شبه جزيرة الغياب

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 08:53 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-07-2006, 11:34 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
شبه جزيرة الغياب

    شبه جزيرة الغياب

    1-Applebee's

    أيهذا المطعم,
    الممجّد بتلاوين أصنافه،
    وطنافسه المسهوكة بفعل العناق،
    ها أنا في شبه جزيرة الغياب،
    "أقدل" مرفوداً بتعاويذ الغيب،
    أرى:
    معاطف مركونة في اقصى النشيح,
    قمصانأً تتحدث بلغة الريب عن مشكاة الحضور،
    غرباء بذكريات اللازورد عن الخضرة الضائعة,
    ربطات عنق موشومة بالسراب,
    "أناي"، وهي "....."،
    في اقصى ركن الهذيان,
    نتأبط حسنا من بقايا عذوبتنا،
    و نتأمل الغياب المرصوص على طاولات الحنين

    2-مونتري:

    بحّارة النعاس يشربون ,
    ويرقصون،
    ويغنون,
    على ايقاع الأرق,
    بملابسهم المتسخة من كثرة الغياب,
    يرقصون من فرط الذبح,
    ويعلقون هديلهم على سارية النسيان،
    البحارة الذين سموا شوارع المدينة باسماء عشيقاتهم،
    اللواتي ينتظرن الذين لن يصلوا ابدا الى الميناء،
    البحّارة الذين كانت تحييهم الدلافين في طريقهم للخمّارات،
    الذين كانوا يستمعون الى قرامافون "شتاينبك" ،
    يصدح بموسيقى "تشايكوفسكي،
    حين كان يكتب "عناقيد الغضب"،
    قبل ان يذهب الى فيتنام ،
    ويدعو الجنود الامريكان من حوامته،
    الى قتال الفيتناميين,
    البحارة الذين تخلدهم عشيقة شتاينبك،
    في ناديها للرقص الشرقي:
    رقص شرقي،
    وسحاقيات ،
    ولواطيون،
    و عجائز راقصات بكروش مترهلة،
    وذكريات غير متبوعة بنشيج محموم,
    ودموع لا تحتاج الى مناديل,
    وعرب يعزفون على الدربكة,
    بسرحان قصير،
    تتخلله آهة مكتومة,
    ومستشرقون يعزفون على الطبلة,
    ومستشرقات مترهلات,
    يقرأن النوتة الموسيقية العربية ,
    بحس السحاقيات الذاهلات ,
    الباحثات عن معنى "للشرق" الماسي اللمعان,
    الشرق الذي تبحث عنه السحاقيات ،
    بعين المحيط الهائج والهادئ معا,
    الشرق بعينين سحاقيتين مسحوقتين,
    في غمار موجة من المحيط الهادئ ،
    الشرق الذي يبدو ولا يكون،
    من فرج الغياب

    3-الاسكندرية الفرجينية أو لمعان الغياب:

    ماذا سأفعل باللمعان الخفيف الذي تركه غيابك على ردهات روحي؟
    اللمعان الكسير كشكّة ابرةٍ في بطين وردةٍ،
    اللمعان المتلجلج كتأتأة الوردة في غابة المعنى,
    المرتاب كعصا الأعمى في متاهة الوجود
    .............................................،
    .....................................،
    .......................................،
    .....................................،
    .............................................،
    في "داون تاون" مدينة العشاق –القديمة-
    تنزهنا،
    وبعد كل نزهة،
    كنت تضعين مشاعرك في "رُبطة"،
    تودعينها خزانة الدموع،
    وكنت أضع مشاعري في "رُبطة"،
    أودعها قعدات " العزّابة":

    "العزّابة" الذين يكتبون بكاءهم على حافة الكؤوس،
    و "يكسرون " كأس الغربة بثلج "القعدة",
    و يرقصون مع ذئاب الحنين,
    و يبكون خيباتهم مع "حكّامات" الألم,
    و يستبدلون قصر قاماتهم،
    بدوبيت حزين على ساحل المحيط الهادئ,
    و يكسرون عزلة "الغيتو" ،
    بقيثار الولد الموسيقي الهارب من الخدمة العسكرية,
    الذين يترهل حنينهم كل يوم ،
    و على ايقاع لعب الورق،
    يدخنون غلايين حرقتهم في الفضاء المكبرت بالصمت,
    و يحلبون الأمل من ضرع الغياب
    **

    الاسكندرية اكتوبر 2005-مونتري يوليو 2006

    (عدل بواسطة osama elkhawad on 07-08-2006, 09:59 PM)

                  

07-08-2006, 02:09 AM

حاتم الياس
<aحاتم الياس
تاريخ التسجيل: 08-25-2004
مجموع المشاركات: 1981

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    هذا شعر حقيقى
    خلق متكامل وبهى

    لكن ياحواض هل مازال شرقنا مدفون فى أخيلتهم منذ أن ترجموا الف ليلة وليله..بهذا الفدر من الأسطره البالية!!!

    نفتقد لمتل هذه الكتاية..فالمشهد الأن مويؤ بكتابات ماسخه ومستنسخه
                  

07-08-2006, 03:15 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: حاتم الياس)

    شكرا صديقنا حاتم على كلامك الجميل المشجع حقا
    قلت:
    Quote: لكن ياخواض هل مازال شرقنا مدفون فى أخيلتهم منذ أن ترجموا الف ليلة وليله..بهذا الفدر من الأسطره البالية!!!
    هكذا يبدو الامر في النص الشعري كما تفضلت
    تحياتي لخلدون والاصدقاء المشتركين
    ارقد عافية
    المشاء
                  

07-08-2006, 04:10 PM

Emad Abdulla
<aEmad Abdulla
تاريخ التسجيل: 09-18-2005
مجموع المشاركات: 6751

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    Quote: "أناي"، وهي "....."،
    في اقصى ركن الهذيان,
    نتأبط حسنا من بقايا عذوبتنا،
    و نتأمل الغياب المرصوص على طاولات الحنين
    يا مشاء ..
    .. عذرا :
    قاتلك الله .. كما تشتهي .
                  

07-08-2006, 05:20 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: Emad Abdulla)


    صديقنا عماد:
    مرحبا بك في متاهة الغياب
    ارقد عافية
    المشاء
                  

07-09-2006, 01:45 AM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8629

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    صباح الشعر يا خواض
    بتوقيت الغائبين

    الخايضين ملح سرمدية المسافات التى لا تنتهى

    Quote: ها أنا في شبه جزيرة الغياب،
    "أقدل" مرفوداً بتعاويذ الغيب،


    وقميص البحر يا مشاء
    قُدّ من جهاته الثلاث، وليس ثمة أرض تجود بموطئ قلب
    إذن فل "تقدل" فى سربال الشعر فوق براح الهواء
    أو، وفى قول آخر
    فلتسرى بك وبنا

    لا أدرى يا اسامة
    لِمَ عنّ لى وجه "جيمس جويس" متخفيا تحت بردة "أوليس" وسط رائحة هذا الغياب
    متابطا حلم العودة الذى لا يعود

    وأرقد سماحة وشعر يا مشاء
                  

07-09-2006, 01:51 AM

newbie

تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 797

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: أبوذر بابكر)

    وقميص حبك قد من قبل
    ومن دبر
    فأي شفاعة في الناس ترتق ما تفتق
                  

07-09-2006, 04:17 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: newbie)

    شاعرنا اباذر ،
    مساء الخير بتوقيت البنفسج

    مرحبا بعودتك معافي ومبدعا كعادتك
    قلت في ما قلت من كلام معطون بالدهشة:
    Quote: لا أدرى يا اسامة
    لِمَ عنّ لى وجه "جيمس جويس" متخفيا تحت بردة "أوليس" وسط رائحة هذا الغياب
    متابطا حلم العودة الذى لا يعود

    ربما هي تجل من تجليات الغياب والسفر والمتاهة الوجودية للكائن الانساني في مازقه
    مرحبا بصديقنا نيوباي ،بعد غياب طويل،
    نرجو ان تكون دائما بخير يا صديقنا الجميل
    ولكما عاطر الحب
    وارقدا عافية
    المشاء
                  

07-09-2006, 05:43 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    "عناقيد الغضب" لاشتاينبك
                  

07-09-2006, 08:05 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    هنا صور لمطعم ابلبيز:






                  

07-09-2006, 08:23 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    وهنا صور لمونتري في ولاية كاليفورنيا ،والتي كتب عنها جون شتاينبك،
    وله منحوتات،وصور ،ومتحف شمع،و منزله تحوّل الى متحف


                  

07-09-2006, 08:50 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)
                  

07-09-2006, 09:42 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    يبقى السؤال :
    ما العلاقة بين المكان والنص الشعري؟
                  

07-11-2006, 03:34 AM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8629

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    Quote: ما العلاقة بين المكان والنص الشعري؟


    عوافى يا مشاء

    هل يخلق المكانُ النصَ؟

    أم العكس صحيح

    هل يمجد النصُ المكانَ؟

    أم العكس صحيح

    أظن يا اسامة أن اليقين بحتمية الإجابة، إيجاباأو نفيا، فى كلا السؤالين، وكذلك فى "عكسيهما" لا تطاق هنا
    إذ طالما كانت جميعها، أعنى الإجابات، هناك
    والإجابة ب "نعم" فى أى منها تأتى دائما من تجسيد صريح، وفقا للشواهد والشهود
    وكذلك هو الحال فى "لا"

    بمعنى أن كثيرا من النصوص الشعرية قد قامت بوظيفة "إعادة خلق" العديد من الأمكنة
    فى خاطرى الآن "جيكور" السياب، فقد أعاد بدر تشكيل المكان وفق ما رأه وتشابكت عظام النص بلحم المكان وقال لها السياب كونى فكانت شيئا واحدا
    تقرأ النص السيابى فلا تكاد تميز ما يفصل بين النص والمكان

    إذن، يظل السؤال كما هو

    أيهما خلق الآخر عند السياب، النص أم المكان؟

    وأصدقك القراءة والقول يا خواض، أنا شخصيا لا استطيع الإجابة

    اخترت بدر شاكر السياب تحديدا، ربما لإرتباط معظم شعره، إن لم نقل جميعه، بالمكان
    المكان فى مطلقه، ظاهرا وخفيا

    ثم هل بالإمكان هنا ومن وحى تجربة السياب، هل يمكن لنا الظفر بجزء من إجابة السؤال

    Quote: ما العلاقة بين المكان والنص الشعري؟


    ربما إذا جزمنا بإحتمالية تبادل دور الخلق، يمكن حينها "فكفكة" القليل من أجزاء الإجاب/ات

    أما فى حال آخرين ممن انتصبت الأمكنة وسط سهول كتابتهم، فنرى القليل من النصوص لديهم من النوع الذى يحتفى بالمكان، ومن مختلف زوايا التناول، نص هنا وآخر هناك، فى غير تماسك ظاهر بين التجربة ككل، كما هو الحال عند السياب مثلا، وحتى فى تلك النماذج من الشعراء ونصوصهم، يظل السؤال مغرقا فى إصراره على حيازة الإجابة

    أهى علاقة تكامل وتتام؟
    بمعنى أها نوع من الخلق المتبادل المتشارك فيه

    هل يقوم المكان، مجردا، بدور المبعث
    أم انه ليس سوى محفز للإحتفاء بأشياء أخرى، له فيها نصيب؟

    فى الخاطر الآن

    لوركا سنغور

    وسأعود إليهما لاحقا

    وحياك الخالق يا خواض
                  

07-11-2006, 12:34 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: أبوذر بابكر)

    واثل يا مطر في الحديث عن العلاقةبين المكان والنص الشعري،
    وليتك تحدثت عن تجربتك في هذا الصدد المعقد كما تفضلت في ملاحظاتك النقدية الثاقبة
    ارقد عافية
    المشاء
                  

07-11-2006, 09:57 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    "جماليات المكان"




                  

07-14-2006, 00:13 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    عزيزي المطر
    يبدو انك مشغول
    فقد كنت في انتظار ان تكمل لنا ما بدأته ،
    وأن تتحدث عن علاقتك كشاعر بالمكان

    ما طرحته عن العلاقة المعقدة بين المكان والنص الشعري في محله
    ومن ذلك التعقيد يمكن ان نتساءل كيف تبدو سنار مثلا في "العودة الى سنار" وفي خطاب عبد الحي الشعري؟
    كيف تبدو "الامة" في "امتي" لمحمد المكي ابراهيم؟وخاصة في :
    قطار الغرب
    ؟
    كيف يبدو تأثير المكان في نصوص شعرية سودانية مهمة مثل:
    عشر لوحات للمدينة
    لمحمد محيي الدين
    و
    شارع في حي القبة
    لفضيلي جماع

    هنالك تساؤلات كثيرة ،يا أباذر ،مطروحة على النقد السوداني,
    لكن يبدو ان أزمة الناقد ,وأزمة المؤسسة الاكاديمية قد ساهمتا في ما نشكو منه من قلة في تبصر علاقة المكان بالنص الشعري ,و ثيمات أخرى اهملتها أو عجز ت عنها المؤسسات الاكاديمية السودانية
    وفي انتظارك
    المشاء
                  

07-15-2006, 00:26 AM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8629

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    Quote: عزيزي المطر
    يبدو انك مشغول
    فقد كنت في انتظار ان تكمل لنا ما بدأته ،
    وأن تتحدث عن علاقتك كشاعر بالمكان


    لا والله يا مشاء
    ليس ثمة إنشغال، اللهم إلا بعض محاولات لخلق "ويك إند" فى بلاد تشكو قلة الأيام

    وحتما سوف أحاول لملمة القليل من علائق الشعراء بالأمكنة وكيفية دخولهم أو دخول المكان إليهم وإلى كتابتهم

    وأيضا سوف أحدثك عن علاقتى أنا بالمكان أو علاقته بى

    فإلى الملتقى
                  

07-14-2006, 02:21 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    أيهذا المطعم,
    الممجّد بتلاوين أصنافه،
    وطنافسه المسهوكة بفعل العناق،


    طنافس المطعم مسهوكة بفعل العناق. وليس بفعل الجلوس الطويل، او بكثرة تردد الزبائن على المطعم، وليس بسبب عتاقة المقاعد، وبخل اصحاب المطعم بتجديدها.
    الطنافس مسهوكة بفعل نشاط واحد معرف بالالف واللام.
    ال
    عناق.
    ولهذا السبب بالذات ترى فداحة الغياب فى النص. غياب الحبيبة. التى ربما عانقها كاتب النص فى هذا المقعد بالذات، فى هذا الركن بالذات، فى هذا المطعم بالذات، وصحون الشواءات تتناثر على المائدة والسلطة وفاتحات الشهية. والعناق فاتحة الشهوة. من طنافس المطعم يختتم العناق او يفتتح من جديد فى سرير الشهوات فى البيت حيث طنافس اخرى قد سهكها النوم الكثير او الحرمان او الاهمال او اضطراد العناق ومعافرات القرب الحميم.
    والغياب يأخذ بتلابيب الغياب. من غياب الحبيبة الى غيابات اخرى. مثل غياب الوطن، الذى يحاول الشباب اعادة اختراعه فى منافيهم ومهاجرهم باستعادة طقوس الحضور فى الوطن. القعدة والرقيص والغناء ولعب الورق و"ام فتفت" فى صباح الغد لطرد اثار الصبوح يا بهجة الروح!

    المكان والنص.
    المكان الحقيقى
    والمكان الميثولوجى.
    كاتب النص كانسان حقيقى
    وكاتب النص كاخر، منزوع عن الواقع detached from reality
    الغياب فادح
    ولكن الافدح منه الخيانة!
                  

07-14-2006, 12:01 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    شكرا صديقنا عادل على مداخلتك الثرية
    واعجبتني جدا المقاطع التالية في مقاربة نصي الشعري،
    ومقاربة العلاقة المعقدة بين النص والمكان:
    Quote: والغياب يأخذ بتلابيب الغياب. من غياب الحبيبة الى غيابات اخرى. مثل غياب الوطن، الذى يحاول الشباب اعادة اختراعه فى منافيهم ومهاجرهم باستعادة طقوس الحضور فى الوطن. القعدة والرقيص والغناء ولعب الورق و"ام فتفت" فى صباح الغد لطرد اثار الصبوح يا بهجة الروح!

    المكان والنص.
    المكان الحقيقى
    والمكان الميثولوجى.
    كاتب النص كانسان حقيقى
    وكاتب النص كاخر، منزوع عن الواقع detached from reality
    الغياب فادح
    ولكن الافدح منه
    Quote: الخيانة
    ! [/QUOTE]
                      

07-14-2006, 12:15 PM

خضر الطيب
<aخضر الطيب
تاريخ التسجيل: 06-24-2004
مجموع المشاركات: 9014

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    الاستاذ / اسامة الخواض


    لك التحيةوالتقدير


    لن نتجاوز ...حدود الصمت والتأمل ...........واصل ....لنواصل سكرنا
                  

07-14-2006, 02:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: خضر الطيب)


    مرحبا بك يا أخي العزيز خضر الطيب في متاهة الغياب والمكان
    وجودك قد أضاء المكان

    وسنعود لملاحظة صديقنا وشاعرنا أبي ذر عن المكان في شعر السياب
    ارقدن\وا عافية
    المشاء
                  

07-14-2006, 10:33 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    تحدث صديقنا أبو ذر عن علاقة السياب بالمكان حين قال الآتي في مداخلته الدسمة عن علاقة المكان بالنص الشعري:

    Quote: أن كثيرا من النصوص الشعرية قد قامت بوظيفة "إعادة خلق" العديد من الأمكنة
    فى خاطرى الآن "جيكور" السياب، فقد أعاد بدر تشكيل المكان وفق ما رأه وتشابكت عظام النص بلحم المكان وقال لها السياب كونى فكانت شيئا واحدا
    تقرأ النص السيابى فلا تكاد تميز ما يفصل بين النص والمكان

    إذن، يظل السؤال كما هو

    أيهما خلق الآخر عند السياب، النص أم المكان؟

    وأصدقك القراءة والقول يا خواض، أنا شخصيا لا استطيع الإجابة

    اخترت بدر شاكر السياب تحديدا، ربما لإرتباط معظم شعره، إن لم نقل جميعه، بالمكان
    المكان فى مطلقه، ظاهرا وخفيا

    ثم هل بالإمكان هنا ومن وحى تجربة السياب، هل يمكن لنا الظفر بجزء من إجابة السؤال


    Quote: ما العلاقة بين المكان والنص الشعري؟


    ربما إذا جزمنا بإحتمالية تبادل دور الخلق، يمكن حينها "فكفكة" القليل من أجزاء الإجاب/ات

    أما فى حال آخرين ممن انتصبت الأمكنة وسط سهول كتابتهم، فنرى القليل من النصوص لديهم من النوع الذى يحتفى بالمكان، ومن مختلف زوايا التناول، نص هنا وآخر هناك، فى غير تماسك ظاهر بين التجربة ككل، كما هو الحال عند السياب مثلا، وحتى فى تلك النماذج من الشعراء ونصوصهم، يظل السؤال مغرقا فى إصراره على حيازة الإجابة

    أهى علاقة تكامل وتتام؟
    بمعنى أها نوع من الخلق المتبادل المتشارك فيه

    هل يقوم المكان، مجردا، بدور المبعث
    أم انه ليس سوى محفز للإحتفاء بأشياء أخرى، له فيها نصيب؟


    وأدناه مقاربة مهمة عن جماليات المكان في شعر السياب نشرت في موقع الحوار المتمدن
    كتبها الناقد ياسين النصير من العراق



    1- بين المومس العمياء وحفار القبور اكثر من وشيجة فكرية وفنية فهي القصيدة التي تطورت عنها وعمقت مجرى الحياة للكائن المفرد المعزول وجعلتها حياة مليئة بالحس التراجيدي العام، وبالموقف السياسي المشبع بالعراقية اذا فهي قصيدة عن العراق وعن العالم، عن الكائن المفرد وعن الكيان الاجتماعي.
    وفى ضوء هذه المداخلة المربكة تمكن السياب من ان يحسم موقفه الفكري نهائيا وذلك بالانتقال من الصور الشعرية الكبيرة والموضوعة تحت اللافتة السياسية الى الصور الشعرية الاكثر تغلغلا فى الحس الاجتماعي الثقافى مع الابقاء على الطابع السياسي غير المباشر ومثل هذا الحس مكنه من الانتقال نهائيا الى الموقع القريب جدا من العتبة حيث تبرز الذات الشاعرة بروزا متميزا دونما نافذة اكثر سعة على العتبة " الذات " تحسم مرحلة التردد بين الانتماء الى القبر - الام او البقاء فى الساحة - المجتمع ، انها تجعل من هذه المواقف كلا متجانسا فى صياغة شعورية تنقل القصيدة الحديثة الى مراتب الملحمة المعاصرة .
    1-2 فى المومس العمياء يصبح الاغتراب مشكلة جماعية فالمومس العمياء ليست فردا امتهنت البغاء رغبة بل هي كيان اجتماعي مستلب اختلطت في ابعاده المأساة الفردية بالمأساة الاجتماعية وتحول جسدها الى جسد من طين ومياه ونفط يطؤه المحتلون باحذيتهم كما يطؤها عابروا الليل وطالبو المتعة ، لعلها صورة الام وقد خرجت عمياه تنشد ابناءها، ولعلها الارض وقد منحت منها لكل الواطئين عليها ولعلها الصورة المغبشة لمرأة السياب الاجتماعية .
    2- تفصح قصيدة المومس العمياء عن مستويين فكريين الاول هو المستوى الفردي للمومس ككائن وجد العيش يمر عبر بوابة البغاء، وهو مستوى مأساوى لكنه فى الوقت ذاته لا يتعدى حدود الحال المحبطة بفعل الضغط الحياتي العام ، اما المستوى الثاني، فهو المستوى الذاتي . الرمزي حيث يختلط فى المومس الوضع السياسي للعراق وقد تمثل بالوضع الذاتي لامرأة ذات جسد جميل ولكنها مطفأة العينين لاتبصر من هو المحتل ، هي الكيان الانساني الذي حمل فى احشائه ابعادا سياسية واجتماعية ، تداخلت قيم الذات بقيم المجتمع ومتطلبات الفن الشعري بمتطلبات القصيدة السياسية ، ونحن اميل الى اعتماد المستوى الثاني للتعامل مع القصيدة دونما الاغفال للمستوى الاول.
    2- 1 فى ضوء هذا الفهم نجد القصيدة ترسو بكليتها على الارض مكانا وزمانا وتتجسد عبر كل معطياتها بفرد معزول وعاجز مستلب بمعنى ان المكانية فى هذه القصيدة لاتناشد العلو ولا الما تحت كما قي قصيدة حفار القبور، بل ترسو على مشارف البيت - القبر، والجسد - الانسان، مع شمولها - رمزيا وواقعيا - للمحيط الاجتماعي لها هي اذا قصيدة لا تأويل مكاني فيها بقدر ما تفصح عن هوية المكان المألوف والكائن فى البيت وفى الجسد وعن الانسان المستلب المعبر عنه بالمومس والشعب .
    2- 2وتبعا لذلك نجد القصيدة تتمحور حول :
    2- 2- 1- البيت ويشمل فى ابعاده البيت المحدود الذي تسكنه المومس وتزاول فيه البغاء والبيت الشامل الذي يعبر به السياب عن العراق احساسا وتأويلا.
    2- 2- 2-الجسد ويشمل فى ابعاده الجسد المحدود للمومس ، الذي هو هويتها هو مكانتها - البضاعة - والجسد الشامل الذي يرمز به السياب للشعب.
    2- 2- 3- وكما يتوحد الجسد المحدود بالبيت -الدار المومس -يتوحد كذلك الشعب بالبيت الشامل - العراق وشعبه - اتحادا يعكس جانبا من حساسية الثقافة الشعبية الملتزمة ابان فترة الخمسينيات المعقدة ، مما جعلت السياب يشمل جميع أمكنة القصيدة بـ " العمى " فالمومس العمياء والمدينة مغطاة بليل آت من كهوف الازمنة الغابرة والطرق مطفأة
    إلا من عيون ميدوزا، والناس تهرب من القبور الى القبور يقودها عراف ضرير.
    هذا العمى المطبق على الواقع جعل القصيدة ترسو فوق ارض موحلة الحركة فيها موضعه، والكلام لا يقال إلا همسا - استرجاع الاسطورة والاحداث الماضية هو شىء من الهمس الفكري فى اذن الحاضر- اما الامكنة فمطفأة إلا من فانوس فنار، اما المومس فليست إلا زهرة فى هذه المستنقعات تعب من وحلها وطينها .. كل شىء فى امكنة السياب مستلب ومغيب ومغطى بالعمى والظلمة ولعل هذا المناخ الملتبس المتجهم هو الذي حمل بعض التقدميين على رفض هذه القصيدة فى حين ان المومس ليست إلا مثالا لشعب مقهور ومستلب يمتلك من الخيرات والثروات ما يجعله شعبا متميزا وحرا، السياب فى هذه القصيدة يركب صورا قاتمة افصحت عن رغبة دفينة فى ذاته اولا وعن ان الحداثة فى الشعر لم تجد طريقها عبر الاضواء والهتافات واللافتات - وهى حداثة فى أولى عهدها.
    ثانيا: بل تجد طريقها عبر المآسى المشبعة بالحس الجماعي والمحا كية للحزن الموروث جماعية .
    فى ضوء هذه الارضية استعار السياب فيها الاساطير باسماء ذات دلالة وليست استعارة تمثل لمناخ هذه الاساطير، كما انشأ صرحا من الرمز الواقعي الذي يتأسس على مشكلات واقعية ثم يشب عنها الى المطلق والحداثة الثانية بعد -هل كان حبا - تبتدىء بهذه القصيدة وهى حداثة تنأى بالشكل الى الفكر والمعنى والمبنى، بعدما كانت الحداثة وزنا وانطلاقة شعور وتعمل فى الروى.
    3-1 المستوى الواقعي: فى هذا المستوى نجد ظاهرة التوحد بين -البيت بمعنييه والعراق وقد تمثلا جميعا بصورة المدينة والليل ، وثمة توحد اخر بين المومس والشعب ، وقد تمثل هذا التوحد بالاستلاب وقد عكستهما القصيدة بالجسد المستلب والشعب المقهور - وقد كان الاب والطفل والمومسات الاخريات وتجار الليل هم ممثلو هذا الشعب .
    3- 2-المستوى الرمزي: وينطلق من التوحد بين المومس والشعب عبر تتالي صور الاحباط والقهر والظلم والاسطورة وهو المستوى الاكثر تغلغلا فى الفن والاكثر اشباعا لحاجات الحداثة فى الشعر، لذلك لا نفصله ضمن المستوى الواقعي، ولكننا سنشير الى واقعيته من خلال تنوعه الرمزي، ممثلو الشعب الذين اشرنا اليهم فى النقطة السابقة ليسوا إلا تنوعا للمومس وقد غطوا بحيراتهم المضطهدة جوانب من الحياة الواقعية .
    لذلك فأية اشارة الى جانب واحد منهم تعني بالضرورة اشارة للكل .
    المستوى الواقعي
    3-البيت - العراق
    الليل يطبق مرة اخري، فتشربه المدينة والعابرون الى القرارة مثل اغنية حزينة وتفتحت ، كازاهر الدفلى ، مصابيح الطريق كعيون " ميدوزا " تحجر كل قلب بالضغينة ، وكأنها نذر تبشر اهل " بابل " بالحريق من اي غاب جاء هذا الليل ؟ من اي الكهوف من اي وجر للذئاب؟
    من اي عش فى المقاب دف اسفع كالغراب ؟ قابيل اخف دم الجريمة بالازاهر والشغوف ربما تشاء من العطور او ابتسامات النساء ومن المتاجر والمقاهي وهى تنبض بالضياء عمياه كالخفاش فى وضح النهار، هي المدينة والليل . زاد لها عماها.
    والعابرون:
    موتى تخاف من النشور.
    قالوا سنهرب ، ثم لاذوا بالقبور من القبور: 509- 510
    3- 3-1 الليل والمدينة هما العنصران الفاعلان فى مخيلة الشاعر فالليل مطبق على المقطع كله .
    المقطع يفصح عن تدرج مكاني - تأريخي مهم .
    فالليل آت من ماض مثقل بالظلمة والماضي هنا محدد بأمكنة هي:
    الغاب - الكهوف - الوجر - العش - ا لمقابر - وكلها اماكن مولدة للموت، الليل فيها تكوين تراثي متقادم ، والمصابيح المضيئة فى الطرقات ليست إلا عيون ميدوزا القاتلة .
    فهي نذير لبابل - المدينة - بالحرق ، وهي نذير للعابرين - الناس بتحويلهم الى حجر او مسخ.
    اما المدينة فهي: المتاجر - المقاهي، الامكنة التي تعشعش بالضياء ا لمخمور بالظلمة ويمثل هذه الامكنة يفترض حضور الناس .
    أزقة المدينة وشوارعها مضاءة بمصابيح - ميدوزا - القاتلة .
    أما الناس فى مجتمع الليل والمدينة ، فليسوا إلا عابرين وجلين يمرون فى طرقاتها كي يختفوا بالمقابر انهم يخشون الضياء كخفافيش الليل ويلوذون بالصمت عندما يتكلم احد ملجؤهم الماخور والخمرة .
    المدينة فى عرف السياب شىء مطلق وليست محدودا مكانيا فأمست فيه عمياه المدينة هي العراق ، والليل الجاثم فوقها هو الواقع ا لملتبس به اولئك الذين لا يرون ملجأ لها منها إلا المأخوم وقد انيرت طرقاتها بمصابيح قاتلة بينما تخفى حجراتها دم هابيل القتيل المدينة فى عرف السياب هي مجمع ا لمتناقضات القاتلة .
    هذه الصورة البانورامية هي ا لمفتتح الاستهلال للقصيدة لذلك نجدها قد القت بظلها القاتم على كامل اجزائها فواقعية السياب تنطلق من رؤية حسية عيانية لترسو فى خيال مولد، ومن النظر المعاشة المشبعة سياسة الى التأويل، عندئذ يصح القول ان هذه القصيدة قد وطنت السياسة فيها مواطن خفية ، واستعارت المومس للتكلم عن الطبقات الاجتماعية الكادحة وقد اشار السياب إلى هذه الطبقات المستلبة القوت والجسد - " الاب المقتول ".
    3- 4- المستوى الرمزي
    المومس - الشعب
    7- 4- 1..... وتتوزع امثلة هذا المستوى على مواقع عدة منها الذاتية ، ومنها الموضوعية الخاصة والعامة ، الحسية والمجردة وفيها ومن خلالها تمكن السياب من ان يستوعب ابعاد موضوعه الاساسي بطريقة فنية تجمع بين تراكم الصور والترابط الشعوري ولعل سمة الطول فى هذه القصيدة - التي لا تعتمد التقابل بين قضيتين كما فى فجر السلام والاسلحة والاطفال -يأتى من الحس الدرامي الفاجع المتنامى بموقف مأساوي متصاعد النبرات وبامكانية فنية تجعل من الكلام العادى شعرا، ومن الجمل الاعتراضية شرطا نفسيا للامساك بكل ما يختلج فى النفس ساعة الابداع، هي اذا لملمة غير مترهلة لموضوع شعري شخصيته مستلبة العرض والبصر وفي واقع لا يختلف عنها سياسيا ولو كان السياب مسرحي البناء، لما تقاعس عن ان يظهر صوت الجوقة اليونانية وهى تسرد حال الشعب وتهيىء المشهد التالى فالمومس العمياء صوت للجماعة المقهورة المستلبة ، التي تساوى فيه النغمة المفردة الفاجعة ، بالمعزوفة الحزينة الهادئة .
    صوت مشبع بمليودرامية ربما اتت من قراءاته للروايات الجنسية او العاطفية . 3- 4- 2فيما يلى النماذج الدالة على المواقع المختلفة فيها.
    1- يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السهاد؟
    لا تمهليها، العذاب بأن تعرى فى اتئاد.
    قصى عليها كيف مات وقد تضرج بالدهاء
    هو والسنابل والمساء.
    وعيون فلاحين ترتجف المذلة في كواها
    والغمغمات : " داراه يسرق ..." واختلاجات الشفاءه
    بخزين ميتها فتصرخ : " ياآلهى، ياآلهى.. لو ان غير "الشيخ "! وانكفأت تشد على القتيل .
    شفتين تنتقمان منه أسى وحبا والتياعا
    حيث البيادر تقصد الموتى فتزداد اتساعا!!
    ص 520
    ب - وتحس بالاسف الكظيم لنفسها: لم تستباح ؟
    الهر نام على الاريكة قربها لم تستباح ؟
    شعبان أغفى، وهى جائعة تلم من الرياح
    اصداء قهقهة السكارى من الازقة ، والنباح
    وتعد وقع خطي هنا وهناك : هاهو ذا زبون
    هو ذا يجىء - وتشرئب ، وكاد يلمس ... ثم راح .
    وتدق من احد المنازل ساعة .. لم تستباح ؟
    الوقت اذن بانتهاء والزبائن يرحلون
    لم تستباح وتستباح على الطوى؟ لم تستباح كالدرب تزرعه القوافل والكلاب الى الصباح ؟
    ص 526
    ج - ...... فامضي عنها يا أساها!
    ستجوع عاما او يزيد، ولا تموت ففي حشاها
    حقد يورث من قواها
    ستعيش للثأر الرهيب
    والداء فى دمها وفى فمها ستنفث من رداها
    من كل عرق من عروق رجالها شبحا من الدم واللهيب
    شبحا تخطف مقلتيها امس ، من رجل آتاها
    سترده هي للرجال ، بأنهم قتلوا آباها
    وتلقفوها يعبثون بها وما رحموا صباها.
    ص 527
    د - وتحس فى دمها، كآبة كل امطار الشتاء
    من خفق اقدام السكارى، كالاسير وراء سور
    يصغى الى قرع الطبول يموت فى الشفق المضاء.
    هي والبقايا خلف سور، والسكارى خلف سور
    يبحثن هن عن الرجال ، ويبحثون عن النساء
    دميت اصابعهن تحفر والحجارة لاتلين
    والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين :
    نصبا يخلد عار ادم واندحار الانبياء،
    وطلول مقبرة تضم رفات "هابيل " الجنين
    سور كهذا: حدثوها عنه فى قصص الطفولة
    "يأجوج " يغرز فيه من حنق ، اظافره الطويلة
    وبعض جندله الاصم ، وكف "مأجوج " الثقيلة
    تهوى كأعنف ما تكون على جلامده الضخام ،
    والسور باق لايثل ... وسوف يبقى الف عام ،
    لكن " ان - شاء - الاله - "
    طفلا كذلك سمياه -
    سيهب ذات ضحى ويقلع ذلك السور الكبير
    لاتتركونى يا سكارى
    هـ - فى موضع الارجاس من جسدي، ومن الثدي المذال
    تجى دماء الفاتحين لوثوها بالرجال
    آواه من جنس الرجال .. فأمس عاث بها الجنود
    الزاحفون من البحار كما يفور قطيع دود
    انا يا سكارى لا أرد من الزبائن اجمعين إلا العفاة المفلسين
    انا زهرة المستنقعات اغب من ماء وطين
    واشع لون ضحى.."
    ص 525- ص 538
    و - ها هو ذا يضىء فأي شىء تملكين ؟
    ويح العراق !أكان عدلا فيه أنك تدفعين
    سهاد مقلتك الضريرة
    ثمنا لملء يديك زيتا، من منابعه الغزيرة ؟
    كي يثمر المصباح بالنور الذي لاتبصرين ؟
    عشرون عاما قد مضين وانت غرثى تأكلين
    بنيك من سغب ، وظمأي تشربين
    حليب ثديك وهو ينزف من خياشيم الجنين !
    وكزارع لهم البذور
    وراح يقتلع الجذور
    من جوعه ، وأتى الربيع فما تفتحت الزهور
    ولا تنفست السنابل فيه
    ليس سوى الصخور
    ص 539
    ى - والجوع والادواء والتشريد حظ الكادحين
    وانت بنت الكادحين
    فأت الضجيج ، وانت بعد، على انتظارك للزناة ،
    تتنصتين فتسمعين
    رنين اقفال الحديد يموت فى سأم صداه :
    الباب اوصد
    ذاك ليل مر...
    فانتظري سواه
    ص 542
    3- 4-3 النظرة الأولى الى المحتوى الظاهري للمقاطع الشعرية تفصح عن تدرج فكرى فالمقطع " أ " يتكلم عن موت الاب بعد ان اتهمه الشيخ واعوانه بالسرقة فقتل ، وهى قصة طالما اعتاش عليها الادب القصصي فى العراق وطالما كانت لشدة واقعيتها اعتيادية لكن السياب لايجعل من موت الاب إلا احباطا لابنته .
    اما المقطع " ب " فتتحدث هي عن نفسها واستلابها المزدوج من قبل الناس ومن قبل الحاجة الى الحياة هنا تشبه المومس حفار القبور، حيث مناجاة النفس طريقا الى الصراخ العلني المصور.
    فى المقطع " ح " تنبىء عن النقيض الذي سيلد من أحشائها ليس بالطبع فيها فهي مومس، ولكنه دلالة لكل ام فهي الارض النقيض ذو مهمة محدودة عليه ان يدفع العابثين عنها وغاية ما تطلبه سلامة لذاتها.
    فى المقطع " د " توسع المومس الراوي - مدار الحدث ، ها هي تجد المأساة قد تشربت فى المجتمع فكما هي خلف سور، كذلك العابثون ، فالسور هو ما يجعل الناس من الجهتين فى عزلة لذلك لن يزاح فالاستلاب عام والوباء شديد الوطىء وعبثا تنفع كل الدعوات ، فما زال الماضي حاضرا وفى ذاكرة الزمن شىء من الاسطورة التي تقول بعبث ازاحة الاسرار بين الخاطئين فالسور باق لا يثل ... ولكن ربما استطاع النقيض الطفل بعدما يفض العابثين عن امه من ان يقلع ذلك السور الكبير لكن هذا الامل معلق " بسوف ".
    فى المقطع " هـ " ترسو المومس على ذاتها فتتحسس جسدها فاذا به ارض ومياه وطين ، واذا بها هي زهرة عمياء فى مستنقعات الفاتحين هاهي المومس تتحول الى عراق ، وهاهو جسدها المستباح يتحول الى دلالة لايرا من الزبائن سواء أعانوا فاتحين ام من اهل البلد فالكل يطأ الجسد والكل بوطأته سوطا.
    فى المقطعين " و،ى " تنفرد المومس كشىء أزل مداوم البقاء، منكرا ما حدث وبانتظار ان يستمر كل شىء كما كان ، فما حدث سوى ليل مر على المدينة واوصد كل باب وعليها ان تنظر ليلا اخر النهاية هي بداية استهلال القصيدة ، ثم يتركنا السياب نعيد قراءتها ثانية فسنجد ان قصة المومس " سليمة " هي قصة ياسمين وحسنة وهيلين هي قصة العراق والفاتحين، هي قصة الفانوس الذي لايجد - بفعل الاحتلال - زيتا يداوم الاشتعال به : هي قصة الاستلاب الذي يتعدى الفرد الى الجماعة والحالة الى الاحوال ، والبيت - الجسد، الى البيت، الشعب، ثم لاتضع القصيدة حلا كأية دراما معاصرة ، بل تترك الباب مفتوحا ليأتي ليل آخر على المدينة ، وسوف تقف المومس فى عتبة دارها بانتظار الزبون العابر، او الزبون المحتل.
    3- 4- 4 ألا ان هذا التحليل الشديد الفقر لمقاطع القصيدة يوقعنا بما تعارف عليه نقدنا العقل السلفي فالمقاطع تفصح عن ارضية غاية فى التعقيد لتقول لما اشرنا اليه .
    وحسبنا أن نلجأ الى القصيدة ذاتها كنص يقول فكرة فهو وحده الذي يفصح عن المحتوى.
    ولكن قبل الدخول فى التفاصيل ، او ايضاح نقطة مهمة ، تلك هي ما يتصل بالله والسماء ففي هذه القصيدة ثمة سخرية من مشيئة الله - حسب ما تقوله المومس - فالله كان غائبا عن كل شىء عن موت ابيها وعن استباحتها وعن استباحته بلدها، وعن ان يأتي لها برزق وهو كفيل الارزاق ولذلك تجىء سخريتها من قدرة الله متساغة اجتماعيا لانها مومس والمومس لاتخشى احدا فكيف الله ، والناس فى بلادنا يسمعون السخرية من الله من السنة لا يقال عنها إلا السنة المومس ... عندئذ تأتى منافحة السياب للحس الديني على لسان غير متزن طبيعية ، رغم ان القارىء يشعر بأن السياب يخفى هذه السخرية متقصدا وبذلك يخرج السياب على الحس الديني الذي اشبعت به بطولاته السابقة .
    وهذا ما يهمنا هنا فالسياب يتناول موضوعا شديد الفنى غائرا فى المجتمع متكامل الابعاد ينتمى اليه كليا، ولكنه عندما يتناول موضوعا يشربه النقص يلجأ الى سده بموضوعات عاطفية عدة وهذا ما فعل سابقا، اما فى هذه القصيدة فقد قطع صلته بها نهائيا مهيئا نفسه للدخول الى منطقة العتبة لذلك استعان بالله فسماه الاله تارة واله تارة أخرى والله ثالثة تمشيا مع الاستعارة الاسطورية ومع تشاؤمية الدين وفقدان المومس لكل امل .
    فالليل يكرر ذاته على المدينة وباستمرار.
    3- 4-4 النظرة التحليلية الاخرى للنماذج تكشف عن العلاقة بين مكونات المشهد -المكان المختلفة والموضع النفسي والاجتماعي للمومس .
    فالمقطع " أ " تتمحور الصور فيه حول الاماكن التالية .
    العمى - الدم - السنابل - الكوى - المساء - القتيل - الشفة - الجدول - الحقل -البيدر.
    وبتوزيع مكونات المشهد نجد أن :
    1- الرائى - وهو المومس العمياء والرؤية هنا ذكرى من الماضي مستحضرة بوعيها المحبط.
    2- المكان - وهو الارض بحقلها وسنابلها وبيادرها ومسائها ودمائها.
    3- الحدث - وهو القتل - قتل الاب .
    العلاقة المشهدية هنا علاقة مفارقة : الحقول - الدماء.
    الحقول بكل ما تملكه من خضرة وبهاء وسنابل والدماء وبكل ما تملكه من بشاعة وموت وامحاء فاستحضار المومس لهذه المفارقة هي بمثابة رسالة مقترنة بحدث موجهة الى الحاضر واقع المومس اليومى وعماها - وتحمل تفسيرا لوضع المومس فالقتلى لابيها كان قتلا لها والدماء التي لطخت الارض هي دماؤها، وان المساء الذي قتل فيه ابوها هو نفسه الليل المخيم - الضحى - عليها وعلى بيتها والمدينة والكوى فى اعين الفلاحين ، هي الكوى فى عينيها وفى وضعها.
    فى المقطع " ب " تتمحور الصور حول الاماكن التالية .
    الاريكة - الازقة - المنازل - الدرب .
    والنظرة الأولى لها نجدها تتدرج فى المعنى والدلالة من الغرفة - الاريكة - الى المجتمع - الدرب إلا ان هذه الاماكن لاتجىء هنا إلا بمعناها المنتهك ، المحبط فالأريكة مكان فارغ الا من الهر دلالة على فوات اوان الزبائن .
    والازقة مكان فارغ ايضا إلا من سكارى عابرين خائفين ، وا لمنازل مكان فارغ كذلك تعلن الساعة وحدها عن حضورها الليلى والدروب مكان فارغة هي الاخرى بحكم اعتيادية من يسير فوقها، وهى هنا تشبيه بالمومس التي يمر عبرها كل عابر وقاصد وكلب .
    الفراغ ، او الاماكن المنتهكة هي دلالة المقطع الثاني، ويمثل هذه الاماكن وحدها اوضح لنا الشاعر سعة الفراغ المحيط بالمومس والذي يبتدىء من غرفتها وينتهى بالمجتمع وعبثا تبحث هي او غيرها عمن يملأ هذا الفراغ القاتل لذلك تجىء صرختها " لم تستباح " على لسان الراوي كتكملة مأساوية لها وللمجتمع .
    ويرتبط المقطع " ب " بالمقطع " أ " بدلالة الظلم العام والشامل الذي امتد منذ طفولتها حتى سيرورتها امرأة ، ومن استغلال الارض الى استغلال الجسد، ومن زمن موت الاب الى احتمال موتها جوعا.
    فى المقطع " ج " تتمحور الصور حول الاماكن التالية :
    الاحشاء - الدم -الفم المقلة.
    والنظرة الأولى لها نجدها اماكن ملتصقة بالجسد، ويوضع داخل هاهي المومس تستقر على ذاتها تبحث عن مأساتها ضمن جسدها.
    ففي الاحشاء حقد.
    وفى الدم والفم داء.
    وفى المقلة أسى ولده شبح آتاها.
    وسوف تجمع الحقد والداء والاسى لتقذفه بوجه الذين قتلوا آباها وبوجه من استباحها وما رحم صباها.
    المقطع " ح " انتفاضة بوجه الاماكن المحبطة فى المقطعين السابقين ورفض للماضى وللحاضر معا ودفعة قوية باتجاه ان تعيد المومس انسانيتها ولكنها تفطن بعد حين ان مثل هذا الرفض لا يتعدى حدود المباهاة بالقدرة الذاتية لها وانها مهما حاولت لن تستطيع اكثر من اعلان سبة على اللسان ولكن صوت المومس هنا يتعدى فرديتها ليصبح حدود الجماعة المستلبة المقهورة فالحقد الذي يورث القوة والدم الذي يصنع الثأر والداء الذي ينشد القدر كل هذه ليست إلا صوت الجماعة المغمورة من انها ستفوض ذات يوم لتأخذ بثأرها وتعيد كرامتها وشرفها، فمهما تجوع ومهما تأسس ففي الاحشاء يولد الثائر.
    في المقطع " د " تتمحور الصور فيه حول " السور " الفاصل بين البغايا والسكارى وبين نوعين من الناس متشابيهن فيصبح كلا وجهي السور " خلف " حيث لا " امام " فيه واللعبة المأساوية تتم بين فئتين رجال يبحثون عن النساء ونساء يبحثن عن الرجال وكلاهما مغيبان محبطان .
    والسور فى هذه القصيدة يوجد بعض المغنيين ويستعيره السياب من اسطورة قرآنية . شعبية هي اسطورة الملكين يأجوج ومأجوج وسعيهما المستمر منذ الازل لازاحة السور بالسنتهما حيث يلعقانه اثناء الليل، وعندما يوشكان على الالتقاء يتركانه عند الصباح املا - ان شاء الله- سوف ينفذان اليه وهكذا يعود السور كما كان حاجزا ثم يعاودان لحسه فى المساء انهما ككثيرين يحملان قدرهما الى ما لانهاية ، وعندما يتوسلان بابنهما -ان شاء - الاله - ان يهدم السور، يكون الامل المعلق ، هو غاية الذين حكم عليهم باستمرار الحياة دونما نتيجة .
    فى ابعاد هذه الاسطورة تكمن حقيقة المومس العمياء والسكارى الزائرين فكلاهما يبحث عن ملجأ يصل اليه، لكنهما سوف يبقيان مستمرين بالبحث وبتهديم السور الفاصل بينهما وعبثا يحاولان فقد حكم القدر عليها بأن تبقى المومس مومسا.
    اذا ما هو السور؟ فى عرف السياب ؟ هل هو الواقع الشائك المعقد؟ ام القدر الذي شد اليه الطرفان ؟ فى القصيدة يتضح ثقل الواقع وعنفه ، الموت الذي احاط بها وهى طفلة ، العمر الذي شبت عليه ، الدنس الذي اصاب شخصيتها وها هي تنشد عابرا من اجل لقمة خبز تسد بها جوعها القصيدة تفصح عن اجتماعية السور، وغياب اساس الهادمين له وبقاء العجلة الدوارة فى مجتمع تسود فيه لغة الغاب لعل هذه التشاؤمية ، هي التي دفعت بعض التقدميين الى ادانة هذه القصيدة إلا ان السور سوف يرد فى العديد من قصائد السياب اللاحقة وقد اكتسب معانى شتى مما يعنى ان الاسطورة التي اختارها السياب هنا تكتفي بالدلالة الخاصة لوجهي القصيدة المومس والناس ، فما زال الحاجز بينهما - لانهما متشابهان - قائما وسوف يزول بفعل " وليد " اخر سيأتي من العمل - الاضطهاد - المستمر ومن ذلك تخرج القصيدة من مثالية الاسطورة الى واقعية الحياة المعاشة .
    فى المقطع " هـ " تتمحور الصورة فيه حول - الجسد - المستنقع - البحر.. فالمومس فيه تستصرخ السكارى " من خلف السور" بأنها ليست إلا " بلدا " تجرى فيه الدماء، دماء الفاتحين وهى " عراقا " عاث جنود الاحتلال فيه فسادا وهى " زهرة المستنقعات " هاهي المومس تستحيل الى صوت مكلوم وجسد محتل 0.
    فى المقطع " و " يصفى مناخ القصيدة من الالتباس بين الواقع والرمز فالمومس هنا عراق فقط والعراق الملء بالزيت يجوع والعراق الملء ينابيع يجف ، كما جفت عيناها من الضياء اما الصورة فى هذه المقطع فتتمحور حول : المقلة الضريرة - المصباح المطفأ - السغب - الظمأ - البذور المقتلعة - الجذور - السنابل - الصخور - وكلها صور ارضية يتزاوج عليها الربيع والصيف ، المنح والجفاف ، المومس والعراق ، السكارى والشعب البيت الصغير والبيت الكبير.
    فى المقطع " ي " لا تتمحور الصور فيه حول " الباب الموصدة - والليل الذي مر والضجيج الميت - والصدى اما الكادحون فليسوا إلا هى المنتظرة ابدا املا معلقا بعيون ميدوزا - السيف والحجارة - فالجوع والتشريد من حظ الكادحين اما الليل الذي مر على المدينة وسكانها قد اقفلت ابوابها سلاسل الحديد والناس مازا لوا معقدين لا يسمعون الا صدى الاقفال ، الليل مر، والمدينة نائمة ، وغدا سوف لن يكون فيا إلا صباح ، وعندئذ سيعود - السور - من جديد الى وضعه السابق حاجزا يحتاج الى يأجوج ومأجوج ، اما المومس فسوف تعاود وضع المساحيق، وسوف يخرج شعبان لاصطياد الزبائن الجدد، ويعود الجميع ، المومس والشعب ، بيتها والعراق يلوكون حكايات الامس . .. وما على القارىء الا ان يبتدىء بقراءة القصيدة من جديد.
    قصيدة
    انشودة المطر
    1 - المحطة الاخيرة فى رحلة السياب ، قبل الوقوف كليا فى العتبة كانت قصيدة
    " انشودة المطر" فقراؤها يشعرون ان كثافتها وتركيزها يوحيان بالرحيل من المطولات الى القصائد المشبعة بالغنائية ومن الموضوع الانساني المتمثل بشخصية ، او حادثة الى الموضوع الشعري المرتبط بحيرات مجموعة من الناس ومن اللمسة الواخزة والدعوة الدينية المبطنة الى حقائق الواقع ورموزه هي اذن محطة اخيرة وقف السياب فيها ململما افكاره وعدة سفره ليقول من خلال ما يجمع بين ماض له خصوصيته وحاضر مغترب عنه ، فعل يتصل بالذات والطفولة وواقع يربض فيه الجوع والقحط رغم خصوبة الارض ونزول المطر.
    والقصيدة سياسية بحت ، كما هي عاطفية مما حدا بها لان ترخى اسبابها لرياح جديدة بدأ السياب يتشممها، تلك هي الريح التي تفش الصيف والذاكرة ونقصد بها ريح التحول الايديولوجي المبطن ، كما هي قصيدة لوع وندب وحزن حتى لتحسبها مقدمة لاسطورة يحاول السياب خلقها، وهى قصيدة مكتنزة الحياة موشومة بعذاب الجسد العراقي موسومة بملكية الناس البسطاء كحاجتهم للريح والمطر والوطن مرهونة كخلاص الام ، مربوطة بجذع نخلة تدلى حملها على شواطىء الخليج وبويب ، قصيدة ليس فيها إلا ذلك الانين الاتى من اعماق الغربة والمحلى بصوت عرائس البحر ومشاعل الطناطل الليلة واصوات القبور المنقوعة وعندما تكون القصيدة هذا كله فهي النقلة الاخيرة الى العتبة حيث يتربع السياب بعدها موطئا طينيا ليرى الناس والحياة الماضي والحاضر وهو جالس - مقعد - بعدما كان يجوب الساحة والكهف وهو راكب - متنقل - ويشهد تاريخه الشعري، ان السنوات التي اعقبت كتابته لانشودة المطر لم تشهد مطولة أخرى -عدا ايوب - ولا موضوعا عراقيا صرفا آخر-عدا ما اتصل بذاته ولا تركيبة ذهنية وحسية كتركيبة هذه القصيدة ، ان السنوات التي سبقت ثورة تموز 1958 كانت سنوات مراجعة وتمحص ، حتى تأتى الثورة فيضيع السياب ، كما تضيع الثورة فى موضوعات الساعة ومشكلاتها وعندما تشرف على السقوط يسهم السياب بمعوله فيها، وكأنها يحطم السور الذي لم يستطع يأجوج ومأجوج تحطيمه ثم لا يدرى ان احدى ضربات المعول كانت بساقية ، لقد تحطم بقلمه حتى أمسى القلم تجارة لكاسدي الكتابة، ثم واذا به يصبح سلعة لمثل هذه الاقلام بعد موته .
    ان محنة السياب هي محنة شعره .
    2- فى هذه القصيدة تأكيد لدور المشهد الاستهلال الذي ابتدأه فى حفار القبور وهو مشهد يستوعب مناخ القصيدة كلها ويتشرب فى مفاصلها وحتى لتجده متكررا بصور مختلفة اللفظ موحدة المعنى فى كل جزئياتها.
    والمشهد الاستهلال هنا تكثيف شعوري لحالة ملتبسة بالمناخ الشعري للمنظر ومتغلغلة فى الحس فى المكان والزمان ثم تأتى التشبيهات مؤكدة لمناخ القصيدة ومعبرة عنه .
    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
    او شرفتان راح ينأى عنهما المطر
    عيناك حين تبسمان تورق الكروم
    وترقص الاضواء... كالأقمار في نهر
    يرجه المجداف وهنا ساعة السحر
    كانما تنبض فى غرريهما النجوم
    2- 1- يتمحور المشهد الاستهلال حول : العينان - الغور والمخاطب فى القصيدة مجهول ، فهو اما الحبيبة التي يتذكر السياب عينيها الان وهى فى شرفة بيتها، او الام التي ترد كقطعة من الماضي وقد تركت وليدها رخوا فى المهد وفى اللسان أوهى الارض التي ترد فى القصيدة وكأنها : العراق الملء بالريح وبسماء ممطرة يمنح لها كل ما هو كائن فى المجهول .
    ولما تختلط صور المخاطبة فى ذهن السياب تصبح كلها في بوتقة الارض - الام : المانحة الجائعة - والحاضرة الغائبة وضمن فهمنا هذا للقى يخاطبها السياب يصبح موضوع غربته فى الكويت هاربا من شرطة ومباحث نوري السعيد اطارا عاما للقصيدة فى حين يصبح مركز القصيدة هو العراق - جيكور لاحقا - اي الواقع والرمز، البلد والارض متحولا عن الغابة -المطر.
    ضمن هذا الفهم يصبح المكانان : العينان - الغور محورا المشهد الاستهلال وقيمته .
    2- 2-2 فى " العينان " تكمن حال الاستقبال الانتقائي لصور العالم وقد استحضر برؤية حركية ضاجة ومنسربة فأصبح غابة النخيل - الشرفتان - الكروم - الاقمار . المجداف - السحر - النجوم ، ويمثل هذه السعة المكانية - الزمانية تشمل فى ابعادها الارض والمياه متجمعة دونما تداخل مشوش - انها - غابة الاشياء المرئية - اما فى " الغور" فيكمن العمق - النجوم النابضة - الماضي الآتى من سماء الذكرى والاحلام - وكأنما الغور - النجوم هو الذى يعطى للينين - الغابة ديمومتها وحضورها اما المسافة التي تمتد بين الغابة والنجوم فقد ملئت بالشجر والماء والنهر والشرفة والضوء والقمر والسحر بمثل هذه المسافة البانورامية الحية ، نجد الصور الشعرية تنساب رخية فيها من الثراء والعمق ما تجعل السياب يكررها كينبوع ماء دافق .
    2- 2- 3- وكأمكنة نوعية نجد " الغابة " هي تجميع لاشياء متفارقة ومتباعدة لكنها مشتركة الحياة ، لذلك جاءت افعال هذه الغابة نابضة ، حية منها " ينأى - تسم - ترتص - يرج - تورق - تنبض - افعال كلها مضارعة مليئة بالحركة ، حياتها متوثبة ، ليست لفعلها حدود مكانية ، فهي على الارض وفى الحياة ، وفي السماء تشترك كلها بالنبض والرقص والابتسامة والترجرج ، لذلك يفصح المشهد الاستهلال عن امكانية احتوائية لكل الموضوعات التي يعالجها السياب لاحقا بهذه القصيدة .
    1-2- 4- فى توزيع الامكنة نجد شمولية البصر الرأى فهناك امكنة كائنة فوق الارض "الشرفات - الكروم " وامكنة كائنة فى السماء " النجوم والسحر" وامكنة
    رأسية فى الاعماق " الماء -النهر-السحر ".
    واختلاط الامكنة ينتج اختلاطا فى الرؤية وامتزاجا ماديا متداخلا هي اذن دلالة على انبثاقية كونية مليئة بلحظات التوثب وبلحظات معتمة يعود بها الشاعر الى تكوينها البدائي " ساعة السحر" وخلق الشعر كخلق العالم ، وما الشاعر إلا اله صغير مادته كونيات الحياة المعيشية وما لغته إلا الصور المنعكسة من الاشياء هكذا تولدت الصورة الكلية لدى السياب جامعة جدليتها " صورة الموت والميلاد الظلمة والضوء، الشتاء، والخريف " ويمثل هذه الجدلية الثنائية التكوين راح الشاعر يجسد لحظة خلق الصورة -الفعل .
    1- 2-5 وتبعا لما جرت عليه هذه الدراسة ، نتقصى عن هيات المكان فنجد الساحة الخضراء المنبسطة السائدة فى المقطع الاستهلال وهى كما راينا فإنها تعبير عن الوطن الاخضر، الارض العراقية المنبسطة ولكنها الجائعة للمطر، وتكمن خلف هذه الانبساطية صورة الماضي "الغور" وصور الحاضر المتألق "العينان " وقد اجتمعا فى هيئة " العمق " ليلتقى فيها النجم بالغابة ليشكلا مشهدا بانوراميا حيا ويقظا.
    يفتح المشهد الاستهلال على جسد القصيدة فاذا بها تحمل نغماته ومناخه ولغته المكانية .
    فيما يلى نماذج من توسيع معنى الاستهلال فى جسد القصيدة
    النماذج
    ا- وتفرقان فى ضباب من أسى شفيق
    كالبحر سرح اليدين فوقه المساء
    دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف
    والموت والميلاد والظلام والضياء
    فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
    ونشوة وحشية تعانق السماء
    كنشوة الطفل اذا خاف من القمر
    كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
    وقطرة فقطرة تذوب فى المطر
    وكركر الاطفال فى عرائس الكروم
    ودغدغت صمت العصافير على الشجر
    أنشودة المطر
    مطر...
    مطر...
    ص 475
    ب - اتعلمين اي حزن يبعث المطر؟
    وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر؟
    وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
    كالحب ، كالأطفال ، كالموتى - هو المطر!
    ص 476
    ج - ومقلتاك بي تطفيان مع المطر
    وعبر اعواج الخليج تمسح البروق
    سواحل العراق بالنجوم والمحار،
    كأنها تهيم بالشروق
    فيسحب الليل علها من دم وثار
    اصيح بالخليج " ياخليج
    يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى "
    فيرجع الصدى
    كأنه النشيج
    " ياخليج
    يا واهب المحار والردى "
    ص 477
    د - اكاد اسمع العراق يذخر الرعود
    ويخزن البروق فى السهول والجبال
    اكاد اسمع النخيل يشرب المطر
    واسمع القرى تثن والمهاجرين
    يصارعون بالمجاديف وبالقلوع
    عواطف الخليج والرعود، منشدين
    " مطر...
    مطر...
    مطر...
    وفى العراق جوع ...."
    ص 478
    5- ومنذ ان كنا صغارا كانت السماء
    تغيم فى الشتاء
    ويهطل المطر
    وكل عام -حين يعشب الثرى- نجوع
    مامر عام - والعراق ليس فيه جوع
    مطر...
    مطر...
    مطر...
    ص 479
    و- وكل قطرة تراق من دم العبيد
    فهي ابتسام فى انتظار مبسم جديد
    او حكمة توردت على فم الوليد
    فى عالم الغد الاتى واهب الحياة
    مطر...
    مطر...
    مطر...
    سيعشب العراق بالمطر
    ص 480
    ز- ويهطل المطر
    ص 481
    2- 1- بدءا لاتمثل هذه النماذج إلا
    العينات المراد فحصها هنا وما عداها فهو تعليق شعري عليها.
    وبدءا يمكننا القول ان السياب يخفى في مناخ القصيدة النغمة الشعبية المستحبة لدى سكنة القرى الجنوبية المطر اولئك الذين تمتد جذور قراهم فى المياه ، بينما تغطى الامطار رؤوسهم النغمة الشعبية المضمرة موزعة على القصيدة كسدي يشد اوصالها من دون ان تظهر مغناه كما فى المومس العمياء - او شناشيل ابنة الجلبي او سواهما فى هذه القصيدة يحمل السياب النغمة ايقاعا شعبيا متساوقا مع الحزن الدفين المولد، من هنا يتأكد لنا القول بأن السياب شاعر بدائي بالتقاطه لحيثيات الروح الشعبية وهى تنتشر احيانا من اشياء ومواد القرية والمحيط دونما الانسياق وراءها فى اشعاره ومن شعبيته يوازن السياب بين بدائية المادة المصورة والموقف الانساني من الحياة وعندي ان التوازن هذا مرجعه الى تلك الاصالة والى تلك النفسة الحزينة المعجونة مع الكلام .
    2- 2- تتمحور الصورة الشعرية فى المقطع " أ " حول الامكنة التالية :
    ضباب - البحر -المسا. الشتاء - الخريف - الموت - الميلاد - الظلام - الضياء - الروح - السماء - القمر - السحاب - الغيوم - القطرة - المطر - عرائس الكروم -الشجر.
    1- اول ما يلاحظ على هذه الامثلة الامكنة هو هلاميتها او عدم ثبوتها على هيئة واحدة كما لا يحدها زمان ، وفيها انسيابية متنامية وامكانية تحويلها المستمر من حال الى حال ، ان عدم الثبات على هيئة او صورة واحدة يعنى ان السياب فى حالة نشوة شبه مأخوذ بطبيعة ما تزال غير مستقرة انه يستقرىء الحلم عن طريق الواقع ويحول صور الواقع الى نغمة غنائية مشبعة برومانسية ، بغيمة تحلق اما فى القمر والسحاب واما تستقر فى البحر والمطر.
    الان السياب يجعل من الخيط الرابط بين العلو حيث السماء -روح -الضباب - القمر - السحاب - الغيوم ، وبين الاسفل حيث البحر-الكروم -الشجر هو المطر، فالمطر كما يسميه " انغام السماء" هو الحال المادي المجسد لوضع اللاثبات فى الامكنة ولعل المطر الساقط هنا هو المحصلة لصراع القوى الطبيعية التي اورثتها ثنائية الموت - الميلاد، الظلام - الضياء، الشتاء -الخريف وهى ثنائية انبثاقية ، تحل التناقض فى احشائها وتولد عبر صراعها الداخل بديلها المطر.
    اذا فالمطر فى هذا المقطع هو النص الدلال للامكنة الدكناء اللامحدودة وهو الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي صلة تحيى وتميت ، تولد وتتولد وفق هذا التصور الكلى لفعل المخيلة الشعرية المستمدة عادتها من بيئة وحياة ريفية فينهض الشاعر قصيدة هي الترديدات الخفية لروح المادة الكائن بالطبيعة فى الانسان .
    ب - ويكون المقطع " أ " مع المشهد الاستهلال وحده عضوية لعل الفعل " تفرقان " الذي يبتدىء به المقطع يعود على " العينان " ولعل المناخ الملتبس فى ذهنية الشاعر يمتد ليشمل مساحات اخري، وعموما فافعال المقطع تدل على مثل هذا الترابط : العينان -الغور فى الاستهلال والضباب -المطر فى المقطع الثاني وما بين الاثنين مساحات وازمنة متداخلة يحيا فيها الطفل -العصفور، الفرح -البكاء، الموت -الحياة وكد لالة على هذه الحيوات المتداخلة تنوع افعال المقطع : افعال فى الماضي: سرح ، خاف ، شهد، الى جانب افعال المضارع الكثيرة : تفرق ، تستفيق ، تشرب ، تذوب ، وكلها افعال سيولة وتحول تعايش مرحلة الى أخرى وتؤكد تبدل تركيبة الى أخرى وهو ما يؤكده المقطع ككل فى نتائجه ، المطر، -فانشودة الحياة المتيقظة المتحولة من الضباب الى المطر: من العدم الملء بالاسي الى المطر المانح الارض صبوتها وتكمن فى فاعلية هذه الصورة الشعرية فى احساس السياب بمستقبل العراق حيث الغربة ضباب "غور" وحيث العينان رؤية تستشرف المستقبل وحيث المطر الامل وتستمر هذه الصورة - الرؤية فتتبع فى القصيدة لتشملها كلها موضحة عبر نغماتها وتردداتها غنى الموضوع السياسي عندما ينبثق من احاسيس الذات ، وهو ما يجعل السياب يقف فى مشارف العتبة دون ان يكون للمجتمع او للكهف الام - ذلك الفعل المؤشر السابق .
    2- 3- فى المقطع " ب " تتمحور الصور الشعرية حول فاعلية ا لمطر وتأثيره : المطر الباعث للحزن - والمزاريب الناشجة - وشعور الوحيد بالضياع - والدم المراق - والموتى - المطر.
    والمطر النتيجة من المشهد الاستهلال والمقطع " أ " تصبح هنا تساؤلات تفصح اول الامر عن ارتباك في مخيلة الشاعر قد ساقته اليه الاسئلة لكن فحص المقطع مجددا يؤكد ان المطر فى عرف السياب المغترب ليس المانح بل المميت ايضا وهذا ما يؤكده فى مقاطع أخرى عندما يصبح تهديدا بالفرق وضياعا فى الزورق الذي استقله هربا من ايران الى الكويت ، المطر في مخيلة السياب الشعرية ، موت وميلاد، طفل وقبر، دم وضياع ، كركة ونشيج وتؤكد هذا كثرة التشبيهات وسعة المشبه به ، كما ان كثرة افعال المضارع فيه: تعلمين - تنشج - يشعر - دلالة على فاعلية ا لمطر الاتى من 0 الغور . الضباب ، ان ا لمطر فى المقطع لايحيا إلا ضمن جدلية مولده هي جدلية : الموت والميلاد.
    2- 4- فى المقطع " جـ " يدخل الشاعر والقصيدة ميدان الصورة الفعلية ليجسد الرؤية والواقع معا وضمن هذا المدخل نجد صورا لمقطع تتمحور حول الامكنة التالية : مقلتاك المطر - اعواج - بروق - سواحل ، نجوم - محار - شروق - الليل - الدثار - الخليج .
    1- المقطع مقطع استغاثة وندب وطلب لذلك فامكنته كلها من تلك الامكنة الرأسية على ارض والمحتواة بالنظر وا لمعايشة با لممارسة والحياة ومن تلك التي يسامرها المريض فى خلوته انها اما لحن النغمة الشعبية المضمرة فى القصيدة .
    ينقسم المقطع "جـ" الى اربعة اقسام - صور
    الصورة الأولى : هي البيت الاول منه
    الصورة الثانية : هي الابيات الثلاثة المنتهية - " كأنها تهيم بالشروق ".
    الصورة الثالثة : هي البيت الخامس منه .
    الصورة الرابعة : هي بقية المقطع .
    فى الصورة الأولى يستحضر السياب من المشهد الاستهلال صورة " المقلتان - الغور" ويجمعها مع صورة المقطع " ب " المتمثلة - " المطر " ليكون منهما رؤية تطوف بالشاعر المغترب لقد امسك السياب بمفتتح جيد لرؤيته بحيث لاتحجب عنه - الصورة الثانية - رؤية الاعواج الصاخبة وهى البروق المانحة وهى تمسح سواحل العراق الجائع "النجوم والمحار" الشيئان المتناقضان مكانيا - فى العلو النجوم النابضة الحية فى العينين - الاستهلال - وفى العمق -المحار التكوين لكل حي سيولد - والمجتمعان سوية لاستقبال الشروق الاتى من داخل المقلة والمطر، إلا ان هذه الصورة التأملية المستحضرة والمستوحاة من قصص السندباد المغترب فى السفر-تمحى فالليل -الصورة التالية -مازال يجثو على السواحل العراقية مغطيا البروق والشروق - خلق العالم فى الاساطير. بدثار من الدم المراق ، فلا "النجوم تنبض ولا المحار يولد فالعراق منقوع بالليل وعبثا تنفعا الاقوال والكتب فليجرب - الصيحة "حيث تنهض البشرية يوم القيامة اثر صيحة آتية من السماء" الصورة الرابعة - لكن الصيحة نفسها - اصيح بالخليج الواهب المحار واللؤلؤ والردى -تذهب سدي وتصبح نشيجا منكسرا وترديدا لطلب مغترب لا يمتلك اي فعل تغيير حاسم.
    ب - ولو تأملنا افعال المقطع "حـ" نجدها كلها افعال مضارعة - تطيف - تمسح -تهيم -يسحب -اصبح -يرجع - وافعال من هذا النوع تجمع بين حالتين متناقضتين ، فالأفعال ليست من تلك الافعال الضاجة بالحركة والصاخبة فى الصوت ، بل هي افعال هادئة شبه مغمى عليها، او قصيدة بحالة توازن بين نقيضين لذلك لم تنفع ،" لصيحة " رغم صخب الفعل "اصيح" وحتى فعل الصياح هذا يعود منكسرا مسحوبا، مشوبا بصوت داخل حزين هو "النشيج " الذي يضيع فيه حتى صوت البيت الاخير من المقطع فيمحى " اللؤلؤ " ويبقى على " المحار والردى" .. متبوعين بنقاط ثلاث دلالة على تلاشى الصيحة وخفرتها.
    لكن السياب لايستسلم فالمغترب يمتلك الف سبيل ، واذا خانت الصورة المتأملة تحقيق مطلبه يمتطى غيرها، فالطريق الى استحضار العراق الجائع والممطر مازالت سالكه والشعر فى زمن نهوضه فتح له نوافذ اسلوبية وفكرية عديدة لذلك لا تنتهى القصيدة - تلك اللحظة اليائسة ولا عند مشارف الخليج المغطى بالموج والدم الدثار.
    5- هكذا نجده فى المقطع «د» ينهض حاسة "السمع " بعدما تلاشت الرؤية فى اعماق المقلتين وتحولت الى صدى نشيج يعود ليتسمع ما كان قد عاشه ورآه فالعراق لايستعيد فعل تغييره بل يخزنه ، يدخره وينمو من خلاله ويبعث القوة فى سواعد الملاحين ليصارعوا عواصف الخليج ولينشدوا اغنية "المطر النازل كأنغام السماء".
    1- من أمكنة المقطع يكمن فعل السماع فالأمكنة هي:
    السهول - الجبال - النخيل - القرى - المجاد يف - القلوع - العواصف - وكلها امكنة نامية حية ليست فيها سكونية متطلعة الى أعلى وضاجه بالنمو والحركة والحيوية ، ويمثل هذه الامكنة يخزن الامل ويذخر ليوم آت ، فالصيحة التي اطلقها الشاعر وتحولت الى نشيج فى المقطع السابق تصبح هنا رعودا مذخرة فى سهول العراق وجباله صوره انبثاقها للمياة فيها "فالرعد" فى العراق الشعبي ينبت الاجنة . الكمأة ، ويخزنها للجياع والنخل فى العراق الشعبي يخزن ماء المطر اذا ما جفت الانهار والمهاجرون يصارعون ماء عواصف الخليج من الوصول بعيدا مغتربين عن العراق ومن اجل العراق .
    ب -ازمنة المقطع كلها فى المضارع وفى الحالة المتسمعة لما يخزن ويدخر ويسمع
    ويثن ويصارع وينشد افعال مؤجلة الفعل مستوفرة فى الامل متهيأة لما سيأتي مقتدرة على الولادة فهي الرعد الواعد، والمطر الساقي والانين الفردي وصراع المجاديف والقلوع - والنشيد المنغم بـ "مطر... مطر... مطر" كل ما فى المقطع مهيأ لميلاد جديد ومتساوق مع شعور شاعر مغترب لايملك مالا ومهاجر سياسي متأمل ومنشد اشعار فى جوقة اسرا فيل الابدية ان فى العراق جوعا لكل ذلك وجوعا من النوع المؤجل الحمل ، جوعه للرعد وجوعه للمطر وجوعه لمغن لا يفسد" الصوت النشاز.
    2-6 ويوضح السياب جذور هذا الجوع فى المقطع "هـ" مذ كان طفلا كانت السماء ترسل المطر، وكانت الارض تشب وتفرح ومع ذلك كان العراق حاملا للجوع وللجوعي... انها لمفارقة .... هذا ما يؤكده المكان فى هذا المقطع ، حيث تمحورت الصورة الشعرية على مكانين مهمين هما: السماء - الثرى المكانان المتباعدان موقعا والمقتربان زمنيا يوصل ما بينهما المطر ويدلان باجتماعهما على العراق مكانا متسعا ويوضح السياب "فى كل عام " استمرارية الدورة السماء تمطر والارض تعشب ومع ذلك فا لجوع باق .. هذه الاستمرارية جعلت مكاني الصورة الشعرية السماء - الثرى عقيمين " ما مر عام والعراق ليس فى جوع ".
    اما زمنية المكان فتتراوح بين الماضي والمضارع ، ديمومة الجوع ، واستمراره هكذا جاءت صورة بافعال ماضية ناقصة كان - ليس وافعال ماضية دالة على استمرارية الماضي " مر" اما افعال المضارع - تغيم -يهطل -يعشب -نجوع -فهي افعال احياء ونمو وتغيير لكنها محكومة بماض متكرر ولذلك لاتستطيع مثل هذه الافعال احداث نقلة ما لم يتوافر لها فاعل انساني يجعل الارض المعشبة مليئة بالزرع والعمل .
    2- 7- فى المقطع "و" يوفر الشاعر هذا الفاعل المغير الذي يستطيع المبسم الجديد انه "الدم" الذي يصنع الابتسامة والحكمة والفد والمطر والعشب و" فاعل ".
    السياب خلاصة التاريخ وتجسيد الفكر وممارسة المواقف - انه الثورة التي ستنهض من بين ربوع العراق بعدما يهطل عليه المطر وتعشب ارضه وتزال كل الاحزان وتوضح امكنة المقطع مثل هذا الامل - الدم - المبسم - الفم - الحياة - العراق .
    ونظرة أولى على طبيعة هذه الامكنة نجدها بشرية - دم - فم - مبسم - وهى زمنية مستقبلة - الغد الواهب للحياة - وهى مكانية سياسية - العراق - ولاول مرة في طبيعة امكنة القصيدة يصبح الانسان ميتا كان - دم - ام حيا - الوليد - هما محورا الصورة الشعرية ومثل هذا التناقض المولد - الدم - يولد - الوليد - هو القيمة الفكرية للمطر حيث ينتهى المقطع "سيعشب العراق بالمطر" اي اتحاد دائم ومستمر بين مكاني الصورة السابقة - السماء الثرى وكأنهما ماكانا ليظهر هكذا دونما تضحية فالدم -الوليد - فى المقطع "و" هما اللذان بعثا الحياة مجددا فى اوصال القصيدة ولذلك بالامكان قرادة القصيدة من اخرها صعودا الى اولها عندئذ نرى كم هي العينان مليئتان بالامل النخل -وكم هو المطر مهم كي يعطى الواقع صيغة الرمز السياسي وتؤكد افعال المقطع "و" مبدأ التناقض المولد "الدم يولد الوليد" فالأفعال .تراق .. توردت -يعشب أفعال نضارة وخلق وانماء، وافعال تجسد الميلاد وترسم خطوطا واضحة لعالم الحياة الانية ...افعال كلها في الفعل "يراق " فالدم الذي اريق فى مساحات العراق ومدنه سوف يجعل من العراق معشوشبا بالمطر.
    ضمن هذا السياق يؤكد المقطع الاخير "ز" استمرارية النمو "ويهطل المطر" ديمومة حياتية وصلة ابدية بين السماء والثرى - وتحقيقا زمنيا للماضى وللحاضر وتوقا لمغترب يريد العودة وسعيا لشاعر ينبىء عن طريقا الجديد فى الحداثة الشعرية .
    ياسين النصير: ناقد من العراق .
    إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية فحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي، بل بكل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحون لأنه يكثف الوجود في حدود الحماية.



    (عدل بواسطة osama elkhawad on 07-14-2006, 10:38 PM)

                  

07-15-2006, 00:39 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)


    أسهمت ترجمة الروائي الاردني :
    غالب هلسا
    لكتاب الفرنسي :
    باشلار
    جماليات المكان
    في ان يقارب الخطاب النقدي العربي جماليات المكان

    وأدناه سيرة غالب هلسا الذاتية "نقلا" عن "كتاب في جريدة"

    ولد غالب هلسا في إحدى قرى (ماعين) قرب (مأدبا) في الأردن، يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول 1932، وتوفي في اليوم ذاته من عام 1989 في دمشق عن سبعة وخمسين عاماً.
    وعلى طول هذا العمر، تقلب غالب في شتى البلاد العربية، من لبنان، إلى مصر، إلى العراق، إلى سورية، بالإضافة إلى وطنه الأردن، وكان قد تركه في سن الثامنة عشرة إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية بها. لكن الشاب - الذي كان قد بدأ محاولة الكتابة في الرابعة عشرة من عمره - أُجبر على قطع إقامته في لبنان وعلى العودة إلى وطنه، ثم على مغادرته مرة أخرى إلى بغداد، ثم على ترك بغداد إلى القاهرة، حيث أنهى دراسته للصحافة في الجامعة الأمريكية. وأقام غالب في القاهرة لثلاثة وعشرين عاماً متصلة، يعمل في الترجمة الصحفية، ويكتب قصصاً وروايات، ويترجم الأدب والنقد، ويؤثر ـ بشخصه وبأعماله وبثقافته ـ في جيل الروائيين والقصاصين والشعراء الذي أُطلق عليه ـ فيما بعد ـ : (جيل الستينيات).
    وفي عام 1976، أُجبر غالب هلسا على ترك القاهرة إلى بغداد، التي غادرها بعد ثلاث سنوات إلى بيروت، حيث أقام إلى أن اجتاحت القوات الإسرائيلية العاصمة اللبنانية، فحمل السلاح، وظل في خنادق القتال الأمامية، وكتب عن هذه الفترة الهامة نصوصاً تجمع بين التحقيق الصحفي والقصة.
    ثم رَحَل مع المقاتلين الفلسطينيين على ظهر إحدى البواخر إلى عدن، ومنها إلى إثيوبيا، ثم إلى برلين. وأخيراً حطّ به الرحال في دمشق التي أقام بها إلى أن توفي بعد سبع سنوات من وصوله إليها.
    والعالم الروائي عند غالب هلسا عالم واحد، متنوع المناحي وعميق، لكنه محدد ومتواتر القسمات، يدور أساساً حول شخصية الراوي التي تأتينا أحياناً بضمير المتكلم، وأحياناً أخرى بضمير المفرد الغائب الذي ينبثق العالم الروائي منه. وفي أحيان كثيرة تبدو شخصية الكاتب سافرة، بملامحها المعروفة من حياة الكاتب. وفي أحيان أخرى يتخذ اسمه صريحاً.
    غالب كاتباً وشخصيةً روائية، سواء، هو ابن وفيّ وقادر على الإفصاح، لتلك الحقبة التي زلزلت البلاد العربية جميعها تقريباً، من أواخر الأربعينيات حتى أواخر الثمانينيات: بآمالها وآفاقها وخياراتها وشعاراتها ووعودها وتطلعاتها، ثم بالضربة الساحقة في 1967 والانهيار الذي تلاها.
    والشهوة الحسية في كتابات غالب هلسا ليست بهيجة ولا فرحة، بل هي ليست تحققاً، إذ يستخدمها الكاتب في التعبير عن الخذلان والفشل والسقوط.
    نشر غالب في حياته سبع روايات: (الضحك)، 1971. (الخماسين)، 1975. (السؤال)، 1979. (البكاء على الأطلال)، 1980. (ثلاثة وجوه لبغداد)، 1984. (نجمة)، 1992 (طبعة ثانية). (سلطانة)، 1987. (الروائيون)، 1988. كما نشر غالب مجموعتين من القصص: (وديع والقديسة ميلادة)، 1969 و(زنوج وبدو وفلاحون)، 1976. هذا فضلاً عما ترجمه من أعمال نظرية لجاستون باشلار، وأعمال أدبية لسالنجر وفوكنر وغيرهم.
    http://thaqafa.sakhr.com/ketab/pages.asp?Lnk=halsa/a001.xml
                  

07-15-2006, 00:46 AM

AnwarKing
<aAnwarKing
تاريخ التسجيل: 02-04-2003
مجموع المشاركات: 11481

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    سلامات ...
                  

07-15-2006, 01:47 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: AnwarKing)

    عزيزي أنور
    سلامات كثيرة
    مرحبا بك في متاهة المكان والغياب
    ارقد عافية
    المشاء
                  

07-15-2006, 09:03 AM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)



    صاحب الكلِم الرحيب ، والقص الشِعري :
    الكاتب الرائع :

    أسامة الخواض .

    قرأت ما قرأت ، وشغلني ما يشغل دُنيانا هذه الأيام .
    صور مُكثفة اللغة ، رأسياً تعملقت ،
    و أُفقياً امتدت ببساط المدى .
    مشروع كتاب تكثف في لغة شعرية باهرة .
    أتمنى أن أرجع ...
    قلت لنفسي لا يُعقل أن أستطعِم رغم مشاغلي ولا أقول شيئاً :
    نِعم الطعام ما قرأت عيناي ،
    ونِعم الضياء يلتف حولك عندما تُفسِح لتُبدع في كتابة شاعِرة .
    كل يوم أنت تُجدد قلمك ، تمُرّ على السحنات وتتصفح الملامِح والأمكنة

    تصفُح العابد .
    شكراً لك
                  

07-15-2006, 12:00 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: عبدالله الشقليني)

    صديقنا صاحب القلم المعجون بالايراق:
    عبد الله الشقليني
    يسعدني كثيرا ان يحظى نصي هذا بمثل هذا الدفق اللغوي الأخّاذ,
    وفي انتظار عودتك بعد زوال سحب المشاغل

    ولك محبتي بلا سواحل
    المشاء
                  

07-16-2006, 00:40 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)



    قلنا ان ترجمة غالب هلسا ل"جماليات المكان" قد ساهمت في الاهتمام العربي النقدي بموضوعة المكان
    وهنا دراسة عن جماليات المكان في الرواية بقلم الدكتور أحمد زياد محبك

    تمهيــد
    ما تزال دراسة المكان فى الرواية نادرة فى النقد العربى، والكتب التى صدرت فى هذا السياق ما تزال دون عدد أصابع اليد، وما تسعى إليه هذه المقالة هو وضع مقدمة نظرية لدراسة المكان فى الرواية.
    وهذه المقدمة تستند إلى أهم ما صدر فى العربية من دراسات فى المكان الروائى، وهى دراسات سيزا قاسم (1985) وحسن بحراوى (1990) وسمر روحى الفيصل (1995)، كما تستند إلى بعض الدراسات فى الرواية الغربية.
    وغاية ما تسعى إليه هذه المقدمة أن تكون حافزاً إلى درس المكان، وعوناً على الوعى به جمالياً، ولذلك تمّ توخى الإيجاز، والبعد عن الأمثلة التطبيقية، حتى تترك المجال للقارئ كى يستحضر فى ذهنه ما قرأ من روايات.
    أهمية المكان
    يكتسب المكان فى الرواية أهمية كبيرة، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذى تجرى فيه الحوادث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول فى بعض الأعمال المتميزة إلى فضاء يحتوى كل العناصر الروائية، بما فيها من حوادث وشخصيات، وما بينها من علاقات، ويمنحها المناخ الذى تفعل فيه، وتعبر عن وجهة نظرها، ويكون هو نفسه المساعد على تطوير بناء الرواية، والحامل لرؤية البطل، والممثل لمنظور المؤلف، وبهذه الحالة لا يكون المكان كقطعة القماش بالنسبة إلى اللوحة، بل يكون الفضاء الذى تصنعه اللوحة.
    إن المكان "ليس عنصراً زائداً فى الرواية، فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معانى عديدة، بل إنه قد يكون فى بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل كله" (بحراوى ص 33 ).
    المكان والواقع
    وبداية لابد من الاتفاق على أن المكان فى الرواية أياً كان شكله ليس هو المكان فى الواقع الخارجى، ولو أشارت إليه الرواية، أو عنته، أو سمته بالاسم، إذ يظل المكان فى الرواية عنصراً من عناصرها الفنية.
    إن المكان فى الرواية هو "المكان اللفظى المتخيل، أى المكان الذى صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخييل الروائى وحاجاته " (الفيصل 251)، "فالنص الروائى يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة" (سيزا ص 74).
    إن المكان فى الرواية قائم فى خيال المتلقى، وليس فى العالم الخارجى، وهو مكان تستثيره اللغة، من خلال قدرتها على الإيحاء، ولذلك كان لابد من التمييز بين المكان فى العالم الخارجى والمكان فى العالم الروائى.
    "وإذا كانت نقطة انطلاق الروائى فى التقاليد الواقعية هى الواقع، فإن نقطة الوصول ليست هى العودة إلى عالم الواقع، إنها خلق عالم مستقل، له خصائصه الفنية التى تميزه عن غيره". (سيزا 785).
    وعندما يستعين الروائى بوصف المكان أو تسميته، فهو لا يسعى إلى تصوير المكان الخارجى، وإنما يسعى إلى تصوير المكان الروائى، وأى مطابقة بينهما، هى مطابقة غير صحيحة، وما استعانة الروائى بالتسمية أو الوصف إلا لإثارة خيال المتلقى.
    وظيفة المكان فى الرواية
    فى الرواية التقليدية يظهر المكان مجرد خلفية تتحرك أمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث، ولا تلقى من الروائى اهتماماً أو عناية، وهو محض مكان هندسى.
    وفى الرواية الرومانتيكية يظهر المكان معبراً عن نفسية الشخصيات، ومنسجماً مع رؤيتها للكون والحياة وحاملاً لبعض الأفكار.
    وفى هذه الحالة" يبدو المكان كما لو كان خزاناً حقيقياً للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بين الإنسان والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر " ( بحراوى 31 ) .
    وفى كلتا الحالتين يظل المكان فى إطار المعنى التقليدى للمكان فى الرواية، ويمكن أن يعد هذا المعنى البنية التحتية، على حين يمكن أن يحقق المكان بنية فوقية، يغدو فيها المكان فضاء، وذلك عندما يسهم المكان فى بناء الرواية وعندما تخترقه الشخصيات "فيتسع ليشمل العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، وهى فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" (الفيصل 253).
    "إن الوضع المكانى فى الرواية يمكنه أن يصبح محدداً أساسياً للمادة الحكائية ولتلاحق الأحداث والحوافز، أى إنه سيتحول فى النهاية إلى مكوّن روائى جوهرى ويحدث قطيعة مع مفهومه كديكور" (بحراوى 33).
    وهكذا يدخل المكان فى الرواية عنصراً فاعلاً، فى تطورها، وبنائها، وفى طبيعة الشخصيات التى تتفاعل معه، وفى علاقات بعضها ببعضها الآخر.
    وإذن "يمكننا النظر إلى المكان بوصفه شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر التى تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائى، فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التى نظمت فيها العناصر الأخرى فى الرواية، لذلك فهو يؤثر بعضها، ويقوّى من نفوذها، كما يعبر عن مقاصد المؤلف" (بحراوى 32).
    وهكذا، "فالفضاء الروائى أكثر شمولاً واتساعاً من المكان" (الفيصل 256)، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات" (الفيصل 256) " وهو ينشأ من خلال وجهات نظر متعددة، لأنه يعاش على عدة مستويات، من طرف الراوى، بوصفه كائناً مشخصاً، وتخيلياً ، أساساً، ومن خلال اللغة، ثم من طرف الشخصيات الأخرى التى يحتويها المكان، وفى المقام الأخير من طرف القارئ، الذى يدرج بدوره وجهة نظر غاية فى الدقة" (بحراوى 32).
    وهكذا يتجاوز المكان وظيفته الأولية المحددة، بوصفه مكاناً لوقوع الأحداث، إلى فضاء يتسع لبنية الرواية، ويؤثر فيها، من خلال زاوية أساسية، هى زاوية الإنسان الذى ينظر إليه.
    إن المكان الهندسى البحت لا يمتلك قيمة فنية، ومن هنا كان اختلاف المكان فى الرواية عن المكان فى الواقع الخارجى، لأنّ المكان فى الرواية هو المكان معروضاً من زاوية الراوى والشخصيات والحوادث والأفكار ومن خلال تفاعلها جميعاً معه.
    "إن المكان الروائى لا يتشكّل إلا باختراق الأبطال له، وليس هناك أى مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث التى يقوم بها الأبطال ومن المميزات التى تخصّهم" (بحراوى 29).
    ولذلك ميّز غالب هلسا بين ثلاثة أنواع للمكان بحسب علاقة الرواية به، وهى:
    1- المكان المجازى: وهو الذى نجده فى رواية الأحداث وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دوره التوضيح ولا يعبر عن تفاعل الشخصيات والحوادث.
    2- المكان الهندسى: وهو الذى تصوره الرواية بدقة محايدة، تنقل أبعاده البصرية، فتعيش مسافاته، وتنقل جزئياته، من غير أن تعيش فيه.
    3- المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان وتثير خيال المتلقى فيستحضره بوصفه مكاناً خاصاً متميزاً. (هلسا 8 - 9).
    ولذلك، فإن وصف المكان وحده لا يساعد على خلق الفضاء الروائى، ولا بد من اختراق الإنسان للمكان، والتفاعل معه، والعيش فيه، وتقديمه من خلال زاوية محدودة، تخدم الإطار العام للرواية، بحيث يتحول المكان نفسه إلى عنصر فاعل.
    إن المكان فى الرواية من غير تلك الآفاق يغدو محض زخرف أو زينة، وفى أفضل الحالات يساعد على فهم الشخصيات وتفسيرها، ولكنه لا يتحول إلى فضاء، إن الوصف هو الأرض التى يمكن أن يبنى عليها الفضاء، ولكن الوصف وحده لا يصنعه.
    "المعيار إذن، هو بناء الفضاء الروائى، فإذا نجح الروائى فى هذا البناء منح المكان الحقيقى والمكان المبتدع خصوصية الخلق الفنى، وإلا، فلا" (الفيصل261).
    تسمية المكان الروائى
    ولعل تسمية المكان هى أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان فى الرواية تحيل القارئ على المكان الذى يحمل الاسم نفسه فى الواقع، وإن كان المكان فى الرواية ليس هو المكان نفسه فى الواقع، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لايمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان الروائى.
    "إن المكان الروائى لفظى متخيل، يحيل إلى نفسه، ولا يتأثر بمحاولات الروائيين تسميته باسم حقيقى بغية إيهام القارئ بمصداقية الحوادث وواقعية المجتمع الروائى" (الفيصل 283).
    المكان والواقع
    ولذلك يبدو الوصف الوسيلة الأساسية فى تصوير المكان، و "هو محاولة لتجسيد مشهد من العالم الخارجى فى لوحة مصنوعة من الكلمات، والكاتب عندما يصف لا يصف واقعاً مجرداً، ولكنه واقع مشكّل تشكيلاً فنياً، إن الوصف فى الرواية هو وصف لوحة مرسومة، أكثر منه وصف واقع موضوعى (سيزا 110).
    إن الوصف يتناول الأشياء، فيرسمها بوساطة اللغة، وهو عنصر أساسى فى الرواية، فإذا كان السرد يروى الأحداث فى الزمان، فإن الوصف يصور الأشياء فى المكان، ولكنه ليس غاية فى ذاته، وإنما هو لأجل صنع المكان الروائى، أو بالأحرى لخلق الفضاء الروائى، فما هو بالتصوير الموضوعى، إنما هو تصوير فنى.
    وفى الرواية يظهر الوصف إلى جانب السرد والحوار، بل لعله من الممكن استخراج أسطر أو مقاطع خالصة للوصف، ولكن مما لاشك فيه أن هذا الوصف ليس للزخرف أو الزينة، إلا فى الأعمال الضعيفة.
    إن للوصف وظائف متعددة، منها التصوير الفنى الجميل للمكان، ومنها التمجيد للشخصية التى ستخترق المكان، فمن خلال وصف المكان يتم التمهيد لمزاج الشخصية وطبعها، فيصبح المكان "تعبيرات مجازية عن الشخصية، لأن بيت الإنسان امتداد له، فإذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان" (ويليك 28.
    و "الوظيفة الثالثة التى يؤديها الوصف، وخاصة عندما يقف عند التفاصيل الصغيرة، هى وظيفة إيهامية، إذ يدخل العالم الخارجى بتفاصيله الصغيرة فى عالم الرواية التخييلى، فيشعر القارئ أنه يعيش فى عالم الواقع لا عالم الخيال، ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع" (سيزا 81).
    وهو مما لاشك تأثير إيهامى، للمتلقى دور كبير فى صنعه، إذ لا يمكن للغة أن تنقل تفاصيل الواقع، وإذا فعلت ذلك سكنت الحركة فى الرواية، وما على اللغة إلا أن تشير إلى الواقع بالتقاط جزئيات منه، وعلى المخيلة لدى المتلقى أن تقوم ببناء المكان الروائى من خلال الجزئيات التى تقدمها له اللغة.
    "إن الرواية هى أولاً مجرد شيء، كتاب، موضوع على مكتبتنا، وعندما نفتحه وتنتقل نظراتنا بين الصفحات، تعلق فى الفخ، فتنقلب الغرفة التى نحن فيها إلى مكان آخر يخلقه ديكور الرواية (بوتور 59).
    ولعل من المهم القول إن الوصف لا ينقل الأشكال والألوان كما تراها العين، بل ينقلها وفق منظور نفسى فنى جمالى، يخدم الرواية، ومن خلال اللغة، وبشكل يساعد على خلق فضاء تتحرك فيه الشخصيات، وتعبر عن طبعها ومزاجها وأفكارها، ويكون المكان جزءاً من بنيتها الكلية.
    "والوصف يقوم على مبدأين متناقضين، هما الاستقصاء والانتقاء، وقد قامت الخلافات بين الكتاب على أيهما أكثر واقعية، وأيهما أكثر تعبيراً، أما بلزاك فقد كان من أنصار الاستقصاء ولم يترك تفصيلاً من تفاصيل المشهد إلا ذكره، ويرى ستندال أن الوصف القائم على التفصيل يحد خيال القارئ ويقتله، فكان يفضل الخطوط العريضة" (سيزا 8.
    ولقد وضع جان ريكاردو شجرة للوصف، وضّح فيها عناصره، وفيما يلى بيان بها : ( سيزا 8.
    الشىء
    الوضع الصفات العناصر
    الزمان الحجم أ- 1- الوضع
    المكان اللـون 2- الصفات
    العـدد 3- العناصر
    الشكـل ب- العناصـر
    ج - العناصـر
    ومما لاشك فيه أن لكل روائى منهجه، ونجاح منهج عند كاتب، لا يقتضى بالضرورة نجاح المنهج نفسه لدى كاتب آخر.
    ومهما يكن من أمر، فإن الوصف عنصر أساسى فى بناء المكان، وما الروائى إلا "رسام ديكور ورسام أشخاص" (بوتور 46).
    وما الوصف فى الحقيقة إلا "صورة ذهنية متباينة بين الروائيين سواء أكانت محاكاة لمكان حقيقى أم كانت متخيلة، وهى مرتبطة بمنظور الراوى، أى وجهة نظره فى علاقة المكان بالحوادث والشخصيات، ومرتبطة بقدرة الروائى التعبيرية، وبالأهداف التى يريد تحقيقها" (الفيصل 262).
    "والوصف الجيد قد يساعد على الترشيح لظهور الشخصية، أو الارتباط بمزاجها وطبعها، ولكنه لا يقتضى بالضرورة خلق فضاء روائى. وإن صورة المكان الجيدة تعد منطلقاً لبناء الفضاء الروائى إذا كان المكان أساسياً، وتتضامن مع الصور الجيدة الأخرى لتشييد هذا الفضاء إذا كان المكان فرعياً، وحين تخسر هذه العلاقة لانفصالها عن الأمكنة الأخرى فى الرواية فإنها تكتفى بوظيفتها التفسيرية" (الفيصل 269).
    "أما الصورة الضعيفة فتجعل المكان الأساسى مجرداً لا يقع فيه حدث ولا تخترقه شخصية، وتبقى الصورة الضعيفة فى أفضل حالاتها زخرفاً أو تعييناً عاماً لمسرح الحوادث، كما تعجز عن الكشف عن أى جانب من جوانب الشخصيات، سواء أكانت تحمل اسماً يوهم بأنها حقيقية فى الواقع الخارجى، أم لم تكن" (الفيصل269).
    وهكذا يظهر واضحاً أن الوصف للمكان ليس غاية فى ذاته، إنما هو وسيلة لخلق الفضاء الروائى، وهذا الفضاء الروائى لا يتحقق إلا من خلال حركة الشخصيات فى المكان، وتفاعلها معه، كما لا يتحقق إلا من خلال تعدد الأمكنة، وقيام علاقات متواشجة فيما بينها، وذلك كله من خلال منظور ورؤية تلتحم ببنية العمل الروائى.
    وإذن لابد من "اختراق الشخصيات الروائية المكان، وإحياء العلاقات المكانية، وجعلها نابضة بالحركة والفعل"، (الفيصل 257) لكى ينتقل المكان من محض مكان إلى فضاء روائى، لأن "الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من المكان، فهو أمكنة الرواية كلها، إضافة إلى علاقاتها بالحوادث ومنظورات الشخصيات، حتى إن الروائى الذى يقصر حدثه على مكان واحد مغلق لابد أن يخلق فى ذهن القارئ امتدادات مكانية أخرى، ومن ثم يصعب القول إن الفضاء الروائى يتشكل من مكان واحد، وإن بدا ظاهره مغلقاً عليه وحده". (الفيصل 256).
    ولعل ذلك كله يؤكد ثانية أن المكان فى الرواية "ليس مكاناً معتاداً كالذى نعيش فيه أو نخترقه يومياً، ولكنه يتشكل كعنصر من بين العناصر المكونة للحدث الروائى، وسواء أجاء فى صورة مشهد وصفى أو مجرد إطار للأحداث، فإن مهمته الأساسية هى التنظيم الدرامى للأحداث" (بحراوى 30).
    وفى الخلاصة يمكننا القول إن "مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها" ( الفيصل 253).
    المكان بين رواية الشخصية ورواية الحدث
    ومن الممكن أن نقف هنا عند تمييز إدوين موير بين رواية الشخصية ورواية الحدث، لنرى انعكاس هذا التمييز على المكان، وهو يؤكد منذ البدء أنه "لا توجد روايات من الشخصيات البحتة، ولا روايات من الصاع البحت، وإنما هى روايات يغلب عليها هذا الطابع أو ذاك، غلبة بارزة وكافية دائماً" (موير 61).
    ثم يرى أن "العالم الخيالى للرواية الدرامية يقع فى الزمان، وأن العالم الخيالى لرواية الشخصية يقع فى المكان، ففى الأولى يقدم لنا الكاتب تحديداً عابراً للمكان، ويبنى حدثه فى نطاق الزمان، وفى الثانية يفترض الزمان، فيكون الحدث إطاراً زمنياً ثابتاً، يوزع دائماً، ويعدل مرة بعد أخرى فى نطاق المكان، فالثبات والخط الدائرى فى حبكة رواية الشخصية، هما اللذان يكسبان الأجزاء تناسبها ومعناها، أما فى الرواية الدرامية فتسلسل الحدث وحلّه هما اللذان يصنعان ذلك" (موير 62).
    "إن رواية الشخصية تقدم لنا شخصيات تعيش فى مجتمع، ورواية الحدث تقدم لنا أفراداً يتحركون من بداية إلى نهاية، فالرواية الدرامية عادة يكون معنى المكان فيها باهتاً وتحكيمياً" (موير 62)، ولذلك نحسّ "بامتلاء المكان امتلاء بالغاً غير عادى فى الأعمال الكبيرة من روايات الشخصية، كما نحس بازدحام الزمان فى الرواية الدرامية" (موير 84).
    وفى كل مرة يتحدث فيها موير عن المكان فى رواية الشخصية أو فى رواية الحدث يؤكد أن الأمر ليس مطلقاً، وإنما هو على سبيل التغليب، وهو يؤكد ذلك فيقول: "إن القول بمكانية الحبكة لا ينكر الحركة الزمانية فيها، كما أن القول بزمانيتها لا يعنى أنه ليس لها وضع فى المكان، وهنا نرى مرة أخرى أن الأمر يتصل بالعنصر الغالب" (موير 63).
    وعلى كل حال، فإن كلام موير لا ينقص البتة أهمية المكان فى الرواية، ولا ينفى الفارق الفنى الأكيد بين ماهو مكان وما هو فضاء، فى أى نوع من أنواع الرواية، سواء بسواء.
    إذ يمكن أن تنجح رواية الدراما فى خلق الفضاء الروائى على الرغم من القول العام باعتمادها على الزمان وتسلسل الحدث أكثر من اعتمادها على المكان.
    مستويات المكان
    ومن الممكن النظر بعد ذلك إلى المكان من وجهة نظر فكرية، لأن المكان ليس محض مكان موضوعى، محايد، وإنما هو مكان روائى فنى، يتم تصويره من وجهة نظر، ومن خلال زاوية رؤية، وعبر التفاعل مع الشخصيات والحوادث، وهو بذلك يحمل قيمة، أو يمثلها، أو يرمز إليها.
    ففى الرواية "لا نواجه فضاءً خاصاً، وإنما أجزاء وعناصر منظور إليها بطريقة خاصة، فالرؤية هى التى ستمدنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصيات عن المكان" (بحراوى 42).
    والإنسان كما يرى لوتمان "يخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية" (سيزا75).
    فهو يرى المقابلات التالية بين القيم والأماكن:
    عالى × واطئ = قـيّـم × رخيـص يمين × يسار = حسن × سيّـئ قريب × بعيد = الأهل × الغرباء مفتوح × مغلق = مفهوم × غامض
    "إن إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام، وينطبق هذا التجسيد المكانى على العديد من المنظومات الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية والزمانية " ( سيزا 75).
    ويتجسد فى هذا المكان الروائى من خلال التمثيل للقيمة بالمكان، والتقابل بين القيم من خلال التقابل بين الأمكنة، فالقصر العالى الواسع الكبير للغنى القوى القادر على الفعل، والبيت الصغير الضيق الحقير للفقير.
    وانطلاقاً من هذا التقابل والتمثيل "يرى لوتمان أنه توجد صفة طوبولوجية هامة هى الحدّ، فالحدّ هو الذى يعهد إليه تقسيم فضاء النص إلى فضاءين غير متقاطعين، وفق مبدأ أساسى هو انعدام قابلية الاختراق" (بحراوى 37).
    وهذا الحدّ سيجعل هناك أماكن مباحة، وأماكن محظورة، فالقصر محظور على الفقير، وبيت الفقير مباح للغنى، ومن الصعب على الفقير اختراق القصر.
    ومما لا شك فيه أن هذا الحدّ الذى يقيمه لوتمان ليس حداً مكانياً جغرافياً، إنما هو "حد اجتماعى اقتصادى يفصل بين فضاءين روائيين" ( الفيصل 272).
    ومثل هذه التصنيفية إلى فضاءين تؤكد انطلاق الفضاء من رؤية الإنسان كما تؤكد أن الفضاء الروائى يحيل إلى البناء الفنى للرواية ولا يحيل إلى الواقع.
    وثمة رؤية تصنيفية أخرى قدمها غاستون باشلار فى "جماليات المكان"، فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذى يوجد فيه الإنسان، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر، وأكد أنهما " ليسا متضادين كما يظن البعض، ففى الحالتين يجب ألا نناقش الصغير والكبير بما هو عليه موضوعياً، … بل على أساس كونهما قطبين لإسقاط الصور (باشلار 33) كما أكد أن الإحساس بهما يوجد فى داخلنا وليس بالضرورة بشيء فى الخارج.
    ثم يلح على "أننا حين نقرأ مثلاً وصفاً لحجرة، نتوقف عن القراءة لنتذكر حجرتنا، أى إن قراءة المكان فى الأدب تجعلنا نعاود تذكر بيت الطفولة" (باشلار 7).
    "ومن هنا يقدم اعتراضه على الفكرة الوجودية التى تقول: حين نولد نلقى فى عالم معاد، نولد منفيين، فهو يرى أننا نلقى فى البداية فى هناءة بيت الطفولة" ( باشلار 7).
    وانطلاقاً من لوتمان أسس حسن بحراوى منهجاً لتصنيف المكان وفق ثلاثة مفاهيم، وهى التقاطب وتعنى وجود قطبين متعارضين فى المكان وفق "تقابلات ضدية" كالإقامة والانتقال (بحراوى 40)، ومفهوم التراتب الذى يتوزع فيه الفضاء "إلى عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبى معقد" (بحراوى 41) وقد درس من خلال هذا المفهوم "طبقات الفضاء السجنى بناءً على أهميتها من حيث الدرجة والرتبة (بحراوى 41)، والمفهوم الأخير الذى اعتمده هو الرؤية و "هى التى ستمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التى تحملها الشخصية عن المكان وتحيطنا علماً بالكيفية التى ندرك بها أبعاده وصفاته.. ولهذا المفهوم فائدة كبرى عند تصنيف وتحليل أنواع الرؤيات السائدة فى إدراك وعرض مكونات الفضاء الروائى.. وستقوم الرؤية كمعيار حاسم لقياس المدى الذى تطاله قدرة الروائى على طويق أجزاء المكان وإلغاء المسافة بين عناصره وتقديمه على نحو يلبى الحاجة إلى الائتلاف والانسجام" (بحراوى 42).
    وما هذه التصنيفات أو النماذج أو المفاهيم إلا دليل آخر على أهمية المكان فى العمل الروائى، وعلى ما يمتلك من أبعاد ودلالات.
    المكان فى رواية تيار الوعى
    ولا بد بعد ذلك كله من الإشارة إلى الوضع الخاص الذى يمتلكه المكان فى رواية تيار الوعى، فهو لا يظهر فيها بشكل وصف مستقل.
    إن تيار الوعى "هو التكنيك الذى يستخدمه الروائى القديم لتقديم المحتوى الذهنى والعمليات الذهنية للشخصية عن طريق وصف المؤلف الواسع المعرفة لهذا العالم الذهنى" (همفرى 54).
    وتيار الوعى مصطلح ابتدعه وليم جيمس (1840 - 1910) "ويشمل كل منطقة العمليات العقلية بما فيها مستويات ما قبل الكلام على وجه الخصوص" (همفرى 17)، "ولا يوجد تكنيك خاص لتيار الوعى، إنما يوجد بدلاً من ذلك عدة ألوان من التكنيك جد متباينة تستخدم لتقديم تيار الوعى". (همفرى 21).
    ومن تقنيات تيار الوعى المونتاج، "ويشير إلى مجموعة الوسائل التى تستخدم لتوضيح تداخل الأفكار أو تداعيها، وذلك كالتوالى السريع للصور، أو وضع صورة فوق صورة، أو إحاطة صورة مركزية بصور أخرى تنتمى إليها" (همفرى 72).
    وقد أشار ديفيد داتشز إلى طريقتين فى تقديم هذا المونتاج فى القصص، الأولى تلك التى يمكن للشخص فيها أن يظل ثابتاً فى المكان على حين يتحرك وعيه فى الزمان، ونتيجة ذلك هى المونتاج الزمنى، أى وضع صور أو أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر، والطريقة الأخرى بالطبع أن يبقى الزمن ثابتاً، ويتغير العنصر المكانى، والأمر الذى ينتج عنه المونتاج المكانى" (همفرى 75).
    الفضاء الموضوعى للكتاب
    ولا بد أخيراً من الإشارة إلى الفضاء الموضوعى للكتاب، "أى فضاء الصفحة والكتاب بمجمله، والذى يعتبر المكان المادى الوحيد الموجود فى الرواية، حيث يجرى اللقاء بين وعى الكاتب ووعى القارئ. وفى هذا الاتجاه برزت عدة دراسات حول فضاء النص من خلال تحليل العنوان أو الغلاف أو المقدمات وبدايات واختتام الفصول والتنويعات المختلفة وفهارس الموضوعات، ولقد عارض كثيرٌ من النقاد هذا الاتجاه فور ظهوره لأنهم رأوا فيه ميلاً مبالغاً نحو الشكلنة والتجريد" بحراوى (2.
    وفى الواقع إذا كان من المفيد دراسة الفضاء الروائى من خلال تسمية الأشخاص والأماكن ومن خلال عنوان الرواية، فإن الفائدة تبدو أقل فى دراسة الغلاف وشكل الحروف ونظام الفصول.
    خاتمة
    وبعد، فتلك هى بعض الآفاق التى تفتحها دراسة المكان فى الرواية، وهى آفاق خصبة غنية واسعة، وبإمكان القارئ من خلالها تحقيق متعة أكبر فى التعامل مع المكان الروائى، وبإمكان الدارس الانطلاق من غير شك إلى آفاق وأبعاد أغنى وأوسع.
    ولعل ذلك كله يؤكد أهمية المكان فى الرواية، وما هو جدير به من عناية ودرس.
    المراجع:
    1- بحراوى، حسن، بنية الشكل الروائى، المركز الثقافى العربى، بيروت، الدار البيضاء، 1990. 2- الفيصل، د. سمر روحى الفيصل، بناء الرواية العربية السورية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1995. 3- قاسم، د. سيزا أحمد، بناء الرواية ، دار التنوير، بيروت، 1985. 4- هلسا، غالب، المكان فى الرواية العربية، دار ابن هانئ، دمشق، 1989.
    المراجع المترجمــة
    1- باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر. غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، ط. ثانية، 1984. 2- بوتور، ميشال، بحوث فى الرواية الجديدة، تر. فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، 1971 . 3- موير، إدوين، بناء الروايـة، تر. إبراهيم الصيرفى، مر. الدكتور عبد القادر القط، الدار المصرية، القاهرة، لاتـا . 4- همفرى، روبرت، تيار الوعى فى الرواية الحديثـة ، تر، د. محمود الربيعى، دار المعارف بمصر ، القاهرة، ط. ثانية، 1975. 5- ويليك، رينيه ، وارين ، أوستن، نظرية الأدب ، تر. محيى الدين صبحى، مر. د. حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، دمشق، 1
    http://www.diwanalarab.com/article.php3?id_article=2220
                  

07-16-2006, 03:28 AM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8629

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    كيف الحال يا خواض

    هل رأيت حجم ومقدار وكمية الثراء الموجود فى كتابة العراقى ياسين النصير، ومدى العمق لدى غالب هلسا
    هو ذا تحديدا ما نحن فى حاجة إليه فى مستويات النقد السودانى، أو نقد الأعمال السودانية إذا شئنا الدقة
    فالأدب السودانى عامة، وأخص بشكل أكثر تأطيرا، حقبة الستينات والسبعينات، لما أنتجته وقدمته من أعمال ينبغى التوقف عندها طويلا، فى كل ضروب الفعل الإبداعى وليس فى مجال الشعر فقط، وأثمن ايضا على الأمثلة التى سقتها أنت
    فقطار الغرب مثلا لمحمد المكى، تستحق الجلوس عندها وبإنتباه شديد، ففيها كما أرى يحتل المكان كل حيز متوفر لتوليد المعنى ويمثل منطلق الشاعر فى رسم كل صورة أرادها، وبإختصار هو الأساس الذى قام عليه بنيان النص فى مجمله
    أما عند عبد الحى فى العودة إلى سنار، فالدلالة فى رأئى كانت "عاصرة" اكثر على الميتافيزيقيا منها إلى المباشرة، فهو يحتفى بالمكان من منطلق أنه، أى المكان، هو الباعث الأصيل أو العنوان الكبير لكثير من المعانى التى أرادها الشاعر، فسنار كقيمة مادية ملموسة أو كمكان مجسد، ينتهى دورها فى ما ورائها من قيم وبواعث وأشياء تجسد ما يراد الوصول اليه، هذا طبعا يا مشاء حسب قراءاتى العديدة للنص

    ثم ماذا عن محمد الواثق فى "امدرمان تحتضر" وعلى المك فى "مدينة من تراب"، أو أفريقيا مكانا ومعنى عند الفيتورى
    وفى الرواية، كيف هو حال المكان فى عمل مثل "حدث فى القرية" لإبراهيم إسحق
    أما إذا جئنا، وطالما أننا قد ذكرنا الرواية، إذا جئنا للطيب صالح، فالحديث يطول ويشتد غزارة، ففى كل الأعمال تقريبا يكون المكان هو البطل

    كنت أتمنى يا مشاء لو أننى أمتلك كامل "العدة" والأدوات التى تمكننى من الخوض ، بطريقة لا أقول علمية، بل صحيحة فى مجال النقد وما إليه، واللهم إن هى إلا محض إنطباعات أو "آوت بت" خارجة من خضم التذوق

    ولا يزال فى البال كما قلت لك من قبل، بعض الحديث عن فيدريكو غارسيا لوركا وآخرين

    (عدل بواسطة أبوذر بابكر on 07-16-2006, 11:02 PM)

                  

07-16-2006, 05:33 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: أبوذر بابكر)


    صديقنا المطر
    اعجبتني استبصاراتك النقدية الحاذقة والمتمعنة في آن
    واصلْ تداعياتك
    وقد نبهتني الى مدينة من تراب لعلي المك،وليس لمحمد الواثق،وهي تندرج ضمن مشروع علي المك لرصد امدرمان كمكان يعيد انتاجه ابداعا
    المكان ايضا ثيمة اساسية في خطاب الطيب صالح،
    ومن ضمن ذلك موضوعة الغرباء والاجانب واهل البلد في علاقتهم بالمكان،
    وقد اشرنا الى بعض من ذلك في:
    "القراءة الخاطئة"

    شكرا جميلا لك
    احساس مصطفى سعيد الجبلي البعيري بالمكان
    وفي انتظارك
    ارقد عافية
    المشاء
                  

07-16-2006, 06:53 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    أدناه مقال عن "جماليات المكان"
    جماليات المكان في شعر محمد عدنان قيطاز ((حماة نموذجاً)) ـــ د.عبد الفتاح محمّد- سورية
    مقدمة:
    يلاحظ الدارس لنتاج الشاعر محمد عدنان قيطاز أنّ للمكان عامة، ولحماةَ خاصة حضوراً طيباً فيه، تجلى ذلك في دواوينه الأربعة دون استثناء، وهي: "اللهب الأخضر" و"في ملكوت الحب" و"أسفار ابن أيوب" و"وجهك المستبد" وتفسير هذا الحضور الطيب هو أن الشاعر يألف الأمكنة التي يحيا فيها أو يزورها، ويرتبط معها بكل وشائج القربى، ويحرص على إبراز عناصر الجمال فيها.
    والحق أن الشاعر استطاع أن يجعل من نفسه، وهي ذات مبدعة شاعرة، طاقةً تتفاعل مع المكان، وتتحد به، وتحبه، وتقدسه، وتحس جمالياته، وتتذوقها، ومن ثم تصوغ ذلك كله إبداعاً مترفاً، يعتقد أنه سوف يرن في أذن الزمان.
    وأدنى تأمل في أعماله الشعرية يدل على أن حماة، وهي بلد الشاعر، تسكن في عينيه، وقلبه، ووجدانه، وأحاسيسه، ورؤاه، فحماةُ:
    بلدٌ طغى فيه الجمالُ مُعْربِدا
    مُتحلِّلاً حيناً وحيناً مُحْرِما(1)

    وحماه هي دارةُ الجمال، يقول:
    لكَ في دارةِ الجمالِ أغاريدُ
    فُتونٍ كذائعِ الطيبِ نَشْرا(2)

    وإذا كانت حماة جمالاً معربداً، ودارة جمال لدى الشاعر فإن السبيل إلى تجلية هذا الجمال لا يخلو من مغامرة ورهان لأسبابٍ كثيرة، منها:
    1 ـ أن العناصر المكانية يتم تقديمها من خلال جعل المتلقي يستعيد تجربة المكان الأليف، والذكريات المستعادة ليست معطيات ذاتَ أبعاد هندسية، وإنما هي مصاغة بخيال المتلقي، وأحلام يقظته(3).
    2 ـ أنّ الخيال الشعري المبدع تكون فيه وظيفتا الواقع واللاواقع متعاونتين، فالخيال يمنح إضافاتٍ حقيقية لقيم الواقع.
    3 ـ أنّ الخيال مبدع صورة، والصورة الشعرية بروز مفاجئ على سطح النفس، وكل ما تحتاجه الصورة ومضة من الروح، لذلك كان الشعر روح تَفْتَتِحُ شكلاً(4). من ههنا كان الفن إثراء لخصوبة الحياة، وكان الحديث عن ثروة الوجود المتخيل.
    4 ـ أن الشعراء يعاونوننا في اكتشاف الفرح الذي في داخلنا عند مشاهدة الأشياء، فنستطيع أن نرى في أشياء مألوفة للغاية امتداداً لمكاننا الحميم(5).
    5 ـ أن الشاعر قد يغوص بعمق أكثر حتى يجعل المكان قيمة كقيمة الإلفة، والمكان الشعري لكونه قد تمّ التعبير عنه، فإنه يصبح له خصائص تكبيريه، ويصبح له امتداد.
    لهذا كله، ولأمور أخرى يغدو الحديث عن جماليات المكان مغامرة، ورهاناً أرجو ألا أكون خاسراً فيهما
    الجمال لغة واصطلاحاً:
    الجمال لغةً هو الحسن، وهو مصدر فِعْلُه جَمُلَ، ويعتقد أن أصله الحسيَّ من الجميل، وهو دَكُ الشحم المذاب، يُراد به أن ماء السِّمن يجري في وجهه(6). ويقع الجمال على الصور والمعاني، ويكون في الفعل والخَلْق(7).
    والجمال في اصطلاح أهل الفلسفة صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سروراً ورضى(. وعلم الجمال أحد فروع الفلسفة، ويبحث في الجمال ومقاييسه، ونظرياته، وفي الذوق الفني، وتقويم الأعمال الفنية(9) ، وقد وردت مفردة الجمال في قوله تعالى: ولكم فيها جمالٌ حين تُريحون وحين تَسْرحون(10)، وهي بمعنى البهاء والحسن. وورد في الخبر:
    "أنّ اللهَ جميل يحب الجمال"، أي حسن الأفعال، كامل الصفات(11) ، وقد ذكر المعريّ أن الجمال الإنساني زائل، ومآله كمآل نقيضه، يقول:
    فلا يُعجب بصورته جميل
    فإنّ القُبحَ يُطوى كالجمال(12)

    وإذا كان الخيال ينتج جمالاً، فإن أهل الفلسفة يفرقون بين جمال الخيال الشكلي، وجمال الخيال المادي، ويذكرون أن الخيال الشكلي يخلق كلَّ الجمالِ غير الضروري، من مثل الأزهار، وأن الخيال الشكلي في داخل الفعل الإنساني يكون مغرماً بالطرافة، والجمال الفاتن، والتنوع، والمفاجأة في الأحداث... في حين يهدف الخيالُ المادي إلى إنتاج ما هو بدائي وخالد في الوجود من الجمال، إنه يفرز بذوراً وفي تلك البذور يكمن الشكل بعمق في المادة(13).
    جماليات المكان عند شاعرنا:
    ما كان لي أن ألج إلى البحث في جماليات المكان عند شاعرنا من غير تلك المقدمة التي تشير إلى كثرة قضايا الموضوع وعمقها وخفائها وتشعبها، وصعوبة الإحاطة بها.. فإدراك جمال المكان مرتهن بالتقرب من الذات المبدعة الشاعرة الحالمة اليقظة، الخيالية الواقعية، الفرحة الحزينة، الراضية الغاضبة، الذاهلة المتفكرة، الأليفة الوحشية...
    ومرتهن بإدراك الوسائل التي اعتمدها الشاعر في جعل المكان يسكن في عبير الكلمة، وجناح الخيال..، ومرتهن بقدرة المتلقي على تذوق العمل الفني، والتفاعل معه، والتأثير به.
    ولعل أبرز ما يواجهنا عند الحديث عن الذات الشاعرة المبدعة هو أن إدراك جمال المكان يتطلب منها يقظةً على درجة من الحدة والقوة، والحقّ أن الخيال يزيد حدةَ حواسنا، كما أنّ اليقظة الخيالية تهيئ انتباهنا للاستجابات الفورية(14).
    وشاعرنا يعي هذه الحقيقة، ها هو يعلن أنه أعمل حواسه سمعاً وبصراً وتذوقاُ بطاقة جعلته ينماز من الآخرين في إدراك بعض خصائص المكان، يقول:
    إني سمعتُ بها.. إني رأيتُ بها
    ما لا ترون.. وما صاد كمن وردا(15)

    ومع أن الشاعر يُعْملُ حواسه بطاقتها القصوى، فإنه يعلن أن عينيه لا تلبيان حاجة نفسه في النهل من جمال المكان، يقول:
    عينايَ ما ارتوتا من سحر آيته
    يا ليتَ لي ألفَ عينٍ ترصد البلدا(16)

    وإذا كانت الحواس يعتريها ما يجعلها ساهية أو لاهية أو معرضة أو غافلة، فإنّ الشاعر يشحذ النفس، ويدعوها إلى التنبيه واليقظة كي تقوم بمهمتها وقت الحاجة، يقول:
    قلتُ لما نزل العاصي أَفِقْ
    أيّها القلبُ فهذا وَطَريْ(17)

    وهو إذ يوقظ حواسه وينبهها، إنما يفعل ذلك ليجعل من نفسه عواطف وقيماً على النحو الذي يريد، فلا نستغرب وقتها من أن نراه ينشد:
    أنا كلي حبٌّ... كلي وَفَاءٌ
    ومن الحبِّ لاهِبٌ ودُخان(1

    ولا ننكر عليه أن يرى في تراب الوطن وحجارته شفاء يُطلب وحيلةً تُصان، يقول:
    أني لأستافُ الترابَ تعلةً
    وأُقَبِّلُ الحصباءَ دُرَّ مَحَارِها(19)

    وهو إذا يتعهد على كبر نفسَه بالتنبه واليقظة لا ينسى أن المدينة صاغته طفلاً ذا مواصفات خاصة، يقول:
    درجتُ فوق رباها
    طفلاً غريرَ السماتِ
    طلقَ الجبين مُدِلاً
    على المُدلِّ العاتي(20)

    وواضح أنه يتخير (الربى) دون (الوادي) لأنّ (الربى) تناسب تساميه وافتخاره بنفسه. ثم إنّ المدينة رَعَتْه، وَنَمتْهُ، يقول:
    حتى استطالتْ غُصوني
    وأَيْنَعَتْ ثمراتي(21)

    وأسرته حباً وعشقاً:
    أسرتني أمُّ النواعير
    وما زلْتُ مولعاً بإساري(22)

    وبعد، فحديثي عن جماليات المكان عند شاعرنا ينقسم إلى أقسام ثلاثة هي:
    أ ـ وسائل الشاعر في إظهار جماليات المكان على صعيد المضمون.
    ب ـ وسائل الشاعر في إظهار جماليات المكان على صعيد الشكل.
    ج ـ جماليات الناعورة، نموذج تطبيقي.
    أ ـ وسائله على صعيد المضمون:
    يمكن أن نقول باطمئنان: إن الشاعر في سعيه لإظهار جمال المكان على صعيد المضمون أو المحتوى اعتمد وسائل كثيرة متنوعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على غنى في الأدوات، وقوة في معمارية القصيدة، وعمق في التأثير، وللتدليل على هذا نعرض للوسائل التالية:
    1 ـ جمالية الإلفة.
    2 ـ استعادة سمات المكان.
    3 ـ القدرة على التأليف بين عناصر الجمال.
    4 ـ المكان المفتوح.
    5 ـ تكثيف الزمان.
    6 ـ جمالية الحركة.
    7 ـ الإفادة من الموروث.
    8 ـ جماليات أخرى.
    وفيما يلي بيان القول في هذه الوسائل:
    1 ـ جمالية الإلفة:
    يعتمد الشاعر في إظهاره لجماليات المكان على تقديم مشاهدَ عنوانُها الإلفة، الإلفة بين الإنسان والإنسان الذي يشاركه سُكْنى المكان، وبين الإنسان من جهة، والمكان من جهة ثانية، ومن المشاهد التي يتجلى فيها هذا الأمر واضحاً قول الشاعر:
    ولكم سرينا والضفافُ سواهرُ
    والنهر يجري طائعاً سَلْسالا
    نمضي إلى حَرَمِ الجمالِ وظِلِّهِ
    فنريحُ أشجاناً هناك ثِقالا
    ونشاركُ الأنسامَ بعضَ حديثها
    ونسامرُ الناعورةَ المكسالا

    ونعودُ نحتضنُ المفاتنَ والرؤى
    لنصوغَ منها للورى أمثالا(23)

    إنني لأعتقد أن هذا النص نموذج طيب لقدرة الشاعر على إظهار جمال الإلفة، أما إلفة الإنسان للإنسان، فدليله شيوع ضمائر الجموع في النص (سرينا، نمضي، نشارك، نسامر، نعود، نصوغ)، ولا ريب في أن اجتماع الأخدان والأصحاب يجعل الإلفة ذات وقع أشدَّ، لأنّ المرء يُطَمئِن رغبته في الاجتماع، والإنسان اجتماعي بطبعه.
    وأما إلفة الإنسان للمكان فقد دلت عليها إشارات الشاعر من أنه وصحبَهُ ذاقوا جمال المكان عبر غير حاسة فهم سروا، وسهروا وسَمَروا، وشاهدوا، وتحدثوا، واحتضنوا، وصاغوا.. وهنا يغدوا الإحساس بإلفة المكان جَمْعيّاً مما يجعلها ذات طعم بيِّن، يعززها تفاعل معظم حواس الإنسان مع المكان.
    وأما إلفة المكان للإنسان، وهي تحتاج إلى تقنية أشدّ لإبرازها، فما أعتقده أن الشاعر كان موفقاً إلى حد بعيد فيها، ذلك أن عناصر المكان قد أطلت برأسها، وهي تظهر إلفة فائقة نحو الشاعر وصحبه، فالضفاف سواهر، ويقظتها جميلة، والنهر استبدل بعصيانه طاعةً ورقةً، والأنسام تُغري بالتحدث، والناعورة مسامرة محببة، والمفاتن طوع البنان. ومكانٌ هذه عناصره، وهذه يقظته، وهذه استجاباته له أكبر الأثر في تطهير الإنسان من السأم والمَلالة، لتحلّ الهناءة والراحة في النفوس والأبدان، وحُق للشاعر أن يقول:
    نمضي إلى حرم الجمالِ وظلّه
    فنريحُ أشجاناً هناكَ ثِقالا

    ومكان هذه صفاته يحرّض على الإبداع والخَلْق مما يجعل الشاعر يقول:
    ونعودُ نحتضنُ المفاتنَ والرؤى
    لنصوغَ منها للورى أمثالا

    وهكذا نرى أن النص يمور بالإلفة، ومعلوم أن كلَّ مناطق الإلفة موسومة بالجاذبية، ووجودها هو الوجود الهني(24) ، وتلك الجاذبية هي التي تجعل المتلقي يتوقف عن قراءة المكان لأنه يرى أمكنته التي يألفها هو، وإذا كان الشاعر قد أضفى صفات إنسانية على المكان، فإن ذلك يحدث على الفور عندما تكون العناصر المكانية الموصوفة مكاناً للفرح والإلفة، مكاناً يستقطب الإلفة ويكثفها، ويدافع عنها.
    خلاصة القول: إن الشاعر جعل عناصر المكان تمتلك صفة الإلفة مثلنا، وعبرنا، ولأجلنا.
    2 ـ استعادة سمات المكان:
    إنّ العناصر المكانية قد تُقَدَّمُ من خلال جعل المتلقي يستعيد تجربة المكان الأليف(25) ، ذلك أن سمات المكان قد تبلغ حداً من البساطة والتجذر العميق في اللاوعي، وهذا التجذر يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها، أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها ومن النصوص التي اعتمد فيها الشاعر هذه التقنية قوله مخاطباً رفيقاً له، ومستعيداً ذكرياتٍ طيبةً تتجلى فيها سماتُ المكان على نحو بيّن:
    أبا موسى أتذكرُ يوم كُنَّا
    بلا وزنٍ وقافيةٍ نُغَنِّي
    وبابُ النهر ملعبُنا كأنّا
    ببابِ النهر في جناتِ عَدْنِ
    وعاصي الحبِّ يخطر مطمئناً
    على نَهْجِ الوفا حُلوَ التثني
    تطارحُنا النواعيرُ الشوادي
    فَتَشْرَقُ بالسرور وبالتمني
    ونبحُ تارةً ونلوذ أخرى
    بظلِّ معاطفِ الشجرِ الأغنِّ(26)

    فهذا النص ينطوي على أمور كثيرة، منها:
    أنّ كلمة (أتذكر) هي نافذة لاستعادة ذاكرة زمان ومكان، أما الزمان فهو أيام الصبا الأولى، وأما المكان فهو منطقة جميلة تسمّى "بابَ النهر"، حيث كان الشاعر ورفاقه يجدون ما يسرُّ العين، ويلذ النفس، ويبهج الخاطر، وكلّ عناصر المكان تسهم في ذلك، فباب النهر ملعب، واللعب حاجة في تلك السن، والنهر مسبح، والنواعير شوادٍ، والنهر محبٌّ مطمئن، وفيٌّ آمن.
    ـ ومنها أن الشاعر يُعنى بما يحققه المكان من سمات متجذرة، كاللعب والغناء والأمان والاطمئنان والراحة والسرور والهناء، أكثر مما يحرص على الوصف الدقيق له، بعبارة أخرى إنه يحرص على إبراز جماليات المكان المتجذرة فهو مكان ماتع، آمن يحقق الراحة، ويؤمن المأوى الظليل الحاني.
    ـ ومنها أن زمان الذكرى ومكانها كانا يشهدان ولادة مشاعر الحب في نفوس هؤلاء الفتية، دليل ذلك أن الشاعر أضفى هذه المشاعر على عناصر المكان، ولاسيما في قوله:
    وعاصي الحبِّ يخطرُ مطمئناً
    وقوله:
    تطارحُنا النواعيرُ الشوادي
    وقد تسللت هاتان المفردتان الدالتان على (الحب) و(الغرام) إلى ساحة الشعور لتعلن ميلاد هذه العواطف في نفوس هؤلاء الفتية.
    3 ـ القدرة على التأليف بين عناصر الجمال:
    ومما يتوسل به الشاعر إلى إظهار جمال المكان تأليفه بين عناصر متعددة للمكان، ووصفه لها وصفاً يتجه إلى الجمال فيها، من ذلك مقطع من قصيدة يذكر فيها أن حماة بلد عيشه طيب، ومجالس سمره حلوة، وعاصيه ساحر، ونواعيره مطربة، وأنواره زاهية، وأزهاره مبصرة، ومعاطيره جارية، وطيوره مستبشرة، يقول:
    ويطيب الزمان في ظلها الهاني
    وتحلو مجالسُ السُّمارِ
    يالَسحرِ العاصي ورَجْعِ سواقيه
    وزهو الضياء والبدرُ سارِ
    والأزاهيرُ كالعيون روانٍ
    والمعاطيرُ كالشموس جوارِ
    وطيورُ الضفاف ترقُصُ بشراً
    من هزارٍ شادٍ وغيرِ هزار
    أسرتني حماةُ أمُّ النواعير
    وما زلتُ مولعاً بإساري(27)

    ما يلاحظه الدارس لهذا النص أن الشاعر لم يؤلف بين عناصر كثيرة من عناصر المكان المادية فحسب، بل إنه أبرزها على نحو بدت فيه مشحونةً بطاقة عالية من (شِحْنات) الجمال، واستعان لذلك بمفردات وثيقةِ الصلة بالجمال منها الأفعال (يطيب، تحلو، ترقص)، والفعلان (يطيب، وتحلو) جاءا بصيغة المضارع، ومعلوم أن هذه الصيغة تدل على التجدد والاستمرار، وقد جعل (الزمان) يجد في ظل المكان ما يجعله طيباً، وإذا طاب المكان، وطاب الزمان فذلك غاية المنى.
    وأما الفعل (ترقص) فهو لا يدل على الحركة فحسب، بل يدل أيضاً على الاتساق، والتوافق مع الإيقاع، فكذلك هي حال الرقص. ويُلاحظ أن الشاعر نقل الإحساس بالجمال إلى طيور المكان (وطيور الضفاف ترقص بشراً)، وفي هذا ما يعزز إحساس المتلقي بالجمال.
    وللأسماء الواردة في النص إسهام في توليد الشِحنة الجمالية تلك، منها ما نجده في كلمة (الهاني) من قوله:
    ويَطيبُ الزمان في ظلها الهاني
    فهذا الاسم في هذا السياق يدل على الثبات بمعنى أن الهناءة دائمة متجذرة، وفوق هذا نجد أن النص حامل للمفردات التي تنتمي إلى خيال الطمأنينة يدخل في ذلك حتى كلمةُ (الأسر) فهو أَسْر مختلف فالشاعر راض به، بل راغب فيه. ولا ريب في أن هذا الخيالَ سيبعث إحساساً بالهدوء والراحة في الجسد والنفس.
    وإذا كان الشاعر قد مال إلى استخدام صيغ الجموع في هذا النص، من مثل (مجالس السمار) و(الأزاهير) و(العيون) و(المعاطير) و(الشموس) و(طيور الضفاف) فإن هذا الاستخدام يكاد يكون ظاهرةً أسلوبية لها أثرها في إثراء النص جمالياً، ومع أنه لا توجد في مجرتنا إلا شمسٌ واحدةٌ، فإن الشاعر جاء بكلمة (الشموس) مجموعةً في صفة (النساء المعاطير) ليعزز في نفس المتلقي الإحساس بالجمال من جهة، ولتتناسبَ مع صيغ الجموع التي شاعت في النص.
    ولأن الشاعر مؤمن بأن جمال المعنى ينبغي أن يشاكله جمال في الألفاظ، أدركنا حرصه على تقديم معانيه بألفاظ متناسقة متآخية متقابلة، ويتجلى ذلك على نحو صارخ في قوله:
    والأزاهيرُ كالعيونِ روانٍ
    والمعاطيرُ كالشموسِ جوارِ

    وأدنى تأمل يدل على ما بين الشطرين من إيقاع متقارب، وبنى متوازنة قُدِّرت تقديراً.
    وما كان جمال الشكل على حساب جمال المعنى، بل إنّ المعاني الموحية ليست بخافية، كما هي الحال في كلمة "روان" من قوله:
    والأزاهيرُ كالعيونِ روانٍ
    فيقظة الأزاهير. وإبصارها:، كل ذلك يُحيل إلى جمال متجذر، ويذكّر بقول أهل الفلسفة: "كلُّ ما يضيء يَرَى" وقولهم: "اللؤلؤة الكبيرة ترى"، ويذكر بيقظة المصباح(2. وللأزاهير صلة باللون الأبيض، فقد جاءت من الزُّهرة، هي نَوْرُ كلِّ نبات، وخصَّ بعضهم به الأبيض(29).
    4 ـ جمال المكان المفتوح:
    ومما يتوسل به الشاعر إلى إظهار جمال المكان تقديمه المكان الذي يحبه وكأنه يتجه إلى جميع الأماكن دون صعوبة، ويتحرك نحو أزمنة أخرى وعلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة، كالمكان الذي وصفه بقوله:
    يا نازلين بقلبي روضةً أنفاً
    بالسحر والشعر ضمختم حواشيها(30)

    وجمال المكان يصلح لكي يتزودَ منه الشاعر في ترحاله، يقول:
    حملتُ من جنة العاصي ومن بردى
    شوقَ المحبِّ فهل وفّى بما وعدا(31)

    5 ـ تكثيف الزمان:
    وثمة مواضعُ من شعر الشاعر توحي بأنّ المكان يحوي الزمان مكثفاً، وهذه هي وظيفة المكان(32)، وقد تبدى هذا التكثيف في وصفه للناعورة، يقول:
    بنتَ الزمانِ وأنتِ آية صُنْعِهِ
    مَنْ ذا الذي أغراكِ بالدوران(33)

    ويتبدى هذا التكثيف في وصفه لليالي العاصي، يقول:
    وليالي العاصي حِسانٌ قِصارٌ
    كُلُّ لذاتِهِ بلا أَعْمَارِ(34)

    6 ـ جمالية الحركة:
    إذا كان المكان الحيُّ ليس ساكناً في حقيقته، إنه يدمج الحركةَ من خلال الوسائل التي يسير الإنسان بها نحو المكان، فإننا نلمح آثار هذه الوسيلة في نتاج الشاعر، من ذلك قوله:
    أطيارُ عاصيها تُصَفِّقُ للضُّحى
    ومياهُ عاصيها تَهُزُّ الأَنْجُما(35)

    وقوله:
    وفوقَ القلعةِ العصماءِ طارتْ
    عذارى لا تكدرُها الشكوك(36)

    ولا ريبَ في أن الأفعال (تصفِّق) و(تهزُّ) و(طارتْ) تجعل المكانَ يمورُ بالحركة،
    والفعل (طارت) المسند إلى (العذارى) يتناسب مع سُموِّ القلعة، وهذه الحركة لا تزيل عن المكان صفتي الأَمْنِ والحماية، بقرينة وجود كلمة "العصماء" التي توحي بالأمن والحماية.
    7 ـ الإفادة من الموروث جمالياً:
    ومما توسل به الشاعر إلى إظهار جمال المكان الإفادة من الموروث، هاهو يفيد من وصف النعيم المقيم من اليوم الآخر في وصف الناعورة فيستعير مفرداتٍ موحيةً، يقول على لسان الناعورة:
    وأنا التي تسقي الربوعَ دموعُها
    فأعيدُها مسحورةَ الألوان
    حَفِلتْ بأنواع الثمار جنانُكم
    من كلِّ فاكهةٍ بها زوجان(37)

    ومن هذا قوله:
    الحُور والولدانُ حولكِ رُتَّعٌ
    والطيرُ فوقَك دائمُ الطيران(3

    ففي قوله: "الحور والولدان" و"منِ،ْ كل فاكهة زوجانِ" ظلال من وصف جناتِ النعيم أضفاها الشاعر على مشهده في موضوع وصفه.
    8 ـ وسائل أخرى:
    إنّ المتتبع لنتاج الشاعر يجد أنه يسلك سبلاً كثيرة لإضفاء الجمال على المكان، من ذلك إضفاؤه جمال السمو، كقوله:
    يا بلادي وأنتِ شمخةُ عزٍّ
    سَكِرَتْ من رحيقها الألوانُ(39)

    وجمالَ المجد والشرف، كقوله:
    لنا.. لحماةَ للشعرِ المُدمّى
    سماءُ المجدِ والشرفُ الأبيدُ(40)

    وجمالَ المقدس، كقوله:
    جناتُ وادينا مُنىً لشجٍ
    ومياه عاصينا طِلًى لصد
    والحسنُ ألوانٌ وأعجبُهُ
    ما كان صنعَ الواحد الصمدِ(41)

    وجمال اللحن، كقوله:
    وحنيني إليكِ ترنيمة القلب
    وشعري تسبيحةٌ أو أذانُ(42)

    وجمالَ الحضارات والمروءات، كقوله في بلاده:
    الحضارات وهجُها وهُداها
    والمروءاتُ ظلُّها الفَيْنانُ(43)

    وجمالَ المرأة، كقوله:
    في باب نهرِك كم نَهَدْتُ لكي أرى
    زمر الحسان أقارباً وأباعادا
    وعلى الشريعةِ حيثُ تزدحم الخطى
    كم أبصرتْ عيناي ظبياً شاردا(44)

    وبعد، كانت تلك إشارات عجلى أردتُ التدليلَ على غنى الوسائل التي أفاد منها الشاعر على صعيد المضمون لإظهار جمال المكان وجعله أليفاً، حانياً، حياً، آمناً، هادئاً.. وبهذا وبغيره يعيد الشاعر.. اعتباراً جديداً إلى القصيدة العمودية المتمَكنة الواثقة في وقت واحد(45).
    ب ـ على صعد الشكل:
    وللشاعر وسائله على صعيد الشكل لإبراز جمال المكان، يأتي هذا من الإطلاع الواسع الواعي على الموروث اللغوي والبلاغي، وتحسس دقائق العربية، وتخير الصيغ الموحية التي تناسب المقام، ولعل مما يسهم في الكشف عن ذلك، الوقوف على وسائله التالية:
    1 ـ استخدامه للجموع.
    2 ـ استخدامه للاسم والفعل.
    3 ـ الإفادة من القيمة الصوتية.
    4 ـ إكساب المفردة قيمة تعبيرية منزاحة.
    5 ـ الإفادة من علم البديع.
    1 ـ استخدامه للمجموع:
    سبقت الإشارة إلى أن الشاعر يكثر من استخدام الجموع في مشاهد الجمال، وأن ذلك يشكل ظاهرة أسلوبية، وحسبنا في هذا المقام أن نقف على بيت له يصف مدينته، ومعالمها، يقول فيه:
    رَفارِفُ عبقرياتٌ حِسانٌ
    مؤنقةٌ كما شاءَ المليكُ(46)

    فقد تكون الشطر الأول من ثلاث صفات جاء بها الشاعر مجموعة، هي: رفارف: جمع رفيف، وهو الشجر الناعم المسترسل، أو النبات الذي يهتز خضرةً وتلألؤاً.
    وحسان: جمع حسن، أو حسناء.
    وعبقريات: جمع عبقرية، وهي تنسب إلى كلّ شيء تعجبوا من حذقه، أو جودة صنعه(47) ، ما أودّ قوله هو أن هذه الصفات وثيقة الصلة بالجمال، ومَجِيْئها مجموعة يوحي بأن الجمال أكبر.
    2 ـ استخدامه للاسم والفعل:
    إنّ غنى الحصيلة اللغوية لدى شاعرنا تجعله يصطفي من محفوظاته ما يلبي حاجته التعبيرية، وتوافق مع المقام، هاهو يتخير اسماً ليصف مكاناً أثيراً، فيقول:
    ولي في بابِ نهركِ مُسْترادٌ(4
    فالاسم (مستراد) تم اختياره بعناية واضحة ليدل على المكان الذي يطلب لنفاسته(49) ، وليدلَّ على أن هذه الصفة ثابتة فيه متجذرة، فكذلك هي الحال عند التعبير بالاسم.
    كذلك فإنّ غنى حصيلته اللغوية تجعله يتخير الفعل الموحي المعبر، كما في قوله:
    وفي واديك تصطفق الأماني(50)
    فقد جاء الفعل (تصطفق) ليدل على أن الأمانيَّ صارخة حيّة كثيرة موارة بالحركة، كل هذا دلّ عليه الفعل ببنيته المزيدة، وإيقاع أصواته الصاخب، ولا سيما الصاد والطاء فهما صوتان مستعليان مفخمان، وجاء الفعل بصيغة المضارع ليدلَّ على تجدد الحدث.
    3 ـ استخدامه الصيغ الصرفية المناسبة:
    إذا كانت اللغة العربية من اللغات الغنية بصيغها الصرفية، فإنّ هذا الغنى يؤثر إيجابياً في غنى الدلالات وتنوعها، ولا ريب في أن الأديب الذي يدرك هذا الغنى، ويسعى إلى امتلاكه، والإفادة منه هو أقدر على التعبير ممن أعرض عنه، ومَنْ يطلع على نتاج شاعرنا يجد أنّ له القدح المعلى في هذا المضمار، هاهو يريد أن يعلن انتماءه للمدينة، وأنه من مريديها يهوى ما تهوى، ويرغب عما ترغب عنه، فنهجها في الحسن أخذاً وتركاً هو نهجه، فيقول:
    وإني وَفق مَذْهَبِها أخيذٌ
    وإني وَفْقَ مذهبها تَرُوكُ(51)

    فهذا البيت يدلّ على أن الشاعر يدري ما القيمةُ التعبيرية في (أخيذ) و(تروك)، فعلم الصرف يذكر أن هاتين الصيغتين تدلان على الكثرة والمبالغة في الحدث، وذلك بتحويل صيغة الفاعل، فـ (أخيذ) من (آخِذ) و(تروك)، (تارِك)، وعلى هذا فإن الشاعر اختار الصيغة الصرفية التي تحمل (شحنة) تلبي حاجته التعبيرية في الكشف عن عميق انتمائه إلى مذاهب المدينة في الحسن والجمال.
    4 ـ الإفادة من القيمة الصوتية:
    إن القيمة الصوتية لها إسهامها الطيب في نقل الإحساس بالشيء إلى المتلقي، وشاعرنا يفيد من القيمة الصوتية في نقل ما يريد، من ذلك مثلاً أنه يستخدم مفردة غير تقليدية في وصف صوت النواعير، يقول:
    وللنواعير صوتٌ
    مُعرْبِدٌ في الجهاتِ
    مخلّدٌ سرمديٌّ
    إلى مماتِ المماتِ(52)

    فكلمة "معربد" توحي بشدة الصوت، وتمكنه وانتشاره، وصوتُ الناعورة أقرب ما يكون إلى هذه الحال عند اشتداد تدفق النهر، فيثقُلُ حملُها، وتزداد مغالبتُها للماء، وما من شك في أن حروف كلمة "معربد" فيها محاكاة ليست قليلة لصوت الناعورة، ولاسيما أن حروفَ الكلمة كلَّها جاءت مجهورة.
    5 ـ إكساب المفردة قيمة تعبيرية منزاحة:
    قد نجد الشاعر يستخدم المفردة في سياق يكسبها قيمة تعبيرية منزاحة، ويفيد من ذلك في إظهار جمال المكان، ففي قصيدة "وجهُك المستبد" المهداة إلى حماةَ نجد أن الشاعر يستخدم "المستبدَّ" في صفة الوجه، وأكثر ما ترد هذه المفردة في سياقها سلبية انطلاقاً من مدلولها المعجمي، يُقال: استبدَّ بالأمرَ إذا انفرد به دون غيره. غير أن الشاعر يفرّغ هذه المفردة من مدلولها السلبي، ويطلقها في سياق يكسبها انزياحاً واضحاً، فوجه حماةَ مستبدٌّ جمالاً، بدليل أنه يستدعي صوراً جميلة في مخيلة الشاعر، كما في قوله:
    يذكرني وجهُكِ المستبدُّ هزيعاً من الليل
    سمحاً أنيقاً(53)
    ويستدعي صورة القمر الذي يوصف به الوجه الجميل عادة:
    يذكرني وجهُكِ المستبدُّ القَمَرْ(54)
    ويستدعي العزيز من عناصر الزينة:
    ومن أجل عينيكَ يا وجهها المستبدَّ
    سأعبرُ نهرَ المجرهْ
    وأقطف نجماً جميلا(55)
    6 ـ الإفادة من علم البديع:
    ويفيد شاعرنا من إتقانه لعلم البديع في إظهار جمال المكان، فهو مولع بما يسمى بالمزاوجة، أو تجنيس التصريف، كما في قوله:
    وعندَ الجسر كم مَغْنى ومَجْنى
    يُهَدْهِدُني مشجرُةُ الشبيكُ(56)

    فَجَمْعُهُ بين (مَغْنَى ومَجْنى) هو من المزاوجة.
    ومن استخدامه لتجنيس التماثل قوله في وصف الناعورة:
    ولِمَ الأنينُ.. وأنتِ في وادي حَمَا
    محفوفةٌ بالرَّوْح والريحان(57)

    فجمعه بين "الروح والريحان" هو من تجنيس التماثل.
    وإني لأعتقد أن تتبع ما جاء من علم البديع في شعر شاعرنا يحتاج إلى بحث مستقل، لكنّ أقلَّ ما يقال: إنّ الإفادة من الزخرفات اللغوية كالطباق والجناس والتقابل كانت إفادة غنى واقتدار نتج عنها قصائد "متعمقة في معماريتها الفنية الأخاذة"(5.
    جماليات الناعورة:
    ما أعتقد أنّ دارساً لجمال المكان في شعر محمد عدنان قيطاز يمكن أن يتجاهل الحديث عن النواعير لأنها عنده ليست عنصراً يهب المكان جمالاً فحسب، بل إنها عنده أكثر من ذلك بكثير.
    صحيح أن القارئ لشعره يجد قواسم مشتركة بين الناعورة بوصفها واقعاً منظوراً، وبينها بوصفها مقروءاً متخيلاً، لكن الصحيح أيضاً أنّ الشاعر في وصفه لناعورته نجده قد أضفى عليها من ذاته المبدعة ما يجعلها تسكن شغاف قلبه، أو تخالط وميض أحداقه، وتتحد بالعميق من أحلامه، وتعزف على أوتار أفراحه وأحزانه، وتنطق بالمستور من رغائبه، وتشدو وإياه لحناً خالداً.
    نواعير الشاعر تطير في عبير الكلمة، وتحيا في صهوات الأزمنة، وتنتقل في فضاءات الأمكنة، ويعتريها ما يعتري النفس الإنسانية فقد نراها ضاحكة باكية، فرحة حزينة، غريبة مستوحشة، متماسكة مشتتة، معطرة مُسْكِرة، حانية هانية، خاشعة خاضعة، ساهرة مسامرة، نادبة مستبشرة، منشدةً مطربة..
    إنه الشعر يخلق من حلم المنام حلم يقظة، والشاعر حالم بالكلمات، ونحن نحتاج إلى كثير من الأحلام، وحين يعيد الحالم بناء العالم من شيء ويحوله إلى شيء سحريِّ عبر عنايته به، فإننا نقتنع بأنّ كل شيء في حياة الشاعر مادة للخلق(59).
    وأول ما يمكن الحديث عنه هو أن الناعورة تنتمي إلى الدائرة، وهذا الشكل متجذر في الوجود، وفي كلام أهل الفلسفة ما يدل على هذا التجذر؛ يقول كارل ياسبرز: "كل وجود يبدو في ذاته مدوراً"(60) ، وقيل لجوبو سكوي: "إنّ الحياة جميلة، فقال: لا، الحياة مدورة"(61).
    ويبدو أن الشكل الدائري له تأثير معين في الإنسان، ذلك أن "صورة الاستدارة الكاملة تساعدنا على التماس، وتسمح لنا أن نضفي مزاجاًُ مبدئياً على ذواتنا، وأن نؤكد وجودنا بحميمية في الداخل، لأن الوجود حين تعاش تجربته من الداخل ويصبح خالياً من الملامح الخارجية يكون مدوراً"(62).
    والحق أن صورة الناعورة بوصفها دائرة لم تغب عن ذهن الشاعر، فهو يُعنى بدائريتها ودورانها في بضعة مواضع من شعره، من ذلك قوله في قصيدة: "مناجاة" وهي من وحي ناعورة العاصي بنت الدهور، ومطربة العصور على حَدّ تعبير الشاعر:
    لي دورةٌ عندكَ يا دائرهْ
    ما أشبه الشاعرَ بالشاعرهْ(63)

    ويقول في موضع آخر:
    كم ذا تدور وتلغو
    مشبوبةَ الزفراتِ(64)

    وهو حين يبحث عن هدية يقدمها لوجه مدينته المستبد جمالاً، نجده يتحدث عن ناعورة ذاتِ أبعادٍ كونية عجيبة، يقول:
    ومِنْ أجلِ عينيكَ يا وجهَها المستبدَّ
    أنصبُ ناعورةً في فضاء الزمانْ
    أدور.. تدورْ
    ويشدد كلانا نشيدَ العصور(65)
    فهذا يدل على أن الناعورة الدائرة حاضرة في ذهن الشاعر، لكن دائريتها ودورانها ليسا منفصلين عن ذات الشاعر، بل إنه يذكر أنّ دورانه قبل دورانها، وإذا علمنا هذا أدركنا أن الناعورة في نتاج شاعرنا ليست شكلاً خارجياً، بل هي شكل داخلي بثت فيه النفس المبدعة الشاعرة ما يجعله حياً، ولمّا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن تكون مولدات الاستدارة في النفس أشدَّ، ولا غرابة عندها أن يكون التماسك على أشدّه وتكون المبدئيةُ بينةً، وتكون الحميمية ظاهرة، وهذه خصال يعرفها في الشاعر أهله وأصحابه وأصدقاؤه.
    وعندما تعيش الناعورة في داخله، وتصبح جزءاً منه، فلا نستغرب حين نَرَاهُ يأمرها فتطيع، هاهو يدعوها كي تستقبل ضيفاً عزيزاً جاء حماة زائراً فيقول:
    وانشري عطرَك في مقدمه
    يا نو اعيرُ وغني واسحري
    واسكبي شدوَكِ لحناً خالداً
    إنه يُسْكِرُ مَنْ لم يَسْكِر(66)

    إنّ ما في نفس الشاعر من استعداد لاستقبال الضيف الزائر، ومن سعي لإكرامه غاية الإكرام، ومن حرص على إظهار الجمال في عطر مسفوح، وصوت طروب، وسحر آخاذ، وشدو خالد، وسكر حلال.. كل ذلك فاضت به نفس الشاعر، فملأ منه خزانات ناعورته التي يدعوها ويدرك أنها تستجيب، كيف لا تستجيب والشاعر في غير موضع يخبرنا عن توحد صوفي بينه وبينها، يقول:
    كأنما قلبُك قلبي.. أنا
    ومقلتي مقلتُك الساهرهْ(67)

    ويقول أيضاً:
    إني قبستُ غنائي
    منها ورَجْعَ شكاتي
    فقلبها هو قلبي
    وماؤها عَبَراتي
    مستوحشان كلانا
    في غربة وشتات(6

    ويبدو أن الأيام كانت تنمي هذا التوحد بدليل أنه لم يستعمل (كأنَّ) في الموضع الثاني، عندما قرر أن قلبها هو قلبه، وأن الغناء واحد، والعبرات واحدة، والمشاعر كذلك.
    والشاعر في حديثه عن الناعورة يُعنى بصوتها، والأصوات تمنح لوناً للفراغ(69) ، كقوله:
    تتملى الأسماعُ نغمتَها البكرَ
    ولا تشتكي ملالاً ووقرا(70)

    وفي مواضع كثرة من شعره يرى في صوتها غناءً خالداً، وشدواً آسراً، ويرى فيه ـ وهذا هو المهم ـ غناءه وشدوه، ومنها قوله:
    شعري صداها سلافٌ
    مسكيةُ النفحات
    تلألأ النورُ فيه
    وسال من مشكاتي
    باقٍ على الدهر زاهٍ
    على شفاه الرواة(71)

    إنها الناعورة الداخلية التي ذاق الشاعر لذة طعمها، وانتشى بضوع عبيرها، وأبصر لألاءَ نورها، وسمع رجع قوافيها..
    صحيح أن الشاعر في أيام شبابه كان يشعر بأن الناعورة تخفي أسراراً كثيرة ما استطاع أن يفكَّ طلاسمها، وفي إشارة إلى ذلك يقول:
    في حنايا ضلوعها ألفُ سرٍّ
    غير أني ما اسطعت أكشف سرا(72)

    لكن الصحيح أيضاً انه في قصائدَ تاليةٍ يذكر أنه يعرف ناعورته حقَّ المعرفة، ومعرفته لا تقتصر على الظاهر منها، بل وعلى ما خفي من تكوينها وأسرارها، وأكثر ما بدا ذلك في قصيدته: "بنت الزمان"، والقصيدة مقطعان حواريان، في الأول منهما، وهو على لسان الشاعر يُطلق أسئلة تشير إلى كونيتها فهي بنت الزمان، وإلى تماسكها فهي آية.. ومنه قوله:
    بنتَ الزمان.. وأنتِ آية صنعه
    من ذا الذي أغراكِ بالدوران؟
    .. ولِمَ الأنينُ.. وأنت في وادي حما
    محفوفةٌ بالروح والريحان؟
    .. فعلامَ تذرين الدموع.. وأنتِ مِنْ
    ريبِ الزمان وصرفه بأمان؟(73)

    وفي المقطع الثاني، وهو على لسان الناعورة، تجيب عما أُثير من أسئلة..
    فأما الدموع فهي ليست دموع حزن، بل إنها دموع خير تخالط الأرض والنبات فيكون الجمال، وتكون النعمى:
    وأنا التي تسقي الربوعَ دموعُها
    فأعيدُها مسحورةَ الألوان
    حَفِلت بأنواع الثمار جنانكم
    من كل فاكهةٍ بها زوجان(74)

    وأما الأنين، فهو ليس كأنين البشر، إنه غناء يولد الهدوء والطمأنينة في روع الأطفال، فقد ألفوا صوتها، واعتادوا أن يناموا على إيقاعه:
    غنيتُ في الليلِ الطويلِ فنام مِنْ
    طَرَبٍ وليدكمو على ألحاني(75)

    وفوق هذا فهي أم رؤوم:
    أنا أمكم أوليكمو من نعمتي
    وأُعلُّ ظامئكم بحلو لباني(76)

    وهي أيضاً عين ساهرة، وحارس يقظ يهب الأمان:
    وسهرتُ أرعاكم، وأحرس ظلكم
    وأردّ عنكم طارقَ الحدثان(77)

    أية ناعورة هذه التي اجتمع إليها ما اجتمع، فكانت أذناً مصغية، ولساناً فصيحاً، وعيناً ساهرة، وحارساً يقظاً، تبعث الحياة، وتهب الألوان سحرها، والثمار ينعها.. إنها في نتاج الشاعر تفرض وجودها وكأنها شخص إنساني، ومعلوم أن إضفاء صفات إنسانية على الناعورة يحدث على الفور حين تكون الناعورة مكاناً يستقطب الألفة ويكثفها ويدافع عنها، ولعل هذا ما دعا الشاعر إلى قوله:
    مَنْ قال إنَّ الصادحات جوامدٌ
    لم تختلج قلباً ولم تنطق فما

    مِن عهد آدمَ لم تزلْ أنغامها
    تشجي خلياً أو تسامر مغرما(7

    وأكثر ما تتبدى الناعورة في نتاج الشاعر أنثى، وفي قصيدة (بنت الزمان) نجد أنوثة صارخة، دليل ذلك أن الشاعر أكثر من مخاطبة الناعورة بالضمائر الدالة على المؤنث في نحو: "أنت آية صنعه" و(أغراكِ) و(حولكِ) و(تذرين الدموع)، ومن المواضع التي أضفى الشاعر على الناعورة أنوثة الجمال قوله:
    "ونسامر الناعورة المكسالا"(79).
    (فالمكسال) صفة لصيقة بالمترفات من النساء، جاء في لسان العرب: "والمكسالُ والكسول التي لا تكاد تبرح مجلسها، وهو مدح لها مثل نؤوم الضحى"(80).
    وثمة صفات للناعورة في نتاج شاعرنا تنماز فيها من البشر، فهي تملك قوى خارقة، وفي إشارة إلى ذلك يقال:
    لستُ أدري أتلكَ جنيةُ الليل
    استحالت خنساءَ تندب صخرا(81)

    وهي مُعَلِّمةٌ من نوع خاص:
    سَلْ "دهشة" الوادي وسلْ أخواتها
    مَنْ علَّم الأطيارَ أن تترنما(82)

    وهي لا تعرف للنوم طعماً:
    لو تستطيع سباتاً
    لأغرقت في السبات(83)

    ولأنها كذلك فإنها تؤدي مهمتين، الأولى أن عملها يستغرق الوقت كله نهاره وليله. والثانية أن الناعورة عنوان على يقظة المكان بل هي حارسة يقظة، وحركتها الدائمة دليل يقظتها، وتكتسب اليقظة أهمية خاصة ليلاً، وهو وقت ترقد فيه الأجسام، وتغفو فيه العيون وتندر فيه حركة الناس، وتزداد فيه الوحشة. وقد أشار الشاعر إلى المقلة الساهرة، وهو يشاركها في ذلك، عندما قال:
    كأنما قلبُك قلبي.. أنا
    ومقلتي مقلتُكِ الساهرهْ(84)

    وعندما قال على لسان الناعورة:
    وسَهِرْتُ أرعاكم وأحرس ظلكم
    وأردُّ عنكم طارقَ الحدثانِ(85)

    هنا يبرز دور جديد للناعورة الأنثى، وهي أن تكون حارسة مدافعة، وعهدنا أن توكل هذه المهمة إلى الذكر.
    هذه الناعورة اليقظة الساهرة، الشادية، النادبة، الواهبة، بنتُ العصور.. قد تبدو على هيئة مَنْ عُمِّرَ ونُكِّسَ في الخلق أحياناً، فهي:
    تبكي وتضحك والعيون شواخصٌ
    ويدُ الزمانِ تقدُّمها الأعظما(86)

    خاتمة:
    كانت تلك دراسة في نتاج الشاعر محمد عدنان قيطاز، وقد عُنيتُ بالحديث عن صعوبة تجلية جمال المكان، وعن تعريف الجمال لغةً واصطلاحاً، وبوسائل الشاعر في إظهار جمال المكان على صعيدي الشكل والمضمون، ووقفت وقفة مطولة عند أبرز عناصر المكان، وهي النواعير وأبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة هي:
    1 ـ إنّ الشاعر يألف الأمكنة التي يحيا بها، أو التي يزورها، ويرتبط معها بكل وشائج القربى.
    2 ـ لمدينة حماة بوصفها مكاناً حضور طيب في نتاج شاعرنا، فقد تحسس جمالات المكان، وتذوقها، ومن ثمَّ صاغ ذلك إبداعاً أصيلاً مترافاً.
    3 ـ كانت وسائل الشاعر إلى إظهار جمال المكان كثيرةً، غنيةً، متنوعةً، وقد انعكس ذلك إيجابياً على معمارية القصيدة، وفنيتها، ومعانيها، ولغتها.
    4 ـ قدّم الشاعر العناصر المكانية مصاغةً بخياله وأحلام يقظته، وتعاونت في ذلك وظيفتا الواقع، واللاواقع، فكان الحديث عن ثروة الوجود المتخيل.
    5- عُني- الشاعر- بإظهار- الجمال الظاهراتي للمكان، كما عُني بالجمال الكامن المتجذر في عناصر المكان، من مثل الإلفة، والهناءة، والراحة، واليقظة، والمأوى... فكان شعره بحق إثراءً لخصوبة الحياة.
    ***
    مصادر البحث ومراجعه:
    1 ـ القرآن الكريم.
    2 ـ أسفار ابن أيوب، شعر، محمد عدنان قيطاز، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1998م.
    3 ـ جماليات المكان، غاستون بلاشور، ترجمة غالب هلسا، بيروت 1984م.
    4 ـ في ملكوت الحبّ، شعر، محمد عدنان قيطاز، منشورات وزارة الثقافة ـ دمشق 1984م.
    5 ـ لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت (دون تاريخ).
    6 ـ اللهب الأخضر، شعر، محمد عدنان قيطاز ـ حماة 1978م.
    7 ـ المعجم الكبير، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ـ القاهرة 1980 وما بعدها.
    8 ـ مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق: 2002م.
    9 ـ وجهك المستبد، شعر، محمد عدنان قيطاز، منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1999م.
    **
    الهوامش
    (1) اللهب الأخضر 19.
    (2) اللهب الأخضر 103.
    (3) جماليات المكان 21.
    (4) جماليات المكان 21.
    (5) جماليات المكان 182.
    (6) مقاييس اللغة (1/481) (جمل).
    (7) اللسان (جمل).
    ( المعجم الكبير (4/540) (جمل).
    (9) المعجم الكبير (4/541) (جمل).
    (10) سورة النحل: 6.
    (11) اللسان (جمل).
    (12) انظر: المعجم الكبير 4/540 (جمل).
    (13) جماليات المكان: 14.
    (14) جماليات المكان 98.
    (15) وجهك المستبد 101.
    (16) وجهك المستبد: 100.
    (17) أسفار ابن أيوب: 19.
    (1 أسفار ابن أيوب: 11.
    (19) وجهك المستبد: 6.
    (20) وجهك المستبد: 6.
    (21) أسفار ابن أيوب: 43.
    (22) في ملكوت الحب (55 ـ 56).
    (23) جماليات المكان: 7.
    (24) جماليات المكان الأليف: 7.
    (25) أسفار ابن أيوب (53 ـ 54).
    (26) وجهك المستبد: 6.
    (27) انظر: جماليات المكان: (5.
    (2 اللسان: (زهر).
    (29) وجهك المستبد: 102.
    (30) وجهك المستبد: 102.
    (31) جماليات المكان: 39.
    (32) وجهك المستبد: 59.
    (33) أسفار أيوب: 40.
    (34) اللهب الأخضر: 17.
    (35) وجهك المستبد: 60.
    (36) وجهك المستبد: 60.
    (37) وجهك المستبد: 59.
    (3 أسفار ابن أيوب: 18.
    (39) أسفار ابن أيوب: 82.
    (40) أسفار ابن أيوب: 76.
    (41) أسفار ابن أيوب: 18.
    (42) أسفار ابن أيوب: 18.
    (43) اللهب الأخضر: 65.
    (44) انظر: صفحة الغلاف الأخيرة من ديوان (وجهك المستبد).
    (45) وجهك المستبد: 57.
    (46) اللسان (عبقري).
    (47) وجهك المستبد: 56.
    (4 اللسن (رود).
    (49) وجهك المستبد: 55.
    (50) وجهك المستبد: 57.
    (51) وجهك المستبد: 7.
    (52) وجهك المستبد: 47.
    (53) وجهك المستبد: 47.
    (54) وجهك المستبد: 49.
    (55) وجهك المستبد: 56.
    (56) وجهك المستبد: 59.
    (57) وجهك المستبد (صفحة الغلاف الأخير).
    (5 جماليات المكان 84.
    (59) جماليات المكان: 84.
    (60) جماليات المكان: 207.
    (61) جماليات المكان: 207.
    (62) جماليات المكان: 209.
    (63) جماليات المكان: 209.
    (64) وجهك المستبد: 7.
    (65) وجهك المستبد: 49.
    (66) وجهك المستبد: 98.
    (67) اللهب الأخضر: 129.
    (6 وجهك المستبد: 7.
    (69) جماليات المكان 65.
    (70) اللهب الأخضر: 105.
    (71) وجهك المستبد: 7.
    (72) اللهب الأخضر: 105.
    (73) وجهك المستبد: 59.
    (74) وجهك المستبد: 60.
    (75) وجهك المستبد: 60.
    (76) وجهك المستبد.
    (77) وجهك المستبد: 60.
    (7 اللهب الأخضر (18 ـ 19).
    (79) في ملكوت الحب: 56.
    (80) اللسان (كسل).
    (81) اللهب الأخضر: 105.
    (82) اللهب الأخضر: 18.
    (83) وجهك المستبد: 7.
    (84) اللهب الأخضر: 128.
    (85) وجهك المستبد: 60.
    (86) اللهب الأخضر: 18.

    http://www.awu-dam.org/mokifadaby/409/mokf409-006.htm[/B]
                  

07-16-2006, 08:49 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)


    أدناه مقال عن :
    لذة المكان
    وهو يندرج في ما قلنا به عن الاهتما العربي النقدي ب:
    Quote: جماليات المكان

    لذة المكان
    للكاتب:
    أحمد حيدر
    والذي نشر في موقع الحوار المتمدن
    وهو يندرج ضمن المساهمة التي قدمها باشلار للثقافة العربية عبر ترجمته من قبل غالب هلسا

    أخذ الاهتمام بالمكان - ومضامينه الدلالية - يأخذ منحى مغايرا ، في ظل المعطيات الجديدة التي تمخضت عنها الدراسات النقدية في الفلسفة ، وعلم الاجتماع ، وعلم النفس ، والانتروبولوجيا ، ن بعد أن ظل ردحا من الزمن تابعا ، وعنصرا غائبا ، لا تتعدى وظيفته حدود التأطير ، يخضع للرؤية المنهجية المتبعة في الدراسات التحليلية في الرواية ( كما هو شأن التابعية ) واسترد هيمنته ، وبدا طاغيا في العديد من الأبحاث - المستقلة -ن تناولت المكان من جميع جوانبه ( كاننا إزاء حقيقة أولية في كل فهم يروم النزول إلى أغوار الذات الإنسانية : شخصية ، وفردا ، ووجودا ، وهوية ، وفكرة ...! ) وغدا المكان امتدادا للجسد عند المفكرين الاجتماعيين ، والنفسانيين ، فقد قارن عالم الاجتماع أ. ت. هل ( هذا الحيز بالفقاعة التي يعيش الفرد بداخلها ، ويحملها أينما ذهب ) وصارت المقابلة ( الإنسان المكان ) بديهة ، وركيزة رئيسة لأية دراسة تحاول ملا مسة المكان ( فالمكان الذي يعيش فيه البشر مكان ثقافي ، أي ان الإنسان يحول معطيات الواقع المحسوس وينظمها ، لا من خلال توظيفها المادي لسد حاجاته المعيشية فقط بل من خلال إعطائها دلالة وقيمة ) وكتاب ( جماليات المكان ) لغا ستون باشلار الذي ترجمه المرحوم غالب هلسا ، يؤكد هذه العلاقة العضوية بين المكان والإنسان ، من خلال إبراز جماليات المكان ( الجغرافي ) وجماليات المكان ( النصي ) وأكد الشاعر الفلسطيني عزا لد ين المناصرة هذه الحقيقة بقوله : (الأمكنة جزء من التجربة الحياتية سلبا أو إيجابا ، وهي أيضا جزء من النص ، والشاعر يقرأ أسرار وخفايا الأمكنة ، ويقرأ جغرافيتها ، وتاريخها ، الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، ولابد للمكان ان ينصهر ويذوب في دم النص ويعطيه صفات جديدة حيث يصبح للنص مكان خاص !!)

    الأمكنة لا تتشابه ، تبعا لسيرورة الزمان ، قد تتشابه في المظهر الخارجي ، لكنه من المستحيل ان تتشابه من الداخل ، فالبيوت التي فقدناه إلى الأبد -كما يقول باشلار - تظل حية في داخلنا ، بلدة ( حلبجة ) الوادعة ، هيروشيما الكرد ، التي قصفت بالأسلحة الكيماوية ، والبيولوجية ، من قبل النظام العفلقي المخلوع صدام حسين ستعاني من البرد والخوف طوال حياتها ، ولاشيء يعيد الطمأنينة إلى طيورها ،و أشجارها ، وغيومها ، ...!!

    وتعيد إليها وداعتها ، حتى لوشيدت في وديانها ناطحات سحاب ، وعلقت على مدخل بابها الرئيس حدائق بابل !

    نادرا ماتتكرر الأمكنة - والكرد حالة نادرة - ففي المكان الذي أعلن فيه قيام جمهورية مها باد ( جار جرا ) أعدم في المكان نفسه فالمنزل الأول لا يبرح المخيلة ، ولا الحب الأول ، ولا القبلة الأولى !! شاعر الطفولة سليمان العيسى ، كلما سأله أحد الصحفيين عن مكان ولادته ، ترقرقت الدموع من عينيه ، لاذ بالصمت !! فما زال قميصه معفرا بتراب اللواء السليب ( الاسكندرونة ) !!؟

    يقال ان ( المنفي أكثر تعلقا بالأمكنة ) يحمل المكان معه في حله ، وفي ترحاله ! ولكن كيف يكون حال ( المنفي داخل الأمكنة ) أليست أشد وطأة ! المواطن الذي جرد من جنسيته ، وحرم من ممارسة حقوقه ، وأداء واجباته ، وتبعثرت أحلامه ادراج الرياح ، العاطل عن العمل ، الخائف ، المقموع . كل هؤلاء يتبادلون الكرز ، والقبلات مع الأمكنة ، في المنعطفات الخطرة ، و الحرجة !

    للأمكنة أوجاع هائلة ، تضفي القلاقل على ( الجماليات ) التي حرضنا باشلار على اكتشافها في الوطن ، وفي النص ، كيف يمكن ان نتصور منطقة الجزيرة الخضراء ، الغنية بثرواتها الطبيعية ، والباطنية ، تندرج ضمن المناطق النامية ، أسوة بالبلدان النامية في افريقيا ، وامريكا الجنوبية ، التي تتعرض للجفاف ، والمجاعة !!؟ هل تدفع الجزيرة ضريبة التاريخ أم ضريبة الجغرافية !!؟؟ومن يؤكد ان جميع القاطنين في مدينة ( القامشلي ) يعشقونها بالعنفوان نفسه !؟ مانوع العلاقة التي تربط ( المغمورين ) بالمكان ؟؟ هل هي علاقة انتماء ؟ ام انها علاقة ( براغماتية ) تخضع لعمليات السوق العرض،الطلب الربح ، والخسارة !!؟؟

    الأمكنة لا تتساوى ، سواء في القيمة ام في الدلالة ! ؟

    واذا تعمقنا في البحث نكتشف ان القيم الاجتماعية تكتسب صفات مكانية للدلالة على مكانتها ، فلا يستوي أهل اليمين ، وأهل الشمال كما جاء في القرآن الكريم ، كذلك المعدوم و المدعوم ؟ والذين فوق - والذين تحت !!

    فلو اقيمت المباراة المشؤومة - 123 2004 - بين فريقي الفتوة والجهاد ، في ملعب دير الزور ، وراحت جماهير الجهاد - كاجراء استفزازي لا أكثر - تطوف شوارع المدينة ، وترفع اللافتات المناوئة للمخلوع صدام حسين ، وتهتف بحياة قادة الكرد ، وقبل ان يطلق الحكم صافرة البداية ، تبدأ بشن هجمة عنيفة على جماهير الفتوة

    المسالمة ، وتحيل المدرجات الى حلبة للمصارعة الحرة ، تستخدم فيها العصي ، والحجارة ، والرصاص !!

    ولنفترض ان محافظ دير الزور هو الدكتور سليم كبول ، ترى هل كان سيادته سيأمر قوات حفظ النظام باطلاق الرصاصات الحارقة- المتفجرة - بشكل عشوائي على الجماهير العزل ، اذن هل تتساوى الأمكنة سؤال برسم كل شريف ، وغيور على هذا الوطن !!؟؟؟
    http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=16683
                  

07-16-2006, 09:23 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    وهنا عرض لكتاب متعة الرواية ،وفيه حديث عن جماليات المكان لأحمد زياد محبك:
    متعة الرواية

    عرض/إبراهيم غرايبة
    لماذا نقرأ الرواية؟ ما الحوافز التي تتضمنها الرواية فتجعل القارئ يتابعها؟ بماذا تختلف الرواية في طبيعة تلقيها عن غيرها من الأجناس الأدبية؟ هل المتعة وحدها هي الدافع إلى قراءتها؟ لماذا حققت الرواية هذا الانتشار الكبير في القرن العشرين؟

    يقدم هذا الكتاب دراسة نقدية للرواية العربية، وبخاصة قضية المكان وأهميته في الرواية، ومفهوم الرواية بمعناها العام، ويحلل مجموعة من الروايات العربية لنجيب محفوظ وفاضل السباعي وعبد الكريم ناصيف وآخرين.



    - العنوان: متعة الرواية
    - الكاتب: أحمد زياد محبك
    - عدد الصفحات: 348
    - الناشر: دار المعرفة، بيروت
    - الطبعة: الأولى/2005
    متعة السرد
    تتحقق متعة السرد عشرات المرات يوميا، وذلك من خلال رواية الحكايات واستماعها ومشاهدة التلفاز، ورواية الأخبار، وتتحقق بشكل أكثر عمقا وقوة من خلال قراءة الرواية، وتمنح متعة التخيل، وتعطي المتلقي خبرة، وتعرفه بعالم جديد، وتحفز مخيلته لبناء هذا العالم وتركيبه بحرية وفق هواه، فينطلق من إسار الواقع الراهن، ويحقق ذاته، ويمارس ذلك في الواقع ويشبع رغباته.

    كما يجد المتلقي في الرواية متعة التعرف على الشخصيات، وقد يتماهى مع إحداها ويستفيد من تجاربها، كما يستمتع القارئ بمتابعة الحوادث وترقب المجهول، ومحاولة استكشاف ما سيأتي، ويزداد فهما للواقع ونظامه، ولذلك فإن المرء بعد قراءة الرواية يعود إلى الحياة وهو أكثر راحة وانسجاما مع نفسه، ولعل المتعة الأكبر في هذا كله هي متعة كتابة الرواية وإبداعها ودراستها ونقدها أيضا.

    جماليات المكان
    يعد المكان من أهم عناصر الرواية، فهو الموضع الذي تجري فيه الأحداث وتتحرك خلاله الشخصيات وهو فضاء يحتوي كل عناصر الرواية الأخرى، وقد يكون أحيانا هو الهدف من العمل الروائي.

    والمكان في الرواية غير المكان في الواقع، إنه مكان خيالي له مقوماته الخاصة وأبعاده المتميزة.

    وتتمثل أهمية المكان في الرواية في كونه عنصرا فاعلا في تطورها وبنائها وفي طبيعة الشخصيات وعلاقاتها، وهو فضاء يتسع لبنية الرواية ويؤثر فيها.

    وقد ميز غالب هلسا بين ثلاثة أنواع من المكان الروائي: المكان المجازي والهندسي والمكان بوصفه تجربة.

    أما الوصف فيرسم الأشياء بوساطة اللغة، وهو يصور الأشياء في المكان ولكنه ليس غاية في حد ذاته وإنما يأتي لخلق الفضاء الروائي، وله وظائف كثيرة مثل التصوير الفني للمكان وتمجيد الشخصية، والإيهام بالحقيقة، وخلق انطباع بها، وهو يقوم على الاستقصاء والانتقاء.

    ومن الممكن النظر بعد ذلك إلى المكان من وجهة نظر فكرية من حيث هو مكان روائي فني يتم تصويره من خلال وجهة نظر وزاوية رؤية، فهو يحمل قيمة ويمثلها أو يرمز إليها.
    الرواية التاريخية
    يرى محبك أن الاتجاه إلى الرواية التاريخية قد طغى على التأليف الروائي سواء بقصد تحويلها إلى عمل تلفزيوني، أو العمل الروائي ذاته، ويرجع سر الإقبال على التاريخ لدى المبدعين أو المتلقين إلى أن التاريخ يوفر للمبدع مادة جاهزة للتأليف يستطيع تشكيلها وفق ما يشاء.

    كما يمتلك التاريخ حوادث مفصلية وشخصيات قوية مؤثرة ويمتلك لدى الجمهور رصيدا معرفيا ووجدانيا وعاطفيا يسهل على المبدع مخاطبته والتأثير فيه، بالإضافة إلى أن التاريخ حسم الصراع بين القوى الفاعلة مما يتفق مع الرواية ويتيح للمبدع حرية العمل فكريا فيثير قضايا مهمة وهو متستر بالتاريخ.

    ومن جانب المتلقي يجد الجمهور متعة في استعراض الماضي بإحساسه بما يحس به في الواقع، وقد يساعد التاريخ المؤلف على استخدام العربية الفصيحة في السرد والحوار، ويمنح المؤلف مادة لا تنضب بتعدد القراءات.

    ولكن ألا يمل الجمهور من التاريخ؟ وهل الكتابة في التاريخ فرار إلى الماضي؟ وأين الرواية العاطفية والخيالية والاجتماعية؟

    وداعا يا أفامية
    يتجه المؤلف هنا اتجاها تطبيقيا, فيقدم في هذا المقال دراسة حول أدب الروائي السوري شكيب الجابري صاحب رواية "نهم" التي صدرت عام 1937، وتعد أول رواية سورية بالمعيار الصحيح للرواية.

    وقد صدرت له عدة روايات يخص المؤلف منها "وداعا يا أفامية" الصادرة عام 1960، وهي رواية يستلهم فيها الكاتب أسطورة بيجماليون، وتصور عالما للمعادن يرعى فتاة بريئة وساذجة يصوغها وفق هواه، ويعشقها ثم تفر منه، وتضيع إلى الأبد لتؤكد سمو الفن فوق الواقع ونقاءه وخلوده، وتصور الرواية حياة الفلاحين في سهل الغاب، وتقدم تسميات علمية دقيقة لعشرات الأشجار في سياق روائي محكم.

    وللرواية بطلان رئيسيان هما سعد الغارق في الملذات، ونجود رمز البراءة والنقاء. ينقذ سعد نجود ويحبها كما تحبه هي إلا أنهما لا يتزوجان، وتبقى نجود رمزا للنقاء والبراءة.

    وكما فارق سعد نجود إلى الأبد فارق الجابري الرواية أيضا، فقد كانت روايته هذه آخر رواية يكتبها. وله "قدر يلهو" و"قوس قزح"، وكأنه قال: وداعا للبراءة والنقاء والصفاء والبداوة، وكأن "وداعا يا أفامية" كانت إشراقة اعتزل بعدها الرواية.

    جماليات المكان في رواية ميرامار
    يمتلك المكان في رواية ميرامار لنجيب محفوظ الصادرة عام 1967 أهمية خاصة، حتى يمكن أن يعد شخصية اعتبارية، والمكان الأول في الرواية هو بنسيون ميرامار الذي يتسع ليشمل الإسكندرية والقاهرة، وفيه تتم معظم أحداث الرواية، وإليه تلجأ الشخصيات وفيه تلتقي. فيلجأ إليه عامر وجدي الشيخ العجوز، وطلبة مرزوق وكيل الوزارة السابق، ونصور باهر الشاب الهارب من القاهرة، وزهوة الهاربة من القرية، وسرحان الذي ترك شقته لعشيقته، وماريانا اليونانية التي تملك البنسيون.

    يحمل البنسيون عبق الماضي والطابع الغربي، ويتميز فيه المدخل حيث يلتقي النزلاء ويسهرون. وأبرز ما يثير الاهتمام هو الزاوية التي يُرى منها المكان، وهي رؤى نفسية في المقام الأول. وتختلف الرؤى باختلاف الشخصيات وتنوعها، فالإسكندرية بالنسبة لسرحان البحيري هي شقة لامرأة يفكر في الزواج بها، ومطعم يفكر فيه ويحيك المؤامرات، أما منصور باهر فهي لديه البنسيون الذي يلتجئ إليه.

    فالمكان محدود وثابت، إلا أن الشخصيات تغنيه وتؤثر فيه، وبالتالي تبدو الرواية متعلقة بجوهر الإنسان والمراحل التي تمر بها البشرية.

    رياح كانون
    تتكون رواية "رياح كانون" للروائي فاضل السباعي من ثلاثة أقسام، والشخصية الرئيسية فيها هي رامي حسام الدين، وهو ناقد وأديب تخلى عن أهله ليعيش خالصا للفكر والأدب، وهو من أسرة متوسطة الحال، ويعمل محاميا ويطمح إلى كتابة رواية يحقق بها ذاته.

    يلتقي رامي بشابة مثقفة (لبنى) من أسرة غنية، أنجزت رواية وتبحث عن ناقد يراجعها، ويتحابان، ثم تسافر وتنشر روايتها، وتحقق شهرة واسعة، وحين ترجع يفاتحها برغبته الزواج في بها، إلا أنها تصارحه بأنها أقامت علاقة مع شاب آخر، فيطردها رغم توسلاتها، ويحس بالخيانة فتثور في نفسه كوامن الإبداع، وتصبح ملهمته وحافزه على الكتابة، ويتخذ من صلته بها موضوع رواية.

    يقدم محبك قراءة جديدة لـ"رياح كانون" دارسا فصولها من الاستهلال والافتتاح والخصائص التعبيرية والسمات الفنية والاختتام، كما يعرض لآراء النقاد حول الشخصية الرئيسية، وأحداث الرواية ومدلولاتها، ويرى أن الرواية قدمت نموذجا لمثقف مدان، بسبب انخلاعه عن طبقته وتنكره لأسرته، وانغماسه في الملذات من أجل الكتابة واتخاذه الناس مواضيع لقصصه، وتعامله مع المرأة باعتبارها محرضا على الكتابة، مما يعني سوء فهم لدور الأدب في الدفاع عن الحياة والناس.

    ينداح الطوفان
    تؤكد رواية "ينداح الطوفان" للروائي السوري نبيل سليمان وضوح الهم الواقعي ولاسيما الاجتماعي والسياسي، وتضم نحوا من 20 شخصية من الإقطاعيين والفلاحين يدخلون في صراع مرير، ويبرز عنصر الإدهاش بشدة.

    كما تقدم الرواية سلسلة من المفاجآت لا تقوم على تحليل الدوافع وتوضيح الأسباب، بل تعرض الحوادث بسرعة، وهي حوادث مفاجئة ومدهشة، وتقود الصراع إلى نضوج في الوعي ووضوح الرؤية. والرواية بمفاجآتها المدهشة تحمل أبعادا فكرية وتلتحم مع بنية العمل الروائي وتلح على فكرة التغيير.

    أطياف العرش:
    "أطياف العرش" رواية أخرى لنبيل سليمان وهي من أكثر رواياته جرأة وحفاوة بالتقنية الفنية، وهي معنية بالفكر والحوار، وتدور أحداثها في قرية من صنع الخيال في سورية، وبطلها "الطويبي" رجل يستغل الدين ويشوهه بحثا عن السلطة ليصل إلى شكل من أشكال الحكم الفردي المتسلط قبيل الاستقلال، وتشاركه في ذلك زوجته وأعوانه، وبعد الاستقلال ترسل له الحكومة المحلية حملة فتقتل زوجته ويحكم عليه بالإعدام.

    تقدم الرواية نقدا تحليليا معمقا لهذا النوع من الحكم، وهي أمثولة من التاريخ صورت نموذجا للوعي الفردي الجامد المتحجر من خلال لغة فنية وقدرة متميزة.

    الأشجار واغتيال مرزوق
    "الأشجار واغتيال مرزوق" هي الرواية الأولى للروائي العربي عبد الرحمن منيف، وقد صدرت عام 1973 وتروي قصة رجلين شقيا في حياتهما على كافة المستويات، أحدهما أستاذ جامعي، والآخر أمي مارس أعمالا كثيرة، ولم يبق لهما إلا الحلم واسترجاع الماضي.

    يلتقيان في قطار مسافر إلى الخارج، يعمل إلياس مهربا، ويعمل منصور مترجما في بعثة أجنبية تنقب عن الآثار، كلاهما يعيش بائسا بالحب وكلاهما سلبي متخاذل يبحث عن التغيير. ولكن المكان والزمان ثابتان، لقد كانا متحركين والعالم من حولهما ثابت، وقد ضاعا في الزمن الذي يعيش فيه الإنسان بائسا محروما من الرغيف والمرأة، ويضطر إلى الخيال، ثم يصبح لا ينظر إلى الخلف، وما أحوج الإنسان إلى الحلم المستقبلي.

    الشاطئ الآخر
    "الشاطئ الآخر" للروائي محمد جبريل تقدم خبرة شاب طرده أخوه بعد وفاة أبيهما، فلجأ إلى الأجنبي ليتفتح وعيه على الشاطئ الآخر، ويعرف الحب ويمتلك المعرفة, وكل ذلك يرتبط بخيوط قد تبدو الرواية فيها تعبيرا عن حياة أمة.

    إنها تعبير عن الحب العربي العذري والحب في الحضارة الأوروبية، وفيها وصف دقيق للشخصيات والمكان, فقيمة المكان في الرواية تكمن في ملء الشخصيات له بالحياة، وقد كان البطل هو العنصر الأساسي المكون لها.

    البنية الاجتماعية والثقافية في أفراح ليلة القدر
    تقدم رواية "أفراح ليلة القدر" لمؤلفها عبد الكريم ناصيف مثالا مبدعا لاستدعاء التراث الشعبي، من أشعار وأساطير وأمثال وصيغ وتعابير تم توظيفها داخل بنية روائية معاصرة تعالج قضايا المجتمع ضمن رؤية فنية واعية للتغيرات التي طرأت على سورية من عام 1977 حتى عام 1993.

    وذلك عندما صدر قرار تحويل الأراضي الزراعية حول دمشق إلى عقارات سكنية ومنشآت سياحية سيجني منها تجار جشعون مئات الملايين، وتتحول إلى بؤر للفساد، مما أدى إلى اتساع الهوة بين قلة غنية وكثرة فقيرة، وإلى انهيار الطبقة الوسطى وما رافقه من انحدار القيم والمفاهيم وانتشار الرشوة والفساد.

    وتتمثل هذه الرؤية في عمل روائي ضخم يقع في 334 صفحة من القطع الكبير ويضم أكثر من 25 شخصية تبدو نهاياتها نابعة من طبيعة حياتها، ومن جنس الأفعال التي مارستها، كما تشير إلى التاريخ إشارات ذكية، وتهتم بالزمان أكثر من المكان لطبيعتها الاجتماعية.

    جماليات المكان في "نزيف الحجر":
    تصور رواية "نزيف الحجر" للروائي الليبي إبراهيم الكوني الصراع مع طغيان الجشع، وتمثل جزءا من عالم روائي متميز هو عالم الصحراء العربية في قلب أفريقيا، عالم يتميز بنزوعه الأسطوري نحو البراءة والجمال والنقاء, وهو حافل بالأساطير والعادات والتقاليد الصحراوية في تحديها لطغيان البشر.

    والكوني من مواليد عام 1948في غدامس بغرب ليبيا حاصل على الماجستير في الأدب والنقد من روسيا، ومن أبرز أعماله رواية "المجوس" وخماسية "الخسوف" و"التبر".

    بطل الرواية "أسوف" يموت مقتولا على يد قابيل الجشع، ثم يتمكن المستعمرون من القضاء عليه بوساطة الطائرات، والرواية شائقة ذات لغة شعرية، بناؤها حداثي يقوم على قدر كبير من الحلم والاسترجاع والاستباق والمنولوج والتقديم والتأخير والتلاعب بالزمن.
    http://www.aljazeera.net/NR/exeres/3F651474-BCC7-4340-8....-B220A2925F8D.htm[/
    B]

    (عدل بواسطة osama elkhawad on 07-16-2006, 09:25 PM)

                  

07-16-2006, 09:47 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    هنا صورة لباشلار مؤلف:
    جماليات المكان



    هنا مقال عن فلسفة المكان الروائي نقلا عن نزوى:
    في فلسفة المكان الروائي
    - الرواية المغاربية نموذجا -
    ربيعة جلطي (شاعرة واكاديمية من الجزائر)


    1-1
    سادت في العقود الأدبية الواقعية المبسطة ولمدة طويلة، مفاهيم اختزالية عن علاقة الأدب بالواقع، وكذا علاقة انتاج الأدب بميكانيزمات انتاج التاريخ، بهذا النظور المبسط والمبسط اعتبر الأدب نتاج واقعه، ذلك الواقع الذي لا يتعدى الظاهرة العيانية، هذه النظرة التي تحيل مباشرة على نظرية الانعكاس بفهم وتأويل ميكانيكيين.
    لقد تعممت هذه الاطروحات الأحادية الجانب، في النقد العربي، انطلاقا من ان الماركسية لم تدخل الفكر العربي كفلسفة معقدة قائمة على قراءة للهيغلية، قراءة النقد والتمثل، بل انها دخلت العالم العربي "كسياسة أو على الأصح كـ "ايديولوجيا" أمام ذلك لم تتعدد الماركسية حقل التأويلات السياسية، الوطنية والقومية والطبقية حين اعتمدت كوسيلة اجرائية لقراءة الأدب.
    1-2
    اننا نعتقد ان حالة الفكر والتفكير وكذا الطرق والقنوات التي نظمت العملية، كانت خاضعة لعوامل خارجة عن الأدبية Litteralite التفكير الجمالي في خصوصيته وابعاده ظل مقصى منها، أو على الأصح غير مدوك ولا مفهوم.
    وحين نعود اليوم لقراءة سيل الكابات النقدية الأدبية عن الرواية، نلمس الفكر الماركسي الذي شكل خلفية رئيسية في المجال الثقافي بصفة عامة والمجال الأدبي ابداعا ونقدا بصف خاصة، اذ سيساهم في توضيح بعض ملامح الحركة النقدية، كهيمنة الاتجاه الواقعي في مجال نقد الرواية، والطابع السياسي الواضح الذي اكتسبته بعض المواقف النقدية من بعض الروائيين، حيث كانت الاولوية دائما للسياسي على الثقافي، حتى ان الحدود بين الخطابين السياسي والنقدى لم تعد واضحة أحيانا كثيرة، مما يدعو الى الاستخلاص بان الشروط السياسية، كانت عاملا أساسيا في توجيه النقد الروائي". (1)
    إن التدخل اللاعضوي للسياسي والايديولوجي بمفهومهما المبسط والاختزالي دفعا بالنقد الادبي الروائي الى الوقوع فيما يسمى "التأويل" والبحث عن "الأفكار" و "المضامين" أكثر منا الالتزام "القراء" في أبعادها التفكيكية المتعددة والمفتوحة.
    1-3
    وحين كان هذا هو شأن النقد الأدبي الروائي سجين الانتصارية والتأويلية لمفهوم "النص" وأيضا لمفهوم "القراء" فقد نتج عندنا متن ساذج واستهلاكي يمثل حاشية تفسيرية لخطب الأحزاب وشروحات لبرامجها السياسية.
    موازاة مع هذا المتن النقدي الاستهلاكي، تناسلت النصوص الروائية والشعرية والقصصية والمسرحية منطقة من هذا الهاجس فتجلت هي الأخرى - أي النصوص 2الابداعية - في موقع "الملحقية" للسياسي والايديولوجي، إذ انصاعت واندمجت في رؤيته الاختزالية، فكان أن وجد عندنا أدب كثير رديء بل ومتنوع الرداة.
    1-4
    ان كثيرا من الروائيين في المغرب العربي الذين كشفوا عن مواهب كبيرة وعميقة وصادقة، احتفظوا للكتابة بمسافة للنظر ومساحة للتأمل وهامش لتحرك الذات في "مفردها" و "فردانيتها" بهذا تمكنوا من مباغتة التاريخ، وكتابة "السياسة" في تجلياتها العميقة والفاعلة والمؤثرة.
    ان ضغط "السياسي" و "الواقعي" في حرفيتهما مارسا تجفيف العفوية لصالح وعي وظيفي يرهن "الابداعي للمقصدية ويجعل الكتابة تابعة لفضاء لا يملك أية علاقة "الجمالي" في ماهيته المعلقة.
    لقد كان الروائي واقعا عشى حد تعبير ج.ج جرانجي "واقعا بين اغراء استطيقي بوجهه نحو الرواية واغراء شكلاني يقربه من العلوم الاجتماعية".(2)
    كلما كان الروائي يقترب بطريقة ساذجة خالية من النقد السياسي، وجد نفسه ينسخ "الواقع" وهو في هذا "النسخ" يعيد كتابة عناصر خطاب السلطة او الحزب الذي ينخرط في رؤيته وبرنامجه.
    1-5
    ان "الاستهلاكية" في الأدب الروائي تتموضع فيما اصطلح عليه تقليديا بتسمية "اليسار" أو "اليمين"، بطموح جعل النص "بوقا" لمفردات خطاب بغض النظر عن ايماننا أو عدم ايماننا به و"الالحاقية"، السياسية الوظيفية الضاغطة على النص يمينا أو يسارا تخرج النص من أدبيته وأبعاده الجمالية المرتبطة عضويا وفلسفيا بالخلود لتدفع اللانحياز وتبني مهمة الخدمة Le service المرتبطة بأطروحة عابرة
    1-6
    ان الايديولوجية العابرة هي خطاب مؤسس على رؤية سلطة عابرة ولأجلها، تحمل قيما عابرة، وترهن تاريخها للدفاع عنها، وحين تهيمن هذه الايديولوجيا، على رؤية الكتابة وجنونها لدى روائي ما، فان هذا الاخير لا ينتج سوى أدب عابر، أو أدب للعبور، أو نصوص مفككة نافعة لتركيب خارجي لا تستطيع الثبات أمام "مغامرة" الكتابة الابداعية الطامحة إلى اكتشاف الذاتي والواقعي واعادة اختزانها انطلاقا من "داخلية" (Inicriorite) المعقدة.
    1-7
    خلال نصف القرن الاخير من تاريخ الحركة النقدية العربية عامة والمغاربية خاصة، تم الترويج وبشكل مفضوح، لمجموعة من النصوص الروائية التي انخرطت في جبهة الدفاع عن رؤية حزب معين او سلطة معينة. دون النظر على مدى قوتها الجمالية أو الفنية: (حالة الطاهر وطار في الجزائر وعبدالكريم غلاب في المغرب والعروسي المطوي في وتونس).
    اذا كانت سلطة الدعاية والترويج، المؤسسة على فكرة الدفاع عن موقع سلطوي معين، قد سهلت عملية حضور لنصوص رديئة في "الانتاج"، فانها ايضا اسست لتقاليد "القراءة الرديئة، قراءة لا تتصيد في النص الروائي سوى جانبه التأويلي الايديولوجي، اي الاختزالية والتبسيطية.
    ان هذه الظاهرة ينجز عنها شيوع فلسفة ذوقية معينة، تمارس تعطيل ابداعية الحواس الجسدية والعقلية والشعورية التي عبرها تتم عملية استقبال النص من: استقبال - قبولي او استقبال رفضي او استقبال - تحفظي او استقبال - نقدي ابداعي.
    2-1
    ولأن الارض أولى تجليات "الواقع" فان الكتابة الروائية عن "الريف" لم تخرج عن اطار هذا الطرح الذي حاولنا ان نفسر ميكانزماته اعلاه.
    ان الأرض "اذا لم تتم مقاربتها ابداعيا رواية استنادا الى فهم لفلسفة المكان، بكل ما يشعه من واقعي وسريالي وسيكولوجي ونفساني ورموزي، فان الطرح لن يكون سوى رهين "الحرفية" و"النقيلية" و "الواقعية – الوقائعية" وقد نبه جاستون باشلار الى هذه المسالة في كتابه "جماليات المكان" الذي اصبح من كلاسيكيات البحث في فلسفة المكان بمقارباته الابداعية الشاملة، يقول ج. باشلار:
    "المكان الممسوك بواسطة الخيال، لن يظل مكانا محايدا، خاضعا لقياسات وتقييم مساح الاراضي، لقد عيش فيه (3)
    ويؤكد باشلار على مسألة مركزية، وهي ان المكان لا يصوغه المؤلف، بل ان المكان بدوره ايضا يمارس صياغة الكاتب، كما يسوغ شخوصه الروائية مهما حاولت ان تكون ملتصقة بمرجعها في الواقع الفزيولوجي والموضوعي:
    "بقدر ما يسوغ المكان الشخصيات والاحداث الرواية، يكون هو ايضا من صياغتها، إن البشر الفاعلين صانعي الاحداث هم الذين اقاموه وحددوا سماته وهم قادرون على تغييرها.." (4)
    2-2
    اذا كانت الرواية جنسا ادبيا مكانيا (5) فان المكان في الرواية يتخذ على حد تعبير ميشال بيتور "ما يشبه مخيلتنا" (6) انطلاقا من ذلك فالمكان حين يكون هندسة يكون خارج "النص" وحين يكون اساسيا عضويا في الرواية يكون مرجعيا.
    لكل رواية مكان / ارض تقوم فيه الاحداث وله، وفي هذا الحيز تكبر الشخصيات، اذ تنمو وتتطور داخل المكان، وينمو المكان ويتطور داخلها ويتلون، في شكل مشاعر ومواقف ورؤى بصرية ورؤى حلمية، اذ يستحيل ان تتغير شخصية روائية دون ان يتغير المكان لأن الذاتي او الموضوعي الذي يشكل الاساس في البنية الداخلية والخارجية للرواية يرتبط بشكل من الاشكال وبصيغ وقنوات معقدة مع المكان في أبعاده ودلالاته المتعددة.
    2-3
    بقدر ما تتعقد "تكنولوجيا" الكتابة الروائية، على المستوى "الابستمي" و"الرمنى" تتعقد معها جدليا العلاقة: مكان - شخصية، اذ يتحول المكان في ظل تعقد الكتابة وحداثتها الى شخصية روائية تحيل على "الأمومة" أو "الانثوية" وبقدر ما كانت وسائل الكتابة مبسطة ومسطحة يأخذ "المكان" بعدا "جغرافيا" واضحا، واذا الصراع حوله أو من فوقه يتخذ هو الأخر انحيازا اجتماعيا أو سياسيا واضحا، ومفروزا، لأن الخطاب الروائي يكون منخرطا في بنيات "الوصف" مبتعدا عن البنيات "السيكو – حضارية".
    2-4
    كلما تقلصت أدبية المكان في الخطاب الروائي لمسنا في المقابل إمكانية اندماج القارئ في النص، وبالتالي تفقد الرواية مسألة أساسية في استراتيجية الكتابة ونعني بها قضية التوريط: توريط المستقبل كجزء مركزي، في فلسفة الكتابة وطموحها.
    كلما ضعفت أدبية كتابة "المكان" وتنازل عن بعده الايهامي والرمزي والسحري والشعري لصالح البعد الجغرافي الهندسي، نقصت لذة الاستقبال وفقد النص شهيته وفقدت الشخصيات غناها الذي سحب جزء منه من المكان.
    2-5
    يفرض المكان في بعده الريفي وتعريفيته الفلاحية ظلا كبيرا على الرواية المغربية (المكتوبة بالعربية او بالفرنسية)، إذ انه المجال الذي تخرج منه الشخصيات الروائية أو تزحف اليه بعد عجز او إخفاق مع المدينة، وإنه الحيز الذي يكشف عن نظام من الأخلاقيات الأبيسية، و"الأميسية" المتجاورة والمتحاورة دون عنف.
    لكن كيف يمكن أن نقرأ هذا الحضور للعالم الريفي بأخلاقياته وانكساراته وطموحاته في الخطاب الروائي المغاربي، وكيف يمكر تفسير حضور "الأرض" بدلالاتها الفلاحية والرمزية (الخصب - الأمومة - الحرية - الشرف – الكينونة) كفضاء ضاغط في هذه الرواية؟
    في تصورنا تعود هذه الظاهرة الى ثلاثة أسباب:
    أ - ارتباط الروائيين بالريف منبعا، وولادة، وأصولا، وطفولة، اننا نعتقد أن الطفولة هي المنبع المركزي الذي لا ينضب لتشظيات الكتابة.
    ان هذه الشخصية التي كثيرا ما تبدو على حد تعبير باشلار، تنتمي الى "العالم اللامتناهي في الصغر" (7) هي التي تقوم عليها العوالم الروائية ويتأسس عليها الحلم ولها، وهي ايضا تمارس عملية المشاهدة البصرية وبمختصر الكلام انها هي التي تحدد ضفاف العالم الذي ما هو إلا العالم الريفي (شخصية الطفل فورولو في رواية "أبن الفقير" لمولود فرعون، شخصية الطفل عمر في "الحريق" لمحمد ديب شخصية الطفل مراد في: طيور في الظهيرة" لبقطاش مرزاق، شخصية محمد في "الخبز الحافي" لمحمد شكري، وشخصية الطفل في "التوت المر" لمحمد العروسي المطوي.. وغيرها).(
    إنها الطفولة التي تحيل في أغلب الأحيان على السيرة الذاتية للكاتب، اذ نلمس وبسهولة بعض ملامح الروائي في صورة الطفل التي تعكس الطفولة الشقية في الريف، وما عاناه الأطفال من إجحاف في حقهم السليم في الوجود، بما مورس ضد طفولتهم من تشويه من خلال ادماجهم في آليات العمل الريفي الفلاحي: جني المحاصيل الزراعية - الرعي وتربية المواشي- جلب الماء...الخ.
    إن هذا العالم "اللامتناهي في الصغر" والمتصل بشكل من الأشكال بالسيرة الذاتية للروائي، يظل يطفو على الكتابة وتظل الكتابة تحيل عليه كل مرة.
    ب - ارتباط الرواية المغاربية بشكل خاص والعربية بشكل عام بالسيرة الذاتية، جعل البنية السردية للنص المغربي بنية ارتوبيوجرافية - سيرورية، وهي البنية التي تسمح من حيث إنها "اعترافية" بتسرب سيولي لـ «الانا» بكل تمزقاتها: السيكولوجية والاجتماعية والحضارية (الاغتراب اللغوي في حالة الرواية المكتوبة بالفرنسية مالك حداد نموذجاه" وان تمارس "الانا" الاعتراف فان الأرض، كمجال يقام فيه الفعل، تتجلى بكل قوتها، لان لا ذات بدون "أرض" ولا "أرض" بدون ذات تمثل تعريفيتها.(9)
    د - إن الظهور العنيف للأرض في مواجهة خفوت صورة المدينة، ناتج كما عبر عن ذلك الباحث المتخصص في الأدب المغربي الاستاذ شارل بون يقول:
    "إن الايديولوجيا تعود لتكتشف عنف الأرض ضد المدينة، حينما تجعل من المدينة رمزا للنظام الكولونيالي- ان الايديولوجيا "العالم – ثالثية" (TIERS- MONDISTE) الجزائرية على رأي قانون: فلاحية بالاساس... وهو ما يعكس بعمق وقوة الأنظمة المتخفية للمتخيل الجمعي.( 10)
    2-6
    إن الكتابة من "الأرض" بمفهومها الفلاحي- الزراعي ونضالات الفلاحين والمزارعين ضد الاستعمار التقليدي الفرنسي والإسباني (الريف المغربي)، أو ضد الاقطاع المحلي والمالكين العقاريين الكبار، كانت استجابة لنظام الخطاب، ولمفردات الشعارات التي رفعتها الأحزاب الوطنية التي قادت ثورات التحرير أو تلك التي استلمت السلطات في العهد الاستقلالي، سواء كان ذلك عن طريقة دستورية ملكية (حزب الاستقلال في المغرب) أو دستورية جمهورية (الحزب الدستوري في تونس) أو انقلاب عسكري كما هو في الجزائر (1965- وأبعاد الحوار السياسي المعارض. وتشكيل مركز قرار السلطة المركزية، التي هي الحزب ومؤسسة العسكر= جبهة التحرير الوطني).
    لقد كانت غالبية تركيبة السلطات المغاربية، على الرغم مما قد يبدو من اختلاف وخلافات، وهي تطرح شعارات إصلاح الريف والعودة إلى الأرض تعبر وبذهنيتها الرعوية الفلاحية عن حنين لأصولها التي ستنفصل عنها شيئا فشيئا، مع الاحتفاظ والإبقاء دائما على المخيال الريفي- الرعوي في ثقافتها، حتى داخل الصالونات والبروتوكولات.
    2-7
    حين رهنت الكتابة الروائية المغاربية نظام خيالها وهاجسها المركزي ومصيرها بخطاب البورجوازيات الوطنية اللامتجانسة، التي لا تملك تقاليد ثقافية ريفية أو تقاليد ثقافية مدينية، فإنها وجدت نفسها -أي الكتابة- لا تمارس سوى إعادة انتاج خطاب السلطة، وبالتالي تفريخ روايات جافة ومركبة خارجيا.
    ولما كانت "القصدية" طاغية، والهدف بائنا، المتمثل في القيام بدور الوسيط التربوي والتعليمي" بين السلطة ومؤسساتها، برؤاها وأحلامها، والجماهير الفقيرة الخارجة منهكا من حروب ومقاومات تحريرية داعية، فقد كانت المحصلة تكون ظاهرة أدب الرسالة (Liuerature Message).
    وأمام منطق محدد بفلسفة وظيفية الأدب، وظيفية مباشرة، فقد سادت الغثاثه الجمالية، وسيطرت التبسيطية التعليمية الايديولوجية:
    "الشمس تشرق على الجميع"، لاسماعيل غموقات أو "المخاض" للبكري أحمد السباعي او "غدا تتبدل" لفاطمة الراوي او "بيت الحمراء" لمحمد مفلاح أو "الانفاس الأخيرة" لمحمد حيدار، أو "المفوضون" لابراهيم سعدي او "حين يبرعم الرفض" لادريس بوذيبة أو "هنا تحترق الأكواخ" لمحمد زتيلي أو "على الدرب" لمحمد الصادق حاجي أو "المنبث" لعبدالمجيد عطية أو "أرجوان" لمحمد المختار جنات أو "وناس" لمحمد الحبيب بن سالم.. وغيرها). (11)
    إن هذه النصوص ومثلها كثير هي البرهان الواضح على النفق المسدود الذي وضعت فيه الكتابة هاجسها، حين ربطت عالم الريف والأرض في طموحه والبحث من حل لمأزقه الاجتماعي والسياسي بأطروحات السلطة.
    وما تميز به الخطاب الروائي في هذه النصوص فيما يتصل بالفضاء الريفي، هو اعتماد اللغة الصحفية، والأسلوب التقريري،، والجمل الجاهزة القادمة من حقول السياسة وعلم الاجتماع، تلك الحقول التي تعتمد بنية اسلوبية اقناعية - إبلاغية، في حين يعتمد النص الروائي بنية أسلوبية إبداعية تخريفية تخييلية إيهامية.
    2-8
    لا يمكن تفريغ النمن من البعد "السياسي" و"الايديولوجي" إذ لا وجود لنص دون ذك، إلا أن ما يقتل الرواية هو الطريقة التركيبية الخارجية، غير العضوية التي يتم بها استدعاء "السياسي" و"الايديولوجي". ان النص الروائي الفاجر، يستطيع فيه المبدع أن يوصل الصوت السياسي أو الأيديولوجي من خلال البنية الجمالية للرواية: اللغة - السرد- الأسلوب - الشخصيات - الوهم الهذيان - الفنتازية - السخرية... الخ والابتعاد عن نمط الإفصاح والتصوير الذي هو اختيال لسحرية الأدب.(12)
    إن النص الروائي الناجح يحاور ويسائل العالم من زوايا مختلفة، لأن قيمة الحياة وثروة نشيد الحياة تكمن في تنوع اللحظة الواحدة، فكلما حاول الكاتب ممارسة الحفر في ذاكرة الزمن وذاكرة المكان وذاكرة الجسد والكائنات، اكتشف تاريخية اللحظة، واكتشف جزءا من بهاء الكتابة وغموضها الذي هو جزء من جمالياتها، وعنصر أساسي في تعريفيتها.
    3-1
    يحدد الوعي الوطني والجمالي المغاربي جوهر الموقف من "الأرض" بوصفها المحدد المركزي للهوية، إذ لا يمكن تصور هوية دون جغرافية ترابية وبشرية.
    لقد تجلت "الارض" أدبيا في الخطاب الشعري المغاربي بالعربية في شكل فروسي معاصر، فاذا كانت أشعار الأمير عبدالقادر الجزائري الكلاسيكية تحاول أن ترفع الحس المغاربي الفلاحي – القبلي - الرعوي من بعده الفروسي القبلي الى لحظة البحث عن صياغة مفاهيم معاصرة للوطنية (13) فإن أشعار أبي القاسم الشابي وعلال الفاسي ومحمد الحلو ومفدي زكريا، أعطت بعدا معاصرا لمفهوم النضال والصراع حول "الأرض" إذ ربطت المطلب الاجتماعي بالأطروحة الوطنية والاستقلال والحرية في بعدها الحضاري والسياسي.(14)
    إن اندلاع الثورة الجزائرية في أول نوفمبر 1954، وكذا المقاومات المسلحة في كل من تونس والمغرب، وتجند العالم القروي خلف شعار الثورة والتمرد والانخراط في مشروع البحث عن حلم جديد أساسه "عودة الأرض"، سيجعل الخطاب الأدبي الشعري بالعربية والروائي بالفرنسية، يعرف نقلة نوعية في أسلوب مقاربته لقيمة "الأرض".
    لا يمكن لأحد أن ينكر الخلخلة التي حدثت في عقل الإنسان المغاربي، وفي بنياته الذهنية، وفي نظام تصوره للعالم، وذلك من جراء زحف أفكار الحرية والتقدم والعدالة والحضارة والتعليم والإعلام على المستعمرات، خاصة ما يتصل بـ "الماركسية" و "الوجودية" و "القومية" كما كان لها أيضا تأثير عى إعادة التفكير في سؤال "الأدب"، ممن دوره وصياغاته وأهميته وطبيعته.
    3-2
    يمكن تلمس صورة الأرض في الرواية المغربية، تبعا لظل التاريخ الوطني والقوي والعالمي، على الذات: ذات المبدع، ذات المثقف. وانعكاسه - ظل التاريخ - على الثقافة المحلية الوطنية التي طالما عانت من وضع إقصائي مورس ضد وجودها من قبل ثقافة قوية بمؤسساتها وبعدتها البشرية والمادية وبخبراتها المتراكمة.
    إن انعكاس ظل التاريخ على الثقافة الابداعية بشكل عام، والروائية بشكل خاص، خلف نصوصا، ترافقت، في حوارها مع "الأرض" كموضوع روائي، مع الأحداث الكبرى التي عرفها الشمال الأفريقي في مسار صراعه مع "الآخر".
    3-3
    انطلقت الرواية الوطنية المغاربية، من هاجس "اثنوغرافي" اجتماعي "في محاولتها رسم لوحة تشكيلية "للأرض"، ان هذه النظرة العروقية "للأرض والريف"، كشفت دون أن تستعمل أسلوب الادانة السياسي المباشر، الصراع العميق الذي يخوضه الفلاحون من خلال جحيم الحياة اليومية: جحيم الصراع ضد الطبيعة القاسية حيث الأرض البور الجرداء، غير الخصبة التي حوصروا فيها، وجحيم الصراع الخفي ضد الآخرين خلال التشبث بكل ما يعرف الذات ويميزها عن "الآخر": (اللباس - اللغة - الحكاية الشعبية - الاحتفالات - المواسم.. الخ). إن كتابات الروائي أحمد الصفريوي تحقق هذا الأمر وإن كان عبدالكبير الخطيبي قد أدرج نصوصه فيما يمكن أن نطلق عليه "أدب البطاقات البريدية" الذي هو امتداد للأدب الكولونيالي (15). أما تجربة مولود فرعون في "ابن الفقير" ومالك واري في "الحبة في الطاحونة" (16) فتمثل نموذجا للبشر من خلال العلاقة بين "الأرض" و "القبيلة" عن الجذور التاريخية لوجود الأنا المهدد بعنف الآخر (17).
    وعلى الرغم من أن رواية "المعلم علي" تحاول أن تفصح وإن قليلا عن الصراع، إلا أن بنيتها الداخلية هي بنية اثنوغرافية - اجتماعية، وان محاورتها العالم المديني التقليدي (فأس) قد جعلها تحقر أو تستصغر من أهمية التجربة التاريخية للريف.(1
    لقد كان هدف هذه النصوص وغيرها، وهي تطرح عالم "الأرض"/ الريف، تأسيس خطاب مناهض لخطاب "الآخر"، "منطقة" - أي النصوص - من الفولكلور الريفي الذي وظفته الرواية الاستعمارية بدورها بعد أن فرغته من بعده التاريخي الذي يعكس إنسانية الفرد في علاقته مع المكان والزمان، اللذين يحققان شرط إنسانية وجوده.
    3-3
    ومن الموقع "السياحي"، طرحت الرواية الانتهاكات التي يتعرض لها العالم الريفي، بغية تحويله الى فضاء للمتعة، متعة "الآخر" وقد أبدت كثير من النصوص مقاومة لذلك "إيميلشيل" لسعيد علوش و"شرف القبيلة" لرشيد سيموني.(9ا)
    3-4
    كما ان صورة الأرض / الصحراء وبكل ذلك البعد الزمني والسحري تجلت في الرواية المغاربية في طرحين:
    أ- طرح إمتاعي:
    تناول الحياة في الصحراء من الخارج، فاذا هي أرض للمتعة والمغامرة والإدهاش، وكأن الرواية وهي تؤسس رؤيتها الجمالية هذه، كانت تواصل تقاليد الكتابة الروائية الاستعمارية أو على الأقل دون أن تقطع معها.
    يغيب عن هذه الأرض كل حس للمأساة بمعناها الاجتماعي، إذ تكشف النصوص عن فقر في معرفة وإدراك العالم الصحراء في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية، إن الصحراء في هذا الطرح وبهذه المقاربة مجال لا يعاني بل هو طرق المتعة واللذة والتأثير والإغراء والغواية، تندرج في هذه الخانة مجموعة من النصوص التي أرادت أن تحقق رغبة الآخر فينا،خاصة بعد أن انتهى عصر الأدب الروائي الكولونيالي، ويمكن إعطاء نماذج للتمثيل: "سأهديك غزالة" لمالك حداد أو "الحب، فنتازية" لأسيا جبار 1985 التي نلمس فيها بصمات واضحة لرواية استعمارية عنوانها "سنة على الساحل" تعود الى سنة 1859، وهي للروائي والرسام الاستشراقي الذي عاش بالمغرب العربي نعني: أوجين فرومنتان، أو ليلى صبار في روايتها "دفاتر شهرزاد" 1985.(20)
    وتطرح هذه الروايات الإنسان المغاربي بعيدا عن شرطية وجوده التاريخي، واذا الصحراء هنا فضاء للجنس والفحولة والقنص.
    ب- الطرح: الموضوعي التاريخي:
    هو الطرح الذي يتناول الأرض الصحراوية بعين ذويها، وتكتشف الرواية من خلال هذه الرؤية عنف الحياة وقساوتها وصبر الإنسان الصحراء، ونضاله ضد الطبيعة وضد التخلف أيضا.
    إن هذه المقاربة للعالم الصحراوي مقاربة داخلية ومن الداخل، إذ في رواية "الأسماء المتغيرة" أو "القبر المجهول" لأحمد ولد عبدالقادر أو "التبر" و"نزيف الحجر" لابراهيم الكوني نكتشف الحياة اليومية الصحراوية، وصراع القبائل لأجل البقاء.. ونلمس صعود الأيديولوجية الوطنية ضد أيديولوجية القبيلة والتفتت.
    تكتشف هذه المقاربة تشكل الوعي الوطني وأنماطه، وكذا التبدل والمعاصرة في الفكر والآلة التي زحفت على هذه الأرض (اكتشاف مناجم الحديد والفوسفات وحقول البترول)، ومدى تأثير ذلك على الذهنية الصحراوية المنسجمة مع الثقافة التقليدية الشعرية، وكذا الممارسات الثقافية والإبداعية الشفوية الأخرى.
    إن رواية "تيميمون" لرشيد بوجدرة (21) على الرغم من أنها تناول للأرض الصحراوية من الخارج، أي عبور رحلة بالحافلة الى الصحراء، إلى مدينة تيميمون، إلا أنها حاولت أن تزاوج بين زاوية النظر من الخارج وزاوية النظر الداخلية، متخلصة من حسها الفولكلوري للصحراء لما رسمته من أتعاب هذا الفضاء، لقد قتلت الرواية وهم المتعة الذي خلقته روايات الطاهر بن جلون خاصة "ليلة القدر" و "طفل الرمال".(22)
    3-5
    إن الصورة الأكثر طغيانا للأرض في الرواية المغاربية هي صورة "الأرض المغتصبة" حيث البحث عن تحريرها من الآخر.
    تتكدس أغلب النصوص حول الحرب التحريرية، والمقاومات التحريرية، وتحقق الثورة الجزائرية، نظرا لثقلها وعنفها، الموضوع الأكثر انتباها وحضورا.
    إن انخراط الروائيين المغاربيين كمناضلين في صفوف الأحزاب الوطنية، واعتقادهم بأن الأدب هو الأخر عليه أن يكون "مناضلا" في "المدرسة الوطنية" هذا الفهم المسوغ تاريخيا، هو الذي سمح بتداخل الخطاب السياسي المباشر بالخطاب الأدبي الروائي، وظهر في النص الخارجي الذي يحمل صراخا للعالم، بحث عن استرجاع الأرض، التي هي بكل تبسيط رمزا لحرية، إذ لا فصل بينهما لقد لاحظنا سيلا كبيرا من الروايات المغاربية باللغتين العربية والفرنسية ظهرت ضمن رؤية جمالية مبسطة للأدب، كانت تنادي بها المدرسة الوطنية للآداب، القائمة على "الوظيفية" و "الدعاوة" السياسية، وهو بالفعل ما انتج أدبا روائيا رديئا مكتوبا بنية طيبة وبحماس كبير لقيم الحرية والكرامة والعدالة.(23)
    لقد اختزلت الرواية حب الأرض في عملية "شتم" و "هجاء" "الآخر" ككتلة دون تمييز، وتمجيد العنف و "الحرب" و "مدح الجندي" المجاهد الذي يدخل المعركة وكأنه ذاهب في جولة سياحية، إنها الشخصية المجوفة والجافة والمفرغة من كل غنى روحي وإنساني، فهي لا تخاف، وهي المنتصرة دائما.
    يمكن أن أذكر النماذج التالية التي تمثل صورة من كتابة الغثاثه الروائية، عن "الأرض" المغتصبة: "صمت الرماد" لقدور امحمصاجي، "أطفال العالم الرمادي" لموهوب بنور و "المركز والهامش" لرضا فلكي، "المتقاضون" لعبدالقادر ولهاصي، "سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب، "التحدي" لمحسن بن ضيان، "انا وهي والأرض" لمحمد الحبيب ابراهيم، "حب وثورة" لعبدالرحمن عمار (ابن الواحة)، "الثائر" لمحمد الصبحي، الحاجي، "الزيتون لا يموت" لعبدالقادر بلحاج نصر، "العنف الثوري" لاحمد عبدالسلام البقالي و "المعركة الكبرى" لمحمد اشماعو.(24)
    تلك نماذج لرواية أخطأت أدبيتها، حين اختزلت العالم في كل ثرائه في تعليمية مبسطة للتاريخ، وفهم مختزل لطبيعة جوهر "الصراع" حول "الأرض" فهي- الرواية - لا ترى في فلسفة الصراع سوى ذك "التحارب" و "التقاتل" بين كتلتين تاريخيتين: كتلة الأهالي القوية بايمانها والفقيرة اجتماعيا والمنتصرة دائما، والكتلة الاستعمارية المنهزمة لأنها رمز الشر والظلم والباطل.
    لقد رافق الرؤية الروائية الاختزالية لتاريخ الصراع حول الأرض في هذه النماذج، صعود واضح لرؤية أخلاقية مبسطه واصلاحية.
    3-6
    من موقع أخر استطاعت نصوص روائية ان تكب هاجس "الأرض" في علاقتها بلحظة الحرب انطلاقا من بنية أدبية مؤسسة على قراءة الإرث العالمي لأدب الحرب والصراع والتحرر.
    قد مثلت روايات: "من الذي يذكر البحر" او "الجرى على الشاطئ المقفر" لمحمد ديب، و"نجمة" لكاتب ياسين و "العين والليل" لعبدالطيف اللعبي، وادموند اثير في «المسار الثابت» وناصر خمير في "الغولة" وهالة باجي في "عين النهار" و"التفكك" لرشيد بوجدرة و"اللاز" للطاهر وطار و«ثلاثة صدور لوسام واحد» للحبيب السائح و"رفقة السلاح والقمر" لمبارك الربيع و "التيوس" لادريس شرابي و«اكادير» لمحمد خير الدين.. وغيرها. هذه الروايات على الرغم من تفاوت فيما بينها ان على المستوى الجمالي او الفلسفي مثلت قراءة لتاريخ الصراع حول الأرض مؤسسة على نقد الذات ونقد الآخر، وان الفصل بين الذات والآخر هو فصل وهمي، وان الكتلة التاريخية: كتلة "الأنا" أو كتلة "الآخر" ليست منسجمة، بل ان عناصر مكونة لكتلة "الأنا" تتجاسر مع عناصر الكتلة الأخرى، قد يكون التجانس في تأكيد مشترك لقيم الظلم والموت واللاانسانية.
    لم تكتف هذه النصوص بالاتكاء على الوقائع في كتابة الصراع حول "الأرض" بل انها ذهبت لتبحث عن أبعاد الأرض في "الخرافة" و"السحر" ومجد الاجداد الاولين، دون أن تسقط في التمجيدية أو "الطهرانية" العرقية والمثالية في النضال.
    هوامش وإحالات
    1- مفاهيم نقد الرواية بالمغرب والمصادر العربية والأجنبية، فاطمة زهراء ازويل - منشورات الفنك - الدار البيضاء- المغرب، 1989- الطبعة الاولي- ص 18.
    2- Penssee Formelle et sciences de l homme: G.G. Ggranger edit. Aubler, Paris- 1960. PP: 206- 208
    3- جماليات المكان: جاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا- دار الجاحظ للنشر- وزارة الثقافة والاعلام - بغداد- العراق - كتاب الاقدام 1- 1980. الطبعة الأولى- ص:212.
    4- المرجع السابق: 212.
    5- Lunivers du roman: R. Bourneut/ R. quelled. Edit P.U.F. 1981. PP: 128-.149.
    6- L'espace du roman Michel Butor, repertoire ii editions de Minuit 1964. P:44.
    7- جماليات المكان: جاستون باشلار ص: 177 (مرجع سبق ذكره).
    8- أ – طيور في الظهيرة، بقطاش مرزاق - منشورات - أمال - الجزائر- 1976 عدد 34
    جويلية - اوت.
    ب - الخبز الحافي - محمد شكري - النجاح الجديدة - المغرب 1982.
    جـ - التوت المر: محمد العروسي المطري، الدار التونسية - للنشر- نص - 1967.
    9-Essais de psychanalyse appliquee: S- Freud edit- idees. Calimard- 1933 P-78.
    10- Problematiques spatiales du roman.Algerien: Charies- Bonn, edit E.N.A.L Algerie- 1986. P:25.
    11- الشمس تشرق على الجميع: اسماعيل غموقات - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر- 1978.
    - المخاض: البكري احمد السباعي- دار الكتاب - الدار البيضاء- المغرب - 1972.
    - غدا تتبدل الارض: فاطمة الراوي - امبريجيما- المغرب - 1967
    - بيت الحرماء: محمد مقلاح - المؤسسة الوطنية لكتاب - الجزائر- 1986.
    - الانفاس الاخيرة: محمد حيدار- المؤسسة للكتاب - الجزائر- 1985.
    - المرفوضون: ابراهيم سعدي- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر- 1981.
    - حين يبرعم الرفض: ادريس بوذيبة: مطبعة البعث - قسنطينة - 1978.
    - هنا تحترق الاكواخ: محمد زتيلي- مطبعة البعث - قسنطينة 1977.
    - على الدرب: محمد الصادق حاجي: منشورات أمال - عدد خاص - رقم 40- جويلية - اوت 1977.
    - المنبت: عبدالمجيد عطية: الشركة التونسية للنشر والتوزيع - تونس – 1967.
    - ارجوان (بقسميها): محمد المختار جنات الدار التونسية للنشر - 1970.
    - وناس: محمد الحبيب بن سالم - الشركة التونسية للتوزيع 1973.
    12- حرقة الاسئلة: عبد الطيف اللعبي- ترجمة: علي تيرلكاد- منشورات توبقال- الدار البيضاء- المغرب - الطبعة الاولي- 1983 - ص 24 وكذا ص 64.
    13- ديوان الامير عبدالقادر: منشورات النهضة - مصر- 1968.
    14- الصورة والرمز في الشعر العربي المعاصر بأقطار المغرب (1962 - 1987) عثمان حشلاف - اطروحة دكتوراه - اشراف د. عبدالله ركيبي- جامعة الجزائر العاصمة - معهد اللغة العربية وأدابها - ص 42.
    15- Reception critique d Ahmed Sefriout..Lahcen Mouzcuni-edit.Atrique- orient- casa- Maroc 1984. PP: 50- 51.
    16- Le grain dans la meule Malek ouary edit- Buchet- Chastel correa Paris- 1956. lere edition.
    17- Bibliographie Methodique et critique de la literature Algerienne de lanque francaise: Jean Dejeu. SNED 1979. P:52.
    18- L honneur de la tribu: Rachid Mimeoune edit Laphomique- Alger- 1990.
    19- الرواية المغاربية في ذات التعبير الفرنسي في التسعينات، من الحنين المفقود الى نهوض المنسي: أمين الزاوي. مجلة «التبين »- الجزائر- العدد 9- السنة 1995ص:28.
    20- تيميمون: رشيد بوجدرة - منشورات الاجتهاد الجزائر- 1994.
    21- I a nuit sacree: Tahar Benjalloun edit- Seuil- Paris- 1987 Prix, GONCOURT. B/L enfant du sable: Tahar Benjalloun Edit- Seil- Paris- 1985.
    22- Le roman et la nouvelle en Tunisie. Ferid Ghazi. Edit. M.T.E. Tunis 1970 p:56.
    23-
    - a/l le silence des cendree. Kadour M hamadji. Edit: Rody- subervie- 1963.
    - b/les enfanrs des jours sombres: Muohoub Bennour. Edit SNED. 1978.
    C/ le milieu et la marge: Redo Falaki Edit Dencel- Paris 1964.
    D/ les justiciables: Abdelkader Oulhaci Edit: Escorbion- 1964.
    أ- سبعة أبواب: عبد الكريم غلاب:
    ب - التحدي: محسن بن ضياف: الشركة التونسية للتوزيع - 1972.
    جـ- أنا وهي والأرض: محمد الحبيب ابراهيم، دار الكتاب - سوسة تونس - 1978.
    د- حب وثورة: عبدالرحمن عمار (ابن دوخة) الشركة التونسية للتوزيع - تونس – 1960.
    هـ- الثائر: محمد صبحي الحاجي: الشركة التونسية للتوزيع- تونس -.197.
    و- الزيتون: عبدالقادر بلحاج نصر- الدار التونسية للنشر. 1969:
    ل: العنف الثوري: احمد اسماعيل البقالي- الدار التونسية للنشر - تونس 1978.
    المعركة الكبرى، محمد اشماعو: دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر. الرباط – 1978.

    http://www.nizwa.com/volume23/p51_56.html[/B]
                  

07-16-2006, 11:08 PM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8629

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    عزيزنا المشاء

    تحياتى

    دائما تتداخل الأسماء أو الدلالات مع بعضها البعض
    وبالفعل مدينة من تراب طبعا لعلى المك ولمحمد الواثق "أمدرمان تحتضر"
    وربما لتشابه الطعم أو الموضوع حول أمدرمان

    عدلتها ايضا فى مكانها قبل كتابة هذا التعليق

    ونلتقى مع الود
                  

07-16-2006, 11:16 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: أبوذر بابكر)

    عزيزي اباذر
    اعتقد ان كلا من "مدينة من تراب" و"امدرمات تحتضر" تهيئ لمقاربات مختلفة للعلاقة بين المكان
    في صيغته الحداثية كما في حالة علي المك,
    وصيغته التقليدية،كما في حالة الواثق
    لك الود والاحترام العميق
    وفي انتظارك
    محبتي
    المشاء
                  

07-17-2006, 12:16 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    صورة اخرى لغاستون باشلار مؤلف:
    جماليات المكان

    وهنا دراسة تستمد روحها من جمالية المكان لباشلار:
    عنصرالمكان في تكوين البناء الروائي
    تعقيب على ورقة بناء المكان في رواية المكلاّ لخالد يحيى الأهدل مقدم إلى المهرجان الرابع للأدب اليمني للفترة من 25-29 مايو 2005م.
    محمد المنصور
    تطمح أية قراءة تهتم بجانب المكان والفضاء الروائي، إلى ملاحظة علاقة المكان بعناصرالبناء الروائي كالزمن، الشخصيات، اللغة وعناصرالسرد الأخرى، وذلك ما تجتهد هذه الورقة التعقيب للقيام به.. مع سابقتها للزميل المبدع خالد يحيى الأهدل والتي بعنوانبناء المكان في رواية المكلا- مقاربة للفضاء الروائي). لقد حاولت في هذه المتناولة أن تكون مختصرة بحيث لا يتجاوز التعقيب الأصل المعقب عليه.. وذلك من خلال إشارات هي:
    1- يلحظ بداية خالد الأهدل تجليات كثيرة للمكان في رواية (المكلا) للأستاذ صالح باعامر. ويلحظ كذلك غياب المقاربة، المكانية والفضاء الروائي في السرد، اليمني المعاصر ولم يشر إلى عينة منها كي يصبح قوله (ص1) لذلك فإن هذه الورقة وهي تحاول الإسهام في سد هذا الفراغ القائم في الخطاب النقدي اليمني فإنها في الوقت نفسه تسعى إلى مقاربة الفضاء الروائي في رواية (المكلا) مبرراً، إذ كان بالود أن يشير الأخ خالد الأهدل وهو قاص وروائي، أيضا إلى هذا البعد الغائب في النقد الروائي والقصصي في اليمن، لتكون ورقته إضافة مهمة في هذا الصدد تفتح أمام محاولات قادمة نوافذ مشرعة على المشهد السردي في اليمن.
    2- كانت الإشارة (ص1 وما بعدها) إلى فضاء النص، أو الفضاء الطباعي نظرية، لم تتجاوزها إلى التدليل من المتن الروائي، ولم تلامس إلا قليلا من المعالم الرئيسية فيه، وهو ما قد تبرره فرضية الاطلاع الواسع على الرواية وقراءتها من أوسع شريحة متلقية، إذا كان مفيداً تبيان العلاقة بين النص وحيزه المكاني في البياض، وذلك ما كان سيكون جديداً في بابه فعلاً بالنسبة للنقد الروائي والقصصي في اليمن.
    3- جاءت الملاحظة رقم (2) (ص2) محايدة لناحية تعيين ورصد مسافة الفقرات الفصول وعدد صفحاتها ولم تبين العلاقة بين طول أو قصر الفقرات، وعلامات الترقيم بدلالة المكان الروائي، وهذه الملاحظة جزئية من أخرى سابقة كنت أرجو فيها من الزميل أن يكون أكثر اصطباراً مع النص والقراءة.. ليكون القارئ والمتلقي أكثراستمتاعاً واستفادة.
    وفي الفقرة (4) (ص4)، من ورقة الأستاذ خالد الأهدل ما نصه (يشكل المنزل الذي يقطنه بطل الرواية مع أسرته البؤرة المكانية التي تنطلق منها الشخصية الرئيسية إلى الأماكن الأخرى في الرواية) وذلك برأيي اختزال وتبسيط، يناقض إشارة ورقة الأهدل في المقدمة إلى دلالة عنوان الرواية والذي هو العتبة الأولى بتأكيد دلالي آخر يتمثل في الإهداء ونصه (إلى المكلا المكان والإنسان والأحباب)، فبرغم أهمية المنزل/ المكان كعنصر رمزي متعدد الدلالات بتعدد أشخاصه وأن المنزل أيضا (واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية، ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما: أحلام اليقظة)(1)، فالمكلا هي البؤرة المكانية، والفضاء الذي تمتد منه وفيه فضاءات مكانية أخرى أصغر منها على سبيل المثال: المنزل، البحرالذي يتوحد معه الروائي، يناجيه (ص8، ص10، ص11) ويمثل له المأوى والملاذ والصديق (ارتقيت الأحجار مولياً ظهري جبل المكلا، ورميت صنارتي في البحر هنية وتخلقت أمواج- هكذا- من الأعماق فشعرت أن شيئاً قد علق بالصنارة.. البحر لا يبخل على أصدقائه، مهما واجه من بني البشر) ص18.
    وبدلالة حضورالمكلا المدينة كفضاء كبير مفتوح على دلالات شبه مغلقة للمكان كالشوارع والحارات، والشوارع والمقهى نجد أن نسبة حضورها بالتسمية أو الإشارة إليها في الضمير من خلال الصفة المسندة إلى الاسم تتفوق على المنزل، فالمدينة- المكلا تلعب دورالبطولة وتتمحور حولها أحداث الراوي المسقطة على الحاضر والماضي، ويتم الإسقاط عبر إحالات متعددة للمكان، بما يشبه هذه المعادلة.
    المكلا = المنزل= الحارات والشوارع، والبحر، والسجن، والبشر= الذاكرة= الوطن= الرواية، وعليه يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في الرواية إلى قسمين:
    أ‌- الفضاء الرمزي.. وتمثله المكلا وتؤدي من خلال السرد وظيفة رمزية استعارية، مشبعة بالخصوصية الثقافية للبنية السياسية والاجتماعية التي تقترحها الرواية بما يمكن أن نطلق عليه الهوية (نوستالجيا النص أو الحنين إلى الماضي، هذه النزعة التي يحملها كل من في لا شعوره، وحينما نقدم خصوصيتنا الثقافية التي تستوعبها الرواية في نص روائي فإننا نعرف الآخر بنا، على أن لنا حضوراً مختلفاً لنذكره بوجودنا، ونجعله يتناص معنا، فنحمي أنفسنا مثلما نحمي ثقافتنا من النسيان فالاندثار) فالمكلا بهذا المعنى لدى صالح باعامر تجسيد للبوتوبيا والمثال الذي يقع في الماضي مقابل المكلا كما هي في لازمن الروائي اليوم والتي تحملها وتعبر عنها رؤيته التي يكثفها في خاتمة الرواية للمكلا قائلاً ص128: (أطرقت وتأملت كل شيء وفكرت، ما هذا الذي يجري؟ ما كل هذا الحب، بعد كل هذا هل أهرب؟ هل أغادر؟ لا أظن أنني سأقدم على عمل كهذا، مهما حدث لي بل لن أفكر فيه البتة، كيف أغادر وقد أعطتني المكلا ثروة لا تقدر بثمن هي إعادة الاعتبار لي)، فبهذا المشهد العاطفي الاسترجاعي السريع للزمن وتداعياته يختتم الراوي حديثه ورؤيته لسيرة المكان المكلا بما يشبه المناجاة والابتهال، وكما بدأ الرواية بالحديث عن المكلا.. فإن الختام يكون بها.
    ب‌- الفضاء الواقعي: وينقسم إلى عدة فضاءات تمتد من المكلا ذاته، البحر- المنزل- أسماء الشوارع- الأبنية (القصور- السجون.. الخ) والتي يصنفها خالد الأهدل بقوله (أما الأماكن الأخرى في الرواية فمعظمها يخضع للاستقطاب في مجموعتين من الثنائيات الضدية أولاهما ثنائية (الأمن، الخطر فهناك (المكلا، عدن) حيث المكلا الآمنة في مقابل عدن حرب 86م).. أما الثنائية الضدية الأخرى كما يراها فهي (ثنائية المفتوح، المغلق) حيث تحفل الرواية بالكثير من الأماكن المفتوحة (المقهى، الشاطئ، الشارع، المكتب..، وأغلب هذه الأماكن هي أماكن قسرية اضطرارية وهو ما يجسد مدى الأزمة التي تعانيها الشخصية) ص5، ومع صحة ذلك التعليل.. إلا أن الملاحظ إغفال عامل الزمن الذي يتموضع ضمن ثنائيتي الماضي والحاضر وعلاقته بتلك الأماكن المصنفة ضمن ثنائتين أشار إليهما الأهدل، ذلك أن الراوي يعمد إلى المزاوجة بين الماضي والحاضر أثناء السرد بما يجعل تلك الأماكن عنصراً متحركاً في علاقتها بالزمن تتفجر من خلاله أسئلة الراهن، تبحث فيها الشخصية الرئيسية عن وجودها الإنساني والوطني بإزاحة الستار عن المسكوت عنه، وبذلك تقدم الرواية عبر النص البنية السياسية والثقافية والاجتماعية في حركتها من خلال الرواية، وضمن الفضاء الواقعي.. أيضا نرصد في الرواية أماكن أخرى وفضاءات أهمها:
    1- عدن كبؤرة للصراع السياسي والعنف (13 يناير 86-22 يونيو 1969- أحداث 197.
    2- فضاء الأماكن الأخرى التي لم يشر إليها في الورقة والتي جاءت ضمن البناء الروائي ورصد حركة المتغير التاريخي ونقد الأيديولوجيا وآليات القهر أهمها:
    - مكة، الحج (لقد سألني إن كنت اعتزم مغادرة البلاد هربا فأكدت له السفر للحج ونفيت الهرب ص 23.
    - أفغانستان: جاءت الإشارة إليها في سياق تهمة المحقق للراوي بالمشاركة في الجهاد والذهاب إلى أفغانستان ص 63؟
    - الحبشة: المتحف الأثيوبي: جاءت الإشارة إليها في سياق التذكر أثناء وجود بطل الرواية في السجن بالمكلا ص82.
    - الصحراء تكررت الإشارة إليها كمكان للموت (ص10) أو النجاة والخلاص (ص105)، وحضور تلك الأماكن وفضاءاتها في الرواية يعبر عن توق الراوي والبطل للرحيل والذهاب بعيداً بقصد توسيع رقة الروح والخلاص لا رقعة المكان.
    إن الأماكن المشار إليها تختلف علاقتها بالشخصيات، وبالتالي تختلف هويتها الزمنية والدلالية ليغدو المكان ذاته هو الزمن الذي يتمحور حوله وجود تلك الشخصيات والأحداث والصور، والصراع المحتدم في الواقع وفي داخل الشخصية الرئيسية ووجودها بين الماضي والحاضر، بين الحلم والمستحيل، بين الذات والآخر..
    لقد لاحظ الأستاذ خالد الأهدل وجود أماكن: (لا – يتعدا حضورها في الخطاب مجرد التسمية، لأنها لم تكن وعاء لأي حدث، بل إن ظهورها الأسمي لم يكن أكثر من تجسيد للمرور العابر للشخصية خلالها ص5)، وليسمح لي الزميل الأهدل أن أرى إلى المكان الواقعي وما صنفه بالأماكن الأخرى كمحاولة واعية من الكاتب لاستدراج القارئ إلى التيقن من وجود مطابقة بين النص والواقعي..، ذلك أن رواية المكلا تحمل من خصائص رواية السيرة الذاتية الكثير من الملامح، وخصوصياتها الثقافية واضحة، بل إن اشتغالها على الحنين والنوستالوجيا يجعل المكان بكل مستوياته عنصراً سردياً رئيسياً، وما الشخصيات إلا جزء من التفاصيل المكانية كما أرى.
    في الفقرة الخامسة من الورقة نرى اختزالاً لأزمة الشخصية الرئيسية- التي لا نعرف أسمها- في علاقتها بالمكان والمتمثلة في: أزمة السكن والعوز المادي، وعملية السطو على الأراضي والإثراء غير المشروع للطبقات الطفيلية..، والموقف مما يحدث من تشويه لجمال المكلا، ولم يلتفت الأخ خالد الأهدل إلى قيمة جوهرية في الرواية تنبني عليها شخصية البطل الراوي ومن خلاله نرى المثقف الجدلي، المثقف الناقد للسلطة بكل أشكالها وآلياتها في القمع والممارسة في الماضي والحاضر، والتي كانت- لهذا السبب- عرضة للسجن والملاحقة الأمنية، والتي تحددت علاقتها بالمكان من خلال رؤيتها للذات وللآخر.. وفي كل الأحوال فهي لا تبدو لنا شخصية نفعية متهافتة على ركوب موجة الإثراء غير المشروع، على حساب الوطن والقيم وفضح الزائف منها التي تمثلها وتتمثلها الشخصية، في كل تحولاتها وأزمنتها: (في غمرة كل هذا كنت أنا ورفيقي سعيد ننهل من منبع واحد هو اليسار إلى أن دبت الحساسيات بين رفاق الأمس، والتي تطورت إلى التنافس على المقاعد الكبيرة والاتهام المتبادل بالخيانة تارة وبالإقليمية أو القروية أو التعصب القبلي أو الشطري تارة أخرى..، فمال سعيد إلى الفريق الثاني وملت أنا إلى الفريق الأول واشتد الصراع وتعاظم إلى أن حسم في 1978م، لصالح الفريق الثاني) ص38 قد تبدو هذه اللغة المباشرة بعيدة عن الإيحاء والرمز، والاكتفاء بالتلميح، لكنها يمكن أن تكون مبررة فنياً في سياقها النقدي للذات، وللسياسي والأيديولوجي داخلها بما أن راوية صالح باعامر ربما تكون أول عمل أدبي يحاول نقد ممارسة اليسارالوطني للسلطة، وفضح المنطق القامع للأيديولوجيا في الماضي مثلما هو في الحاضر..، ثم إن اللغة الشعرية في الرواية مبثوثة في سياقات كثيرة، أشار إلى بعضها الأخ خالد الأهدل في الورقة ملازمة مع وصف الأماكن وهذا التلوين في لغة السرد، وبناء الجملة والعبارة بغية التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية أو في رصد جماليات المكان.
    إن ملمح الشخصية العام لا يمكن اختزاله في بعد المعاناة الإنسانية الفقر وتبدل القيم والعلاقات بل في كل ذلك (لقد سبق أن أوصدوا الدروب في وجهنا ترى وماذا بعد؟ لم يبق لنا إلا المكان والزمان فهل سيزيلوننا منهما؟) ص44 إن هذا الصوت الاحتجاجي المتذمر كان في الماضي أي ما قبل الوحدة.. والذي يأتي على شكل تساؤل يبثه البطل لصديقه سعيد الذي كان رفيقاً له ثم أصبح من ضمن ضباط أمن الدولة، وكلف- ويا للمفارقة- باعتقاله- وفي منظور الراوي وتجربته نتعرف على الأحداث وانعكاسها على الشخصية التي تمر بكل التجارب السياسية، وترصد من خلال علاقتها بالآخرين كل المتغيرات الإيجابية والسلبية في المكان الذي يصبح شاهداً على استبدال عناوين الأيديولوجيات مع بقاء شرط الهيمنة والتسلط قائماً، فبعد استجواب للشخصية/ البطل في أحد السجون، بتهمة (الإرهاب) والذهاب إلى أفغانستان و.. نراه يردد:
    - يبدو أن التهم والملفات لن تنتهي.
    - لكن الظرف اختلف فهناك ديمقراطية، ومحاكم ونيابة، وقانون، وقضاء ومحامون، وتعددية، وصحافة، وبرلمان، ومجالس محلية و..
    - حكم قد لا يبنى على حقيقة.
    ص66
    إن شخصية الراوي/ البطل تجسد في تحولاتها محنة المثقف اليمني خلال قرابة نصف قرن من الزمن وعلاقته الاستلابية بالسلطة والذي يصبح المكان ذاته مجالاً لممارستها القمع.. لذلك يصبح الاغتراب والنفي الداخلي أو الخارجي في لحظة بعينها من الزمن وفي المكان ذاته بديلاً يفكر فيه البطل (الاحتمال الأقوى هو أنني لن أبقى هنا، بعد الذي حصل، الاغتراب هو المأوى والملاذ، سأغادر المكلا حتى لو اكتشفت أنني غير مطلوب من أولئك أو من الحكومة، بضع سنين أقضيها في الخارج وأعود وقد نسيني الجميع) ص104.
    وإذا كانت فكرة الاغتراب تعبير عن حنين إلى الخروج واستبدال المكان وعلاقاته والتغيير إلى الأفضل- فإن الإيمان بالوطن / المدينة/ المنزل، كما في (المعادلة المقترحة آنفاً) تتغلب على كل عوامل الواقع الاستلابية لتنتصر إرادة البقاء والتحدي التي جاءت خاتمة للرواية ودفقه كيانية انقادت للغتها الشعرية بسلاسة ذلك أن علاقة الإنسان بالمكان تأخذ أبعاداً روحية وجمالية تفصح عنها لغة الشعر والحنين.
    < المصادر:
    1- غاستون باشلار: جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع بيروت (2ط2/1984م ص3.
    2- شهلا العجيلي- النص الرواي وداول الهوية الثقافية – مجلة علامات مج 53- سبتمبر 2004م.
    3- المكلا- راوية صالح باعامر صادرة عام 2004م عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومركز عبادي للدراسات والنشر.

    http://www.26sep.net/newsweekarticle.php?sid=21297[/B]
                  

07-17-2006, 12:35 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    صورة لباشلار

    ثلاثة محاور في قراءة قصة – النخلة المائلة – لمحمد علي طه (*)

    هذه القصة هي حكاية الحنين للوطن ، للماضي ، وللأحبة ، فيها المزج الرائع بين الواقع والفانتازيا ، وبين الصدمة والحلم ، وبين الإنسان والأرض .
    يوسف العلي في الستين من عمره يزور أطلال بلاده ، حيث مرتع الطفولة وموطن الأهل ، ولا يجد من معالم بلاده سوى النخلة "مبروكة" ، فهي ما زالت راسخة . يعبر الراوي عن لواعج شوقه وحرقته ومعاناته بسبب الغربة التي نشأت إثر التشريد قبل خمسة عقود .

    يخاطب النخلة فـ "يشخصنها" أو "يؤنسنها" ، فهي "عشيرة الطفولة" ، فلا بد إلا أن يحكي لها عن كل ما مر به من نكبات أو وثبات . فها هي الأرض/ النخلة رسخت في وجدانه ، حيث لا ينسى الروائح في الطبيعة ، بل يعرف أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل . ويراوح بين الماضي الجميل والحاضر الممض ، ويسترجع أمامها غناءه لها ، بل عشقه إياها ، فقد ورث هذا العشق عن أبيه الذي مات ولم يفتر عن ذكرها . ويخيل له أن النخلة تخاطبه ، وتؤكد له حفاظها على العهد ، بل إنها ترد على أغنيته بأغنية ، فيختلط الأمر على الراوي ، ولا يكاد يصدق .

    وفي خضم ذكرياته تطل شخصية فاطمة بنت الجيران التي كان يكتب لها الرسائل القصيرة ، ويدسها في جذع "مبروكة" لتأخذها ، ونتعرف من خلال تداعياته على مصير فاطمة التي لاقت مصرعها في مخيم "عين الحلوة" .
    ها هو يبحث عن أثر لفاطمة في جذع النخلة ، وفيما هو مقبل على ذلك يتنبه إلى انحناء جذع النخلة – إنه مائل كثيرًا... يتساءل عن سبب انحنائها : أتصمد أمام الريح ؟ أم أنها انحنت لتشم رائحة الأهل في الأرض ؟ ولا يملك إلا أن يمضي في غنائه الحزين :
    مبروكة يا مبروكـه
    يا عين أمك وابوك
    لومي مش ع الزمن
    لومي على اللي راحوا وهجروك .


    قراءة القصة :

    سأعمد إلى هذه القصة من خلال ثلاثة محاور أو أنماط قرائية مختلفة ، وذلك حتى أطل عليها من جوانب مضمونية وشكلية تؤلف كلاً قصيًا واحدًا ، وإليك هذه المحاور :

    1- قراءة ما ورائية – نصية :

    وهي القراءة التي تجمع الخلفية التراثية التي تواشجت في القصة ، لنرى أن "النخلة" لم تنشأ في ذهن القاص من فراغ أو مجرد اختيار ، وإنما هي مرتبطة كرمز في الوجود الفلسطيني ، وإلى حد بعيد ومدى واسع .
    النخلة - أولاً - هي شجرة عشتار المقدسة "إلهة الخصب" - ويقال إن هناك علاقة بين النخيل وتوالي الولادة والاستمرار أو معنى "الفينيق" (1) ، بل هناك من يرى أن طائر الفينيق هو طائر النخيل (2) ، وتبعًا لذلك فقد كانت بلاد فنيقيا / بلاد كنعان وطنًا يكثر فيه النخل، مما أكسب النخل مكانة هامة تواصلت جيلاً بعد جيل.
    أذكر ذلك لأن بداية القصة توحي بذلك . يقول الراوي :
    " اغتالوني... قتلوني مرات عديدة ، نهضت من بين جثث الموتى ... "
    أليست هذه الأقوال دالة على أسطورة الفينيق أو موحية بثباته أيضًا كالنخلة أو الفينيق ؟
    وإذا انتقلنا إلى لقطات أخرى ، فإننا سنجد نخلة "نجران" التي عبدها بعض العرب ، كما سنرى أن المسيح ولد تحت النخلة (3) ، فخاطب القرآن مريم :
    " وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا " (4) .
    ويرى بعض المفسرين أن الشجرة كانت قديمة العهد منذ أكثر من ألفي سنة " وكانت منحنية " (5) لاحظ تسمية القصة لدى الكاتب.
    والوقوف على النخل ليس مستحدثًا في تاريخنا الأدبي ، فهذا الشاعر مطيع بن إياس يقف على نخلتي حلوان ، ويبكي أحزانه ، ويتحدث عن الفرقة التي حالت دون اللقاء بهما ، ولا أرى بعدًا كبيرًا بين معاني القصيدة وبين كثير من معاني الراوي ومعاناته .
    يقول الشاعر :
    أسعداني يا نخلتي حلوان
    وارثيا لي في ريب هذا الزمان
    واعلمـــا أن ريبه لم يزل
    يفرق بين الألاّف والجيران
    ولعمـري لو ذقتما ألم الفرقة
    أبكاكما كمــــــا أبكانــــي
    كم رمتني به صروف الليالي
    من فراق الأحباب والخلان (6)

    أما كاتبنا أو الراوي فيقف على نخلة واحدة هي رفيقته التي واكبت طفولته ، وانتظرته حتى عودته ، وهو يخاطبها من خلال التنفيس عن نفسه والتعبير عن ألم الفرقة الذي أبكاه ، وعن صروف الليالي ، وكيف "أتى عليه ذو أتى" .
    إن وقفته تجعلنا نستحضر في أذهاننا كذلك وقفة عبد الرحمن الداخل أمام النخلة ، فقد رآها أمام قصره في الرصافة ، فخاطبها قائلا :
    نشأت بأرض أنت فيها غريبة
    فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

    وفي القصة الفلسطينية سبق أن قرأنا لنجاتي صدقي قصة "الأخوات الحزينات" التي كتبها في يافا سنة 1947 ، حيث يتحدث فيها عن خمسة جميزات يقفن في صف واحد ، وكان يقابلهن بناء عربي قديم ، وذلك من منطقة بيارات عربية . وإذا بالشجرات يصبحن (تصبح) أسيرات في عالم غريب عن العالم الذي نشأن فيه . يسند الراوي رأسه إلى جذع شجرة ، ويحلم أن الخمس شجرات يصبحن خمسة شخوص أو أخوات يتذاكرن جوانب المأساة الفلسطينية . وتنتهي القصة أيضًا بمعنى الثبات والصمود : "وصحوت من غفوتي ، وكانت رياح الخريف تعصف بشدة ، فتهز كل شيء ، إلا أنها لم تقو على تلك الشجرات ، فقد ظلت راسخة كالطود" (7) .
    أما النخلة في القصة التي نتناولها فهي باقية على العهد ، صابرة ، متحدية ، ومشاركة ، وقد اختار الشاعر هذا النوع من الأشجار بسبب صبرها على الظمأ وثباتها في الأرض ، وحتى يكون مبرر لهذا البقاء وتواصل التاريخ وعودته كطائر الفينيق ، فالنخلة لها معنى يختلف عن معنى الجميز ، ووحدتها لها دلالة أعمق من اجتماع عدد من الأشجار معًا . وهي شجرة متفاعلة مع الحدث أكثر من سواها .
    وإذا عدنا إلى القصة وتناصاتها فسنجد هناك الغناء الشعبي ، كما نجد الآيات الكريمة غير مباشرة أو مستخدمة بتغيير ما في الكلمة لتلائم الموقف ، فها هو يخاطب النخلة بجملة : "ما ضل صاحبك وما هوى" ، وهو قول مستقى من الآية : "ما ضل صاحبكم وما غوى" ( – يفعل ذلك ليستخدم لفظ صاحبك – أيتها النخلة – وما هوى سواك ولا أحب إلا أرضك .
    أما قول امرئ القيس
    " ضيعني أبي صغيرًا ، وحملني دمه كبيرًا "
    فيحوره الكاتب إلى " ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم كبيرًا "
    كما أنه ينقل تجربة أيوب ، ويتحدث عن "الفردوس المفقود" بالمعنى الحرفي للوطن ، أو سنة الخروج – ويعني سنة التشريد أو التهجير . بالإضافة إلى الاقتباسات الأخرى المباشرة ، من القرآن : [والنخل ذات الأكمام] ، يا يوسف العلي ... كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبي وليدها " (9)
    * * * * *

    يمثل هذا الحشد الزاخر من الإيحاءات أو المرجعيات منطلقًا للقصة ، فترتفع النخلة بسموقها القصصي ، وهي بالتالي توصلنا إلى لوحة تتجلى فيها النخلة مرسومة ، أو يتجلى فيها المتلقي الصابر ، أو المهاجر الذي عاد للنخلة الصابرة – سيان . هي لقطة من مصورة يقف القاص فيها مسترجعًا ، مستوحيًا ، مستلهمًا ، وبانيًا لعالم من الواقع والخيال معًا .
    * * * * *


    2- قراءة أسلوبية - نصية :

    إن الخطاب الأدبي يقدم نفسه من خلال اللغة . واللغة بإشاراتها الخفية والظاهرة ترتبط لدى الكاتب بواقعها الاجتماعي ومؤشراتها البيئية ، ولما أن كانت اللغة هي الفاعلة في النص فإننا سنجد أنها تغوص في الأرض وتنداح عليها ، ذلك أن المعجم اللغوي الدال على الأرض ومفرداتها وما يستخرج منها ظل المكون الأول والفعلي لحبكة النص .
    قدمت اللغة في القصة قدرة سردية من استرسال العبارات وتلاحق المعاني ، كما مزجت بين تعابير من التراث وأخرى من واقع الحال ، واستعانت بلغة غنائية متصلة إلى حد مكين بمشيمة المعنى .
    لنلج إلى دوالّ من ذلك :
    يقول الكاتب : "يفتح خوخة للذكريات النائمة في أعماقها ... " (ص ، فهو لم يقل مدخلاً ، أو بوابة أو بابًا وكلها جائزة له ، ولكنه استحضر "خوخة" ليتواصل مع ماض وواقع .
    ويقول : "يتنشف بالنور" ، "ما قعدت يومًا ولا عرفت القعود" (ص7) ، "ملعون أبو الغياب وأبو الفراق" ، "في أثناء زرقة الشمس" (ص6) ... الخ .
    ومثل هذه التعابير مستسقاة من اللغة الدارجة هي أقرب ما تكون لمحاورة أو على الأقل لملامسة واقعية . فإذا قال "من شفتيه الناشفتين" (ص12) فهو يتعمد الوصف حتى نستسقي صورة التشقق على هاتين الشفتين ، وإذا قال "ولكنك رحت" فهو يعني الموت وما هو أكثر منه ، يعني كذلك الحسرة عليه ، ويعني الزمن الذي تلا ذلك . وتورد القصة أسماء للأماكن (البياضة ، رباع الست ، المراح .. الخ) وأسماء لنباتات ، وأخرى لطيور ، وتصب هذه كلها بمعنى التشبث بالوطن ، حتى لتدل هي بذاتها على معنى الوطن . إن الراوي خبير كذلك في الروائح بالوطن ، وها هو يحبب لنا حتى "هواء المراح" الذي يحمل رائحة الأنعام – الأبقار والماعز والأغنام ، فيحول بذلك رائحة القرف إلى حالة التشوق والارتباط ، إذ أن قلب العاشق دليله ، والراوي "يعرف" رائحة هذه الهضبة في سويعات الصباح ، ويعرف رائحة النسيم فوق ذاك المنحنى ، ولا عجب فالمكان راسخ في وجدانه ، وما المكان إلا البيت الذي أشار إليه غاستون باشلار : "وهكذا فإن الكون الفسيح يصبح إمكانية لكل الأحلام عن البيوت . الرياح تنبعث من قلبه ، والنوارس تطير من نوافذه . إن بيتًا يملك هذه الدينامية يتيح للشاعر (القاص) أن يسكن في الكون... أو يفتح نفسه للكون ليسكن فيه ، ولكن في لحظات الطمأنينة يعود الى قلب هذا المأوى - كل شيء يتنفس من جديد " (10) .

    أكاد أقول إن الكاتب جند لهذه القصة كل ما تحتضنه طبيعة الأرض الفلسطينية وعاداتها (نحو حذوة الفرس ، الخرزة الزرقاء) ، وبناياتها (نحو الخوخة ، القنطرة ...) ، وهي - على العموم - تضفي هذه الواقعية بشحناتها المؤلمة... فتحديد الطبيعة التكوينية يسوق إلى تبيان يساعد الشخصية المحورية - هذه الشخصية التي قد تكون هنا :
    أ- الراوي ، ب- النخلة ، ج - المكان بتفاصيله وجزئياته . فكل من هذه الافتراضات له / لها سيادة في إنتاج النص . وتأتي أهمية المكان في كل افتراض كمية وكيفية ، ذلك لأن الكمّ هنا مخفي ، فقد كانوا وعاشوا وسعدوا وراحوا وهلكوا . أما على مستوى الكيف فيبدو أن للمكان طاقته الاختيارية في تعميق العلاقة بينه وبين الراوي ، وقبل ذلك بينه وبين الوالد علي (يلاحظ أن اسم والد الكاتب هو علي ؛ وهذا من شأنه أن يقودنا لحالة المطابقة بين الفن والمرئي) ، فمشاركة المتلقي في إنتاج النص تأتي من توقعه بأن الكاتب قد عاش حقًا - بصورة ما - أو على الأقل أن له معايشة وجودية ونفسية - هي معايشة الرؤية العميقة الشاملة المتحركة من زمن إلى زمن وصولاً إلى زمن آخر.

    اللفظة على المستوى الكمي والكيفي تكتسب قوة وإيحاء ، فإذا قرأنا قوله "ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل ... " (ص9) فإن استخدام لغة الجمع المذكر ليدل بذلك قصدًا على القوة والتسلط والعتو .
    أما استخدام الحال - نحويًا - في بداية الجملة فقد كان دليلاً على منطلق الراوي الأولي :
    - " مستنشقًا هواء الفجر المضمخ بعبير البرتقال ساعة ... " (ص7)
    - " محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة " (ص7)
    - " نابشاً بليونة الفجر ذاكرته الغنية " (ص
    - " قادمًا من ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلاً ... " (ص10)
    وعلى غرار ذلك كان يقدم (خبر كان) وكأنه نوع من بيان الحال :
    " محدقًا في جذعها كان يتسلق عليها " (ص13) أو يقدم المصدر : "قبلاً سأقبلك" ، بل إنه يحذف أحيانًا الفعل الذي يجعل الاسم منصوبًا نحو :
    " واقفًا مشدوهًا
    - أين ؟ " (ص12)
    (بدلاً من " وكان واقفًا مشدوهًا " ... )
    أو
    " باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة " (ص13)
    بدلاً من " وكان ...... "
    وهذه النماذج وغيرها تؤدي إلى التوصيل البدئي . إنه يبدأ بالحالة الأهم - وهي مدار الحديث أو الحدث . وهذا التقديم كان مصاحبًا لغنائية لفظية ...وكأنها ترانيم حزن في مبنى النص .
    وما دام الكاتب يسترسل في أداء العبارات ملاحقًا المعنى بالمعنى فإنه يخلق نوعًا من الدرامية ؟ فإذا سأل " أين ؟ " (ص12) فإنه يواصل ذلك بتكرارية نعهدها في الشعر الحديث - وبصورة بارزة ، فكل سؤال بلاغي يحمل إثارة ، كما يحمل شحنة من استيحاء الماضي . فكانت أسئلة " أين ... " تدور حول المادة المحسوسة والمعنى ، وهذه كلها تصب في أرض الوطن ، في أرض النخلة .
    ثم إن الجمل المتصلة المتراسلة تأتي في القصة بغية التوضيح أو إلقاء ضوء آخر معبر ، وذلك على غرار :
    " يعرفها . يسير إليها .يهرول . يقفز . يعدو" (ص12) . فهذه الأفعال المتعاقبة هي حركية تدل على معناها ، وبالتالي فهي انفعالية . وعلى نحوها :
    " مبروكة تعرفني . تحبني .تنتظرني " (ص9) ،
    " يلهث ، يتعب ، يقف " (ص9 ، ومثلها كثير .
    أما التشبيهات فقد كانت تُستقَى غالبًا من جو المكان والبيئة :
    " ذراعاي مثل جناحي نسر" (ص7) ،
    " فاطمة جفت مثل عود يابس " (ص13) ،
    " نعدو مثل الحملان ، ونطير مثل الفراشات الملونة " (ص1 ،
    " يتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة " (ص،
    ففي هذا النموذج الأخير نجد في آلـية النقل من حالة الراوي إلى حالة العود اليابس ، وهو تشبيه فني وإسقاطي - حسب مفاهيم علم النفس .
    وهذه التشبيهات من واقع الحال نجدها كذلك في قوله :
    " وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة " (ص ، فسوداء مثل الغربة هو نقل حاسة إلى أخرى.... وتراسلها على صياغة ما اصطلح عليه في البلاغة الحديثة "الحس المتزامن" .
    وإذا أضفنا إلى لقطات الواقعية سردًا على النحو "وهو يقول ... ويقول" أو نقل التساؤل المعبر "لماذا تضحكون؟ " (ص9) ، فإننا ندرك أن هذه القصة وظفت لغويًا بما يعكس المضمون ، وشحنت المعنى بواسطة المبـنى المعبّر والموصِل .


    3 - قراءة تأويلية - نصية :

    التقديم أو " الفرش " الذي سبق القصة مستقى من " أرض حقيقية - الفتوحات المكية لابن عربي " ، حيث أنه يعمد إلى بيان فضائل النخلة إلى درجة كونها أختًا لآدم - خلقت من فضلة التراب الذي خلق منه فهي لنا " عمة " .
    كما يمكن أن أقبل هذا النص مقصورًا على المستوى الثقافي المحض ، ذلك لأنه ليس موظفًا على المستوى الفلسطيني خاصة ، بل هو وارد في سياق ديني أو إسلامي قِيمي أو صوفي .
    فالحديث " أكرموا عماتكم النخل " ، يشرحه القزويني : " إنما سماها عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام " ، ومضى بعد ذلك يشرح مبلغ التشابه بين الناس والنخلة:
    " ... ولو قطع رأسها لهلكت.. ولها غلاف كالمشيمة التي يكون الجنين فيها ... ولو قطع منها غصن لا يرجع بدله كعضو الإنسان، وعليها ليف كالشعر يكون على الإنسان ... وإذا قاربت بين ذكران النخل وإناثها فإنه يكثر حملها لأنها تستأنس بالمجاورة " (11) ، فأنسنة النخلة لدى الكاتب كان موقفًا ، كما أن اختيار الصفة "المائلة" ، يُعيدنا إلى نخلة مريم "المنحنية" ، وبالتالي فالنخلة هي رمز فلسطيني كنعاني هو الفينيق - رمز التجديد والانطلاق ، ورمز الصبر والثبات مهما تناوحت الرياح وكانت هوجاء.
    ويجيز خطاب الحداثة أن يحمل العنوان ما قد يفترض من أن المبدع يتعامل مع اللفظة بقدر من الحساسية ، لذا فإنّ النفاذ إلى أعماق اللفظة وكنهها والتغلغل في احتمالات أبعادها من شأنه أن يتجه بنا إلى الجوهر – هذا الجوهر المشحون بكثير من الموروث النفسي والتاريخي سواء كان المبدع على وعي بذلك أم لا.

    إن النخلة المائلة بكل ما تحمله من مصابرة ومرابطة ترتبط بصبر الراوي - أو لنقل بصبر الفلسطيني المشرد. فالصبر كان مترددًا – موتيفًا – لازمًا، يمثُل تارة بصورة مباشرة، وطورًا بالرمز "أيوب"، الذي ذكر في القصة في سياقين مختلفين:
    أما الأول فقد كان مباشرًا ووصفًا مجردًا ، وأما الثاني فقد ورد على صورة حكاية قصيرة جدًا تقول إنه تقاوى على نفسه ...حتى وصل إلى البحر فخرج معافى. فلا بدع إذن أن يصل الراوي إلى مسقط رأسه، وإلى النخلة حتى يعود أيوب الجديد معافى كذلك.
    يتمثل الراوي في أثناء عودته أن الهواء كله له، أنه يشم التربة، يستجلي محاسن الأرض، يعانق النخلة فتخزه أضلاعها الجافة. ولكن لا بأس! (ص13). يربط بين تكرارية علاقته بالنخلة كتكرارية قراءة الفاتحة وما من ملل. (ص9)، والتساؤل (أين؟) جزء من المبحث عن كينونته، فأين طيور الدوري التي كانت تقفز حوله في ساحات البيت؟ ولكن أين البيت؟ (لاحظ هذا التدريج أو التدرج في المبنى المتناقص). ثم "أين فاطمة اليانعة الخضراء التي جفت مثل عود يابس؟" ؟ - وفاطمة مثال لهذا الضياع الفلسطيني المريع.
    وتظل القصة تؤكد هذا الحنين الرومانسي حتى في تصميم الراوي الذي كان يستلقي في المنفى وبندقيته إلى جانبه.

    النخلة المائلة إذن هي منحنية أمام الصدمات والنكبات، وها هو يتساءل عن سر انحنائها ، ويضع لذلك ثلاثة احتمالات كلها تصب في مراح واحد، وكلها تعكس مشاركتها الإنسان في عذابه ووصبه، وكذلك في أشواقه وحنينه.
    إن هذه القراءة في المعنى التأويلي هي احتمالية أو افتراضية، وإن صدق الزعم فإنّ لكل موضوع دال - عددًا أكبر من المعاني ، وبعضها يتداخل فيما بينه. وبالتالي فإن الكتابة إذا انطلقت مجازية أو استعارية فهي تدل على حشد من الصور ، وعلى طاقة بنائية خلاقة - وهي خلاف الكتابة الواقعية المجردة التي تنشأ من فراغ.... أو تؤدي إلى فراغ .

    غير أن القصة تفاجئنا في السطر الأخير بهذه الحدة الموقفية:
    " لومي مش ع الزمن
    لومي ع اللي راحوا وهجروكِ "
    إن هذا الخطاب حتى ولو ورد في صورة أغنية قد يحتمل معنى أن نتهم – مباشرة وغير مباشرة – مثل هذا الولد المعذب يوسف ومثل أبيه علي – الذي ظلت أحلامه تعانق النخلة حتى رمقه الأخير ، فأغفى وهو يحتضنها ، وهو يتلمس كل رائحة من تلك الأرض التي نزح عنها ، وبالطبع فهذا الموقف في الأغنية هو آني وعاطفي وعابر.
    الهوامش :
    (*) طه، محمد علي: النخلة المائلة، دار الهدى، كفر قرع، 1995.
    (1) يقول المؤرخون إن "فينيكس" كلمة تعني في بعض الآراء نوعًا من النخيل ينمو على شواطئ فلسطين "انظر بيومي مهران: دراسات في الشرق الأدنى القديم، دار المعرفة الجامعية، القاهرة-1997،ص 120.
    (2) "وتضيف أساطير بعلبك ... أن طائرًا يسمى فينيق أو النخيل كان يحج إلى هليوبوليس أو بعلبك فيموت ،ثم يعاود الحياة من جديد"،انظر : شوقي عبد الحكيم : موسوعة الفولكلور،مكتبة مدبولي ، القاهرة-1995، ص666.
    (3) ورد في الأساطير أن الإله أبولو ولد تحت نخلة ، وكذلك ولد بنتون ....وهذا يدل على أن الفكرة ليست مستجدة في التاريخ الإنساني.
    (4) سورة مريم ، 25، وقد استخدمت القصة الآية حيث سمعها الراوي من وحي (ص9).
    (5) الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، دار المعارف، 1985، ص306.
    (6) الأصبهاني: الأغاني، ج 13، ص 272. ومع ذلك ، فنخلة الداخل كانت هي المغتربة" تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل "، بينما نخلة محمد علي طه هي نخلة المكان، نخلة التجذر والبقاء.
    (7) ياغي ، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة، بيروت-د.ت،ص 501.
    ( سورة النجم:2.
    (9) ص10، أما الآية فقد وردت في سورة الرحمن:11.
    (10) باشلار، غاستون: جماليات المكان(ترجمة غالب هلسا)،ط3 ،المؤسسة الجامعية، بيروت،1987،ص71.
    (11) القزويني: عجائب المخلوقات،ج1، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة، ص197، وانظر كذلك محمد عبد المعيد خان: الأساطير والخرافات عند العرب،دار الحداثة، بيروت-د.ت،ص19.

    المراجع:
    1. القرآن الكريم
    2. الأصبهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الثقافة - د .ت.
    3. باشلار، غاستون: جماليات المكان (ترجمة غالب هلسا)، ط3 ، المؤسسة الجامعية، بيروت-1987.
    4. بيومي مهران: دراسات في الشرق الأدنى القديم، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 1997.
    5. الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، دار المعارف، القاهرة، 1985.
    6. خان، محمد: الأساطير والخرافات عند العرب، دار الحداثة، بيروت - د.ت.
    7. شوقي، عبد الحكيم : موسوعة الفولكلور، مكتبة مدبولي ، القاهرة - 1995.
    8. القزويني:عجائب المخلوقات، ج1، دار التحرير للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت.
    9. ياغي، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة، بيروت - د.ت
    http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=2335[/B]
                  

07-17-2006, 12:41 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)




    المكان: دلالته و دوره السردي
    قراءة في رواية إبراهيم الكوني: البئر نموذجاَ َ

    الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي *


    مجلة علوم انسانية : العدد 6 فبراير 2004 : www.uluminsania.com

    ليست "الحقيقة" التي تحيط بنا, هي ما نراه بأعيننا من إنسان وكائن حي وجماد, بل هي إلى جانب ذلك كلّ ما يضيفه الخطاب اللغوي من قيمة إخبارية عن هذه الكائنات والأشياء. يقول بوتور: " وليس الآخرون, بالنسبة إلينا, ما رأيناه فيهم بأعيننا وحسب, بل هم إلى ذلك ما أخبرونا به عن أنفسهم, أو ما أخبرنا به غيرهم عنهم, وليسوا كذلك أولئك الذين عرفناهم, بل كل الذين ترامت إلينا أخبارهم. وهذا لا ينطبق على الناس وحدهم, بل ينطبق كذلك حتى على الأشياء والأماكن, كالأماكن التي لم أذهب إليها مثلاََ, ولكنها وُصِفتْ لي."(1)
    وعلى ذلك يتأسس فهمنا لوجهَي الحوادث المسرودة من جهة وجودها المرجعي بوصفه وجودنا القائم بالفغل, ومن جهة وجودها (أو انتظامها) في الخطاب السردي الروائي .. وهو ما يقع في الخيالي المفترض الذي لا يتحتم فحصه على أساس من المطابقة التماثلية مع المرجعي في الحياة التي نوجد فيها... فعلاقة "الرواية بالحقيقة التي تحيط بنا, لايمكن أنْ تتحول إلى هذا الواقع و
      ما تصفه لنا الرواية [إنَّما] يمثل جزءاََ من الحقيقة, جزءاََ منعزلاََ تماماََ رمزياََ, تمكن دراسته عن كثب"(2) و"الفرق بين حوادث الرواية وحوادث الحياة ليس في أنَّنا نستطيع التثبت من صحة هذه بينما لا نستطيع الوصول إلى تلك إلا من خلال النص الذي يظهرها فحسب, بل هي إلى ذلك (أي حوادث الرواية) ... أكثر تشويقاََ من الحوادث الحقيقية"(3) وهو ما يعود برأينا إلى الإضافة الجمالية قيمةَ َ مميزةَ َ يجري البحث عنها حيثما طالعتنا النصوص الجمالية ومنها الرواية وخطابها..
      إنَّ هذه القيمة المستقلة نسبياََ تكمن في سمات الخطاب الجمالي وفي قوانين وجوده, وعلينا هنا البحث في تلك السمات وهذه القوانين البنائية. فالسردية " تقوم على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظِّفة المسندات (Prédicat) فيها لتشاكل ـ ألسنياََ ـ جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع"(4) أي تحقيق النص السردي وعناصره البنائية التي يمكن قراءتها بوساطة نظريات نقدية متنوعة .. نشير هنا إلى واحدة منها على رؤية كريماس ونموذجه العاملي في فهم السردية ذلك النموذج الذي يقسّم النص السردي على مستويين سطحي وعميق, ويُفصِّل فيهما ليبيِّنَ الوحدات العاملية التي يتشكلان منها مثل المؤتي الذي تكمن وظيفته في المحافظة على قيم محددة وضمان استمرارها فهو الموجِّه في العمل السردي. ويمكن أنْ نمثّل للمؤتي في رواية الكوني "التّبر"(5) بإله الصحراء وأسطورته وسطوته ما يدعو إلى سلوك محدد وعهد يُفرض على "الفاعل" , والفاعل حسب هذه النظرية هو بؤرة النموذج العاملي وللتوضيح نمثّل للفاعل في رواية التبر بـِ ( أوخيّد) بطل الرواية ولأنَّ أوخيّد هذا يسيطر على بطولة الرواية وحيداََ فإنَّه يمثّل المؤتى إليه في النص ومعارضُه هو ذلك التاجر الذي يورّطه في التخلي عن زوجته .. وأما ما يشكل بؤرة النموذج العاملي فضلاََ عن الفاعل فهو الموضوع وفي التبر يكون الموضوع سطوة رأس المال وإغراءاته السلبية ممثلاََ بالتبر وصاحبه
      Page 2

      إنَّ هذه الوحدات التجريدية , هي سياق العمل السردي وقواعد ولادته ونموّه ثم إطلاقه في نطاق التداول حيث تولد قيمتُه الجديدة منصبة في الدلالة التي يمنحها العملُ السردي بوساطة جمالياته مجتمعة في الكون السردي فالدلالة تخضع لنظام أو سلَّم تراتبي حيث " يُفترض تكونها من وحدات تنتظم بينها علاقات تقابل أو اختلاف فلا يُتاح فهم إحدى هذه الوحدات بمعزلِِ عن الوحدات الأخرى وبدون معرفة نُظُم صلاتها بها.."(6)
      بمعنى أنَّنا لا نبحث في المعطيات الدلالية المعجمية لا للملفوظ ولا للوحدة البنائية بشكل يفصل بين هذه الوحدات ويجعلها جزراََ متجاورة بشكل حيادي سلبي, بل نبحث في المعطى الدلالي بالاستناد إلى وحدة تكاملية بين الأدوار العاملية والأدوار الغرضية .. ولتوضيح ذلك لنلاحظ شخصية غوما في رواية الكوني "البئر"(7) وهي الشخصية المحورية المعادلة للفاعل حسب النموذج العاملي (لكريماس) وغوما في دوره العاملي يمثل الصحراء وقيمها وفي دوره الغرضي نلاحظ دلالته على الباحث عن الهوية الذاتية الخاصة بشخصيته والجمعية العائدة لمجتمع الصحراء.. إنَّه المتحمّس لخدمة القبيلة وهي (أي القبيلة) تمثّل المؤتى إليه في البنية السردية.
      إنَّ ما يهيِّئ اتصال الصور الموضوعة بعضها جنب بعض في خطاب واحدِِ هو وجود معانم( عامة تدعى المعانم السياقية. وفي هذا الإطار ترى النظرية السردية (بالتحديد نظرية كريماس) أنَّ المعانم المادية من الأشياء والأماكن هي مجرد "مسنِدات" تابعة للمعانم الدالة على الإنسان في تنويعاتِ شخصيته داخل الأعمال السردية [وتقسّم هذه المسندات بين متحرك وثابت يحدِّد الأول الوظائف فيما يحدد الآخر الأوصاف] وهكذا نقف حيال ما يمكن أنْ نقول عنه تقليلاََ ـ إنْ لم نقل تهميشاََ ـ في دور المكان في البنية السردية. في حين على وفق النظرية نفسها يمكن أنْ يكون المكان هو المؤتي من خلال قيمه أو من خلل سطوته كما هو الحال في الصحراء عند قراءتنا لها في رواية "البئر" , وهي تتحول إلى قوة الفعل في لحظة من لحظات المسار السردي, كما سنتلمس ذلك في هذه الدراسة.
      وبولوجنا إلى عملية توضيح مفهوم المكان يجابهنا ذلك التشعب المعرفي الذي يمكن أنْ يشكِّلَ بإسقاطاته مساعداََ في توضيح المفهوم من جهة وكشفاََ عن الدور البنائي له داخل النص السردي من جهة أخرى. وهكذا نجد أنفسنا أمام:ـ
      ـ التفسير الفيزيائي للمكان.
      ـ التفسير الفلسفي.
      ـ التفسير الجغرافي.
      ـ والتفسير النفسي بما يشكّله من انعكاسات في الذات الفاعلة المتحركة في نسيج النصِّ وأنساقِهِ.
      وبصدد التفسير الفيزيائي .. لا نقف عندما يطرحه من كون المكان حيّزاََ أو فضاءََ له أبعاده التقليدية الثلاثة , وإنَّما نذهب باتجاه الإفادة من هذا التكوين وعلاقته بهندسة


      Page 3


      النص السردي؛ ولعل دخول الكتل والفضاءات أو المساحات في دلالات حافة تثير حركة سردية هو مقصود عدم الاكتفاء بحدود التعريف الفيزيائي للمكان...
      أما من جهة الدلالة الجغرافية فسنلاحظ انعكاسها في تمزيق المشهد السردي أو في لملمته وخلق وحدته. وفي هذا المجال نتلمس أشكالا ثنائية ترسم جغرافية المكان من مثل: ممتد \ منته , قريب \ بعيد , منفتح \ مغلق , منبسط \ مرتفع , ضخم \ ضئيل , وبناء على هذا الرسم (المكاني) تتولد قابلية الحركة ودافعيتها.. حيث يُنظر إلى الفضاء مثلما ينظر إلى التزمين داخل بنية النص بوصفه برمجة مسبقة لمجموعة من الأحداث بمعنى أنَّ التفضئ " ليس سوى تخطيب لسلسلة من الأماكن التي أُسْنِدت إليها مجموعة من المواصفات لكي تتحول إلى فضاء [مؤثر] . وبهذا يعدّ التفضئ برمجة مسبقة للأحداث وتحديدا لطبيعتها فالفضاء يحدد نوعية الفعل , وليس مجرد إطار فارغ تُصَبُّ فيه التجارب الإنسانية"(9)
      ولنلاحظ في هذا السياق دور التحديد المكاني, المتجسِّد لفظياََ, في عمليات الوصل والوقف مما يستخدم إطاراََ يتضمن البرامج السردية وتسلسلاتها.. إنَّ هذا الفضاء العام هو الذي تتحدد فيه نقطتا البداية والنهاية التي ينتقل بينهما البطل ـ الفاعل ـ ومثالنا الدال على هذا الفضاء (البئر) مكاناََ تبدأ به رواية الكوني وحركة الفاعل غوما باتجاه المكان \ الخاتمة وهو هنا البئر مرة أخرى, ولكن بتوصيف مغاير لتوصيفه طوال رحلة غوما, التي تدور لتبدأ من جديد.
      أما رحلة الفاعل ـ البطل فإنَّها تتسم بحركة يحددها فضاء آخر هو الفضاء المحلي الموضعي الذي تتجلى فيه التحولات التركيبية وما ينجم عنها سردياََ ودلالياََ. ومن أمثلة هذا الفضاء المكاني الموضعي المخيم, البيت, الجدار, المرعى, الخباء, المقبرة ... وغيرها مما يرد في روايتنا هذه ـ البئر , وهي جميعا ترتبط بظهور ذات السرد على ضفاف التخييل المرجعي ذو البعد الأسطوري, لتلعب دوراََ في توجيه المكان نحو الفعل الحي ؛ وهذا ما نعدّه أدخل في القيم السردية للأدب الجديد وخطابه الذي ارتبط بمتغيرات الواقع المعاش, حيث عمل الإبداع الحداثي على تغيير آفاق الفن الروائي وبناه بالاتفاق مع نية تغيير العالم ورؤيته وحيث امتلك فن السرد رؤيةََ جمالية قوامها إدراك دور الكلمة في رسم هذا التغيير المنشود, عبر خلق ذاكرة روائية جديدة تستند إلى ما يعود للجذور [ولا أقول هنا التراث].
      وتتكشف مثل هذه الرؤية من خلال رواية فضاؤها الصحراء والأسطورة وهي رواية لا تقف عند حدود الجمع الآلي لسمات مذهبية أدبية متنوعة وأوضحها هنا الواقعية السحرية مذهباََ يحتضن كلاََ من من الصحراء والأسطورة.. ولكنها ـ أي الرواية الصحراوية ـ إذا جاز اختزال التعبير تضعنا أمام استكشاف ملامح علاقة أسطورية شعائرية من نوع خاص بين فن السرد والصحراء سواء على مستوى التطورات التي تعتريهما أم على مستوى البنية وتفاعلاتها الفنية. فالصحراء هنا فوق دلالتها المكانية إطار تاريخي زمني يرتبط بمجموعة من الدلالات المفهومية التجريدية التي تملأها وقائع الرواية بمعطيات ملموسة في حركة الحدث الروائي. والبعد البصري لمشهدية المكان يعدّ هنا تشكيلاََ مقصوداََ من جهتين:
      جهة القيمة التصويرية بوصفها عاملاََ سردياََ..
      وجهة القيمة الدلالية بوصفها نتاجا تعبيريا مشفّراََ, أو محمّلاََ بالهوية التي أرادت رواية الكوني الإعلان عنها؛ تلك الهوية التي تعكس جدلية العلاقة (الصوفية) بين الإنسان والصحراء عندما يتحول الإنسان إلى جزئية مكان وتتحول الصحراء إلى رمز حي [ممتلكا رِئَتَهُ التي يتنفس بها].
      لاحظ التداخل الروحي بينهما المعبَّر عنه في نهاية الرواية على لسان غوما وهو يخاطب "مساعده" الشيخ خليل قائلاََ:ـ "نحن مثل السمك [إذا أُخرِج من البحر يموت] نموت إذا نزحنا من الصحراء"(10)
      إنَّ الحديث عن جدلية هذه العلاقة هو حديث عن خصوصية في الهوية وخصوصية في الوجود, بخلافها تتملكنا كوزموبوليتانية سلبية قاتمة؛ بمعنى تأكيدي فإنَّ هذه الخصوصية في الهوية والوجود تحتم بروز المكان فاعلاََ حيوياََ .. وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في هذا العرض السريع لبعض أنماط المكان وأشكال ظهوره ومن ثمَّ الدور الذي يبدو في نطاق بنية رواية البئر. [ يمكن هنا أنْ نذكّر بأنَّ نصّ الكوني يشفع لنا في الدفاع عن إبداع جيل اليوم وتحديد الهوية الإنسانية الخاصة من دون جمود أو انغلاق من مثل الإحالات إلى الجامد التراثي السكوني بوصف الوقوف عنده أوتقليده هو الهوية والخصوصية].
      إضاءات في فضاء السرد (المكاني)

      المألوف وغير المألوف ـ (الأليف والعدائي)
      في مسار حياة الإنسان بين الولادة والنضج يتشكل الوعي على خلفية مشهدية ترتبط بالذهن بالألفة أو بخلافها .. وأول مألوف مكاني هو المكان النسبي المتحرك الذي يمثله قرب الطفل من حضن والديه وسرعان ما يألف الحجرة التي يعيش فيها ثم البيت وزواياه , ويكفي سبباََ لإثارة هذه الألفة أنَّ البيتَ يوفرُ الحمايةَ.. وكذا يوفرُ الحجابَ الاجتماعي ومن ثمَّ فالبيت هو كما يقول ريلكه [شاعر حداثي]:ـ

      "البيتُ, قطعةُ المرجِ, ياضوءَ المساءِ
      فجأةََ تكتسبُ وجهاَ َ يكادُ يكونُ إنسانياَ َ
      أنتَ قريبُُ منّا للغاية, تعانقُنا ونعانِقُكَ"(11)
      وفي سبيل تبيذِن هذه الألفة مع الفضاء الموضعي المشخّص هنا بالمألوف \ البيت نقتبس هذه العبارات من النصِّ الروائي الذي اخترناه .. يقول الراوي في البئر: ـ " أما الأطفال فكانوا أول من لجأ إلى البيوت هرباَ َ من الشيخ غوما"(12) في هذه العبارة دلالة الحماية وهي مفتتح الألفة التي ستنمو ليكون البيت \ الخيمة مكان الاحتفال والفرح .. يقول الراوي في موضع آخر من البئر: ـ " نصبوا خيمة خاصة لتقبّل التهاني والزيارات..."(13)
      وبعكس الوجه المألوف من المكان المختار هنا نلاحظ المكان العدائي . والعدائي في فعل المكان هنا هو انتفاض الصحراء نفسِها عندما تكون الطبيعة غاضبةََ, وحين تخون رمالُها عابريها فتبتلعهم قرابين لذلك الغضب. وهكذا فعلت الصحراء المكان الفاعل مع الشيخ أخواد وهو يعود من حرب تحرير غات. وهذا ما لايقف عند العداء مع الضحية وإنَّما مع أسّ النصّ وفاعله الأول ـ الشيخ غوما. [سنحاول في هذا البحث الاختزال قدر الإمكان بقصد تنوير أكبر عدد من إشكاليات المكان]

      الأفقي والعمودي
      كلّ شئ في الصحراء عبارة عن امتدادات متصلة ولعل ذلك ما يعكس شدّة الميلِ للحريةِ والانفلاتِ عند الصحراوي, والذهنية غير المركبةِ التي تنظرُ إلى الكلي من دون حواجزِِ بخلاف الثقافة العمودية التركيبية التحليلية. ولكنّ الامتدادَ والأفقية عند الصحراوي لا تخلو من العمودي في المشهدِ المكاني , وعند ذاك تصبح قيمة ما هو عمودي مكانياَ َ مميّزةََ في ارتباطه الروحي بها وذلك متأتِِ من افتقاد هذا المشهد ـ العمودي .. فهذا الشيخ غوما يلتجئ إلى الجبل بوصفهِ الأليف الذي يفرّغ كُرَبَهُ وأوصَابَهُ عندهُ فالجبل " مكان ملائم جداََ, إنَّهُ أرحب , وصدره أكثر أماناََ من صدور البشر, من الملائم أنْ يودعَهُ المرءُ أحزانَهُ, ..."(14)
      وخلا الجبل لا شئ [عمودي] في هذه المساحات المترامية انبساطاَ َ سوى بعض أشجار متناثرة كالنخلة والسدرة, وقد كان لهاتين الشجرتين ـ القيمتين العموديتين ـ دورهما الملموس في المشهد السردي لنراجع في ذلك نخلة الأميرة الأسطورية تانس والسدرة التي ظللت لقاء أماستان وتارات في ربوع كيل آباد ففي كلتا الحالتين تمَّ إضفاء نمط من الخصوصية في توجيه وعي الشخصية وفي توجيه حركنها بناء على ما افترضته طبيعة المكان ..
      ولعل هذه الإشكالية تحيلنا إلى ثنائية أخرى هي ثنائية المفتوح \ المغلق فكل شئ في عالم الصحراء مفتوح حتى الخيمة التي يأوي إليها ابن الصحراء , وهذا ما يجعله يرفض انغلاق أكواخ الواحات وبيوتها عليه. إنَّهُ يحسُّ عندها عندها بفقدان التوازن والحرية وبالغربة وعدم الألفة مع ما سوى المفتوح في عالمه الخاص. وقد يساعدنا هنا لتصور فعل المكان المغلق مطاردة ذلك البيت الحلم لأوخيّد الذي يُحاصَر فيه حتى إذا ما انتهت الرواية بمقتله وتحرره من فضاء الحياة تحرر من الحصار الذي ضُرِب عليه في ذلك الحلم المتكرر.
      المكان, الوجود والدلالة
      وبتجاوز الإشكاليتين السابقتين يمكن أنْ نتلمس بعرض سريع غير مقصود الترتيب مسبقا حالات ظهور المكان وجوداََ ودلالاته كما وردت في الرواية النموذج.
      " البارحة مات أماستان
      وُجِد منتحرا في بيته , في ذروة التظاهرة التي أقامها الأهالي في تلك الليلة لطرد الأرواح الشريرة عن وجه القمر عندما اكتسحه خسوف مفاجئ."(15) البيت هنا ما زال يوحي بالألفة فأماستان الذي يخسر فضاء وجوده الجمعي يلجأ إلى بيته منتقلا من فضاء العدم إلى فضاء الوجود الوحيد المتيقي رحم وجوده\البيت.
      " تجمعت النساء عند البئر العتيق بمجرد أنْ أُشيع الخبر ... وسرعان ما أقبل الرجال أيضا ثم أقبل الأطفال أيضا .."(16) البئر موضع جمع كل هؤلاء , موضع بدء الحدث , موضع تحريك الشخصية وموضع انطلاق السرد والحكاية المتضمَّنة فيه, وسيظل هذا المكان مركزا لأحداث أنطولوجية مهمة في معطياتها الدلالية مثلما هي مهمة في موقعها السردي مثل سلسلة الانتحارات عنده أو فيه , انتحار زارا, محاولة انتحار لأخنوخن, فضلا عن لقاءات العهد الذي تُشْهِدُهُ على الاتفاقات والقرارات المختلفة.
      والبئر المحاط بالأحياء من جانب والأموات من الجانب الآخر يمتلك بهذا التوصيف دلالة الامتداد الزمني بين الماضي والحاضر وهو ما يسقط عليه قدسية تمنحه قوة الفعل وحيوية الكائن البشري .. وزيادة في تعميق هذه الدلالة يوضح لنا النص ((ص 45)) أنّ البئر " بنيت جدرانه بصخور هائلة لا يعرف أحد كيف تمكن الأولون من زحزحتها ودحرجتها من الجبل وبأي أدوات "(17) وهذا تساؤل يثير الغموض تقديما للرسم الأسطوري الذي سيوحد مسار السرد الأول بالمسارات التضمينية الواقعة فيه, وهذه المسارات التضمينية عادة ما تكون حكاية أسطورية لكنها تمتلك ما يسمح باندماجها بالمسار الواقعي للنص من خلال انتمائها إلى الصحراء في جغرافيتها وتاريخها ومن ثمَّ في الوجود الطبيعي لهذه الصحراء.. والصحراء هذه في وجودها الطبيعي هي الخلاء والعراء , يقول الراوي : "فرمال (زلاف) القاحلة تذكّره بأنه ذلك العراء (الذي تنقل فيه غوما) من وادِِ إلى وادِِ , ومن جبل إلى جبل , ومن خلاء إلى خلاء, ومن سراب إلى سراب... ولكن هذا العراء الخلاء بلا وجود لفضاء موضعي مميز؟ إنَّ العبارة التي يخاطب بها العم ابن أخيه غوما تؤكد أن للصحراء وجودا حيا , يقول له : ـ " أنت لا تبحث عن العلم (في الواحة) ولكنك تبحث عن نفسك وإذا لم تجد نفسك في الصحراء فلن تجدها في أي مكان"(1 والصحراء بعد ذلك هي الحياة نفسها كما يقول النص ((ص 170)) وهي بهذا كائن حيّ له رأس قاسية ((ص 169)) ثم هي كلّ يشتمل على تفاصيل ((ص 36)) منها قيم جغرافية بحتة تضفي دلالة الإحالة على ما هو واقعي فهناك غات وغدامس وأراضي القبائل المسمات في النصّ كالفوغاس وكيل آبادا وغيرهما.

      ومما تشتمل عليه من تفاصيل قيم معنوية فللصحراء حكمة ((ص132)) وهو أمر ينسجم مع السرد والدلالة الأخيرة التي يراد من ورائها .. أما أدوات تأكيد المعطيات الدلالية فترد حيثما ورد توصيف المكان في مشهد يمتلك انسابيته وإيقاع حركته . " شرع ينزل السفح ... بدأت سفوح سلسلة الجبال المحيطة بغات تتحرك فتبدو من بعيد كأنّ أحجارها هي التي تتحرك وتتدرحرج عبر السفح نحو الواحة الغارقة حتى تلك اللحظة في سكون الموت "(19) لنلاحظ التضاد المشهدي بين حركة الجبال وسكون الواحة , بين الحركة عند رجال القبائل والسكون بين صفوف الأعداء.. إنَّ هذا التضاد المشهدي بحد ذاته لا يشكل لوحة خلفية للحدث , إنه الحدث نفسه. إنَّ قراءة متأنية أكثر ستكشف لنا عن إجابات أشمل وأكثر تفصيلية , ويمكن على سبيل المثال لا الحصر الإشارة إلى ورود معطيات للمكان تحتاج للتوقف عند دلالتها ودورها السردي مثال ذلك المكان النسبي المتحرك ..
      " أخنوخن في نشوة الرقص (يقترب من صفّ الرجال الطويل).."(20).
      المكان بحدود جغرافية غات وما يرسمه لها غوما من حدود (21)
      المكان من جهة ثيمة الداخل والخارج وانعكاسات ذلك دلاليا في حركة الحدث أو تسلسل حركة السرد.
      ثم ثيمة المتناهي في الصغر وضده المتناهي في الكبر والانتقال بينهما في المشهد السردي.. ((ص 27, ص 29))
      ودلالات لايمكن تجاوزها لأماكن مخصوصة كالمرعى , الخباء, قعر الخيمة, ظلها أي داخل الخيمة وخارجها, الجبل , المقبرة.. وهذه جميعها في الفضاء الموضعي المحلي مما يمتلك دلالات اجتماعية وأخرى نفسية وإيحاءات فلسفية...إلخ.

      يمكن أنْ نختتم هذا البحث الموجز بتلك العبارات التي تنتهي بها رواية ابئر وهي عبارات حُبلى بالأماكن والدلالات حيث غوما يتأكد من نفاد الماء في البئر ((ص 215)) :
      البئر بلا قاع, إنه مجرد ظلام
      يذهب إلى المقبرة ويقرأ الفاتحة على أرواح الأموات

      ثم سار بحذاء الجبل
      و ارتفعت الشمس
      تحركت القافلة
      سار متثاقلا مثل محكوم بالإعدام
      يُدفَع مجبورا لكي يخطو نحو المشنقة

      غوما يغادر المكان لأن المكانَ نفسَهُ كان قد غادر غوما. قبل أنْ تغادرَ البصر كلمات هذا البحث ودعوتها للتوحّد بين غوما والصحراء.

      المصادر والمراجع: (وهوامش البحث)
      1 ـ ميشال بوتور, بحوث في الرواية الجديدة, ترجمة فريد انطونيوس, منشورات عويدات, بيروت, 1982, ط2 , ص5
      2 ـ المصدر السابق, ص 8.
      3 ـ نفسه.
      4 ـ محمد الناصر العجيمي, في الخطاب السردي: نظرية كريماس, الدار العربية للكتاب, 1993, ص 35 .
      5 ـ إبراهيم الكوني, التّبر, دار التنوير للطباعة والنشر, بيروت, 1992 , ط 3 .
      6 ـ المصدر السابق, ص 29.
      7 ـ إبراهيم الكوني , البئر , دار التنوير للطباعة والنشر , ليماسول ـ قبرص , 1993 , ط 2 .
      رواية البئر هذه هي الرواية الأولى من رباعية الخسوف التي تحتوي على روايات (الواحة, أخبار الطوفان الثاني, نداء الوقوق ... فضلا عن هذه الرواية وهناك إعلان من الكاتب بأن تكون خماسية...
      8 ـ المعنم يمكن اختزال تحديده بأصغر وحدة دلالية ...
      9 ـ سعيد بنكراد, مدخل إلى السيميائيات السردية , تانسيفت , مراكش , 1994 , ص 87 .
      10 ـ الكوني , البئر , ص 214 .
      11 ـ غاستون باشلار , جماليات المكان , ترجمة غالب هلسا , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر, بيروت, 1987 , ط 3 , ص38
      12 ـ الكوني , البئر , ص 11
      13 ـ البئر, ص 21
      14 ـ البئر, ص 171
      15 ـ البئر , ص 9
      16 ـ نفسه.
      17 ـ البئر , ص 45
      18 ـ البئر , ص 36
      19 ـ البئر , ص 83
      20 ـ البئر , ص 10

      * دكتوراه الأدب العربي الحديث \ دراما
      2004\ 01 \ 22
      E-MAIL: [email protected]
      E-MAIL: [email protected]

      مجلة علوم انسانية : العدد 6 فبراير 2004 : www.uluminsania.com

      http://www.uluminsania.net/a67.htm[/B]
                  

07-17-2006, 12:47 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)



    غياب الحضور
    حضور الغياب
    ( أحوال ) محمد كشيك

    مقدمــة:
    أبدأ بسؤال رولان بارت ( من أين نبدأ ؟ )
    من أين نبدأ فى نصوص رمادية ، مضادة فى الغالب ، يمتد مسارها من المعقولية إلي الهوس ، ومن الوسواس إلي الهرب ، عبر فضاءات نصية متأزمة ، ينحدر فيها الكاتب للداخل حتي الغياب ، أو يستكين زمكانيا فى أفضل حالاته ، فيباغته الماضي ويضغط عليه لاغياً آنيته أو ملازما لها بدرجة تتفاوت فى مقدار كشفها للواقع من خلال التأمل والاستقراء أو التنبؤ . ويتم ذلك من موقع ملتبس ضبابي ، حلمي إلي حد كير .
    لم أكن حاضراً ، لم أكن غائبا .كنت بين الحضور وبين الغياب – درويش – من هذه المنطقة بين الوعي واللاوعي ، يبدأ كشيك في نسج خيوط عوالمه الحلمية ، الكابوسية علي الأكثر ، فيردنا إلي الجملة التى أعلنها الكاتب الكولمبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيز( السلطان المطلق للمخيله ) وكما شرحها فى حوار معه قال ( إن حرية التخيل مدهشة ، والواقع يثبت أن المخيلة علي حق ) (1) .
    إن مدخلاً كهذا لا يعفي من معاينة فضاءات النصوص وجسد الكتابة ورموز السياق المتعددة ، عبر منهجية تقسيم ابتعها المؤلف فى عمله الإبداعي بشكل واضح ، يتجلي فى مخطط العمل الذي ينقسم إلي ثلاثة أجزاء ، يوصف كل منهم بأنه حالة وكل حالة تحمل عنواناً خاصا بها أشبه ما تكون بسمتها العامة ، التى تندرج تحتها أعداد مختلفة من نصوص قصيرة فى الغالب ذات عنواين مختلفة .

    الحالة الأولي - تهيؤات :

    تحت هذه الحالة يندرج ستة وعشرون نصا قصيراً ، يرتدون عباءة الحلم ولا يتحدثون إلا من خلاله بلغة رمزية ، متأملة ومترقبة ، حذرة وقلقة ، كابوسية فى معظم الحالات . جميعها لا يخرج عن نطاق الإدراك البصري الذي يتعانق فيه التجريدي والتعبيري ، البسيط والمستحيل ، اللحظة ونفيها فيتسع المدي وتتنوع العوالم عبر النصوص لتعطي رؤاها .
    أ- التأملية كما فى ( الزنجية ، الصندوق ، الشمس الكبيرة ..إلخ).
    ب- التحذيرية التى تكتفي بالرصد فقط أو تتعداه إلي حيز التحقيق مثل ( المراسيم ، الغرق ) .
    ج- الكشفية التى تؤدي إلي التراجع أو الهرب مثل نصوص ( الكهف ، الاحتفال ، أبواب الخروج ) .
    د- الانهزامية التى تقود إلي الإنكسار أو الخوف كما في ( تهيؤات - الشجرة – الجزيرة … إلخ ) وهنا يجب أن نشير إلي خصوصية هذه الحالة واختلافها الشديد عن الجزئين التاليين لها، إذ تعتبر أحدث ما كتب كشيك مقارنة بتواريخ الحالة الثانية والثالثة وبذلك توافرت لها الأدوات المكتملة ، التىأعطت نسيجاً شفافا ظهرت إرهاصاته فى نسيج الحالة الثانية بشكل واضح والثالثة بشكل ملحوظ .

    1- النص / الإختلاف / التلقي :

    لعلني في هذا الصدد سوف أفر من منطقة التشابك مع إدوار الخراط ، وبدر الديب ومنتصر القفاش بكل ما تعنيه هذه المنطقة من مسارات مختلفة يجمعها هواء واحد يتمثل فى المصطلحات الخاصة ( كالكتابة العبرنوعية ، أو ثنائية القصة القصيدة أو حتي قصيدة النثر) والذي يساعدني علي ذلك لغة الحلم – التى تقال بها معظم النصوص ، فتحيلنا مباشرة إلي إصحاب نظرية الاستقبال Reception theory (2)، وأفق التوقع بالذات " هانز روبرت ياوس " الذي طرح هذا المصطلح بوصفه أساساً للقراءة والتفسير ومن ثم أساساً لإبداعية النص.
    وهو مفهوم يضع منظومة التوقعات والافتراضات الأدبية والسياقية التى تكون مترسبة فى ذهن القارئ حول نص ما جانباً ، قبل الشروع فى قراءة النص، وهي فروض وتصورات قد تكون فردية لدي شخص محدد حول نص محدد ، وقد تكون تصورات يحملها جيل أو فئة ما من القراء عن نص أو نصوص بحيث يستقلبونها وهم محملون حولها بهذه التصورات التى تشكل أفق التوقع ويأتي النص الأدبي علي أساس ما سماه ياوس " بالمسافة الجمالية Esthelic distance وهي مقدار مخالفة النص لتوقعات القراء حيث يسمو النص إبداعيا حسب حجم الاختلاف ويتراجع إبداعيا حسب اقترابه من التوقع . إذن فعلينا أن نقرأ النصوص فى مواجهة الطبع Against The grain -كما يقول ياوس. إذا عكسنا النص فى مواجهة المطبوع فى الذهن عنه فسوف نتبين ما هو جاهز ومعاد فيه وما هو منجز ابداعيا ، وسنتبين المسافة الجمالية فيه وعلي هذا سندخل إلي النصوص التى حيرت مؤلفها فيما أعتقد فصدرها لنا كما هي تاركا مهمة التنقيب والتصنيف للمتلقي .

    2- الواقع / الحلم / غياب الحضور :

    بعد القراءة الكلية للحالات الثلاثة وتتبع أهم ملامحها سنجد أن الواقع المعاش قاسم مشترك أعظم ، يعطي للنصوص أبعاداً تختلف حسب درجة تفاعل الذات المبدعة معه وانشغالها به حتي ولو كان بشكل حلمي غير مباشر كما في الحالة الأولي : حيث تفتح نافذة علي الذاكرة المضادة فتهرب منها رموز لكوامن الذات العاجزة عن تغيير واقعها المحبط الذي لا تمل تأمله ورصده فتخرج كل كوامنها من آمال وتوترات ونزعات عدوانية ومخاوف عبر ( الحلم ) الذي هو بنص فرويد ( طريقة للتعبير عن المخاوف والآمال والرغبات الموجودة في اللاشعور) (3) وبذلك يكون لدينا عدة أنواع للأحلام نستطيع تتبعها عبر النصوص. هناك مثلاً ( الأحلام الواقعية ) (4) التى يؤكد تفسيرها المواقف الحالية – التى يعرفها الحالم . والتى تتضح فيها فى نص " الجزيرة " نقرأ مثلا ( ذلك المائل هناك يرمي بالحراديف ، فتخرج فارغة ، يعود بإصبعه المجروح ، والجزيرة التى لا تفارقه تقترب وتبتعد والعصافير التى تحن للأوكار وتشرئب فى انتظار النهار ) ص 40 .
    هذه المفردات الرمزية فى مقابل ( الفخاخ التى تنفتح فجأة والدوامات التى لا تتوقف والزعانف التى تضرب الماء بقوة ) ص 40 تصل فى النهاية إلي الرجل الذي يجلس علي الشاطئ ، يرتدي قبعة مهدلة الأطراف والدماء التى تنزف . كحالة من الانهزام تتضافر مع نص " الشمس الكبيرة " حيث ( العصافير الملونة المعلقة فى فضاء الغرفة ، الروائح المبكرة للزهور الشتوية تملأ المكان ، كل شئ يبدو متألقا بادي النصوع مليئا بالحياة ) ص 42 فى مقابل مفردات أخري واضحة الدلالة ( الصندوق هو الذي كان يضايقني ، فلم يعد بوسعي التحرك لأكثر من بوصة واحدة وكانت قدمي تؤلمني ، ويداي مضمومتان لا يمكنني أن أحركهما فى أي اتجاه ) ص 42 .هذه الحالة من القيد والاختناق تبعث علي الغياب وتضغط حد الانفصال عن الواقع الذي يحياه لدرجة لا يعرف معها هل كان بكامل ملابسه أم عاريا ، رغم أنه يدرك جيدا ما يدور حوله فلا يكون ( بشكل اسقاطي للحاله ) إلا الشمس الكبيرة الملونة التى تتأهب للرحيل كرمز يؤول بسهولة .
    وتتبلور الحالة أكثر عبر نص " الكهف " بإيحاءاته القرآنية وتظهر الذات التى تكتشف الواقع المحبط وكأنها قادمة من عالم آخر لا ينتبه إليها أحد ، فيسرق منها أمانها ليبقي منها ( كائن غريب منقرض يتحرك بعداء وخوف وسط فضاء محفوف بالهلاك ) ص 35 وهنا يجب أن نشير إلي أن الغالبية العظمي من علماء النفس المحدثين مثل ( إميل هوتايل ، ويلهم سبتكل ، كارل جونج ) (4) يؤمنون بأن " الأحلام تدل علي معان رمزية يمكن ترجمتها " وأن مفسر الأحلام الجيد فى رأي أرسطو هو من ( يملك القدرة علي ملاحظة التشابه ) (5) .
    عدد آخر من النصوص يدخل تحت مظلة نوع ثانٍ من الأحلام يطلق عليه ( أحلام التحذير ) (6) لأن تفسيرها يحدد عادة طبيعة خطر مقبل فهي تنتج من استقراء الواقع بزاوية رؤية مختلفة ، تؤدي إلي استنتاج أشياء مختلفة عن السائد ولكنها تتحقق فى الغالب .. من هذه النصوص نص ( المراسيم ) الذي يتم فيه الرصد لواقع ما بمفردات تشف ولا تكشف ، فهناك عالم ما يختفي خلف باب لا يسمع عبره ( كلما فتح ) سوي ضجة مكتومة لآلة لا ندري كنهها اللهم إلا صوت التروس والجرافات وهناك طوابير أمام هذا الباب تحلقوا حول شجرة الترسيم صفوف متراصة ( بأرديتهم البيضاء ، التى تصل إلي الركبتين، أعمارهم صغيرة لم تنبت لهم لحية ، كانوا يتحركون بآلية دونما أي تذمر ) ص 20 وهناك من قاموا بإعداد كل شئ حتي يتم ترسيمهم فيتحولون إلي كائنات هشة ، تتحرك خلف الباب فى صمت وريبة . أضف إلي ذلك التحذير الخفي من الأعداد التى تنتظر فتح البوابة ، تقف فى طوابير وهي تهلل فرحة بالخلاص ، والدخول إلي هذا العالم السري .
    نص آخر يتعدى حد الرصد إلي التحقق وهو نص ( الغرق ) الذي يقودنا إلي رؤيتين مختلفتين للواقع احداهما تحذر والأخري تستهين ، حتي يتحقق ما كان يُحذر منه وتصدق الرؤيا ( أخبرتها أن التواجد فى هذا المكان أصبح خطراً / تبتسم وتطلق ضحكتها الرائقة ) ( كان المنسوب يرتفع فتوسلت إليها / راحت تراقب بفرح طفولي الدوامات ) بينما أتابع بفزع تحركات المياه وهي تندفع مثل الشلالات لتزيح من أمامها كل شئ . ص 7 .
    بعض النصوص تنفلت من تصنيفات الأحلام المعروفة فتستعصي علي التفسير أو القراءة وقد اعترف فرويد نفسه أن ثمة أحلام لا تفسر وتمادي فى ذلك يونج بشكل أكثر وضوحاً وربما تعميماً (7) يظهر ذلك فى نصى ( الزنجية ) و ( الصندوق ) فى الزنجية يبدأ السرد بمكان واقعي ملموس ، وحدث حياتى هو الاستحمام ، للزنجيةالتى تتلصص عليها الأطفال أثناء ذلك فتفتح لهم النافذة علي آخرها ثم تنقلب فجأة المفردات فنشاهد ( أسراب الكروان حين ترفرف قليلاً وتحط بالقرب منها ثم تبدأ فى التسبيح الجميل لمالك الملك ويحل الصمت العميق، ويسود خشوع وتتملكنا الرهبة ونحن نري الأعداد الغفيرة من الهداهد الملونة تقترب منها ، وتمشي بتيه وخيلاء ) ص 8 أيضا فىنص الصندوق . نفس البداية المحددة لمكان حقيقي نكتشف أن به شخص صغير الحجم ( بملامح الطفل التى لا تفارقه ، تلك الابتسامة الوادعة ، ذقنه الحليقة دائما لكن حجمه أصبح صغيراً إلي الحد الذي أمكن وضعه داخل الصندوق ) ص 10 . لا يتوقف الأمر عند هذا الكشف بل يتم الاحتفاظ بالصندوق مرة أخري ( بما فيه ) فى مكان بحفرة تحت الشجرة ينتهي النص الإبداعي فى هذا الإطار ولا يتبقي الإجماليات الاستقبال للحدث آلياته وتفاعلاته فى إطار المسافة الجمالية التى سبق الحديث عنها . يبقي فقط أن نقول أن ثمة خيط من نور يتشابك مع الخيوط القاتمة للنصوص كلها وربما لا يظهر إلا لو تحققنا جيدا فيكسر حدة الاستسلام والهزيمة ويتمسك بالأمل فى القادم والغد الأفضل حتي وإن لم تعشه هذه الذات الحالمه . تتمثل ذلك فى الأطفال الذين يتسمون بالحركة فى معظم النصوص ، الإبن الصغير بجلبابه الأبيض يتكلم ، الابنة الصغيرة تذهب مسرعة ناحية الباب الموارب ، دائما فاعلين رغم بياضهم الملائكي الذي حرص علي ارتدائهم له . وفي نص الشجرة ( كنت أواصل الهبوط وصوت الأولاد أسمعهم وهم يغنون ويتصايحون) ص 39 .

    3- لغة الحلم / الزمان ، المكان

    اللغة بنية ، والكلام بعض مظاهرها وعند الحديث عن لغة الحلم لابد أن نذكر أن كلا من المفسرين والحالمين اتفقا علي وجود لغة خاصة للحلم هي لغة مصورة ذات بلاغة خاصة وشفرات خاصة ، يختلط فيها التعبيري والتجريدي وتتكثف فيها المفردات بشكل رمزي يُدخل لغة سردها إلي حيز الشعر فى كثير من الأحيان . وعلي مستوي النصوص تنتشر رموز كثيرة كموتيفات لها دلالتها لو تأملناها بشكل منظم مثل ( الثعالب ، الدوامات ، الثعابين الأصابع المجروحه ، الهداهد .. إلخ ) وتأملنا أيضا طريقه ترابطها مع مفردات النص الحلمي الذي يتم ترجمته سردياً عبر اللغة المكثفة المجردة لأعطتنا الكثير من الشاعرية فى الأداء ( النقلي ) ربما كان ذلك واضحا فى نص المُهْر ص 23 ( من وسط الجياد الرامحة ، خرج مهر صغير لا يعرف ! انحرف عن عقد الجماعة ، راح يركض ناحية قوس الهلال . اقترب كثيراً حتي كاد يلامس الضوء . لم يكن يعرف أنه قد تجاوز المحظور . وقبل أن يصير عدماً ، كانت الانشوطة بالغة الدقة ) .
    وطالما نتحدث عن اللغة والمفردات عبر الحدث فلابد أن نعرج علي مسرح الأحداث ونبحث عن المكان ( ليس بنفس طريقه البحث التقليدي ) فنجده عبر نصوصنا هذه بأشكال مختلفة إذا وجد ( شقة صغيرة فى مكان ناء، دهليز مظلم ينتهي بباب ، حوش واسع تحت ظل شجرة ) وقد لا يوجد علي الإطلاق أو يشار إليه ولو ضمنيا ، وربما ظهر واختفي فى نفس اللحظة ( باب موصد يقف السارد أمامه حائراً وعندما يدخل لا يجد أثراً لغرفة ما ولا حتي مقعد ) أبواب الخروج ص 25 .
    وفي ضوء معرفتنا أن التنقلات بين الأحداث تمثلها العلاقات الزمنية يجب أن نحاول إذن اكتشافها عبر النص / الحلم لرصد اختلافها والتعرف علي ( صورة الزمن فى الحلم ) فى النصوص المختلفة يظهر الزمن بأشكال عديدة فنجده يبتعد تماما عن التسلسل التتابعي المنطقي مثلما يحدث فى أحداث الوعي – عدا بعض النصوص – ويأخذ كل الاحتمالات الممكنة . نجد مثلا الزمن الدائري فى نص " الشجرة " ، والزمن المتداخل فى " الزنجية " ، والزمن الثابت فى " نزوه " و " تهيؤات " .

    4- سينمائية القص :

    فى ظل اللغة المصورة للأحلام ، وأحداثها المختلطة ، رموزها وخصوصية أماكنها ، توترات الزمن فيها . تكون الصورة هي مادة القراءة ، التى تفرض التفكير البصري لقدرته علي وصف المشاهد والأحداث من خلال الحس التكويني خلال لغة الشكل واللون . لكن الأمر فى نصوص الحالة الأولي هذه يتعدي ذلك إلي الحركة والظل والنور ، الألوان بل وأماكن الرصد ذاتها ، أضف إلي ذلك الصوت المصاحب للأحداث والذي يُحس بوضوح يجعلها وكأنها تحدث أمامك فتتفاعل معها بشكل يكاد يدخلنا إلي موقع التصوير . وأعتقد أن مثل هذه الأمور لا تتوافر إلا للسينما كتقنيات خاصة ( الحركة المنتشرة عبر النصوص ) دائما تأتي بالفعل المضارع فتعطي حضوراً دائما في كل قراءة نجد مثلا ( الزعانف التى تضرب الماء بقوة ، كوكبة الجند التى تصعد المنحدر ابنتي الصغيرة تبكي ) أيضا تمتد الحركة إلي الأشياء ( الحركة الآسنة للماء ، دفقات الهواء المفاجئ ) يظهر أيضا اللعب بالظل والنور ( يسقط نور باهت ، السير عبر دهليز مظلم وفجائية الضوء بعد ذلك ) .
    الأصوات العديدة التى تكمل فيلمية النص كموسيقي تصويرية تكاد تسمع فى معظم النصوص لحد الإبهار العصافير التى تغرد ، الفخاخ التى تفتح فجأة ، صوت المؤذن الذي ( يخف ويشف ويخفت) . أما أهم ما يجب الإلتفات إليه فهي النهايات المفتوحة لبعض النصوص التى لا توفرها إلا الكاميرا مثل تثبيت اللقطة عند لحظة بعينها وبشكل مفاجئ كما فى نص تهيؤات ( ارتفعت الذراع من الظل إلي النور ، وانتظرتُ الضربة المفاجئة ، لكنه ظل هكذا ، لم يفعل أي شيئ ) .
    أو استمرار رصد الحركة حتي الاختفاء ، بما تحشد به اللقطة من مفردات تتغير تلقائيا كلما ابتعد الهدف المتحرك وتضاءل حجمه . يتضح ذلك فى نص " نزوة " ص 19 . ( رأيتها من النافذة ، تمشي وسط الناس بثقة تخترق وأكداس الزحام ، وكانت تختفي ) .
    الحالة الثانية :
    زهور شتوية : بين الواقعية والفنتازيا تقع نصوص الحالة الثانية من أحوال محمد كشيك ، والتى يظهر فيها الزمان والمكان بملامحهما الحقيقية ، فيفعلان فعلهما فى هيكلة قصص قصيرة أهم سماتها ( التحدي والتضاد ) وذلك عبر آليات سردية تعتمد علي المفارقة والرمز الذي يحتل مساحة تسمح للمتلقي بالمشاركة الايجابية فى فعاليات النصوص خاصة وأن تواجد المؤلف كراو ( تقريبا لكل القصص ) فقد يحد من حافز التلقي والمشاركة فى طاقتها الإبداعية فى حالة المباشرة وهنا لا يفوتني أن أشير إلي أننا أمام قص قصيرة تشترك فى جمالياتها السردية مع نصوص الحالة الأولي ولكن ليس بنفس القدر فى كل القصص ( إذن الاختلاف كمياً وليس نوعياً ) وربما رجع ذلك إلي طغيان آليات السرد بشكل مباشر أو رمزي ووجود فكرة محورية يركز عليها الكاتب .
    1- الذات / الآخر : عبر جدلية واضحة تتجلي الذات فى مواجهة الآخر فى عدد من القصص كما فى ( الحارس ، يوم للعوم ، الثعالب ) حيث تظهر الذات فى مواجهة الحارس فى القصة الأولي والتى تتسم بالتقليدية فهناك مكان واضح ( حديقة الخواجه التى تقع بجوار المرسي وزمان واضح قبل أن تغرب الشمس ) وفكرة واضحة يتم التعبير عنها بهدوء ، حتي الرمز فيها جاء بتقليدية رمز الرفض المشهور وهو ( التبول ) علي الحارس . لكن تاريخ نشر هذه القصة بالطليعة الأدبية سنة 1983 م قد يحفظ لنا أسباب ما سبق من ملامح تقليدية – تشترك أيضا قصة ( يوم للعوم ) مع القصة السابقة فى البساطة ووضوح الفكرة إلا أنها تتميز بالحركة الواضحة للشخصيات وهي ما ينقل السرد إلي لغة المشهد الذي يخطف العين لتتبع الحركة فتكسر بذلك تقليدية الإطار .
    تنويعه أخري علي نفس الوتر ، تعزف في ( الثعالب ) فهناك الذات المضادة للآخر الذي يختلف هذه المرة فى صفاته المراوغة والانقضاض وتختلف سمة الذات أيضا فتظهر فى ساحة المعركة بزي المهاجم أو المغامر مع علمه بعامل الخطورة . إلا أن الرغبة فى الكشف هي التى تقودها ( قال أنها تستريح الآن ، ربما تسللت للجحور ومال فجأة علي الأرض يتتبع الأثر ) ( قلت له إنها سريعة ماكرة ولن نتمكن حتي من رؤيتها ) هذه الثعالب كرمز قائم بذاته له مدلوله الواضح الذي يتراكب مع ( جاءت من المدن البعيدة لتستوطن المكان تخطف الفرائس ولا تجد من يمنعها ) وعندما يستكمل السرد بما يوحي باختفائها خلف الأشجار وانزوائها يسقطنا فى المفارقة حين تخرج فجأة من الجحور المعتمة مكشرة عن أنيابها التى راحت تستطيل وتكبر قبل أن تحاصر المكان . ص 54 .

    2- المفارقة / الرمز :

    يستكمل كشيك بقية القصص بآلية سرد يعتمد بشكل كبير علي المفارقة والرمز ، خلال لغة تختلط فيها جماليات القص وجماليات الشعر بشكل متجانس يظهر فى تركيب الجمل ، التى تعطي استمرارية لجدلية ( الذات / الآخر ) فى (الشواطئ الحجرية ) تتضح المفارقة منذ البداية حتي النهاية كما سنري الصياد يذهب لصيد السمك / يصطاد عصفوراً .
    يتماوت العصفور / يتركه الصياد فيطير .
    ينزل لإحضار ثعبان السمك العالق بالسنارة / يعود العصفور يستلقي الصياد علي الحشائش / يتحرك الثعبان المهشم الرأس إلي العصفور الواقف مستسلماً ( راعي الفنتازيا فى افتراس ثعبان السمك للعصفور ) . هذه المتتاليات الواضحة تخفي فى طياتها أيضا مفارقة علي مستوي آخر هي مفارقة الحياة والموت . وبنفس الآلية التى تغلق الحالة تظهر في قصة ( التكعيبة ) التى تسيطر فيها علي الراوي رغبة قوية فى الصعود علي السلم الخشبي القديم المغطي بكعيبة العنب العتيقة، رغم علمه بحجم المخاطرة . وعندما تميل التكعيبة ويبدأ الانكسار للخشب تنتبه الجدة وتصرخ ويتجلي الخطر فى صياحها ( والله لن تنزل من عندك إلا ميتا ) ، تتسع دائرة التخويف والاستنكار من المتجمعين جميعهم بما يوحي برد فعل تلقائي هو شعور الطفل بالخوف أو البكاء أو الفزع لكننا نفاجأ بلا مبالاة شديدة تكمن فى استسلامه لتأمل جماليات المكان من أشجار ونخيل واستمتاعه بأكل العنب ويختتم ذلك التأمل بالنعاس أما فى ( البيت الكبير ) فسنشاهد الرمز بكامل حضوره ودلالاته دونما مباشرة أو تقليدية ، بأي جزء من أجزاء السرد عبر القصة نجد ( البيت البيض ) فى ( الناحية الأخري من عالم الراوي ) بكامل سطوته التى تصل إلي موت من يريد الاقتراب أو التطفل أو المعرفة وذلك عبر لغة دلالية ، رمزية تعتمد بشكل خاص علي مفردات متجاورة مختلطة ( الطواويس والنمور ) ( الفيلة والظباء ) لتكوين هذا العالم. وتأطير رفضه له وانتمائه المحسوس ( رغم اختفائه ) للوطن . يستمر أيضا الرمز فى بطولته لحركة النص فى ( غوايات ) ص 63 حيث ينتصر بحضورة وإحالاته علي لحظة الجسد أو التواصل مع الزوجة أو الحبيبة بما تتسم به من حميمية وصفاء فهناك ( أناشيد كابيه حملها المذياع ، ورسائل أبناء إلي ذويهم فى بلاد محاصرة) وهناك أيضا ( أصوات مجنزرات تعود ، وجنود يهبطون فى الحفر ) .
    يشترك مع هذا النص فى التشابه حد التوأمه قصة ( اللعبة ) والبطل فى الفيلم الذي يشاهدانه ( يهودي ) ( يحمل علما عليه نجمة داود يجري وخلفه العرابات تهوي مشتعلة من أماكن بعيدة عالية ) يعكس النص المفارقة أيضا ( استمتاع الجمهور المصري ومتابعته للفيلم برموزه الواضحة ) بينما يختلف معهم الراوي فى التلقي ويستيقظ لديه شعوره الوطني الحقيقي ويقف حائلا بينه وبين استمتاعه مع صديقته فى لحظة حضور صادقة منتشية يقف أمامه ( يحمل شارته الملعونة ، تحترق خلفه العربات وتشتعل النار ) ولا يترك له أي إمكانية ليبدأ من جديد تواصله الحميم .

    الحالة الثالثة - صحراويات :

    يصدر لنا محمد كشيك فى الجزء الأخير من أحواله المكان كبطل محوري فى إحدي عشرة قصة قصيرة تجمعها الصحراء بوحشة حضورها ، وتاثيرها الملموس فى تشكيل حركة الوقائع والأحداث وتأثيرها الأقوي عندما تتحد قسوتها بقسوة التجربة التى خاضها المؤلف فى حرب 1973 م . فيتضاعف القهر ويزداد عمق الخطوط التى تحفر داخل الذات المحاصرة ، وهنا يجب أن ننتبه إلي ذكاء كشيك فى الفرار بإبداعه من مصيدة أدب أكتوبر بملامحه المعتادة ، عندما ركز علي إنسانية اللحظة وجوانيتها فأتاح مساحة أرحب لفعالية النص وعمره رغم ثبات مكان التجربة بذلك تصبح ذات القص ( حقيبة فرويدية ) يتجمع فيها ما يشبه السجل لخبرة الماضي وتختزن فى ذاكرته حتى استثارتها بمثير مشابه أو إشارة إلي هذا المثير لكي تعطي استجابة مشابهة أو ربما نفس الاستجابة للمثير القديم . من هنا يجتمع لهذه الحالة من أحوال كشيك بعض الملامح التى تميزها وتعطيها رائحة خاصة وعبقا حميماً .

    1- المكان / الموت :
    عندما يتعدي المكان استاتيكيته ويقتحم الذات المبدعة فإنه يحرضها علي إيجاد صيغة ما للتعبير عن انفعالاتها به . فيكتب سان جون بيرس " أنا باز" ( إثر زيارته لصحراء جوبي شمال الصين ، ويكتب صبري موسي رائعته " فساد الأمكنة " (9) إثر زيارته لجبل الدرهيب بالصحراء الشرقية ويكتب كشيك تجربته الصحراوية بين قهر المكان بمفرداته المتوحشة من ( ثعابين تفح – ذئاب تعوي- عقارب – طحالب سامه ) وقهر الموت المرتبط بهذه المفردات ارتباطاً وثيقا يرتفع علي مستوي الذات إلي عادية الحدوث بتكراريته البسيطة ظاهريا . وعبر لغة المشهد يتم الاحتواء للمسافات الشاسعة ، والمفردات المتنافرة والمتناثرة ، علي مستوي المكان والحدث ، حتي تفجر اللحظة الإنسانية التى يريد الوصول إليها فى ( المواقع الخلفية) ص 82 . ( كان الحاجز الترابي مرتفعاً جداً . حتي أن الرجل الذي يرتدي الكاكي ويقف أسفل المكان بدا صغيراً إلي حد غير مألوف) ( كنت مبتلا أحاول دون جدوي التخلص من تلك الطحالب السامة التى علقت ببدني ) هذه الصورة من القهر والعجز الإنساني إزاء المكان بل إزاء طحلب يعلق بجسده تبلور فى هدوء سطوة المكان . أضف إلي ذلك كونه مسرحاً لحدث الموت لجندي الاستطلاع الذي يراقب طلعات طيران العدو ، فى الغاره التى انتظرها . فيحذرهم فور رصد الطائرات من بعيد ويغيب ليبقي حضوره أعلي من أزيز الطائرات وأصوات الانفجارات . ويتواصل هذا النص مع نص ( غناء صحراوي ) حيث الجندي " ضاحي " الذي كبله زملاؤه بالأصفاد والمذلة ( لأمر لم يفصح عنه النص ) وتركوه أمام الخور فى القيظ فبقي أمامه ساكنا هادئا . مستسلما لقهر الصحراء وقهر العسكرية وقهر العقاب الذي عوقب به فظل هادئا ساكنا لم يتحرك حتي وهو يري زحف الثعابين لتختتم حياته بصرخته المتوقعة ، التى تتردد فيما بين الوديان . وتظل علي المستوي النفسي ( لزملائه ) لا تنقطع بل تتحول إلي غناء يبدأ ضعيفا ويصير أكثر تناغماً و قوة ص 101 .
    2- حضور الغياب / الواقع :
    استمراراً لاحتفالية الموت الصحراوي بسطوة حضوره علي مستوي النص والواقع يطرح فى المقابل الوجود لأن الموت علي الموت حد تعير سارتر ( ليس فعلا دالا بالضرورة ولكنه ظاهرة يعانيها الإنسان وعرض قد يصيب الجسم دون أن تكون له علاقة بالفعلية ) والذي يساعد علي ذلك حجم التجربة وانصهار الذات الإنسانية فى أنا واحدة ضد عدو واحد وضد صحراء وصد الموت ذاته ، يحول أجزاء هذه الأنا الواحدة ( عندما تموت بشكل جسدي ) إلي طاقة كامنه فى بقية الأجزاء ، تعيش فيها وتشاركها يومها فتقف بذلك علي درجة " أنتينوميا " خاصة Antinomia . حتي لو كانت المشاركة مجرد صورة فى إطار أو ذكريات ترفض الرحيل . علي مستوي النصوص يتأكد حضور الغياب بأكثر من مكان فى " شجر النعناع " تقتحم الذكري لحظة الإكتمال والنشوة وتفرض وجودها ، كحق شرعي ( كانت نائمة تحلم بأشياء بعيدة ، لا وجود لها وكنت أحاول العوم فوق بحار الذكريات التى ترفض الرحيل ) فنري الضابط فى ( إرفع الكاب أريد أن أري وجهك ) ( عندما رآني اقترب مني وقال : حينما تخرج الدانة لا تغلق فمك هكذا وابتسم ، كان يبتسم دائما ) وفي المساء يسأل عنه يجدهم يعدون مراسم الدفن ، هكذا ينتهي الأمر وتبقي ابتسامته التى تسكن – الجندي – الراوي ليفوح عطرها فى النفس كلما أتيح لها ذلك . يتجلي أيضا حضور الغياب فى نص " مطاردة " فهناك الصورة التى كتب خلفها " للذكري الخالدة " بمكانها لا تبارحه – علي المستوي المادي – أما علي المستوي النفسي فيتأكد هذا الحضور عبر سلسلة من الذكريات للحظات إنسانية متتالية مشرقة مع هذا الصديق ( السباق بعربات اللا ندروفر والبونيماج علي المدقات وفى الجبل والضحك معاً، حتي الكولونيا الخاصة ) هذا الصديق عندما تصيبه القذيفة يحاولون العثور علي كل الأجزاء ويذهبون به إلي المستشفي العسكري ليغيب ، يظل دائما معه يلاحقه فى كل مكان حتي بعد الخروج من الجيش ، فنجده فى المقهي ، الشارع الجانبي يحس بأنفاسه ، ظله . لدرجة الإحتضان لكنه دائما يظل فى مكانه لدرجة مربكة ومعذبة بحضورها الكامل . هكذا ينتقل كشيك بأدوات السرد وحقيبة الذكريات إلي الحياة المدنية ليسقط رغماعنه فى استقراء الواقع الذي يستكشفه حتي ولو بوحشة الشوق فى عيون المجند الخارج من معركة . ويبرز ذلك فى عدة نصوص توضح اختلاف الرؤية لدي من يرصد عن رؤية من يحييون فيه بعادية لم تنقها نار الحرب أو شفافية التعامل مع الموت وهذا ما يفرض عليه التنبيه والتحذير عبر المفارقة والرمز . مثلاً في " بوابات صحراوية" ( هناك مبني ذو رقبة بيضاء ، صفت حولها مختلف أنواع الأعلام فى الخلف وعند نهاية الطرف كان علم كئيب له نجمة واحدة بستة أطراف مدببة والناس تحت القبة بجوار مقهي البرلمان ، يلعبون النرد ويدخنون النارجيله فى شراهة وكسل ) ص 86 . وهناك الرسالة التى يريد الراوي إبلاغها وجملة سرية للغاية ، مكتوبة بالأحمر وبخط واضح علي المظروف ومع ذلك لا يجد من ينتظر هذه الرسالة ويتلقاها . أثناء ذلك علي مستوي النص وعبر مفردات ضبابية يستعرض الراوي الواقع الذي يتضاد معه ويستنكره ويحذر منه مثل ( المحلات الكثيرة ذات الواجهات التى تحمل لغة أجنبية ، البيوت العالية جداً الرمادية اللون السوبر ماركت ) هذا الواقع الذي بدا بملامح سوق كبير للاستهلاك والاغتراب حتي اللغة لم يعد يفهمها ومع ذلك ما زال الناس يجلسون علي المقهي يلعبون النرد ويدخنون الشيشة بينما يظل هو يمشي ويمشي يتحسس الرسالة ولا يجد من يسلمها له ليستريح .
    ويتواصل أيضا نص ( النوافذ الأخري ) مع السابق فى مجابهة واستقراء الواقع الذي لا ينتبه أحد إلي المفردات الدخيلة عليه والمستجدات التى تستوجب اليقظة . فيري كشيك عبر نافذة الحلم التى يجيد اصطياد لقطاته منها ( الأشباح الذين يدهسوا كل الشجيرات الخضراء ويذهبون بعدها إلي الميدان ) ويري أيضا وبرمزية رائعة ( الحصان الرخامي الذي يحرس الميدان بلا فارس وعلي أحد جانبيه سيف مبتور وصدئ ) فيبلور فكرته فى انتهاك هذه الأشباح للأرض والزرع وحتي للحصان الذي تدافعت بسرعة ودون جلبة لتصعد مؤخرته لكنه لا يتخلي كعادته فى معظم النصوص عن الأمل فى الغد والحلم بالاستفاقة عبر مستويات التلقي ( الشخصي والوطني والإنساني) فيصور انتفاضة هذا الحصان الذي ( أخذ يضرب بحوافره حواف الصخر الأملس حتي انفجر الشرر ، انتفض بشدة كأنما ليلقي عن كاهله عبء أثقال طال حملها ) ص 110 . وهكذا نستطيع الخروج من عالم كشيك ، وأحواله التي أرقته فاختلط حلمه ، بواقعه ، شعره بنثره، فرحه وحزنه عبر رموز وتوترات ، ترك للمتلقي ترجمه معانيها والربط بينها وبين تشابهات ذاته بجسر أعتقد أنه لن يكون القراءة الأولي فقط لأن مثل هذه الكتابة تستحق أكثر من التأمل .


    قائمة المراجع

    عزل ماركيز ، ص 109 ميغيل فرناديز – براسو – ترجمة نادية ظافر دار الكلمة للنشر بيروت- الطبعة الأولي 1981 م.
    عبد الله الغذامي ، انتحار النقوش – ص 248 – مجلة فصول – المجلد الثاني عشر – العدد الأول 1993 م .
    برنارد الأسطه ، القاموس العام فى تفسير الأحلام – بيروت دار ميوزيك للصحافة والطباعة والنشر –ص 20 .
    نفسه ص 39 .
    نفسه ص 20 .
    نفسه 39 .
    يحي الرخاوي ، الايقاع الحيوي ص 84 – مجلة فصول – المجلد السادس العدد اثاني 1985 م .
    سان جون بيرس - أنا باز ، ترجمة عبد الكريم قاصد - دار الأهالي دمشق – الطبعة الأولي سنة 1987 – ص 12.
    صبري موسي ، فساد الأمكنة – هيئة الكتاب المصرية – القاهرة الأعمال الكاملة – الجزء الأول سنة 1987 م .
    جون ماكوري ، الوجودية – ترجمة د. إمام عبد الفتاح – القاهرة دار الثقافة سنة 1986 م – ص 281 .



    http://www.amalgamal.jeeran.com/view%204.htm






                  

07-17-2006, 12:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)


    وأدناه مقاربة سودانية للمكان كتبها الناقد المعروف:

    معاوية البلال

    ونشرت في سودانيزاونلاين

    قراءة في استراجية المعنى المكان في القصة السودانية الحديثة كتبها معاوية البلال

    منذ العشرينات انتبه معاوية محمد نور لقوة الخيال كطاقة لا تنفد يظل يتغذى منها الابداع وينهل. ومن ثم انتبه للصورة الابداعية باعتبارها الايقونة التي تحمل الاشارات المرئية واللامرئية. التي تنبثق من مفاهيم ترتبط أساسا بالوعي المدرك لأهمية الأشياء وجمالياتها في فضاء الكتابة. وما يتبدى منها كعلاقات تنشأ داخل. النسب اللغوي. وانطلاقا من هذا النزوع المفاهيمي الحيوي تحرك ليؤسس كتابة تأتي من المستقبل وتتجاوز شكل الكتابة الخطابية والارشادية والوعظية والوصفية الغارقة في السذاجة الرومانسية التي كانت سائدة وقتذاك.
    ومن ثم انتبه للمكان كوعاء يحتوي الزمن وكمركزية يمكن للخيال والذاكرة الانطلاق منهما للامساك بتلك اللحظات الغامضة التي تتشظى فيها الذات وتتصدع في سعيها لامتلاك الوعي بالعالم والأشياء ومجمل العلاقات الانطولوجية التي تتشابك في النسيج الجمالي.
    وبما هو كذلك أصبح المكان بحيرة بركانية تقذف من بواطنها المعاني. وبالتالي انزاح المكان من استخدامه المألوف في النصوص الإبداعية. باعتباره مجرد جغرافيا للمشاهد السر دية. يتحرك بين أشيائها الانسان ضمن علاقة ساكنة وسلبية. لا تعني شيئا سوى وظيفتها. ونهضت علاقات اكثر عمقا بين الانسان والمكان. علاقات نفسية ووجودية وتاريخية وايمائية، في نسيج لامتناهي للنص الجمالي. علاقة تؤسس للامركزية الانسان في العالم وأن الانسان لم يعد وحده امبراطور الأشياء، وتثبت أن للأشياء فعلها الحيوي واشاراتها النابضة بالمعنى، لاحظ هذا المقطع من قصة (المكان) لمعاوية نور. نوفمبر 1931م.
    "استجاش احساسه بالمكان، فذكر أن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله واحساسه، واستولى عليه شعور قوي. يدفع به لتدوين ما يحسه تجده المكان. لكنه شعر أن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه. كيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله).
    هكذا استطاع معاوية نور الإمساك بالظاهرة المكانية وادراك فعاليتها والكيفية التي بها يمارس المكان حضوره وقوته المعرفية. وقد أبان هذا النص القصصي مدى التشظي الذي أصاب الذات المبدعة وهي تسعي للسيطرة على الظاهرة. والظاهرة عصية ومتمردة.
    وهكذا ينبغي أن تتفتت الذاكرة التي ارتبطت بأفق الإنسان المسيطر ولتأسيس ذاكرة جديدة (قادمة من المستقبل) لتعيد انتاج العلاقة داخل الصورة. ولتصبح السيادة للعلاقات المتعددة والمتشابكة بين الأشياء والظواهر. ومن هذا الأفق المعرفي انطلقت المفاهيم المركزية لمعاوية نور والذي بها ر.ى العالم كفضاء اتصال هائل من الشفرات والعلامات والإشارات المتباينة والمتداخلة. والمتشابكة والتي ينبغي للمبدع أن يشعل خياله الخاص ليضيئها.
    ويمكن للدراسة أن تستمر في مزيد من الكشف والتحليل وإضاءة المفاهيم المعرفية التي انطق منها معاوية نور. في تأسيس منهجه النقدي وأسلوبه الإبداعي باعتباره أول من لفت الانتباه للصورة الجمالية للمكان ورائدا حقيقيا للحداثة الأدبية العربية.
    يقول معاوية نور في مقدمته التحليلية لقصة (المكان):
    (هذا النوع من الفن القمي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الاحساس والعطف القوي على الخلائق. وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلا- الداخلية في عملية الاحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص. ويربه كل ذلك بموسيقى الروع واتجاه الوعر. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة. ويشير من طريق اتجاه الى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. كما أنه يصور ما يثيره انه شره تافه من ملابسات الحياة فر عملية الوعى وتداعى الخواطر وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية). هذه النظرة النقدية تحمل في أحشائها ثلاثة مفاهيم مركزية انطق منها معاوية نور لتأسيس منهجية نقدية وابداعية تتطابق ومفاهيم المنهج الظاهراتي الحاشر وتتسامى بها أساليب الكتابة الأكثر حداثة. وقد لخصها الأستاذ غالب هلسا في عدة محاور (1):
    أولا: التأكيد على عزل الصورة الجمالية من بعدها الاجتماعي الآلي المباشر والتركيز على التجربة الوجودية والفومينولجية التي ترتبط بالوعي المفارق (وهو الوعي المستقل الذي يسعى لإدراك الوجود الأنطلوجي بالحدس المتجاوز للحواس والعقل القصدي)(2).
    ثانيا: الانتباه للقوة الكامنة في الأشياء العادية والمألوفة ودعوة الى ضرورة تفجير طاقتها الساكنة باتجاه الأبعاد الجمالية القصية. اي اخراجها من عاديتها وابتذالها الى شعريتها، والتسامي بروحها المندغمة في نسيج العالم. كسياق تتبدى فيه العلاقات كمركزية تسود بين الأشياء. حيث تكمن في نسيجها القيم الخالدة. أو كما اسماها معاوية نور شعر الحياة ومسائلها الكبري.
    ثالثا: الإشارة الى الخيال باعتباره طاقة مركزية محايثة تنهض بالممارسة الابداعية كتجليات للمفاهيم الفكرية. وتثبيت لوعي الأنا بتصدعها. وانشطارها الى ذات وموضوع. حيث الذات تدرك ذاتها في الكتابة وبها بوصفها وعيا وموضوعا معا. حيث يقول معاوية نور في ذات السياق (وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات وإضطراب الميمول والأفكار وتضادها في لحظمة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص) وهذا ما يمكن تسميته بوعي التصدع الذي ينتج المأساة من خلال ثنائية الانفصال والالتئام. حيث تغدو الكتابة امتدادا للذات وتجاوزا لها في نفس الحين.
    إن هذا العقل الفذ الذي يسمى معاوية نور أمس هذه المفاهيم الحداثية تنظيرا وإبداعا منذ أواخر العشرينات من هذا القرن. وقد حقق قطيعة جمالية ومعرفية في شكل الخطاب الثقافي الذي كان سائدا وقتها. فطه حسين اهتم بالمنهى العقلاني في بحثه عن الحقيقة، وجبران التس ذلك بالتأمل والاستبصار. كذلك العقاد وعلي عبدالرازق. وجميع هؤلاء الرواد ومفكري النهضة العربية وقتها اهتموا بمركزية الانسان وقدرته على صنع التأرين. إلا ان معاوية استطاع أن يتمايز ويختلف بإمساكه الخيط السري الذي يربط السو سيولجي بالاستيهامي (قوة الخيال) والتأريخ بالسيمولوجيا (علم الاشارات) ومعنى أكثر من ذلك ليؤسس لشعرية الأشياء من خلال وعى قصدي وموقف فومنيولوجي يعمل على تأكيد التجربة الذاتية التي ترتبط بتصور الانسان لهويته وموقعه من العالم. وادراك المفاهيم الأنطلوجية الشاملة بالمدمر المتجاوز للحواس والعقل. يقول ادونيس في معرض حديثه عن الصوفية بوصفها تجميد الرؤية ابداعية حداثية (3) (لا تعني " الصوفية " هنا، الانفصال من الواقع. إنما هي انفصال عن ظاهره المباشر. من أجل الاتصال بعمقه الكلى. والغوص في أبعاده الداخلية. فيما يتجاوز الغامر الى الباطن. ثانيا تشير العبارة هنا الى التجربة الحية. الى التجريد النفرو. فالصوفية هنا تتجاوز العقلانية ونغامها الى الحياة وحدوسها، لنقل بتعبير آخر، إن كانت الفلسفة تحاكم الحدس. التجربة، بالعقل. المنطق، فإن الصوفية علو العكر تحاكم العقل. المنطق. بالتجربة. الحدس. إن الابداع في هذه الصوفية تلتاني. إنه كما تصفه العبارات الصوفية نفسها. إملاء أو فيض. أو شطح خارج كل رقابة عقلانية، إنه الابد او الذي يصدر عن طور يتجاوز طور العقل).
    ان هذا التطابق الأكيد بين مفاهيم معاوية نور المنهجية في العشرينات ومفاهيم أدونيس عن الحداثة الا بداهية في التسعينات هو ليسر بالأمر المدهش. وخاصة إذا عرفنا اتصال معاوية نور بالجزر المعرفي لمفاهيم الحداثة الفكرية والأدبية في منبعها الغربي وهي في بداياتها التكوينية. حيث يقول (4) اهذا النوع من القصص انتشر في أوروبا وعرف منذ عشر سنوات تقريبا حينما أخرج مارسيل بروس الفرنسي روائحه القصصية. كما انه عرف في أتمه واحسنه عند كاترين مانسفيلد وفرجينيا ولف. من كتاب الانجليز. ونور ولا شك أن يكتب وان يعرف في وادي النيل).
    إن هذه العبارة الأخيرة هي التي تكشف طرافة هذه المفاهيم المنهجية وجدتها على الواقع الأدبي العربي وقتذاك. وهي التي انبثق منها الأسلوب السردي المعروف بتيار الوعي. والذي فيه تتكثف العبارات بطاقة تعبيرية وايمائية فذة. تجعل قراءتها مفتوحة الاحتمالات. وفيه تتشظى الذات من خلال تقنية ضمير المتكلم الى تعددية الأصوات. ويقوم السرد على المحور التزامني ويغلب على السياق التعاقبي. وهو الأسلوب الذي انتهجه الطيب صالح في كتابة رائعته (موسم الهجرة الى الشمال) وغسان كنفاني واسماعيل فهد فيما بعد منتصف الستينات.
    في بداية الستينات (1963) أصدر المفكر الظاهراتي الفرنسي جاستون باشلار كتابه (جماليات المكان) والذي أصبح المرجع الأكثر أهمية عندما يأتي الحديث عن ظاهرة المكان في الأدب. والفلسفة على حد سواء. والذي أوضح فيه ان للمادة خيالها الخاص وان للأشياء قوى معرفية ولدت لدى الانسان احساسا ما بمنطلقات كبيرة كالماوى والدفء والأمان والحكاية واحلام اليقظة. كما أوضح.ن للأشياء احساسا بالوجود يوازي احساسنا به يقول (5) ران نوعا من الانجذاب نحو الصور يركزها. أي القيم. في البيت. فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها، والبيوت التي حلمنا أن نسكنها، فهل نستطيع أن نعزل ونستنبط جوهرا حميما، ومحددا يبرر القيمة غير الشائعة لكل الصور المتعلقة بالالفة المحمية).
    ورغم أن جاستون باشلار استطاع تطوير منهج خاص به ومتوسع في اللغة التي ينتجها الخيال. انطلاقا من مبادئ هوسرل في الظاهراتية (فومينولوجيا) الا أن معاوية نور استطاع الامساك بهذا الجزر المفاهيمي ووظفه في اكتشاف الأهمية الجمالية للمكان، بما هو موقع تتنامى فيه موسيقى الروح وتتفجر به تفاعلات الوعي والخيال في مطلع الثلاثينات من هذا القرن. لاحظ يقول معاوية نور (وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، لكن الالفة او الايناس الذي يشعر به نحو تلك الأمكنة ومنعرجاتها يخيل اليه أنه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن. فالحقيقة الباقية كي "المكان " وأننا أحياء من أوائل الأزمان الى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة. كلها لها حظ من "الوعي" يختلف ضعفا وقوة باختلاف الأفراد والأشياء وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة السماء والا شجار وعي واحساس من نوع وعينا واحساسنا. الا أنه قليل من الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة).
    فهل لاحظت محي أيها القارئ العزيز، هذا الوعي الفومينولوجي ( الظاهراتي) المبكر؟ والذي اجتر حه مفاهيميا معاوية نور قبل أكفر من ستين عاما. ونستطيع القول. ومن غير مجازفة. أن كل ما جاء في المتن الحداثي من مفاهيم و.نساق فيما بعد الستينات واخترقت بنية الثقافة العربية. كانت بمثابة التأكيد للحظة الفكرية والنقدية التي بث مفاهيمها الشاب معاوية نور في الثلاثينات من هذا القرن. ومضى. بل وكأن الحداثة الأدبية قوس كبير يمسك احد أطرافه الشاب معاوية نور في مطلع الثلاثينات. ويمسك بطرفه الآخر رموز الحداثة الأدبية في التسعينات. والحيز الزماني الذي يمثله انبعاج القوس، هو اشكالية التوتر والتجريب والاضطراب الذي يتميز بها زمن الإنتقال من مفاهيم سائدة الى مفاهيم جديدة تسعي لت كيد ذاتها وتثبيت رؤيتها للعالم. انها لحظة الحداثة التي استطاع معاوية نور امساك خيطها السري الذي ينسج خلايا التاريخ الثقافي وبها تميز خطابه واختلف عن جيل رواد النهضة. وهذا الخيط السري لا يمكن الامساك به الا من خلال المثوف والرؤية المخترقة واشتغال الحدس الذي يعمل على سبر غور اللحظة القادمة واستحضار غيابها واخراج باطنها ولا مرئيها.
    كان ينبغي للقمة السودانية وحتى فيما بعد منتصف الستينات أن ترتبط بمفاهيم المدرسة الواقعية. تلك المدرسة التي جعلت من النص مرآة تعكس الواقع وتمثله بشكل استنساخي زائف كما هو في ذهنية المبدع. وليس الواقع كما هو. والنص عبارة عن وسيلة تعبر عن التزام كاتبه الاجتماعي والأيديولوجي، من شو صارت اللغة أداة وصف وتقرير عن حالات الوقائع بشكلها السطحي. واصبحت الدوال تشير آليا الى دلالات مباشرة. وكل مفردة تتطابق بالمعنى الواحد المقصود. وانسحب هذا الحديث على المكان. الذي يرد في فضاء النصوص فلا تجد غير هذا الوصف التقريري الذي لا يحيل القارئ الا الى نفسه فقط. وإذا كانت هناك حالات دلالية. فلا تتجاوز ذات الأبعاد الاجتماعية الوقائعية الذي انطلق منها الكاتب بقصد ايصالها مباشرة الي القارئ. حيث ان القارئ لهذه النصوص (الواقعية) مفترضا فيه أن يكون متلقيا سلبيا للنص. والكاتب هو المعلم الذي يرشد الى أبواب الحكمة والحقيقة الذي يمتلكها هو فقط. والدراسة هنا لا تريد ~ن تقلل من شرن القصة (الواقعية) التي سادت خلال ثلاثة عقود. بل تعترف الدراسة أنها (القصة الواقعية) كان لها دور لا يمكن تجاهله في تثبيت القصة القصيرة كجنس أدبي وتركيزها في بلادنا بتراكمها الكمي والنوعي. الا انها عبت بخيال أقل. والدراسة تعترف أنها كانت المرحلة التي من خلالها تم تجاوز المفاهيم الأيديولوجية والقيمية التي فت تشد الإبداع الى سلطتها لكي تحاكمه بمعاييرها الجاهزة.
    حيث انبثثت مفاهيم الحداثة الأدبية فيما بعد منتصف السبعينات وتحرر الإبداع القصصي من قيوده الثقيلة. وأصبح النص اللغوي عالما قائما بذاته موازيا للعالم القائم. وصارت اللغة تتفتح على آفاق الكتابة التي لا تحدها حدود. بدلالاتها المفتوحة على كل الاحتمالات. وأصبح النص السردي ينبثق من المخيلة التي ترتبط بالوقائعي وتنفصل عن الواقع في ذات الحين. وغدت القصة القصيرة ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا من صراع وحيرة وتمزق وانهزام وتعدد في الرؤية. وطموح الى احتضان الجوهري من الأشياء. ولم يعد الواقع بمفهومه الاستنساخي التبسيطي هو ما يثير اهتمام المبدعين المجددين. وإنما أصبح الواقع يعني.يضا المحسوس والمتخيل والمتذكر. ويعني الوقح والمألوف، والمتطرف من الأحداث والمواقف. ويعني الذات الموزعة والمشتتة والظروف الحياتية القاسية. كما يعني احتمال تصوير الأمور على غير ما تسير عليه وبافتراضات واسعة لا حدود لها. كما لاحظ الناقد المغربي محمد براءة.
    اذن أن المكان كبنية انو جدت داخل المتن القصصي الحديث له ابعاد ومعان عميقة تحتاج لتفكيكها دلاليا. لاكتشاف ما توارى خلفه. حيث انه يتجلى بأشكال مختلفة من خلال لغة تتماهى مع الشعري تارة وترتبط بالوصف تارة أخرى. ومن خلال فضاء سردي يرتبط بالأسطوي حينا وبالوقائعي حينا آخر وبالكوني الصوفي مرة وبالانساني الأرضي مرة أخرى.
    هكذا ودونما سابق تنويه او إشارة. تجد الدراسة نفسها قد انحازت للقمة الحديثة. وبدات تتحمس أبواب الأخون لعالمها الغامض المثير والثري في محاولة أخرى للامساك باستراتيجية معنى المكان فيها. باعتباران للمكان معاي أخرى عميقة تقع خلف المعاني الدانية. وكل ذلك بسبب أن كتابتنا النقدية تتحرك داخل فضاء واسع للمفاهيم المنهجية الحديثة والتي بها تحررت الكتابة من قيودها الأكاديمية والتصنيفية وتمضي لمعالجة النصوص الحداثية لاستنباط المفاهيم التي انكتبت بها وعبرها برزت المعاني الخفية من تربة الكلمات.
    فضاء النبل.
    مثلا فك خذ نصا قصصيا للأديب الطيب صالح بعنوان (يوم مبارك على شاطئ أم باب) الذي يحيلك أولا الى نص آخر لنغص الكاتب هو قصة (دومة ود حامد) ففي دومة ود حامد. تتموضع البنية الدلالية الكلية للنيل. باعتباره مكانا واسعا يتحمل كل المتناقضات (الأمر الذي فات على هؤلاء جميعا أن المكان يتسع كل هذه الأشياء) حيث ين للنيل كموقع ومكان أن يتسع لمحطة الباخرة. ولوابىالماء ليسقي المبثروع الزراعي وأيضا للدومة المباركة. هكذا يمكننا الارتفاع أكثر بدلالة النيل. ليكون بؤرة تلتقي وتتوحد عندها المتناقضات. ويمكنها ان تتجاوز بسلام وامن. باعتبارها جزاء من مشهد كوني أوسع.
    فالنيل هنا ليسر موقعا جغرافيا فحسب بل يتحول داخل النص الي فضاء كوني مشحون بالمعاني المطلقة. بدلالة الاتساع والشمول بصرف النظر عن المعنى المألوف للنيل كرمز للخير والعطاء. ان هذا الاتساع وحده القادر على توحيد الثراء المشتت والمبعثر. أو بمعنى آخر هو الذي يؤس علاقة الواحد بالمتعدد.
    وعندما نطالع قصة (يوم مبارك على شاطئ أم باب) نقف أمام مشهد فذ ومدهش (ليس الصوت الذي يتكلم به الموج، بل الصوت الذي يصدر من البحر ذاته، اذ لا هبوب ولا موج. وبدأت الشمس تنزل معارج السماء خطوة. خطوة. ومع كل خطوة تفتح نافورة من ضوء بحت. كسا السماء والأرض والبحر. وأخمد نيران آبار البترول... بغتة هب الرجل واقفا وقامت الغلة وقامت المرأة. دخلوا البحر في وهج الضوء المحض. فقد كان الضوء كأنه يمتصهم الى جوفه. ظلوا كذلك حتى كادوا يدخلون في معارج السماء.).
    هكذا نلاحظ امتلاء المشهد بالكلمات التي ارتبطت بفكرة الاتساع. أي بمعنى آخر لها علاقات رمزية ودلالية بالمعلق مثل. الضوء البحت. الضوء المحض. الماء. البحر. الأرض. معارج السماء. نيران الجوف. انها الكلمات عندما تعبر عن المعاني اللانهائية ذات الوقع الصوفي. والصوفية كمفهوم تؤكد على أن المعنى العميق للانسان في كونه يقطع باستمرار الى ما لا ينتهي. عبر وحدة الوجود التي تؤالف بين الأطراف المتناقضة. حيث توحد بين الحلم والواقع. الليل والنهار. الوجود والعدم. وتتحرك باتجاه المجهول في سعيها المستمر للكشف عن طفولة العالم وصفائه.
    هكذا استطاع الكاتب المبدع، تحقيق انزياح كامل للمعني المتداول والمالوف للنيل كمكان باعتباره رمزا للعطاء والخير. وتسامى بهذا المكان ليتطابق بالمعاني الكونية المعلقة وكمركز للوجود والذي به وفيه تتوحد أشياء العالم المتناقضة والمتصارعة، وهذا ما يجعلنا نؤكد على المفاهيم الصوفية التي تتلبس رؤيا العالم لدى الأديب الطيب صالح. والتجربة الصوفية تفصح عن أسرارها كتابة واللفة الايمائية وسيلتها في معرفة الكون وتجليا ته. فالأشياء في الرؤيا الصوفية متماهية ومتباينة. مؤتلفة ومختلفة. وبكل ذلك تكون عالما داخل العالم تتعانق فيه الأزمنة في حاضر ديناميكي وتنمو باتجاه الآفاق القصية.
    والنيل كفضاء وبنية اشارية دالة على الكوني نجدها بذات المستوى الدلالي في قصة (حالة انعدام وزن) للقاص أحمد الفضل احمد. حيث يرصد النص السردي حالة انسان اعتزل عالما كنير النفاق وقليل النقاء. يتجه بكل جدية نحو النيل فيحادثه ويشكو له سوء العالم وضنه. حوار يتم كحوار اب مع ابنه. الذي ينتهي في اند غام الجسد بالماء.
    (فاجأني النيل وكنت قد نسيت بالفعل لهجته تلك العطوفة والأبوية السحيقة، مرحبا وأهلا يا ولداه لماذا الخصام كل هذا الزمان أنسيت ميلادك في أحشائي سقيتك وأطعمتك وطهرتك).
    قلت. العفو أيها التليد السرمدي العتيق قال في رحمة. ما فات مات. أدن قليلا يا ولدي وستري قلت ممتنا. ألم تخرج قليلا عن التقريرية والابتذال..؟
    وقلت وقد عادني شك الألم في جنبي "حتما سأخرج من نطاق جاذبيتهم هناك أشياء لا يمكن مصالحتها حيث لا جدوى ولا ملاذ.. لن أعود لمألوفهم الفارغ).
    وبعد هذا الحوار الأبوي الحميم بين بطر القصة الرافض لقيم 0 المجتمع السلبية والنيل. نجده قد قفز الى الماء وأفنى روحه فيه. هكذا تبين وتتضح فكرة اند غام الجسد في الماء باعتبارها نفسر فكرة فناء الذات في المحبوب التي ترجع الى مفهوم الرجوع الى الأصل زي النقاء المطلق. وعلى مستوى آخر صار النيل كمكان وكد لالة ملجأ وملاذ أمان. أو بيت يحمي الانسان من شوور العالم المتوحش القاهر. وبالرؤيا الصوفية التي بها تصير الكلمة لها عمق آخر. باطنا بعيد الغور يعمل على كشف ونقد الأمس التي يستند الواقع عليها. وبها يعمل على تغييب الانسان وقهره. وغاية الرؤيا الصوفية وعلى المستوى الإبداعي هي تخطي الجاهز المسبق والمالوف. من اجل خلق عالم جديد او واقع أسمى.أو من أجل (الا كشاف المنظم لأعماق الذات) كما يقول ادونيس.
    فالنيل كمكان. في الرؤيا الصوفية. استخدم من خلال صورتين عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد. وكل صورة تعبر عن واحد من المفاهيم الصوفية الأساسية. ففي دومة ود حامد عبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم الذات التي تتوحد في مركزها المتناقضات. وهي ذات اتساع لانهائي. ويحتمل اتساعها هذا كل أشياء العالم (الواحد المتعدد). أما في (حالة انعدام وزن) فعبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم فكرة الفناء الكونية في ذات الحبيب. والصورة في الابداع الصوفي تقوم اساسا على المجاز. حيث تكمن شعرية المجاز في لامرجعيته. أي بوصفه طاقة فذة لتوليد الأسئلة والصور. مما يتطلب بالمقابل طاقة فذة للقراءة وتوليد المعاني. حتى تواكب القراءة حركية الابداع. وهكذا احتشدت بنية المكان كصورة جمالية بالمعاني المفارقة لتلك المفاهيم الوصفية السطحية. وصارت بنية المكان في النص الابداعي مركزا لفريا وجماليا لتوليد المعانى المتجددة.
    ومن جهة أخرى يمكننا ان نرى النيل كبنية دالة تتمحور حول مفهوم التطهر والخلاص الروحي. عند القاصة أغنيس لاكودو في قصتها (الربيبة) والتي ترى فيها تلك المرأة تخرج من السجن بعد ادانتها بقتل زوجها القاسي. نواها وهى تعتلي مركبا خشبيا في عرض النيل. حيث رأت وشاهدت وجهها منعكسا على صفحة الماء. ثم بدأت احداث تاريخها الشخصي تتري امام ناظريها في مرأة الماء. وعند نهاية الأحداث. تلقي بجسدها في الماء. هكذا صار للنيل دلالة أخرى في الوقت التي تتجاوز فيه رمزية النيل المعطاء واهب الخير المألوفة. وتختلف عن الصورة الجمالية للنيل كما تبين في الرؤيا الصوفية عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد.. وتبرز دلالة النيل هنا وصورته الجمالية كمرموز للتطهر والاغتسال من الذنوب عند أفنيس لاكودو. حيث ترتبط الصورة بالشفافية والنقاء.
    ورغم الاستخدامات الجمالية العديدة للنيل كمكان يشحن بالمعاني الكبيرة يظل يعبر عن فكرة قديمة وجدت في البناء الأسطوري. تقدم النيل كمقدس. فإذا رصدنا قيمة النيل في الأدب السوداني عموما شعرا كان أم نثرا. قلما نجد نصا أدبيا يخلو من هذه القيمة. وباستخدامات مختلفة وعديدة تشكل في مجملها مرموزا اسطو ري الدلالة. يوظف كعلامة مرجعية للوعي الجمحي، تستجير به من الانعطافات التاريخية القاهرة. وكمقدس في ذاته في المثيولوجيا أو كتجل للمقدس في الرؤيا الصوفية. بوصفها تجسيدا لرؤية جمالية تمسك العالم من خلال عمقه الكلي وتغوص في أبعاده الداخلية فيما يتجاوز الظاهر الي الباطن. والحاضر الى الغائب.
    فإذا رجعنا الى معاوية نور في (الموت والقمر) نجد ان الأفق الظاهراتي قد عزل النيل عن كل احتشاد للمعني الماورائي فيه. وثبته كظاهرة مكانية تقع بين مكانين مختلفين. وهو حلقة وصل وفصل بينهما. طريق الاتصال والانفصال في ذات الحين. وبما هو موقع يحتل موقع البين بين. حيث التوتر والاضطراب والاستقرار. حيث يندلع صراع الأنا مع أناها وصراعها مع الآخر. أي أنه الموقع الذي تواجه فيه الأنا الوجود. باعتباره ليسر مكانا رحميا(من رحم) تمتلكه الأنا وتحتمي به. كالغرفة مثلا حتى تلك اللوحة الجميلة التي ترسمها أشعة الشمس العسجدية على سطح الماء. وتلك الخضرة الكثيفة التي تؤطر اللوحة، لا تثير في النفس أحلام اليقظة ومتعة الذكريات. بقدر ما تثير الأشجان ذات الحزن الشفيق وعواطف التشتت. هذا إذا كان المرء ناظرا اليه أو جالسا حوله. اما ان تكون على سطح مائه ومستخدمه كطريق عبور. فهو لا شك موقع لتوترات الأزمة وتفجر الأسئلة المصيرية كأي طريق آخر.
    الغرفه. الفضاء المغلق.
    واضح أن الدراسة صعب عليها أن تفصح بما لديها من غير أن تبدا بتلك الغرفة التي أسسها مصطفى سعيد في (عمق الغرب) وحشد فيها كل مرموزيات الشرق ويسحره باعتبارها الشرق الساحر الغامض الخرافي. غرزها كخنجر أسطوري في قلب الغرب العقلاني الديكارتي وقتها. وبالمقابل بنى مصطفى سعيد غرفة محدودبة السطح (كظهر الثور) مثل بيوت الريف الانجليزي. بنى هذه الغرفة في قرية شرقية بسيطة تقع على منحنى النيل (النيل مرة أخرى يا له من أفعى ملتو) وحشد فيها الكتب والصور وكل مرموزيات الغرب العقلاني. هكذا لم يجد هذا الكاتب المبدع غير الغرفة كصورة جمالية تستوعب استراتيجية المعنى الذي يريده ويراه. انها تضمر المعاني كقلب الانسان تماما... مكمن للأسرار والخصوصية. ففي طب الغرب ينوجد شرق يضخ دما ساحرا وبالمقابل في قلب المشرق ينوجد غرب حاد.
    كذلك فاجأتني تلك الغرفة ذات الجدران الخضراء (الأخضر بمستوياته اللونية) التي استطاع عادل حسن القصاص في قصته الرائعة (ذات صفاء... ذات نهار سادس أخضر) تجسيد صورتها الجمالية بلغة شاعرية هامسة. وهذا الهمس هو الذي ساهم في استحضار ذاك الحوار الداخلي المحموم بين الشاب الهامشي (بطل القصة ل وذاته. وهذا الحوار الذاتي يستحضر علاقته بالجدران تارة وتارة أخرى بصفاء. في علاقة تبادلية مريرة. حيث ان صفاء هي الحلم النائي والذي يتراءى بحضور كنيف من ثم تجئ الجدران كملاذ آمن، كحصان تشخوف. منغلق على صمت سرمدي إلا أنه اخضر حميم. فكيف تتفكك علاقة الجدران بالحبيبة وكلاهما سامت. وقد احالتهما الذات المنشطرة بشوق لافح الى حالة دف ء مر تجئ. فلماذا لا نقول أن هذه العمورة الجمالية خلقها البحث عن ملاذ هادئ وريف ؟وما لهدوء الو ريف الا جدران وامرأة. تكسوهما الخضرة بمستوياتها المتعددة. فكيف السبيل اليهما وكلاهما يمتلكهما الآخر الاجتماعي السلطوي. هكذا أسئلة الهم الاجتماعي لا نستطيع الفكاك منها. وخاصة عندما تأتي متوارية خلف حلم جارح. حيث تستطيل حواجز العزلة بيننا وبين الآخرين (أحباب وأعداء،) انها أشبه بمن يسجن في العراء. أن تسجن خارج الأسرار يعني أن تقذف في التيه. وفي هذه الحالة فقط تصبح ضرورة أن تستدعي جدرانا او خيمة لتضمك اليها. وتلتف حولك وتنتمي اليك. كأم أو حبيبة. لحظتها تستطيع أن تحلم احلام اليقظة التي تنتجها الغرفة الدفيئة. وليمة كوابيس الألم المر التي تنتجها العزلة والتيه.
    وفي حالة أخرى تبدو الغرفة كمأوى لحديث العزلة. او كملاذ ينقصا الدف ء بغرفة ذات جدران تحتاج للمسات آخر حميم يفك عتمتها. مثل تلك التي صورها جماليا القاص احمد شريف في قصته (منطقة الصفر) يقول النص: (بغباء وعصبية حادين. يرف مصدرهما جيدا. أوشك أن يقذف حذاءه علو حمامة دخلت حجرته ولكنه تراجع فجأة. حيث رأى الحمامة وقد شرعت تلتقط من علو الأرض فتات الخبز وحبوب الغول الصغيرة المتبقية من الليلة الماضية. تصلب في مكانه بشكل مضحك ولكنه قد فقد القدرة على الابتسام ثم أنزل الحذاء برفق الى جواره في الفراش ويدا يعود الى حاله الأول في به، كالمريض حتى تمدد تماما ودون أن يحرد ساكنا خوف أن تطير الحمامة بعيدا وتتركه وحيدا. فكان ذلك من ابرز النجاحات التي حققها في الفترة الأخيرة.) انها الغرفة المثالية لأحلام اليقظة وكأن المأوى لا يجدي مع الوحدة والاستيحاش، فالمأوى يحتاج الى آخر خاص (أنثى) تفك برودة الوحشة. هذا الرجل يحول كل الأشياء التي حوله الى اشارة تحيله الى علاقات الأنثى. (الحمامة الوديعة وصوت الحذاء) هذه الغرفة تضعنا امام مغزى المأوى الحقيقي باعتباره مفهوما انسانيا متكامل الوجود في نسيجه. فالماوى ليست جدرانا فحسب تحمي الانسان من الرياح والصقيع والأمطار والحرارة. إنما ترتبط بوجود الأنثى والإلفة. والأنثى هي أصل المأوى حيث هي التي يرجع اليها تاسيس ول مأوى في تاريخ البشرية.
    وفي ذات السياق نجد كوخ الذكريات العاصفة، ذلك الكوخ الشر الذي صوره جماليا القاص يا كوب جل أكول في قصته الرائعة (عودة العاصفة) والذي تسكنه امرأة عجوز وحيدة. تجتر ذكريات حياتها المريرة. تاريخها الشخصي. الذي حاولت فيه أن تصنع بعض النجاحات السعيدة خارج النظام الاجتماعي. ولكنها فشلت. وذهب العمر وصارت ضعيفة ومنهكة. تفترش هذا الكوخ المتهالك الأي يقع في طرف المدينة (جوبا) وهي ترقد على طرف الحياة. ولا أود هنا أن أشير الى ان هناك تشابها بين حالة المرأة العجوز وكوخها المتهالك. ولكن أود أن أربط الحديث بتلك الدلالة الكلية للمأوى والذي لكي يتكامل مفهومه انسانيا لابد من جدران أخرى للمرء، جدران تصنعها حول الانسان علاقته بالآخر الحميم. فكأن الانسان يحتاج لحمايته من الطبيعة لجدران صما، ويحتاج لحمايته من صقيع العزلة النفسية والاجتماعية لجدران عاطفية من لحم ودم واحساس تحتوي شوقه وحرارة أنفاسه. انها جدلية الخارج والداخل. التي تتساوى فيها غرفة أحمد شريف وكوخ يا كوب جل أكول. رغم ان الكوخ يرتبط بدلالات أخرى ضمن شبكة العلاقات التي انتجها النص ولكن در استنا هذه تنطلق من البحث في الصور الجمالية وتحاول اكتشاف معان أخرى للمكان باعتباره ظاهرة ارتبطت بالانسان في سياقه الاجتماعي والتاريخي والرمزي ان شئنا الدقة. فكل انسان يشبه كوخه (أرى كوخك أي غرفتك اقل لكن من أنت) فهجمن يا كوب جل أكول تشبه كوخها المتهالك المعزول. وعندما هبت العاصفة للمرة الثانية بعد ثلاثين عاما دمر الكوخ والعجوز معا. لذا أطلقت عليه كوخ الذكريات العاصفة. باعتباره ماوى للكهولة والعجز. بيت هش المفاصل. فعل فيه الزمن ما فعلت به الطبيعة بعواصفها وأمطارها.. فيصير الكوخ كالانسان تماما هشا متهالكا أيلا للسقوط. لا يقوى على الصراع. فاقدا أهم خصائصه التي وجد من أجلها وهي الحماية. وبدون ذلك يكون مجرد أثر للماضي كتلك العجوز التي سارت بفعل الزمن لا تقوى على الفعل الانساني ماديا ومعنويا. فصارت تجتر الذكريات وتستدعي الأثر. فهناك علاقة خفية ومضمرة بين المكان والانسان فحينما تحل الكارثة بشروطها القاسية وتصيب روح المكان. فإن الخلل سرعان ما يدب في الانسان الذي يحيل فيه كنتيجة لهذا الارتباط فيتبدى المكان كشخصية محورية يدور حولها الوعى المركزي. حيث ينشأ بينهما وحدة تاريخ ووجود.
    وغرفة الذكريات هذه تبدأ في تقمص هذه الحالة عندما يبدا انسانها الذي تأويه في فقدان أحلام يقظته الحميمة. وقد تقادم عليه العمر وصار العالم حوله مجرد ذكريات يجسدها خياله الفج. والفجاجة هنا يخلقها الفرض الذي من أجله استدعيت هذه الذكريات. والتي تحضر مجسدة كبديل معادل لحالة فقدان القدرة على الفعل والتاثير الانسانيين في العالم. كغرفة مريم في قصة (الملكة والعرش) لعيسى الحلو التي تمثل مسرح أحداث الماضي التي يعاد تجسيدها بكامل ديكوراتها.
    (كان المساء قد بدا.. حينما أنهت مريم زينتها، واتجهت للحائط الغربي في الصالون.. حيث تنزل الستائر الثقيلة، ذات الحافات البيضاء وهي تتهدل. داكنة على خيطان الصالون. فهو بهو شرقي كبير تتوسطه نافورة مزينة بالقيشاني اللامع الملون.. وهو بني خصيما لتستقبل فيه مريم زوارها.. الساعة الكبيرة الثابتة معلقة. في الوسط باقة ورد ندية. ورصت أدوات وأواني العشاء. سرفيس كامل من الخزف الصيني المورد.. ملاعق وشوك وسكاكين وكؤوس مذهبة الأطراف. وكان بخور الند والصندل يتصاعد في الصالون زكيا فواحا).
    هكذا هيأت مريم العجوز نفسها وهيأت المسرح (الصالون) للبده في مسرحية كل مساء. في انتظار زوار وهميين لا يأتون. كانوا يملأون حياتها. بالزهو أيام شبابها النضر.
    هناك أيضا الغرف المعادية. تلك الغرف التي تحدث عنها الناقد الروسي (مخاييل باختين) كغرف التحقيق والزنارين والغرف النية ذات الجدران السوداء الداكنة.
    كذلك هناك غرف كاملة الدفء والعاطفة ترفل بالانسانية. كغرفة محمود وعروسه في أعلى جبل فرتيت. في قصة (الخريف) للقاص زهاء الطاهر. وهي الغرفة التي شهدت حمى التفاصيل الحميمة والنزق الحر بين محمود وعروسته وهما يقضيان شهر العسل. وهذه الغرفة بالضد تماما عن الغرفة التي صورها القاص أحمد عثمان عمر في قصته (تخمة الحوت البرئ) والتي اغتصب فيها الطفيلي الثري بملامحه الشريرة براءة البنت التي اشتواها بماله من أبيها كزوجة له. وهي تشبه في عداوتها غرفة المأساة التي شهدت قتل ود الريس على يد حسنة بنت محمود ثم قتلت نفسها وفاضت الغرفة بالدماء الحارة المسكوية على فراش ليلة الدخلة. هي الغرفة التي يقتحمها الآخر المعادي الذي يريد أن يفرض وجوده بالقوة والقهر ويغتصب عاطفة وجسدا ليسا له.
    الشارع. الفضاء المفتوح.
    الشارع هو الفضاء المفتوح، المكان الذي يمر به الجميع. والذي توجد فيه الأنا متحفزة ومتوترة بوجود الآخرين. حيث تتضارب وتتقاطع الانفعالات والأهواء. وتحتد المشاعر بتوترات الأسئلة المصيرية وصراع الإرادات والمصالح والمطامع. فتبدو الأنا في حالة هذيان وتداع. تلتقط تفاصيل الشارع وأشياءه وهي في حالة حوار مرير مع ذاتها. فالشارع مصنع للأحداث الكبيرة ومسرح لها. وهو الضمير الجمعي الذي يضر الرؤى والتصورات الجماعية وفي ذات الوقت يتجلى على سطحه تناقضات الفئات والجماعات المختلفة وتبين اشاراتها بعمق آخر يمور تحت المجاري السرية التي تتفاعل لتشكل صيرورة التاريخ.
    ففي قصة ( وردة حمراء من أجل مريم) للقاص عيسى الحلو. يمكننا أن نفهم جليا امكانيات الشارع في محمولاته الدلالية. ليكون موقعا لصراع الإرادات بل مسرحا تتجلى فيه التناقضات الاجتماعية (ومنذ الصباح حتى المساء تجرى على الشارع الرئيسي المرصوف بالأسفلت. والذي تحيطه أشجار اللبخ الضخمة، تجرى مسرعة حافلات النقل العام والباصات. وعلى طرفيه يجلس باعة 0فواكه وباعة البطيخ حول الأكوام الخضراء وفي المساء حين تغمض الرؤية.. يختبئ العشاق وبائعو الدولارات والمخدرات. وتجئ سيارات صغيرة.. تبطئ. عند منعرج الشارع مطفأة المصابيح، تندس فيها فتيات مجهولات في بواكير المساء. تنزل من الباصات الأهلية. الهالكة عجائز النساء. وهن يحملن سلالهن المحملة بالخضار واللحوم من السوق الكبير)
    مما لا شك فيه أنها صورة سينمائية تبين ملامح شارع كبير في مدينة الخرطوم وحركة الناس فيه. وما يحمله من أسرار طوال اليوم. إذ أنه يفصل بين عالمين متناقضين. (عالم الأغنياء وعالم الفقراء) أما الشارع نفسه فهو مسرح يبين تجليات هذا التناقض التاريخي في أشكاله وصوره الأولية. فهو يبدو كوعاء أنطلوجي لتمظهرات الوجود في سياق سيرورة التاريخ.
    ويمكن أن نلمس هذه الصورة في شكلها المأساوي في قصة (كرسي القماش) للقاص علي المك. حيث الشارع مسرح للمآسي الانسانية. فالمشارح كان شاهدا على اغتيال الطفولة والبراءة. وشاهدا كذلك على اختلاط الأصوات وفوضاها.حيث اختلفت الآراء وكل من موقع له أبدى وجهات النظر تجاه هذا الحدث المأساة (وتحمل الكرسي ثم تضعه على جدار الحجرة بعناية. كأنما قصدت أن يصيب راحة من بعد عناء. وترقد على السرير، والنهار صامت بد أن تغذى بدم فتاة. وقد تطل عليك زوجك بعد حين: أيها الجحيم ؟ الشارع أم البيت ؟ فلننتظر قدوم يومك الثاني في حياتك الجديدة !!).
    وفي القصة الحديثة في الثمانينات، برز الشارع. كخلفية أساسية للمشهد السردي. حيث تبلور من خلال تقنية الكتابة، كأنه الشخصية الرئيسية التي تظهر بعمقها غير المحدود الذي يحتوي كل التناقضات ويتفجر بالأسئلة المصيرية. كعلامة للبطل الذي يحي الهم الجماعي والذي بدوره يحيل الأنا الى النحن. وبالتالي يستحضر الهناك الى الهنا. وبما هو كذلك يصير وعاء شاملا للزمن. أي الثابت الذي يصنع المتغير. وضمن هذا النسيب المتشابك من علاقات المعنى وجدليتها. يتأكد الشارع باعتباره الأمل المرتجئ وبه وفيه تتبلور آفاق المستقبل المختلف عن الحاضر المقيت. ففي بعض النماذج القصصية المتطورة لقصة الثمانينات نجد أن الروائي في حالة هذيان وتداع محموم وهو يقتحم الشارع. كأنه يندغم فيه وتتوحد ذات الراوي بذات الشارع في حوار محموم تارة وحميم تارة أخري، ويتحرك الراوي باتجاه الأشياء في الوقت الذي يعكس فيها ارتجاجه الصاخب وأسئلته المريرة. وتستمر جدلية هذه المرأيا المتعاكسة باتجاه لا ينتهي أواره. لاحظ هذا المقطع من قصة (القداس) للقاص محمد خلف الله سليمان:
    (جاءت بتنورة حمراء ولما لم أجد رغبة منها في الاجابة، توكلت على الله، وتركت شارع النهر وتخطيته الى سوق (العصافير) ومكتبات شارع المتنبي. وبذلك استطعت أن أسقط كل الاستثناءات العارضة عن تاريخي الشخصي.
    تتشابك أزمتي. يتواصل ايقاع طبل متوتر. وصوت ناي، خرجت من الماء فارغا، سمعت صهيلا، وزغاريد نساء، غير أني لم أر خيلا، أو.... فأقمت وحدي عند عزلتي الحميمة.تأتي السيارات، وترش الشوارع بالماء، فينبت العشب فوق الاسفلت وتقذف الشمس الطالعة على ظلال البنايات خضرة لامعة).
    كذلك يمكن أن نلاحظ مقطعا آخر من قصة (كائنات) للقاص الشاب هاشم ميرغني الحاج: (كنت مصلوبا على رمل الشارع، واقفا كالصوت على جسد الظهيرة. منتظرا طيف حافلة تقلني الى أم درمان، عندما عبرت الشارع لأستعيده، كان قد أكمل دورته في الظل الآخر واناغم هناك. غافلني ظلي في منتصف الوقت وصار لها ظلان). ان قصة الثمانينات وما بعدها يمكن أن توصف بدقة بأنها قصة الشارع، القصة ذات الكيان اللغوي الهزياني، الذي يكشف ويعري تناقضات العالم القاهر من خلال مسرح المواجهات الخفية، حيث تتوحد الذات بأرضها لتتعارك ضد قيم التشيؤ التي تحاول ابتلاعها وضد قيم الاستهلاك التي تقصيها. فيكشف الراوي عن تفاصيل أزمته وضعفه وانهزامه، ففي ذات الوقت الذي تلهب فيه هذه اللغة المحمومة التداعي. بأصوات التحدي. تبث قيم الارتكاز على الوعي الجمعي وتحاول الكشف عن المغيب والموارى لتخرجه لفضاء الشمس والريح والتعري. فضاء الشارع. وهو الفضاء الذي يهرع اليه كل انسان يعاني العزلة. العزلة بمفهومها الانطلوجي.حيث تعني الارتداد الى الذات البدائية والتي هي بالضرورة ذات جماعية. لا تحتفل بعزلتها وهامشيتها الا في الفضاءات المفتوحة. باعتبارها عزلة تؤسس للانعطاف التاريخي عزلة تترابط خيوطها جماعيا من خلال تصورات وأحلام جديدة للعالم. عكس العزلة المريضة السلبية التي تلجأ الى الغرف المغلقة الكئيبة لتجتر جراحاتها.. في انتظار موت متكلس.
    الهوامش
    1- غاستون باشلار. جماليات المكان، ت غالب هلسا 1982م
    2- محمد برادة دراسات في القصة العربية. مؤسسة الأبحاث العربية ص 14، بيروت1986م.
    3- أدونيس. السريالية والصوفية.
    4. مؤلفات معاوية نور. دار نشر جامعة الخرطوم.
    5- دومة ود حامد، الطيب صالح، دار العودة بيروت1984م، ص 52.
    http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/stories/story.cgi?id=12[/B]
                  

07-17-2006, 03:14 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)



    وهنا جزء من حوار مع الفنان والمخرج كريم رشيد يتحدث فيه عن :
    جماليات المكان المسرحي و السينوغرافيا
    * تميل الي تأسيس التكوينات المكانية، بل الي الالتزام الحرفي بالديكور المسرحي التقليدي. هل لانك درست جماليات المكان المسرحي، ام لسبب آخر؟
    ** ببساطة شديدة في اتجاهاتي الاولي كنت أميل الي فن العمارة، وكان هذا الميل يأخذني باتجاه التشكيل المعماري البصري، ولهذا فقد افدت من هذه الميول لاحياء ميولي تجاه السينوغرافيا. واتضح لي فيما بعد ان ميولي ليست في انشاء تكوينات معمارية او ديكورية علي المسرح لانني اعتقد ان لغة الكثافة والاختزال هي اللغة الفنية. فبقدر ما نستطيع ان ننتج عدداً من الدوال التي يمكن لها ان تنتج عدداً هائل من الدلالات بقدر ما نكون قد نجحنا في انجاز مكان مسرحي مقتصد، مكثف، ومختزل، لكن يمتلك القدرة علي انتاج دلالات متنوعة وعالية. انا اشعر ان المكان هو ممثل آخر، ومعطي آخر، وباث آخر للدلالة المسرحية.
    فبالتالي انصب اهتمامي علي تشغيل الملحقات المسرحية، والمفردات المكانية، وغالبا ما كانت مفردات منفصلة، وليست مفردات قائمة في بنية او تركيب معماري. وكل واحدة قائمة بذاتها حتي يمكنني تشكيلها عدة مرات، واعادة صياغة علاقة بين هذه المفردات بطرق مختلفة. لقد استثمرت البانيوهات، كراسي المعوقين، الستائر، العصي، الخوذ، الجرادل الفارغة، ثم اضفت فيما بعد مفردة ظلت تشتغل معي في اكثر من عرض وهي اطار اللوحة الفارغة. وهذا الاطار ظهر في (الحر الرياحي) و(الحفار والمومس العمياء). والاطار الفارغ هو تجسيد لفكرة المكان الحر. هو لوحة فارغة يمكن ان ترسم داخلها الكثير. انني استغل جسد الممثل داخل هذا الاطار في تقديم لوحات مختلفة، وهذه اللوحات هي في الحقيقة لا تحمل دلالات جازمة، وإنما دلالات قابلة لتأويلات عدة. وهذا الامر هو الذي حفزني علي ان انشئ وأدمر داخل العرض المسرحي.
    فأنت احيانا تشعر بان المكان قد أسس وانتهي، لكن سرعان ما يتهدم المكان من جديد ليعيد انتاج نفسه مرة اخري. الممثل بحاجة الي ادوات تحيي قدراته التمثيلية. النص مهم، وكذلك الحركة والرقص، لكن التعامل مع المكان شيء مهم جدا لانه يدعم العملية التمثيلية ويساهم في اعطاء فرصة اكبر للممثل لانجاز وظيفته المسرحية.

    جريدة (الزمان) العدد 1239 التاريخ 2002 - 6 –
    http://www.azzaman.com/azzaman/articles/2002/06/06-19/677.htm[/B]
                  

07-17-2006, 03:26 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)


    وهنا مقال يتسمد مقاربته من :
    جماليات المكان لباشلار
    وهو بعنوان:
    الـمـكـان فـي الـعـمـل الـفـنـي*
    قـراءة فـي الـمـصـطـلـح

    بقلم:د. أحـمـد زنـيـبـر


    تعد القصة القصيرة أهم الشواهد الإبداعية على ما عرفه المغرب تاريخيا واجتماعيا وفكريا من تحولات وتفاعلات هزت كيانه وخلخلت موازين قواه، يوم أرغم على الاستظلال بالمظلة الاستعمارية، ولما كان من الطبيعي أن تساوق هذه التحولات المختلفة محطات أدبية تسجل درجات هذا التحول الجديد، كانت القصة القصيرة أسبق هذه

    المحطات الإبداعية، فتم لها التميز والتفرد، واعتبرت بحق مظهرا من مظاهر الوعي الثقافي والفني الجمالي...
    . نجحت القصة القصيرة كجنس أدبي ثري، في توجيه نظر العديد من الدارسين والنقاد، على اختلاف مشاربهم وتباين مناهجهم إلى ما تزخر به من إمكانيات العزف على أوتار الحياة اليومية، وكذا الكشف عما يموج في العالم الخارجي من حقائق مسكوت عنها.
    . فحين أدركت هذه المعزوفة الأدبية عمق المفارقات والصراعات التي عرفها المجال الاجتماعي انبرت لرصد مختلف التحولات السوسيو ثقافية التي شهدها المجتمع المغربي منذ بحثه عن الهوية الاجتماعية بعيد الاستقلال، ولم يتم لها ذلك، إلا استنادا إلى مجموعة من القيم الجمالية جعلت هذا الشكل التعبيري متميزا عن باقي فنون النثر الحكائية.
    . فما هي مكونات هذا البناء؟ وكيف تتجلى داخل هذه الكذبة الفنية الصغيرة بتعبير أنطون تشيكوف؟..
    . من المعلوم جدا أن القصة القصيرة، باعتبارها نوعا من أنواع القول الأدبي، تعتمد تقنيات هامة تلعب الدور الأساسي في بناء عالمها الحكائي، وتتمثل هذه التقنيات -كما لا يخفي- في عناصر لا غنى للعمل الأدبي السردي عنها، وهي حدث،شخوص، زمان، مكان، سرد ووصف ثم حوار فدلالة. وعليه فإن هذه العناصر هي التي تشكل في نهاية المطاف ما أطلق عليه بالمنظور perspective .
    . وهكذا انصب الاهتمام لفترة زمنية، على دراسة المتون القصصية انطلاقا من المنظور، فكانت المعالجة النقدية، تبعا لذلك، تأخذ بجميع المكونات على حد سواء، الشيء الذي كان يضفى على هذه الدراسات والأبحاث سمة الشمولية، وأحيانا تغليب وسيط قصصي على حساب وسيط قصصي آخر.
    . لكنه بعد تحقق ما يسمى "بالحداثة القصصية" وتفكك البنية التقليدية للسرد تمت بلورة صيغة جديدة لآلية الحكي، حيث عمد الباحثون وبقصد في دراستهم إلى التركيز على مكون بعينه من بين المكونات المؤسسة للخطاب القصصي، دون إغفالهم الترابط بين هذا المكون المنتقى كبؤرة، وباقي المكونات المصاحبة كحواش. غير أن هذا المسعى لم يكن ليتأتى بلوغه إلا من خلال النبش الدقيق في ثنايا العمل القصصي ذاته. فحين يظهر على سطح الحكاية، نوع من التركيز من لدن المؤلف، /القاص على هذا المكون أو ذاك، تتم عملية التتبع لخطى هذا المكون/المحورaxe داخل العمل الفني. ومن ثمة، يمكن توليد دلالات لا حصر لها، تعكس وتجسد الإحساس بما وراء النص... فهل الانطلاق من عنصر واحد من عناصر الخطاب القصصي كاف وشاف لتقويم عمل أدبي إبداعي ما ؟ وإلى أي مدى باستطاعة هذا المكون أن يعكس رؤية الكاتب وموقفه إزاء مختلف القضايا المطروحة ؟ وقبل هذا وذاك كيف تتبدى علاقة المكان بالكائن البشري عموما ؟ وما هي نوعية هذه العلاقة ؟ وكيف تتمظهر تصورات الإنسان لهذا المكان ككيان مادي، إذا سلمنا جدلا بالارتباط الوثيق والحميمي بينهما؟.. 1 / المكان والكائن البشري
    . شكل المكان ولا يزال، في حياة الإنسان علامة مضيئة تجعله يميز فيما بين الأشياء المادية التي تظهر على مستوى الملاحظة المباشرة، ومن هنا كان للمكان في مسيرة أي إنسان "قيمته الكبرى ورمزيته التي تشده إلى الأرض...فمنذ أن يكون نطفة يتخذ من رحم الأم مكانا يمارس فيه تكوينه البيولوجي والحياتي، حتى إذا حان المخاض وخرج هذا الجنين يشم أول نسمة للوجود الخارجي كان المهد هو المكان الذي تنفتح فيه مداركه وتنمو فيه حواسه،،(و) بعد المهد تتبلور الأبعاد المكانية للإنسان بصور أوضح في البيت والمدرسة والنادي والشارع، بل في البحر والجو أيضا في أحياز مكانية لا حصر لها، قد يكون القبر في الحقيقة هو النهاية أو المحطة الأخيرة لكل منها" .
    . يتبين من خلال هذا الالتصاق الحميمي بين الإنسان والمكان مدى الدور الهام الذي يقدمه هذا الأخير، بمختلف تجلياته في بلورة مفاهيم ومنظومات ذهنية لدى البشر، وتتشكل هذه المفاهيم –حسب يوري لوتمان- نتيجة محاولة الإنسان لتجسيد المجردات إلى ملموسات ومحسوسات وإخضاعه العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان ثم إضفاؤه، هذه الأخيرة عن طريق اللغة على المنظومات الذهنية، فمن بين هذه المفاهيم نجد: عال/منخفض- قريب/بعيد- سهل/ممتنع- يسار/يمين- مفتوح/مغلق- مفهوم/غامض- ...إلخ.
    . وإذا ما سايرنا هذا العنصر حتى النهاية، بحكم تأثيره في الإنسان، نجده يتخذ أبعادا ودلالات خاصة تتباين بتباين الشخصية البشرية وما تضفيه من قيمة على المساحة المكانية التي تقطنها، ومن ثمة نحصل على تمظهرات مكانية مختلفة تصنف في: أمكنة ضيقة وأخرى متسعة/ أمكنة فردية وأخرى جماعية/ أمكنة مرغوبة وأخرى مرفوضة/ ..إلخ. وهذا التنوع المكاني ما هو إلا إفراز مبدئي لمجموع التصورات التي يحملها الإنسان عن العوالم الفيزيقية والميتافيزيقية على قدم وساق.
    . ويمكن القول، تأسيسا على ما سبق، إن هوية المكان تمثل في النهاية جزءا من هوية الإنسان.
    . فماذا الآن عن المكان داخل العمل الفني؟ كيف تبدو تضاريسه؟ هل هو صورة مماثلة لما في الواقع أم يجاوزه فيتحول إلى رمز ودلالة؟..
    . 2 / المكان والعمل الفني
    . يعتبر المكان أحد العناصر الجوهرية التي تساهم في بناء النص القصصي إذ بدونه تتلاشى العناصر الأخرى وتنمحي ضرورة وتأتيه هذه الأهمية القصوى بحكم وظيفته التأطيرية للمساحة التي تقع فيها الأحداث.
    . إن فضاء المكان بهذا المعنى، يكتسي بعدا تشكيليا يجعل العين القصصية تستجيب له دون كبير عناء، لاكتفائها بالملاحظة والمشاهدة، وهي عملية سهلة ومغرية في آن، لأنها ترتبط أساسا بالإدراك الحسي، إذا ما قورنت بفضاء الزمان الذي يرتبط بالإدراك النفسي "ويشكل عقبة أمام النص ومثارا لحيرته وارتباكه بسبب دبيبه غير المسموع وغير الملموس" .
    . وبهذا المعنى، يتحول المكان إلى بعد جمالي من أبعاد النص السردي، لما يمنحه من إمكانية الغوص في أعماق البنية الخفية والمتخفية في أحشاء النص وأجوائه ورصد تفاعلاته وتناقضاته..
    . فما هي حدود العلاقة إذن بين المكان والزمان؟ متى يبتدئ الأول وأين ينتهي الثاني؟..
    . لا شك أن مسألة ارتباط الفضاءين شيء وارد لا سبيل لإنكاره أو تجاهله. فلا مكان بدون زمانه، لذا فالإحساس بفعالية المكان رهين بالإحساس بفعالية الزمان. هما بعبارة: وجهان لعملة واحدة. ومهما اختلفا أو تقاطعا، فهما يشكلان –مع باقي المكونات الأخرى- بنية قصصية تعكس رؤية المؤلف لعالمه.
    . ومن هنا نجد أنه "إذا كان الزمن يمثل الخط الذي تسير عليه الأحداث؛ فإن المكان يظهر على هذا الخط ويصاحبه ويحتويه" كما أنه في الوقت الذي يعتمد فيه الزمن على تقنية السرد في عرض الأحداث نجد بالمقابل تقنية الوصف تميز المكان في عرضه للأشياء، فالكاتب عندما يشرع في بناء عالمه الخاص يعمل على تأطير الشخصيات داخله ثم يسقط عليه عنصر الزمن، وهو في ذلك، يعتمد بالدرجة الأولى على اللغة، إذ بها يستطيع خلق عالم من الكلمات التي قد تماثل الواقع وقد تخالفه، تبعا لعملية التصوير الفني، ما دام عالم الواقع في الأعراف الأدبية يعد نقطة الانطلاق.
    . ومن هذا المنظار، يكتسب المكان بعدا واقعيا كلما كان أكثر التصاقا بعالم الواقع، وهنا نكون أمام تصوير فوتوغرافي ساذج لما في الواقع/الخارج؛ في حين أنه إذا اعتمد أثناء عملية نقل الواقع على عملية (المكر والاحتيال) كما عبر عنها نجيب محفوظ، فإن هذا المكان يكتسي بعدا رمزيا ودلاليا. بمعنى أن عملية نقل الواقع تقتضي ألا تكون مباشرة، تعتمد المحاكاة الحرفية في وصف الأشياء، وإنما الإشارة إليه فقط، وخلف صور مجازية له.
    . إنه بعبارة جامعة: بناء عالم له كيانه الفني الخاص يميزه عن غيره.
    . ونمضي مع الناقدة سيزا قاسم حين تؤكد أن "ما يهمنا هو التفرقة بين الوصف التصنيفي الذي يحاول تجسيد الشيء بكل حذافيره بعيدا عن المتلقي أو إحساسه بهذا الشيء، والوصف التعبيري الذي يتناول وقع الشيء والإحساس الذي يثيره هذا الشيء في نفس الذي يتلقاه، أما الأول فيلجأ إلى الاستقصاء والاستنفاذ بينما يلجأ الثاني إلى الإيحاء والتلميح" .
    . ننتقل بعد هذا العرض الماكروسكوبي للمكان إلى تقديم بعض الإنجازات النقدية التي تناولت هذا الجانب بدءا من تصورها النظري لهذا المكون، ومرورا بعلاقة هذا الأخير بمصطلح الفضاء وانتهاء بالكشف عن حضوره أو غيابه في العمل الأدبي الإبداعي.
    . 3 / المكان والمفهوم النظري
    . رغم ندرة الإنجازات النقدية المتعلقة بالمكان، فإنها تركز على أهمية هذا العنصر وتعتبره عنصرا شكليا وتشكيليا من عناصر العمل الفني، وليس فقط مجرد خلفية تقع فيها الأحداث المروية...
    . من هذا الإحساس العميق، عالج الكتاب والنقاد مشكلة المكان بطرق فنية مختلفة تنم عن اختلاف في الرؤى والمناهج وبالتالي في خلاصة النتائج، إلا أن هذا الاختلاف الطبيعي، على كل حال لا يمنعنا من تتبع بعض التصورات النظرية التي حددت المكان كمفهوم له كيانه المستقل. فنجد مثلا عند الناقدة سامية أسعد مفهوم المكان يتخذ أهمية خاصة في القصة القصيرة "لأن هذه القصة تعتمد على التركيز في كل شيء لاسيما وصف مسرح الحدث أو الأحداث، ومن تم يتحتم على الكاتب أن يحسن اختياره وأن يصفه بإيجاز بقدر الإمكان، وأن يبرز سماته الأساسية المرتبطة بالقصة ككل" .
    . ما نستنتجه من هذا الكلام أن المكان كيان مادي يشكل طرفا هاما من التاريخ الخاص للعمل الأدبي، وأهمية هذا المكون لا تتأتى إلا إذا روعي في العمل الإبداعي اكتمال الشخوص وإبراز الحدث وتكامل مقومات الأسلوب بشكل عام. فالمكان حسب الناقدة -فقد خصوبته إذا لم يقدم بطريقة فنية تكشف عن عمقه ودلالته ورمزيته، وبالتالي يتحول إلى مجرد قعقعة وفرقعة في الفضاء !
    . ولا غرو في أن الإشكال في تحديد نوعية المكان ناتج عن تداخل عدة مفاهيم تخص تقنين مفهوم هذا العنصر في مجموعة من السمات المحددة.
    . وفي خضم هذا الإشكال النظري، يصادفنا إشكال آخر يتجلى في إشكال العلاقة بين الواقع والمكان. فهناك من يرى أن المكان في الفن يجب أن يعكس بالضرورة ما هو موجود في العالم الخارجي، وهناك من يرى أن ما يجب أن يحتويه المكان هو فقط درجة من المتشابهات مع المكان على الأرض؛ بل ثمة من نحا نحوا آخر حين جعل من حق الفنان أن يبتعد عن المتشابهات وعن كل ما يشير إلى مصدر مكاني خارجي. وانطلاقا من المعنى الأخير، يصبح المكان في القصة القصيرة مكانا خياليا "يتخذ أشكالا عدة وهو على علاقة وثيقة بالشخصيات التي تؤمه وتسكنه والعلامات التي يحملها تدل على الشخصية، سماتها ومهنتها وانتماؤها الاجتماعي وسلوكها" . ولعل هذا ما ينسجم مع الرومانسية الفرنسية حين تميل إلى إضفاء (طابع محلي) على المكان وتميل في الوقت نفسه إلى حذف كل ما يمكن أن يحدد هذا المكان، بحيث يغدو عند توظيفه رمزا خياليا.
    . ونشير في هذا السياق إلى أنه إذا كان المكان، كمفهوم يبتعد عن الواقع؛ فإن المكان في العمل الفني يبتعد هو الآخر عن المكان في الأرض. ولكن برغم هذا الاختلاف الوارد بفعل الشروط الموضوعية التي يوجد فيها كلا المكانين؛ فإن العلاقة تبدو وشيجة بين الاثنين.
    . هذه الإشكالات النظرية المطروحة ليست هي الوحيدة ضمن مجموع ما كتب عن عنصر المكان، فثمة طرح من نوع آخر يتعلق بجدلية المغلق والمنفتح في المكان، وكذا الداخل والخارج خاصة عند غاستون باشلار حين يشير إلي أن "الداخل والخارج يشكلان جدلية التمزيق، كما أن الهندسة الواضحة لهذه الجدلية، تبهرنا لدى توظيفنا لها في الحقول المجازية (أي الاستعارية). إنها تمتلك صرامة جد واضحة بخصوص جدل "النعم" و "اللا" الذي يقرر في كل الحالات" .
    . وهذا الموقف الباشلاري نجد نظيرا له عند سامية أسعد حين ترى هي الأخرى وبصيغة مخالفة فقط، أن "المكان هو ذلك الحد الفاصل بين الشعور واللاشعور، والداخل والخارج والفصل بين المشاهد التي تروي التجربة الذاتية والمشاهد التي تروي تجربة الآخرين" .
    . ونستشف من خلال ما تقدم، أن انغلاق المكان أو انفتاحه يحيل إلى معناه الرمزي المستمد طبعا من تصورات الإنسان ومفاهيمه الذهنية. فضيق المكان مثلا، يرمز إلى القيود والاختلاف؛ في حين أن انفتاحه رمز للحرية والانطلاق. وغالبا ما توجد العلاقة بين المكانين على اختلاف أوضاعهما.
    . وفي نفس الإطار، قد نجد من ربط بين المكان والوطن باعتباره يحيل على حدث تاريخي ما، وعلى تشكيلية اجتماعية تعطي انطباعا وطنيا. وهذا ما ذهب إليه الناقد ياسين النصير ؛ بل نجد من حاول تقسيم المكان إلى موضوعي ومفترض وأحادي البعد، وقد نستبين دلالة هذه الأمكنة من خلال المصطلح نفسه. فالموضوعي ما اكتفى بما يماثله في الحياة اجتماعيا وواقعيا، والمفترض ما استند على المخيلة واتسم بعدم الوضوح. أما ذو البعد الأحادي فهو ما اكتفى بإبراز قيمة واحدة فقط كيفما كان نوعها.
    . وهكذا نصل في النهاية إلى الخلاصة التالية مجسدة في هذه الترسيمة:
    . ضيق
    . انعكاس الواقع
    . سطحي
    . المكان
    . واقعي
    . جزء من البناء الفني
    . رمزي
    . 4 / المكان ومصطلح الفضاء: espace
    . لسنا في حاجة إلى إثبات العلاقة القائمة التي تربط مصطلح المكان بمصطلح الفضاء، كما ورد في النقد الأوروبي الحديث.
    . ومع ذلك فلنتوقف برهة عند هذا المصطلح. فإذا كان الفضاء لغة يعني: المكان الواسع من الأرض؛ فإنه في الاصطلاح "الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعا لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب" .
    .
    . من هنا ندرك مدى شمولية الفضاء واتساعه، إن لم نقل قدرته على احتواء عالم مليء بالأسرار الملغزة وبالأشياء المتعددة التي لا حصر لها.
    . والفضاء بهذا المعنى، ليس مجرد إشارة إلى المكان فحسب كما يتمثل في الواقع الخارجي وإنما يجاوزه ليصبح ذا بعد رمزي يعكس مفهوما نظريا أو فلسفيا داخل العمل الفني، إلا أن القضية التي تطرح في هذا السياق- والتي سبق أن لمحنا إليها فيما سلف- تتمثل في إمكانية الحديث عن الفضاء بمعزل عن الزمن كما دعت إلى ذلك نظرية علماء الطبيعية في القرنين الثامن والتاسع عشر؟
    . معالجة لهذه المسألة توصل باختين إلى صياغة مصطلح إجرائي سماه كرونوطوب chronotope اقتناعا منه باستحالة تصور أحدهما دون الآخر، وهذا المصطلح (الزمكان) "يعين الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقاته مع الحقيقة، كما يتضمن أيضا وباستمرار مكونا أساسيا، بحيث لا يمكن عزله عن مجموعة "الكرونوطوب" الأدبي إلا بتحليل تجريدي...ذلك أن الفن والأدب مشبعان بالقيم الكرونطبية في مختلف الدرجات والأبعاد، وكل باعث أو مكون أساسي في أي عمل فني ينبغي أن يقدم مثلما تقدم أي قيمة من قيمه" .
    . وفي نفس المضمار دائما، نجد أنه إذا كانت الناقدة يمنى العيد حين تنظر في زمن القص التخيلي ترى "أن طبيعة زمن الوقائع (المتعدد الأبعاد) تدعو زمن القص(الأحادي) ليمارس لعبته،،،أي ليمارس فعل الإيهام بعدم أحاديته أي بواقعيته" ؛ فإن رولان بارث يرى أن "الزمنية ليست سوى مستوى بنيوي من مستويات السرد(أي الخطاب) ومثلما هو الشأن في اللغة، فالزمن لا يوجد سوى في شكل نسق، وما نسميه من وجهة نظر السرد بالزمن لا وجود له أولا يوجد على الأقل إلا وظيفيا، أي باعتباره عنصرا من عناصر نظام سيميائي: إن الزمن لا ينتمي إلى الخطاب بمفهومه الضيق، وإنما ينتمي إلى المرجع، فالسرد واللغة لا يعرفان سوى زمن سيميولوجي، أما الزمن "الحقيقي" فهو وهم مرجعي أو "واقعي" .
    . يتأكد لنا من خلال مختلف هذه المواقف، أن الحضور الزمني لا يقل أهمية عن الحضور المكاني في السرد، وإذا ما تم التركيز في العمل القصصي على عنصر المكان؛ فإن هذا لا يعني إطلاقا تجريد هذا العنصر من قيمته المادية والرمزية.
    . فالاقتصار على هذا العنصر أو ذاك ليس بالضرورة إهمالا وإغفالا لباقي المقومات الأخرى، التي ينبني عليها العمل الأدبي في جانبه الكحائي.
    . ولعل إمكانية ملامسة "المكان" كمكون من مكونات العمل السردي والنظر في طريقة انفعال وتفاعل المبدع به ومعه في آن، رهين باختيار عمل قصصي ما قصد استجلاء واستخبار ما تم عرضه من تصورات نظرية ومفاهيم إجرائية حول هذا المكون الجمالي.
    . لعل ذلك مشروع بحث قادم...
    . الـــــــــهـــــــــوامــــــش
    . * نشرت هذه الدراسة بمجلة عمان. عدد 129 مارس 2006
    . - أحمد طاهر حسنين/ المكان في النحو العربي/ مجلة عيون المقالات/ عدد8 السنة1987/ ص:5
    . - نجيب العوفي/ مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية/ المركز الثقافي العربي/1987/ ص:149-150
    . - سيزا قاسم/ بناء الرواية/ دار التنوير للطباعة والنشر/ 1985/ ص: 102
    . - م.س/ ص: 109
    . - سامية أسعد/ القصة القصيرة وقضية المكان/ مجلة فصول/ المجلد2 العدد4 السنة1982
    . - م.س/ ص: 109
    . - غاشتون باشلار/ جماليات المكان/ ترجمة غالب هلسا/ المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع/ ص: 191 - سامية أسعد/ م.س/ ص: 191
    . - ياسين النصر/ الرواية والمكان/ الموسوعة الصغيرة/ العدد57/ ص: 125
    . - منيب البوريمي/ الفضاء الروائي في الغربة في الغربة/ سلسلة دراسات تحليلية/ دار النشر المغربية 1984/ ص: 21
    . - ميخائيل باختين/ Esthétique du Roman / ص: 384
    . - يمنى العيد/ القصة القصيرة والأسئلة الأولى/ مجلة آفاق المغربية/ العدد12 السنة 1983/ ص: 12
    . - رولان بارث/ التحليل البنيوي للسرد/ ترجمة بحراوي-قمري-عقار/ مجلة آفاق المغربية/ العدد8 السنة1988/ ص:16

    .

    http://www.thkafa.com/modules.php?name=News&file=articl...d&order=0&thold=0[/B]
                  

07-18-2006, 00:22 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)



    الجبل والرمل والشجر والماء أبرز عناصرها
    مفردات المكان لدى شعراء من الإمارات
    تحوّلات الأمكنة الجاذبة والسوريالية ايقظت خيال الشعراء


    إن أي مقاربة للمكان في الأدب والفن، هي مقاربة لمجموعة من العلاقات التي تربط هذا الفن بالمكان الذي يتناوله ربطاً وجودياً وعضوياً، وهي مقاربة لتفاصيل هذه العلاقات ومفرداتها وما ينجم عنها من تحولات في طرفي العلاقة، في الإنسان وفي المكان، وتأثير كل منهما في الآخر وتأثره به، سلباً وإيجاباً. ولعل هذه العلاقات قد درست في الأدب العالمي على نحو يكشف عن عمقها وعمق تأثيراتها، لكنها في الأدب العربي لا تزال أرضاً بكراً لم يطرقها بذلك العمق سوى قلة قليلة من النقاد والمفكرين العرب. وربما كانت المقدمة التي كتبها غالب هلسا ليقدم بها لترجمته لكتاب غاستون باشلار “جماليات المكان”، هي الأشهر في هذا المجال، مع أنها كانت مجرد مقدمة لكتاب مترجم، إذ بعدها بدأ النقاد العرب ينتبهون إلى أهمية المكان في الأدب.
    والمكان في الشعر غيره في الأدب والفنون الأخرى، غيره في الرواية مثلاً حيث المكان واقعي غالباً، بينما لا يمكن للبحر في الشعر أن يكون هو البحر في الرواية، ففي حين تعتمد الرواية والنثر عموماً على السرد الوصفي والتذكر، يقوم الشعر بتفعيل طاقة التخييل لتحويل عملية التذكر إلى مزيج من الذكريات المتخيلة أو التخيلات المتذكرة، هذا المزج الذي سينتج لنا مادة من الصور والغرائب التي تحيل إلى الواقع لكنها لا تقوله ولا تعيد نسخه وتصويره، مادة روحانية ونورانية وأثيرية شفيفة بدلاً من تلك المادة الصلبة التي نجدها في الكتابة النثرية. وما قيل عن صور البحر ينطبق على البيت والجبل والشجرة والصحراء وسواها من العناصر التي تجسد المكان في صورة من الصور.
    هذه القراءة الأولية لنماذج من الشعر الجديد في الإمارات، هي محاولة لاستقراء صور من المكان المحلي وعناصره كما تبدو في النماذج المقروءة، وهي محاولة كانت تحتاج لمزيد من الوقت والجهد لتكون أعمق، لكن القراءات الصحافية تظل تراوح بين الجدية والعمق من جهة، وبين السرعة التي يتطلبها العمل للخروج بنتائج أولية مهما كان الموضوع المطروح. الأمر الذي يجعل من أي قراءة موسعة ومعمقة مشروعاً مؤجلاً.

    عمر شبانة

    نقرأ في هذه الوقفة ما تيسر بين أيدينا من مجموعات شعرية، قراءة تستند إلى نماذج سبق وقمنا بمعاينتها كتجارب شعرية، كما هي الحال مع تجربة كل من عبدالعزيز جاسم وصالحة غابش وأحمد العسم، وإلى الذهاب نحو نماذج أخرى جديدة، مسلطين النظر خصوصاً على المكان وعناصره لدى كل شاعر من الشعراء الذين قرأناهم، نقرأ المكان في صوره المختلفة والمكان في تحولاته، كما نقرأ الإنسان في هذا المكان، لتكتمل دائرة العلاقة بين المكان والإنسان عبر الزمان. فالمكان كما يبدو لنا هنا ليس جغرافية يمر بها الإنسان مرور الكرام، بل هو ما يصنعه الإنسان وما تفعله الطبيعة عبر زمن محدد أو زمن مفتوح، وهو فعل التأثيث الذي يقوم به الإنسان تجاه هذا المكان أو ذاك، في هذا الزمن أو ذاك. الأمر الذي يتضح من خلال تناول المكان عبر أجيال متتالية وأزمنة متعاقبة والتحولات التي طرأت عليه.
    هذه إذاً قراءة أفقية في صور المكان في قصائد لكل من عبدالعزيز جاسم، صالحة غابش، أحمد العسم، خالد البدور، أحمد راشد ثاني، ثاني السويدي، إبراهيم الملا، خلود المعلا، وهدى الزرعوني. وهي قراءة لا تدعي الإلمام بكل ما كتب هؤلاء، بل بما تيسر من كتاباتهم، أو بنماذج منها، فالدراسة الشاملة والمعمقة تتطلب وقتاً وجهداً آخرين، لكننا هنا نمهد المشهد لمثل هذه الدراسة.
    المطلع على عوالم عبدالعزيز جاسم، وخصوصاً صور المكان عنده، يجد خصوصية المكان المتعين في البحر ومفرداته الكثيرة . فالبحر في شعره شديد الحضور ومتعدده، ما بين بحر واقعي مرفوع بدرجة من التخييل وبحر فانتازي بأبعاد فلسفية ووجودية عميقة. فهو في كل أحواله ليس بحراً عادياً، وليس البحر الذي نعرف. لذا سنحاول التعرف الى ملامح هذا البحر ومعالمه الأساسية، ربما من خلال صورة هنا وأخرى هناك، أو عبر الإيحاءات والإحالات التي تمنحنا إياها القصيدة، كما تبدو أولاً في مجموعته “لا لزوم لي”، وثانياً في قصيدة مطولة بعنوان “ديك العدم”، وكما يبدو ثالثاً في كتابه “مجهول البحر ومعلومه”.
    وبقدر ما يذهب الشعر إلى الراهن والحقيقي، يذهب نحو الماضي والذاكرة، فيترك الشاعر لأصابعه أن “تلعب، ببطء، في أحواض الطفولة/ ومياه السديم”. لتبدو الطفولة أحد ينابيع شاعرية الشاعر، بل هي بحر بأحواض متعددة ذات أبعاد تتصل بالعالم العلوي.. العالم الذي يبدو في قصائد أخرى مشتملاً على مواقع الشياطين كما يشتمل على الأخاديد السحيقة.
    هي رحلة ساحرة في عالم مسحور. فعالم البحر كما صورته لنا الأدبيات القديمة عالم يحتشد بالأساطير والحكايات. عالم نطل عليه لنقرأ أسئلة كائن معذب بمأساة البشر والطير والحجر. أسئلة الفتى الذي ولد في حضن البحر وتربى على ركبتيه.. فكان البحر والده وصديقه وبيته الواسع. نقرأ:
    من أسكنكِ صدفة المنفى
    هياكل الدينصورات
    من أجلسك أنت والغربة وسلة الجروح
    على مقعد واحد
    وسط السفينة التي تبحر بي
    ثم ما هذا النزال الوحشي
    في عروق البحيرة
    هي بعض أسئلة البحار أو ابن البحر الذي يعرفه ويألفه، ومع ذلك فهو يبقى في حال صراع وتواؤم، انسجام واختلاف. يقف على الحافة ليسأل أسئلة البحر التي هي من أسئلة الوجود والجوهر لا من أسئلة المعيش واليومي. أسئلة عن كيفية اجتياز تلاطمات البحر والوصول إلى الضفاف الأخرى والبعيدة؟ وأسئلة عن الوسيلة التي تجعل ابن البحر يطفو على الماء ولا يغرق؟ وعن سبل الوصول وكيفية معرفة الاتجاهات وتمييز الاتجاه الصحيح للإبحار..الخ. (مجهول البحر ومعلومه، رموز البحر وأبجدياته).
    بيت البحار سفينته

    وفي البحر مساكن ومعابر لبيوت الخشب، البيوت المبحرة في محيطات ومجاهل بعيدة. يكتب بودلير عن حركة السفينة “الفكرة الشعرية التي تشع من عملية الحركة داخل خطوط، هي فرضية أولية لكائن شاسع وهائل، معقد، لكنه منسجم الإيقاع. حيوان ذو عبقرية يعاني ويتنهد كل التنهيدات. وكل طموح إنساني” .
    ويعلق باشلار على الاتساع والواسع بالقول: إن كل واسع “يجسد ميلاً نحو ما هو رائع.. لو أننا أحصينا مختلف الاستعمالات البودليرية لهذه الكلمة، فسوف نجد أن استعمالها الموضوعي نادر، في حين تكثر الاستعمالات التي تضفي على هذه الكلمة أصداء أليفة”.
    إن مجرد الربط بين البيت والسفينة، يحيلنا في الشعر إلى الألفة التي يشعر بها البحار تجاه سفينته، وهي الألفة نفسها التي تقوم بين البيت وساكنه. والبحر يمكن أن يكون مدينة لها حاراتها وشوارعها وربما أزقتها وكل ما يمكن ألا تقوم المدينة من دونه، وحارات البحر قد تكون الأكثر شراسة وقسوة حين يرتادها الفتى المشاكس، ابن الساحل المولود على ظهر سفينة قادمة من البعيد، أو مسافرة نحو الأبعد. والولد المشاكس قد يبيع أي شيء للمسافرين كما لسكان المدينة:
    “أغطس، كضرس الأبدية، في المياه العميقة
    وحيداً مع شعلتي، كنت أرود حارات البحر
    وأبيع ضوئي للأسماك وعظام الغرقى
    وكنت أقف على الصواري المرجانية مشتملاً بعلتي
    وأخطب فيهم بعيوني”
    ونذهب مع عبدالعزيز جاسم صوب بيته، البيت الذي ليس سوى ذكرى بيت متخيل، بيت يأتي من الذاكرة وتصوغ المخيلة شكله ليراه الشاعر “مائلاً عند حدبة الشط/ ناصعاً مثل شبهة”، ونتنقل معه في جوار البيت البحري، فنرى القاع، قاع المدينة ربما أو قاع العالم، القاع الذي “وحده يدرك قيمة السقوط”، كما نرى “أن البئر الثلجية سريره الأوحد”، ونسمعه يتمنى “لو أن بدائيين يطاردونه في الأحراش/ لو أنه يمر في الأسواق سائقاً عربة مليئة بالإهانات”. ونمضي معه فنجد الينابيع في حال يشبه “المطهر” الذي يلج فيه الفيلسوف الأبكم كما يراه الشاعر في قوله “أتقرفص كمارق أصغى للعذريين كثيراً لكنه أدرك بعد انقلاب خلايا النحل أن العفاف قد جهر به فيلسوف أبكم رآه في صالة.. ينزع جلده بشراسة ويلج في الينبوع كالحبّار”.
    أما بيت الشاعر وغرفته، فيتخذان صوراً موحشة على عكس البيت عند كثير من الشعراء، لذا فهو لا يسمي مكان سكنه بيتاً بل مسكناً “عندما أفتح غرفتي كرجل مصاب بالسل - أشاهد: صرة من أسنان منبوذين ماتوا وهم يجرجرون قارة مائلة من شعرها، ورغيفاً يمر النمل عنه بعيدا/ حين أعود إلى مسكني من دون هدف، يغمرني الإحباط وينفلت من صلبي القيظ. أرى حصاناً جريحاً في حظيرة بلا سقف”.
    حتى الأرض نفسها تأخذ لدى عبدالعزيز صورة “مكان لإجراء قداس دموي”، وهو تعبير عن وعي وجودي رافض للكون يتسرب شعرياً في قصيدته، ويتكرر في صور متعددة، لكن منبتها هو هذا الموقف الوجودي. ومن الذاكرة تحضر صورة الفتى يرى “في رأس الوادي: عصابة من الصبية قد حفروا طويلاً تحت معبدمعتم/ فهوى بأكمله في أخدود سحيق وسمعوا ارتطامه”، أو صورته يرى رأس صاحبه “مرميّاً عند قارب مهشم”، في ما يحيل إلى عالم البحر والبحارة.
    هذه هي أبرز ملامح المكان في تجربة عبدالعزيز، وهي ملامح مكان قاس وغير أليف وغير قابل للتآلف معه، ما يبرر ذهاب الشاعر لكتابة كتابه عن معلوم البحر ومجهوله، ليقول لنا إن هذا العالم الذي هو عالمه شديد القسوة، ولخبر بأن الوجود غير طبيعي ومخرب وبائس. وبأن أمكنة الطفولة لم تكن حميمة ولا دافئة، وذكرياتها هي ذكريات البؤس والعنف..الخ.
    أمكنة الداخل والخارج

    يحتفي الشاعر خالد البدور بالمكان على نحو مختلف، سواء على صعيد استدعاء المكان الآخر، الغريب، أو الأجنبي والأوروبي، أو على مستوى تناول المكان المحلي وتفاصيله. ولعل ظاهرة الكتابة عن المكان الآخر تبرز في شعر الخليج عموماً والشعر في الإمارات لتظهر مدى عشق الشعراء للسفر، وعشق التجوال في المدن البعيدة كحال شعرية وثقافية، وليس كحالة سياحية. ومن أبرز ما يواجهنا في مجموعة خالد البدور الأخيرة “شتاء”، في ما يخص صور تلك الأمكنة هو كتابة التفاصيل الصغيرة لتلك الأمكنة، يقول في قصيدة “أحجار” التي كتبت بعد رحلة أمريكية:
    أعرف أنك تفكرين في الأحجار
    تلك التي جمعتِها
    من مجرى النهر البارد
    في (تينيسي)
    والتي عليك تركها خلفك عند الرحيل
    فالأحجار ليست سوى وسيلة لاستدعاء المكان، النهر البارد الذي يظل ذكرى عزيزة في رحلة الشاعر. وهو من الأمكنة التي تحضر في سياق ما يدعى بأدب الرحلات، وعلى نحو مختلف تحضر إشبيلية عبر مئذنة تحيل إلى حنين ما، الحنين لتاريخ كانت إشبيلية فيه ترتبط بحضارة الشاعر.
    المكان المحلي يحضر في قصائد البدور في صور وأشكال عدة، أبرزها ما تأتي به الذكريات ويمتزج بالمتخيل. يحضر أكثر ما يحضر البيت بتفاصيله وشرفاته وأبوابه، وهو غالباً بيت لعاشقين وعلاقات، ونادراً ما يأتي من الطفولة وعالمها مثلاً “أزداد حنيناً كلما توقفت بشرفتي الطيور../ كلما تساقطت السنوات من نافذتنا/ تغدين عذبة/ كشاطئ صيفي”. ما يحيل إلى علاقة بالطفولة لا تنتج حنيناً أو تشوقاً رومانسياً، بل نظرة دائمة إلى المستقبل، فها هو يستحضر صورة من صور الذاكرة الطفولية ربما، لأن هذه الصورة صارت نادرة في واقع البلاد اليوم، حيث يحضر “بدو مجهولون” ونقرأ: قبل أن تتسلق الشمس جدران البيوت الطينية/ عاد بدو مجهولون/ بعدما باعوا اللبن والعسل/ في سوق المدينة/ كي يستريحوا في أحلامي/ الباحة الرملية مستلقية في الضباب/ وضفائر النخلة / تتأرجح متناومة/ منصتة/ لصوت تدفق الماء/ بجوف البئر”.
    ويحضر الماضي متداخلاً مع الراهن، والقديم متمازجاً مع الجديد يأتي “صوت هاون القهوة” متداخلاً مع “التلفزيون”، ويسترجع الشاعر ما يقارب القرن حين يبدأ الجد “موسم إبحاره”، وحيث “الرجال يشدون كل الحبال/ فتنحني الصارية/ وتملأ الريح ذاك الشراع/ عويل بحارة لم يعودوا/ وجوههم تنظر إلي من وراء السنين/ وأنا أجهل أسماءهم”. وتحضر صور بالأبيض والأسود “لرجال السواحل السمر”. وتحضر صراعات الإنسان بين القرية والمدينة، فهذا هو الشاعر يرى كيف “تعود قوارب الصيد من البحر/ نحو الخليج/ يسمعها فيرفع بصره/ وحين تمر/ يتمزق ضوء المدينة/ على صفحة الماء”، والذي يتمزق هنا ليس ضوء المدينة، بل ذات الشخص التي تتوزع بين ماض لم يمض وراهن لا يتواءم معه، ويغترب فيه. فهنا ثمة نمط حياة يغترب فيه الإنسان عن أقرب الناس إليه، هنا “بناية غريبة/ في شارع جديد/ وبقربي جيران لا أعرفهم/ يتوقف المصعد في الدور الأول/ ثم يواصل صعوده/ وأهبط”.
    كما يلتفت الشاعر إلى كائنات الطبيعة، فيقيم حواراً معها عبر حضورها المميز، فنرى قرب ماء البحر الكائنات التي تأخذ مكانها تحت الرمال نرى “القواقع تتقلب في لذة/ والحلزون حاملاً بيته فوق ظهره/ يصارع كي يصل البحر”. ونرى في باحة البيت “النخلة الأقدم من الأسلاف/ النخلة الحكيمة/ ما زالت تصعد”، ولكن أين هو ذلك البيت اليوم؟ كما تحضر عناصر أخرى من الطبيعة تتمثل في الأمواج والعواصف، ففي “منزل معتزل/ قرب الساحل/ يندفع الموج هازاً الأركان/ تحت فضاء أسود/ حيث العواصف تعوي/ في شقوق الجدار”.
    الأمكنة الجاذبة والطاردة

    بالانتقال إلى الشاعرة صالحة غابش، نرى أن قصيدتها تُظهر مدى غناها بالأمكنة، وهي في الغالب الأمكنة المغلقة والضيقة والمحصورة بين الجدران والحواجز ووراء السواتر. أمكنة تبدو انعكاسات لرغبة عالية في الابتعاد والاعتكاف والاعتزال. ومن المعروف أن الأمكنة المغلقة هي تعبير عن مثل هذه الرغبة. ويستطيع قارئ قصائد صالحة أن يجد التمثيلات المتعددة لرغبتها في الهروب من العالم الذي فقد براءته.
    مقهى المهزومين، ردهات المدن المعزولة، هضاب الرؤية، خريطة المتاه، سواحل الفراغ، المغاصات، أحراش الشتاء، أمواج الألق، كثبان الصحراء، بيوت مهجورة، غابة قلقة، مدينة تعيش البحر، زجاجة القصيدة الخانقة، عرش العفة، حدائق، منابر، ظلال الشجر، القرية، القدس، النوافذ المغلقة.. بلاط المتاهة/ القصر، اللؤلؤ المتمحور في امرأة/ شارقيّتها حلم يتمهل في أعين العابرين.. ارتجاف تحت نوافذ قصر/ تزوره حمى الهزيمة.. حافة الخوف.. الخ، هذه هي بعض عوالم قصيدة صالحة غابش وأمكنتها، منذ بداياتها في مجموعتها الأولى “بانتظار الشمس” (1992)، و”المرايا ليست هي” (1997)، حتى “الآن عرفت” (1999)، وصولاً إلى آخر قصيدة في مجموعتها الرابعة “بمن يا بثين تلوذين؟” (2002).
    وتنقسم العوالم/ الأمكنة الخاصة هنا قسمين رئيسين: عوالم الأمكنة الأليفة والحميمة، وهذه في الغالب تنتمي إلى قيم ومبادئ وأفكار سامية كما أنها تعبر عن هذه المبادئ والقيم والأفكار، فهي أمكنة الطفولة والبراءة، وليس بالضرورة طفولة الشاعرة، بل ربما طفولة العالم نفسه. وثمة عوالم تنتمي إلى مجموعة الأمكنة المرفوضة والنابذة والطاردة، وهي الأمكنة التي تجسد التحولات السالبة وتعبر عنها
    ليس حولي غير أكواخ الرمالِ
    وقفارات رحيل وزيارات الليالي
    وعيون خلف أحراش الشتاء
    كل درب في رحاها لقرى الدفء يضيع
    لم يباغتني النسيم
    رافعاً وجهي إلى بيت النجوم
    فأراك
    نستفتح بالغابات وما تنطوي عليه وما يدل عليها. وأول ما يقودنا إلى الغابة استعارة الأحراش للشتاء في قولها “عيون خلف أحراش الشتاء” التي تعبر فيها الشاعرة عن علاقة خاصة بالسماء وخالقها. وحيث تغيب الأشياء كلها في لحظة ولا يبقى سوى وجهه تعالى. ولكن لا شيء يحسم مستوى الرمزية في هذا النص الذي يحيل إلى الله، أو القوة العظمى المتخفية في ذات الخالق:
    غابتي
    لك هيأت أشجارها
    وعصافيرها
    ومسافات ماء تسير بمجهول أقدامها..
    وتمتزج في قصائد الشاعرة صور الكثبان العطشى بمشاهد الحقول النائمة والمواسم المختبئات وراء التلال، وتحضر من الذاكرة المتأرجحة رائحة الشتاء والموقد والمهرة والسائس والبيوت المهجورة سوى من الغبار، وتفوح رائحة الطين في الحقول البعيدة. وتحضر ذكريات دهشة السفر البحري وحلم الأزرق المفتوح على المجهول عمقاً واتساعاً، لتنتهي الرؤى عند المقولة الكبرى في سياق الغربة.
    وفي الرحلة من بيت النجوم، إلى بيت النوارس، حتى بيت الشِعر الذي تبنيه الشاعرة “ليسكنه الفقراء”، وصولاً إلى البيت الذي “تسكنه شاعرتان توّهتهما قليلاً أرجوحة الذاكرة القديمة”، وليس انتهاء بتلك البيوت المهجورة إلا من الغبار. ثمة الكثير من الصور التي تحيل إلى بيوت أليفة مرغوبة ومشتهاة، بيوت ربما كانت هي الفردوس المفقود الذي تهجس به شاعرة تشتهي أن تختلي بنجومها ونوارسها وصلوات عشقها العلويّ النقيّ المتعفف عن الدنيوي.
    هناك أمكنة أخرى تحضر في شعر صالحة، ولكنها ليست على القدر نفسه من الحضور الذي تمتلكه الأمكنة السالفة الذكر. ف”الفضاء” مكان من الأمكنة التي تمتلك حضوراً ما في القصيدة، وهو ليس الفضاء المخصص للطيور الطليقة، بل هو فضاء الشاعرة و”بطلة” قصيدتها. فضاء عرفته القصيدة وعاينت ملامحه وأبعاده كي تحيلنا إلى سفر ما، حتى لو كان سفراً “في غابتك القلقة”. حيث الغابة فضاء نفسي ومعنوي ينفتح على دلالات عدة كما ذكرت.
    وتبرز “الخيمة” كمكان آخر، نقيض البيت في أشياء وشبيهته في أمور أيضاً، وهي تحضر في صور متعددة من الماضي المبتعد بقسوة، وتجيء بدلالات كثيرة، وتمنح ظلالاً مختلطة للأشياء:
    من أين جئت؟
    كيف مزقت يداك “خيمتي”؟
    فالخيمة الممزقة ليست أقل من صورة من صور الذات التي سكنت هذه الخيمة، وشكلت الخيمة جزءاً من ذكرياتها، وهي شوق إلى ماض لم يمضِ تماماً، بل هو عالق في الذات وأعماقها، هذه الذات التي ترفض المدينة والعصر وتتشوق لخيمتها. تقول امرأة القصيدة: لعلني أنظم فوق خيمتي التي استبحتها
    ستائر الرجز وموقدي المحفوف بالشتاء ينتظر
    ان تنحني خطوتاك عن مسار القافلة
    يا حادي الرحيل
    ما زلت قرب موقد الشتاء انتظر.
    الوعي بطبيعة المكان

    * أحمد العسم شاعر يكتب، كما يقول ثاني السويدي، “عن الصباحات الهادئة المطلة على بحر جلفار تحتم عليه دائماً أن يذهب إلى الآخرين بقلبه، رمّال جلفار يغير شكل الماء بعكس ما هو غالب في الطبيعة”. وللعسم علاقة حميمة كما يبدو بهذا المكان، علاقة هي أساس من الأسس التي تقوم عليها شعرية قصيدة العسم، وهي أساس قائم على وعي حاد بطبيعة المكان وما ينتجه من أنماط الحياة والعلاقات بين البشر، لذا يتقدم الحقل ليكون سيد الأمكنة في القصيدة، فيما تبدو الأمكنة الأخرى أقل حضوراً. وليست شدة الحضور هذه مرتبطة بتكرار رسم العلاقة، بل بطريقة رسمها، وبالمشاعر التي تفيض عند ذكر هذا المكان أو ذاك. فعندما يذكر الشاعر الحقل والحياة فيه نشعر بفيض من العاطفة الشديدة الارتباط به. نشعر بمدى السعادة التي يشعر بها الشاعر/ الإنسان وهو يرسم هذه العلاقة الدافئة والحنون.
    وحين نقول الحقل، فهذا يحيل إلى الريف وما ينبثق منه من كائنات وعلاقات، فثمة همس الأشجار، وأحلام العصافير والجداول وبئر الماء والمساءات المشتعلة بدفء الحياة. وهذه عناصر تحتفي بها قصائد العسم وعباراته، فهو يطل من شرفة يقول عنها إنها تشبه نافذة القلب، وإذا كان القلب يفتح نافذته برحمة، فإن الشاعر لا يكتفي بوصف انفتاح القلب بالرحمة، بل يضيف إلى ذلك وصف الرحمة بأنها دافئة، مؤكداً هذه الصفة، لأن الرحمة والدفء لصيقان، ولأن العالم بات يفتقد إلى أي منهما:
    لا أدري
    يا حبيبي يا صغير
    كيف أتمم باقي الأسئلة
    وأنت تحدثني عن البيت
    وفنائه المطرز
    بتفاصيل الذكريات
    عن الغرف
    كيف استحمت
    وارتدت حلة التأثيث
    وثمة علاقة ساخنة بالبحر. وإذا كان البحر قد أخذ جد أحمد، لكنه يحب البحر، ويذكر أنه حين صدرت مجموعته الشعرية ذهب إلى البحر ورمى له نسخته بين الأمواج، وقال له: “اقرأني يا بحر، ودع أسماكك وحيتانك تتعرف إلي”، وهو أيضاً حين تضيق به الحال يذهب إلى البحر ويبكي متأملاً في أفقه البعيد وأسراره اللانهائية، فيشعر بطمأنينة تغمر جسده وروحه. وكان يرافق والده لاصطياد السمك من مركز المنار.
    تحولات الأمكنة والبشر

    تجربة الشاعر أحمد راشد ثاني كما تبدو في مجموعته الأخيرة “جلوس الصباح على البحر” تحتفي بالمكان على نحو مختلف عن تجارب الشعراء الآخرين، وربما كان لاهتماماته وكتاباته في مجال الأدب الشعبي والشفاهي دور في تطعيم قصيدته بعوالم شعبية، ليس مجرد تطعيم تلصيقي، بل إنه عالمه الذي يتحرك فيه حياتياً وشعرياً كما سنرى. فهو يغرف من عالم البؤس سواء أكان في القرية أم في المدينة، في البحر أم في الصحراء. يقول الشاعر ناظراً إلى التحولات التي أصابت العالم من حوله:
    اركض
    ولا تنظر وراءك
    فالسواحل لم تعد مثل التي بالأمس

    http://www.mafhoum.com/press7/202C36.htm[/B]
                  

07-18-2006, 10:00 AM

Amin Mahmoud Zorba
<aAmin Mahmoud Zorba
تاريخ التسجيل: 02-09-2005
مجموع المشاركات: 4578

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)

    هنا
    حين نتحرك من مكا ننا علينا اولاً أن نتعامل مع مفاتح الاضاءة قبل كل شيء قد لا يدرك ذلك اباذر الذي اشتكى من قلة ايام الاسبوع بشكل مختلف ومخل ببرامجه هو
    وايضاً حين اعود علىّ ان اتعامل مع ذات المفتاح لكي اتعامل مع اشيائي

    اوف لم يعد للاحتمال مكان
    فانا ادخل هنا واجلس اذا شاء ظرفي بذلك واتجاسر احياناً على زمتي فأطيل الجلوس
    لا مفر من
    ولكن كيف
    حتماً ساعود يوماً ما للمشاركة بشكل مختلف فاحفظوا لي مكاني بينكم

    زوربا العجوز
                  

07-18-2006, 10:02 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: Amin Mahmoud Zorba)

    زوربا العجوز
    مرحبا بك وبروحك الشابة المبدعة
    وفي انتظارك لتفي بوعدك حين قلت:
    Quote: حتماً ساعود يوماً ما للمشاركة بشكل مختلف فاحفظوا لي مكاني بينكم

    أرقد عافية
    المشاء
                  

07-20-2006, 00:52 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: شبه جزيرة الغياب (Re: osama elkhawad)


    أدناه اعداد لورقة مقدمة عن المكان عند بعض من قصاصي صعيد مصر:

    إبدالات المكان وتحولات الرؤية
    المكانان الجمالي والإبدالي في نماذج قصصية من صعيد مصر

    ورقة العمل المقدمة إلى المؤثمر الأدبي الثالث لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي 2002
    جمالات عبد اللطيف * خالد أبو النور * هند محمد عبد الرحمن * محمود الطهطاوي
    إعداد:
    علاء الدين رمضان
    ** المقدمة :
    تتنوع صور المكان واستخداماته لدى كتاب الصعيد ، نتيجة لعمق علاقتهم بالأمكنة ولخصوصية بيئاتهم المكانية في الصعيد ، تلك التي تركت في أدبهم آثاراً جلية ودفعت نتاجاتهم بمؤثرات ذات سلطة فارقة في تصنيف النصوص مكانياً ، فجاءت أعمالهم مصطبغة بخصوصية مكانهم الذي ينتمون إليه وأخص من هؤلاءِ ، الأجيالَ الأكبر سناً من المبدعين ، تلك السلطة المكانية التي تجاوزت أهل الصعيد وفرضت شروطها ووسمت بميسمها كتابات أدباء ليسوا من أبناء المكان كما هي الحال في كتابات ( يحيى حقي ) الذي نستطيع أن نصفه بأنه حبيس تجاربه في الصعيد .
    لقد تفاعل كتاب الصعيد مع الأمكنة تفاعلاً منتجاً تمخض عن عدد من الكتابات الموجهة ذات الفنية العالية في نتاج النص ومدلولاته من خلال مرآة الحيز المكاني الذي ارتبطت حياتهم به ، وقد ترك المكانُ في أعمالهم الأدبية سماته من خلال مؤثرات عميقة كان لها دورها المقدر في بناء الكاتب والمكتوب .
    وسوف تتناول هذه الدراسةُ المكانَ من خلال النماذج القصصية التي عمدتُ في جمعها إلى استخدام منهج أرجو أن يكون تبريره واضحاً لديكم هو المنهج الانتقائي : لدراسة القصة الفنية ذات الطابع غير التقليدي ، أو بمعنى أدق القصة بعد شيوع النظرية الجمالية وتطبيقاتها ووعي الكتاب بها ، ثم ملاحظتهم لأهمية المكان واختلاف رؤيتهم لأدواره التي يمكن أن يُسهم بها في تعميق طروحات النص الأدبي ؛ نستطيع إذن أن نرده إلى عشرين سنة ماضية بدءاً من نشر كتاب غاستون باشلار ( جمالية المكان ) للمرة الأولى مترجماً إلى العربية عام 1980م(1) ، لذلك أُقَسِّمُ نماذج الدراسة في داخل هذا النسيج الزمني ؛ ثم أنتقي من كل عقد كاتباً وكاتبة لديهما القدرة على الدلالة الكاملة والإنابة عن جيلهما ؛ فالكُتَّاب الشباب حتى الثلاثين من العمر تمثلهم الأديبة هند محمد عبد الرحمن والأديب خالد أبو النور ؛ وحتى الأربعين تمثلهم الأديبة جمالات عبد اللطيف و الأديب محمود رمضان محمد الطهطاوي .
    وأُشير منذ البدء إلى أن أهم ما يَمِيزُ تلك النماذج التي تخيرتها الدراسة أن كُتابها لم يكن المكان عندهم بمعزل عن بقية العناصر الأخرى ؛ بل جعلوه مرتبطا دائما ببقية العناصر المشكلة لنصوصهم ، لا سيما الشخصيات والزمان فاكتسب المكان أهميته من خلال حركة الشخصيات فيه ، أو حركته التي يمارسها على الأشخاص ، أما الزمان فهو عند الكاتب محمود الطهطاوي شديد الارتباط بالمكان ، حتى أنه يكاد يكون ملازما له في معظم الأحيان ؛ وقد استغل أدباء الدراسة الرمز في أعمالهم فأحسنوا توظيفه في التعبير عما يريدون من وقائع رمزية ورؤيوية غير مصرح بها على السطح النصي ، فقد جعل الكاتب ( خالد أبو النور ) من المكان الرمزي أداة للتعبير عن مشكلات إنسان البيئة الخاصة في مواجهة جمود بيئته وعدم قبولها للتفتح المعرفي ونبذ الخرافات ، بينما الأمر يأخذ عند الكاتبة ( جمالات عبد اللطيف ) بُعداً سياسياً واجتماعياً مما يجعل أعمالها إلى جانب أعمال ( خالد أبو النور ) تستعصي على القراءة العادية فهي تحتاج إلى قراءة متعمقة لسبر رموزها وكشف خباياها .

    ** المكانان القياسي والجمالي :
    ¬المكان جزء رئيس من مكونات الوعي البيئي لدى الكاتب ، بل إنه يتحول في بعض الأعمال الأدبية إلى بديل مقصود عن البيئة بأسرها ، وللأماكن أدوار متباينة تؤديها في الأعمال الأدبية ، يصل بعضها إلى مرحلة البطولة المطلقة وتَسَيُّد مسيرة الأحداث في العمل الأدبي(2) ؛ والمكان في السياق الأدبي له بُعْدُهُ الجمالي الذي لا يُقصد به الهيكل الموضعي أو الوصف الشكلي الخارجي للمكان ؛ فالمكان الموضعي لا يعني الأدباء في شيء إلا إذا كانت كتاباتهم مقالية راصدة ، وهي بالتبعية ليست من الفن في شيء ، أما المكان الأدبي داخل العمل فهو إسقاطاته ودوره وسلطته المشاركة في توجيه الأحداث والشخصيات ، وأثر المكان الموضعي في العناصر البيئية التي تعيش عليه . يقول غاستون باشلار : " لو أننا طولبنا بتعداد الأبواب التي أغلقناها والتي فتحناها ، وتلك التي نود أن نعيد فتحها ، فإنه يتوجب علينا أن نسرد قصة حياتنا بكاملها"(3)؛فذاكرة المكان هي ذاكرة الإنسان ؛ إذ يستطيع كل ابن مدينة أو قرية،أن يمشي في شوارع مدينته أو قريته ، ويتذكر ما كان ، وبالتأكيد سيحصد أشياء جميلة وشجية ليست سوى ذكريات المكان الذي يُعد الحافظ لها والمحفز على تذكرها ؛ لكنها أبداً ستظل محصورة في دائرة الذكرى ما لم يعيد نتاجها قلم واعٍ لديه القدرة على إعادة تقليب التربة وتفصيل خصائصها وفصل كل شبيه إلى شبيهه،وكل مخالف عن مخالفه.
    يرى ميخائيل باختين أن جوهر الرؤية الدرامية يكمن في رؤية الشخصية داخل المكان ، ويشير إلى أن ديستوفيسكي رأى تناقضات زمانه متجاورة في المكان لا في الزمان ؛ من هنا نبعت رؤية خالد أبو النور للمكان الذي يحمل جمهرة من التناقضات التي يرى أن عليه بوصفه كاتباً أن يُنَاوِئَها ويُقْصِيها من مشهدية بيئته قدر استطاعته ؛ فما كان في إمكانه إلا أن يصورها في أعماله على نحو يثير الحفيظة ضدها ويدعو إلى نبذها ، فالغفلة والتخلف يخيمان على قريته ( المكان وأهله ) ، وفي معظم كتاباته ، تتجلى الغفلة جاثمة على مشهدية القرية ، فالكاتب يعري الزيف ويكشف الواقع من خلال رأب القرائن المنفصلة ووضع الصور المكانية بعضها في مقابل بعض حتى ينجلي الأمر وتتجلى التناقضات ، فينير المعنى ؛ إذ أن هناك دائماً ما هو أخطر من العرض الحكائي والرصد الخارجي للتفاصيل اليومية في حياة المكان عند هذا الكاتب ؛ هناك الإنسان الذي كان موجوداً يوم كان الأمل في الخلاص موجوداً ؛ لذلك نجد أن وصف المكان عند خالد أبو النور يخضع لعملية الاختزال الانتقائي الدال بسبب ما يُعْنَى به الكاتب من توجيه الفنيات اللغوية داخل العمل واستخدامات الألفاظ ، ودلالاتها ، كما يعتني كذلك بفاعلية الرمز المكاني وتحولاته ؛ فبين ( المغيب ) ، و ( طبل الشيخ رشوان ) ، و ( في ذكرى سيدي المغني ) أكثر من وشيجة فكرية وفنية فكلها تسري في عروقها لغة واحدة تجسد نفرة الكاتب من الواقع الذي عايشه ويعايشه ورفضه للقرية التي هجرها المُخَلِّصُ يائساً ؛ وتظهر في النصوص المتاحة من كتابات الأديب ”خالد أبو النور“ أنها تجارب تنطلق من نبع واحد يدعم بعضها بعضاً ويتطور بعضها عن بعض ويعمق بعضها بعضاً وتؤكد كل تلك النصوص على ما يعتور حياة الريف من انفصامٍ وبُعْدٍ مروِّع عن القيم الأهم وإن بدا في ظاهره الحارس الأمين لها .
    فـ ( طبل الشيخ رشوان ) مكان احتفالي لايسميه أهل القرية مولداً أو محفلاً ، وإنما يسمونه ( طبلاً ) لالتصاقه بمهمته الأساسية ، وهي ( قرع الطبول ) ،( والطبل عندنا في قرى الصعيد اسم مكان يطلق على الموقع الذي تقرع فيه الدفوف ، وهو على سبيل المجاز الدلالي ) ؛ ويسبغ الكاتب على المكان عدداً من الصفات التي تُلصق به الغفلة والضلال والجدب ، فهو ساحة : للدلالة على الفراغ ، ورمل : للدلالة على الجدب .. وغيرها من دلالات ، ويكشف الكاتب عن الهدف الرئيس من وراء تلك الاحتفالية ، وهو ” ترقيص فرس العمدة “ ، لكن الأحداث تفرض نتيجةً أخرى تشارك الهدف ساحة الطبل ، هذه النتيجة هي إضحاك عم عوض خادم الكبار والعبد الموروث ، وكأنه شريك كامل في الدلالة ، والكاشف لحقيقة الطبل ؛ فعم عوض اللاعب الماهر الذي يجيد اللعب بالعصا ( حريف ) من يومه ، إلا أنه عندما يبارز من يملك العليق آخر الموسم يتصنع أمامه الاندحار والهزيمة لأنه يوقن أن ” الشيخ رشوان وطبله لن يملآ بطنه ولو أوقع عمامة العمدة نفسه “ والكاتب يشير في غير خفاء إلى أن كل أهل القرية عميان ، وأن الشخصية الوحيدة المبصرة هي ( عوض ) ، ويظهر في الساحة أن الجميع عندما يأتونها يرقصون في غفلة كالعميان معصوبي الأعين تمتزج في الساحة رائحة المعسل والشاي والقصب برائحة الناس والبهائم والضعة ، لذلك شعر الراوي الطفل للمرة الأولى برائحة مخالفة عندما حمله خاله فوق كتفيه ليرى ابن ( جناب العمدة ) وهو يرقص مع أبيه ، يقول الراوي : ” تشم أنفي لأول مرة رائحة غير رائحة البشر والبهائم “ وسرعان ما نكتشف أنها ليست سوى رائحة الكبرياء فهو أعلى من الناس في الطبل فليس سواه هو والعمدة وابن العمدة من يرتفع فوق رقاب الناس وهو يشعر سلفاً بتفوقه وبما يملك من مسوغ للسيادة والكبرياء ، فهو يرتدي بيجامة مخططة أحضرتها له جدته من بيت المأمور ، فيزدهي بارتدائها في المناسبات الحافلة ، ويشعر بأنه يشارك ابن المأمور ملابسه .
    ويوضح الكاتب أنه ليس كل أهل القرية من رواد ساحة الطبل ، يَغُطُّون في ظلمات العمى وغفلة الضلال ، إذ يشير الكاتب إلى أن هناك من بقي خارج ساحة الشيخ رشوان ، فهو في نجوة من الجدب والغفلة والضلال كالجد الذي جلس متكئاً على جدار ( الجامع المهجور ) ، ودلالة الهِجْرَان هنا دلالة عكسية فطالما أن الساحة عامرةٌ فالجامع مهجور ، والجامع رمز للقيمة والهدى والأصالة .. وكل هاته المعاني المفقودة التي يؤكد الكاتب غيابها أو غياب الناس عنها في مفارقة بنائية جيدة عندما يقول : ” تضجعني أمي أمامها .. وتتجه حواسي ناحية السامر والطبلة الكبيرة .. وعندما يزعق المؤذن ( الصلاة خير من النوم ) تنام كل الأشياء ما عدا الديك .. عندها أدفن رأسي في صدر أمي .. أنام منتظراً عودة الشيخ رشوان وكأنه يؤكد على تلك الحياة السلبية التي تعيشها القرية ، مع إشارته إلى بقاء قيمة الخصوبة / الأمل بالقرية ممثلة في الديك وهي القيمة الوحيدة الباقية فيها كما يرى الكاتب .
    أما عند السيدة جمالات عبد اللطيف فإن المكان في كتاباتها لا يسلم نفسه بسهولة ؛ فقد يتراءى للقارئ أن المكان هو بيتها ، وهذا صحيح للوهلة الأولى ؛ لكن التمعـن في تلك المآسي يكشف لنا عن خبء كثير ، فالمكان ليس سوى الوطن الكبير والسيدة المحتجزة في بيتها أو التي ترسف في قيود تقاليدها ليست سوى فلسطين ( في : الركض فوق هضاب الشمس ) ، والكرامة العربية ( في القصة الطويلة : يا عزيز عيني .. إلى مسعود أبو حجازي )(4) ، والأمة العربية الغافلة بعد حرب الخليج ( في القصة القصيرة : يا .. عزيز عيني .. إلى محفوظ عبد الباري )(5)؛ فالشخصية التي تسرد الحدث على وجداننا ليست سوى الوجدان العام للأمة العربية ، وهي بالضرورة ذات صبغة وسمة مكانيتين ، فهي المكان ، وليس في ذاكرتها إلا التاريخ ، وحين تتذكر الشخصية الرئيسة / البطلة / المكان / بعضاً مما جرى ، إنما تسرد علينا الأحداث الاجتماعية غير المدونة ، بل على نحو أدق أثر تلك الأحداث في الوجدان العربي تمهيداً لطيه في مخزن الاحتمال العربي الفسيح ؛ ففي قصة ( الركض فوق هضاب الشمس ) نلتقي مع قدرة الكاتبة المتمرسة على صياغة تكثيف درامي للمفارقة ، فالمكان هو الذي أصبح يسكن صاحبته وليست صاحبته هي التي تسكنه ؛ فالقصة ترصد مجرى الحياة للكائن المفرد المعزول وتحولها من حياة أولية مكرورة ، إلى حياة رامزة مركبة تحمل عدداً كبيراً من الدلالات وحشداً من الإسقاطات وتحفز في طريقها طائفة من التجارب ذات البعد المكاني ، فقد جعلتها الكاتبة حياة مليئة بالحس التراجيدي العام ، وبالموقف السياسي المشبع بالوطنية والإنسانية معاً ، في حين احتفظ النص بالبعدين التاريخي العربي ، والقروي الخاص جداً ببيئة الكاتبة الأم في قرى الصعيد ؛ فهي قصة عن فلسطين وعن العرب ، عن الكائن المفرد في عزلته ، وعن الكيان الاجتماعي الريفي وشروره وما يقع في طريقه من ضحايا حتى في أشد حالاتهم سلاماً ؛ وفي غمار هذه المآسي المتدافعة المربكة تمكنت الكاتبة من حسم موقفها الإنساني نهائيا وذلك بالانتقال من السلبية إلى محاولة تغيير الواقع المفروض ودفع ما يحيق بها من ظلم وقسوة واضطهاد ؛ وهو الموقف نفسه الذي عاشته البطلة واستدعى موقفاً مماثلاً لم يحدث من فرد بل اضطلع به هذه المرة مجتمع بأسره هو ثورة الحجارة الفلسطينية ، وتلتقي كذلك مع هذه الثورة في الهدف والفعل والآلة ، هدفها الخلاص من الظلم وقسوة الحصار في المكان ، وفعلها هو الخروج من الرضوخ والسلبية وانتظار ( الفرج ) المتمثل في العون الخارجي في حالة فلسطين إلى التصدي للاضطلاع بفعل إيجابي هو استخدام الحجر الذي هو في الوقت نفسه الآلة التي واجهت بها البطلة زوجها المتسلط المغرور الذي يملك البندقية التي تخيفها ويصوبها إلى صدرها باستمرارٍ كي ترضخ ، وقد تركت الكاتبة لنا قوة الأمل والإصرار على الإتيان بفعل وكأن هذا هو الهدف نفسه ، لا عملية إحداث الحرية، وهو على الأصح مدخل الحلم الأشمل:”أخذ يقهقه ساخراً من الحجر ومني،على أني كنت أعرف بأني سأقتله بهذا الحجر، ذلك لأني أقسمت أن أفعل“.
    وفي قصتها الطويلة ( يا عزيز عيني ) يتداخل الماضي في الحاضر ، وتشتبك المشاعر مع التاريخي في عملية معقدة أساسها البحث عن المكان في ضوء ما جر عليه الزمان ؛ فذكريات الحب التي ابتدأت في الحي، والتعلق بالحبيب القريب الذي يمنح استعادة صورة المنـزل الأول القديم بعداً إيحائياً وانفعالياً إضافياً ، وعلى الرغم من اقتراب منـزلي الحبيبين وتجاورهما، فقد تقطعت حبال الحب دون تحقيق وصالهما، وهذا ما ولد في أعمال الكاتبة صورة "القريب / البعيد = الغائب / الحاضر " التي ترددت كثيراً في مواضع مختلفة من أعمالها لدرجة أصبحت معها تيمة مميزة لأدب الكاتبة ، وهي تيمة مبررة بقوة في أدبها إذ تتخذ منها رمزاً للمواطن العربي الفاعل الذي تنتظره الأمة العربية ، وإن كان ذلك دون جدوى إلى الآن ، سواءً في الواقع ، أم في أدب السيدة جمالات عبد اللطيف ؛ وأشير إلى أن تلويح الكاتبة بالأدوار القديمة للإنسان العربي ، تلك التي تعوزنا الحاجة إليها في حقبتنا الراهنة لا يجعلنا بالضرورة أمام حالة استرجاع flashback ، مما هو معروف في فنيات البناء ؛ وذلك لسبب يسير ، هو أن الكاتبة لا تعيد ترتيب فصول تجربة وقعت ، وإنما تعيد نتاج وقائع حقيقية في الروح مضافاً إليها ما جرى ويجري للشاهدة على هذه الوقائع .
    ** استدعاء الطفولة :
    دور الطفولة وخصوصية مثل هذه المرحلة في التكوين النفسي للإنسان بعامة وللأديب بخاصة من الأدوار المهمة في البحث عن المكان عند الأدباء الذين يملكون تأثيراً ملحاً في مخزونهم الوجداني من تلك المرحلة ؛ فالأمكنة الأولى التي درجت فيها خطاهم تُرسم في خزين الذاكرة محملة بالدلالات الراسخة لحركة الزمان وأفعاله ، وأدب كتاب الصعيد يبدى احتفاء مناسباً بالتعبير عن الأمكنة المرتبطة بالبيئة الأم التي هي الصعيد بالضرورة ومرحلة نشأة كتابنا فيها ، وهذا الاحتفاء ينسجم مع عمل البنية النفسية للأديب في استعادته لمكونات طفولته ونشأته الأولى ، حتى وإن خرج من تحت ظُلَّة تلك البيئة ليستظل بعراء بيئات أخرى إلا أنه سيظل خاضعاً للبيئة ذات السطوة التي فيها القوة واللين ، القسوة والرفق والخصوصية البالغة : الصعيد .
    وقد قدم الناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" بحثاً قيماً عن مثل هذه الاستعادة في الإبداع الأدبي ، يقول الأديب غالب هلسا مترجم الكتاب في تقديمه له : " البيت القديم ، بيت الطفولة ، هو مكان الألفة ، ومركز تكييف الخيال . وعندما نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه "؛ أو بحسب تعبير باشلار نفسه : ” البيت الذي ولدنا فيه بيت مأهول بقيم الألفة الموزعة في أرجائه ، وليس من السهل إقامة توازن بينها إذ هي تخضع للجدل .. فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا ؛ إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية ؛ فالبيت الذي ولدنا فيه مشحون بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت . تتجمع فيه مراكز الوحدة والضجر والأحلام ، وهو أكثر ديمومة من ذكرياتنا المشتتة عن البيت الذي ولدنا فيه(6) .
    وقد كان لاستدعاء الطفولة عند الأديب خالد أبو النور قيمة مميزة ، وبخاصة في قصته ( بنت من طين ) التي هي قصة مكانية بالدرجة الأولى ، بل مكرسة لإبراز دور المكان الأصيل في مقابل المكان الهجين ، وعالم القرية في مقابل البندر ، الصراع بينهما؛ وذلك بوساطة ( عشة إدريس ) التي تقبع وراء الطاحونة في القرية المنفتحة التي نشا فيها جيل هجين أمه بندرية تشد أبناءها نحو البندر وقيمه الهشة وعاداته المفتوحة التي لا تقرها القرية ، عشة إدريس هي في لجة هذه التيارات ليست سوى مكان إبدالي يوفر المعادل النفسي لطفل قروي قح ، محروم من أمه التي توفيت عنه ، وطفلة أمها بندرية تنْفُسُ في تربيتها عن جانب من ضيقها وتذمرها من حياة القرية وعادات أهلها ؛ فسمراء - ابنة البندرية – لها دائماً ثوب نظيف يلمع مثل شعرها الطويل ، وقد اختار الكاتب هنا موضعاً مميزاً للمكان ذا دلالة مساهمة في بنية القصة : فالعشة – أولاً - مكان يتميز بوفرة الطين والماء الضحل الذي يساعدهم في أداء لعبتهم الأثيرة التي تتمثل في صنع عائلة من الطين وإدارة الحوارات والأحداث حولها ، وهي بهذه الأوصاف تمثل المعادل الرمزي لفطرية القرية ؛ ثم إن تلك العشة تقع وراء الطاحونة التي تقوم معادلاً للحياة في الخارج = خارج عشة إدريس ؛ وقد جعل الكاتب من العشة مكاناً ذا دلالة نفسية واجتماعية ، فيه مفهوم الخزانة(7) ، فهو أشبه بالنفس الإنسانية التي تحمل كل صروف الحالات الخاصة لصاحبها ، ويؤكد على ذلك أن الراوي / الطفل : نقل أبناءه من سمراء ( الطينيين ) إلى صندوقه عند سفر سمراء مع أمها وأبيها إلى البندر ، وقد حول الكاتب المكان إلى مقياس يختبر به الإنسان ومشاعره، فعند عودة سمراء إلى القرية بعد سنوات انتظرها في العشة فلم تحضر ، ولما ذهب إلى منـزلها وجدها بنتاً يافعاً كبر صدرها ترتدي بنطلوناً ضيقاً ؛ فأدرك أن سمراء لم تعد ، فلما ذهب إلى صندوقه وجدها كما هي لا يزال لونها طيناً وثديها كحبة الليمون صغيراً ، مؤكداً بذلك على أن هذا العالم باقٍ بشروطه التي تنفي الخارجين عليها وأن من ترك ( عشة إدريس ) دخل إلى طاحونة الحياة ، ففقد عناصره الطينية التي تشير إلى الفطرة والصفاء .
    فالقصة تؤكد على مفهوم الفطرة وأن الفطرة مرتبطة بالمكان ( عشة إدريس ) مَنْ هجره هجرته ؛ فسمراء عندما عادت من البندر عادت بشروط سلوكية غير التي ذهبت بها ترتدي بنطلوناً ضيقاً وتضحك بصوت عالٍ ، الأمر الذي دفع بالبطل إلى التنكر لها قائلاً لجدته : ” دي مش سمرة “ ، واستبدل بها وهماً يجعل لتجربته الفطرية أمداً موصولاً .. ويتمثل ذلك الوهم في سمرة التي بناها بيده وصنعها على عينه من تراب عشة إدريس وبللها بمائها الضحل ويبس طينتها في عراء فضائها وبوساطة شمسها المتوهجة ، فهذه هي سمراء التي عرفها .
    فمراحل التدرج الفكرى في هذه القصة تبدأ من حالة الهروب من الإحباطات اليومية التي تواجه طفلاً وطفلة دفعتهما إلى اختلاق بيئة مكانية بديلة من وراء الطاحونة التي تمثل الحياة ، هذه البيئة المكانية تتمثل في عشة إدريس ، أما المرحلة الثانية فترصد حالة الانفصال بين البنت والولد ، بسبب سفر البنت مع والديها إلى البندر في إشارة إلى تمكن البندرية من السيطرة على الأب بتحويله مكانياً من أمام الطاحونة ( القرية الهجين ) إلى البندر ( قلب الطاحونة ) والسيطرة على البنت التي كانت دائماً ترغب أمها في جعلها لامعة : ثوباً وشعراً ومظهراً ؛ والمرحلة الثالثة تتمثل في الهرب من ( عشة إدريس ) إلى مكان آخر أكثر أمناً هو صندوق الولد ، ولم يصرح الكاتب ما إذا كان هذا الصندوق هو صندوق اللعب أم غير ذلك ، ربما ليشاكل بهذه المفردة المفهوم النفسي للخزانة ، وهو ما يعني النفس الإنسانية ، ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي حالة الاستلاب التي واجهها الولد عندما انتظر رفيقة مكانه سمراء في عشة إدريس ، ولم تأته ، فتعجلها وذهب إليها فوجد بنتاً بندرية شكلاً وسلوكاً ؛ وقد أسلمته حالته النفسية في تلك المرحلة إلى حالة أخرى هي حالة رد الفعل الاستعادي في مواجهة الاستلاب فقد عاد إلى سمراء التي صنعها من الطين ليجدها لما تزل كما هي منذ عرف أحدهما الآخر .
    لقد اختلطت في نفسه المأساة الفردية ( ممثلة في فقد سمراء ) بالمأساة الاجتماعية ( نجاح البندرية في تحقيق التحول السلوكي لدى ابنتها ابنة القرية ) ، الأمر الذي دفع البطل إلى صنع معادل نفسي بالتحول من محبوبته المتغيرة ذات الجسد الفائر والضحكة العالية والبنطلون الضيق والمظاهر السلوكية التي تركها الكاتب مشرعة للتصور ؛ إلى جسد من طين يحفظ للكاتب كل مظاهر الفطرية التي كانت تعيش فيها القرية والتي خشي عليها من الذوبان في الماء أو الخروج إلى عراء الطاحونة ( الحياة خارج المكان / عشة إدريس ) هرب بها إلى صندوقه ، والصندوق معادل خارجي للنفس ، وكأنه هرب إلى داخله كما سبق لهما أن هربا معاً من واقعهما إلى عشة إدريس ، فعشة إدريس كانت المكان الأشد اتساعاً من النفس المنفردة واستطاعت أن تجمع بين أحضانها السليبين : البطل الذي فقد أمه ، وسمراء التي تُوقع عليها أمها البندرية أنماطاً من التربية تُلزِمُها بأن يظل ثوبها وشعرها لامعين .. ؛ وهو أسلوب لا يتناسب مع مجتمع الطين .
    ويلاحظ القارئ منذ الوهلة الأولى أن قصة ( دكة المقدس يوسف ) للأديب محمود الطهطاوي : قصة يتسيد فيها المكان ، الذي هو البطل الأول والشخصية الرئيسة في مشهدية القصة الموغلة في تاريخ المكان ، والمجسدة لقيمته ، المبرزة لنمطه ، المشيدة بما اضطلع به من دور في صيانة الوحدة الوطنية وتربية أبناء شارع المصري عليها ، من خلال ما تعرضه القصة من استدعاءات وجدانية لمرحلة طفولة الكاتب .
    وقد نبعت أهمية تلك ( الدكة ) من الإخلاص الذي كان يتسم به أهل شارع المصري وتفانيهم في الصدق مع أنفسهم وأثرتهم بعضهم لبعض ، وحرصهم على استمرار القيمة ودحر الشر ، لقد كان المقدس يوسف ينهر أحمد ابن الشهيد الحاج عثمان ، جاره وصديقه وزميله في حرب الصهاينة ، ويقول له :” والدك كان يصلي الصلاة في وقتها ولا تفوته جماعة أبداً .. “ ثم يربت على كتفه ويحتضنه قائلاً :” يا بني نحن لا نملك إلا إيماننا بالله ، هو رصيدنا الباقي ..“.
    وإذا كانت الملاحظاتُ أموراً يسيرة الإدراك فإن الاكتشافات بحاجة إلى تعمق نظر وحساسية وعي ، لكن المتلقي لتلك القصة سيكتشف دون عناء أن المكان الذي يتسيد المظهر الأدائي للنص القصصي ليس هو مكان دكة المقدس يوسف ، وإنما المكان هنا هو الدكة نفسها ، تلك التي لا تفارق مكانها تحت كرمة العنب أمام باب منـزل المقدس يوسف الكائن في نهاية شارع المصري ، تلك التي تعَوَّد الأولاد اللعب بالقرب منها ، ومن حولها يتحلق الرجال جالسون يتسامرون ، ويتعاتبون ويحلون مشاكلهم ، فهذه الدكة بمثابة حصن الأمان الذي يمنع تفاقم الخصومات وفي ظله يأمن الأطفال فيلعبون مرحين ، فالدكة هنا ذات دور اجتماعي ونفسي مهيمن ومهم ؛ وقد شاكل الكاتب بهذا المفهوم رؤيته حول الفعل والاجترار وحاول أن يستغل هذه الفكرة لتقديم صورة لواقعنا المعاصر ومحاولة المقارنة القيمية بين الماضي والحاضر ، فأيام الدكة كانت كلها سمر ومرح ونصر ( في أكتوبر 1973م ) حتى عندما فقد البطل والده في الحرب وجد في المقدس يوسف البديل عن ذلك الوالد الحنون ، في ظل مجتمع يسوده الإخاء والتلاقي الإنساني في شارع المصري ، ومع تغير الزمن وتطور الأوضاع الحضارية رفع المقدس يوسف الدكة ووضعها في المخزن ، كما رفعنا مع الانفتاح دكك القيم والعادات والتقاليد والإخاء والتلاقي الاجتماعي والأثرة ، ووضعناها في جانب قصي من مخازننا كما نضع الأشياء البالية ، وبرفع الدكة ينتهي زمن الفعل ليبدأ زمن الاجترار ، يقول الكاتب : ” كثيراً ما كنت أقف تحت الكرمة .. مكان الدكة .. فتتداعى الذكريات “ ؛ فالكاتب أراد برفـع الدكة الإشارة إلى التبدل الشامل الذي لم تعبث قسوته بالشخصيات فقط وإنما بالمكان أيضاً ، فقد حدث التبدل المكاني ، فالمكان الذي كان هو البؤرة الفاعلة في شارع المصري ( الدكة ) التي يجتمع الناس في سمر حولها ؛ تحول إلى الأرض مكان الدكة ، وكأن الكاتب يريد أن يماثل بين المكان المأهول والمكان الخرب ؛ يقول الكاتب على لسان المقدس يوسف : ” زمن الدكة بالنسبة لي راح وانتهى .. أخد كل شيء وراح .. ومش باقي لي غير الذكريات “ ، وقد وضع الكاتب البدائل الكثيرة للدكة في المجتمع الجديد بلا جدوى ، فالشوارع متسعة لكن الأولاد لا يلعبون في الشوارع مثل أولاد الدكة ، لأنهم حبيسوا الشقق المغلقة ، ثم يعدد الكاتب الألعاب التي كانوا يلعبونها فنتأملها فإذا بها مراحل التحول الاجتماعي من عصر النصر إلى عصر الضياع : فالأولاد كانوا يلعبون عسكر وحرامية ، وفي هذه اللعبة لابد وأن ينتصر العسكر كما انتصرنا في حربنا ضد المغتصب السارق للأرض والكرامة العربية ؛ ثم لعبة سباق حصان البوص ، وحصان البوص هش يمكن كسره بيسر شديد في إشارة للتحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها مصر في عصر الرئيس السادات ، ثم لعبة أوِّل حول ، وهي لعبة تتم فيها إبدالات كثيرة بين الأشياء والأشخاص والأماكن ، ثم ينهي باللعبة الأخيرة لعبة الأستغماية التي لابد وأن يغمض اللاعب الرئيس عينيه حتى يمر اللاعبون إلى مخابئهم ثم يفتح عينيه وكل منهم يتربص لاقتناص ( الريد / أي الهدف المكاني المحدد سلفاً في اللعبة ) ، وكأن اللاعبين نسخة من أولئك اللذين يصدق فيهم قول العامة : ( حرامية شغل حكومة .. تسرحهم وقال إيه .. عاوزة تلمهم ) .
    لكن الكاتب في لحظة جمالية رأى أن يجعل كل شيء جميلاً، وأن يزيح ما على الدكة من التراب ويعيدها إلى مكانها تحت كرمة العنب ليجلس عليها كل مساء، ومِنْ حوله الأولاد يلعبون ، لكنه لم يذكر شيئاً عن مدى تساوق هذا الوضع مع السمات الانعزالية للمجتمع الجديد ، الذي يمقت الجلوس في الشارع..في شارع المصري.

