|
|
 مقابر السيد مصصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل د. مكي مدني الطاهر الشبلي ,
|
الرأي العام , يناير 2012
بمناسبة الإحتفال بمرور 127 عاماً على تأسيس حي السيد المكي بأمدرمان:
مقابر البكري:
السكن البرزخي لسكان حي السيد المكي ورموز الأستقلال
د. مكي مدني الطاهر الشبلي
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (100) المؤمنون.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} الزمر(68).
تمثل المرحلة البرزخية مرحلة من المراحل التي يمر بها الوجود الإنساني بعد الموت، ولا توجد وسيلة لمعرفة أسرارها إلا من خلال ما أنزله الله تعالى في كتابه العزيز كما ورد في سورتي المؤمنون والزمر. وتمتد المرحلة الزمنية التي يقضيها الميت في البرزخ من لحظة الوفاة حتى يوم البعث حيث تنتهي عند النفخ في الصور للمرة الثانية. والأحاديث الشريفة على غرار هذه الآيات المباركة من الذكر الحكيم تؤكد على أن " البرزخ " هو الوقت الفاصل بين حياة الإنسان في عالم الدنيا و بين نشأته في عالم الآخرة، أي من وقت موته إلى حين بعثه في يوم القيامة .
وكما هو معلوم، فإن هابيل بن آدم كان أول إنسان يموت على الأرض ويدخل الحياة البرزخية، حيث قتله أخاه قابيل. ونظراً لأن دفن الموتى لم يكن معروفاً للبشر في ذلك الوقت، فقد حمل قابيل جثة شقيقه وأخذ يحدق في يديه الملطختين بالدم، وراح يمشي بها. ثم رأى غراباً حياً بجانب جثة غراب ميت. فرأى الغراب الحي وقد وضع الغراب الغراب الميت على الأرض وساوى أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الأرض بمنقاره ووضعه برفق في أول قبر في الكون وأخذ يهيل عليه التراب حتى دفنه تحت الثرى. بعدها طار في الجو وهو يصرخ. فحزن قابيل على عجزه حتى عن معرفه ما يفعل بجثمان أخيه، حيث كان هذا الغراب أفضل منه. فقام قابيل وحفر قبراً لأخيه ودفنه كما فعل الغراب . وهكذا تعلمت البشرية كيفية دفن الموتى وأحترام قدسية الميت من هذا الغراب الذي أصبح أول معلم للبشرية في الكرة الأرضية . قال تعالى:
{فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } المائدة31.
ومنذ ذلك التاريخ، عرفت البشرية دفن الموتى وتواترت أساليب وطقوس الدفن إلى أن جاء الإسلام الذي حرص على كرامة الإنسان الميت مثل حرصه على كرامة الإنسان الحي. وأصدر نبينا المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم الأحكام والتشريعات التي تنظّم الدفن في القبور، ووضع له واجبات، وسنناً، وجعله من حق الأموات على الأحياء. وقد مارس الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم الإشراف على تطبيق هذه الأحكام بنفسه في مقبرة البقيع التي تمثل المقبرة الرئيسة لأهل المدينة المنورة، وتبلغ مساحتها الحالية مائة وثمانين ألف متر مربع. ويضم البقيع رفات الآلاف المؤلفة من أهل المدينة، وفي مقدمتهم الصحابة الكرام. ويروى أن عشرة آلاف صحابي جليل دفنوا في البقيع. وعلى رأس هؤلاء ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين، وأمهات المؤمنين زوجات النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم، عدا خديجة وميمونة. كما دفن في البقيع أيضاً إبنته فاطمة الزهراء، وإبنه إبراهيم، وعمه العباس، وعمته صفية، وزوجته عائشة بنت أبي بكر الصديق. ومما يجدر ذكره أن البقيع كان حتى عهد قريب يعج بالأضرحة والقباب بموافقة، وأحياناً بأمر، كبار علماء المسلمين من الصحابة والتابعين. وقد تلقى جميع المسلمين بكل حفاوة وترحاب هذه الظاهرة الشرعية لا في المدينتين المقدستين وأطرافها فحسب، بل في سائر بلاد الإسلام كالهند بما فيها الباكستان وبنغلادش، وكذا العراق وإيران ومصر وسوريا وإندونيسيا وغيرها.
