر عاش في حيز زماني ومكاني محدد، وبالتالي تأثر شكل ومحتوى ما قاله وما فعله وما أقره بمستوى المعرفة الإنسانية لذلك الحيز، وما بين ماهو تشريع إستند على صفته كرسول عليه إبلاغ ما أوحي به إليه.

    إن لهذا الفرز المطلوب أساس في السنة نفسها، وهو قوله (ص) : "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر" . إن وضع معايير لفرز ماهو رأي مما هو دين ليس بالأمر الهين، بل هو مجال صراع واسع حيث ستتعدد فيه إتجاهات التفكير، إلا اننا نعتقد أن أحد المعايير الأساسية لتصنيف ماهو حكم وتشريع، أي ماهو سماوي، هو تطابق أو إتفاق نص الحديث مع مضمون نص قرآني أو أن يكون امتداداً و شارحاً له أو أن الحديث يتعلق بأمر العقيدة أو العبادة، حيث تدل الشواهد بما لا يدع مجالاً للشك أنه ليس كل ما جاء بالحديث يمكن إعتباره مصدراً للتشريع أو مرجعاً للأحكام أوحتى نموذجاً قابلاً للإقتداء الشخصي .

    أننا نعتقد أن هذا الفرز ضروري للغاية حيث أنه وكنتيجة لعدمه أضاع المسلمون فرصة الريادة في ضروب الحياة المختلفة كما يضيع قطاع من أذكياء المسلمين حالياً فرصاً أخرى ووقتاًَ ثميناًَ في ما لا يفيد في تقدمهم كتأسيس ما يطلق عليه الطب النبوي، كمثال، إستناداً على أحاديث مثل : "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا من السام" أو يتجادلون ويكفر بعضهم بعضاً في حجية حديث الذبابة مثلاً. كما يفيد هذا الفرز في إزالة التعارض بين ما جاء ببعض الحديث وحقائق العالم المعاصر وثوابته بدون اللجؤ للتبرير والتلفيق وإنطاق النص بما ليس فيه، مثل محاولة الدكتور محمد عمارة الإيحاء بأن تركيز الاحاديث النبوية على تحريم اتخاذ الصور والتماثيل إنما كان مرهوناً ومشروطاً بكون هذه الصور والتماثيل مظنة للعبادة والإشراك بالله، وأن هذه الأحاديث كانت تعالج شئون جماعة بشرية هي قريبة العهد بالشرك والوثنية . لا إعتراض لدينا، بالطبع، على محاولة الكاتب إلا أننا نأخذ عليها أنها جاءت في سياق البحث عن مخرج لإزالة الحرج أكثر منها تطبيقاً لمنهج ثابت في النظر للنص الديني يستهدف خلق إنسجام كامل بين الدين والحياة.

    لتحقيق متطلبات التغيير وتحقيقها على أرض الواقع، لا بد من حشد جهد كل القوى المناصرة للإستنارة، والتي زادت قوة ومنعة من الناحيتين الكمية والنوعية في خلال العقدين المنصرمين، في شكل تحالفات يتمثل هدفها المركزي وهمها الأساسي في تخليص العقل المسلم من إسار السلفية، وإعلاء قيم الحداثة وحقوق الإنسان المتعارف عليها عالمياً. للنجاح في مهمتها المقدسة هذه، لا بد لهذه القوى من أن تتحول لحركة فكرية واسعة النطاق متغلغلة في كافة مفاصل المجتمع واضعة نصب أعينها الحقائق الآتية:

    1) العمل من أجل سيادة حرية الضمير وحرية الفكر والضغط على السلطات لإلجام دعوات التكفير المجانية. سيساعد ذلك في تهيئة الأرضية السليمة لمنازلة القوى السلفية والإنتصار عليها.

    2) في غياب الإمكانية للاستفادة من قنوات الإتصال الدينية المؤثرة كمنابر المساجد ومؤسسات التعليم الديني في الوقت الحالي أو المستقبل القريب، توفر الوسائط المستحدثة كالقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، إذا أحسن إستغلالها، بالإضافة للصحافة التقليدية فرصة جيدة لقوى التنوير للوصول للفئات المستهدفة.

    3) إستهداف الرموز الحاليين للسلفية وتعرية أفكارهم ونفض القداسة المحيطة بهم وذلك عبر كشف التناقض بين رؤيتهم السلفية للدين وحقائق العصر من جهة، وتناقض تلك الرؤية مع مقاصد الدين من جهة ثانية، وعدم إتساقها مع العقل الذي حباه الله للناس من جهة ثالثة.

    4) الضغط من أجل بث الفكر والمعرفة العلمية لتشكل القاعدة الأساسية في المقررات المدرسية بكل مستوياتها، وإستبدال المنهج التلقيني الحالي في العملية الدراسية بالمنهج التحليلي الذي ينمي القدرة على الإبداع والإبتكار والتجديد.

    5) الإستفادة الفعالة من الوضع الحالي المناوئ للإسلام السلفي في أنحاء متعددة ومتنوعة من العالم بما في ذلك بعض الأنظمة العربية المحافظة التي تضررت من المنحى الإرهابي للتيارالسلفي، والذي نشأ بتأثير أحداث 11 سبتمبر2001 في الولايات المتحدة والأحداث الشبيهة اللاحقة في الغرب و الشرق.

    (عدل بواسطة Sabri Elshareef on 02-11-2012, 10:49 PM)

                  

02-11-2012, 04:27 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)
                  

02-11-2012, 04:29 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)

    الدولة عدد السكان – تقديرات 2008 (مليون نسمة) الناتج القومي الإجمالي GDP لعام 2005 (بليون دولار) عدد براءات الإختراع المسجلة في الفترة 1963 – 2007 عدد الجامعات المدرجة في قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم لعام 2005
    الولايات المتحدة الأمريكية 303.8 12,970 2,460,775 168
    أسبانيا 40.5 1,100 5,852 9
    الدنمارك 5.5 257 9,948 5
    هولندا 16.6 598 36,817 12
    سنغافورة 4.6 120 3,698 2
    اسرائيل 7.1 129 15,641 7
    إيران 65.9 187 73 0
    مجموع الدول العربية 342.0 920 768 0

    لنترك المؤشرات تتحدث:

    • الناتج القومي لكل الدول العربية أقل من الناتج القومي لأسبانيا، التي تعتبر في الصف الثاني من دول المقدمة في أوروبا، رغماً عن أن عدد سكان الدول العربية أكبر ثمانية مرات من عدد سكان أسبانيا ومساحة الدول العربية الإجمالية (12,750,000 كيلومتر مربع تقريباً) أكبر بحوالي خمسة وعشرون مرة عن مساحة أسبانيا، ورغماً عن مصادره الطبيعية الهائلة كإحتوائه على أضخم مخزون نفطي في العالم ووجود أفضل موارد سياحية على مستوى العالم كالآثار والشواطئ والمزارات الدينية إلخ. من الجدير بالملاحظة أن القسم الأكبر من الناتج القومي للدول العربية لم ينتج كحصيلة للجهد الذهني والبدني الشاق، أو البناء التنظيمي المقتدر، أو التخطيط الإستراتيجي السليم، حيث يتمثل في العوائد البترولية التي لايتطلب الإستفادة منها أكثر من التعاقد، وفق صيغ تعامل وتعاقد معلومة في عالم الأعمال، مع جهات اجنبية تمتلك التقنية المطلوبة والمعرفة الفنية اللازمة.

    • يساوي إسهام كل الدول العربية وإيران (بمجموع سكان 407 مليون نسمة تقريباً) أقل من 6% من إسهام إسرائيل (7.1 مليون نسمة) في براءات الإختراع المسجلة وأقل من 3% من إسهام هولندا (16.6 مليون نسمة).

    • لم تدخل جامعة واحدة من كل الدول العربية وإيران (بعدد سكان أكبر من 400 مليون نسمة) في سجل أفضل 500 جامعة في العالم بينما أدخلت إسرائيل (بعدد سكان 7 مليون نسمة) 7 جامعات وهولندا (12 مليون نسمة) 12 جامعة.

    الفقرة التالية مقتطفة من مقال ورد بمجلة نيوزويك – عدد 30/10/2007 بعنوان "متى يتقدم العرب؟" ويعبر ماجاء فيه بوضوح عن تزايد حجم الفجوة التي تفصل عالمنا العربي والإسلامي عن بقية العالم المتقدم : "في مطلع ستينيات القرن الماضي، كانت مصر وهي أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان تصدّر السلع المصنعة بمعدل التصدير نفسه للفرد الواحد الذي تشهده كوريا الجنوبية وتايوان. والآن تصدران في ثلاثة أيام أكثر مما تصدر مصر في سنة، والفلبين تصدر 10 أضعاف السلع المصنعة التي تصدرها مصر، وقد ارتفع معدل صادراتها السنة الماضية بنسبة تفوق مجمل الصادرات المصرية. ومن ثم هناك تايلند، التي تصدر وحدها سلعا مصنعة أكثر من كل دول العالم العربي، بالرغم من أن عدد سكانها هو ربع عدد سكان العالم العربي ... الفلبين وحدها تنفق على التكنولوجيا الأجنبية أكثر مما تنفق البلدان العربية مجتمعة".

    بما أن الظروف الإقتصادية أو السياسية، كما أوضحنا، ليست هي المفسر لهذا النمو المتعاظم للإسلام السلفي، ولا يؤدي تحسنها إلى كبح جماحه، كما أن المجتمع المسلم يتميز بالفشل في الآداء في النواحي الحياتية الأخرى، بشكل لا يمكن عزوه للإختلالات السياسية والإجتماعية، بمعنى آخر فإن الفرضيات التي بنى عليها الفكر السياسي الإجتماعي الغربي، في مجراه العام، تقييمه لأزمة المجتمع المسلم قد أوصلتنا لنتائج غير حقيقية، فأين تكمن الإجابة إذاً؟ دعونا نرى ما يقوله المسلمون السلفيون أنفسهم عن أسباب الضعف في آداء مجتمعاتهم قبل الولوج في رؤيتنا التي نعتقد أنها الأنسب لتفسير الأزمة والأقرب للإمساك بمفاتيح الحل.

    تفسير المسلمون لأسباب ضعفهم – وجهة النظر السلفية:

    نسبة لجملة من الأسباب التي سنبينها لاحقاً في هذه الورقة، يجنح العقل المسلم لتبسيط القضايا وإستسهال الإجابة على الأسئلة الصعبة. عليه لن يخرج العقل الإسلامي السلفي، غالباً، عن ثلاثة أسباب نمطية يراها مسئولة عن نشؤ الوضع أعلاه نختصرها في التالي:

    الاول: بعد المسلمون عن دينهم. والمقصود هنا أن المسلمون لا يطبقون تعاليم دينهم بالشكل المطلوب سواءاً من ناحية الإلتزام بالجوانب التعبدية والتمسك بالقيم والآداب، أو من زاوية تنفيذ التعاليم المرتبطة بالمعاملات. وهي إجابة لا تضع أي معايير يمكن من خلالها قياس البعد أو القرب عن الدين حتى يمكن التحقق من صحة هذا التفسير بشكل منهجي. كما لاتوضح هذه الإجابة لماذا، إذاً، تطور أولئك الذين لايدينون من الأساس بدين الإسلام بل أن بعضهم لايدين بأي دين. الطريف أن التجربة تثبت العكس، فحيثما إقترب المسلمون من تطبيق النموذج السلفي، الذي يرونه صحيحاً، مثل تطبيق الحدود وفرض الحجاب على المرأة وامتلاء المساجد بالمصلين وإكتظاظ كليات الكهانة بالطلاب واجهزة الاعلام بالشيوخ، كلما إتسعت الفجوة التي تفصلهم عن الآخرين، وكلما زادوا بعداً عن الإسهام في التقدم الحضاري للعالم، وكلما زاد تطفلهم واعتمادهم على انجازات الغير، وكلما زادت غلبة الآخرين عليهم.

    الثاني: كيد اليهود و مؤامراتهم المتصلة ضد الإسلام والمسلمين. نتج هذا الإعتقاد من القناعة الراسخة بأن عداء اليهود للإسلام ذو طابع أزلي، وأن لليهود باع طويل في التآمر، ومهارات إستثنائية ووسائل غير محدودة في تحقيق مآربهم، ترقى لمستوى الأسطورة. على كل حال، فإن إتهامهم بالتسبب في حالة التخلف والوهن الضاربة الجذور في المجتمعات الإسلامية يعوزه الإثبات والدليل ويفتقر لوسائل التحقق. وفوق ذلك فهو تفسير أقرب للعذر الأقبح من الذنب، ودليل إدانة للنفس قبل الخصم، حيث أن هذا الإعتقاد يطرح سؤالاً محرجاً يحتاج لإجابة جازمة : كيف تقبل أمة يهديها كتاب إكتملت عبره رسالة السماء للأرض، أمة ملأت بيارقها، يوماً ما، مشارق الأرض ومغاربها، كيف لأمة مثل هذه أن يتغلب عليها شعب صغير للغاية عانى عبر تاريخه كله تقريباً، ومن قبل نشؤ الدولة العربية والإسلامية، وحتى وقت قريب جداً من حالة إضطهاد وضعف وشتات لدرجة أنكرت فيها حتى آدميتهم من قبل بعض الشعوب كما هو الحال في ألمانيا ما قبل الحرب الكونية الثانية؟

    إن الإعتماد على آية "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" في تبرير هذا النزوع التجريمي لليهود، فقط لأنهم يهود، لا يتفق مع المنطق السليم، ولا مع جوهر الدين نفسه. فالواقع يقول أن المشركين الذي كانوا في درجة واحدة مع اليهود من ناحية عداوتهم للمسلمين، كما جاء بالآية السابقة، دخلوا أفواجاً في الإسلام بعد أن آذوا الرسول (ص) كثيراً، كما أثبت الواقع أيضاً أن هذا الخلاف مع اليهود إنما كان خلافاً حول السيادة وأنتهى بالإنتصار النهائي للإسلام في جزيرة العرب. ودليلنا على أن العداء لليهود ليس قائماً على أساس الديانة، أن الإسلام أباح الزواج منهم، كما تؤكد الروايات أن الرسول (ص) إنتقل للرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير رهنها قوتا لأهله، مما يؤكد إمكانية التعايش المشترك وأن الأمر لا يقوم على العداء على الهوية، كما أن هذا العداء لايمكن أن يكون سرمدياً.

    الثالث: الإستعمار. وهي إجابة أسطح من رفيقاتها ولا توضح لنا أصلاً لماذا كانت الأمة الإسلامية من البداية من الضعف حتى تكالب عليها الإستعمار، كما لا تفسر تلك الإجابة السهلة إرتقاء معظم الأمم الأخرى التي نالت إستقلالها في سلم التطور الإجتماعي والإقتصادي والعلمي، على الرغم من تعرضها لإستغلال أبشع من الذي تعرضت له الأقطار الإسلامية، وعلى الرغم من فقدانها لمقومات أساسية لتسريع التقدم الإقتصادي والإجتماعي تذخر المنطقة العربية بفائض منها. وحتى لا نبعد كثيراً عن أمثلتنا الساطعة أعلاه، لماذا تحقق دولة مثل سنغافورة نالت إستقلالها من نفس الإستعمار الإنجليزي في نفس الوقت الذي ناله السودان ناتجاً إجمالياً يعادل 120 مليار دولار خلال عام 2005 مقارنة بـ 23 مليار دولار للسودان لنفس العام رغم إفتقارسنغافورة تقريباً لأي مورد يذكر، وتمتع السودان تقريباً بكل مورد مطلوب؟ أين يمكننا البحث عن إجابة لهذه المفارقة؟

    لب المشكلة - بدائية وجمود العقل المسلم:

    كانت المنطقة العربية الحالية وإيران (مع وجود بعض الإستثناءات القليلة) تمثل المهد لحضارات العالم القديم تقريباً (الفرعونية، الآشورية، الحميرية، الفارسية إلخ)، يشهد على ذلك آثارها التي لا يزال بعضها يشكل مصدر حيرة للعلم المعاصر كأهرامات مصر. لقد شهدت بعض تلك الحضارات إرساء بدايات التفكير العلمي والعقلاني، بشكل أثمر نزوعاً قوياً لإنتاج معرفة متحررة عن الخرافة، يتميز العقل فيها بالموضوعية التي تدفعه للبحث في كنه الأشياء بإستقلالية عالية عن المؤئرات الثقافية الموروثة، المرتبطة بالأسطورة عادة.

    لقد كان من المفترض منطقياً أن يؤدي إمتزاج شعوب هذه المنطقة، بكل هذا التاريخ العريق، بالفاتحين الجدد القادمين من الصحراء بما يحملونه من فكرة جديدة وملهمة، هي الإسلام، إلى أن تعيد المنطقة إنتاج نفسها من جديد وتعود لصدارة العالم القديم بجدارة. إلا أن الحصيلة، ومهما أطنبنا في مدح الدولة الأموية والعباسية وما أعقبها من كيانات غلب عليها تأثير العقل والرؤية البدوية، ومهما تحدثنا عن الظلام الذي كان يغرق أوروبا حينها، لا ترق إنجازات الدولة العربية الإسلامية لمستوى التوقعات المبتغاة من عملية الإنصهار. بل أن هناك من الشواهد ما يؤكد بأن قدراَ مؤثراً من إسهام المنطقة في المعرفة الانسانية العامة، على الرغم من محدوديته، يعود لعناصر من غير ذوي الأصول العربية إستطاعت النجاة من أثر العقلية البدوية المسيطرة (الرازي، الخوارزمي، ابن سينا، الخيام، الفارابي، سيبويه، إلخ) . بل أننا نذهب أكثر من ذلك حيث نعتقد بأن العقلية البدوية للفاتحين الجدد مسئولة عن الإحباط التام لتطور المنطقة وريادتها للعالم التي كان من الممكن أن تتم بإعتبار ما ورثته من أساس حضاري متمدد منذ القدم.

    صحيح أنه وفي فترات محددة سابقة في التاريخ الإسلامي، نعتبرها استثناءاً لايصح القياس عليه، تصدر المسلمون العالم في الإنجاز العلمي والمعرفي إلا أن حجم الإنتاج ونوعيته لا يتناسب ودرجة تمدد المسلمون في الزمان والمكان، كما أن هذا الإنتاح العلمي لم يتخط المستوى العام للمعارف السائدة في زمنه، ولم يثمر أسس ومفاهيم جديدة ومغايرة تهز الثوابت ويمكن أن تضعه في تحد وصراع مع السلطة السائدة والمعايير المسيطرة وقتئذ كما حدث من قبل في أوروبا العصور الوسطى.

    إذاً، ما هي الأسباب التي تفسر لنا هذا الآداء المتدني للدولة العربية الإسلامية سابقاً وحالياًً كما تبينه الأرقام والحقائق التي أوردناها آنفاً؟

    لقد أوضحنا من خلال سردنا لوجهات النظر أعلاه أن السبب الحقيقي والجوهري وراء هذا التخلف لا يكمن في تلك التعليلات الهشة آنفة الذكر، التي يتزرع بها الإسلام السلفي، والتي لاتصمد لأي منطق كما بينا. كما أن الإجابة في تقديرنا لا تكمن في تخلف البنى الإجتماعية والإقتصادية، أو هشاشة البنية السياسية وغياب الديمقراطية، كما تنزع الأغلبية العظمى من المنظرين اللبراليين، حيث نرى تلك العوامل بإعتبارها نتاج أزمة أكثر من أنها سبباً لها. ربما يساعدنا البحث في هذه الجوانب في توضيح بعض القضايا، لكن الإجابة الصحيحة تكمن في نطاق آخر في رأينا. لسبب بسيط وهو أن ملامح الأزمة موجودة في كل العالم الإسلامي بشكل يكاد يكون متطابقاً، رغم الإختلاف الشاسع والتباين الكبير بين مختلف مكونات هذا العالم لو نظرنا إليه من خلال مناظير الإقتصاد والسياسة والإجتماع. إذاَ هناك عاملاً رئيساً يبدو أنه القاسم المشترك والذي من خلال الإمساك به وإخضاعه للتحليل يكون متاحاً تفسير كل هذا، وهذا العامل هو العقل الجمعي المسلم .

    (عدل بواسطة Sabri Elshareef on 02-12-2012, 00:37 AM)

                  

02-11-2012, 04:33 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)

    Quote: إن إتعدام الديمقراطية كما تعتقد الغالبية العظمى من الباحثين والمحللين والساسة، لا يفسر أسباب نشؤ الفكر السلفي في دول تتمتع بدرجة عالية من وجود الحريات السياسية كالكويت و بين الجاليات المسلمة الكبيرة بدول أوروبا الغربية كبريطانيا وفرنسا مثلاً، كما أن عزو ذلك لواقع التخلف الإقتصادي الذي أفرزه الإستعمار والبنية الإقتصادية العالمية القائمة على اللاتكافؤ في موازين النمو، وما أدى إليه ذلك من ضيق فرص التعليم والعمل، لا يمكنه تفسير قوة التيار السلفي بالسعودية وقطر مثلاً. وهكذا.
    إذا
                  

02-11-2012, 04:42 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)
                  

02-11-2012, 08:45 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)

    التعديل لوضع الدراسة كاملة اعلاه حتي يسهل للقارئ والقارئة المتابعة

    (عدل بواسطة Sabri Elshareef on 02-11-2012, 11:19 PM)

                  

02-11-2012, 08:48 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)

    عدلت الكتابة هنا لوضع الدراسة كاملة

    (عدل بواسطة Sabri Elshareef on 02-11-2012, 10:56 PM)

                  

02-11-2012, 09:05 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أزمة العقل المسلم ...دراسة للصديق عربي (Re: Sabri Elshareef)

    نيوزويك 30/12/2003.


    سورة المائدة – آية 82


    إن إتعدام الديمقراطية كما تعتقد الغالبية العظمى من الباحثين والمحللين والساسة، لا يفسر أسباب نشؤ الفكر السلفي في دول تتمتع بدرجة عالية من وجود الحريات السياسية كالكويت و بين الجاليات المسلمة الكبيرة بدول أوروبا الغربية كبريطانيا وفرنسا مثلاً، كما أن عزو ذلك لواقع التخلف الإقتصادي الذي أفرزه الإستعمار والبنية الإقتصادية العالمية القائمة على اللاتكافؤ في موازين النمو، وما أدى إليه ذلك من ضيق فرص التعليم والعمل، لا يمكنه تفسير قوة التيار السلفي بالسعودية وقطر مثلاً. وهكذا.



    إذا كان النص الديني مصدراً لحقيقة علمية، كيف لنا أن نقتنع بأن الشمس عندما تغرب فإنها تسجد تحت العرش، أو أن الشمس تطلع من بين قرني شيطان إلخ وغيرها وغيرها من الأحاديث التي تحتويها الصحاح و كتب الحديث. لقد صرح القرآن بوضوح بأن الله لو أراد حمل الناس على الإيمان به بهذا الأسلوب السهل لفعل : "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين"، الشعراء – 4. كما هكذا وصف القرآن الرسول (ص) حين طلب اليه المشركون الا تيان بالمعجزات : "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرآ سويآ"





    كمثال على ذلك الكم الكبير من المقالات والخطب – بعض كاتبيها ينتمي للنخب السياسية والفكرية - التي راجت قبل وأثناء الحرب على العراق عامي 1990 و2003 وتلك التى إندلعت في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث تنبأت تلك المقالات والخطب بهزيمة الولايات المتحدة بدون أي إعتبار للفارق الهائل – كمياً ونوعياً – في توازن القوى العسكري والسياسي.
    لقد صرح القرآن بوضوح بأن الله لو أراد حمل الناس على الإيمان به بهذا الأسلوب السهل لفعل : "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين"، الشعراء – 4. كما هكذا وصف القرآن الرسول (ص) حين طلب اليه المشركون الاتيان بالمعجزات : "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرآ سويآ"
    صحيح البخاري





    الفتوى المشار إليها صدرت عن الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وتداولتها أجهزة الإعلام بمختلف أنواعها منتصف 2007، وتتلخص في جواز إرضاع الموظفة لزميلها بالعمل رفعاً للحرج الناشيئ الذي فرضته ظروف العمل والذي يحتم إختلاط الجنسين
    كمثال على ذلك فتوى المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بجواز تزويج بنت العاشرة. راجع موقع العربية على الإنترنت بتاريخ 14 يناير 2009.
    في رده على فتوى أحد أبرز دعاة السلفية بالمغرب ورئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، الشيخ محمد بن عبدالرحمن المغراوي، والداعية للترخيص بزواج الصغيرة، أكد المجلس العلمي الأعلى بالمملكة المغربية في بيانه الصادر يوم 20-9-2008 على أن فتوى إباحة البنت الصغيرة ذات التسعة أعوام استدل بها المغراوي بتقديراته الخاصة كما وندد المجلس ب "استعمال الدين في مثل هذه الآراء الشاذة المنكرة" !!.







    لا يتسع المجال هنا لحصر التجليات المختلفة لهذه الثنائية إلا أننا نذكر على سبيل المثال وجود نصين قرآنيين يتناولان بشكل مختلف كيفية نشر الدين أحدهما :"أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، والآخر :"فإذا انتهت الأشهر الحرم فأقتلوا المشركين ..". كما نشير أيضآ، على سبيل المثال، إلى وجود طائفة من النصوص يستدل بها الفرقاء المختلفين في صراعهم حول مسألة الجبر والإختيار حيث يستدل القائلون بالجبر- من ضمن ما يستدلون - بالآية "وماتشاءون إلا أن يشاء الله " بينما يستدل القائلون بالإختيار بالآية "إنا هديناه السبيل فإما شاكراً وإما كفوراً".
    سورة التوبة، آية 60.





    مثال على ذلك ما سطره الصحفي والسياسي الإسلامي السوداني المرحوم محمد طه في تعليقه على كارثة الزلزال التي ضربت تركيا قبل عدة سنوات وإعتباره لها نتاجاً لطرد النائبة الإسلامية المحجبة مروة قاوجي من البرلمان: "وهكذا طردت مروة قاوجي وسلط الله الزلازل على تركيا لأن شعبها المسلم عجز عن حماية أخلاق إمرأة" .. "ولما أصبح الأتراك غير مؤهلين لعمارة الأرض روحيآ سلط الله عليهم الزلازل والبراكين" صحيفة الوفاق السودانية بتاريخ 8/2/1999.



    سورة الفرقان – آية 73
    سورة الجمعة – آية 2
    من المعلوم أن عمر بن الخطاب عطل العمل بحد السرقة في عام الرمادة، وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم الثابت بنص الآية 60 من سورة التوبة" إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم". كل ذلك وأكثر، حسمه عمر بحيثيات عقلية محضة حيث لم تحتو تلك الآيات كنص على أي أسس تحدد كيفية وميقات تنفيذها.


    صحيح مسلم .
    راجع دراستنا بعنوان "الحديث النبوي كمصدر للأحكام"



    صحيح البخاري


    والحديث أشار إليه صحيح البخاري وأورده صحيح مسلم على الوجه التالي: "عن القاسم عن عائشة أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم فأتت ( تعني ابنة سهيل ) النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ماعقلوا وإنه يدخل علينا وإن أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة فرجعت فقالت إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة". وفي رواية أخرى بصحيح مسلم أيضاً أن "سهلة بنت سهيل جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه قالت وكيف أرضع وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : قد علمت أنه رجل كبير"
    "وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" – سورة الإسراء.



    "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " - سورة الحديد.
    من الدلائل على قوة تأثير هذه الفئة وقدرتها الهائلة على التأثير على المجتمع، ما تناقلته وسائل الإعلام عام 2004 عن بداية تفشي مرض شلل الأطفال بعد أن إقترب العالم من القضاء المطلق عليه، نتيجة لرفض قطاع واسع من مسلمي نيجيريا تحصين أطفالهم باللقاح المضاد إستجابة لفتوى أصدرها مجموعة من علماء الدين بولاية كانو مفادها أن حملات التحصين مخطط أمريكي لإصابة النساء المسلمات بالعقم ( bbcarabic.com 26/8/2004) !!



    ورد رأي السيد الصادق المهدي هذا في ورقة بالغة الأهمية وجديرة بالإحتفاء قدمها في ورشة عمل نظمها قسم الدراسات والبحوث بأمانة المرأة بهيئة شئون الأنصار ونشرت بصحيفة "الصحافة" السودانية بتاريخ 23/7/2004.
    نقصد بالوسع طاقة المجتمع على تنفيذ أمر معين. لقد تعددت الدلالات على إرتباط إصدار الأحكام بقدرة المجتمع على التعامل معها تأسيساً على مبدأ (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) حيث كان التدرج في تحريم الخمر أحد الدلائل الواضحة على الأهمية التي أولاها الإسلام لمسألة الوسع، كما يقف عدم تحريم الإسلام للرق كمثال آخر على ذلك حيث عمل الإسلام على تشجيع تحرير العبيد بدون أن يحرمه حتى لا يؤدي ذلك لإضطراب إجتماعي عظيم.





    المائدة – آية 87
    راجع صحيفة "الرأي العام" بتاريخ 28/6/2005 حيث صادق البرلمان السوداني على إتفاقية قرض بين حكومة السودان والصندوق العربي للإنماء الإقتصادي و الإجتماعي للمساهمة في تمويل مشروع سكر النيل الأبيض عبر قرض بفائدة مصرفية نزولاً على فتوى مستشار رئيس الجمهورية "للتأصيل"، حيث صرح بأن "الضرورات تبيح المحظورات" وأنه "يجوز عند الضرورة إستخدام الممنوع". واضح أن الضرورة هنا لا تتعلق بتفادي خطر داهم وإنما بتحقيق الإزدهار الإقتصادي، وهو أمر محمود بالتأكيد إلا أنه يقودنا لتساؤلات أخرى : لماذا لم يتم إيقاف العمل بتشريعات سبتمبر 1983 "ما يسمى بتطبيق الشريعة الإسلامية" بإعتبار أن فرضها كان سبباً رئيسياً لحصار عالمي للسودان وأن تطبيقها قاد، أو على الأقل فاقم، من حرب ضروس أهلكت الأنفس والموارد وأدت إلى إيقاف عجلة النمو الإقتصادي المنشود لفترة طويلة من الزمان؟ لماذا يتم تسليم مفاتيح معرفة ما هو صالح للمسلمين عن ما هو ضار لهم لفرد أو جماعة كل ما يميزها أنها غلبت الآخرين في مجال السياسة وأصبحت كلمتها هي العليا بحكم هذه الغلبة؟ كيف سيتصرف البرلمان ووزير المالية إذا قام رهط من الناس بإستصدار فتوى مغايرة من جهة أو جهات – وما أكثرها - أرفع مقامآ من ناحية التعليم الديني والإسهام الفقهي عن مستشار "التأصيل"؟




    جاء بصحيح البخاري كمثال، حديث يفيد برفض الرسول (ص) - وهو على المنبر- نكاح علي بن أبي طالب من إبنةً لبني هشام بن المغيرة حيث قال : "فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق إبنتي وينكح إبنتهم فانما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ..". واضح أن ما إعتمل بصدر الرسول (ص) هنا ليس بوحي وإنما مشاعر بشرية محضة لا يمكن أخذها كتشريع يمنع التعدد في الزوجات. أنه و لولا وجود نصوص أخرى في القرآن أو السنة أكثر قوة وتواتراً تبيح التعدد لأفتى العلماء التقليديون الذين يأخذون كل ما جاء بالسنة كتشريع ومصدر للأحكام، لأفتوا بتحريم تعدد الزوجات تأسيسآ على الرفض القاطع الذي عبر عنه الرسول (ص) في هذا الحديث. من الدلائل البديهية أيضاً على وجوب الإعتراف بأهمية النظر في الشروط الزمانية والمكانية التي إنبثقت فيها السنة نفسها سواءاً كان من ناحية القول أو الفعل أو الإقرار، أننا لا يمكن أن نمتثل لسنة الرسول (ص) في كثير من الأمور، كإستعمال الجمال في السفر و التنقل أو اللجؤ للخلاء مثلاً لقضاء الحاجة بديلاً عن ما وفرته لنا الحضارة المعاصرة وذلك إستناداً على الفهم الخاطئ السائد لحديث "عليكم بسنتي ..". ومالنا نذهب بعيداً وحادثة تأبير النخل الشهيرة تقف لوحدها شاهداً على أنه ليس كل ما يصدر عن الرسول (ص) يعتبر مصدراً للأحكام أو مثالآ للإقتداء.
    مصدرنا فيما جاء بكتاب الدكتور محمد عمارة "الإسلام والفنون الجميلة" مقال لفهمي هويدي بعنوان "فض الإشتباك ضروري بين الدين والفن" نشر بمجلة "المجلة" العدد 1294.





    اعلاه المصادر المزيلة تحت الدراسة

    اعتذر لصديقي ان الورقة نزلت هكذا لم ينقص منها حرفا

    لكن لم تنزل المصادر في مكانها الطبيغي
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de