وداعا جاك دريدا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-19-2024, 09:21 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-09-2004, 02:45 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وداعا جاك دريدا

    توفي في مستشفى باريس أشهر فلاسفة فرنسا المعاصرين جاك دريدا عن عمر ناهز 74 عاما بعد صراع مع سرطان البنكرياس.

    ويعد دريدا الذي ولد لأسرة يهودية في حي البيار بالعاصمة الجزائرية يوم15 يوليو/ تموز 1930 أشهر فيلسوف فرنسي في العالم, وقد اعتبر الرئيس الفرنسي جاك شيراك في بيان أن ما قام به دريدا -الذي توفي ليلة أمس- كان بمثابة ملامسة "جذور الإنسان التفكيرية في حركة حرة".

    وتتحدث نظرية دريدا "تفكيك البناء" التي لقت رواجا وأصداء واسعة في الولايات المتحدة والتي استندت إلى نصوص فلسفية كلاسيكية، عن استقلالية المحتوى النصي الذي -حسب هذه النظرية- قد لا يفهمه كاتب النص نفسه.

    واعتبرت النظرية التي أثارت جدلا واسعا أن الاحتمالات التأويلية للنصوص والتي قد يفهمها كل شخص بمفرده تدخل ضمن سياق المقاصد الأخرى للنص اللغوي، بمعنى تفكيك المعنى الواحد إلى المتعدد المتفكك.

    وتشير هذه النظرية أيضا إلى استخراجات نقدية للنص أيا كان في احتمالاته التأويلية.

    وقد واجهت هذه النظرية معارضة كبيرة من مدارس البنيوية اللغوية واعتبرها البنيويون اللغويون غير عقلانية ومنافية للمنطق ووصفوها بالسخيفة، واتهموها بالمبهمة والغامضة.

    وفي بريطانيا لقيت نظرية دريدا أيضا معارضة شديدة حيث قامت هيئة التدريس في جامعة كامبردج العريقة عام 1992 بمظاهرة احتجاج ضد قرار رئاسة الجامعة منح دريدا دكتوراه فخرية.

    كما اعتبره الماركسيون أحد أعدائهم لمواقفه المناهضة لهم، وكانت السلطات التشيكوسلوفاكية قد وضعته رهن الاحتجاز عام 1980 على خلفية محاضرة له عن نظريته اللغوية في براغ.

    نشاطه
    تميز ديريدا في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر بإدانته المتواصلة لسياسة فرنسا الاستعمارية في هذا البلد. وغادر الجزائر مع عائلته عام 1962, وغالبا ما كان يتحدث بعد رحيله عن الحنين إلى البلد الذي نشأ فيه.

    التحق دريدا عام 1950 بدار المعلمين العليا في باريس قبل أن يصبح مساعدا للتدريس في جامعة هارفارد الأميركية ثم في جامعة السوربون في باريس.

    وعين عام 1965 أستاذ فلسفة في دار المعلمين العليا حيث شغل منصب مدير دراسات. وزاول ديريدا نشاطه التعليمي لفترة طويلة بين باريس وعدد من أبرز الجامعات الأميركية منها جامعتا ييل وجون هوبكنز.

    وفي عام 1983 أنشاء دريدا معهد الفلسفة الدولي الذي تولى إدارته حتى عام 1985، كما أجرى دراسة نقدية معمقة للمؤسسة الفلسفية ولتعليم مادة الفلسفة.

    مؤلفاته
    قدم دريدا للمكتبة العالمية عشرات الكتب ومئات الدراسات التي عنت باللغة والآداب والفلسفة، ومن هذه المؤلفات التي ترجمت إلى اللغات العالمية:

    الكتابة والاختلاف (ليكريتور إي لا ديفيرانس)

    الانتشار (لا ديسيميناسيون)

    هوامش الفلسفة (مارج دو لا فيلوزوفي)


    الحقيقة بالرسم (لا فيريتيه آن بانتور)

    من أجل بول سيلان (بور بول سيلان).
    نقلا عن الجزيرة نت



                  

10-09-2004, 03:20 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا واضع منهج التفكيكية
    بيروت - محمد علي فرحات الحياة 2004/10/10
    جاك دريدا, الفيلسوف الفرنسي الأشهر في عصرنا, توفي فجر أمس في أحد مستشفيات باريس عن 74 عاماً بعد صراع مع سرطان في البنكرياس.

    وإذا ذكر دريدا تذكر معه التفكيكية, الفلسفة, أو بصورة أدق المنهج, الذي ابتكره وعممه في مجال الفكر والنقد الأدبي في مرحلة ما بعد الحداثة التي نعيش, واستند في هذا المنهج الى قطيعة سبق أن أعلنها نيتشه تجاه الميتافيزيقا. وتتجلى التفكيكية في أنها تقوض مفهوم الحقيقة بمعناه الميتافيزيقي كما تقوض الواقع بمعناه الوضعي التجريبي, وتحوّل سؤال الفكر الى مجالات اللغة والتأويل. ويردد بعض متابعي دريدا الى أن الأساس الوجداني الذي دفعه الى التفكيكية هو وعيه المغاير منذ طفولته كيهودي فرنسي مولود في الجزائر في 15 تموز (يوليو) 1930.

    لكن منهج دريدا التفكيكي هذا دفعه أيضاً الى الوقوف بحماسة الى جانب تحرر الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي وتأييد حق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم, ومواجهة انفراد الولايات المتحدة في ادارة شؤون العالم بطريقة خاطئة, فكان عنوان آخر كتبه الذي شاركه في كتابته يورغن هابرماس "مفهوم 11 سبتمبر", وسبقه كتاب دريدا ما قبل الأخير "قاطع الطريق" ويعني بذلك السياسة الحالية للولايات المتحدة.

    التحق دريدا عام 1950 بدار المعلمين العليا في باريس وعين استاذاً فيها عام 1965 وزاول التدريس والمحاضرة في فرنسا والولايات المتحدة. وعندما ألقى في جامعة جون هوبكنز في واشنطن عام 1966 محاضرته الشهيرة في نقد البنيوية, كان ذلك إيذاناً بانتشار منهجه التفكيكي في الولايات المتحدة حيث حظي باهتمام يفوق اهتمام المثقفين به في باريس وسائر عواصم اوروبا. يقول الناقد الأميركي ج. هلس ميلر: "لقد فكرت في السبب الذي يجعل اميركياً بخلفيتي البروتستانتية ينجذب الى دريدا مثلاً. وأعتقد انني توصلت الى الجواب, فهناك شبه بين أحد أوجه البروتستانتية اجمالاً والتراث اليهودي, أو التراث العقلاني اليهودي في أوروبا, ذلك ان الاثنين لا يطمئنان الى التماثيل والرموز والصور المنحوتة. انه نوع من ظلام الرؤية الغريزي".

    أشهر مؤلفات دريدا "الكتابة والاختلاف", "الانتشار", "هوامش الفلسفة", "الحقيقة بالرسم", "من أجل بول تسيلان". وعلى رغم ان منهجه التفكيكي أحال الى اللغة والتأويل, إلا أن الإحالة هذه ترمي الى نسبية الحقيقة وتحولها الدائم, حتى لا يتحول رمز الحقيقة الى سيف يرهب مبدأ الحياة في ماديتها وفي اجتماعها البشري. من هنا اهتمامه بالوقائع الكبرى التي تطاول البشرية. يقول في حديث مطول أجرته معه جيوفانا بورادوري في 22/10/2001, في عنوان "ما الذي حدث في "حدث" 11 سبتمبر؟":

    "لا شك في أن "حدثاً" كهذا يتطلب اجابة فلسفية. والأفضل من هذا وذاك, فإن هذه الاجابة تتطلب مراجعة جذرية شاملة لجميع فرضيات أشد المفاهيم رسوخاً في الخطاب الفلسفي. فتلك المفاهيم التي كثيراً ما وظفناها في وصف وتسمية وتصنيف مثل هذا الحدث إنما تنم عن نوع ما من أنواع "التنويم العقائدي", لن يتسنى لنا الاستيقاظ منه إلا بفكر فلسفي جديد, إلا بالتفكير في الفلسفة نفسها, خصوصاً الفلسفة السياسية وتراثها. والخطاب الحالي, خطاب وسائل الإعلام والرطانة الرسمية, إنما يثقان ثقة بالغة السهولة بمفاهيم كمفاهيم "الحرب" أو "الإرهاب", القومي أو الدولي".
                  

10-09-2004, 03:26 PM

سجيمان
<aسجيمان
تاريخ التسجيل: 10-03-2002
مجموع المشاركات: 14875

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    اسامة

    ازيك

    شكرا للمعلومات.....غايتو دريدا دا ما عرفتو علا منك حسي...ووقت عرفتو مات......شفت الشقاوة دي؟


    لكن يا اخوي... انت خليت المشي؟
                  

10-09-2004, 03:23 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    وكتبت النهار البيروتية الاتي عن الفيلسوف الراحل:
    جاك درّيدا [1930 – 2004]

    “التفكيكيّ” من أجل بناء فلسفيّ حديث
    الفلسفة لا نعلّمها – والقائل جاك درّيدا – بل نجعل كلّ التعليم فلسفياً ونلقّن التفلسف. بمعرفة الفيلسوف قال وبيقين المحاضر والمعلّم تحت قبّة السوربون وفي جامعات أميركا حيث هو الفيلسوف الفرنسي الأشهر بين معاصريه. جلاءُ قول في فضاء “تفكيكية” صعبة المنال عسيرة الإدراك. ألم يُنعت بالفيلسوف الغامض والأصعب؟ ومع ذلك، ظلّ جاك درّيدا مالىء الفلسفة وشاغل المفكرين والدارسين، ينهض نصّه الشاق و”الشقيّ” تفكيكياً في وجه بنيوية [أو ما بعدها] كان أمثال ليي شتراوس وفوكو من أسيادها الحديثين الذين “ انقضّ” درّيدا على نصوصهم تفكيكاً ونقداً ونقضاً، ولم يوفّر قدامى الفلسفة، من أفلاطون الى كانط بلوغاً الى هايدغر، فهو الذي أظهر كيف أن كانط لدى انصرافه الى تخيل الحرية الانسانية تاه في تصوّر تلك الحرية – وهي أكثر الحقائق أثيرية – كأنها موضوع طبيعي عضوي. وفيما اتفق مع فوكو على أن ما يسيطر اليوم على قطاع لا بأس بحجمه من مثقفي الغرب الراديكاليين هو مذهب التشاؤم المتحرّر، خالفه في عدم تحديد موقع سياسي إذ كان فوكو حريصاً على تأسيس خطاب ما بعد حداثويّ ملتزم سياسياً الى حد ما، في حين أن درّيدا لم تؤرقه هذه المسألة وكان التزامه السياسي غير محدد الموقع. علماً أن درّيدا، اليهودي من أصل جزائري، ناضل للعديد من القضايا السياسية العادلة، مثل مناهضة التمييز العنصري في أفريقيا الجنوبية وجعل إطلاق حرية مانديلا إحدى قضاياه. كما التقى مثقفين فلسطينيين في الأرض المحتلة خلال زيارته الثالثة للقدس عام 1998.

    زعزع جاك درّيدا الكثير من المواضَعَات الفلسفية واشتغل على الميتافيزيك مثلما اشتغل على قضايا العصر الراهن مفككاً معانيها، كالدور الراهن للولايات المتحدة والانقلابات التي أحدثتها العولمة، طارحاً التساؤلات حول ما أضحت عليه مفاهيم العقل والديموقراطية والسياسة والحرب والإرهاب، متفاعلا مع زمنه فيلسوفاً ومفكراً ما بعد حداثويّ، مؤثراً الكتابيّ على الشفهيّ. [المكتوب، في تعبيره، أُهمل مديداً لمصلحة الشفهيّ] ومتفاعلا مع فنون العصر، كالصورة التي أولاها شغفاً واهتماماً [ظهر في فيلمين واُنجز عنه فيلمان].

    جاك درّيدا الذي توفى أمس عن أربعة وسبعين عاماً، من سرطان في الپنكرياس، ولد في الجزائر [منطقة البيار] عام 1930 وتفتح وعيه الفكري على روسو ونيتشه وجيد وكامو، وإثر هجرة ذويه الى فرنسا ا لتحق بالـEcole normale supérieure في باريس عام 1950 حيث اكتشف كيركيغارد وهايدغر والتقى إلتوسير واحتك بموريس بلانشو وترجم “أصل العلم الجيومتري” لإدموند هوسرل [نال لترجمته جائزة جان كااييس]. وعقب إنهاء دروسه الفلسفية شرع في إلقاء المحاضرات والمشاركة في المؤتمرات الفكرية والفلسفية، وأولى محطاته الأميركية كانت في جامعة جون هوپكنز وبداية رحلاته المنتظمة الى الولايات المتحدة، ليغدو فيها الفيلسوف الفرنسي الأشهر. وفي 1979 أصدر كتابه الأشهر “الكتابة والاختلاف” [ترجم الى معظم اللغات العالمية] الذي سبقته ثلاثة مؤلفات وتلاه حتى 1999أكثر من عشرين مؤلفاً منها “هايدغر والمسألة”، “وداعاً لإيمانويل لييناس”، “الحق بالفلسفة” والعديد من العناوين المهمة لمتابعي فكر درّيدا ومحاضراته وحواراته في الصحف والمجلات المتخصصة.

    الفكر الفرنسي والعالمي فقد بغياب جاك درّيدا فيلسوفاً مختلفاً، سجالياً وفريداً من الطراز الرفيع، تفكيكياً من أجل بناء فكريّ معاصر يعيد تأويل المفاهيم ومناقشتها الى ما لا نهاية
    .
                  

10-09-2004, 03:48 PM

Nagat Mohamed Ali
<aNagat Mohamed Ali
تاريخ التسجيل: 03-30-2004
مجموع المشاركات: 1244

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    .



    .
                  

10-09-2004, 03:49 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    يا صديقي سجيمان
    انا ما خليت المشي
    هسي مشيت من فيلي الى فرجينيا

    وشكرا لتعتيلك للبوست

    المش======================اء
                  

10-09-2004, 03:51 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    أحادية لغة الآخر
    جاك دريدا
    ترجمة: عثمان المثلوثي