وكما كان البقيع هو المرقد البرزخي للصحابة عليهم رضوان الله، أصبحت مقابر البكري هي المرقد البرزخي لأهل حي السيد المكي، بل ولعظماء السودانيين الذين اختارهم الله إلى جواره. فعندما توفي السيد مصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل الولي في عام 1889 (وهو الشقيق الأصغر للسيد المكي)، سمع الخليفة عبدالله صوت البكاء والصياح الذي كان ممنوعاً في فترة المهدية. ولكن بعد أن علم بأن المتوفى هو السيد مصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل الولي لم يعترض وقال (جاز على مثله البكاء)، ثم حضر ومعه ألفان من رجالات الأنصار لتعزية السيد المكي، وأمر بدفن السيد البكري بمقبرة أم درمان والتي سميت بإسمه (مقابر السيد البكري). وتقع مقابر البكري في أقصى الجزء الشمالي الغربي من مدينة أمدرمان القديمة حيث تحيط بها أحياء المسالمة والعمدة وحي العرب. وتمثل مقابر البكري المقبرة الأولى في مدينة أم درمان العريقة، تليها مقابر حمد النيل، ثم مقابر أحمد شرفي.
ضريح الشيخ مصطفى البكري بن الشيخ إسماعيل الولي بمقابر البكري بأمدرمان
ومنذ ذلك الحين، ظلت مقابر البكري تمثل مرقداً برزخياًً لسكان حي السيد المكي. وكما كان حي السيد المكي يمثل قلب أم درمان والسودان النابض في الحياة السياسية والعلمية والرياضية والفنية في الحياة الدنيا، ظلت مقابر البكري تستقبل نفراً كريماً من أنبل أبناء الوطن الذين رحلوا عن هذه الدنيا، وتمثل لهم سكناً برزخياً إلى يوم يبعثون. ففي الجانب الأسري للسادة الإسماعيلية، دفن في هذه المقابر عدد كبير من أحفاد وأسباط الشيخ إسماعيل الولي وأقرباؤهم وأصهارهم. كما شُيّع فيها الراحلون من سكان حي السيد المكي وأحياء أم درمان القديمة الأخرى، وأذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، حي العرب، وحي العمدة، والمسالمة، وبيت المال، وأبو روف، والركابية، والملازمين، والعرضة، والموردة. كما دُفن فيها العديد من ساكني مدن وأرياف السودان الأخرى.
فعلى صعيد السياسيين الذين ساهموا في صناعة التاريخ الناصع للوطن يرقد في هذه المقابر، على سبيل المثال لا الحصر، الزعيم إسماعيل الأزهري، والرئيس عبد الله خليل، والرئيس محمد أحمد محجوب، والرئيس سر الختم الخليفة، والدرديري محمد عثمان، وأحمد محمد صالح، وعبد الفتاح المغربي، وإبراهيم المفتي، ومبارك زروق، وحسن عوض الله، وخضر حمد، ويحيى الفضلي، ومحمد صالح الشنقيطي، وأحمد عبد الوهاب، وأحمد رضا فريد، وإبراهيم ألياس، وأمين الشبلي، وفتحي أحمد علي الأردب. وشهداء اللواء الأبيض.
أما بالنسبة لأهل العلم والتعليم والقضاء فقد آوت مقابر البكري الشيخ الطاهر الشبلي، والشيخ أبوبكر المليك، ومصطفى الكتيابي، وأحمد بشير العبادي، وكامل الباقر، ويوسف الأحمدي، وعبد الله عبد الماجد، والطيب شبيكة، وحسن صديق عيسى، ومحمد حسين، وصديق فريد، عثمان الطيب، ومحمد ميرغني مبروك، ويحيى أبو القاسم.
ومن رجال الأعمال والتجارة يذكر على سبيل المثال، عبد المنعم محمد، وعبد السلام أبو العلا، ومحمد أحمد البرير، وسعد أبو العلا، ومأمون البرير، ويحيى الكوارتي، وعبد الحميد المهدي، ومدني أبشر، وصالح العبيد، وأحمد العبيد.
وبالنسبة للأدباء والفنانين، فقد توسد ثرى مقابر البكري الروائي العالمي الطيب صالح، والتيجاني يوسف بشير، والتيجاني عامر، وأحمد يوسف هاشم، ومحمد بشير فوراوي، والفنان التاج مصطفى، والفنان إبراهيم عوض، والشاعر عبد الرحمن الريح، والشاعر سيد عبد العزيز، والشاعر عبيد عبد الرحمن، والبكباشي نور، ومحمد عثمان ياسين.
