القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 10:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-16-2012, 03:18 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي

    Quote:
    تأملات عابر سبيل

    القاهرة ... الثورة التي نصرت الجياع

    1

    مابالي أعود أليها بعد سبعة عشرا ربيعا ........ القاهرة تلك المدينة الساحرة التي تبرجت نماء و تطورا و أذدهارا . كان آخر عهدي بها في ذلك الشهر الأليم الذي تبع محاولة أغتيال رئيسها ( المخلوع قسرا) بأثيوبيا في يوليو من عام 1995م ، فذقنا من ويلات شعبها ونعراته عبر بوابة السياسة وتخطيط الساسة مختلف صنوف الذم والقذف والهجاء و الجفاء !!!؟ لقد خلفت فيني ساعتها الكره على فؤادي جواثم لا تزالا ولا توارى ، فصرت بأرضها لا أطيق مكوثا أو قرارا أو سلاما ، فأثرنا الهجر معها سنينا عددا وقد كان !!؟
    ومع هذا فقد كانت القاهرة تتبرج بجهد و غيرة أبناءها عاما بعد عام في كل مناحي الحياة نماء و تطورا و أذدهارا !!!؟ . تقدمت في بنياتها التحتية ، و أنتشرت وأرتقت بأعلامها المرئي والمقروء و المسموع ، وأخذت تسابق الدول العظمى في مختلف ضروب الثقافة و الرياضة و العلوم ، حتى أكتملت هذه الصورة الزاهية أخيرا بثورة ( 25يناير) أو ثورة ( ميدان التحرير ) الميمونة و التي منحت لشعبها عزة الحياة و كرامة العيش تحت ظل الحريات الكاملة و الديمقراطية الحقيقية و العدل و حكم القانون الذي يتساوى فيه القوي و الضعيف - الحاكم و المحكوم وذلك لعمري ماكان ينقصها منذ أمد بعيد !!!؟
    هأنذا أعود أليها اليوم مجددا بعد طول غياب مخلفا ورائي تلك الذكريات السياسية البغيضة بعقل مفتوح و بنفس صوفي مسالم و روح أخاء و روابط دم أمتدت بين الشعبين عبر القرون ، وفي خاطري أبيات شعر موافقة لمافي الفؤاد والشعور أخذنا نرددها ......... : -

    ألام الخلف بينكما ألاما ........... وهذه الضجة الكبرى علاما

    وفيما يكيد بعضكم لبعض .......... وتبدون العداوة والخصاما

    وأين الفوز؟ لا مصرأستقرت ............على حال ولا السودان داما

    تراميتم فقال الناس قوم ................الى الخذلان أمرهم ترامى

    وكانت مصر أول ماأصبتم .........فلم تحص الجراح ولا الكلاما

    فمازالت تختلط لدي صور الماضي بتوقعات الحاضر أثناء أتكائتي وغفوتي على متن الطائرة المتجهة نحو القاهرة ، فأحببت أن أؤجل التفكير في ذلك وأستكنت نائما مفضلا تقديم الأنتظار و ألتزام الصمت و التأمل و أدامة النظر عند الوصول لفهم وأستيعاب التجديد الذي حل بالمدينة و الجديد الذي حل بأنسانها !!!؟
    كانت البداية في مساء يوم الخميس ، هي القاهرة تتلألأ أمام ناظري بحيوية المارة و كثافة حركة المرور و جمال أنارتها التي تسر الزائرين ، وكأني بها تريد أن تجاري عاصمة الموضة والجمال مدينة النور باريس !!؟ لاضير في ذلك فهي كانت يوما مصدا للحملة الفرنسية و لقائدها المحنك الشهير نابليون بونابرت سدا منيعا فأسمعته صوتها المعارض سرارا و جهارا !!!!؟

    الجميع هنا يستشعر روح الآمان بعد زوال القبضة الأمنية القاسية التي كانت مسلطة على الشعب من قبل نظام مبارك البائد ، سبحن الله مغير الأحوال من حال الى حال حتى سائقي سيارات الأجرة صاروا اليوم يحللون الراهن السياسي و يحاورونك في مستقبل مصر وخياراتها في شكل و نوع الحكم ! ماأبهى و ماأجمل الديمقراطية وماأنضر ثمراتها التي أعزت مواطن مصر البسيط اليوم وحملته بكل كلياته ليقرر و يشارك في تشكيل حاضر و مستقبل بلاده !!؟

    وسبحن الله الملك الحق أيضا فهذا زمانك يا مهازل فتأملي وأمرحي ! أيعقل أن تكون مصر التي أكتوت منذ ثورة الضباط الأحرار وحتى عهد مبارك البائد بنيران الديكتاتورية عبر ثلاثة أنظمة عسكرية شمولية ، تنعم اليوم بأنتخابات حرة نزيهة ، وببرلمان يمثل كل أنواع الطيف السياسي ، وبرئيس جمهورية قادم منتخب ، وبأعلام حر يناقش كل قضاياه في الهواء الطلق دون أي محاذير ، وبسلطة قضائية مستقلة ، وبدولة قانون يستوي فوق صفيحها القوي و الضعيف الحاكم و المحكوم وبشعب ثائر يموج ثورية طلبا للعلا و أملا في أرتياد الثريا لوطنه !!؟

    ثم يكون في المقابل حظ بلادنا التي شهدت ثلاثة عهود من الحكم الديمقراطي ، وحظ شعبها الطيب المسالم المضياف نظام شمولي أحادي النظرة قسم البلاد لجزئين وقسم العباد شعوبا وقبائل لا ليتعارفوا أو ليتصاهروا أو ليتسالموا بل ليتناحروا وليمزق بعضهم البعض !!؟

    أيكون حظنا أن نعيش بدولة تمثلها حكومة و برلمان لحزب واحد ، ولشعب أعيته الحيلة فآثر ألتزام الصمت رضاء بسوء الحال قنوطا منه بغد مشرق للتغيير محال ! أو الهجرة والشتات من الديار حتى وصل كل البقاع والأصقاع ولم يستثني في ذلك حتى دولة الكيان الصهيوني أسرائيل !!!؟ . ثم خدمة مدنية تسبح بحمد و شكر الحزب الحاكم لا الوطن وشعبه ،و وحدة وطنية بين الأفراد أضحت ذكرياتها يمثلها لنا الواقع المعاش أماني و أحلاما ز########ة ! ماأمر حاضرنا وما أتعس حظنا وما أقسى ماأنتهى أليه حالنا !!!؟
    عموما ياصاحبي دعك من هذا ودعني أحيلك لمشهد آخر مسرحه صلاة الجمعة وبين نفحات هذا اليوم المبارك أتخذت لنفسي في جامع التوفيقية بحي المهندسين مجلسا مبكرا . كنت على شغف شديد لسماع أئمة و شيوخ مصر ! ماذا يدور في خلدهم لمستقبل بلدهم ؟ هل سيقرنون الدعوة لدين الله بحالة الأمة والشعب المصري وقضاياه الملحة و المتلاحقة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البلاد !!؟
    أم سيكون حالهم كحال أئمتنا في السودان ( ألا قليلا منهم أو من رحم ربي ) من الذين عينهم السلطان ! يقرأون علينا في كل جمعة خطبهم المكررة المحفوظة لديهم ولدينا ! خطاب ديني هلامي بلا محددات أو أهداف أو معاني سامية تربطك بواقع الحال ! تستشعر فيه أنه يحثك أن تستعصم بحبائل الآخرة دون أن تتفكر في أمر خير دنياك كصلاح الحكم و والي الأمر لتقويمه أو لتسأل عن فساد الحكام فتجليه و تكشفه بعيدا عن فن السترة ! أو لتتأمل في حال الشعب بين دعة ورغد عيش قلة و عوز بقية باقية هائمة في الأرض هوام الأنعام بحثا عن رزقها !!؟ فقط كل الذي عليك فعله في هذه الدولة أن تصمت ولاتسأل أحدا من أين لك هذا؟ فلأجابة ه قطعا هو من عند الله ومن فضل ربي !!!!؟
    لم يخيب أمام وخطيب مسجد التوفيقية ظني فيه وفي أئمة مصر ، فكانت خطبته يومها مخصصة للتفكر في كيفية بناء الجمهورية الثانية بعد زوال حكم ( الفرد الواحد و الحزب الواحد ) قياسا وأهتداءا برسولنا الكريم صلوات الله عليه و سلم حينما هاجر من مكة المكرمة نحو يثرب لبناء دولة الأسلام الأولى وأمة الأسلام الحديثة الأولى !!؟
    تحدث في عدة محاور تصب في خانة الأهداف السامية والمقاصد الوطنية التي يجب على المصريين أن يراعوها وهم ينتقلون لهذا العهد الجديد . قام بتذكير الناس بالمبادئ الأسلامية الرشيدة التي تحفظ للدولة أستقرارها و تدفعها قدما نحو الرقي و النهضة ، كتعظيم رابطة الأخوة في الله بين المسلمين ، وتأصيل روح السلام الديني بين الأقباط و المسلمين وبقية الديانات الأخرى ، وترسيخ السلوك المتسامح بين مختلف الطبقات الأجتماعية بالمجتمع المصري ، والعمل بجد لنشر مكارم الأخلاق بين جميع الأفراد ، ومحاربة الفساد والكسب غير الشريف في دواوين الدولة من أموال الشعب ، دون أن ينسى في الأخير تحذير الأمة من عوامل الفرقة و التشرذم بين فسطاطين حزب الله و حزب الشيطان ، ثوار تحرير و فلول النظام السابق ، مجموعة ميدان التحرير و مجموعة ميدان العباسية !!؟
    لقد تركت فينا خطبة أمام مسجد التوفيقية أثرا طيبا خصوصا أنه في خواتيمها دعا لأهل السودان بالخير والرفاه و الوصول لكلمة سواء بين أبناءه لحفظ ماتبقى من أشلاء الوطن المقسم والجريح موحدا !!؟ . وقد مثلت لي هذه الخطبة يومها أنموذجا راقيا لدعاة و شيوخ مصر في تبصير أفراد الشعب بتحديات الأمة و الوطن ، وبكيفية تكوين رؤى التنوير و التغيير البنأءة و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و الوصل بين دعوة الله و هموم الناس الأنية في أبهى صورها !!!!؟
    لفت نظري أيضا أثناء دخولي و خروجي من مسجد التوفيقية أن ( أمامه وقلة من حواريه ) من القائمين على خدمته أقرب للتيار السلفي ، وهذا مازاد غبطتي و أنبهاري بأهله لماوجدته منهم وأستمعت أليه لخطاب ديني راشد و متسامح و حكيم متفهم لضرورات المرحلة ، قد لا تتوقعه من غلاة أو بعض رموز السلفية والذين غطى جهل بعضهم لتحولات العصر على صدق و نقاء أغلبية معتنقيه فكانوا بذلك فزاعة للغير وصيدا ثمينا للأعلام الأصفر يشكل صور سوداوية عنهم للعامة كيفما يشاء !!!!؟
    ومن الجميل ذكره أن المسجد يعتبر وحدة أو جزء من مجمع كامل يشمل بجواره مستشفى التوفيقية الخيري بكامل التخصصات الطبية و سوق التوفيقية الخيري المليء بمختلف البضائع و المأكولات ذات الأحتياج المنزلي ، ومركز عام لتحفيظ القرآن الكريم وعلوم الفقه والحديث ومخبز بلدي . أظنك يا صاحبي لن تجد مشهدا بديعا ومريحا للنفس أكثر من هذا الذي بين ناظري ! حالة أنسانية تعبر عن أعلى قيم التكافل والتراحم الأجتماعي و الأقتصادي و المعيشي ، أراد من أراد ومن يقف خلفها من أدارة المجمع أن يكمل رسالة المسجد النظرية خيرا وفيرا وبسطة في العيش يستشعرها المواطن العادي الذي يرتاد المجمع بصورة عملية !!؟

    لا أدري يا صاحبي ولكني أصدقك القول أنه لو كان هذا هو ديدن التجمعات السلفية و الأخوانية في الحياة المصرية كما سمعنا عنها كثيرا وشاهدته بأم عيني مثالا في مسجد ومجمع التوفيقية ، هكذا هم يلامسون هموم و مشاكل الناس ويخاطبون قضاياهم اليومية بصدق وتفاني و أخلاص على الأرض وليس من برج عاجي ! وكان هذا هو طريق و منهج الأسلاميين بمصر لنشر فكرهم بعيدا عن رؤى و أستراتيجيات و طموح الوصول للحكم ، فلله درهم من تيار أسلامي ! حق لكل غريب مثلي أن لايشخص بعينيه ويلتفت بهما يمنة و يسرى مستغربا أو مستهجنا ليتسآل أو ليسأل الناس كيف وصل هؤلاء للسلطة برضاء الشعب و بشورة أهلهم وعبر أنتخابات حرة و نزيهة !!!!؟
    وشتان فعلا بين أسلاميين وبين آخرين !!!!؟
    تستحضرني هنا ياأخي القارئ أبيات شعر جميلة و بليغة من قصيدة أسمها (أسلاميون) كتبها مواطن مصري بسيط أسمه عبدالناصر كومي بجريدة المصري اليوم هي بالكالد رسالة لحكام مصر الجدد ، تعليقا منه على هذه الحالة السياسية الراهنة التي تنتظم مصر و التي حملت التيار الأسلامي لأكتساح صناديق الأنتخابات . أعجبتني بساطتها ولفتت أنتباهي يحاول من خلالها صاحبها أن يعبر عن مشاعره ورؤية ومشاعر الكثيرين من الذين أعطوا أصواتهم للتيار الأسلامي ، و يأملون أن تكون الثقة التي منحوها لهم أمانة وطنية في أعناقهم ، تترجم لخدمة هذا الشعب بكامل أطيافه و طوائفة ولنهضة الوطن ورفعة شأنه بين الأمم :-

    صعدتم نحو مجلسنا ............. وكان الشعب بركانا

    يساعدكم يؤيدكم .............أمام الغرب تبيانا

    فهل ستعاملون الناس ......... أكراما و عرفانا ؟

    وهل من ليس يتبعنا ......... كفور القلب خوانا ؟

    وهل سنهاجم الأقباط ......... كفرانا و عدوانا ؟

    فذمي بأمتنا ................رسول الله أوصانا

    وهم أخوال أبراهيم ...........تشريفا و أحسانا

    فنأمل منكمو يسرا ............على الأسلام برهانا

    أفترش الأرض أمام المسجد شاب ملتحي ببضاعته التي كانت تشمل أنواع عديدة من العطور الزيتية و الجلابيب و الطواقي و بعض كتب الأذكار والسنة . أخذت أسأله عن أسعار بعض محتويات بضاعته ثم دار بيني وبينه حديث ملاطفة قصير تبادلنا فيه عن طيب خاطر كلمات الثناء والشكر المتبادل لشعبينا ، طلب مني بعدها بلطف أن أقف لدقائق معدودة أمام بضاعته لأنه في حاجة ملحة لشراء خبز لأسرته من المخبز الخيري قبل أن تنفذ كميته ! سبحن الله مازال في هذه الدنيا أناس يرون فينا نحن السودانيين خيرا كثيرا ، وقد تخلقنا حديثا بأخلاق غير التي كانت معهودة فينا ! أخلاق رب البيت ! يستأمنوننا على مالهم يسالموننا بالخلق الجميل ويثقون في كرم و تواضع شخوصنا !!؟لله المنة و له الحمد والشكر !!؟

    عذرا أخي عبدالناصر كومي سوف أقتطع الشطر الأخير من قصيدتك لأختتم بها شجون تأملاتنا في مصر بعد الثورة ، فقد صادفت هوى في نفسي ........:-ق

    سئمنا قبضة الطاغوت .........ساق القوم قطعانا

    فعشنا في ظلال القهر ...........والطغيان عبدانا

    نريد العدل يكسو الأرض ..........أسرارا و أعلانا

    نرى الأخلاص مذدهرا ............. نرى التخريب عمرانا

    ولله المنة و له الحمد والشكر مثنى وثلاث و رباع .............................................. نواصل فللحديث بقية
                  

01-18-2012, 09:41 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي (Re: ود الخليفه)

    Quote:
    القاهرة ...... الثورة التي نصرت الجياع 2

    ألم أحدث يا صاحبي عن بعض جولاتي السياحية في القاهرة ! هي فرصة طيبة لذلك حتى ننزاح مؤقتا عن صخب السياسة وضوضاء الأشتغال بها ريثما نلتقط أنفاسنا ثم نعود مجددا لنحدثك عنها في بعض أحداثياتها التي صادفت مشوار رحلتنا . عند زيارتي لضاحية مدينة 6أكتوبر أستشعرنا بعضا من الأرتياح النفسي والسكون الفكري وذلك ياأخي الأعز لفساحة المكان و لنقاء الهواء المستنشق ولقلة الضجيج و الزحام والتلوث البيئي المعروف به وسط القاهرة !!؟

    هنالك تتواجد مدينة الأنتاج الأعلامي وهي تحفة في غاية الجمال ، تحكي بنفسها عبقرية التفرد الذي وصلت أليه حركة الدراما والسينما المصرية مقارنة بنظيراتها في العالم العربي . كذلك ملاهي الترفيه المسماة ( مدينة الخيال و تلك الأخرى حديقة الأحلام ) هاتان أيضا فيهما متنفسا كبيرا للأسر و الجماعات لقضاء أوقات مرحة و سعيدة . توجد الى جانب كل ذلك أكاديمية ( لعلوم الأتصال والأعلام) ، وفنادق راقية و مراكز تسوق كبيرة و فخيمة كتلك التي تتواجد بمنطقة الخليج العربي !!؟

    يبدو أن هذا المكان مهيأ خصيصا لأصحاب الدخل العالي من المصريين ولسياح البلد من حملة الدولار واليورو !!؟

    لفت نظري و شد أنتباهي ياصاحبي في هذه الضاحية أمر آخر وهو منتجعات تشتمل على مجمعات لفلل سكنية ، تم الأنتهاء من بناء بعضها والآخر في الطريق ! سبحن الله يا هذا ! أيعقل أن تكون مثل هذه المجمعات السكنية في مصرأيضا ! وهي الدولة التي يمثل السكن أرسخ و أعظم مشكلاتها وأكثرها أستفحالا !!؟

    أصدقك القول أنني سخرت من منظرها ولقد أستفزني كثيرا حتى ظننت لحظتها في نفسي أنني لست في القاهرة بل في المنامة أو في الدوحة ! هنالك يغلب هذا النمط العمراني الفسيح و الباذخ على طابع السكن ، وهذا في الأصل مفهوم للغاية لمحدودية عدد سكان هاتين الدولتين !!!؟ أما في مصر التي تعاني أنفجارا سكانيا أظن أن هذا المشهد قد يستفز قطعا مواطن مصرالبسيط !!؟

    عموما لاأظن أن معظمهم قد يسعفه الزمان والتفكير للقدوم عبر الطريق الصحراوي ألا لمصلحة عمل أو عابري سبيل كحالنا ، فيهنأ ليرى آخر ما وصلت أليه تخبطات الساسة وأنتهازية رجال المال والأعمال !!؟

    آثرت الصمت و عدم التعليق على هذا المشهد لمن رافقوني من الزملاء الأحباب في هذه الجولة ، غير أنني شطحت بعيدا بذهني ! وتحديدا لبلاد جارت علينا وهي عزيزة، ولعاصمة بؤسها ( الخرطوم ) ، ولولاة أمورنا ( هداهم الله وعافاهم مماهم فيه من مس و تخبط !) ، حين أتحفونا ذات مرة بمجمع الفلل الرئاسية ، ومادار حولها من لغط وشطط آنذاك في الصحافة أبان وبعد القمة العربية بالخرطوم ! ثم مرت هذه القضية والحادثة الممغصة كغيرها من القضايا المآساوية المستفزة الآخرى مرور الكرام دون رقيب أو حسيب !!؟ نساها الناس وتسربلت سريعا من فاخورة الذكرى وكانت سنة حميدة لمجمعات أخرى بدأت تظهر هنا و هناك بالعاصمة تأصيلا للحق و دحرا للباطل و تزيينا للعاصمة !!!؟

    واليوم وتواصلا مع مخلفات الماضي وأمعانا في رفع الروح المعنوية للشعب ، سوف يستمتع مواطن العاصمة الذي يكدح بضنك ليل نهار بحثا عن لقمة العيش بدرة جديدة أسمها (مشيرب القطرية) !!؟

    هي قطعا يا صاحبي لاتقع مثل مجمعات ( فلل مارينا 6أكتوبر) على الطريق الصحراوي بعيدا من وسط العاصمة فيتعذر على معظم السودانيين رؤيتها غدوا و رواحا !!؟ وأنما هي في قلب الخرطوم وهبتها الحكومة لشعبها البسيط الكادح قريبة من حدود نظره من كل الأتجاهات لينعم بخرطوم جميلة زاهية تزينها عروس المجمعات ( فلل أبناء الجاه والسلطان ) مشيريب !!!؟

    ومن غرائب وعجائب و محاسن الصدف يا صاحبي .... و في طريق عودتي للبلاد ، كنت أتصفح على متن الطائرة جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ نفس اليوم 5 يناير ، فوجدت أن تلك الأنتباهة العابرة التي شخصت في ذهني و خاطري أثناء زيارتي لمدينة 6 أكتوبر قد أستفزت آخرين مثلي ، بل أكتوى بها وأصابت في مقتل كاتب مخضرم وكبير بقامة السيد ياسين فكتب مقالا بعنوان ( سياسات منحرفة و قيم متدهورة ) !!؟

    يقول الكاتب في صدر مقاله ......... ( لا شك في أن أبرز مظاهر إسقاط النظام كان إجبار الرئيس السابق «مبارك» على التنحي، ليس ذلك فقط بل القبض على الرموز السياسية البارزة ومحاكمتهم جنائياً عن عديد من الجرائم التي ارتكبوها ) !!؟
    وقد أشرنا أكثر من مرة في مقالاتنا عن الثورة التي لم تنقطع منذ يوم 27 يناير 2011 حتى اليوم، أن إسقاط النظام لا يعني فقط إسقاط رموزه أو إلغاء مؤسساته السياسية مثل مجلس الشعب والشورى والمجالس المحلية، ولكن قد يكون أهم من ذلك وهو إسقاط السياسات المنحرفة التي طبقها النظام والتي أدت في الواقع إلى إفقار ملايين المصريين من أعضاء الطبقات الدنيا والمتوسطة، بالإضافة إلى الفساد المعمم الذي أهدر الثروة القومية وأدى إلى انقسام طبقي واسع المدى بين من يملكون ومن لا يملكون !!؟

    وفي مقدمة هذه السياسات المنحرفة السياسة الاقتصادية التي سمحت لمجموعة قليلة العدد من رجال الأعمال أن يهيمنوا على مقدرات البلد الاقتصادية بمباركة كاملة من قادة النظام والذين شاركوهم في الأرباح الخيالية التي جنوها من خلال عملية فساد كاملة، بنيت على أساس إقطاعهم آلاف الأفدنة من الأراضي وذلك مقابل أثمان بخسة، على أساس أنها أراضي للاستصلاح الزراعي . غير أن هؤلاء الفاسدين حولوها إلى أراضي للبناء وباعوا الفدان الذي اشتروه بخمسمائة جنيه مقابل أربعة ملايين جنيه على الأقل ! وعلى القارئ أن يتخيل حجم المكاسب الحرام التي جناها رجال الأعمال والتي تقدر بالمليارات !!!!!؟
    هذه التراكمات المالية الخرافية والتي جمعت نتيجة تواطؤ الدولة مع رجال الأعمال هي التي شجعتهم على ابتداع نمط عمراني جديد لم تعرفه مصر من قبل، هو «المنتجعات» والتي بدأ بيع الوحدة منها في «مارينا» - على سبيل المثال- بمليون جنيه( مصري) أو أكثر قليلاً، وتطورت المسألة في منتجعات أخرى أكثر فخامة تباع فيها الوحدة السكنية ﭭيلا كانت أو قصراً بمبالغ وصلت إلى عشرين مليون جنيه في بعض الحالات ، وذلك في الوقت الذي لا يجد فيه ملايين المصريين من أبناء الطبقات الشعبية والوسطى سكناً لائقاً لهم أو لأولادهم . وقد أدت هذه القسمة الطبقية بين المنتجعات و العشوائيات الى تدهور خطير في القيم !!!؟

    تأمل يا صاحبي كيف يمكن أن يتشابه علينا البقر ! أقصد ( الديكتاتوريات ) شرقا كانت أو غربا ، شمالا كانت أو جنوبا !!!!؟

    * * * *

    في مشهد آخر ياصاحبي أنتقلنا لزيارة منطقة خان الخليلي والحسين والأزهر الشريف . جلسنا الهوينى نتأمل البناء الجميل لأدارة الأزهر الشريف ومسجده ذو الطابع المعماري الزخرفي البديع . يا الله ماأبهى و ماأبرك هذه البقعة الطاهرة يا أخي الحبيب و التي سكن أليها ملايين البشر من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وبين الناس يسيحون سلاما ! يديمون السهاد عبادة وقياما وهم مراضا ، ويرضون بالقليل كفافا وهم للعوز صحابا ، ويرجون من الكريم عفوا و فرجا مستطابا !!؟

    رجال أنقياء من أمثال شيخنا الأمام محمد مصطفى المراغي وشيخنا الأمام محمد شلتوت و عبدالرحمن تاج و حسن مأمون وبقية أصحابهم الكرام من الذين أنتقلوا للرفيق الأعلى أو أحياء مازالون يرزقون . رجال خدموا عبر هذه المؤسسة العريقة الرسالة المحمدية بأخلاص و تفاني ، ونشروا الأسلام الوسطي المتسامح في كل أصقاع الأرض ، وتخرج من رواقهم طلاب علم وشيوخ أفاضل عضدوا المسيرة و أكملوا الجهد و عبدوا الطريق للكثيرين للتمسك و الأعتزاز بهذا الدين العظيم !!!؟

    فلله درهم هؤلاء المجاهدين الخلص من حياة أفنوها لصالح دينهم ولصلاح آخرتهم لا يرجون منها جزاءا أو جاها أو سلطانا أو شكورا !!!!؟

    أعلم جيدا أن هذه المؤسسة قد أعتلت ردحا من الزمان وقد شابها من الشوائب ماجلبته لها الأنظمة الشمولية و الأستبدادية وطواغيت العصر ، فبلغت مبلغا قميئا حددت به أدوارها و قزمت به مكانتها وأختزل أمرها في الدعاء لهؤلاء الحكام وتأييد سياساتهم عدلا كانت أو جورا كهيئة لعلماء السلطان !!!؟

    وقد تضخم الأمر وأستفحل سوءا في عهد الرئيس المخلوع مبارك حتى جاء بالأمام الأخيروالحالي د . أحمد الطيب على رأس هذه المؤسسة من أضابير ملفات عضوية الحزب الوطني المنحل ، فكان سنام جهده و عظيم رأيه من عبق الثورة الميمونة التي أرادت للشعب المصري الحرية و العدل و رفض كل مظاهر الفساد والقهر و الظلم أنه رآى فيها خروجا عن الحاكم و فوضى بلطجية !!!؟

    أظن يا صاحبي أن رياحين ثورة 25 يناير و عبيرها سوف تعيد للأزهر الشريف ريادته وتجدد له أدواره الوطنية الخالدة و رسالته الروحية الشريفة و التي حملت شيوخه يوما لصد الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في أكتوبر 1798م والمستعمر الأنجليزي عام 1807م . ودفعت أدارته يوما آخر لتأييد الثورة العرابية و أحتضان ثورة 1919 م مطالبين بلأستقلال و الوحدة الوطنية حينما قاد الركب أيامها محمودأبوالعينين و مصطفى القاياتي ، وكيف مثلت أيضا داره ملجأ للحاكم لأخذ الأستشارة و النصح منذ حكم محمد علي ( العثماني ) وحتى جمال عبدالناصر !!!؟

    وفقني الله أن أصلي صلاة المغرب والعشاء ( قصرا و جمعا ) بمسجد الحسين رضي الله عنه . حينما يسكن جسدك وتجلس في بساط المسجد تجد أن الأجواء هناك ياصاحبي طيبة والنفوس هنا تلفها الطمأنينة والأرتياح ، يزكيها الصفاء والنقاء و الزهد من عرض الحياة الدنيا ويزينها المدح والشكر والثناء والصلاة على نبينا الكريم وآله وأصحابه أجمعين !!؟

    المسجد فسيح و ممتلئ بالزوار و المريدين من كل شعوب الأرض ، و في أحدى الأركان لاحظت أن هنالك لوحتان علقتا بعناية كاملة فأتجهت نحوهما !!؟

    كانت أحداها تشتمل على صور فوتغرافية لمتعلقات الدوحة النبوية أشير بأن محتويات بعضها محفوظ بالمسجد والآخرى في متحف بتركيا ثم لوحة عريضة ثانية كتبت فيها قصيدة عصماء لأحدى الشعراء المصريين في مدح الحسين رضي الله عنه !!؟

    أخذت أقرأ مطلعها فأفتتنت بها ! سبحن الله ماأبهى الأجتماع الذي أظل جميع شعوب الأرض المتنافرة لغة وطبعا ومنشأ بحب الله ورسوله وآل بيته وصحبه الكريم . ألا تذكر يا صاحبي قول الله تعالى الأية 63من سورة الأنفال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ") أنه فعلا لقول من لدن حكيم عليم . و أنا أتتبع أبياتها و أتأمل كلماتها آثارت في نفسي شجونا أستذكرت توا معها مادحنا الراحل شيخ ود سعيد و كلمات قصيدته الرائعة مرحبا بيك يامسهلا فأخذت أرددها في خاطري

    جيت يانسيم من الرسول بيك مسهلا ....... واجب قراك علي ماذاأفعلا؟

    طاري القدوم لكن قيودي مطبلا ..........تبقى المسافة البينا سبعة مراحلا

    سأل الكريم أحوالنا بالخير يبدلا .........حبك جلب مصر وصعيد و دنقلا

    جيتك وقيع خايف حويلتي معطلا .......... خايف من السكرات وخايف البهدلا

    خايف مروق الروح علي لا يتقلا ............ مادحك عشيمك يا الرسول لا تهملا

    قصدي مناي حسن الختام لي تسهلا ......... قول لي فوز بك مرحبا ويا مسهلا

    نواصل حديثنا في ( مصر بعد الثورة) فله بقية

                  

01-18-2012, 09:51 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي (Re: ود الخليفه)



    الصديق عبدالله البخاري

    وفي انتظار بقية المقالات
                  

01-27-2012, 09:38 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي (Re: ود الخليفه)

    Quote:

    القاهرة ..... الثورة التي نصرت الجياع 3




    قبل أن أزيح الستار عن منطقة خان الخليلي ، يطيب لي يا صاحبي أن أذكر لك جلوسي بقهوة الفيشاوي العريقة التي عرفت منذ قديم الزمان أنها محط تجمع النخب السياسية و الفكرية والثقافية و رموز المجتمع المصري بصفة عامة ! كنت في حاجة ماسة لأجدد ذاتي العليلة وانا أتفيأ بمصر روح الثقافة عبر عبق التاريخ والأدب !!؟ فهنا أحسب أنني قد وجدت ضالتي في هؤلاء القوم الذين يعتنون بشدة بأثر التراث و حفظ التاريخ والحضارة الأنسانية في حياتهم العامة على عكس حالنا نحن في الوطن و ولاة أمره ( المهديين ) الذين جرفوا بهمة و نشاط كل معلم فكري و آثر ثقافي كان قبل فجر يوم30 يونيو 1989م لا يوافق الأيدولجيا الحضارية ، ثم جففوا وأعدموا بعد ذلك كل منابع الأبداع في شتى المجالات ، ورأوا في الأخير أن الثقافة شأنها شأن الرياضة و السياحة عبث دنيوني لاطائل للدولة وميزانيتها به !!؟

    نحمدالله ياصاحبي أن طاغوت مصر لم يكن يحمل هو أو نظامه بعدا أيدلوجيا أو كرها و نقما عقائديا على أرث وتاريخ بلاده ! فيبيد و بطانته الحاكمة الأخضر و اليابس ، ثم يستهل بعد ذلك عهد حكمه للبلاد مبشرا العباد بلأنقاذ و التعمير وأشاعة السلوك الحضاري !!؟

    من أجل ذلك كان من حظ قهوة الفيشاوي أن تكون أخي القارئ حتى يومنا هذا معلما سياحيا مهما يرتاده الزوار من كل شعوب الأرض ، ويأنسون جدا للجلوس فيها والتمتع برؤية الحي القديم الذي يحيط بها !!؟

    ذكرت «قهوة الفيشاوي» في العديد من الكتب والمراجع الأجنبية واطلقوا عليها أيضا « قهوة المرايات» نظراً لما تحتويه من عدد كبير من المرايات الضخمة المطرزة بالأرابيسك والصدف ، وقد أسسها الحاج فهمي على الفيشاوي سنة 1797 ميلادية ، اي منذ ما يزيد عن المئتين وخمس سنوات ... وبالتالي بأمكانك أعتبارها أقدم قهوة في الشرق الأوسط وربما في العالم كله !!؟

    حال قهوة الفيشاوي ياصاحبي كصالون ومرفأ ثقافي ذكرني وأنا جلوس فيها أحاديث وقصص ماضية تواترت ألينا عن قهوة مشابهة لها كانت بسوق أم درمان العتيق هي قهوة جورج مشرقي و التي ضمت أيضا بين حيطانها في زمانها الذهبي ألمع نخب المدينة العتيقة أم درمان في الرياضة و الفن و السياسة والثقافة والفكر ، وكان يسميها أحد رواد الوطنية حماد توفيق قهوة سوق الموية !!؟

    أسسها العم جورج مشرقي شنودة وهو من مواليد مدينة ام درمان حي المسالمة ، من أم من مدينة الابيض اسمها (مريم) وأب من قرية بصعيد مصر . يحكي العم جورج مشرقي شنودة في ذكرياته بالمقهى أن الحياة بالمدينة التأريخية كانت سلسلة و سهلة . وسيلة النقل هي الترماج والحنطور وبعد ذلك ظهر التاكسي وبصات ابورجيلة وكانت جميلة ومحببة للجميع . كيلو الضأن بأربعة قروش والبقر بقرشين ، والمباني كانت بسيطة من الطين، وفي المسالمة مسيحيون ومسلمون يعيشون في إلفة ومحبة وتجد الكنائس بالقرب من المساجد، ودرجة التسامح الديني عالية و لا توجد في اي مكان آخر . وعن أجمل المواقف التي علقت بذاكرته وهو يدير هذه القهوة الشهيرة أنه في أحد الايام كان الخريجون مجتمعين بالنادي وبعد الاجتماع جاء الزعيم الراحل اسماعيل الازهري المقهى فوجد عدداً كبيراً من الخريجين ، فضحك وكان يحب المزاح وقال لهم : (خليتو النادي وعملتو محل جورج مشرقي نادي ) ......!!؟

    وكما يفتخر اليوم خريج كلية الفنون الجميلة قسم الديكور حفيد الحاج فيشاوي الأستاذ ضياء الفيشاوي بأن قهوته أستضافت عددا لايستهان به من رموز المجتمع المصري و مشاهير ورؤساء العالم ، فأننا نعلم جيدا كيف لعبت قهوة جورج مشرقي أدوارا عظيمة و خالدة في إثراء الحركة الثقافية والسياسية في أم درمان بل في السودان ككل ، وأن كنا نتآسى طبعا لأندثار ذلك الآثر التأريخي وغياب أي ملامح له على مسرح حاضرنا الآني المحبط . أسأل الله يا صاحبي أن يقيض لهذه البلاد يوما ما رجل بر و أحسان ! يعنى بحال الثقافة والتاريخ و السياحة ، فيرأف بحالنا و يعيد لقهوة جورج مشرقي سيرتها الآولى ولعموم آثارنا و ماضينا وحضارتنا العريقة الضاربة في جذور التاريخ ملامح مشرقة من بريقها المنطفئ !!؟

    * * *

    في طريقنا لمنطقة سور الأزبكية أسترعى أنتباهي لوحات أعلانية ضخمة متعددة تعرض صورا لمقدمي برامج الحوارات الساخنة ( التوك شو ) و التي تتنافس القنوات الفضائية المصرية فيما بينها لكسب أعلى نسبة مشاهدة بين الجمهور عبر أستضافة النخب السياسية والفكرية والثقافية والأكاديمية التي تتناول الشأن العام اليومي وقضاياه المتشعبة والعديدة بشكل مستفيض و حر . هذا هو حالهم قبل وبعد الثورة فلماذا لا نبتأس من أمرنا يا صاحبي وأنا أقارن طريقة أدارة شأننا العام أعلاميا بالحراك الطيب الذي ينتظم مصر ! فالمشاهد لقنواتنا الفضائية يترسخ في ذهنه من فرط خواءها وتبلدها العسير و المزمن في تقديم وعرض النافع والمفيد ومشاكل المواطن بجراة كحال الأعلام المصري ، أننا أمة خلص أمرها من كل المعضلات فصار أعلامها على ماهو عليه من أنحدار و أنحطاط و فراغ !!؟

    لاعجب في ذلك فقد يكون هذا يخدم سياسة تنويم الشعب ! فحتى وزارة الأعلام ياصاحبي بخس أمرها وراحوا يستجدون بها ويمنحونها لأحزاب ( الولاء و الطاعة ) حالها في ذلك كحال وزارة الثقافة و الصحة والشباب والرياضة و الثروة الحيوانية و النقل !!!؟

    في دارهم يا صاحبي وعبر برامجهم الحوارية الممتعة يتنافسون في تنقيب و أظهار الحقيقة وكشف الفساد و قتل كل المعضلات و الهموم الحياتية بحثا و تفصيلا عبر أستنطاق أهل الرأي المستنير و الأختصاص المهني ، وفي دارنا هنا تتنافس لدينا الخارطة البرامجية لمعظم قنواتنا الفضائية طوال ساعات اليوم في تنظيم ( القعدات وسهرات الغناء ) التي تستضيف الفنانين وتستنطق الفنانين وتخلد الفنانين وتبحث بجد من جديد عن نجوم الغد من الفنانين !!!؟

    يهمني جدا أن تعلم يا صاحبي أن الكثير هنا يدين بالفضل لهذه البرامج الهادفة في رفع درجة الوعي العام لدى المواطن البسيط ، وفي مسألة تعريفه بحقوقه المشروعة المنتهكة من قبل نظام مبارك البائد . أثارت الكثير من قضايا الفساد و كشفت بطانته من دون أن تطالبها سلطة المخلوع من وثائق أو مستندات درءا للقذف ! زرعت جذور الثورة وروحها بين مختلف طبقات الشعب والتي كانت أصلا مهيأة لخلع الطاغية من كرسيه ورميه ومن حوله من بطانته الفاسدة في مزبلة التاريخ بسبب التدني الشديد في معدلات الدخل و الأرتفاع الحاد في الفقر !!؟

    ثم ماذا بعد يا صاحبي ؟ هل نحن أفضلا حالا من هؤلاء ؟ ( لماذا لا نثور مثلهم ؟ )... هل نحن شعب أستمكن منه اليأس ونخر الأستبداد جسده حتى عاد لايميز بين الغث و الثمين ، العدل والجور ، العيش بكرامة تحت ظل الحريات أم السكون لكنف ذل الديكتاوريات وجبروتها بداعي عدم وجود البديل !!؟

    أزحت من ذهني هذه المقارنات سريعا ... فأنا هنا للراحة والأستجمام و لأجدد ذاتي المكلومة بجراح الوطن ! ... أنا هنا لأستنشق بعضا من عبير الثورة ونستلهم نفحات التفاني والتضحيات من روح أنسانها الطموح الثائر ..... فدع عنك لومي في هذا يا صاحبي ، فأن اللوم أغراء و داوني أملا بالحياة بالتي كانت هي الداء !!!؟



    وصلنا لسور الأزبكية و كانت لدينا هناك متعة ونشوى بطابع آخر . تملكنا جيشان عظيم من المشاعر المفعمة بالأرتياح وأنا أحط الرحال في سوق الكتب العتيقة و النادرة ، وقد تذكرت وقتها ألحاحك الشديد لي بزيارة المكان . سبحن الله يا صاحبي ! ها هي مكتبات الأزبكية التي كثيرا ماراودتني الأماني و الرغبات الملحة لزيارتها يوما ما ، لأقتناء الثمين من درر المصادر و الكتب والجلوس والتآنس مع باعتها . نعم جاءت اللحظة و حانت الفرصة أخيرا لذلك ، فأنت أعرف العارفين بأدماني الشديد لأقتناء أمهات الكتب القديمة ذات الأوراق الصفراء الرثة والأحتفاظ بها في مكتبتي الخاصة ! ..... كان لنا مجلس أنس طيب وأحاديث رائعة مع أصحابها المتفردين عن غيرهم في فضاءات الثقافة بغزارة تبحرهم الشديد في تلاطيم أمواجها !!؟ .... هم أناس غير الذين كنت أحسبهم ! فمعظمهم أن لم يكونوا كلهم لبقي الحديث و موسوعي الثقافة و جامعيين من حملة ( البكاليروس أو الليسانس ) كما أعتاد على قولها المصريون !!؟

    أسعار الكتب في معظمها في متناول اليد والجيب ، وقد وددت لو أنني نقلت كل هذا السوق القيم بمافيه من كنوز أدبية و ثقافية و علمية للسودان . كنت أبحث بشدة عن دواوين شعر للعلامة عبدالله الطيب تحديدا ديواني بانات رامة و أغاني الأصيل خصوصا بعد أن وجد عندي ديوانه الأول ( سقط الزند الجديد) أعجابا و أفتتانا لا حدود له بنظم قصائده . كنت أيضا أخطط للأحتفاء في قاهرة المعز بشاعري المحبب والمفضل ( الحسن هانئ أبي نواس ) وأقتناء دراسات ادبية نقدية له . لا أحسب أن الكثيرين قد تكون لهم الجرأة مثلي ليجاهروا بحبهم وأفتتانهم بهذا الشاعر ياصاحبي والسبب في ذلك معروف !!؟

    فأخبار مجونه ومغامراته ولهوه العبثي الغرامي بين النساء و الغلمان و لغوه المرير ولسانه القارع اللاذع مع رجال الدين وفقهاء الدولة آنذاك قد طغت كثيرا للأسف الشديد على روحه الصوفية الهائمة ونقاء سريرته البيضاء التي سكنتا جسد هذا الشاعر المرهف ! روح لم تيأس أبدا رغم ماأقترفته من عظيم ذنوب من روح الله حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في السكرات مودعا الحياة الدنيا !!؟

    تنقلت أيضا في ميدان كتب المذكرات الشخصية وكان نصيبي منها كتاب للفريق محمد نجيب مفجر ثورة الضباط الأحرار وصاحب الفضل في فكرة لم شمل و توحيد الأحزاب الأتحادية بعنوان ( شهادتي للتاريخ ) وهو من القطع المتوسط . وضعت أيضا في دائرة أهتمامي شراء مؤلفات لعائشة عبدالرحمن بنت الشاطئ أستاذة الدراسات القرآنية بكلية الشريعة - جامعة القرويين بالمغرب ، وقد حفزني وشدني لذلك أعتداد نوارة الأدب السوداني الطيب صالح بكتاباتها في شاعر الزهد و الأنكفاء ( أبوالعلاء المعري ) في كتابه من سلسلة المختارات ( في صحبة المتنبئ ) ......!!؟

    بين صفحات ذلك الكتاب لام الطيب صالح عميد الأدب العربي طه حسين في تسفيهه لأمر المتنبئ ( كشاعر سلطة و ترزي سلاطين ) وتفضيله الصارخ لأبوالعلاء المعري عليه ! وقف الطيب صالح في ناصية الوسط بين الشاعرين بحنكة ودراية العارفين بقدر العظماء معليا من قدر هذا و شأن ذلك ، لكنه في الأخير أحتفظ لنفسه بأقرار تفرد المتنبئ في مملكة الشعر وتأكيده لأستاذيته عليه وعلى شاعر عميد الأدب العربي أبوالعلاء المعري !!؟

    هذا جدل ياصاحبي لاناقة لي فيه ولا جمل فدعنا نسدل الستار عليه .... فقط ما يهمني فيه أجزال الشكر وأبداء الثناء لأستاذنا الكريم طه حسين وهو ينثر عبير كلماته و وصفه البديع و تحليله المعمق بغزير العلم والحدس و الدراية عن شاعر أمة الدولة العباسية( أبي نواس ) في كتابه حديث الأربعاء ، فقد وفاه حق الوفاء و أكرم شأنه في دوحة الشعر !!؟

    وكذلك لايفوتني أن أترحم على نوارة أدبنا ( الطيب صالح ) وأجزيه شكرا و فضلا عنا خير الجزاء والشكر . فلولا روحه النقية المتسالمة والمتسامحة مع أفكار الضد والأغيار قبل أفكار المع و لولا عبقريته الفريدة في تقييمه لأجتدهادات الآخرين ماكنا نحونا بأهتمامنا لأكتشاف هذه الأديبة والكاتبة والأكاديمة المتمكنة وهي صاحبة مؤلفات وأجتهادات اخرى بعيدة عن ميادين الأدب العربي تعنى بالسيرة النبوية الشريفة وآل البيت الشريف !!؟

    أعود ياصاحبي مجددا بعد هذه الوقفة لأحدثك عن مجالس أنسي مع باعة سور الأزبكية ..... كان أول حديث لي مع صاحب مكتبة شاب في آوائل العقد العشريني من العمر ، وقد دار حول حال الثقافة بمصر وأرتباط الشباب المصري بها ؟ وكيف هو حال حركة التردد بسوق سور الأزبكية و نوعية مرتاديه و رواده ؟ ماهي أهم مشكلاتهم و همومهم ؟ فجاءت ردوده و حديثه لي في مجمله صادما ملجما ، وأن لم يكن يختلف كثيرا مما يعانيه أقرانهم في السودان !!؟

    بدأ بسخرية يحكي لي عزوف الشباب المصري عن قراءة كتب الفكر و التاريخ و السياسة والثقافة لصالح الروايات الرومانسية المبتذلة و كتب رسائل الحب والغرام و قصص العاشقين !!؟ هو نفسه أفرد لها جزءا من مساحة المكتبة لكثرة الطلب عليها أشار أليه ضاحكا فكان معظمه مفروشا على الأرض! ... أظنها أشارة منه لدنو قيمتها و مكانتها لديه !!؟ فسر لي هذا الظاهرة وأرجعها لسياسات نظام مبارك البائد و الذي عمل من جهة على ألهاء شريحة الشباب عن تداول شأنها العام وقضاياها الحياتية المصيرية من منظور جاد فقام بأفراغ تفكيرها وتشتيته بشتى الصور بقضايا و مجالات أنصرافية ########ة ! ثم أرسى من جهة أخرى سياسات و خطط عمل قربت أهل الولاء والطاعة من فئة رجال المال والأعمال الجشعة فأغنتها و أفقرت معها في المقابل ملايين المصريين فأصبح المواطن البسيط لايفكر ألا في ثلاثة أتجاهات عمله و رزقه و أسرته !!؟

    دلف بعدها لحكاية أخرى ربطها بقضية العوز والنفور الثقافي الذي ينتظم الساحة المصرية وهي قصة المضايقات التي كانوا يلاقوها من النظام السابق و انتقالهم لهذا المكان الضيق المساحة بعد صدام و معركة ضارية مع نظام مبارك البائد في أيامه الأخيرة حينما أراد أن يزيل السوق ( المضر بوعي المواطن و المفسد للذوق العام ! ) بحجج واهية حتى أنتهى بهم الواقع حول هذا السور !!؟

    سبحن الله شر البلية فعلا يا صاحبي مايضحك ! فهؤلاء المساكين وهم يشكون لي حالهم وأنا أستمع لقصة أشتباكهم مع محافظ القاهرة الذي أمر بأنتقالهم لسور الأزبكية الضيق الحالي ، لم ولن يدر في خلدهم أو يمر في خيالهم أبدا أن يكون أقرانهم في السودان من باعة سوق الكتب القديمة بأم درمان ( سوق البوستة سابقا ) أسوأ حالا و أردأ و أقبح مصيرا !!؟

    فمن سخرية الأقدار و توارد الخواطر التي شقت طول المسافة مابين القاهرة شمالا وحتى الخرطوم جنوبا يا صاحبي أن محافظ أم درمان الفطن أقتدى ( مصادفة أو عن عمد حقيقة لاأدري !) بنظيره المصري ( بتاع القاهرة ) فدخل يومها مع باعة مكتبات البوستة في معركة جانبية أنتهت بطردهم من المكان ثم أنتقالهم لآخر أسوأ منه خلف المسجد الكبير ، وقام بعدها نفس المحافظ طيب الذكر والنية وعلى أنقاض هذه المكتبات ببناء دورات مياة و حمامات عامة !!؟

    هكذا كان يا صاحبي يتجدد مسلسل العداء الراسخ و التأريخي الذي دائما ماينشأ بين الأنظمة الشمولية القهرية و مراكز نشر الفكر و الوعي العام ! يتكرر في كل مكان وتتجدد فصوله بنفس السيناريو و نفس التفاصيل ....... فالوعي بالحقوق المشروعة و كشف الفساد وأزالة هالة التعظيم التي يحيطون بها نظامهم للمواطن البسيط أكثر مايؤرق مضجع كل الطغاة ، فهو قطعا سيقود الشعب يوما للأمتعاض من الحال المائل ثم الأعتراض عليه بشتى الوسائل وبعدها الثورة التي تحمل قطعا في طياتها النهاية الحتمية للنظام القهري الذي سلطه الطاغية على شعبه مستبدا بحقوق ومصالح الناس تارة ومذكرا أياهم أنه هبة السماء لديهم جاء لأنقاذهم تارة أخرى !!؟

    لذلك كان ومازال الأهم لدى كل هؤلاء الطغاة المتجبرين ومن أولى أولوياتهم كبت المعرفة ووئد منابعها من مهدها ، ثم تشريد و تنكيل أصحابها و محوها تماما من الحياة العامة للمواطن !!؟

    قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

    و يبقى لحديث ( مصر بعد الثورة) بقية باقية و جزء أخير !!!؟

                  

02-05-2012, 07:10 PM

ود الخليفه
<aود الخليفه
تاريخ التسجيل: 07-21-2002
مجموع المشاركات: 3178

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: القاهرة .. الثورة التي نصرت الجياع د.عبدالله البخاري الجعلي (Re: ود الخليفه)

    الجزء الرابع والاخير


    القاهرة ..... الثورة التي نصرت الجياع 4

    جلست أمام النافذة العريضة المطلة على ساحة المطار وأنا بمطعم الوجباب السريعة أغالب موجات عاتية من الإرهاق و النعاس والرغبة الملحة للنوم بعد رحلة قصيرة للقاهرة كانت حافلة بالكثير . موعد الآذان لصلاة المغرب حسب التوقيت المحلي لمدينة القاهرة مر عليه ثلث الساعة بقليل، قبل أن أقوم بتأدية الواجب الديني وأعود لأتكئ في مقعدي الوثير أراقب وحيدا حركة صعود وهبوط الطائرات في إنتظار موعد سفريتي المتجة نحو الخرطوم

    تناثرت أمام طاولتي كل صحف القاهرة الصادرة صباح اليوم ، فأخذت سريعا أقلب النظر بين عناوينها العريضة لإستجلاء أي خبر مثير يضيف لمعرفتنا للبلاد ولتأملاتنا في الثورة شيئا ما . كان آخر يومين مرهقين للغاية وحافلين بالكثير من الزيارات و المناسبات والأحداث الطيبة . جمعت الصحف في حقيبتي الصغيرة مفضلا أن أمتع بهما الفؤاد و الناظر في غرفتي بأمدرمان ، ثم أتجهت بعدها لإحتساء كوب من الشاي الساخن و تكملة تدوين ماتبقى لي من مشوار التأملات في ثورة 25 يناير .... الثورة التي نصرت الجياع

    نعم الجياع يا صاحبي ... فالمصريون فاض بهم الكيل فقرا و جورا وحسرة من سياسات نظام المخلوع مبارك، فكان لهم تلك الثورة العظيمة التي غيرت معالم كل المنطقة العربية ونصرت معها كل جوعى الفقر و جوعى العدل وجوعى الديمقراطية من أفراد الشعب المصري المقهور

    تثاقلت يداي في كتابة الملاحظات والعناوين العريضة على أحداث اليومين الأخيرين في مدونتي مع صرخات الجسد وأوجاع السهر، وبدى لي أن الذهن بات هو الآخر يناصر الجسد فراحت عني كثيرا من قوى التركيز و التدقيق

    عموما دع البداية يا صاحبي تكون بمناسبة القصيدة الجميلة التي نظمتَ عقدها في مايو من العام 2004م بالقاهرة ، و كيف أنها أثارت مرارا و تكرارا فضولي واستجمعت كل ثائرتي الأدبية وتملكت قدرا ليس بالهين من أعجابي ، فدفعتني دفعا لزيارة ذلك المكان . ( كنسية و مدرسة القديس سانت أندروز للغات بالقاهرة ) ...

    مهد هذه القصيدة الرائعة حيث كنت تدرس اللغة الأنجليزية بصحبة تلك الفتاة السودانية اليانعة التي ألهمتك كتابة أبيات من الشعر الرومانسي العذري رغم هجرك لهذا الدرب ردحا طويلا من الزمان ، وأعادت إلينا ذكريات الصبا المترعات لهوا وإنتشاءا و أزدهارا وسكبت فينا من معين الخواطر ومجريات الدهركؤوسا مترعة احتسيناها ثاملين بنهم فلم ندري أهي خمر معتقا أم خمارا !!؟

    ز... أزكى من المسك وأضوا *** من سنا الاقمار والشمس

    ...ز ... قالت حين التقيتها *** وجمع من الطلاب فى الدرس

    ز .. قالت انى افتقدتك بصوت *** كلحن شجي من صدى الأمس

    وأفضتها بلغة الفرنجة *** بنطق سليم خال من اللبس

    وقالتها فاشعلت حياة القلب *** ان الحب يبدو من الهمس

    وأحيت بها روحي وأني بدونها *** ميت يسعى خارج الرمس

    مدرسة القديس سانت أندروز للغات بالقاهرة فقدت ياصاحبي كثيرا من البريق والتوهج اللذان كانا يميزانها في فترة تردد طالبي اللجوء السياسي و الإنساني إليها من بني جلدتنا لدول الغرب . أظن أن إنفصال جنوب السودان ثم انحراف بوصلة الإهتمام الدولي بقضية دارفور لصالح الثورات العربية أو البرنامج النووي الأيراني أو حتى أزمة اليورو قد كان له أبلغ الأثر في ما انتهى إليه حالها ، فلم يعد هناك بعد اليوم طالبي لجوء يزدحمون في قاعات الدرس ولم تعد أيضا القاهرة مرتعا أو ملجأ دافئا لهم

    أتيناها مساءا وأنا في طريقي لسور الأزبكية ، وكان لفيح البرد و برودة شتاء القاهرة القارس و ظلمة المكان وحركة الرياح الباردة الشديدة المتسارعة مدعاة لي للوقوف على الأطلال سريعا ثم المرور منها مرور الكرام دون تأخير

    تضايقت من ذلك كثيرا وتبرمت بكلمات متقطعة لاتحكمها جمل مفيدة لصديقنا المشترك راشد الذي كان يرافقني وقتها ! أيعقل أن يحرمني هذا الطقس السيئ حلاوة الجلوس وطلاوة تأمل ذلك المكان الذي مثل مصدر إلهام لك لمنشأ تلك القصيدة الرصينة التي ترنما بها سنوات عدة ، وأثارت تفاصيلها شجونا فينا وكأنها واحدة من إبداعات المسرح العالمي لشكسبير

    بل هل يعقل أن يحرمني هذا الطقس السيئ متعة تذكر كلماتك و قصصك وطرائف هذا المكان الذي أزاح حملا ثقيلا و هموما عريضة للكثيرين من بني جلدتنا بعد أن فروا من جحيم الوطن طلبا للعيش والحياة الكريمة في بلاد العجم !

    ابتسمت لحظتها من سخرية الزمان و الأقدار ... تأمل يا صاحبي توارد الخواطر العجيب ! فما عكر صفوي لحظتها من رداءة للطقس شابه حالك مع من عكرا صفو لقائك مع صاحبة الشأن بالأمس! ذلك الفضوليان اللذان أفتتنا مثلك بسحر جمالها وقوامها الممشوق وعيونها الفاتنة الساحره ولسانها الذرب وكان إنطباعك عنهما غير جيد ...... فأخذنا نردد معها أبيات شعرك

    وعكر صفو اللقاء فضوليان أولهما *** سيى الصيت من دناءة النفس

    وأخر تآسى لجهله وهل *** يعقل ادعاء قرابة الشمس ؟

    وحال الأخير دون وداعها وأختها *** نورا وداعا يليق فيانحسي

    فاجعتى أن حان انقطاع *** لاسبوعين من واجب الدرس

    وألاعجل يوم عشرين إننى *** أرانى حزينا مثقل النفس


    * * *


    اتجهت مجددا نحو كوب الشاي ولفت نظري أثناء ذلك مجموعة شبابية من الفتيات والفتيان المصريين تعالت أصواتهم وهم يتآنسون وبدى لي أنهم في فرحة عارمة وحماس مثير برحلتهم الجماعية ، رمقتهم للحظات بغبطة وكان لسان حالهم أمامي يغني عن السؤال ! حالهم يفتي و يشرح بجلاء كيف أضحت روح ونفسية شباب مصر بعد الثورة ، مصر الحرية ، مصر الديمقراطية والعدل ، مصر دولة الجميع ...... !!؟

    استدرت ثانية لمدونتي وأنا أقلب الذكريات الجميلة لهذه الرحلة السعيدة وأدون الأحداث حروفا و كلمات ، أتفطر حزنا تارة لفراق هذا المكان وأبتسم تارة أخرى كلما طافت بذهني مواقف و أيام هذا الأسبوع و شخوصه الذين جملوا و زينوا لنا الأوقات بطيب صحبتهم و سمو أخلاقهم

    وسط القاهرة ... وتحديدا ميدان طلعت حرب أخذني مجددا بعيدا من أجواء المطار والمطعم نحو صفحات مدونتي

    تذكرت كيف هزم هذا المكان مقولة ( القاهرة المدينة التي لاتنام ) ! نعم ياصاحبي فقد أصبحت القاهرة المدينة التي تنام ........ فما جرى على أيدي حبيب العدلي وزير داخلية مبارك و زمرته من قتل للثوار واستخدامهم لنزلاء السجون والبلطجية لكبح جموح الثورة وما ( معركة الجمل ) ببعيدة عن الأذهان ! أغضب الشعب المصري بأسره عليهم ، وانسحب ذلك للأسف الشديد على جهاز الشرطة بأكمله و الذي ظل منذ قيام الثورة وحتى اليوم يعاني من ضياع الهيبة وعدم القدرة على تنظيم وفرض النظام ومنع الجريمة في البلاد

    من أجل هذا فالقاهرة أضحت ياصاحبي كأخواتها من العواصم والمدن العربية تنام ملء جفونها وتغلق أيضا محالها الرئيسية أبوابها منذ الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل خوفا من البلطجية وعدم استتباب الأمن بشكل كامل ... أسأل الله أن يعيد للقاهرة تلك الأيام المشهودة ولليالي أنسها وفرحها سيرتها الأولى

    تدري جيدا ماحل بنا في سوح الحزب وما انتهى إليه حالنا لتلك المشاركة الهزلية مع الإنقاذ ، والتي أججت بيننا روح الخلاف و شرارة الجفاء وشؤم الإنشقاقات . ولا أظنك تجهل أيضا مدى الحسرة والإنكسار اللذان أصابا كل قواعد الحزب خصوصا شبابه وطلابه ، الذين كانوا وما زالوا يحلمون أن تنعش موجات الربيع العربي ذاكرة شعبنا الذي كان سباقا قبل غيره لهذه الثورات . طلاب وشباب ظلوا بنكران ذات عجيب يناضلون للتغيير الحق و العزة والكرامة المستحقة للشعب و التي لاسبيل لها من وسيلة في نظرهم غير تغيير النظام الحاكم أو إسقاطه إن كان لهذا الأمل والطموح المشروع سبيلا

    من أجل هذا ولغيره كانت ( القاهرة ) ياصاحبي فرصة ثمينة لي للترويح عن النفس، ومحاولة جادة لتناسي مآلنا القبيح الذي أورثته لنا تقلبات السياسة وأهواء مشتغليها ، وكانت منحة من الله عز و جل في الخير أن ألتقي شقيقي وأستاذي في الحزب الحبيب حاتم السر علي

    هي( القاهرة ) بكل تجليات الماضي بإرثها النضالي الثوري الثر ياصاحبي حينما جمعت يوما ما إخوة لنا بالتجمع الوطني الديمقراطي تحت شعار ( سلم تسلم ! ) . زمرة ظلت تطلب الديمقراطية والعدل وقيام دولة السودانيين جميعا بكافة نحلهم و أطيافهم وأعراقهم وأديانهم دون فرقة أو تمييز وقدمت في سبيل ذلك كل الغالي والنفيس ، وكنا وقتها نحن طلاب من خلفهم بالخارج نساند القضية بكل ما أوتينا من قوة و نتتبع بشغف شديد تصريحات ناطقيه الرسميين الشقيق حاتم السر علي والمناضل الجسور ياسر سعيد عرمان في وسائل الأعلام المختلفة

    جلستي مع الحبيب ( حاتم السر علي ) كان بهية و رائعة وحملت معها وجهان ... إجتماعي سرنا أنّا وجدنا فيه أخبارا طيبة، وآخر سياسي كان بدوره مثمرا لدرجة عالية شحذنا عبره بالصبر على المكاره والمصائب التي يمر بها حزبنا العظيم في هذه الفترة ، وتمسكنا من خلاله بحبال الصمود والعزيمة أملا أن تنجلي الغمة وينزاح الحمل الثقيل عن كاهلنا سريعا

    أثناء جلوسنا في المطعم أنا و أستاذي حاتم السر علي دخل علينا مصادفة القيادي الأسلامي بالمؤتمر الشعبي المحبوب عبدالسلام ،و ما أجملها من مصادفة عجيبة يا صاحبي .... استأذن المحبوب بطرافة أن يشاركنا المجلس إن لم يكن هنالك مانع أو اجتماع حزبي ! وجدنا أنفسنا وبعد انضمام إخوة لنا آخرين منهم الأخ الفنان أبوذر عبدالباقي عضو فرقة عقد الجلاد السابق والأخوان راشد حسين و احمد سعد والقائد الميداني بقوات الحركة الشعبية مؤنس نجلس في مائدة مستديرة تشمل كل أطياف النسيج السياسي السوداني من إتحاديين وإسلاميين و شيوعيين ومستقلين فعمرَ بيننا الحديث وطاف بنا شرقا و غربا وإن لم يخرج بطبيعة الحال من نطاق هموم الوطن و ثورة 25 من يناير و تداعياتها المحلية والخارجية . كان يوم رائع وأحسب أنه سيظل خالدا في نفسي وراسخ في الذهن أبد الزمان

    قام الأخ العزيز المحبوب عبدالسلام بعدها في نهايته بدعوتنا واستضافتنا في شقته العامرة، وكانت لنا معه أيضا صحبة طيبة و جلسة خالدة أخرى مليئة بالوجبات الثقافية و السياسية و الفكرية الدسمة، صحبنا فيها وزان حضورها الكاتب الكبير والمثقف الضليع فتحي الضو ، والذي يبدو أنه كان يعد العدة مع نسائم ثورة 25يناير لتدشين كتابه الجديد بمعرض القاهرة الدولي للكتاب

    هنا توقفت قليلا عن الكتابة مستديرا بوجهي ونظري أراقب هبوط طائرة في مدرج مطار القاهرة القديم أثار ضجيجها أنتباهي ! ........ أخذتني تلك اللحظة لتأمل أمر هذه المصادفات الجميلة التي حفلت بها رحلتي بالقاهرة ، أشكر الله كثيرا أن جمعتنا الأيام بمفكرين وكتاب في جلسات أنس ثقافي و فكري و سياسي من أمثال هؤلاء . فرغم البون العريض يا صاحبي الذي يفصلني عنهما في بحور السياسة والفكر ألا أنني لا اخفي أبدا أنني أكن لهما كل التجلة والتقديرو الأحترام على ملكة الأبداع في القلم والأجادة الكاملة في البيان اللتان يمتازان بها وجعلتني أدمن كتاباتهما وأصطفي أسلوبهما دون الآخرين

    ما أروع هذه القاهرة التي تجمع الأضداد ! تناولت كوب الشاي مرة آخرى ، وأحتسيت منه شربة طويلة ثم قلبت بعدها الصفحة الأخيرة التي بدأتها بكتابة بعنوان عريض ..... ( صور أنسانية في الذاكرة)

    في زيارتي لمنطقة الأهرام تشبث بيدي طفل يبلغ من العمر حوالي عشر سنوات كان يحمل مجموعة من التحف والنماذج لأبي الهول و الأهرامات

    أصر أن أشتري منه بعضا من بضاعته وكان من سوء حظه أنه التقاني بعد جولة طويلة في المكان، أخذ مني باعتها و مرشديها بسوء و رداءة أسلوبهم لجني البقاشيش كل الجهد و العناء في التحاور و الإستلطاف و الشراء ! شكرته بلطف وقلت له أنني لا أرغب في الشراء، ثم مازحته رغبة لتنفيره وإبعاده عن طريقي بالقول ( انني أيضا فقير مثلك ولا أملك قوت يومي ، حتى انني جائع ولم أتناول أي طعام منذ الصباح ، هل لك من سبيل لأعطائي قروش لكي أفطر ؟)

    كان يظهر جيدا على أسلوبي عدم الجدية و المزاح وأنا أوجه أليه الحديث ، إلا أنني فجأة وجدت الطفل يمد لي مبلغا من المال يطلب مني أن أشتري به طعام ! يا سبحن الله من طيب و كرم ومروءة هذا الطفل .... أخذت منه المبلغ لأختبره ظنا مني أنه غير جاد في عطيته ، فناولني المبلغ و أتجه بعيدا ليبيع بضاعته ...... !!!

    لم أصدق أبدا ما جرى امامي و ذهلت للحظات من هول هذه الموقف الأنساني العظيم الذي ترائى أمامي من قبل هذا الطفل الطيب العظيم والذي لم يمنعه فقره من كرم و جود يديه . ركضت سريعا إليه وشكرته وأرجعت له المال، وذكرت له أنني لم أكن أقصد أبدا كلامي بالمعنى الحرفي ! إشتريت منه ما قدره الله واعتذرت له ثانية ثم آنسته و قمت بوداعه . إبتسمت وضحكت لتذكري هذا المشهد وأنا في مطعم المطار ولحظت أن بعض ممن كان حولي بدأ يلحظ إنفعالي العاطفي دون رفيق ! أظنهم شكوا في قواي العقلية يا صاحبي ! إنه الوجه الاخر للإنسان المصري البسيط المكافح الذي لم أتعرف عليه إلا في ذلك اليوم ...... إنه النقاء في السريرة و الكرم في قمة العوز و الضنك، ولا أظنك يا صاحبي قد حدثتني عنه يوما رغم طيلة فترة أقامتك بالقاهرة !!؟

    قبل أن أسدل الستار ويجف قلمي عن تدوين التأملات يعزني جدا أن أروي لك حدوته مصرية انسانية أخرى

    مسرحها ميدان التحرير وبطلتها طفلة أخرى أصغر كثيرا من طفل الهرم .... في ميدان الثوار الأحرار أو ميدان التحرير الذي كان بوتقة الثورة الميمونة كانت الأجواء هنالك في غاية الروعة والجمال ، و الكل هنا لا حديث له غير الثورة وتداعياتها و رمزية المكان الذي أسقط ديكتاتور مصر المتجبر . ( الثورة ملك مصر وملك جميع الشعب المصري ) هكذا كان يردد و يصيح الجميع في الميدان ....... الثوار الذين بدأوا منهمكين بمسيرات غاضبة تطالب بتسليم السلطة للمدنيين من العسكر ! هي معركة جديدة مستحدثة مع المجلس العسكري كانوا في خضمها أيضا منشغلين بالإعداد لإحتفالية الذكرى الأولى للثورة لتكون معبرة عن مطالب الشعب و الثوار في أكمال اهدافهم التي يقولون أنها لم تتحقق كلها

    البسطاء أيضا يا صاحبي من الباعة المتجولين كانوا يرون أنهم شركاء أصيلين في الثورة بل هم حماتها و فرعها الأصيل بحكم أنهم أكثر الفئات الأجتماعية المتضررة من الحكم السابق . كانوا يبيعون أعلام الدول العربية التي انتظمتها موجة الربيع العربي وبعض المحتويات الصغيرة التي تعبر عن تمجيد ثورة 25 يناير ويصيحون ويدندنون بأغاني الثورة جزلين فرحين ...... كانت أجواء ياصاحبي يعجز القلم أن يصفها أو أن يبرع في نقلها و وصفها للقارئ .... أسأل الله أن نكون موعودون يوما لنعيش في كنف هذه الحريات و الديمقراطية ودولة العدل التي يستقيم فيها الحكم ويتساوى أمام القانون الوالي و الرعية ، و يعي فيها أي فرد من القوات النظامية أنه خادم للشعب وليس سلطان عليه ، وتصرف فيها الدولة من ميزانيتها للصحة و التعليم والخدمة الأجتماعية والسياحة أضعاف ماتنفقه في الدفاع والأمن

    أعود لسرد مابدأت به حديثي ...... أمام المطعم الأمريكي ( كنتاكي ) المطل على ميدان التحرير وقفت ( نعمة الله ) الطفلة ذات الخمسة أو الستة ربيعا أمام طاولة خشبية متهالكة تبيع صور وسلاسل وأعلام الثورة . لفتتني كما لفتت غيري صغر سنها و تعديلها المتكرر لرباط رأسها كلما لعبت الرياح به وأزاحته من شعرها ! كانت في غاية المرح وهي تتعامل مع جمهور الميدان الذين بدو هم أيضا معجبين و مندهشين في آن واحد من صغر سنها وعظم التجربة القاسية التي حرمتها من طفولتها ورمتها وسط أقدار هذه الأجواء القاسية لتعين والدها في البيع

    دار بيني وبينها الحوار التالي ( سلام عليكم ......... وعليكم السلام يا بيه ! إسمك مين يا شاطرة؟ إسمي نعمة الله . فين بابا يا نعمة الله ؟ راح مشوار . إتفضل إشتري يا بيه عندنا كذا و كذا ! حلو يانعمة ... ليه مغطية راسك ومتحجبة وإنت لسه صغيرة يا نعمة ! لازم يابيه مايصحش كدا أمشي وسط الناس وشعري فاتح !! أخرجت من جيبي مبلغ بسيط وقمت بمده لها ، فهزت نعمة رأسها أمتعاضا وقالت : أنا ما باشحدش يا بيه - كدا عيب - لازم تشتري مني حاجة !!

    سبحن الله رغم العوز و قلة الحيلة ألا أن الله أبدل هذه الطفلة بهما عزة نفس وكرامة وصلابة وإيمان ورضاء بالقضاء والقدر! لقد كان درسا بليغا مجانيا ياصاحبي اسدته لي نعمة الله !!

    طيب يا نعمة الله هاشتري بس هروح مشوار وأجي بس أنت شيلي الفلوس ! .....طيب يا بيه أنا منتظراك بس ماتتأخرش ! إلتفتت نعمة الله لبقية المشترين وأخذت تقفز بمرح شديد علامة للفرح كلما جنت مالا من بيع بضاعتها، و كانت تشرح لهم الأسعار بوجه مبتسم وروح معنوية عالية وسط الجو البارد القارس وكأنها غير عابئة بقسوة الطبيعة من حولها ، وأخذت أنا بدوري أبتعد عنها متابعا حركتها حتى غابت عن ناظري !!؟

    ظللت طيلة اليومين الاخيرين أفكر في حال هذه المسكينة ... نعمة الله أصغر بائعة في ميدان التحرير ! هذه صورة كفاح جديدة أسدتها لي هذه الرحلة ... قررت إكراما للميدان ولعظمة هذه الطفلة نعمة الله أن يكون الميدان وتكون نعمة الله آخر ما أفتقدهما بعد مغادرتي القاهرة

    عدت إليها قبل توجهي للمطار بساعة، فلم أجدها في نفس المكان ! سألت من كان مكانها من باعة الميدان فابتسم وقال لي ( مين مابعرفش نعمة الله، هي استبدلت مكان البيع لمسافة تبعد 300 متر فقط شرق الميدان وأشار لي للإتجاه ) ماشاء الله الكل هنا يعرف نعمة الله، أصغر بائعة في ميدان التحرير و نوارة المكان . الجميع يعتبرها إبنته يرعاها ويحسنون معاملتها رغم أنها تمنحك إحساسا عظيما بتحملها للمسؤولية

    مشتاقين يا نعمة الله ... إبتسمت وردت ببراءة طفولية ( فلوسك محفوظة في الصون يابيه! ) يا سبحن الله من أمانة هذه الطفلة !!

    عاوز اشرب معاك شاي وأودعك يا نعمة! فين رايح ؟ رايح السودان . آه أنا بعرف سودانيين وبعرف برضو صوماليين! بدت لي أنها لا تميز بين البلدين، غير أنها ألصقت سواد بشرتنا عليهما ! عموما لايهم، فهنالك من النخبة المصرية من لايعرف عن السودان غير عاصمته الخرطوم ونهر النيل الذي يشق كامل مساحاته !!!

    طلبت كوب شاي فأصرت أن تحضره لي بنفسها فسألتها وين ساكنة ؟ في طنطا يابيه ! عجبت للجواب لأن طنطا بعيدة عن العاصمة المصرية وهي بمثابة السفر ، ومن الصعب بل من المستحيل عليها ولوالدها الرجوع يوميا والعودة للميدان للبيع !!

    طيب وين بتنامي يانعمة؟ هنا مع بابا ! فين هنا ؟ أشارت لي أسفل الطاولة المغطاة من كل الجوانب ! هنا تحت الطاولة ؟ آيوة يا بيه طيب مش برد عليك ؟ لا نحن مدفيين كويس وبنغطي الأرض بالبساط دا

    سبحن الله ما أقساها من حياة لهذه الطفلة المجاهدة وما أصلب عزيمتهاوصبرها عليها !!

    أخرجت من جيبي مبلغ آخر، فضحكت هذه المرة وقالت : تاني يابيه طيب ومبلغ امبارح ؟ لأ يا نعمة الله دا عشان اشتري بيه اليوم ماتخلبطيش الحساب ! . بدى لي أنها أدركت تحايلي فابتسمت برضا ... طيب يا بيه عاوز تشتري إيه ! أكملت كوب الشاي ووقفت قائلا لها عاوز أودعك بس يانعمة

    هل لك دعوة لأبيك يا نعمة؟ آه يابيه ... آيه بتقولي ليه يا نعمة ؟ بقوله كل يوم ( الله يحنن قلبك يا بابا علينا و يرزقك بعددنا ) هنا لم تتمالكني دموعي فحاولت جاهدا أن أخفيها عنها فأستدرت منها مخفيا وجهي ! ما أبر هذه الطفلة بوالدها ( خلاص ماتنسينا من دعوتك يا نعمة الله .... أدعيلك بأيه ؟ أي حاجة يا نعمة الله ...... مش عارفة ؟ أي حاجة كل منك جميل يا نعمة الله ! خلاص طيب يا بيه)

    يا الله سلام عليكم يا نعمة الله أشوف وشك بخير ! هتجي بكره عشان تشتري مني ؟ أن شاء الله يانعمة ...... خلاص أنا هحفظ لك فلوسك يابيه . لو ماجيت يا نعمة انا عايزك تأخديها ليك ..... صمتت لثواني و كانت علامات عدم الرضا ظاهرة عليها .. عشاني يا نعمة الله ! خلاص يابيه!!

    هذه هي اجمل وأبلغ الصور الإنسانية و كانت أعظم ماوجدته في ميدان التحرير الذي يعج بالكثير والكثير من القصص الإنسانية التي تشابه قصة نعمة الله و يصعب بالكاد حصرها وسردها في مساحة هذا المقال ...... ولكن تأكد لي يا صاحبي أنه يكفي نعمة الله ولكل جيل مصر القادم أنهم سينشأون في وطن بدأ يسترد عافيته بعد سقوط الديكتاتور و سقوط بطانته الفاسدة التي سرقت حق نعمة الله في طفولتها المنتهكة وحقوق كل الشعب المصري ، وفعلا إذا الشعب أراد الحياة يوما ، فلابد أن يستجيب له القدر

    النداء الأخير للرحلة المتجهة للخرطوم

    أغلقت مدونتي وجمعت حاجياتي وأنهيت كتابة كل الملاحظات الأخيرة وبقية تأملاتي في القاهرة وفي الثورة الميمونة التي نصرت الجياع.

    أعلم جيدا أنها لم تشمل كل المتغيرات التي عمرت مصر بعد الثورة ، فهي تبقى غيض من فيض لكنها للحقيقة معظم ما استطاعت أن ترصده حواسنا في أسبوع زيارتنا القصيرة .....

    أسندت ظهري في كرسي الطائرة وأسلمنا الجسد لنوبة نوم عميق !!!

    أخي القارئ ..... صدقا لابد من الديمقراطية والعدل والمساوة والجزاء وإن طال السفر
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de