    7
    ربّما نكون قد انـتهينا للتوّ من وصف دائرة أولى من العمومية. بين النموذج المسمّى أكاديمي، نحويّ، أو أدبي، من ناحية، واللغة المنطوقة، من ناحية أخرى، فالبحر هنالك: بشكل رمزيّ فضاء لامتناهيا لكل طلبة المدرسة الفرنسية في الجزائر، يمثّل شقّ، بل هوّة. أنا لم أعبره، جسدا وروحا، أو جسدا بلا روح (ولكن هل أكون قد عبرته، عبرته بشكل مغاير؟)، حتى، أوّل مرّة، لمّا كنت مبحرا على متن سفينة، قاصدا "مدينة الجزائر"، وكان عمري تسعة عشرة سنة. أول رحلة، وأول عبور في حياتي، أربعة وعشرون ساعة من دوار البحر والتقيّؤ –قُبيل أسبوع من الوجع ودموع الأطفال في المبيت المشؤوم بالمعهد الرديء (في إعدادية معهد لويس الأكبر، في منطقة لم أغادرها فعليا منذ ذلك الوقت). وكما كان يفعل بعض الناس هنا وهنالك، كان بإمكاننا أن "نحكي" إلى ما لا نهاية ما كان "يُحكى" لنا عن "تاريخ فرنسا" بشكل خاص؛ ونفهم بذلك ما كان يُدرّس لنا في المدرسة تحت عنوان "تاريخ فرنسا": فرع لا يُصدّق من فروع المعرفة، قصّة رمزية وإنجيل، بل عقيدة للتلقين تعاليم غير قابلة للمحو بالنسبة للأطفال من جيلي. ودون أن نذكر الجغرافيا: ما من كلمة عن الجزائر، ولا كلمة واحدة تتعلّق بتاريخها وجغرافيتها، في حين كنا نستطيع أن نرسم ساحل بريتاني (مقاطعة في شمال غربي فرنسا ) و مصبّ نهر جيروند وأعيننا مغمضة. وعلينا أن نكون على اطلاع عميق بها، بشكل عام ومفصّل؛ وبالفعل، فقد كنّن نحفظ عن ظهر قلب أسماء كبرى المدن في كل مقاطعات فرنسا، أصغر روافد أنهار السين، والرون، واللوار، أو الغارون، ومنابعها ومصبّاتها. فتلك الأنهار الأربعة غير الخفية لها تقريبا القوة الرمزية التي تتمتّع بها التماثيل الباريسية التي تمثّلها، والتي اكتشفتها بعد فترة كبيرة من بعد بمرح كبير: لقد كنت أواجه حقيقة دروسي في الجغرافيا. ولكن دعنا من هذا. سأكتفي بإشارات قليلة للأدب. لقد كان الأدب أولى الأشياء التي تلقيتها من التعليم الفرنسي في الجزائر، الشيء الوحيد، على أية حال، الذي استمتعت بتعلّمه اكتشاف الأدب الفرنسي، الوصول إلى هذه الصيغة الفريدة من الكتابة التي تسمى "الأدب الفرنسي" كانت تجربة عالم دون أية تواصل ملموس مع العالم الذي نعيش فيه، وتقريبا دون أي شيء مشترك مع مشاهدنا (صورنا) الاجتماعية أو الطبيعية.
    كانت هذه الفجوة (الانقطاع) تصنع فجوة أخرى. وأصبحت، بالنتيجة، موحية بشكل مضاعف . ومن دون شكّ أنها كانت تُظهر الغطرسة التي تفصل دوما الثقافة الأدبية –"النمط الأدبي" literariness كمعالجة معيّنة للغة، والمعنى، والإحالة- عن الثقافة غير الأدبية، حتى وإن كانت هذا الفصل غير قابل للاختزال أبدا في "ما هو خالص و بسيط". ولكن خارج هذا الاختلاف في الأصل (انعدام التجانس) الجوهري، وخارج هذه الهرمية الكونية، نجد أن انقطاعا قاسيا، في هذه الحالة بالذات، كان يشكّل تجزئة أكثر خطرا: تلك التي تفصل الأدب الفرنسي –تاريخه، أعماله، نماذجه، عبادته للأموات، أنماط نقله واحتفاليته، و"أحياءه الراقية"، أسماء مؤلفيه وناشريه- عن الثقافة "الخاصة" بـ"الفرنسيين الجزائريين". فلا يدخل المرء الأدب الفرنسي إلا إذا فقد لهجته [لسانه]. أظنّني لم أفقد لهجتي؛ لم أفقد كل شيء من لهجتي "الفرنسية الجزائرية". فنغمة كلامي تبدو أكثر بروزا في بعض الحالات "العملية" (الغضب أو التعجّب في وسط أسري أو مألوف، وفي غالب الأحيان في الجو الخاص أكثر منها في الجو العام، وهذا معيار موثوق لتجربة هذا التمييز الغريب و المحفوف بالمخاطر). لكنني أود أن آمل، أفضّل كثيرا لو أن ما من شيء يُنشر يسمح ببروز "لهجتي الفرنسية الجزائرية". وفي ذات الوقت، وحتى يثبت العكس، لا أعتقد أنه بمقدور أي شخص أن يكتشف من خلال القراءة ، ما لم أعلن عن ذلك بنفسي، أنني "جزائري فرنسي". فأنا احتفظ، من دون شكّ، بنوع من الاستجابة اللاإرادية المكتسبة من ضرورة هذا التحوّل اليقظ. أنا لست فخورا بهذا، ولا أصنع منه عقيدة، ولكنّ الأمر كذلك: لهجة –أي لهجة فرنسية، ولكن، وفوق كل شيء، لهجة جنوبية قويّة- تبدو لا تتلاءم في نظري مع السمو الذهني للكلام (الخطاب) العام. (أمر غير مقبول أليس كذلك؟ حسنا، أنا أقبله.) غير ملائم، بشكل مسبق، مع وظيفة الكلام الشعري: فلمّا استمعت، على سبيل المثال، لروني شار Rene Char يُلقي أمثاله المكثرة من المواعظ المضجرة بلهجة بدت لي فورا هزلية ووقحة، كخيانة لحقيقة ما، دمّر ذلك الحدث، بشكل كبير، إعجابا كنت أكنه له في شبابي.
    فالنبرة تُشير إلى قتال مباشر مع اللغة عموما؛ وتعني أكثر من مجرّد التنبير accentuation . ويغزو مبحث أغراضها symptomatology الكتابة. وهذا ليس عدلا وإنما الأمر كذلك. ومن خلال الحكاية التي أقوم بسردها على مسامعكم، ورغم كل شيء فإني أبدو وكأني أعلن، أعترف أنني قد تعوّدت على عدم تسامح مُشين ولكنه عنيد: على الأقل بالفرنسية، بقدر ما يتعلّق الأمر باللغة، لا أستطيع تحمّل أو الإعجاب بأي شيء آخر غير الفرنسية الفصيحة (النقيّة). كما أفعل في كل الميادين، لم أتخلّ يوما عن طرح الفكرة الرئيسية "لصفاء اللغة" في كل أشكاله (النبض الأول لما يُسمّى "تفكيكا" يحملها باتجاه "نقد" الصورة الذهنية أو الحقيقة البديهية للصفاء (نقاء اللغة)، أو باتجاه التحلّل التحليلي للتنقية (التطهير) التي ستقود للوراء باتجاه بساطة الأصل غير القابلة للتحلّل)، وما زلت لا أجرؤ على القبول بهذه المطلب المُلزم لنقاوة اللغة ما عدا داخل حدود أكون متأكّدا منها: وهذا المطلب ليس أخلاقيا، ولا هو سياسيا ولا هو اجتماعيا. وهو لا يوحي لي بأي رأي. بل إنه يعرّضني فقط للألم عندما يصادف أن يفشل شخص ما، وقد يكون أنا نفسي، عن بلوغها. وأتألّم أكثر لـمّا أفاجئ نفسي أو أُفاجئ متلبّسا بالجريمة. (ها أننا نتحدّث، من جديد، عن الجرائم رغم ما أنكرته للتوّ). وفوق كل شيء يبقى هذا المطلب عنيدا إلى حدّ يجعله يتخطّى وجهة النظر النحويّة، وتُهمل "الأسلوب" حتى بهدف الانصياع لقاعدة خفيّة أكثر، و"الاستماع" للدمدمة" المستبدّة لأمر يظهر شخص ما بداخلي أنه يفهمه، حتى في الحالات التي أكون فيها الشخص الوحيد الذي يفعل هكذا، وجها لوجه مع اللسان idiom، الغرض النهائي: وصية أخيرة للغة، إجمالا، قاعدة (قانونا) للغة التي ستعهد بنفسها لي أنا فقط. كما لو أنني وريثها الأخير، آخر مدافع ومبرز للغة الفرنسية (من هذه النقطة، أستطيع أن أسمع الاحتجاجات تأتي من جوانب مختلفة: أي نعم، لا تسخر منّا!). وكأنّني أسعى لأن ألعب ذلك الدور، أي أن أعتبر نفسي مطابقا لهذا المشرّع البطل-الشهيد-الرائد-المطارد من العدالة الذي لن يتردّد في أن يبيّن بوضوح أن هذه الوصية الأخيرة في نقاوتها الأساسية والمطلقة، لا تتفق مع أي شيء معطى (متن اللغة، النحو، الأسلوبية، أو الذائقة الشعرية))- والذي لن يتردّد بالتالي في انتهاك كل هذه التعليمات، ليحرق كل شيء بهدف أن يسلّم نفسه للغة، للغته.
    لأنني، اعترفن أنني أسلّم نفسي دائما للغة.
    ولكن للغتي أنا و للغة الآخر كذلك، وأستسلم لها مع النية المسبقة دوما تقريبا بالنظر إليها أنها لا يمكنها العودة: ليس من هنالك، لا من هنا، وليس من هناك، هناك وليس هنا، لا بغرض أن نُضفي تصديق لأي شيء يمنح، بل فقط لما سيأتي، ولهذا السبب فإنني أتحدث عن تراث أو عن وصية أخيرة.
    وبالتالي فإنني أقبل بنقاوة ليست نقية تماما. أي شيء عدا الصفائية purism [الحرص على صفاء اللغة والأسلوب]. فهي، على الأقل، "النقاوة" الوحيدة المهجّنة التي أجرؤ على الاعتراف بميلي لها. إنه ميل صريح لطريقة ما في التلفّظ. لم أتوقف أبدا خاصة عندما كنت أدرّس، عن تعلّم التكلّم بلطف (بأسلوب رقيق)، وهي مهمة شاقة بالنسبة "لأوروبي الجزائر" [ساكن الجزائر من أصل أوروبي] pied-noir ، وخصوصا من داخل أسرتي، ولكن من أجل أن أضمن أن هذا الأسلوب الرقيق في الكلام يكشف عن بديل لما هو محتفظ به هكذا كبديل، بصعوبة، وبمشقة كبيرة، المكبوح عند مجرى الفيضان [بوابة التحكم في التدفق -المترجم]، مجرى فيضان خطير يسمح للمرء أن يخشى الكارثة. فالأسوأ يمكن أن يحدث عند كل منعرج.
    أقول "مجرى الفيضان"، مجرى فيضان الفعل والصوت. لقد تحدّثت كثيرا عن هذا في غير مكان، وكأن مخطط داهية، أو خبيرا في علم ضبط cybernetics النغمة tone ما يزال يحتفظ بوهم آلية تحكّم ويراقب المقياس ليُحدد زمن التشغيل. كان بوسعي أن أتحدّث عن هدير الأمواج التي لا يمكن الإبحار فيها. وهذا الهدير يهدد دوما بالتراجع. لقد كنت أول من يخاف صوته، وكأنه لي صوتي، وأصارعه، بل حتى أمقته.
    وإذا ما كنت دوما أرتجف أمام ما قد أقوله، فذلك بالأساس بسبب النغمة tone وليس الجوهر. وما أسعى إلى إفشاءه بشكل مبهم وكأن ذلك عصبا عني، لأمنحه أو أعيره للآخرين ولنفسي أيضا، لنفسي كما للآخرين، ربّما هو نغمة tone . فكل شيء يُستحضر من التنغيم intonation (في الكلام).
    وحتى من قبل أيضا، فيما يمنح جرسه للنغمة، أي الإيقاع rhythm . أعتقد أنني بشكل عام اعتمد على الإيقاع في مراهنتي بكل شيء.
    وهي بالتالي تبدأ قبل البداية. ذلك هو أصل الإيقاع الذي لا يمكن التنبّؤ به. فكل شيء موضع رهان، ولكن ربّما فاز الخاسر.
    لأنه، من الطبيعي، أن هذا الميل المبالغ فيه لنقاوة اللغة هو شيء تعوّدت عليه في المدرسة. أنا مدرك لذلك، وهذا ما يجب توضيحه. والشيء نفسه ينطبق على المبالغة (المغالاة) عموما. مُغال عنيد. مغالاة معممة. وباختصار فإنني أبالغ. ولكن مثلها مثل الأمراض التي نصاب بعدواها في المدرسة، فإن الفطرة السليمة، والأطباء يذكروننا أن الاحتياطات ضرورية لتقليصها. ويجب افتراض وجود أرضية خصبة. فلا ثورة ضدّ أي انضباط، ولا نقد للمؤسسة الأكاديمية يمكن أن تُخمِد ما بداخلي وسيُشبه دوما نوعا من الوصية الأخيرة، اللغة الأخيرة لآخر كلمة من الوصية الأخيرة:

    ولكن كما اقترحت سابقا، فإن هذا الإفراط ربّما كان أكثر قدما في من المدرسة. لا بدّ أن كل شيء قد بدأ قبل المدرسة؛ ويبقى على إذن أن أحلله بشكل أقرب إلى ماضي السحيق، ولكني ما زلت أشعر أنني غير قادر عن هذا. ومع ذلك، فأنا أحتاج إلى العودة بالتفكير إلى ذلك الماضي الذي يسبق المدرسة حتى أفسّر عمومية نزعة "الإغراق" (الغلوّ) hyperbolism التي اجتاحت حياتي وعملي. فكل شيء يمر تحت تسمية "التفكيك" deconstruction ينهض منه، بطبيعة الحال؛ ومجرّد برقية ستفي بالغرض هنا، بادئة بالإغراق (الغلوّ) hyperbole (مصطلح استخدمه أفلاطون) الذي سيكون قد أمر بكل شيء، بما في ذلك إعادة تأويل Khora، وخاصة، العبور إلى ما وراء عبور العنصر الخيّر أو الواحد ما وراء الوجود (hyperbole…epekeima tes ousias)، إفراط وراء إفراط: منيع. خاصة، نفس الغلوّ الذي كان سيدفع بطفل يهودي فرنسي من الجزائر إلى داخل الاعتقاد، وأحيانا ينادي نفسه، إلى أعماق الجذور، إلى ما قبل الجذور (الأصل)، في ما فوق الراديكالية، فرنسيا بدرجة أكثر وأقلّ ولكن أيضا يهوديا بدرجة أكثر و أقل من كل الفرنسيين، كل اليهود ، وكل يهود فرنسا. وهنا أيضا، [مغاربيا فرنكوفونيا بدرجة أكبر] من كل المغاربة الفرنكوفونيين (الناطقين باللهجة الفرنسية).

    صدقوني، بالرغم من أنني أقيس سُخف ووقاحة هذه المزاعم المؤكّدة (مثل "أنا آخر يهودي" في دائرة الاعتراف circonfession)، فإنني أجازف بها حتى أكون أمينا مع المشتركين في محادثتي ومع نفسي، مع الشخص الذي في داخلي والذي يشعر بالأشياء بتلك الطريقة. بتلك الطريقة دون غيرها. لأنني أقول الحقيقة دائما، بمقدوركم تصديقي.

    بطبيعة الحال، أن كل هذا كان حركة في حركة. والعملية لم تتوقف أبدا عن التسارع. فالأشياء باتت تتبدّل بسرعة أكبر من سرعة إيقاع الأجيال. دامت هذه العجلة قرنا كاملا بالنسبة للجزائر، وأقل من قرن بالنسبة ليهود الجزائر. وبالتالي سيكون هذا التغيّر غير المتزامن diachronic الدقيق ضروريا لهذه الحكاية. لأنه في كل الظواهر من هذا النوع، تقوم الحرب بتعجيل الاندفاع العام. كما فعلت في فترات منح حق المواطنة (الجنسية) وسحبها، وفي تقدّم العلوم والتقنية، والجراحة، والطب عموما، فالحرب تبقى عاملا مسرّعا هائلا. في أواسط فترة الحرب، مباشرة على إثر إنزال القوات الحلفاء في شمال أمريكا في شهر نوفمبر 1942، شهدنا تكوين نوع من العاصمة الأدبية لفرنسا في المنفى وذلك بمدينة الجزائر: غليان ثقافي، وحضور "مشاهير" الكتاب، وانتشار الصحف والمجلات ومبادرات النشر. وهذا يُضفي أيضا وضوحا أكثر زيفا على الأدب الجزائري الذي يُطلقون عليه التعبير باللغة الفرنسية، سواء كان المرء يتعامل مع كتاب من أصل أوروبي (مثل كامو Camus وعدد آخر كثير) أو مع كتاب من أصل جزائري، يمثلون تحوّلا مختلفا جدّا. وبعد سنوات عديدة، في خضم يقظة هذه اللحظة العجيبة من المجد والتي ما زالت تتألق، يبدو وكأنني قد علقت في الفلسفة والأدب الفرنسيين، هذه والأخرى، هذه أو الأخرى: سهام خشبية أو معدنية، جسد مخترِق يتكون من مفردات مرغوبة، هائلة ويتعذّر بلوغها حتى عندما كانت تقتحمني، جمل كان من الضروري تملّكها، ترويضها، ملاطفتها، أي أعشق بإضرام النار، احرق ("الصوفان" amadou ليس ببعيد أبدا)، و دمّر حتّى، وفي كل الأحوال ضع وسما، حوّل، هذّب، أِقطع، شكّل، التحم بالنار، أترك الأمور تأتي بشكل آخر، بعبارة أخرى، لنفسها وبنفسها.

    لنكن أكثر تحديدا. ما من شك أن الملاطفة (التملّق) amadouer كان في هذه الحالة، حلما. وما يزال كذلك. أي حلما هو؟ ليس حلم إلحاق الأذى باللغة (فلا يوجد شيء أجله وأحبه أكثر من اللغة)، وليس تهديدها وجرحها بسبب إحدى دوافع حب الانتقام الذي أشكل منه هنا موضوعي (دون أن أقدر أبدا على تحديد مكان موضع الرفض؛ من يثأر لنفسه ممّن، و أليست اللغة متأثرة بهذه الغيرة الحقودة؟)، ولا يتعلّق الأمر بسوء معاملة هذه اللغة، في قواعدها النحوية، وتركيبتها، ومعجم مفرداتها، وفي مجمل قواعدها ومعاييرها التي تشكّل قانونها، وليست في الانتصاب الذي يجعل منها قانونا في حدّ ذاتها. ولكن الحلم، الذي لا بد أن يكون قد بدأ الحلم به في ذلك الوقت، ربّما كان أن نجعل أمرا ما يطرأ على هذه اللغة. الرغبة في جعلها تصل إلى هنا، بجعل شيء ما يطرأ عليها، هذه اللغة التي بقيت سليمة (بكرا)، دوما مهيبة وموقّرة، تُعبد في صلاة مفرداتها وفي الالتزامات المتعاقدة فيها، وذلك بجعلها تتعرّض لطارئ ما، إذن، شيئا ما يكون حميم جدّا مما يجعلها ليست في موضع الاحتجاج دون حاجة للاحتجاج، وبشكل مماثل، ضدّ فيضها (انبثاقها) الخاص بها، حميم بشكل لا يمكنها أن تعارضه إلا من خلال وصمات شائنة ومخزية، أمرا جد حميم إلى حد أنه يتمكّن من التمتّع بها وفيها، في الوقت الذي تفقد فيه نفسها من خلال عثورها عليها، وبواسطة تحويل نفسها إلى نفسها، مثل الواحد الذي يدور على نفسه، الذي يعود (من نفسه) إلى نفسه، في ذات الوقت لما يجعل ضيف مبهم، قادم جديد من غير أصل معيّن، اللغة المعنية تأتي إليه، ويُكره اللغة عندئذ أن تعبّر عن نفسها بنفسها، بشكل آخر، بلغته. أن تُعبّر بنفسها. ولكن بالنسبة إليه، وبشروطه، تحتفظ في جسدها بأرشيف هذا الحدث الذي لا يمّحي: ليس بالضرورة طفلا بل وشما، شكلا رائعا، يختفي تحت الملابس حيث يختلط فيه الدم بالحبر ليجلي للنظر كل ألوانه. ( الأرشيف المجسّد لطقس ديني لن يُفشي سرّه أي شخص. واحد لا يمكن لأي شخص آخر أن يتملّكه فعلا. ولا حتى أنا، رغم أنني مطلّع على السرّ.

    ما يزال ينبغي علي أن أحلم بذلك، في "حنيني للوطن".
    كان ينبغي علي أن أسمّي ذلك استقلالي عن الجزائر.
    ولكن كما قلت سابقا، لم يكن ذلك سوى حلقة أولى من العمومية، برنامجا مشتركا لكل التلاميذ منذ الوهلة التي يجدون فيها أنفسهم مُخضعين ومشكّلين من طرف بيداغوجية الفرنسية هذه. بإيجاز، منذ الوهلة التي عثروا فيها على أنفسهم.

    داخل هذه المجموعة، المحرومة هي نفسها من الأنماط السهلة وفي المتناول لتحديد الهوية، من الممكن تمييز إحدى المجموعات الفرعية التي كنت أنتمي إليها إلى حدّ ما. بدرجة ما فقط، لأنه حالما يتناول المرء مسائل الثقافة واللغة أو الكتابة، فإن مفهوم الجماعة أو الطبقة لا يبقى يثير موضوعا بسيطا كالإقصاء أو الاحتواء أو الإنتماء. وشبه المجموعة الفرعية هذه، ستكون إذا مجموعة "اليهود الأهليين"، كما كانوا يطلق عليهم في ذلك الوقت. ولكونهم رعايا فرنسيين من عام 1870 إلى قوانين الإقصاء لعام 1940، لم يكن بوسعهم تحديد هويتهم كما يجب، بالمعنى المزدوج "لتحديد المرء لهويّته" و"تماهي المرء مع" الآخر. فلم يكن بوسعهم تعيين هويتهم في النماذج، والمعايير أو القيم التي كان تطورها غريبا عليهم لأنها فرنسية، أسقفية، مسيحية وكاثوليكية. ففي الوسط الذي كنت أعيش فيه، كنا نقول "الـكاثوليك"؛ كنا نسمي كل الناس الفرنسيين غير اليهود "كاثوليك"، وحتى وإن كانوا أحيانا بروتستانتيين، أو ربما أرثوذكسيين: "فكاثوليك" كانت تعني كل شخص غير يهودي، ولا بربري ولا عربي. في ذلك الوقت، لم يكن بإمكان هؤلاء اليهود الأهليين الشبان أن يتماهوا مع "الكاثوليك" ولا مع العرب ولا مع البربر، حيث لم يكونوا عموما يتكلمون لغتهم في ذلك الجيل. ولكن جيلين قبلهم كان بعض أسلافهم ما يزالون يتكلمون اللغة العربية، لهجة معينة من اللغة العربية على الأقل.

    ولكن لكونهم غرباء على جذور الثقافة الفرنسية، حتى وإن كانت ثقافتهم الوحيدة المكتسبة، فإن ثقافتهم التعليمية الوحيدة، وخاصة، لغتهم الوحيدة، لكونهم غرباء، وبشكل أكثر راديكالية، في معظم الأحوال، بالنسبة للثقافة العربية والبربرية* [ونحن نعترض عن هذا التمييز بين الثقافتين، ولنا في هذا الشأن رأي مخالف ليس المجال لمناقشته الآن. -المترجم]، إن الأغلبية الساحقة من هؤلاء "اليهود الأهليين" الشبان بقوا، إلى جانب ذلك، غرباء على الثقافة اليهودية: وهو استلاب لا نهاية له للروح: كارثة؛ في حين يعتبره آخرون فرصة متناقضة. وهذا هو، بأية حال، الانعدام الجذري للثقافة [ inculture حالة اللاثقافة] الذي ما من شك أنني لم أبرز منه بشكل كامل. والذي أنبثق منه دون بروز، من خلال انبثاقي منه بشكل كامل دون أن أكون قد برزت منه.

    هنالك، أيضا، نوع من الحِرْم interdict سيفرض قانونه المكتوب. منذ نهاية القرن الماضي، مع منح المواطنة [الجنسية] الفرنسية، كانت حملة الاحتواء assimilation، كما نقول أو المثاقفة -كانت الدعوة المحمومة "للفرنسة" التي كانت أيضا عملية برجزة * bourgeoisification - نزعة مسعورة جدا وطائشة حدّ أن روح الثقافة اليهودية بدا يستسلم إلى حالة اختناق: حالة من الموت الظاهري، توقف عن التنفّس، نوبة من الغيبوبة، توقف النبض. ولكن ذلك لم يكن سوى أحد علامتين لنفس العدوى، وفي اللحظة الموالية بدا وكأن النبض يتسارع، وكأن نفس "الطائفة" قد تخدّرت أو ثملت، وابتهجت بسبب الترف الجديد. ولنفس السبب أفرغت ذاكرتها، نُقلت، أو أُخليت : وهنالك مليون دليل لإثبات ذلك. لقد كانت تقاوم للتخلّص من الشبح، ولكن فقط لتتقمّص شبحا آخر بأسرع ما يكون. ولو لم تبدأ هذه الحركة في وقت مبكّر، لتعرّت الجماعة اليهودية بشكل مسبق إلى المصادرة الاستعمارية. لست في موقع شرعي وعفوي، لكي أطرح هذا الافتراض الأخير للاختبار: لأنني أحمل الإرث السلبي، إذا جاز لي التعبير، هذه الفجوة في الذاكرة، التي لم يكن لي الشجاعة أبدا، ولا القوة ولا الوسيلة لقاومتها، ولأن عمل مؤرّخ أصيل سيكون ضروريا، وهو ما أحسست نفسي غير قادر عليه. ربّما لهذا السبب بالذات.
    *[برجزة: كلمة نحتها المترجم ليقصد بها نزعة البعض لنشر الذوق البرجوازي ومنح البعض امتيازات شبيهة بالتي تتمتع بها الطبقة البرجوازية المتوسطة أو الحاكمة
    هذا العجز، هذه الذاكرة المعاقة، هي موضوع مرثاتي هنا. هي سبب شقائي لأنني حسب ما أعتقد قد أدركتها خلال سنين مراهقتي، لما بدأت أدرك قيلا مما كان يحدث، كان هذا الإرث قد تحجّر، و تنكرز حتّى [أي أصيب بموت موضعي]، ليُصبح سلوكا شعائريا، لم يعُد معناه واضحا حتى للأغلبية الساحقة من يهود الجزائر. وكنت أعتقد في ذلك الوقت أنني كنت أتعامل مع ديانة يهودية "مكونة من إشارات سطحية ". ولكن لم يكن بوسعي أن أتمرّد -صدقوني، لقد كنت أتمرّد ضد ما أعتبره إيماءات، خاصة أيام الأعياد في المعابد اليهودية- لم أستطع أن أفقد صوابي إلا مما كان ق أصبح الآن عدوى مسيحية ماكرة: الاعتقاد الراسخ في الاستبطانية inwardness [التوجه إلى الباطن، واستغراق المرء في حياته العقلية أو الروحية-المترجم]، تفضيل النية، القلب، والعقل وعدم الثقة بالحرفية literalness [الموضوعية والواقعية والتزام الحقائق بأمانة-المترجم] أو بالفعل الموضوعي الناجم عن آلية mechanicity الجسد [بما فيه من طاقة وقوة، وقدرة على الفعل-المترجم]، وبإيجاز، تنديد، تقليدي جدّ لمذهب الفريسيين pharisaism [معتقداتهم وأخلاقهم التي تتصف بالمراء-المترجم].

    لن أركّز كثيرا على هذه المسائل، المعروفة جيدا والتي شُفيت منها كثيرا. ولكن أثيرها مرورا فقط لكي أشير إلى إلى أنن لست الوحيد الذي تأثر بهذه "العدوى "المسيحية. فالسلوك الاجتماعي والديني، وحتى الطقوس اليهودية نفسها مطبوعة بها، في موضوعيتها الملموسة. فالكناس كانت تُحاكى، والحبر (الحاخام) اليهودي يلبس الغفّارة السوداء (رداء يلبسه الكاهن في الكنيسة)، والقندلفت [شماغ) قبعة نابليونية مرتفعة؛ و "bar mitzvah" أصبح يسمّى العشاء الرباني communion، والطهور اصبح يسمّى "المعمودية" baptism. وقد تبدّلت الأشياء قليلا منذ ذلك الوقت، ولكنني أتحدّث عن الثلاثينيات، والأربعينيات والخمسينيات [من القرن العشرين].
    أما بالنسبة للغة بالمعنى الحرفيـ فلا يمكننا أن نلجأ إلى بديل مألوف، إلى نوع من اللهجة idiom الداخلية عند الطائفة اليهودية، لأي نوع من لغة اللجوء التي، مثل الييدية Yiddish [وهي لهجة من لهجات اللغة الألمانية تكثر فيها الكلمات العبرية والسلافية وينطق بها اليهود في الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الوسطى وتُكتب بالحروف العبرية-المترجم]، تضمن عنصر حميمية، حماية "بيت المرء الخاص به" ضدّ لغة الثقافة الرسمية، مساعد ثاني في أوضاع سوسيو-سيميائية مختلفة. "الأسباعبرية" Ladino [لهجة مزيج من الأسبانية والعبرية -المترجم] لا يتكلّمها الناس في الجزائر، حسب علمي، خاصة ليس في المدن الكبيرة مثل الجزائر العاصمة، حيث حدث أن تركّزت السكان اليهود. (9)
    باختصار، كان هنالك "طائفة" مقطعة ومعزولة. ويمكن للمرء أن يتصوّر الرغبة في محو مثل هذا الحدث، أو، على الأقل، تخفيفه، للتعويض عنه، وأيضا للتنصل منه. ولكن تحقّقت الرغبة أم لم تتحقّق، فإن الصدمة النفسية ستكون قد وقعت، بتداعياتها اللا-محددة، تفكّك وتركّب في آن واحد. هذه "الطائفة" ستكون قد تفكّكت ثلاث مرات بواسطة، ما يمكن أن نسميه، بنوع من العجلة هنا، الموانع interdicts . (1) أولا، فقد انفصلت عن كل من اللغة والثقافة العربية أو البربرية (والأنسب أن نقول هنا اللهجة المغاربية) . (2) فًصلت أيضا عن الفرنسية، وحتى عن اللغة والثقافة الأوروبية، والتي، من وجهة نظرها، لا تُمثل سوى قطبا بعيدا أو وطنا بعيدا، غير متجانس مع تاريخها. (3) وفصلت في الأخير، أو في البدء، من ذاكرتها اليهودية، ومن التاريخ واللغة التي يتعيّن على المرء أن يفترض أنه ملكه، ، ولكن، في لحظة ما، لم تعُد كذلك. على الأقل ليس بطريقة نموذجية بالنسبة للأغلبية الساحقة من أفرادها، وليس بطريقة داخلية "نشطة" بشكل كاف.
    انفصال مضاعف ثلاث مرات لما يتعيّن على المرء، رغم ذلك، أن يستمرّ، من خلال خيال تمثل صورته الزائفة وقسوته موضوعنا هنا، في تسميته نفس "الطائفة"، في نفس "البلد"، ونفس "الجمهورية"، ثلاث مقاطعات من نفس "الدولة-القطرية".
    أين نحن إذا؟ اين نجد أنفسنا؟ مع من يمكننا أن نتماهى لكي نؤكد هويتنا ولنحكي لأنفسنا تاريخنا؟ أولا، لمن نُـعيد سرده؟ على المرء أن يركّب ذاته، عليه أن يكون قادرا على اختلاق نفسه دون نموذج ودون مخاطب مؤكّد. هذا المخاطب يمكن ، طبعا، أن يكون أبدا مفترضا، في كل الحالات في العالم. ولكن صور هذا الافتراض كانت في هذه الحالة جدّ نادرة، مبهمة للغاية، وعشوائية إلى حد أن لفظ "ابتداع" invention يخلو من المبالغة تقريبا.
    إذا ما وصفت هذه المعطيات جيدا، فما هي أحادية اللغة إذا، أحادية لغتي "الخاصة"؟
    إن التصاقي باللغة الفرنسية يتّخذ أشكالا أعتبرها أحيانا "عصبية". فأنا شعر بالضياع خارج اللغة الفرنسية. أما اللغات الأخرى التي أقرأها وأفك شفرتها أو أتكلّمها أحيانا،وبشكل مشوّش، فلن أسكن إليها. حيث أن "السكن" يبدأ في اتخاذ معنى بالنسبة لي. والسكن. لست فقط ضائع، متروك، ودان خارج اللغة الفرنسية، بل لدي شعور بأنني أوفي بتعهداتي وأخدم كل اللهجات، باختصار، بأنني أكتب "الأكثر" و"الأفضل" عندما أشحذ متانة فرنسـتي، "النقاوة" السرية في لهجتي الفرنسية، التي كنت أتحدث عنها سابقا، وبالتالي متانتها، ومقاومتها العنيدة للترجمة؛ الترجمة لكل اللغات، بما في ذلك لهجة فرنسية أخرى كهذه.
    ليس أنني أشجّع ما لا يُترجم. فلا شيء غير قابل للترجمة، بالرغم من الوقت القليل المخصص لإنفاق أو توسيع خطاب كفء يصمد أمام قوّة النص الأصلي. ولكن "غير القابل للترجمة" يبقى -ويجب أن يبقى، كما تمليه علي قواعدي- الإيجاز الشعري في اللهجة (العبارة)، وهي الأهم بالنسبة لي، لأنني سأموت بسرعة أكبر بدونها والتي تعتبر هامة لي، أنا نفسي، حيث يفشل دوما "مقدار" شكلي معين في إعادة الحدث المميز للأصل، أي، أن تتركها تُنسى حالما تُدوَّن، لتحمل بعيدا عددها، الظل العروضي لكمّها [وحدة من الطاقة-المترجم] كلمة بكلمة، إذا أردتم، أو مقطعا. منذ الوهلة التي يتم فيها التخلي عن هذه المعادلة الاقتصادية -وهي مستحيلة تماما على فكرة- كل شيء يمكن ترجمته، ولكن ترجمة غير محكمة، بالمعنى غير الدقيق للفظة "ترجمة". أنا لست بصدد الحديث عن الشعر، فقط عن العروض، عن التفعيلات (النبرة والمقدار في زمن التلفظ). وبمعنى ما، لا شيء غير قابل للترجمة؛ ولكن بمعنى آخر كل شيء غير قابل للترجمة؛ فالترجمة تسمية أخرى للمستحيل. بمعنى آخر لكلمة "ترجمة"، طبعا، ومن معنى لآخر- من السهل لدي دائما أن أظل صامدا بين صيغتي المبالغة هاتين واللتان لا تختلفان أساسا، وتُترجمان إحداهما الأخرى دوما.
    كيف يُعبّر المرء وكيف يعرف، بيقين منسجم مع نفسه، أنه لن يسكن أبدا لغة الآخر، اللغة الأخرى، عندما تكون هي اللغة الوحيدة التي يتكلّمها، ويتكلّم بعناد أحادي اللغة، بطريقة اصطلاحية غيورة و صارمة، دون أن يكون،مع ذلك، أبدا يشعر بالارتياح فيها؟ والحارس الغيور الذي ينصبه المرء على مقربة من لغته، حتى وإن كان يندد بالسياسات القومية للغة (فأنا أقوم بهذا وذاك)، يتطلّب مضاعفة shibboleths كتحديات عديدة أمام الترجمة، والعديد من الضرائب تُجمع على حدود اللغات، العديد من التحالفات مخصصة لسفراء اللغة، العديد من الاختراعات مخصصة للمترجمين: وبالتالي ابتكر في لغتـك إذا استطعت أو أردت أن تستمع للغتي؛ ابتكر إذا استطعت أو أردت أن تجعل لغتي مفهومة، مثلما هي لغتك، حيث أن حدث عروضها لا يقع إلا إذا كان في موطنه، في المكان نفسه الذي هو "كونها في موطنها" يزعج المتعايشين معها، المواطنين، وأبناء البلد؟ أبناء بلد كل بلد، الشعراء المترجمين، الثوار ضد الوطنية! هل تسمعونني! في كل مرة أكتب كلمة، كلمة أحبّها وأحب أن أكتبها؛ في زمن هذه الكلمة، في لحظة مقطع وحيد، تستيقظ في داخلي أنشودة الدولية الجديدة. ولا أقدر على مقاومتها، فأخرج للشارع تلبية لندائها، حتى وإن كنت ظاهريا أعمل جالسا إلى طاولتي بصمت منذ الفجر.
    ولكن فوق كل شيء، و هاهو السؤال الأكثر خطرا: كيف يمكن لهذه اللغة، اللغة التي يتكلّما أحادي اللغة هذا، ومقدر عليه أن يتكلّمها، دائما أبدا، أن لا تكون ملكه؟ كيف بإمكان المرء أن يصدّق أنها تظل دائما صامتة بالنسبة لشخص يسكنها، وتسكنه بشكل حميم، وأنها تبقى بعيدة، متنافرة، غير مسكونة، ومقفرة؟ مقفرة كصحراء على المرء أن ينمو فيها ويزرع الأشياء، ويبني ويعكس ويُبرز فكرة الطريق، وأثر العودة، ومع ذلك فهي لغة أخرى.
    أقول طريق وأثر العودة، لأن ما يميّز الطريق route عن المسرب path أو عن "vis rupta” وهو جذر الكلمة، وأيضا كما تختلف الطريقة methodos عن "Odos"، هو التكرار، العود، المقلوبية، القدرة على التكرار، التكرار المحتمل لخط الرحلة. كيف يكون ممكنا أن هذه اللغة أكانت فطرية received أو مكتسبة learned ، فإن هذه اللغة محسوسة، مستكشفة، مطورة، ويجب أن تتم إعادة اختلاقها دون خط رحلة، ودون خريطة، مثل لغة الآخر.
    لا أدرى ما إذا كنت أجانب التكبّر أو التواضع إذا ما ادعيت أن تجربتي كانت، بشكل كبير، هكذا، أو أنها تشبه قدري قليلا، على الأقل من ناحية صعوبتها.
    لكن سيقال إلي، وليس دون دوافع، أن الأمر دوما كذلك بداهة -وبالسبة لكل الآخرين. فاللغة التي نسميها اللغة الأم لم تكن أبدا في صيغة الجمع، ولا خصوصية، ولا غير مأهولة. السكن: هذه قيمة مربكة وملتبسة في ذات الوقت؛ فالشخص لا يسكن ما تعوّد أن يسميه إقامة. فلا يوجد موطن ممكن دون هذا الاختلاف في هذا المنفى وهذا الحنين. ومن المؤكد، أن هذا معروف كثيرا أيضا. ولكن هذا لا يعني أن كل المنافي متساوية. من هذا الشاطئ، نعم، من هذا الشاطئ أو هذا الانجراف المشترك، كل المنافي (الاغترابات) تبقى شخصية.
    لأن هنالك تحريف لهذه الحقيقة. هذه الحقيقة الكونية البديهية لوجود إنسلاب جوهري في اللـغة -التي هي دوما لغة الآخر- و، وبنفس الشكل، في كل الثقافة. هذه الضرورة يُعاد وسـمها re-marked هنا، وتُكشف مرة أخرى، ومرّة أولى أخرى، في إطار لا يضاهى. إطار يسمّى تاريخي أو مفرد، إطار يبدو اصطلاحي، يحدده ويطرحه كظاهرة من خلال إعادته إلى ذاته.
                  

10-09-2004, 03:55 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    شكرا للصديقة نجاة على انزال صورة جاك دريدا


    القراءة: جاك دريدا ، ونظرية التفكيك اسم الكاتب : خالدة حامد تسكام التاريخ: 2000م

    --------------------------------------------------------------------------------



    جاك دريدا ، ونظرية التفكيك..ـــ خالدة حامد تسكام

    تعد التفكيك deconstruction أهم حركة مابعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً. وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة، فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد مثل ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون تحت خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم من التفكيك الذي يعدوه سخيفاً وشريراً ومدمراً. ولم يخلو أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد.‏

    فهل أن التفكيك مدمر حقاً؟ وإذا كان الجواب نعم، كيف يكون، ذلك ولماذا؟ وإذا كان الجواب لا، فلماذا هذا الرعب؟لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها، ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب "في علم الكتابة"(1) Of grammatology الذي يعد لسان التفكيك... العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا، الفيلسوف والناقد الفرنسي.‏

    وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الثانية فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations محتملة، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا، وسوف أعمل أنا على توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بتقديم وصفي وتقويمي لمفاهيم التفكيك.‏

    يؤكد م.هـ.ابرامز أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو: "1 ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة، النص المكتوب أو المطبوع، 2 ـ إنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية"(1) . ولم يعمد أبرامز إلى تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكاً من خلال مساواته مع البنيويين الفرنسيين الآخرين فحسب، بل أنه شوهد إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل "الكتابة" ecriture و"النص" text. وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب وأن مفهوم النص محدد على نحو غير اعتيادي.‏

    وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ماجاء به أبرامز لا يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة.‏

    أما نيوتن غارفر فهو معلق آخر على دريدا، إذ يؤكد أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق:‏

    ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، والذي يسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من الاعتبارات البلاغية(2) .‏

    وقد حظيت الحجة التي تقول إن التفكيك حقل معرفي بلاغي بالدعم من لدن هيليس ميلر الذي يقول: "إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً"(3) ، ويعتقد موراي كريغر أن دريدا "بنيوي نقدي قد تغلب على البنيوية وقهرها، وربما يكون قد أبطلها أيضاً، "وأضاف أن الهجوم الذي شنه دريدا يعد "شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير"(4) ، ويؤكد فريدريك جيمسون أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف(5) .‏

    ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو تقييماً سليماً لنظرية دريدا، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث في التفكيك، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون أن المنطق مستنبط من البلاغة، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان إدراك حداثة أفكاره، كما أن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد على أن دريدا يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا، والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئاً سوى نقل الاهتمام من "الكلام" الى "الكتابة"، وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة، لهو سوء تأويل حقاً. إذ ينبغي على المرء أن يكون حذر عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية إلى فهم دريدا والتفكيك. وقد انقسم النقاد إلى فريقين... فهم أما يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره، ولهذا السبب لا يمكن الاعتداد بالمادة الثانوية، ولا يمكن أن نعدها مسالكاً سالكة توصل إلى عالم التفكيك، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم وهيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن الذين هم بقدر أصالة دريدا، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة تقريباً ونادراً مايفسر دريدا... المعلم العظيم الأول للتفكيك. ويعد فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك، ومما لاشك أن الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا.‏

    ويمكن القول أن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وأن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تمتنع عن التعريف. وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك... وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا، وسأنوي بعد وصف وتحليل المصطلحات التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال عن الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي، وسأبين في المراحل النهائية من تحليلي أن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وأن للتفكيك مضامين روحية.‏

    ومن الجدير بالذكر أن "الكتابة" و"الكلام" كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا. وتتمع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وأن الكلمة المنطوقة "صوت" phone كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي. كما تُعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصورة الصوتية. وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً Signifier تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول signified الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر. ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال. ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيء أشبه بالثالوث في هذه العلاقة: الذهن الإنساني، الدال الصورة الصوتية)، المدلول المفهوم).‏

    والآن، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي للغة؟ تبعاً إلى المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة: وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة المنطوقة... وهكذا فإن "الكلمة المكتوبة هي دال المدلول وتعد ثانوية بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة"، ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال. فإذا أردت أنا استحضار مفهوم "زهرة" ينبغي عليّ عندئذٍ أن أنطق صوت "زهرة" زَهَـ رَة)، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية. لكنني حينما أكتب كلمة "زهرة" فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من خلال بنية كتابية graphic structure ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صلة بالمفهوم، بل إن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية فحسب، إنها شيء أشبه بالطيف، وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها، بل لابد من إهمالها.‏

    وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية ولاهوتية (6) ، وكتب دريدا في معرض تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً:‏

    .... إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً، ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضراً ذاتياً،، كما يمكن توليده من خلال الصوت بوصفه صفة ذاتية. حماسة الدال لا يمكن أن تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت ذاته. وكذا الحال مع تجربة الصوت، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها إقصاء للكتابة، بمعنى آخر إقصاء للدال" الخارجي"، "المحسوس"، "المكاني" الذي يعيق الحضور الذاتي(7) .‏

    ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتبة التقليديين هما "متمركزان حول اللوغوس" logocentric، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به ما هو متجه ميتافيزيقيا أو ماهو متجه لاهوتياً(9) ، ولكي أكون أكثر دقة أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت بهما الميتافيزيقا. والحق أن هذا "التمركز حول اللوغوس"، هو "تمركز حول الصوت" phonocentrism.. ذلك الاعتقاد الذي يرد أن الصوت يقارب الواقع المتعالي(9) transcendental. ونجد في نظرية دريدا، أن التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة: النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم.ويركز التمركز حول العقل والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل الإنساني والواقع المتعالي. ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم الهندي لسلطة الـmantras. ويمكن تعريف الـ"mantra" بأنه صوت أو سلسلة من الأصوات. ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة المتعالية إذ نعزي الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها... فكيف يمكن لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم "mantra" أن يكون متمتعاً بالسلطة؟ أنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل كوسيط بين العقل والسلطة المتعالية. وأنا لا أسعى هنا إلىتأكيد أن المفهوم الغربي التقليدي الخاص بالتمركز حول العقل، التمركز حول الصوت هو المفهوم نفسه الخاص بـmantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه.‏

    ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو "التمركز حول الكتابة" graphocentrism، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل أن يدخل في صلب نظرية دريدا. ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية grphic، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم phoneme الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظاً ما أو كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة). وإذا علمنا أن الكتابة كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم، تبعاً إلى مايذكره المفهوم التقليدي، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها صلة عدا كونها تمثل الصورة الصوتية. ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة، وهو يمثل قلباً للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على الكتابة أو الكلمة المكتوبة.‏

    وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول العقل إلى التمركز حول الكتابة(10) ، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولابد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس.‏

    فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي يمثلاه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذٍ يكون التركيز على الكلام هو التركيز على الروح والتركيز على الكلام هو التركيز على التمركز حول الصوت والتمركز حول العقل). أما التركيز على الكتابة فهو التركيز على الجسدوالتركيز على الكتابة هو التمركز حول الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركز حول الكتابة، وإذا كان التمركز حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذٍ يمكن تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط، وأنه تحد لما هو أخلاقي، إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب... فهل من المقنع أن نقول أن التفكيك عدمي؟ nihilistic ويمكن القول أن جميع هذه التوكيدات صحيحة، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو "نعم" عن كل مايقوله دريدا، وكل مايقصده التفكيك. سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية.‏

    فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام والكتابة، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني liguistic للغة والمفاهيم التي يحاول الوصف بناءها. والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول أن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول. وتزعم اللسانيات الحديثة، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول، والبنيوية، التي تدين لذلك المفهوم، إنهما جعلتا من دراسة اللغة، وفعل النقد حقلين معرفيين علميين، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع فحسب، لأن مفهوم الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم الكلام والكتابة التقليدية. وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت، ما يأتي:‏

    دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول... حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة، ولهذا السبب يبقى هذا المفهوم في ضمن تراث مفهوم التمركز حول العقل الذي هو في حقيقته تمركزاً حول الصوت: التقارب المطلق للصوت والكينونة being، وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى OG،ص 12-11).‏

    ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد، هو في حقيقته النسق القديم نفسه، أي نسق التمركز حول اللوغوس ـ التمركز حول الصوت الذي هو نتاج الميتافيزيقا.‏

    ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة اللغة في ضوء القطبية الثنائية. بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية... مفهوم الواقعي والمثالي، مفهوم الجسد والروح، مفهوم الخير والشر... قد فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية مشابهة. وتعد الحدة اللسانية، التي تقول إن الصورة السمعية تستحضر المفهوم أي أن الدال يستحضر المدلول)، تركيزاً على أولوية الكلمة المنطوقة على الكلمة المكتوبة، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة، ذلك الإهمال الذي نتج عن النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد للكلمة المكتوبة، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي. وخلف مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة اشتراطية قوية.‏

    وقد أطلق دريدا تسمية "المفهوم السوقي للكتابة" على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة، وعدّاه مفهوماً ثانوياً، أي شيئاً ليس له وجود إلا لغرض تمثيل الصوت الذي تجسد الكتابة. ويضيف قائلاً أن الاعتقاد الذي ساد في التراث الغربي بصدد الكتابة هو أنها "الحرف" و"النقش المرئي"، و"الجسد والمادة"، الخارجية بالنسبة إلى العقل. وهذا هو المفهوم السوقي تحديداً. وقد نبذ دريدا هذا المفهوم السوقي الذي كان يوجه فهمنا للغة،على الرغم من أننا لم نكن واعين به تماماً، مثلما وجه أداءنا في ميدان النقد الأدبي من خلال دفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يستنبط المعنى ويعطيه فقط حينما يرتبط بفكرة ما، والتي ينبغي أن ترتبط، بالمقابل، بفكرة أخرى وهكذا دواليك بحيث أن هذه الأفكار كلها ستتجمع في فكرتنا عن الكينونة المتعالية، ولهذا السبب أصبحت فكرتنا عن الكينونة المتعالية تعمل بمثابة فكرة تتحكم في أفكارنا عن اللغة، وأفكارنا في النقد.‏

    ... وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها.. ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى، وسوف تتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. ومن الجدير بالإشارة أن جميع شذرات الأفكار التي يمكن نسجها في نسق واحد، يجمعها مركز واحد تمثله فكرتنا عن الكينونة المتعالية، وإن احتمالية النسق توحي بوجود المجموع. ويمكن تعريف المبدأ الجمعي بأنه فكرة الكينونة التي هي إبداع الميتافيزيقيا، وقد تمثلت محاولة دريدا بتحرير فهمنا للغة وفعل النقد من هذا التأثير الجمعي الذي مارسته الميتافيزيقا، وقد توصل إلى عملية التحرير هذه من خلال صياغته لمصطلحين جديدين من الممكن أن يبطلا مفهوم اللغة القديم وطريقة النقد القديمة. إلا أن أذهاننا خضعت لاشتراطات الفهم التقليدي للغة سواء كنا واعين بذلك الفهم أم لا. فنحن حينما نزعم أننا صغنا أفكاراً جديدة فإننا لم نفعل في حقيقة الأمر سوى تحويل الأفكار القديمة، فعلى سبيل المثال أن المصطلحات اللسانية التي جاء بها سوسير التي يقال عنها بأنها أحدثت ثورة في فهمنا للغة هي نتاج آخر للميتافيزيقا. فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول إن نسق اللغة الجديد علمي،، والحق أن بالإمكان أن تتولد أفكار جديدة حينما تكون أذهاننا محايدة. وإن القصد من وراء عرض دريدا للأساس الميتافيزيقي للغة والنقد هو دفع أذهاننا إلى الحيادية لأننا ندرك تماماً أن ظاهرة طبيعية تماماً مثال اللغة تخفي في داخلها بذور الميتافيزيقا، بل حتى التفسير العلمي للغة الذي قدمه سوسير هو في الحقيقة ضحية للميتافيزيقا.‏

    وقد شرع دريدا، بعد عرض الأساس الميتافيزيقي الذي تقف عليه اللغة، في صياغة مصطلحاته الخاصة التي بإمكانها توليد فهم جديد للغة.. وتشكل هاتان الخطوتان بنية التفكيك. وسأبدأ الآن بوصف وتقويم المصطلحات التفكيكية.‏

    لقد استند مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا إلى ثلاث كلمات معقدة جداً، هي: الاختلاف difference والأثر trace والكتابة الأصلية‏

    arche- writing. وسأعمل على تفسير كل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاثة بأوسع قدر ممكن تسمح به محددات هذا المشروع، وسأبين الكيفية التي تؤدي بها هذه المصطلحات إلى فعل التفكيك. فالاختلاف يشير إلى فعلين actions: 1 ـ أن يختلف، أن لا يكون متشابهاً "differ:"، 2 ـ أن يرجئ ويؤجل(11) ، "deffer" وينبغي الانتباه إلى إن الأول مكاني spatial والثاني زماني temporal. ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة: أي الاختلاف والتأجيل، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل، وليس من قبل الدال والمدلول، بمعنى أن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في العلامة على الإطلاق. ويمكن توضيح ما ذكرناه بالمثال الآتي: فنحن نميز بين كلمتي three وتعني ثلاثة)، وtree وتعني شجرة)(2) ، "في الكلام والكتابة، فهما مختلفان تماماً وتكشفان عن هويتهما identity. ويعد هذا الاختلاف إحدى القوتين الموجودتين في كل علامة. أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء، أي قابليتها على التأجيل، فعلى سبيل المثال إن كلمة "وردة" في قصيدة ما لا تبدأ بكشف المعنى إلا حينما يدرك أنهاليست تلك الوردة التي نراها في الواقع. بل إن لها شيئاً آخر، ذلك الشيء الذي ينبغي اكتشافه. ولهذا السبب فإن العلامة نصفها وافي والنصف الآخر غير واف. وهذه الحقيقة ضرورية لبداية فهمنا إلا إنها غيركافية بسبب نقصها. ومثلما أكد سوسير فإن العلامة هي ليست الدال + المدلول بل العلامة هي الاختلاف + الإرجاء. ويرى سوسير أن العلامة اتحاد في حين يراها دريدا اختلاف.‏