ومما يجدر ذكره أن الأميرأحمد شرفي (ابن عم الإمام محمد أحمد المهدي)، الذي تحمل إسمه مقابر أحمد شرفي الشهيرة في أمدرمان، لم يدفن في مقابر أحمد شرفي، بل دفن في مقابر البكري عندما توفي في عام 1911، أي بعد 22 عاماً من وفاة السيد مصطفي البكري. وقد ورد أن سبب تسمية مقابر أحمد شرفي بهذا الإسم أن قطعة الأرض التي شكلت نواة لهذه المقابر كانت ملكاً للأمير أحمد شرفي، حيث أوصى بتحويلها لمقابر للمسلمين بعد مماته، وبالتالي فإن سبب تسمية المقابربهذا الإسم، وفق المادة المنشورة على الشبكة العنكبوتية، هو ملكية الأرض، وليس دفنه فيها، ممايقف شاهداً على إحسان هذا الرجل وفضله، جعل الله له ذلك الصنيع في ميزان حسناته.
وخير ختام لهذا المقال حول مقابر البكري بعض المقاطع من البراق الذي ظل يردده السادة الإسماعيلية عبر الأجيال في هذه المقابر التاريخية عند تشييع موتاهم.
فقد قال الشيخ إسماعيل الولي رضي الله عنه في كتابه حدائق المشتاق:
أقول أنا إسمـاعيل بالحمد أبـدأ مقالي في مدح الرسول وأنشئوا
له كل وصف بالثنــاء أنبؤا كما هو أزكى العالمين وأسنئوا
رسـول من الرحمـن قد جاء ينبئ
أتيتك آنسني بقـبري وجد بمـا تراه يجير المستجير الذي إحتما
وضاعف لي البشرى وقل لي تحوز ما تشاء ويوم الحر تروى من الظمأ
بكأس دهـاقٍ شربة بعد شربتي
وفي يوم بعثـي يا شفيعـي تولني وأدخلـني تحـت اللواء ونجني
وعـل مقـاماتي جميعـا وحفـني برؤية رب الكـائنات وبـربي
بما لم يجده الغير يـا من هو الغوث
فهـذا أنـا إسمـاعيل قولي ختمتـه ببـث معـاذيري فقـل لي قبلته
وعيبي يا مـولاي قـل لي ستـرته وذنبـك يـا عبـدي فـإني غفرته
لأني مهما أقض يقضي به المولا
فـإني يا مـولاي صـاحب عـلة أتيـتك بالآثـام مـن كـل قبلة
لأني ذو عجـب كثـير وسمعـةٍ وكـل ريـاء غصـت فـيه بهمةٍ
فلست بمعصوم ولم أحسن الفعلا
محمـد المكـي إبــني وأحمـد أخـوه فكـل منهمـا كان ينشد
لذاتـك مدحـاً بالمحبـة يشـهد ونـال مقـاماً بالمقـامات يحـمد
تولاهما عند الممات وفي المحيا
أنل عبدك البكري خيراً مضـاعفاً ومطـلق أولادي كـن ملاطـفا
وكافة أزواجـي أعطهـن وظائفا لأنـك تؤوى كل من كان خائفا
صلاتي وتسليمي على ذاتك العلــيا
وقال السيد المكي بن الشيخ إسماعيل الولي رضي الله عنه في كتابه البرق الساطع:
تؤانسني في القـبر يا صـاحب الطور وتجـعل لي فيـه قنـاديل مـن نور
فـإني أتيـت بالمعـاصي وبـالزور فـأنت إعتمـادي يوم ينفخ في الصور
فقل لي أيا المكي تنجو من الشمس
وتدخـل في تحـت اللـواء معظمـا وتشـرب من حوضـي وتنجو من الظما
وفي الجنـة العليـا تصـير مكرمـا تشـاهـد رب العـالمـين لتعظـما
فهذا هو المقصود يا صاحب الإنس
يا أكرم من سئل ويا أوسع من جاد بالعطايا، ارحم جميع موتانا في مقابر البكري وفي كافة مقابر المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، واغفر لهم واجعلهم من المقربين، ونقهم من خطاياهم كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بينهم وبين خطاياهم كما باعدت بين المشرق والمغرب.
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
د. مكي الشبلي
|
|
 
|
|
|
|
Husamuddine Ismail
مدثر صديق
أبو ساندرا
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست