|
شقائق السودان
|
تشرفتُ بالعمل كمعلم بالسودان، وجُبتُ معظم مناطق السودان بالشمال والوسط والشرق. حالفني الحظ حين أتيحت لي الفرصة لزيارة بعض قرى الغرب ولكن لم أتمكن من زيارة الجنوب، فقد ابتلعتني الغربة قبل أن أتمكن من ذلك. في ستينيات القرن المنصرم، سافر الطلاب في المرحلة الابتدائية وجابوا أطراف السودان عبر منهج الجغرافية، وعلى وجه التحديد عبر كتاب( سبل كسب العيش في السودان).
المنهج لعب دورا مقدرا في ربط التلاميذ ببعض مناطق السودان وتسليط الضوء على مهن سكان تلك المناطق. ولكن تلك السياحة لم تعطي القدر الكافي من المعلومات عن المناطق المستهدفة جغرافيا وسكانيا. الغرض هنا من هذه السياحة هو : إضافة اللمسات الجديدة التي لوّنتْ وتلون وجه الحياة في هذه المناطق المذكورة في أبيات الكتاب، أو في المنطقة برمّتِها، وذلك لتعم الفائدة. لنقم بتسليط الضوء على سبل كسب العيش التي أتى بها ذلك المنهج، ومحاولة معرفة ما طرأ من تغيرات في التركيبة السكانية والعمرانية والبيئية وطرق العيش:
قال المؤلفون :
فى القولد التقيت بالصديق أنعم به من فاضل صديق خرجت أمشى معه في الساقية ويا لها من ذكريات باقية فكم أكلت معه الكابيدة وكم سمعت : أور وو ألودا
* * * أختزل المنهج بإيراد إسم القولد كل مناطق الشمال بقبائلها العديدة والمتنوعة، أو بالأخص كل القبائل التي امتهنت مهنة الزراعة باعتماد الساقية آلية لجلب الماء من النيل، و تلك القبائل التي تُزَيِّن ( الكابيدا – القراصة ) موائدهم، ثم أختزل اللغة النوبية في كلمتين وحرف نداء. ولكن كما هو ملاحظ لم يتطرق المنهج إلى أشياء عديدة في تلك المناطق كان من شأنها أن تجعل التلميذ في غرب البلاد يعرف مثلا كيف هي شكل البيوت بهذه المنطقة ومم يبنونها وما هي المحاصيل ومواسمها، ومعلومات كثيرة أخرى تصب في صلب المعرفية الجغرافية والسكانية.
المنطقة بالشمال الممتدة من دار جعل والرباطاب والمناصير والشايقية والبديرية والدناقلة والمحس والسكود والحلفاويين. هذه القبائل لعهد قريب كانت مدينة أتبرا بالنسبة لهم جميعا بوتقة تمازج، ولكن نسبة التزاوج كانت بمقدار ضئيل، فالقبلية كانت تقبض بتلابيب الفكرة رغم ذلك النسيج الاجتماعي الذي نسجته مدينة أتبرا بكل اقتدار حتى بين هذه القبائل وقبائل السودان الأخرى.
قبائل الشمائل في العقدين الأخيرين، استقبلت أفواجا من كل قبائل السودان، فكان أمرا عاديا أن ترى جنوبيا في مدينة (عبري) أو (فوراويا) في (دلقو)، حيث كان هذا الأمر غير وارد في الثمانينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. بمعنى آخر، أن هذه القبائل بتلك المناطق قد تخلّتْ عن (الساقية) كآلة من صنع أيديهم لنقل الماء لمزارعهم واستعاضوا عنها بوابورات الماء التي بدأت في موسقة ليالي القرى على الضفتين بإيقاع ينافس نقيق الضفادع الذي كان محتكِرا ليالي القرى جنبا إلى جنب مع رنات الطنابير يحملها الهواء عبر صفحة النيل الخالد. رغم هذه النقلة النوعية في عملية الزراعة، إلا أن الساقية وتوابعها من ( إورتي وكولي وأسكلي وألودا)، لا تزال في أذهان الأجيال القديمة والوسيطة، وشيئا أشبه بالأساطير في مخيلة الأجيال الجديدة. أما الكابيدا ( القراصة ) رغم انتشارها في معظم أمصار السودان وقراه، إلا أنها في الشمال الأقصى لا تزال تشكل حجر الرحى في المائدة جنبا إلى جنب مع (الكسرة)، مع ملاحظة أن الأفران التي تعمل بالأخشاب قد غزت بعض القرى بعد غزوها للمدن وأشباهها. جاور عرب الكبابيش والقراريش والعبابدة سكان منطقة النوبة. وأمتهنوا الزراعة والرعى والتجارة منتشرين من ( حوض السليم ) شرق دنقلا وحتى تخوم أراضي الحجر وحلفا القديمة. ثم من قبائل شتى تأتي في موسم (حش التمر) ببضائع يقايضونها تمرا وعجوة. من الأشياء التي يقف عندها المرء طويلا هو نتاج هذا التعايش، تعايش العرب مع النوبيين، فقد أختلط حابل العربية بالنوبية وكان النتاج لهجة هجينة طفت على سطح المنطقة النوبية وتغلغلتْ بين مستعمليها وسامعيها. فعلى سبيل المثال يقول أحد المستعربين : فلان قاعد يَجَكِّن الجريد فكلمة ( يجكن ) عبارة عن كلمة نوبية هي ( جَك) ثم أدخل الرجل قبلها ياءا في أولها ونونا في آخرها للتأكيد. وهلم حرفنة. كل قبيلة من قبائل الشمال لها عاداتها وتقاليدها الموغلة في القدم ولا يمكن أن تُلقي كلمة ( الكابيد وأوري وو ألودا ) أي ضوء على هذه المنطقة المترعة بالتاريخ والأحداث والشخصيات والعادات والتقاليد. لذا فإننا هنا بصدد إيراد كل ما طرأ في هذه المنطقة : سكانيا وإقتصاديا وفي مجال التعليم وتداعيات السدود - السد العالي وسد مروي ) والتطور العمراني إلخ ... لتكتمل الصورة تماما في سبل كسب العيش بمفهوم عصري وبمنظور حديث.
فلنبدأ بمدينة وادي حلفا ونتجه جنوبا : منطقة منطقة ، قرية قرية ، مدينة مدينة
(يُستَتبَع في جغرافية المنطقة وبقية المناطق)
|
|
|
|
|
|