    ** المكان المفتوح والمكان المغلق :
    المقابلة بين المكان المفتوح والمكان المغلق هي التيمة التي تطفر في كتابات أهل الصعيد بخاصة عندما يتماس عالمهم مع عالم القاهرة المفتوح المزدحم الذي يمثل لأهل الصعيد في بعض الأعمال حالة للمجتمع المغلق في مقابل مجتمعه الرئيس في الصعيد الذي يمثل المجتمع المكاني المفتوح المتسع الأرجاء الذي يملك السكينة والهدوء ، ويجسد محمود الطهطاوي هذا المفهوم في قصته ( الوسادة ) التي تحكي عن انتقال الكاتب إلى القاهرة في مهمة طارئة - غير دائمة - شعر خلالها بعدم الراحة في الفندق بسبب الوسادة المنتفخة ( على الفاضي ) وهو الذي لا يستريح إلا إذا وضع رأسه على وسادة عالية ، ثم يطور هذا الحدث درامياً ليجعل منه سبباً في الشعور بالاغتراب والحنين إلى وسادته التي يجد فيها الراحة ويحس معها بالشموخ ، ثم لا يجد منقذاً له إلا برج القاهرة الذي يرفع رأسه في السماء بشموخ ، وكأنه يشير إلى تماس البرج بوصفه حالة مكانية مع عالمه المكاني الحميم في الصعيد ، لأن الذي بناه هو الزعيم جمال عبد الناصر ابن الصعيد .

    ** المكان المغلق :
    إن التضاد بين المكان الضيق والمكان المفتوح يظهر جلياً في أعمال الكاتبة جمالات عبد اللطيف ، وبخاصة تلك الأعمال التي تحكي عن وجود نسائي يقاوم مجتمع يملك أكثر من دائرة احتجاز تنداح كلها بعضها داخل بعض كدوائر الماء عندما يلقى فيه بالحجر ، فالمجتمع القروي له تقاليد صارمة في تربية البنات وله تقاليد صارمة في الحد من حركتهن شابات وله تقاليد صارمة تدخل البنات إلى دائرة الصراع وتحولهن إلى كبش فداء لا يزيد عن العجول التي تذبح بهجة لحدوث الصلح بين العائلتين المتناحرتين فتجعل إحدى بنات هذه العائلة هدية سلام ، فتزوجها مرغمة من رجل من رجال العائلة الأخرى ( كما في الركض فوق هضاب الشمس ) ، أو تختطف حلمها من الزواج بمن تحب ( كما في قصتها الطويلة : يا عزيز عيني ) .
    وفي قصة محاورة للكاتبة هند محمد عبد الرحمن تدور بنية الأحداث حول الغرفة التي يتخذ منها الكاتب عزلة تُقْصِيه عن الناس وعن المشاركة الحقيقية في الحياة الإنسانية البيولوجية ، وتشمل في أبعادها مكانية الكاتب الذي يعمرها ويتخذ منها البديل الكامل عن الحياة الإنسانية الفاعلة ، فالعمر يمر ولا زوجة ولا أولاد ولا رغبة في القراءة وإنما الكتابة فقط ، وهو في ملله لا يكتب وكأنه اكتشف للمرة الأولى ضيق المكان ، وأن الغرفة لن تصلح بديلاً إنسانياً مناسباً عن العائلة .
    فالغرفة في هذه القصة تمثل المكان البديل الممتلئ بالوهم الذي استبدل به
    ( الكاتب ) – بطل القصة - مكاناً أكثر اتساعاً ، هو ” المنـزل المدعم بالأطفال “ – على حد تعبير الأديبة – ذلك المنـزل الذي يظل في دائر التمني ولا يعاود الظهور إلا إشارة وتلميحاً بوساطة تعبير الكاتبة في نهاية القصة : ” محاولاً احتضان بقاياه “ ، أي بقاياه الإنسانية من عمر وقوة وأمل لتكوين حياة عائلية ، وبناء الأركان المعنوية والوجدانية للبيت الذي يطمح في استبداله بغرفته الضيقة ؛ وهنا تُبْـرِزُ الكاتبة في تغيير قيمة المكانِ : المفهومَ الفلسفي الذي يقول : ” إننا لا نرى إلا ما نعرف “ ؛ فقد حول ميل البطل إلى الحياة العائلية والمنـزلية رؤيته لغرفته التي عاش فيها الليالي والسنوات الطوال متأملاً قارئاً كاتباً ؛ تحولت الغرفة إلى النقيض في غمرة بحثه عن
    ” الحبيبة التي تبعثر الدفء في أرجاء هذا المكان المهجور “ الذي لم يبرح حالته الأولى منذ انقطاع البطل إليه ؛ لكن الاصطدام بالواقع والعمر الذي يمر وعُياء القريحة ووحشة الفراغ ونضوب الذهن وعصيان الفكرة وعدم الرغبة في القراءة كلها مقدمات جعلته يعيد التفكير في واقعه وحياته ، فـ”يصطدم بالواقع ، يجد نفسه سجيناً في جزيرة خيالية ، مبهوراً بما فيها “ ، ثم يُعَلِّقُ أسبابَ هذا الضياع العائلي على مفردتي الغواية ( الورقة والقلم ) ، وتصفهما المؤلفة وصفاً شيئياً مكانياً ، فالورقة ” هي السفينة التي أخذته إلى تلك الجزيرة “ ، والقلم هو الذي ” كان قبطاناً “ على متن السفينة الورقية ، ثم بلغت الأديبة بعملها إلى ذروته الدرامية ، ودفعته للتخلص من الغرفة الضيقة المأهولة المهجورة(، فيمسك البطل الورقة والقلم بكل قسوة .. مزقهما .. حطمهما .. تمهيداً للالتفات إلى النفس الاجتماعية الطامحة إلى تكوين بيت عائلي فسيح مأهول أبداً بالأجيال المتلاحقة ، وكأنه في تمرده على عزلته واحتباسه في غرفته إنما يدرك آخر أنفاس العمر قبل أن تنفرط من عقدها وتتناثر في وحشـة الفـراغ ،
    ” محاولاً احتضان بقاياها “ .
    في ضوء هذا الفهم نجد القصة ترسو بكليتها على الأرض مكاناً وزماناً ، وتتجسد عبر كل معطياتها في فرد معزول وعاجز مستلب بمعنى أن المكانية في هذه القصة لا تنشد العلو ولا الترقي كما قي قصة ( الوسادة ) للأديب محمود الطهطاوي ، ولا ( في ذكرى سيدي المغني ) للأديب خالد أبو النور ، قدرما تنشد مكاناً متاحاً على الأرض .. أرض الواقع الذي انفصل عنه الكاتب – بطل القصة – حبيساً بين جدران أحلامه ورؤاه وتطلعاته وأفكاره ؛ فالقصة ترسو على مشارف الوحدة / العزلة ، والغرفة / البيت ، مع شمولها - رمزاً وواقعاً - للمحيط الاجتماعي لها ؛ هي إذاً قصة وإن امتلأت بعمق المكان ودوره وفاعليته ، إلا أنه لا تأويل مكاني فيها بقدر ما تفصح عن هوية المكان المألوف والكائن الذي يشغل حيزاً منه ، في البيت وفي الجسد ، وعن الإنسان المستلب المعبر عنه بالكاتب في عزلته والوحدة ؛ وتوظف الكاتبة هند محمد عبد الرحمن ضيق الغرفة لخدمة التجربة والكشف عن البعد النفسي اللاشعوري لشخصية الكاتب البطل ؛ كما توظف فكرة العزلة الاجتماعية وانعكاساتها النفسية داخل إطار المكان المغلق ؛ فعلم النفس الاجتماعي يقول : ” إننا كلما زاد احتباسنا في عزلة الذات ، وفي عجزنا عن التجاوب الوجداني مع المجتمع ، زادت نذر كارثة اجتماعية لا يمكن تجنبها إلا بالتغيير ، إذ يجب أن نعود سادة للحياة ، بعد أن تحولنا إلى عبيد لذواتنا “(9) ؛ لكن المحتمل دائماً هو أن نهرب من كارثة الجمود ، فنواجه كارثة التغيير ، ما لم نكن نمتلك التوجه المقنن لهذا التغيير ؛ وهو ما حدث مع البطل / الكاتب الذي انقطع للكتابة محتبساً نفسه في عزلته عاجزاً عن إحداث تجاوب اجتماعي مع الخارج ( = خارج غرفة الكتابة ) .
    وفي قصة ( الوسادة ) للطهطاوي يكشف الكاتب عن مدى إحساسه بالغربة المكانية التي لا يجد مهرباً من خُنَّاِقها إلا النافذة ( الشُبَّاك ) ، المنفذ المكاني الذي يأخذه إلى سطح مستشفى الأنجلو الذي تراكمت عليه الأشياء المهملة ، وبرج القاهرة الشامخ الذي يعيد أهل القاهرة إلى حجمهم الحقيقي فهم فيه ليسوا سوى عصافير صغيرة ، كالقاهرة التي يراها مغلقة ؛ فالقاهرة عند محمود الطهطاوي ليست سوى مكان هامشي؛ بل إن الكاتب لا يقر له بالمكانية ، فهو عندما يعرض له: يحوِّل دلالته إلى دلالة زمنية، أو مجردة:”ليالي القاهرة“..،”يقف شامخاً وسط دخان القاهرة الخانق“.

    ** القيمة الاستبدالية للمكان :
    لم تترك الكاتبة هند عبد الرحمن القيمة الاستبدالية للمكان دون الإفادة منها ، فقد استخدمت الأسلوب الإبدالي في قصة ( صائدة القلوب ) حيث هربت ببطلها من واقعه المكاني الذي يملأه الحزن ” الذي بنى أعشاشه في كل ركن من أركان البيت “ ، إلى طفولته المختبئة بين أوراق الشجر ، تقول الكاتبة : ” قلبه يتمايل بأغنية ذكرته ببلده وطفولته ؛ فأخذ يبحث عنها كل يوم إلى أن لمحها بين أوراق الشجر“ .
    أما الكاتب محمود الطهطاوي فقد عني باستخدام فنية الإبدالات فتحولت - في قصته (الوسادة) - مفرداتُ الواقع إلى أماكن ، فالراديو يبحث فيه الكاتب عن نجاة الصغيرة أو أم كلثوم ؛ ورواية الكاتبة نورا أمين ( قميص وردي فارغ ) ليست سوى مكان مزدحم بالإبدالات المكانية مثل إخراج اللباد والقميص المكتوب الذي استطاع الراوي أن يدخله بوصفه بنية مكانية ، فالكاتب هنا يحول مفردات الواقع المحيطة وتفاصيلها إلى ما يشبه المكان الذي يعمره سيل من المفردات المتأهبة للتحول ، إلى المشاكلة بالصفة المكانية ؛ ولعل هذا الأسلوب هو أهم ما يميز تلك القصة ؛ أسلوب التحديد الصارم للمكان بدءاً من السرير والوسادة ومروراً ببائع الصحف والوصف الدقيق لمكانه المقابل لمدبولي في طلعت حرب ، وكذلك سطح مستشفى الأنجلو ؛ هنا تحديد حتمي في بنية يمكن أن تفلت عناصرها من الكاتب إن لم يكن متمرساً ؛ فالإبدالات - كما هو واضح - شديدة الحساسية ، تتحول في سياقها المفردات إلى صيغة مكانية : الإنسان ، والكتاب والراديو والسرير والوسادة وبائع الصحف ومساحة الفراغ من الأرض مصعداً نحو السماء ، حتى الرأس تحولت إلى مفردة مكانية يدور حولها عدد من الصور المكانية .
    أما بقعة أبي العز عند مدخل قرية ( سيدي المغني ) فقد حدث لها إبدالات رمزية ودلالية شديدة الاتساع والحنكة على يد كاتبها خالد أبو النور ، فقد بدأت بقعة أبي العز ببقعة دم حمراء كبيرة تنذر بعفريت أبي العز يخرج عليهم منها ليقطع عليهم الطريق فلا يدخل أو يخرج من القرية أحد ، ثم تمادوا في سلبيتهم فلم يفعلوا شيئاً إلا أن دفنوه في بقعته بملابسه ، فصارت البقعة قبراً مخيفاً ينذر القرية بالرهبة والشرور ، ثم في تطور جديد وجدوا الكلاب التي أكلت قلب ولسان أبي العز - وما المرء إلا بهما – صارت كلها أبا العز ، وفي القصة دلالة رمزية على اطراد مفهوم الحارس وحراسته للقرية وتجدد الأدوار وإمكان الحلول والتناسخ .. إلخ ؛ فالكلاب قد هجرت ماء البركة النجس وأقلعت عن التبول على جدران البيوت ، وصارت تهيم في جنبات القرية تغني غناء أبي العز ” أنفخ مزماري .. وأُصغي لصوته .. .. وأنقر دفي فترقص طينتي “ ، لتبدأ مرحلة أخرى عند بقعة أبي العز إذ وجدوا الكلاب مذبوحة ومقطوعة الألسنة ، ثم بدأت فكرة الضريح للمغني والكلاب .. وكلها مراحل استبدالية حاول أهل القرية بوساطتها درأ الرهبة عن أنفسهم والاطراد في ضلالهم وسلبيتهم .
    هذه القيمة الاستبدالية تبلغ ذروة عملها عندما تأخذ في أبعادها القيمة الزمنية والإسقاطات الرمزية العميقة ذات السند الجماعي الذي لا تُخطئُه الأفهام وبخاصة إذا كانت الإشارة والإيحاء والرمز فنيات تتجه بكليتها إلى الهم المشترك لأهل المكان مثل التردي العربي والكرامة الضائعة والوطن السليب ، ففي بعض الأحيان ” نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن ، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان ، والذي يود حتى في الماضي- حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة - أن يمسك بحركة الزمن ؛ إن المكان ، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها ، يحتوى على الزمن مكثفا ، وهذه هي وظيفة المكان “(10) التي تمثل عند الكاتبة جمالات عبد اللطيف المعادل الرمزي للوجود ، فقد تحولت الشخصية السليبة الحبيسة إلى شخصية فاعلة عندما كفت عن مطالعة السور من نافذتها ونزلت إلى الفناء لتمسك بشاكوش تحاول به إحداث كسر في السور الحجري ، وكأنها بذلك تحدث تحولاً في الوضعين المكاني والنفسي لها ، فمنفذ السور يعني التحول نحو البراح والانطلاق كما يعني التخلص من السجن وكسر القيد المكبل لحريتها المستلب لآدميتها.

    ** المراوحة بين الصورة والدلالة ( الرمز المكاني ) :
    اهتم كتاب نماذج الدراسة باستخدام فنية الرمز المكاني بوساطة المراوحة بين الصورة والدلالة ، وأكثرهم عناية بالرمز المركب المقصود فنياً الكاتبة المتمرسة جمالات عبد اللطيف والأديب المتميز خالد أبو النور .
    فقصة ( طبل الشيخ رشوان ) للأديب خالد أبو النور تفصح عن مستويين فكريين الأول هو المستوى الاحتفالي للقرية بوصفها مكاناً له طقوسه الاجتماعية والبيئية الخاصة التي يحرص على إقامتها ورعايتها ؛ أما المستوى الثاني فهو المستوى الرمزي الإشاري الذي يجسد الكاتب من خلاله حالة خاصة من وجهة نظره هو ، بوصفه راصداً ، تلك الحالة له عدة مستويات من بينها البعد القومي العربي .
    وفي قصتها (الركض فوق هضاب الشمس ) فقد استخدمت الكاتبة جمالات عبد اللطيف المستوى الرمزي الذي ينطلق من التوحد بين الحبيسة وفلسطين عبر تتالي صور الإحباط والقهر والظلم ؛ فتقوم بنية القصة على المراوحة بين مستويين للأداء الفني أولهما المستوى السطحي الذي ينقل صورةً للمرأة في بيئة الصعيد وما تلاقيه من امتهان من أهلها بالزج بها إلى أتون المنازعات وتحويلها إلى هدايا صلح ، وما تلاقيه بعد ذلك من مهانة تجعل حياتها دائماً في مهمة استثنائية لإبراز قدرة الرجل والتأكيد على سلطته وتسيده للكائن والمكان ؛ أما المستوى الآخر فهو المستوى الذاتي / الرمزي حيث يختلط في ( الركض فوق هضاب الشمس ) الوضع السياسي العربي الفلسطيني الذي ترمز له الكاتبة بالكيان الحبيس الذي يمارس سجانه ضده كل أنواع الامتهان والقهر والتعذيب مُنَفِّساً عن السادية التي تتملكه ، وحصاره لها داخل مكان ضيق يعزله عن البراح سور من حجارة يلف المكان ليس فيه منفذ إلا باب عليه أقفال مفاتحها في يده لا يفتح إلا له هو وبإذنه ، اختلط هذا البعد السياسي بالبعد الاجتماعي الذي تشكله قيم المكان في الصعيد من عادات وتقاليد ؛ وقد تمثل هذا البعد في الوضع الذاتي لامرأة حبيسة جدران بيتها يغتصبها زوجها ويستعذب إهانتها وتعذيبها ولا ينالها إلا بعد أن يضرب رأسها مرات في الحائط حتى تفقد الوعي ثم تصحو لتجده في قمة متعته وهي ملقاة في موضع قصي وقد لحقتها المهانة الكبرى ، فهي الكيان الإنساني الذي حمل في تفاصيله أبعاداً سياسية واجتماعية ، تداخلت فيها قيم الذات مع قيم المجتمع ، ومتطلبات الأداء الأدبي بمتطلبات القضية السياسية في بُعد ومستوى أدائي ، والقضية الاجتماعية للبيئة التي تنتمي إليها في بُعد ومستوى أدائي آخر ، ولا يمكن للمتلقي التعامل مع مستوى من مستويات القصة دون التعامل مع المستوى الآخر ؛ لأن القصة عندئذ ستفقد الكثير إن لم تفقد سندها الرئيس الذي تصبو الكاتبة إليه في الوهلة الأولى ، وهو يمثل في كتاباتها الخط الأول في بنية النص الأدبي ؛ فإن أهم ما تمتاز به كتابات الأديبة جمالات عبد اللطيف هو الاهتمام البالغ بإبراز علاقة القرية بأهلها وأثرها في تكوينهم إضافة إلى ارتباط القرية بالأوضاع الاجتماعية في المستوى الظاهري لنصوصها ، والأوضاع السياسية في المستوى الرمزي لتلك النصوص .
    أما محمود الطهطاوي فعندما فَقَدَ شرط الالتزام الشكلي بمظاهر نومه فَقَدَ معها الالتزام الإشاري ذي العقدية ، فكان ينام على جنبه الأيمن وتحول إلى النوم على ظهره عند فقد الارتفاع والاكتناز المناسب للوسادة تحت رأسه .
    وفي قصة ( المغيب ) يعرض خالد أبو النور قصة القرية المغيبة في لحظة مغيب شاملة ؛ إنهم يعيشون حالة من الاغتراب الجماعي ؛ لكن قمة عمل الكاتب في هذه القصة تكمن في تأكيده على الحقيقة الواقعة التي نعيش فيها الآن ، فكيف يقول : إن عوضاً قد عاد وهو في الحقيقة لم يعد ، ولم يعد لنا الانتماء ، ولم تعد لنا الأرض السليبة ، ونشعر أننا بحاجة إلى الانتماء على الرغم من رغد الحياة ودعتها ولينها أو انشغالنا في ضيقها وشقائنا ، فالوطن المفتت إلى قرى ، والقرى المفرغة من الانتماء ، لما يزل الجميع فيه بحاجة إلى عوض الذي يخلق وجوده الأمن والاكتفاء ، فهو الذي سيحقق لنا الذاتية ، ولن يقوم مقامه دعم خارجي حتى وإن أتانا من جوف الإنسانية / الجبل يمسك الخبز بيده ويحمل على ظهره قربة ماء ويقدم للجميع عونه باسم الإنسانية إلا أنه يسلبنا الكثير ، ولن يعوضنا عن انتمائنا المفقود ، يقول الكاتب : ” كأن فارساً يخرج من جوف الجبل .. بيده الخبز وعلى ظهره قربة ماء .. يعطي كل الناس “ ؛ لذا سنظل نبحث عن الرابط المكاني الذي يجمعنا مثلما كان يجمعنا عوض .
    والمكان في قصة المغيب عنصر ذو فعالية مهيمنة على الحدث ، وموجهة لفتيات المعالجة داخل النص ، وهو غير منفصل عن البعدين الإنساني والزمني وذلك من خلال الربط التام والامتزاج بين المكان ووسيطه عوض ذي الصفات المشابهة للمكان ، فعوض ابن الزمن : طرح السنين وصاحب الملامح الجامدة ، تمخض عنه الجبل لذا له لونه وصلابته ، وعوض هو القائد الذي يربط بين المكان وأهله ولكن صيغة الغائب التي تحكي بها القصة عن عوض تدل على حدوث حالة الانفصام بينه وبين المجتمع الذي كان يطمح في قيادته للهدى ، مع ملاحظة استخدام الفعل المضارع مع أسلوب الفلاش باك عند طرح صور الطمأنينة والأمن التي كانت تنعم بها القرية ، والتي ذهبت بذهاب عوض : ” كل القرية تحب خادمها الأسود ، لا معنى لليل بدونه يخرج متقدماً النساء ناحية الترعة والخلاء لقضاء الحاجات فيمشين في اطمئنان في حراسته وننام أبواب البيوت مفتوحة ، فمن وجوده ينبع الأمان ؛ وكان عندما يأتي المخاض إحدى النساء ليلاً ؛ ترفض الداية الخروج من بيتها إلا معه ، حتى البهائم لا تلد إلا في حضوره وبأنفاسه “ . هنا إغراق في المزج بين البطل بشرطه المكاني ، وبين القرية ، وإغراق في رصد حالة الانتماء للبطل والحرص على وجوده بوصفه رمزاً للصيغة المكانية ، فالبطل وإن لم يولد في القرية تحديداً إلا أنه البديل عن الغائب أو الشيء المفقود ، وهو كذلك يمتلك صيغة أكثر شمولاً من خلال ما بينه وبين الجبل من شبه ، فالجبل امتداد يحرس القرى بشموخه وصلابته ، وهو أعلى منها قيمة وقوة وهيبة ومكاناً ، ويحول الكاتب الرمز في قصته من أفقه الضيق ( القرية / البلد ) إلى مفهوم أكثر اتساعاً هو مفهوم ( القرية / الوطن الكبير ) فالقرية ليست مصر بل هي الوطن العربي الكبير .
    وعوض ( المغيب ) هو نفسه مغني الضريح في قصة ( في ذكرى سيدي المغني )؛ فالمغني ليس فرداً امتهن الغناء بل هو كيان أيديولوجي اجتماعي مستلب يعوضه المجتمع بالوهم ( الضريح ) ؛ ثم يرتفع "الضريح" من كونه نُصُباً مقاماً على مساحة ضيقةً من القرية إلى قوة تحرس الكيان الاجتماعي والإنساني للقرية ؛ فكما يتوحد الفراغ بالعقلية المكانية ؛ يتوحد كذلك أهل المكان بالتغييب الكامل الذي يصل بهم إلى التوحيد بين المغني وكلابه الأربعين اتحاداً يعكس جانباً من حساسية الثقافة الشعبية في تلك الحقبة التي يسجلها خالد أبو النور ، ودفعته رؤيته للوعي المستلب إلى سحب شروط تلك الرؤية على البيئة بأكملها ، لأن الضلال لا يلد إلا ضلالاً ، فنتاج عام كامل من الأطفال تحول إلى نسخ من شخصية المغني بأبعادها التي تدركها القرية ، حيث أطلقوا على كل من ولد في عامهم الذي انهار فيه الضريح ونبشت فيه قبور المغني والكلاب اسم ( أبو العز ) المغني ، فكانت النتيجة الدرامية أن احتضنت البلدة من جديد أربعين شيخاً ضريراً كلهم ينشدون ما كان ينشده أبو العز : ” أنفخ مزماري ، وأُصغي لصوته .. وأنقر دفي فترقص طينتي “ وكأن الكاتب يريد من هذا النص الموجز أن يضيف لحظة تنوير تشير إلى أنه وإن زمر فيهم ونقر دفه إلا أن أحداً لا يدرك فهو فقط من يسمع صوت مزماره وهو وحده من يرقص على إيقاع دفه ، وهنا يتماس دور أبي العز المغني بوصفه مخلصاً مع دور عوض الذي يحمل سماته نفسها ، بل إن الكاتب يصرح في حديث شخصي لي بأن أبا العز هو عوض نفسه .
    هذا العمى المطبق على الواقع جعل القصة ترسو فوق أرض تتقاذفها أهوال الضلال والتردي في مكبات التخلف والحرص عليه من خلال الحرص على بعث الأسطورة وإعادة الوهم إلى المكان من خلال إسباغ أبعاد شخصية أبي العز على أطفال القرية ، فكلهم جاء إلى الوجود ضريراً ، أربعون طفلاً (11) ، منهم من استهل الحياة بالغناء مردداً إنشاد أبي العز ، ومنهم من استهل الحياة نابحاً ككلابه ، وإن بدا ذلك بأنه قدرية غرائبية ، إلا أن الحقيقة أن ما تم لم يكن إلا إرضاءً للحالة النفسية الشعبية لأهل المكان المفقود ، وأمنية اختلط فيها الوهم بالرغبة الجامحة لاستعادة ( مولد أبو العز وكلابه ) بخلق نسخ من أهل القرية للجانب الذي رأوه أو أرادوا أن يروه في أبي العز ، فصار كل شىء في أمكنة ( سيدي المغني ) مستلب ومُغيب ومغطى بالعمى والظلمة ، ولعل هذا المناخ من الضلال الملتبس بالفوضى هو الذي حول ضلال بصيرة المخلص الشيخ أبو العز ، الذي كانت تهب عليه الكلاب الضالة تحاول الفتك به ، ولكنه بنور بصيرته - وهو أعمي البصر - كانت حجارته دائماً تسبقهم ولا تخطئ طريقها إلى رؤوسهم ، لكنها بعد غلبتها عليه استطاعت الكلاب الضالة أن تتمثل في صورته مرتين ، في المرة الأولى عندما أكلت قلبه ولسانه ، وفي المرة الثانية عندما جعلت من نباحها بديلاً مادياً لغنائه في استهلال الأطفال الذين أنشد بعضهم ونبح البعض الآخر ؛ فالمأساة قد تغلغلت في أهل المكان ولا سبيل إلى التخلص من ذلك الضلال لأنهم ألبسوا الحق صورة الباطل ، وما زال الماضي حاضراً بشروطهم الضالة ككلاب القتلة ، من خلال أسطورة التناسخ التي حولت أربعين طفلاً إلى مسخ من المغني الذي يرونه داخلهم معيناً على الغي والضلال ، لا المغني الذي كان يطمح في تخليصهم من جمودهم ، ففي ذاكرة المكان عند الضريح شىء من الاسطورة التي حاكها أهل القرية، وغرسوها في الضريح موتاً وولادة، موتاً بعد قتل المغني ودفنه،وولادة عند تناسخ صورته التي يرونها هم له في أولادهم؛وسهروا على روائها وعملوا على إنمائها.
    والقصة بها سخرية لاذعة من المفهوم لسائد لدى العامة حول الأماكن الحارسة التي تتمثل في القرى ولدى القرويين في ( الأضرحة ) وإن كان الضريح لمغنٍ عربيد وأربعين كلباً ، وهي محاولة يائسة للوقوف على الأطلال ، والنفخ بروح الحياة في مكان مَيْتٍ ، تنكر لهداه وأغرب في سلبيته ، فقد كان "عوض" في ( المغيب ) هو المُخَلِّص اليائس الذي نفض من القرية الغافلة يديه ورحل ، وهو "المغني" الواقف عند مدخل القرية يحرسها ، ثم انقضت فاعليته بنبش ضريحه ، والضريح يشمل في أبعاده الغناء واللهو ، الذي يمثل هوية المكان ومكانته ، هو الدور الذي يؤديه الضريح الذي يرقد فيه المغني ، تلك الشخصية ذات الدور المزدوج ، فهي تعني عند الكاتب المخلص الذي قتلته القرية ( وهو "عوض" نفسه في "المغيب" ، وفي "حارس السوق القديم" وفي "طبل الشيخ رشوان" ) وهو القيمة الرشيدة التي تحولت عند أهل القرية إلى ضلال .
    ثم ينشد الكاتب مكاناً جديداً يتقبل الخلاص ، لكن مكانه الجديد نفسه سرعان ما يتحول بدوره إلى طلل ، يرزح تحت وطأة أربعين ضريراً لا يرون ، كالمغني المقتول صاحب الضريح .

    ** الامتزاج بالمكان :
    يقول رولان بارت في كتابه "العلبة النيّرة": إن الصورة الشمسية غير معنية بالتذكير بالماضي ، ولكنها شهادة على أن هذا الذي أراه قد كان موجوداً حقاً "فالصورة لا تتحدث عن الذي ما عاد موجوداً ، وإنما تتحدث عما كان فقط . فالوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين ولكنه يؤكد اليقين. وجوهر التصوير هو التصديق على ما يمثله هذا التصوير".
    فالامتزاج بالمكان عند خالد أبو النور محصور تقريباً - في معظم أعماله – في العلاقة بين شخصية المخلص وبين القرية ففي قصة ( في ذكرى سيدي المغني ) نجد أن القرية تتوقف فعاليتها وكونها مكان جذب يحج إليه الناس على عامل مهم هو ضريح سيدي أبو العز الدفاف ، الذي يحب كل القرى وكل القرى تحبه ؛ ثم تكشف تفاصيل القصة عن مدى الارتباط بين القرية والمغني الذي يشبه ضريحه الحارس الذي يدرأ عن القرية المهالك والشرور ” فمر الحال بغنائه يحلو ..“، و” القرية بغنائه لم يصبها الطاعون في عام الطاعون“.
    وفي ( حارس السوق القديم ) نجد السوق القديم قائماً في وسط الميدان ، مقدماً عند أهل المكان على كل شيء ، وعن غيره من الأماكن حتى وإن كان المكان البديل هو الجنة نفسها ؛ وقد وصف الكاتب خالد أبو النور السوق بأنه قديم ليوحي بالأصالة والامتداد كما يوحي بالاستمساك بالإرث والجذور ، وكونه وسط الميدان يؤكد هذه الإشارية ومدى الفاعلية ؛ ونلاحظ التسمية الالتباسية الواصفة هنا ، وهي تدل على الامتزاج الشديد كذلك ، فمن القديم هل هو الحارس أم السوق ؟ والوصف بالقدم هنا وصف امتدادي يشي بالجدة والأصالة لا البلى والتخلف ، والربط بين المكان وحارسه ربط إشاري كالربط بين الأصالة والانتماء وبين وجودنا ، وقد بلغ الامتزاج بين المكان وحارسه مداه لدرجة دفعت الحارس إلى أن يوصي ابنه بدفنه في قلب السوق عند موته ؛ فقد بلغ الارتباط بين الحارس وبين المكان ذروته ، فالحارس يشغل دور الرقيب والرقيب تنبذه النفسية المنغلقة التي تكره انكشاف خبئها ؛ فكل الناس ينتظرون موته ، وينير الكاتب أبعاد تلك الشخصية المكانية التي نكتشف في النهاية أنها هي المكان نفسه ، فالحارس الرقيب لا يملك إلا مقياساً واحداً هو مقياس الحق ، لذلك صوته جهوري لا يئـز ولا يهمهم ، بينما الناس تشيع فيهم الفوضى والبهمة وعدم الوضوح ، فعندما يجتمعون يُسمع لهم ” أزيزٌ كأزيز النحل ، وتغشى المدينة الهمهمات“ ، وقد بلغ فرط امتزاج الحارس بالسوق إلى أنه إذا عاد بعد غيبة ساعة ، لا يقر له قرار إلا إذا اطمأن على استقرار العناصر البيئية من حوله ، حتى جاء اليوم الذي ” سبقته الشمس إلى السوق وانتظرته بلا جدوى ، وظلت تبحث والناس عنه ، ولكنهم لم يجدوه ؛ فذهبت هي إلى مغيبها وانصرف الناس إلى مشاغلهم .. وبات السوق القديم بلا حارس “ .. ، فاستخدام حرف الفاء للربط في قوله ( فذهب ) له دلالة صريحة وذات وضوح جلي يؤكد عليها ثقتنا في الكاتب وقدراته الفنية ، فالفاء تفيد في اللغة الترتيب والتعقيب إذ لا حائل بين ما قبلها وما بعدها ولا فوارق زمنية فهؤلاء عندما لم يجدوا الحارس ذهبت الشمس إلى المغيب صباحاً والناس إلى مشاغلهم بعيداً عن السوق بعد أن كانت تلك المشاغل فيه ، في السوق الذي هو في الأصل مكان البيع والشراء والربح والخسارة .. ؛ وأكد الكاتب مفهوم الضياع بجملته : ” وبات السوق القديم بلا حارس “ ، فيتجلى عند هذه العبارة الختامية أن السوق القديم إنما صار قديماً بعد وفاة الحارس إذ انقضى السوق بقضاء حارسه وانتفى دور السوق بفنائه ، فهو الذي بلغ أقصى حالات الامتزاج المكاني مع السوق الذي يحرسه .
    ويبرز الكاتب محمود الطهطاوي في قصة ( الوسادة ) ارتباطه الشديد بالمكان الخاص ( مكان النوم ) ؛ وما عاناه من فقد وقلق عند هجره وسادته إلى وسادة هشة في القاهرة ، تلك التي يراها مدينة زمنية مجردة لا تستحق الصفة المكانية ؛ فالراوي عندما يضيق بالوسادة الممتلئة بنسخ مكررة لشفاه غليظة محتشدة بالرغبة وبها كلمات بلغة أجنبية وهو لا يجيد لغة أخرى غير لغته ؛ يراها وسادة غير مناسبة لشروط راحته التي اعتادها في بيته بالصعيد ، فهي هشة واهنة غير وقورة فيها اغتراب لغوي ممزوج برائحة التنكر للانتماء العربي ؛ فيهرب إلى الإبدال ، من خلال التحول القيمي ، فلا راحة له إلا إذا عاد – وهو ابن الصعيد – شامخاً مثل برج القاهرة الذي لم ينقذه من دخان القاهرة الخانق إلا شموخه وعظمته وترفعه عن أرض القاهرة ؛ لكن هذه الحدة والعنصرية في النظر السلبي للقاهرة لا يغرر بنا فنظن أنه نابع من فرط ارتباط الكاتب بمكانه الأول وبيئته الأم الصعيد ، فما توحي به القصة في تفاصيلها هو على خلاف ذلك ، فارتباط الكاتب بمكانه الرئيس ليس قوياً بل يظل أقل حدة من عدائه للمكانية القاهرية ، فهو يُلبس على القارئ السطحي بعبارة ” عندما أغير مكان نومي أصاب بالأرق “ ، فقد كشف بعد ذلك أنه اعتاد هذا الأرق ، فهو إذن أرق غير مقلق ، ثم يعود ليهز عادة تعودها في مكانه الأول ، هذه العادة هي الحمام الساخن ، فالماء في حمام غرفته بارد إلا أن وطأة السفر أجبرته على التنازل عن شرط سخونة الماء ، وأخذ حماماً بارداً ، ويصف الكاتب ذلك الحمام بقوله : ” الماء البارد أصاب الجسد المنهك بقشعريرة ورِعشة أَحَسَّها تخرج من روحه ، ولكن سرعان ما اتسق الجسد المنهك وتأقلم مع الماء ، فوجدتني أشعر بسعادة دفعتني إلى الدندنة وإلى السرحان كالعادة في كل ما يهم ذاكرتي المشحونة بالكثير “ ؛ لنكتشف أن عادته التي بنى على فكرة استلابها قصته ، ليست سوى مسوغ ادعائي لطرح الصراع الوجداني الرافض للقاهرة ، فالعادة ترتبط بالشخصية التي اعتادتها فإما أن تكون الشخصية قديرة على تجاوز أسر الاعتياد مطلقاً ، وإما أن تكون عاجزة أمام عاداتها تلك ، عندئذ يمكنها التنازل مطلقاً عن كل العادات في حالة القدرة ، ولا يمكنها في حالة العجز ؛ والشخصية الرئيسة في القصة تملك القدرة على التنازل عن العادات ، بل والامتزاج مع العادات الجديدة ، والتعايش مع الواقع البديل ؛ ويؤكد الكاتب ذلك عندما يشبه حمَّامه بقوله ” كأن الجسد دخل حاجاً وخرج كما ولدته أمه ، بكراً ، خالياً من الأدران .. فعل الطهر هذا يجعل الجسد يمتزج بالروح فتشعر بتلك النشوة وأنت منسجم مع الماء “ ، هذا الكاتب القادر على التخلص من أسر العادات بل المنسجم مع الحالات البديلة للعادة ، ما المسوغ الذي يجعله يشعر بالأرق ، إن المبرر الوحيد هو النظرة الرافضة للحياة في القاهرة والتي لا تتعارض مع سعي ابن الصعيد للطهر الظاهري ( الحمام ) والنفسي
    ( تشبيه الاغتسال بالحج ) ، ويساند هذه الرؤية سكينة الراوي ومحاولته الاستغراق في النوم رغم التواء العنق بعد تشبهه بالبرج وتمثله حالة شموخه ، فقد نبعت تلك السكينة من اجتلاب مساندة بيئية من مكانه الأول ؛ فالبرج الذي بناه جمال عبد الناصر جعله يتساءل ” لماذا لا أفعل مثله وألقي برأسي على وهج الوسادة الواهنة بشموخ وعظمة“؛ فتبرز الإشارة إلى الارتباط الأكثر اتساعاً بين الكاتب وبين طهطا وتهميش مكانية القاهرة على الرغم من حياته فيها ؛ لتهميش القاهرة لانتمائها وتنكرها للقيم المصرية والتقاليد الشرقية المحافظة .

    ** وفي الختام :
    لا أرى أهمية لإيجاز رؤية الدراسة للأعمال التي تناولتها ففي عرض الدراسة غناء عن ذلك ؛ وإنما باختصار شديد أتحدث عن الأساليب السردية التي استخدمها الكُتَّاب في أعمالهم ، تلك الأساليب التي جاءت منوعة ومتعددة ؛ فمنها أسلوب السيرة الذاتية كما في أعمال محمود الطهطاوي ، وجمالات عبد اللطيف ؛ وأسلوب الراوي المفرد كما في أعمال خالد أبو النور ، وهند عبد الرحمن ؛ أما أساليب الاسترجاع والمونولوج والحوار والرسائل والسرد المزدوج فهي من الأساليب التي حفلت بها كتابات السيدة جمالات عبد اللطيف ، بوعي تام ، وكادت تنفرد بها في كتاباتها لولا مزاحمة من الخارج عليها في كتابات محمود الطهطاوي ، وهند عبد الرحمن ، وخالد أبو النور ؛ ودائماً هناك ما يلفت الانتباه عند هؤلاء الكتاب في الكيفية التي يستخدمون بها تلك الأساليب السردية على نحو يخدم المكان والحدث معا ، فكان لكل أسلوب من هذه الأساليب جماليته التي ساهمت في إضفاء بعد جديد للمكان ؛ ولعل أهم ما يميز أساليب استخدام المكان في الأعمال الأدبية لدى كتاب الصعيد بعامة ، وفي نماذج هذه الدراسة بخاصة ؛ أن الأديب يعيد نتاج المكان في مخيلته لا مما يبصره في العالم الخارجي المحيط به مجرداً بأبعاده الواقعية الحقيقية ؛ وبذلك استطاع الكتاب تخطي الأحداث الناتجة عن الناتج والمنتج ، أو السبب والمسبب ، الذي من شأنه أن يقدم لنا أعمالاً جوفاء ، تصور الواقع بلا صدى ، فتجعل النص كالواقف في الظل بلا ظلال .
    ثم أما بعدُ : ففي الختام نوقن أنه من الصعب أن نختتم بحثاً ، وإنما نعمل فقط على التخلي عنه آنياً قبل أن يتخلى عنا الوقت ، وبذلك يبقى البحث مفتوحاً ، وتبقى فيه ثقوب وفراغات ، يملأُها القارئ الحصيف ؛ وغاية ما في الأمر أننا نُغادر البحثَ وفي أنفسنا أشياءَ منه ، غلبنا عليها الوقت أو التقصير وحُبسةُ الالتزام بكُتَّاب بأعيانهم وترك ما عداهم حسبما ألزمنا المنهج المقترح ؛ وحسبنا أن عَلَّلْنَا النفسَ بأمل المُعاَوَدَةِ درساً وبحثاً وتنقيحاً وحدساً ؛ لتغطية ما تركنا من نقاط وما أجملنا من إشارات ؛ وما عملي هذا إلا عملُ مَنْ مِنْ سِمَاته العجز عن الكمال والتقصير في الأعمال ؛ ولا نقول إلا كما قال الراغب الأصفهاني : إني رأيت أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غَدِهِ : لو غُيِّـر هذا لكان أحسن ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسن ، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل ، ولو تُرِك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العِبَـر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر .
    و من وراء مقصدنا الله ، وهو ولي التوفيق
    عـلاء الدين رمضـان

    ** مكتبة البحث وهوامشه **
    ** أولاً : أسانيد النماذج النصية
    1 – جمالات عبد اللطيف :
    • الركض فوق هضاب الشمس، مجلة الطهطاوي،العدد السابع، صيف2000م،ص:36.
    • يا ... عزيز عيني– قصة قصيرة- كتاب(الفائزون)أعمال المسابقة الأدبية الرابعة لنادي طهطا الأدبي لعام2000م، سلسلة كتاب الطهطاوي الأدبي(الإصدارالسابع)،ص:10.
    • يا عزيز عيني – قصة طويلة– كتاب الطهطاوي(الإصدار، نادي طهطا الأدبي2001م.
    2 – خالد أبو النور :
    • أنات من الوجع والقص ، مجموعة قصصية ،القافلة للطباعة والنشر ، سوهاج 2000م.
    3 – محمود الطهطاوي :
    • دكة المقدس يوسف ، في مجموعة :”دكة المقدس يوسف“ ، كتاب الطهطاوي (الإصدار 4) ، ط1 - نادي طهطا الأدبي ، مايو 1999م .
    • الوسادة،النشرة اليومية للمؤتمر الأدبي الأول لإقليم وسط وجنوب الصعيد، سوهاج ، العدد الثالث في 18 / 5 / 2000م ، ص: 2 .
    4 – هند محمد عبد الرحمن :
    • صائدة القلوب، ضمن مجموعة قصص للكاتبة نشرت في كتاب(الفائزون)، ص:13.
    • محاورة ، مجلة الطهطاوي ، العدد السابع ، صيف 2000م ، ص : 40 .
    ** ثانياً : هوامش وإحالات مرجعية
    1 – غاستون باشلار : جمالية المكان ، ( ترجمة : غالب هلسا ) ، ط1- كتاب الأقلام ، رقم : 1 ، العراق ، وزارة الإعلام ، دار الرشيد 1980م ؛ وأشير هنا أن للمكان والزمان أهمية كبيرة في الثقافة العربية ، قد سبق أن ألف الكتاب العرب الأولون منذ القرن الخامس الهجري كتباً مستقلة تتناول مثل هذه الموضوعات بأبعادها الفلسفية والجمالية ؛ ومنها كتاب الأزمنة والامكنة ، الذي ألفه أبو علي المرزوقي الأصفهاني سنة 453هـ ، [ مطبعة دائرة المعارف ، حيدر آباد ، الهند ، عام 1332هـ ] .
    2 – رأى الدكتور عبد الملك مرتاض أن للمكان ( أو الحيز ) مظهرين رئيسين هما المظهر الجغرافي والمظهر الخلفي [ انظر ؛ د. عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية .. بحث في تقنيات السرد ، (ص: 143 – 146 ) ، سلسلة عالم المعرفة /240 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت 1998م ] ؛ بينما اتسعت رؤية شاكر النابلسي للحيز وأدواره فرأى أنه يضطلع بعدد من الأدوار المنوعة في الأعمال الأدبية يختلف كل دور منها باختلاف التجربة والصياغة وزاوية المعالجة ؛ فمن صور المكان عنده : المكان الافتتاحي : وهو المكان الذي يقوم فيه القاص بتقديم المكان الرئيس الذي تتفرع عنه الأماكن الأخرى التي تليه مباشرة ؛ المكان الصوتي : وهو الذي تبرز فيه جمالياته من خلال الصوت فقط ؛ والمكان الحنيني : وهو المكان الذي يذكرنا بالماضي أكثر مما يذكرنا بملامح المكان نفسه . والمكان الثالث : وهو المكان الذي يأتي مزيجاً من المكان الحاضر والمكان المتخيل . المكان المقارن : هو المكان الذي يقيم فيه الكاتب موازنة بين مكانين في لوحة قصصية واحدة . المكان الرمزي : وهو المكان الذي يرمز من خلاله الروائي لمكان آخر . المكان الاستدعائي : هو صورة المكان التي يستدعيها الإنسان حين يكون في الغربة . المكان النفسي : الذي يكتسب خصائصه من التصاقه بالبطل ونتيجة لحالته النفسية ويتوقف على مدى توحد البطل مع المكان . المكان القاصر : هو المكان الذي لا يقوم بنفسه وإنما بمساعدة جماليات مكان آخر أقوى منه . المكان العالة : هو المكان الذي لا يقوم بأي دور في النص بنفسه؛ المكان الرحمي : وهو الذي يشبه رحم الأم ، ويتحقق هذا النمط عندما يتوحد البطل مع المكان ويستغني به عن العالم من حوله. المكان الحلولي : هو المكان الذي تحل فيه الأرواح وهو المكان المسكون بروح الجن . المكان الفوتوغرافي : هو الذي يصور تصويراً فوتوغرافياً خالصاً . المكان التكميلي : هو المكان الذي يأتي في الرواية عادة بوصفه جزءاً من معمارية مكان آخر …، إلخ الأنماط التي رصدها الكاتب الذي ربما وجد متعة في التسجيل وابتكار الأنماط ، التي مع الأسف لن تخدم العملية الفنية للأداء الأدبي في شيء فهي في النهاية تظل أنماطاً خارج السياق الإبداعي ؛ إذ إن النمط في الإبداع أشبه بالنظريات التربوية ، فنحن بحاجة إلى نظرية نقدية لكل عمل إبداعي على حده كي يمكننا أن نتعامل معه [ انظر بقية الأنماط التي لم أسجلها في : جماليات المكان في الرواية العربية ، تأليف : شاكر النابلسي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1994م ] ؛ وإن كنت أود هنا أن أضيف إلى نمط ابتعد عنه الباحثون في دراساتهم بل لم تعالجه دراسة فيما وصل إلى يدي من بحوث ودراسات ، هذا النمط هو الإطار المكان المجرد الذي يمتلك سمات محددة غير مسماة ، وقد عالجت هذا النمط في دراستي لرواية صح النوم للأديب يحيى حقي ضمن دراستي للبيئات الضمنية والإطار البيئي عند حقي [ انظر للباحث : أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي ، ص : 148- 153 ، و ص: 301 – 316 ] .
    3 - انظر ؛ غاستون باشلار: جماليات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، ط 2 - بيروت 1984م ، ص: 184 .
    4 - انظر نص القصة في قسم " الرواية " بموقع ( غابة الدندنة ) ، على شبكة الإنترنت في العنوان الآتي :[ http://www.come.to/alauddin ] .
    5 – يجب الانتباه إلى أن القصتين (يا عزيز عيني ) وإن اتفقتا في التسمية ؛ إلا أنهما متغايرتان ، فكل نص يختلف عن الآخر في البنية والهدف والتجربة والأحداث ، بل وزمن الكتابة ، فقط كانت القصة الطويلة مفقودة حتى وقت قريب ؛ انظر نص القصة القصيرة في كتاب : الفائزون ، نادي الأدب بقصر ثقافة طهطا ، كتاب الطهطاوي رقم 7 ، طهطا 2000م .
    6 – جماليات المكان ، ص : 54 .
    7 – الخزانة هي اللا وعي أو اللا شعور المختزن في الباطن ، التي يجب أن تضم منكتماً خاصاً إذا انكشف وشاع صار معلوماً فانتفى دور الخزانة ، وانتهكت خصوصيته ؛ [انظر؛ للباحث: أثر البيئة والمتغيرات الاجتماعية في أدب يحيى حقي ، ص:210] فمفهوم الخزانة يعني النفس الإنسانية المنغلقة ؛ ونشير هنا إلى أن (الأنا) كما حددها علم النفس ، مفهوم ينقسم إلى قسمين رئيسين : الأنا الحقيقي ، والأعنا الأعلى أو الضمير [ انظر هاري ويلز : بافلوف وفرويد (2/106) ، و : الإنسان بين الجوهر والمظهر (ص: 9) ] ؛ ويقف الأنا الحقيقي محصوراً بين ثلاث قوى ، هي : الهو ، والأنا الأعلى ، والعالم الخارجي [انظر ؛ بافلوف وفرويد (2/107) ] وهو ما حاول الكاتب تجسيده في قصته ( بنت من طين ) .
    8 – ترمز الكاتبة هنا إلى لا جدوى الانحباس في الحلم ، وأحمية الفاعلية والبعد الاجتماعي للكاتب حتى يكون أكثر عطاءً وتأثيراً واستمرارية .
    9 – إريك فروم : الإنسان بين الجوهر والمظهر ، ص : 163 .
    10 – غاستون باشلار : جماليات المكان ، ص : 45 .
    11 – ربما أراد الكاتب من وراء حصره لأطفال القرية ذلك العام في العدد أربعين إسقاطاً على عدد اللصوص في حكايات على بابا الشعبية
    http://www.geocities.com/amaricaeg/place.htm[/B]
                  

07-20-2006, 09:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جماليات المكان "السنّاري" من خلال مفهوم العودة عند محمد عبدالحي (Re: osama elkhawad)

    غلاف الترجمة الانجليزية لجماليات المكان لباشلار



    أدناه اشارة الى جماليات المكان السناري،
    في مقال:

    حــــول مفهــــــــوم «العودة» في شعر محمد عبدالحي
    لكاتبه:
    راشد مصطفي بخيت
    تأمل هذه الوريقة في قراءتها كشف النقاب الفلسفي والجمالي لإشكالية كثر تكرارها في مرتع النقد الأدبي منذ أمد ليس بالقليل.. وعلى ما يبدو أن زيت القراءات المفتوحة الدلالة كواحدة من معاول النقد المعاصر تم صبها مؤخراً على موقد شعري ظلت قراءته الكلية حبيسة العراك الآيديولوجي ذو البعد الآحادي النظر والآراء المسبقة المدعومة بشواهد جزئية من النص الشعري.

    وهذه القراءات التأويلية تختلف في أسلوبيات بحثها عن المنهجيات المستخدمة والتي تنطلق من فكرة «موت المؤلف» كأساس لقراءتها النقدية، اذ أن مثل هذه القراءات تعمل الى استنطاق البنية الكلية للنص الشعري في بنائيته الداخلية من حيث اتجاه الحركة/ جماليات النص الشعري، والتي يتم بموجبها تحديدالانتظام الشعري في فيزيولوجيا الجسد/ النص، ومن ثم فإن أى قراءة تتأسس مقولاتها على نسق هذه القراءة لاتعتمد في الأساس على تأويل ذرائعي يبني على تحديدات مسبقة واستكناه دلالات المعنى الجزئي للكلمة لغوياً. فكما يقول منظرو هذا الاتجاه في النقد:
    «المعنى أضعف حلقات النص»..

    لذلك ترتكز رؤيتهم محورياً على أسلوبيات الخطاب /النسق/ النظام/ السلطة كمقولات تعمد الى دراسة البنية الكلية على نحو جمالي، وعليه فإن التحليل اللغوي في بنية النص الأدبي - بهذه الكيفية - يتحرك معتمداً على«سياق» اللغة في وحدتها البنائية لا في نزعها من جملة النسق اللغوي الذي تبنى داخله..ومن هنا وجب التمييز في أسلوبيات القراءة النقدية بين شيئين على نحو من الأهمية:أولهما يقع في مضمار المحاولة في الانفكاك من براثن الاختناق الآيديولوجي والتمييز بين منهجيات القراءة النقدية دون الوقوع في مغبات الخلط المبني على جمع النقائض دونما تمهيد يوضح جملة المفاهيم المستخدمة في القراءة.

    وثانيهما النظر في كلية النص الشعري داخل بنائيته الخاصة التي تقع داخل مقولات المنهج.
    وممَّا دفعنا لكتابة هذا أن بعض القراءات النقدية المتناولة لشعر «محمد عبدالحي» تناولته - أو تناولت مدرسة الغابة والصحراء- ولم تميز تماماً بين مقولات المدرسة أدبياً وبين مقدراتها المبنية على أساس فلسفي يستشف محاولة العودة للجذور عبر بحثه عن وجدان جماعي لأمة لم تتشكل أو تتجانس مكوناتها بعد..

    ومفهوم «العودة» الى سنار بهذا المفهوم يقع في نطاق المقولات الفلسفية والتي تأخذ احتمالات أجوبة محدودة.. فسنار المركز الحضاري في عمق التاريخ تقع داخل فضاء القراءة «الأدلوجة» حسب تعبير الروي على مرمى حجر من إسلاميةالتركيب والثقافة، وهذا قول مجافي لمقولات الواقع السناري كما هى عليه فعلياً أو كم تجلت في التاريخ. فالفللكورالسوداني و فق منهجياته في دراسة المجتمع السناري يميز بين مقولتين مسألة التمييز بينهما تكون على نحو بالغ من الاهمية هما: الاسلام الشعبي- الاسلام الرسمي واللتان تعنيان في حمولتهما المفاهيمية وجوب التفريق بين أنماط التدين التي تشكل المجتمع السوداني وسنار على وجه الخصوص فما تذكره «مخطوطة كاتب الشونة» و«كتاب الطبقات» يدلل على أن إسلام هذه البؤرة السنارية يقع داخل محيط «الاسلام الشعبي» أو التصوف والذي هو على وجه نقيض من جانب الإسلام الرسمي والذي يتشكل من جملة العادات والمعتقدات والموروثات السابقة على الاسلام والتي تحوي في كثير من الأحيان على الشئ وضده لكن ضمن وحدة منسجمة يمكن أن نطلق عليها إسم «وحدة المتعدد» والتي هى في باطنها تعبر عن مساحة الحركة الممكنة داخل الوجدان الجماعي المشكل لجزء كبير و مهم في تركيبة الشخصية السودانية حتى الآن، اضافة الى ان ما يورده «ود ضيف الله» من وقائع حياة المجتمع السناري نفسه لهى أكبرالدلائل على صحة ما تزعمه ورقتنا هذه وللإشارة فقط يمكن الرجوع لما قاله عن «كيفية الزواج في الدولة السنارية».

    هذه الوشائج المعلنة، عبر عنها شعر محمد عبدالحي في اشارات كثيرة وبأشكال متعددة من التركيب الحضاري المتعدد اثنياً في تاريخيته عبر:
    - (أنامنكم ؟؟؟ عاد يغني بلسان، ويصلي بلسان)
    ( الليلة يستقبلني أهلي:
    أرواح جدودي تخرج من
    فضة أحلام النهر
    ومن ليل الأسماء
    تتقمص أجساد الاطفال
    تنفخ في رئة المداح وتضرب الساعد عبر ذراع الطبال)
    - (الليلة يستقبلني أهلي
    أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
    ابريقاً،جمجمة، مصلاة من جلد الجاموس)
    - (أنا منكم جرحي جرحكم
    وقوسي قوسكم
    وسنى مجّدالأرض وصوفي ضرير
    مجد الرؤيا ونيران الإله)
    - (ثم تنام نيام الحراس
    لتولد بي الحرمروالاجراس،
    شفة، خمراً، قيثاراً
    جسداً ينضح بين ذراعي شيخ
    يعرف خمر الله وخمر الناس)

    وكل هذه الاشارات تحمل دلالاتها الثقافية - المشار اليها من قبل الشاعر - عن وجوب وضرورة التمييز الفعلي في أنماط التدين السناري والمكتسب من جملة موروثات سابقة على الاسلام السناري وتضم في داخلها مكونات الثقافة المروية والافريقية على حد سواء (جلد الفهد / الزهرة/ والثعبان المقدس/ الحرمر والاجراس) وبين الطابع الرسمي للإسلام و المتشكل ذهنياً بمعزل عن شرط الواقع السناري المتكون على غرار «بنية التصوف» المعنية في طابع ومفهوم العودة.
    إذن فسنار المملكة الزرقاء وسنار الحلم الشعري لمحمد عبدالحي لا يستقيم انتزاعها فلسفياً من هذا السياق، الا داخل إطار ما أسميناه آنفاً بالقراءة الآىديولوجية المحضة فهى كبؤرة تدل على واقع إنبنت مقولاتها كلياً على تشخيص جماليات المكان السناري في هيئته الفعلية وليست المفترضة ذهنياً.

    وهذا ما يفسر لنا نسيج البنية التمازجية داخل التصوف السوداني والثقافة الافريقية اللذان تجمعهما علاقات تماثل مكتملة الأجزاء فمفهوم«الأولياء» مشتق من أسطورة «الغريب الحكيم» الافريقية و«حلقات الذكر الصوفي» تتماثل مع «دائرة الرقص الافريقي» والطبول والايقاعات الجماعية.

    وهنا يكمن مربط القصيدة، وهنا وحده ما يمكننا من قراءة شعر محمد عبدالحي قراءة مجمل انتاج مدرسة الغابة والصحراء قراءة ليست ذات رئة مهترئة تتقصد هواء «الأدلوجة» بل قراءة تعمد الى مزج ثنائية «الافرو عروبية» سليلة الغابة والصحراء.
    وهذا أيضاً ما يمكننا من تحليل الظاهرة التكنولوجية والمفاجأة في سر العودة الى التصوف عند محمد المكي ابراهيم في ديوانه الرابع «البستان يختبئ في الوردة» بعد جملة دواوين ثلاثة ظلت تفور منها روائح الاحتقان الأفريقي المتشدد.

    إذن فالعودة الى سنار بهذا المفهوم هى عودة واضحة لإعادة التفكير في تركيبة المجتمع السناري وامكانيات التعايش الديني والثقافي التي كما ذكرنا سابقاً هى أميز مقومات الدولة السنارية حضارياً رغماً عن أن تناولها الشعري عن رواد مدرسة الغابة والصحراء عموماً وعند «محمد عبدالحي» على وجه الخصوص نستطيع ان نوجه له سهام نقدنا وقراءتنا المختلفة لأن المشروع الهويوي في بنيتها إنبنى على علاقات التجاور كما يبين النص الشعري وليس علاقات التمازج.
    الغابة والصحراء/ النخلة والأبنوس/ الوجه والقناع/ الثمر الناضج والجذر القديم/ البروق والرعود/ تمثالاً من العاج وزهرةً مقدسةً
    http://www.alsahafa.info/index.php?type=3&id=2147492237[/B]
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de