    وبما أن العلامة غير وافية وناقصة لذلك ينبغي أن تفهم على إنها "تحت المحو" under erasure وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها. فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها. ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة عليها. فعلى سبيل المثال إن كلمة "مرئي" التي استعملها آنفاً لم تحمل أية إشارة واضحة عليها، لكنها علامة برغم ذلك، لكن إذا نظرنا إليها من زاوية تفكيكية فإنها ستظهر عندئذٍ علامة مشطوبة، على النحو الآتي: "مرئي". وينبغي ألا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي، بل على نحو إيحائي فقط. فهذه الشطبة توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها، بل عدم قطعيتها. إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها إنها دال لشيء أزلي، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة، كما إنها لا تحيل أي شيء متعال... فالعلامة سياقية contextual وهي تخلق سراب المدلول، وإن جل ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثاً عما تحتاج هي إليه وتذكرنا بما هو غير كائن فيها، ولهذا السبب أن العلامة "أثر"، فهي ليست التمثيل المرئي أو الكتابي المحسوس للصورة الصوتية بل إنها الأثر الذي يصفه دريدا بأنه ليس طبيعياً، أي أنه ليس الإشارة أو العلامة الطبيعية أو المؤشر index بالمعنى الهوسرلي)، أكثر من كونه ثقافياً، وإنه ليس مادياً أكثر من كونه نفسياً، وإنه ليس بيولوجياً أكثر من كونه روحياً.‏

    إن ماهو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ماهو غير كائن فيها، ولهذا السبب فإن ما هو موجود في العلامة يحمل أثر ماهو غير موجود فيها،وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورنا أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة. وهكذا نقول أن العلامة أثر، وتحمل في أثرها قوتين هما الاختلاف والإرجاء. وهكذا صار من الضروري أن يتغير مفهوم الكتابة مع ظهور مصطلحي "الاختلاف"، و"الأثر"، إذا ما عاد بالإمكان الإبقاء على تعريفها بأنها "الحرف" و"النقش المحسوس" و"الجسد والمادة"، الخارجية بالنسبة إلى العقل. وعند محاولة دريدا تعريف الكتابة وضح ذلك قائلاً: "... إنها النقش عموماً، سواء كان ذلك حرفياً أو غير حرفي حتى وإن كان ماتم توزيعه في الفراغ المكان) غريباً عن نظام الصوت..."، OGص9)(12) .‏

    وبهذا المعنى يمكن أن نعد التصوير السينمائي والرقص والبالية والموسيقى والنحت جميعها كتابة. وقد لاحظ دريدا عند التوسع بمفهوم الكتابة هذا أن:‏

    المرء قد يتحدث أيضاً عن الكتابة الرياضية أي الرياضة عموماً) أو الكتابة العسكرية أو السياسية في ضوء التقنيات التي تتحكم بهذه المجالات حالياً.وهذا لا يصف نسق الدلالة الذي يرتبط ارتباطاً ثانوياً بهذه الأنشطة فحسب، بل يصف أيضاً ماهية هذه الأنشطة ذاتها ومضمونها. OGص9),.‏

    فاللغة بذاتها هي كتابة ضمن ذلك المعنى OGص. وقد لاحظ غيتاري سبيفاك: أن "ثمة شيء يحمل في داخله أثر التغيير الأزلي، أي بنية النفس، بنية العلامة، ويطلق دريدا على هذه البنية اسم "الكتابة"(13) ، وقد ذكر سبيفاك الملاحظة الآتية في معرض توضيحه لمفهوم الكتابة: "هكذا نجد أن الكتابة هي اسم البنية التي يسكنها الأثر دائماً. وهذا مفهوم أوسع من المفهوم التجريبي للكتابة الذي يشير إلى نسق دلالة تجريبي على جوهر مادي" OGص: XXXIX ).‏

    وقد أطلق دريدا اسم "الكتابة الأصلية" على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة السوقي الضيق. وتعمل الكتابة القوسية في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية. والكتابة بمعناها الضيق تعد كتابة graphic تعتمد مفهوم الجرافيم الذي هو في حقيقته دال صرف. أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي ويمكن القول أن الشكل الكتابي graphe هو "أثر متمأسس" OGص46).‏

    وقد أصبح التوجه نحو التمركز حول الكتابة النظرية التفكيكية دلالة تضمين واسعة بسبب الأثر المتمأسس، ولهذا السبب فإن التغيير الذي أحدثه دريدا لم يكن تغيير بالأهمية التي تمتع بها مفهوم الكتابة على مفهوم الكتابة قدر تعلق الأمر بالفهم التقليدي لهذه المصطلحات. إذ يوحي التمركز حول الكتابة، بالمعنى الذي حدده دريدا، بالتوجه الذي يسلكه الفهم على نحو يدفع الذهن إلى تصور وظيفة الأثر في أنواع التعريف كلها التي تسير الوعي أو الإدراك، فالأثر يبدي عمله في صورة البورتريت الصورة الشخصية)، والملصق الجداري البوستر) واسم العلم. والإيماءة والكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة، وغيرها.ويمثل التمركز حول الكتابة الإدراك الجديد لوظيفة الأثر. فأنا حينما أتصور صورة شخصية يبدأ ذهني أو إدراكي بالعمل رغبة مني في فهم دلالة هذه الصورة، وتعد عملية اشتعال الذهن غير مادية، فالذهن يتحرك بحثاً عن شيء بعيد عما موجود في الصورة بمعنى البحث عن شيء خلف بصماته الشبحية على الصورة)، وتلك هي وظيفة الاختلاف. في حين أن البصمة الشبحية هي الأثر. لأن الأثر بذاته غير موجود OGص167)، ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئاً ما، شيئاً غائباً، قد ترك بصماته بصماته الشبحية) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن وتلك البصمات الشبحية هي الأثر). ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء الاختلاف + الإرجاء = الاخـ "ت" لاف)(3) .‏

    ويتم عرض مفهوم اللغة التقليدي بوصفه أسطورة... فقد كان ينطوي بداخله على شيء غامض: مثل قرب الصوت من المدلول، وغيرها. ونلاحظ أن العنصر الغامض هو العنصر الميتافيزيقي، فقد كانت الميتافيزيقا تسيطر على مفهومنا للغة. وقد صاغ دريدا مصطلحات جديدة وشكل مفاهيم جديدة حتى يتكون فهماً للغة متحرراً من مفهوم الميتافيزيقا. ولهذا السبب يعدتحرير فهم اللغة من الميتافيزيقا إزالة للغموض والحيرة. إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً. وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة والحيرة، إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً. وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة الطابع الأسطوري) أيضاً(14) . ومن الصواب أن نقول أن التفكيك يبدأ بإزالة الغموض وإزالة الأسطرة في الفهم التقليدي للغة.‏

    لقد انطوت دراستنا هذه للتفكيك على ثلاث مراحل، تمثلت المرحلة الأولى في تسليط الضوء على مفهومي الكلام والكتابة، واشتملت على مسألتين مركزيتين هما: السبب الذي يكمن وراء الاعتقاد السائد الذي يقول بأسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وما مدى البعد الذي وصلته الميتافيزيقا في تأثيرها. ودرسنا في المرحلة الثانية الزعم اللساني القائل أن اللسانيات الحديثة أضفت طابعاً علمياً على دراسة اللغة وجعلتها حقلاً علمياً. وتمثلت المسألتين المركزيتين اللتين تناولتهما في هذه المرحلة بتأكيد أن المفهوم اللساني للعلامة هو صورة أخرى للمفهوم التقليدي للكلام والكتابة، وعلى أن اللسانيات الحديثة هي ضحية الميتافيزيقا، وتتألف المرحلة الثالثة من وصف مصطلحات دريدا وتقويمها: الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية. وقد سلطنا الضوء على دلالة مصطلح التمركز حول الكتابة من منظور دريدا.‏

    وبناء على ماسبق، لقد تغير فهمنا للغة، فما هو مصير النقد؟ يبدأ الجواب عن هذا السؤال بافتراض أن الأدب هو شكل من أشكال الكتابة، وإن القصيدة أو القصة أو أي عمل أدبي هو بنية آثار... تلك الآثار التي تعرف أنها بصمات شبحية لا نعرف ماهيتها إلا إننا واثقون من كينونتها ووجودها. أما النقد، الذي يعرف بالدرجة الأساس بأنه بحث في كلمة، سطر، نص، أو أي شيء يحرك الذهن من نقطة إدراك حسي معينة إلى عوالم البحث بمعية دفع قوي للتأويل، فإنه يبدأ بالشك، الشك الذي يستند إلى الإقناع، فالناقد يشك في مظهر العلامة كأن تكون كلمة، سطراً، قصة تمثالاً، صورة بورتريت،... الخ). وذلك لأنه يحمل قناعة مؤداها أن ما يظهر له هو ليس كل شيء، بل هناك شيء آخر، فنحن لا نكتفي بالأشياء كما هي، بل نرغب بالبحث فيها والتوغل إلى أبعد من حدودها لاكتشاف أسرارها لأننا نشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً أو شيئاً غائباً عما نتصوره نحن وندركه حسياً، وإن هذا الشعور الأزلي بأن هناك شيئاً مفقوداً أو غائباً هو الكتابة الأصلية. ويعد الأدب واحداً من أنواع التعبير عن الكتابة الأصلية، بينما يعد الرسم نوعاً آخر، والموسيقى نوعاً آخر أيضاً، وتعمل الكتابة الأصليةبصفة آثار في الموضوعات. فالآثار أشبه ماتكون بطبع الأقدام.... فمن هو الذي مشى على الرمال؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان، وإن كل تلك البصمات الإشارات) التي تركها خلفه تذكرنا به إلا أنه مفقود وغائب. ويمكن تعريف الكتابة الأصلية بأنها إدراكنا حقيقة انه مفقود، وأنه غائب، والذي يرافقه الشعور بالمعاناة المتولد من تجربتنا التي نستشف منها عدم القدرة على اكتشاف هذا الغائب على الرغم من صمتنا المطبق أو عنفنا الصارخ، فكل البصمات الإشارات) التي يخلفها وراءه هي الآثار... البصمات الإشارات)، الشبحية، إذ أن هذه البصمات الإشارات) هي التي تؤكد حضور هذا الغائب على الرغم من غيابه، فياله من موقف غريب حقاً! وربما كان التشخيص ـ أي إضفاء الصفات الشخصية على غير العاقل ـ صيغة من صيغ التبسيط إلا أنه قد يساعد على الفهم.‏

    وقد اعتاد النقد التقليدي الظهور مع فكرة ما عبر المواجهة مع العمل الأدبي، ولهذا السبب يعد نقد القصيدة اكتشافاً لمعناها. ولهذا فإن المعنى فكرة أو مفهوماً يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو مفهوماً آخر والاستمرار بهذا الإلحاق حتى تلتحم هذه الأفكار في فكرة الكينونة المتعالية أو الحقيقة المتعالية. لكننا لا نعي حقيقة أن ما نسميه "المعنى" هو في حقيقة الأمر فكرة تتخذ من الميتافيزيقا ملاذاً لها. ولم تنج البنيوية، التي يقال عنها بأنها سيرورة ثورية،من قبضة الميتافيزيقا، وأن القول أن البنيوية توحي بالنسق، يعني أن هناك مركزاً في مكان ما، وذاك المركز هو المفهوم المركزي الذي من الممكن اكتشافه بوصفه مفهوم الكينونة أو السلطة المتعالية. ويوحي مفهوم النسق أن كل شيء مفهوم على أفضل وجه، أو أنه قابل للفهم في الأقل، فحيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش الخلط).‏

    وسيؤكد التفكيك على أن هذه أوهام فحسب، إذ كل ما نزعمه بأنه الحقيقة أو الكينونة هي "فبركة" ليس إلا. فهذه الكلمات تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل في بحثنا عن المعنى، و هذه يعني في مرحلة ما من مراحل تاريخ البحث عن المعنى أن الباحثين أعلنوا، لسبب أو لآخر، أنهم وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر يتجاوز هذه النقطة، ولغرض حماية ما أسموه "النقطة النهاية" من الإهانة التي يمكن أن تنسبها إليهم البحوث المستقبلية، عزو لتلك النقطة نوعاً ما القدسية وأسموها الحقيقة truth أو الكينونة being أو أي شيء آخر، وقد عملت نقطة البحث النهائية أو المفهوم المقدس بصفة مركز للنقد بنوعيه التقليدي والبنيوي. لذلك كان ثمة خداع كبير سار على هداه نشاطنا النقدي وفهمنا للغة.‏

    وأخيراً ينبغي عليّ العودة إلى قضية النقد. فقد كان النقد، بالمعنى التقليدي، تطبيقاً لنموذج يرمي إلى فهم العمل الأدبي، وربما يكون هذا النموذج فلسفياً أو أخلاقياً أو دينياً أو لسانياً. ومن المحتمل أن الناقد غير واع تماماً بحقيقة أنه يطبق نموذجاً معيناً، فالذي نطلق عليه اسم "التقويم الذاتي" هو في حقيقته غير ذاتي، فنحن نلحق ما هو موجود في العمل الأدبي بشيء ما في سيرورة ذلك الفهم الذي يؤدي إلى التقويم. ومن الممكن أن يكون هذا الـ"شيء ما" هو النسق الأدبي الذي منح الكلمات والأفعال actions والظواهر إمكانية توليد المعنى. فعلى سبيل المثال، إذا حاولت تفسير قصيدة "The Lake Isle Of Innisfree" ، سأتمكن من ذلك أما من خلال ربط مضمون القصيدة بالمعلومات المتوفرة التي تتعلق بحياة الشاعر.. تلك المعلومات التي تخص مزاجه وكآبته وتأملاته في الطبيعة السريعة التغير، وسرعة زوال الأشياء الجميلة، ونفوره من المكاسب المادية وعشقه للحياة الحالمة. ثم أبدأ بربط هذه الأفكار الموجودة في القصيدة بهذه الأفكار الخارجية التي تعمل بصفة نسق لربط الأفكار في القصيدة. ولهذا السبب تصبح الأفكار التي تزخر بها القصيدة ذات معنى فقط، حينما أشرع أنا بعملية ربط هذه الأفكار بما هو خارج عن القصيدة. وفضلاًعن ذلك فإني قد أبدأ بالبحث في سبب كآبة الشاعر وأسباب عشقه للحياة الحالمة، وأسباب دفعه إلى كراهية المكاسب المادية. ونلاحظ في هذا النوع من النقد أن التركيز لا يكون على النسق بحد ذاته لأن التركيز على النسق لدراسة النسق ذاته يؤدي بنا إلى البنيوية. فعلى سبيل المثال: ما المغزى الأدبي من ترك الموطن الرئيس والذهاب إلى جزيرة؟ هل هناك مغزيات أخرى الجواب: نعم بالتأكيد، ونجد في بعض شخصيات شكسبير الكوميدية مثل مسرحية "كما تحبها"، و"حلم ليلة منتصف صيف" أن الشخصيات تغادر المدينة لائذة بالغابات التي يتم فيها حل الصراعات وانتشار الحكمة، وعلى هذا الغرار هناك عدد من الشخصيات في "القصائد والروايات التي تغادر المدن متوجهة إلى الجزر المعزولة، ومثال ذلك شخصية "بروسبيسو" في مسرحية "العاصفة" وشخصية "جيليفر" في رواية "رحلات جيليفر".ولهذا السبب نجد أن رغبة الشاعر ييتس باللجوء إلى جزيرة Innisfree تحاكي رغبة الكتاب السابقين. ونحن نقر بأننا نفهم القصيدة لأننا نألف هذه القناعة، أي الاقتناع بترك المدينة ومباهجها واللجوء إلى الجزيرة ذات معنى كبيرة من الشعر، ذلك لوجود قناعة أدبية أو اتفاق أدبي بأن لهذه الفكرة معنى ما وهكذا نجد أن بإمكان التحليل البنيوي أن يركز على العناصر الأخرى للقصيدة بغية دراسة النسق الشعري. وقد طبقت في المثال الأول، أي مثال التطبيق غير البنيوي، نماذج معينة متعارف عليها في الأدب على القصيدة فقط من أجل فهم القصيدة. أما في المثال الثاني، أي مثال التفسير البنيوي، فقد استعملت القصيدة وعناصرها لدراسة النسق الشعري أو لدراسة نماذج الأدب المتعارف عليها. وينبغي الإشارة هنا أن التفكيك لا يمثل أياً من هاتين الحالتين، أو نقيضهما.‏

    فالتفكيك لا يمنح الناقد أي نماذج، ولا يطبق أي نموذج على النصوص الأدبية، بل إنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة. فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه. إذ توحي فكرة النسق بأن الأشياء منتظمة أو من الممكن جعلها كذلك، إلا أن هذه الفكرة مصدر مواساة حقاً، ونحن نفضل المواساة على الحيرة. وعلى الرغم من أن المواساة قد تنطوي على خداع لكنها أفضل من معاناة الحيرة. وقد أعلن البنيوي، بعد أن واجهته مشكلة تعقيد الأدب والأذهان التي تكمن وراء الأعمال الأدبية، أن التعقيد قابل للتحليل ويمكن فهمه، ويزعم وجود نسق أدبي بإمكانه تفسير التعقيدات. إنه تأكيد الإرادة التي تجعل البنيوي يزعم هذا الزعم، فالبنيوية هي التوكيد لإرادة الإنسان وقدرتها على حل ماهو معقد، وعلى العكس من ذلك يبحث التفكيك في إمكانية النسق، ويتساءل عنها وعن الكيفية التي جاءت بها التقاليد والمواصفات الأدبية إلى الوجود. فالمواجهة القائمة بين الوعي الإنساني ونسق العلامة هي من التعقيد بحيث يصعب فهمها. ولهذا السبب، يؤكد التفكيك، تبعاً إلى ما يذكره ديفيد اليسون، على ضرورة إعادة التفكير بمشكلة اللغة كلها(15) ، وربما كان من الضروري وجود حقل معرفي جديد يستعمل أصول الكلمات etymology ) وعلم النفس معاً بصفة حقل معرفي واحد لأداء هذه المهمة. ونلاحظ هنا أن التفكيك ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة بوصفهما من أنماط الإدراك الخادعة، كما أن اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة، لا تلائم التفكيك، وكذلك لا يلجأ التفكيك إلى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات.‏

    قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها، إلا أن الحقيقة مختلفة، فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية التقليدية أكثر مما في التفكيك، فالمبتدئ يواجه مصطلحات تقنية كثيرة مثل شخصية، حبكة، موضوع، صورة، رمز، شعر غنائي، قصيدة، و....الخ، وقد استعملناها مراراً وتكراراً حتى أنها أصبحت طبيعية بسبب ذلك. وفضلاً عن ذلك، فإننا إن لم نفهم المصطلحات التي على شاكلة "اختلاف"، "أثر"، "كتابة أصلية"، .... الخ، فإننا لا نتمكن من فهم واستيعاب أي عمل مكتوب ينضوي تحت هذه النظرية إذ من الصعب فهم أي شيء جديد. إلا أن المرء سيفيد من تعلم هذه النظرية كثيراً إذا ما تحمل الجهد أولاً. وتتمثل هذه الفائدة في أننا نتساءل في صلة فهم الإنسان وعالمه بالمعرفة، ويلقي التفكيك ضوءاً جديداً على عملياتنا الفكرية. ويخبرنا أن سلطة الأدب ليست متأتية من سلطة الأدب ولا من سلطة اللغة لأن سلطة اللغة، شأنها في ذلك شأن سلطة الموسيقى والرسم والنحت والطقوس... الخ، ترجع إلى حسّ بدائي أصيل بشيء: مفقود وغائب، وتوجيه إدراك الإنسان بعد ذلك..‏

    الهوامش:‏

    (1) ـ هـ. أبرامز "الملاك التفكيكي" مجلة البحث النقدي 31977)، ص 428.‏

    (2) ـ نيوتن غارفر، تمهيد لكتاب "الصوت والظاهرة"إيفانستون: مطبعة جامعة نورثويسترن، 1973)، صxxii. ويوضح غارفر في معرض تعليقه على مكانة المنطق والنظرية في فلسفة اللغة، قائلاً: "نجد في تاريخ الفلسفة الغربية، إن فلسفة اللغة ـ وبضمنها الكثير من الميتافيزيقا ـ قد اعتمدت المنطق أكثر من اعتمادها البلاغة" التمهيد صxi). لكنه وضع في تعليقه على الحركتين اللتين حدثتا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين، قائلاً: "لقد كانت الحركة الأولى تعزيزاً لفلسفة اللغة التي تعتمد المنطق إلا أن الحركة اللاحقة كانت تدميراً لذلك التراث، تدميراً يتحدث عنه دريدا بوصفه ختاماً للميتافيزيقا"التمهيد، ص xxii).‏

    (3) ـ ج. هيليس ميلر "الناقد مضيفاً"، مجلة البحث النقدي 31977)، ص 41.‏

    (4) ـ موراي كريغر، "نظرية النقد"، بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972)، ص 220-243.‏

    (5) ـ فريدريك جيمسون، "سجن اللغة"، برنستون: مطبعة جامعة برنستون، 1972)، ص 176.‏

    (6) ـ "لقد اقترن نسق اللغة بالكتابة الأبجدية الصوتية، ذلك النسق الذي تولدت فيه الميتافيزيقا المتمركزة حول العقل اللوغوس)، التي تحدد معنى الكينونة بأنه الحضور. لقد كان هذا التمركز حول اللوغوس مطوقاً دائماً ومضطهداً لأسباب أساسية بعيدة تماماً عن التأمل في أصل الكتابة والمكانة التي تحتلها..."جاك دريدا، "في علم اللغة" ترجمة غياتري تشابرافورتي سبيفاك ـ بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972)، ص 43، وقد كانت الاقتباسات تلحق بالرمز O.G).‏

    (7) ـ لقد أوضح جاك دريدا في تعليقه على الخلفية الميتافيزيقية لمفهوم الدال ـ المدلول قائلاً: "يعودالاختلاف بين الدال والمدلول إلى الحقبة الأخرى التي شملت تاريخ الميتافيزيقا، هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من منظور ضيق وضمني، أما إذا ضيقنا المنظور أكثر فسننظر إلى حقبة الخلق والتنامي المسيحية التي تلائم المفاهيم الإغريقية" OG، ص 13).‏

    ( ـ من الممكن أن نتعرف على التمركز حول العقل بالميتافيزيقا، لأن كلاهما تعبير عن الرغبة بالمدلول، ويجد التمركز حول العقل اللوغوس) المعنى كله في العقل اللوغوس)، تلك الكلمة التي تعكس العقل الإلهي.‏

    (9) ـ يمثل التمركز حول الصوت رفضاً للكتابة بوصفها تقنية فحسب، وكذلك توكيد تقارب الكلمة المنطوقة من المدلول. فالكلمة المكتوبة لا تفيد إلا بصفة مدلول للكلام.‏

    (10) ـ "تنطلق هذه الحركة مما يسميه هو النموذج المغلق"، المتمركز حول العقل للآراء التقليدية أو الكلاسيكية للغة والتي يؤكد هو أنها تعتمد وهم الكينونة المتعالية الأفلاطونية أو المسيحية أو الحضور الذي يضمن المعاني)، وصولاً إلى ما أسميته أنا "نموذجه المتمركز حول الكتابة"، الذي يعد الحضور فيه بمثابة بصمة على البياض"م.هـ. إبراز،"الملاك التفكيكي)" ص، 429).‏

    (11) ـ يقول موراي كريغر إن مفتاح النقاش حول كلمة difference أي الاخـ "ت" لاف)، هي اللعب على الكلمة الفرنسية differ التي تعني المعنيين الآتيين: (1) to differ أي يختلف ولا يشبه) (2) to defer أي يرجئ أو يؤجل)، اعتماداً على الفرق بين الكيانات الحاضرة المختلفة الاختلاف)، الكيانات المتشابهة، إحداهما حاضرة والأخرى غائبة تفصل بينهما فجوة زمنية الإرجاء). وهناك بعض أوجه الخداع في "الاختـ"ت"لاف" وهي أن a) غير مسموعة وإن كانت مرئية، وإن المصطلح لا تقابله أية كلمة، وبدا ؟؟؟؟؟؟؟ يفيد فقط في المساعدة على تذكر الكلمة التي يتباين عنها، ولا تكون موجودة بصفة مفهوم لأنها تختلف عن ذاتها، نظرية النقد، ص 228-231).‏

    (12) ـ يوضح دريدا في "الكتابة والاختلاف"، قائلاً: "إن الكتابة واحدة من الأشكال التي تمثل الأثر عموماً، وليست الأثر نفسه"، OG ص 167)، وإن فكرة الأثر هي أنه يمكن أن يخضع لسؤال الماهية الأونطو ـ ظاهراتي ONTOPHENOMENOLOGICAL. فالأثر هو لا شيء، وهو ليس كياناً، بل إنه يتجاوز السؤال الذي يقول: ما هو؟" OG ص 65).‏

    (13) ـ غياتري تشاكرافورثي سبيفاك، تمهيداً لكتاب "في علم الكتابة" لجاك دريدا بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1974)، ص xxxix.‏

    (14) ـ تعكس ملاحظة ج، هيليس ميلر عن اللغة موقفاً تفكيكياً: إن اللغة، منذ البداية، خيالية ووهمية، ومنزاحة عن أية إحالة مباشرة إلى الأشياء كما هي، وينبغي احتجاز الظرف الإنساني في شبكة من الكلمات تتشابك عبر القرون وتزخر بالأساطير والمفاهيم والقياسات الميتافيزيقية، أي باختصار نسق ميتافيزيقا الغربية بأكمله"، "التراث والاختلاف" في مجلة "داياكرتكس" ، 2،4، 1972)، 11).‏

    (15) ـ ديفيد أليسون، مقدمة كتاب "الصوت والظاهرة"، ص I-xxxvii.‏

    الببلوغرافيا.‏

    ـ ابرامز، م، هـ "حدود التعددية ـ الجزء الثاني: الملاك التفكيكي "مجلة" البحث النقدي"، 31977)، ص 425-438.‏

    ـ أليسون، ديفيد، المقدمة، "الصوت والظواهر ومقالات أخرى في نظرية العلامات عند هوسرل، "جاك دريدا"، ترجمة ديفيد أليسونإيفانستون: مطبعة جامعة نورثويسترن، 1973).‏

    ـ بلوم ، هارولد "خارطة سوء القراءة"، نيويورك : مطبعة جامعة أوكسفورد، 1975).‏

    ـ وآخرون "التفكيك والنقد"، نيويورك : مطبعة سيبيري، 1979).‏

    ـ دي مان، بول "رمزيات القراءة: اللغة المجازية عند روسو ونيتشة وريلكة وبروست"، نيوهيفن ولندن: مطبعة جامعة يبل، 1979).‏

    ـ "العمى والبصيرة": مقالات في البلاغة والنقد المعاصر "نيويورك": مطبعة جامعة أكسفورد، 1971).‏

    ـ دريدا، جاك، الإخـ"ت" لاف)، في "الصوت والظاهرة ومقالات أخرى في نظرية العلامات عند هوسرل "ترجمة ديفيد أليسون إيفانستون: مطبعة جامعة نورثويسترن، 1973).‏

    ـ " في علم الكتابة" ترجمة غياتري سبيفاك بلتيمور، ولندن: مطبعة جامعة هوبكنز، 1974).‏

    ـ "الكتابة والاختلاف"، ترجمة الآن باس شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 197.‏

    ـ غارفر، نيوتن، تمهيد كتاب "الصوت والظاهرة ومقالات أخرى في نظرية العلامات عند هوسرل "جاك دريدا، ترجمة ديفيد أليسون إيفاستون: مطبعة جامعة نورثويسترن، 1973).‏

    ـ هيدغر، مارتن "الكينونة والزمان"، ترجمة جون ماكاوايري وإدوارد روبنسون نيويورك: هاربر ورو، 1962).‏

    ـ "الوجود والكينونة"، شيكاغو: شركة هنري يجنري، 196.‏

    ـ "مدخل إلى الميتافيزيقا" : ترجمة رالف مانهايم نيويورك: دبلدي، 1961).‏

    ـ "مقالات إلى الميتافيزيقا" الهوية والاختلاف، ترجمة كير؟؟؟؟؟؟ ف.ليدكرنيويورك: المكتبة الفلسفية، 1964).‏

    ـ هينرز، ريتشارد س. "الإيديولوجية والتحليل: إعادة تأمين الأونطولوجيا الميتافيزيقية" نيويورك: دسكلي برونز، 1966).‏

    ـ كلين، ريتشارد، مجلة دايكرتكس 2، 41972)، ص 29-34.‏

    ـ كريغر، موراي "نظرية النقد" بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972).‏

    ـ ميلر، ج. هيلس: "شعاع اريادن: التكرار والمسار السردي: "مجلة البحث النقدي" 31976) ص 57-77.‏

    ـ "الخيال والتكرار"، في "شكل الخيال البريطاني الحديث، تحرير آلان وارن فريد من أوستن: مطبعة جامعة تكساس، 1975)، ص43 -71).‏

    ـ "حدود التعددية الجزء الثالث: الناقد مضيفاً: "مجلة البحث النقدي"، 3 1977)، ص 437-447.‏

    ـ "التراث والاختلاف"، مجلة دايكرتكس، 2، 6، 1972)، ص 6-13.‏

    ـ نيتشه، فريدريك "ماوراء الخير والشر": استهلال لفلسفة المستقبل "ترجمة ر.ج. هولينغديل نيويورك: مطبعة البنغوين، 1973).‏

    ـ "هكذا تكلم زرادشت: كتاب لكل شخص وليس لأي شخص نيويورك: مطبعة البنغوين، 1961.‏

    (1) في الغراماتولوجيا ) سيرمز له المؤلف بالرمز OG م)‏

    (2) تلفظ الأولى "ثري" وتلفظ الثانية "تري" م).‏

    (3) ينبغي أن نلاحظ أن دريدا اشتق كلمة اختلاف differance من الجمع بين الاختلاف difference بمعنى عدم التشابه) + deference بمعنى الإرجاء وتفيد معنى الأثر)، أي أنه استبدل الحرف e) في كلمة الاختلاف بالحرف a) ويبدو الاختلاف واضحاً في هذه الكلمة إلا أن من الصعوبة توضيحه حين نقله إلى العربية لذلك عمد مترجم كتاب "الكتابة والاختلاف"، كاظم جهاد إلى وضع حرف التاء بين معكوفتين صغيرتين.م).‏






    --------------------------------------------------------------------------------
                  

10-09-2004, 04:00 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)


    البنيوية والتاريخ: أهمية السر وعلاقته بالمعني - تكرار الوصول إلي روح المعني يقتل سحر البنيوية - ناظم عودة
    يبدو أنّ السحر الكامن في البنيوية هو أحدُ الأسباب الخفية التي جعلتها ذاتَ سيادة في الخطاب النقديّ المعاصر. فالتحليل البنيوي ينطوي بطبيعته علي تقنية (كشف السرّ)، كما هو الحال في الحكايات الغرائبية، إذْ يبدأ الأمر هكذا: تحليل الأجزاء اللسانية تحليلاً يبدأ من الصوت ثم التركيب النحوي، ثم يتصاعد باتجاه تحليل العلاقات، ثم يصل الذروة في الكشف عن سرّ النصّ المتمثل في (النظام) أو (البنية) وما ينطويان عليه من خاصية لسانية. فيقف القارئ مندهشاً حيال هذا الكشف المثير عن التنظيم العقلي للمؤلف، الماثل في البنية اللغوية لنصّه. علي هذه الشاكلة كانت البنيوية تسحر الآخر، وتفعل به نظير ما كانت تفعله حكايات ألف ليلة وليلة من سحر وتشويق في القارئ أو المستمع.
    فتلك الحكايات التي شغف بها الأوربيون أنفسهم كانت تبدأ بحكاية صغيرة هي نواة حكاية كبيرة تُستكمل تصاعدياً مع زمن الحكي، لتصل في النهاية إلي هتك السرّ الذي انتظره الملك بشوق كبير ألف ليلة وليلة. فتقنية كشف السرّ هي تقنية شائعة في الحكايات القديمة وهي تحمل من التشويق السردي الشيء الكثير. وعلينا أن نتذكر هنا أهمية الكشف عن هذا السرّ، وعلاقتهِ بإشكالية المعني، من خلال ما قام به آيزر في تحليله قصة (الصورة في البساط) لهنري جيمس، وما قام به جاك لاكان في تحليله قصة (الرسالة المسروقة) لإدجار آلن بو. فالتحليلان يتضمنان سعياً مشتركاً، هو معرفةُ أهمية السرّ وعلاقته بالمعني الأدبي، ثمّ بعد ذلك معرفة عملية تأويل ذلك المعني، هل هي عملية ماثلة في البناء اللساني للسرّ وحده، أم في الإدراك الجمالي الذي هو فعل من أفعال القراءة والتأويل؟. إنّ الذي قتل السحر البنيوي هو آلية (التكرار)، تكرارِ طريقة الوصول نفسها إلي ذلك السرّ، وكشفِ حجابه. ومن جهة أخري، كان كشف السرّ في حكايات ألف ليلة وليلة يحفظ حياة المؤلف بشخصه، والإنسان بنوعه، ولكنّ كشف السرّ أو النظام في البنيوية لا يتمّ إلا بموت المؤلف أولاً والإنسان ثانياً. وبمقتضي ذلك، فالتحول من البنيوية هو تحول باتجاه المؤلف والإنسان، وما يشكلانه من علاقة معروفة بالزمن وبالتاريخ، كانت قد أغفلت في المقاربة البنيوية.

    مخاض التحول
    إنّ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كانت المخاض الحقيقي للتحول الذي حدث في النظرية النقدية البنيوية. وساهمت عوامل عدة في حدوث هذا التحول، وأنا أعتقد أنّ الذي قام بكشف ظهر البنيوية هو الرواية، بوصفها جنساً أدبياً ذا صلة مرجعية بالعالم الخارجي، فلا يمكن اختزالها إلي مجرد مجال صالح للتطبيقات اللسانية الصرفة. وعلي هذا الأساس، فقد كانت الدراسات الخاصة بتحليل العناصر الشكلية والدلالية للرواية تفعل فعلها في تعرية المنطق البنيوي. إذْ كشفت الدراسات التي تعني بتحليل السرد أنّ الأعمال الروائية تفترض قارئاً أو مؤلفاً ضمنيين. مما يعني أنّ المنطق البنيوي في تجريد النصّ من السياقات المرتبطة به وجعله عالماً مكتفياً بذاته، قد بدأ يتقلقل. وعلي أثر ذلك، فقد استشرت رغبة محمومة للبرهنة علي تهافت المنطق البنيوي الذي ازدهر إبّان الخمسينيات والستينيات في فرنسا بصحبة الدراسات اللسانية وحركة التحليل النفسي الجديد التي يقودها جاك لاكان. لقد قام عدد من النقاد بتفسير الكيفية التي تصاغ بها شخصية المؤلف ضمن النظام النصّي للرواية، وهذا خرق لفرضية أساسية من الفروض البنيوية، وهي فرضية موت المؤلف التي أرادت البنيوية أن تحاكي بها خطاب العلوم الذي تجرد من هيمنة المؤلف منذ القرن السابع عشر علي عكس الخطاب الأدبي، كما يشير إلي ذلك فوكو في جينالوجيا المعرفة(1). ثم انتقلت هذه الدراسات السردية لتفسير قضية أخري ذاتِ روابط يقع بعضها خارجَ النصّ، فيما يقع بعضها الآخر في النصّ نفسه، وهي الطريقة التي تصاغ بها وجهة النظر point of view في العمل الروائي، بوصفها نظام الأفكار المنقول بوساطة الضمائر المستعملة في الرواية، وطريقةَ سردها سرداً فنياً موهماً القارئ بحقيقة ما يجري من أحداث.
    إنّ الأمر الجدير بالانتباه هنا، هو أنّ وجهة النظر تصحب معها بالضرورة أفكاراً وتحيزات اجتماعية أو أيديولوجية. وعلي هذا الأساس كان تطور الرواية يتقدم باتجاه تحديث تقنيـة الراوي، من خلال تعدد الرواة في عمل واحد، لا لمسوّغٍ يتعلق بالبنية اللسانية للنصّ وإنما لغرضِ خلقِ نمطٍ من أنماط التأثير والاستجابة، وكذلك لغرض خلق ضرب من ضروب الحوار مع الخارج ذي العلاقة بالبنية الاجتماعية أو بالتعاقب التاريخي، وما يصاحبهما من تغيرات شاملة. وقد اعترف تودوروف بأنّ وجهة النظر ربما تحمل خطاباً ايديولوجياً يتم عرضه من خلال البنية السردية للرواية. فالقبول، إذن، بفرضية (وجهة النظر) بحسب إشارة تودوروف يعني القبول بفرضية (التاريخ) التي تشكل القيمة الجمالية والدلالية للأعمال الأدبية بعامة. إنّ القارئ يتقمص الشخصية الروائية ذاتَ وجهة النظر، ويسعي إلي كشف الطابع المنطقي لبنائها، وربما تتعارض كثير من اعتقاداته مع اعتقادات تلك الشخصية، ولكنه يبحث في النهاية عن انسجامها مع طبيعتها وأفعالها. وهذا هو المنطق الذي يتحكم بالعلاقة بين القارئ العادي والعمل الروائي. وقد انشغل عدد من نقاد الأدب بالبحث عن معايير تلك العلاقة، التي تربط القارئ بالرواية. وساهم ذلك في خلق جدل نقدي حول الصلة المفترضة والمثيرة للقارئ بالتركيب الفني لعناصر العمل الأدبي. علي النحو الذي تمثل في ما قام به واين بوث في كتابه بلاغة الرواية rhetoric of fiction.
    فقد أراد بوث في العام 1961 أنْ يبحث في مجمل الخصائص الشخصية للمؤلف الضمني الذي اقترحه في كتابه الآنف الذكر، ومعروف أنّ مفهوم المؤلف الضمني هو أحد المفاهيم الأساسية التي أوحت لآيزر في صياغة مفهوم القارئ الضمني implied reader الذي هاجم به الفرضية البنيوية التي تستبعد من النصّ العناصر الخارجية. واشترك هذا المفهوم ومفاهيم أخري في كتاب بوث في زحزحة كثير من الاعتقادات البنيوية السائدة، وفي تحويل مركزية الخطاب النقدي من مركزية نصية إلي مركزية تتعلق بالنص وبأفعال القراءة معاً، وبعمليات التأويل التي زعمت اتجاهات ما بعد البنيوية أنها تضيف إلي النص نصاً آخر تُملأ به الفجوات، التي هي جزء أساسي من بناء العمل الأدبي.
    لقد زعم بوث أنّ النصوص الروائية المتخيلة كلها توحي بـ: مؤلف ضمني يرتبط به القارئ في أثناء القراءة (وقال إنّ المؤلف الضمني لكل رواية هو شخص ما يجب أنْ أتفق، إلي حد كبير، مع معتقداته إذا ما كان عليَّ أنْ أستمتع بعمله.(2) وعلينا أن نعترف هنا، بأنّ عدداً من الدراسات الخاصة ببنية القصة والرواية كانت تجلّي فكرة انفتاح النصّ علي سياقات متعددة، كانت بمثابة البداية لخلق أزمة منهجية في المقاربة البنيوية. فقد ظهرت (أعمال روملهارت 1975، وماندر، وجونسن 1977، وستين وجلين 1979، وآخرون وهي تشدد علي بنية القصة) (3) وهنالك مقالان علي قدرٍ كبيرٍ من الأهمية ينسبان للغوي الاجتماعي الأميركي وليم لابوف (الأول مكتوب بالاشتراك مع جوسيا وولتسكي، ظهر في Helms في العام 1967 تحت عنوان: تحليل السرد، الحكاية الشفاهية في التجربة الشخصية. والثاني ظهر في هيأة الفصل التاسع من لسانيات لابوف في: Inner city وقد عنون بـ: التجربة التحويلية في التركيب السردي... وهما يرغبان في فحص سرود كثيرة، ليشرعا، ويرويا خصائص السرد اللسانية والشكلية ووظائفها).(4) إنّ الشيء المهم في هذه الدراسات هو أنها أظهرت أنّ البنية اللغوية لم تعد وحدها كافية لتجلية المعني الأدبي، فهنالك فجوات في النصّ نفسه بحاجة إلي إيضاحات تأتي من خارج بنيته. وعلي هذا الأساس كانت هنالك عودة منهجية إلي كلّ علمٍ يساهم في إعادة ربط الدلالات البعيدة للنص التي تم إقصاؤها منه حتي لا يكون وثيقة مرجعية خالصة، وإنما بناءً تخييلياً مخصوصاً يأخذ بنظر الاعتبار مسألة تطور الجنس الأدبي.

    صراع ضد البنيوية
    وإضافة إلي العامل الخاص بالرواية التي تمردت علي التقنين اللساني، فثمة عامل آخر جدير بالالتفات، هو الصراع الذي كان يخوضه النقاد اليساريون ضد البنيوية، متمثلاُ بجورج لوكاش، وبتلميذه الناقد الروماني الأصل لوسيان جولدمان في مجموعة من كتبه، ككتاب (الإله الخفي) الصادر في العام 1955 عن دار جاليمار في باريس، وكتاب (من أجل علم اجتماع الرواية) الصادر في العام 1964 عن دار جاليمار أيضاً، وكتاب (علم اجتماع الإبداع الأدبي). لقد ساهم جولدمان كثيراً في مناهضة البنيوية بصورتها الفرنسية، واشترك في الندوة الشهيرة التي أقامتها جامعة جونز هوبكنز في العام 1966 ببحث موسوم بـ(البنية: الواقع الإنساني والمفهوم المنهجي) وهو أحد البحوث التي عمِلت مع بحث جاك دريدا الموسوم بـ(البنية واللعب والعلامة في خطاب العلوم الإنسانية) علي شطر الندوة شطرين: الأول يقوده بارت وتودوروف ولاكان، والثاني يقوده جولدمان ودريدا. وأدي ذلك إلي احتضان (جامعة ييل) جاك دريدا الذي اجتمع حوله عدد من النقاد المناهضين للبنيوية، فأسسوا ما عُرف بـ(مجموعة نقاد ييل) التي ضمت (بول دي مان وجيوفري هارتمان و هيلز ميللر وآخرين). وقد ترك جولدمان أثراً واسعاً في النقد الانكليزي، ففي إحصائية قام بها الدكتور جابر عصفور بيّن فيها الترجمة الواسعة لكتب جولدمان إلي الانكليزية، إذ تُرجمت له تسعةُ كتب من سنة 1964 إلي سنة 1980. ويأسف جابر عصفور علي عدم العناية الكافية من جانب النقد العربي بترجمة أيّ عمل من أعمال جولدمان في ذلك التاريخ.(5) ويبدو لنا أسفُ جابر عصفور مقبولاً لأنّ السبعينيات شهِدت بداية تدهور البنيوية في فرنسا، وبداية ظهور اتجاه جمالية التلقي في جامعة كونستانس في ألمانيا. وفي ميدان الفلسفة كان جاك دريدا يدعو في العام 1966 في ندوة جامعة جونز هوبكنز إلي (تفكيك ميتافيزيقا الحضور التي تنعكس في فكرة البنية نفسها).(6) ولم تكن القراءة التفكيكية سوي تعارضٍ مع (المبدأ الذي يقول بأنّ في لغة النص يكمن الأساس الخاص بالنسق الذي يشتمل علي عمل وظيفي كاف... وان النص يمتلك نسقاً لغوياً أساسياً بالنسبة لبنيته الخاصة، التي تمتلك وحدة عضوية، أو نواةً ذاتَ مدلول قابل للشرح).(7) وقد تنبه البنيويون أنفسهم إلي شيء من تلك الأزمة، فهذا جيرار جينيت يعتقد أنه بما أن الأدب (نتاج لغة، وبما أن البنيوية... منهج لساني بامتياز، فاللقاء الأكثر احتمالاً ينبغي أن يحدث بالتأكيد في ميدان المواد اللسانية: فالأصوات والأشكال والكلمات والجمل تؤلف الموضوع المشترك بين اللساني والفقيه اللغوي الذي يدرس النصوص إلي درجة أنه أمكن في البدايات الحماسية للحركة الشكلانية الروسية تحديد الأدب كلهجة بسيطة والنظر إلي دراسته كملحق بمبحث اللهجات العام)،( فالمنهج البنيوي يعني بتماثلات في النص نفسه ويغض الطرف عن تماثلات مرجعية أخري كان يدافع عنها جولدمان ولوكاش وآخرون. فهذا المنهج يريد أن يعثر (في الشفرة علي الرسالة التي تبرز من خلال تحليل بني ماثلة، ولا تكون (الرسالة) مفروضة من الخارج بأحكامٍ إيديولوجية مسبقة).(9) لقد خلقت تلك التحليلات اعتقاداً باغتراب الإنسان عن النصوص التي صنعها هو، ومن هنا فقد هتف الطلاب، في ثورتهم المعروفة في العام 1968 التي أطاحت بحكومة ديجول، ضد البنيوية، ورفعوا شعار (فلتسقط البنيوية).(10)
    هوامش
    (1) ينظر: سالم يفوت ــ المناحي الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر ــ ص41 ــ دار الطليعة ــ بيروت ــ ط1ــ1999
    (3) James E. Seitz, Arhetoric of reading, from: Rebirth of Rhetoric, Edited by Richard Andrews (1992) New York, Routledge P141.
    (3) Ibid. P116.
    (4) Ibid. P116.
    (5) ينظر د. جابر عصفور: نظريات معاصرة ــ ص95 ــ دار المدي ــ دمشق ــ ط1 ــ 1998.
    (6) نظرية اللغة الأدبية ــ خوسيه ماريا بوثويلو إيفانكوس ــ ترجمة د. حامد أبو حامد ــ مكتبة غريب ــ مصر ــ ص 151.
    (7) المصدر نفسه ــ ص 147.
    ( البنيوية والنقد الأدبي ــ جيرار جينيت ــ في كتاب: البنيوية والنقد الأدبي ــ تحرير وترجمة محمد لقاح ــ أفريقيا الشرق ــ المغرب ــ ط1 ــ 1991 ــ ص15.
    (9) المصدر نفسه ــ ص16.
    (10) ينظر: آفاق العصر ــ د. جابر عصفور ــ دار المدي للثقافة والنشر ــ دمشق ــ ط1 ــ 1997 ــ ص224.

    جريدة (الزمان) العدد 1339 التاريخ 2002 - 10 - 16
                  

10-09-2004, 04:04 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    لمستقبل 23-08-2004

    الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي يصارع المرض في حوار طويل مع "لوموند":

    إسرائيل "انتحارية" ولم تعد تمثل لا اليهودية ولا شتات اليهود ولا الصهيونية


    الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا صاحب فلسفة "التفكيكية" محط انظار الاعلام والصحافة اليوم ليس فقط لأنه يصارع المرض منذ فترة بل لأنه ومنذ صيف 2003 وتتوالى النشاطات والاعمال الفنية، السينمائية خاصة، التي تناولت حياته وفكره. وهو بدوره، وقع أعمالاً جديدة وشارك في مؤتمرات عالمية عديدة دارت حول أعماله وفلسفته التفكيكية، من لندن الى كوامبرا مروراً بباريس وريو دوجينيرو. كذلك، أخرج آمي كوفمان وكيربي ديك فيلماً عنه بعنوان "دريدا" وذلك بعد الرائعة السينمائية "دريدا من هناك" لصفاء فتحي عام 2000. وتصدر غلافات وملفات عدد كبير من المجلات الأسبوعية والشهرية من "الماغازين الأدبية" الى مجلة "أوروبا" الى "دفاتر الأدب"... الكثير من الاطلالات في عام واحد ومع هذا دريدا لا يخفي مرضه وارهاقه من العلاج الطويل الأمد أو مع هذا رفض ان يتحدث عن مرضه الى صحيفة "اللوموند" التي حاورته منذ أيام، نقتطف بعض المقاطع من الحوار:
    بشكل عام، أنت تجد صعوبة كبيرة في قول كلمة "نحن" ـ "نحن الفلاسفة، او نحن اليهود" مثلاً. ولكن، مع هذا الخراب في العالم الذي يمتد، لا تجد صعوبة في قول "نحن الأوروبيين". وكنت قد ذكرت في كتاب سابق لك "الرأس الآخر" الصادر عام 1991 أثناء حرب الخليج الأولى انك "الأوروبي العجوز" أو القديم مثل "نوع من التهجين الأوروبي".
    ـ أحب ان اذكرك بأمرين: صحيح أنني أجد صعوبة في قول كلمة نحن، لكنني أحياناً كثيرة أقولها. وعلى الرغم من كل المشاكل التي تعذبني في هذا الموضوع، ابتداء "بسياسة اسرائيل الانتحارية واليائسة وصولاً الى الصهيونية (لأن اسرائيل لم تعد تمثل بالنسبة لي اليهودية ولا شتات اليهود ولا الصهيونية العالمية الأصلية التي صار لها وجوه عديدة ومتناقضة) وهناك عدد كبير من الأصوليين المسيحيين في الولايات المتحدة الأميركية يعتبرون انفسهم من الصهاينة "المخلصين". وهذا اللوبي يمتلك القوة والسلطة أكثر من الجماعة اليهودية الأميركية، وإذا تركنا جانباً الموقف من الأزمة العراقية في سياسة الأميركيين واليهود التي لا أوافق عليها الى جانب العديد من المواقف السياسية لهم، فأنا، وعلى الرغم من كل المشاكل مع انتمائي اليهودي، لا أرفضه ولا أتنكر له أبداً.
    قد أقول دائماً، وفي ظروف معينة، "نحن اليهود"، هذه "النحن" التي تؤرقني هي في صلب القلق في فكري، وهي ما وصفته في كتابي "اليهودي الأخير". وسوف تبقى في فكري تماماً كما حدد أرسطو الصلاة في فكره: "انها ليست حقيقية ولا مغلوطة". قد أقول أحياناً "نحن اليهود" وأحياناً "نحن الفرنسيين".
    ثم، ومنذ بداياتي في العمل هي مركز اعادة التخريب او التفكيكية التي كتبت عنها، حتى انني ضد المركزية الأوروبية في المعنى الحديث لها، وكما صورها البعض من فاليري الى هوسرل الى هايدغر، مثلاً. التفكيكية بشكل عام هي مؤسسة اعتقدها البعض موجهة كتحذير عام ضد المركزية الأوروبية. وحين يحدث معي وأقول احياناً اليوم "نحن الأوروبيين"، فالأمر مختلف هنا: كل ما يمكن تفكيكه في التراث الأوروبي لا يمنع وبسبب ما حدث في أوروبا، من انحسار دور هذه القارة والاحساس الهائل بالذنب الذي جعل ثقافتها تنحسر أيضاً (بسبب التوتاليتارية والنازية، والمجازر والاستعمار والانتداب" اليوم وفي الأجواء الجغرافية ـ السياسية الراهنة، أوروبا، أوروبا أخرى ولكن بالذاكرة عينها، تستطيع ـ (وهذا هو التمني الوحيد لدي) ان تتحد ضد سياسة أميركا المهيمنة والمتسلطة (حسب تقارير وولفوويتز وشيني ورامسفيلد) وضد التيوقراطية العربية ـ الإسلامية (أو سلطة رجال الدين) التي لا ضوء ولا مستقبل سياسياً لها (ولكن يجب ألا نخلط بين هاتين السياستين ونحن نتحد مع الذين يحاربون من الداخل هاتين القوتين).
    وتجد أوروبا نفسها اليوم مضطرة الى تحمل هذه المسؤولية الجديدة. وأنا لا أتكلم عن الاتحاد الأوروبي كما هو اليوم أو كما يرتسم لدى الأكثرية الحالية وهو معرض الى العديد من الحروب الداخلية، ولكني أتحدث عن أوروبا جديدة قادمة وتبحث عن نفسها. في أوروبا (جغرافياً) وخارجها. وما نسميه جغرافياً أوروبا عليه ان يأخذ على عاتقه مسؤولية وهي مستقبل الانسانية والحقوق العالمية للإنسان، وهنا ألخص كل ايماني. وهنا لا أتردد في قول "نحن الأوروبيين" فأنا لا أتحدث عن قيام أوروبا جديدة لها سلطة وقوة عسكرية متفوقة لتحمي سوقها وتمارس نزاعها مع الآخرين، ولكن أتحدث عن أوروبا أخرى تأتي لتزرع بذرة السياسة الجديدة التي ستشمل العالم. وهي بالنسبة لي الحل الوحيد. هذه القوة بدأت تعمل. ولكن مع أن عواقب كثيرة تعترضها لكنني أظن انها ستنطلق ولا شيء سيوقفها. عندما أقول أوروبا أقصد بها هذا... ولا أقصد أن تكون سلطة عسكرية للقتال، بل سلطة عسكرية لا مهددة ولا دفاعية ولا احتياطية، بل موجودة وحاضرة دائماً لتنفذ ما تتوصل اليه قوات الأمم المتحدة (مثلاً وبكل حذر، في اسرائيل، وخارج اسرائيل ايضاً). وسوف تكون ايضاً المكان المناسب الى كل انواع العلمنة والعدل والقانون الاجتماعي، أكثر منه موقع الموروثات الأوروبية.
    أتيت على ذكر "العلمنة" هنا. دعني أفتح المزدوجين هنا لأستطرد. العلمنة هنا لا تعني "الحجاب" في المدرسة بل "الحجاب" في الزواج... لو كنت معنياً بنص التشريعات، لكنت اقترحت وبكل بساطة اختفاء كلمة وفكرة "الزواج" في نص مدني وعلماني. "الزواج" هو نتيجة وقيمة دينية ... في الانجاب والتواصل والإخلاص الأبدي، الخ... أرغب في تداخل الحكم العلماني بتعاليم الكنيسة. والزواج في وجهته الأحادية ليس من تعاليم اليهودية (لكنه فرض على اليهود من قبل الأوروبيين في القرن الماضي مع أنه لم يكن يطبق بعد لدى اليهود في المغرب) ولا هو في تعاليم الإسلام، كما نعلم جميعنا. ومع إلغاء فكرة "الزواج"، هذا الخبث المقدس والديني، الذي لا مكان له في الفكر العلماني، قد نستبدله "بالزواج المدني" او "القران المدني" وفقاً لعقد موقع من الطرفين، وهذا العقد يتم تهذيبه وتحسينه مع الوقت وقد يتم هذا العقد بين شخصين أو أكثر، أو بين جنسين مختلفين او متشابهين. أما بالنسبة الى الذين قد يرغبون في "الزواج" بالمعنى التقليدي ـ وأكن له احتراماً لا يزول يمكن لهم ان يقوموا بذلك امام السلطة الدينية التي يختارون ـ تماماً كما قد يرغب بعض المثليين الجنسيين في قيام زواجهم في أي مكان في العالم امام السلطة الدينية. قد يرتبط اثنان امام السلطة الدينية أو المدنية او الاثنين معاً او لا يرتبط احدهم ولا بأي طريقة. هنا أضع نقطة النهاية على موضوع الزواج. (انها طوباوية لكنني على موعد معها".
    اوروبا، ومنذ عصر الانوار والنهضة، وهي تقيم النقد الذاتي باستمرار، وفي هذا الواقع، ثمة امل كبير للمستقبل. على الأقل، انا آمل في ذلك كي تخف نقمتي أمام الاتهامات التي توجه الى أوروبا على انها لم تكن يوماً الا أرضاً للجرائم.
    بالنسبة الى موضوع أوروبا، الا تجد نفسك في موقع حرب مع الذات؟ من جهة، تقول ان أحداث 11 أيلول هدمت القواعد الجغرافية ـ السياسية القديمة للسلطات والقوى الكبرى، وبذلك تركز على مقوله جديدة للفكر السياسي الذي تقوله أوروبياً هذه المرة، ومن جهة ثانية، انت تتعاطف مع الروح الأوروبية ومع المثال الأوروبي...
    ـ حين نقول سياسة نستخدم عبارة اغريقية، مفهوماً أوروبياً افترض دائماً الدولة، الشكل "المهذب" المرتبط بالأرض الوطنية. فأياً كانت أشكال الانقسامات داخل هذا التاريخ، فإن مفهوم السياسي هذا يبقى سائداً، في الوقت الذي نجد فيه قوى كثيرة هي في سبيلها الى التفكك: فسيادة بلد لم تعد مرتبطة بالحدود والأرض، ولا تكنولوجيا الاتصالات والاستراتيجية العسكرية كذلك، وهذا التفكك تضع فعلياً المفهوم القديم للسياسي في أزمة. وللحرب، وللتمييز بين المدني والعسكري، وبين الحدود الوطنية والحدود العالمية (...) انا في حرب ضد نفسي، هذا حقيقي، ولا يمكن ان تعرفوا الى أي درجة قد تصل هذه الحرب، وهي أبعد مما تعتقدون، واحياناً قد أقول وأفكر في أمور متناقضة هي، في الواقع، حقيقية، أحياناً تجعلني أبني ذاتي من جديد، تجعلني اعيش أو أموت.
    هذه الحرب، أراها أحياناً حرباً راعبة وقاسية ولكن أعرف في الوقت ذاته، انها الحياة. ولن أجد السلام إلا في الراحة الأبدية. اذاً لا استطيع الجزم بأني قادر على فهم هذا التناقص، لكني أعرف ايضاً انه هو الذي يبقيني على قيد الحياة، ويجعلني اطرح السؤال، تحديداً، "كيف علي ان اتعلم العيش".

    ترجمة: كوليت مرشليان






                  

10-10-2004, 06:39 AM

عشة بت فاطنة
<aعشة بت فاطنة
تاريخ التسجيل: 01-06-2003
مجموع المشاركات: 4572

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    ( التمتع هل صنع ذلك المصير من اجل الانسان؟ اه لوكنت ذقت ولمرة واحدة في حياتي كل متع الحب في امتلائها، فانا لا اتصور ان وجودي الضعيف سيكون قادرا على الاكتفاء بها ، اذن ساكون قد مت على الفور )
    ( ان الحضور مرغوب فيه ومثير للخشية في نفس الوقت -لان-...المتعة نفسها .. لن تكون سوى اسما اخر للموت )- من قراءت دريدا لاعترافات جان جاك روسو -ع-ك ص223-

    شكرا اسامة لهذا الحضور وربطنا بخبر لدريدا واعلان موته او ربما امتلائه كما يظن ..

    اليكم هذه الدراسة التى تختزل في صفحات قليلة اهم المفاهيم التى طرحها دريدا :
    هذه الدراسة تقديم /لوسيت فيناس
    من كتاب مدخل الى فلسفة جاك دريدا
    فكيك الميتافيزيقا واستحضار الاثر / ترجمة ادريس كثير -عزالدين الخطابي .

                  

10-10-2004, 06:50 AM

عشة بت فاطنة
<aعشة بت فاطنة
تاريخ التسجيل: 01-06-2003
مجموع المشاركات: 4572

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: عشة بت فاطنة)


    جاك دريد: المفكك

    دراسة


    ان فتح العمل الهام والصعب لجاك دريدا امام جمهور واسع ، ان يتم بدون تشويه ، بدون تخمين ، وبالخصوص بدون افقار .
    بدْا ، لأن الصعوبة ليست أمرا طارئا : انها تتعلق بالطريقة التي تخضع فيها المعرفة للكتابة . ان جاك دريدا كاتب ، وأي تقديم نسقي ، تعليمي ، لما قد نسميه أفكاره ،لا يمكنه تحت طائلة الخيانة ، اعادة التعقد المتكاثر للنص و انسيابه تشابكه وحركيته.
    من الذي يقرأ دريدا فب فرنسا ؟ طلبة ، جامعيون شباب (من تخصصات فلسفية، لسانية وأدبية) أساسا ، و من بين هؤلاء أو خارج هؤلاء ، محللون نفسانيون ، كتاب تشغلهم مسألة الكتابة . وبحجم أقل : رجال علم ، رجال مسرح ، موسيقيون ، رسامون ، عمال مطبعة جمهور مقسّم و مركّب . تقسيم و تركيب يؤكدان من الخارج نوعا ما ، غموض عمل ذي سند فلسفي قبل كل شيء ، يلعب بالفلسفة و يتلاعب بها ، فارضا توسيعا واغادة تقدير لمفهوم الكتابة .
    ان الاستقبال الذي حظي به دريدا في الخارج ، هو على العموم ، افضل من ذلك الذي خصّ له في فرنسا . فمعظم أعماله ترجمت الى عشرات اللغات . وكم من جامعة في المانيا ، انجلترا ، الأرجنتين ، الولايات المتحة الامريكية ، هنغاريا ، ايطاليا ، اليابان ، يوغوسلافيا ، تشتغل حول نصوصه . ان مقاومة قطاع معين من الجامعة الفرنسية يرتبط بشكل متلازم ،بمضمون العمل وبأنماط كتابته التي لا تحترم القوالب البيانية للتقليد ،والتي لا تختزل في المعايير الشرعية للأطروحة . ومع ذلك ، فان الكتاب الأول لدريدا ، المنشور سنة 1962 و عنوانه ((مدخل الى أصل هندسة هوسرل)) (المطبوعات الفرنسية P.U.F ) الذي استقبل بحفاوة ، قد حقق امؤلفه جائزة في الابستيمولوجيا . وهي جائزة جان كافييس Jean Cavailles .
    ان كل المقالات التي ظهرت ابتداء من 1962 قد تم جمعها ضمن الأعمال الستة الأساسية المنشورة بثلاثة بفاصل خمسة سنوات ، في 1967 و في 1972 . ففي 1967 تم نشر (الكتابة و الاختلاف) منشور لوسري ، (في الكراماطولوجيا) منشور مينوي ، (الصوت و الظاهرة) المطبوعات الجامعية الفرنسية P.U.F . و في 1972 تم نشر (التشتت) منشور لوسري , (مواقف) منشور مينوي و (هوامش) منشور مينوي).
    ما هو رهان نص دريدا ؟ انه بشكل تخطيطي , عملية (تفكيك) و هي حركة أقل بساطة من حركة <ال> هدم للجهاز الذي ينظم الفكر المسمّى غربيا منذ أكثر من ألفي سنة ، من أفلاطون الى هيجل ، ولكن أيضا علاوة على هذين الطرفين ، من الماقبل سقراطيين الى هايدجر . هاتة العدّة المنطقية – الخاصة بنا عادة – تعمل ضمن التعارض الرئيسي بين الواقع و العلامة ، وضمن سلسلة شاملة من التعارضات المتكافلة : حضور/ عدم حضور، غياب / تقديم ، شيء / صورة ، داخل / خارج ، مضمون / تعبير، جوهر/ شكل ، ماهية / ظاهر ، عمق / سطح ، عقلي / حسّي ، قبل / بعد ، زائد / ناقص ، أصلي / مشتق ، طبيعة / ثقافة ومئات التفرعات الثنائية الأخرى . و بشكل جوهري ضمن تعارض " اللوغوس " الذي يفهم في نفس الوقت ككلام و كفكر ، و الكتابة التي تفم ك "أثر" للكلام و للفكر . هذا النسق من التعارضات المتراتبة يختزل الأثر المكتوب لكي لا يصبح سوى تمثيلا ( في اللسانيات السويسرية "نقول" الدال) ، سوى معني سابقا للوجود ، مدلولا . و بالعكس ، فان المدلول ضمن هذا النسق هو حضور تتمثل غاية الأثر الدال في استدعائه . ان دريدا يسمّي هذا المنطق " نزعة اللوغوس المركزية"
    و ستكون " نزعة الصوت المركزية " هي الشكل الذي تكتسبه . لأن حضور الوجود عن طريق "الانصات لكلام الذات " le s`entendre parler ، ينكشف لما هو أقرب الى ذاته في الصوت (وهو ما يسمّى حقيقة ، كعنصر نافذ للوغوس ، كأثيره نوعا ما . ان نزعة العقل و الصوت المركزية logo-phono centrisme والتي تمنح للكتابة المأخوذة في معناها الأوسع ، تعيينا معبّرا ، تتحرّك بتواطؤ مع نموذج الكتابة الأبجدية أو الصوتية ، و تصبت من خلال هيمنتها ، الغربية منذ انطلاقها ، على الانتشار في عالمنا بأكمله .


    للدراسة بقية
                  

10-10-2004, 07:14 AM

AttaAli
<aAttaAli
تاريخ التسجيل: 03-08-2003
مجموع المشاركات: 353

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: عشة بت فاطنة)

    شكرا المشاء
                  

10-10-2004, 08:27 AM

Sinnary
<aSinnary
تاريخ التسجيل: 03-12-2004
مجموع المشاركات: 2770

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: AttaAli)


    شكرا أخ أسامة علي دعم البورد بهذه المتابعات النوعية ، فبالأمس يكتب الخاتم عدلان عن ابن رشد واليوم أنتم تنعون إلينا جاك دريدا وأتمني لو أتيحت لكم الفرصة لاحقا لتناول نظريته الأثيرة (التفكيكية) وعلاقتها بالفلسفة والنقد الأدبي بالشرح والنقاش ، إبتداءاً من الجانب الجزائري في تكوينه ، حيث تكون وعيه الأول علي هذه الارض العربية (ربما حاول دريدا تغييب ذلك بنظره للجزائر كمكان ولادته وليس المكان الأول الذي كون المفكر وتميزه)
    ولد (جاك دريدا) كما ذكرتم سنة 1930 بمدينة البيار بالجزائر حيث قضى في هذا الوطن شبابه،بعد حصوله على الشهادة الابتدائية في البيار انتقل إلى مدرسة ثانوية بجوارها، وتعلم من الأجواء السائدة آنذاك، أثناء الحرب العالمية الثانية، فلقد عانى الطفل (دريدا) من عنصرية شديدة باعتباره يهوديا. في العام 1948 نجح في (البكالوريا)، وكان ينشر في مجلات المغرب العربي الكثير من قصائد الشعر، ويطالع (روسو) و(جيد) و(نيتشه) و(كامو) و(فاليري). تهيأ لمسابقة المدرسة العليا واهتم بالفلسفة خاصة عند (كيركجارد). في العام 1949 سافر إلى فرنسا وتابع دراسته في المدرسة العليا (لويس لوجراند) والتقى ببورديو ومونوري وغيرهما. وبعد دراسته العليا التقى بالتوسير المولود أيضا بالجزائر وانضم إلى مجموعة من المتطرفين اليساريين، في العام 1956 حصل على منحة من جامعة هارفارد الأمريكية وتزوج من مرجريت اوكتيري، وفي العام 1957 عاد إلى الجزائر لتأدية الخدمة العسكرية حتى العام 1959 وقام بتدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية وظل مرتبطا بالواقع الجزائري حتى بلغ من العمر 29 عاما. عاد إلى فرنسا ليدرس الفلسفة، في العام 1967 حصل على الدكتوراه وبدأ يظهر تأثيره في مجتمع الأفكار الجديدة.
    أنجز (دريدا) الكثير من الكتب، وألقى العديد من المحاضرات في الجامعات الأوربية والأمريكية وحصل على الكثير من درجات الدكتوراه الفخرية، كما أنه يسهم بمهمات أساسية فـي إدارة الدراسات في معاهد الفلسفة والعلوم الاجتماعية كما حصل على أوسمة فارس، وضابط، وقائد وكلها في الفنون والآداب.
    وعندما نمعن العقل في فكر هذا الفيلسوف المعاصر نجده أحد الفلاسفة الذين هزوا الفكر الغربي في خصائصه ومكوناته، حيث تبدأ تساؤلاته دائما من موقع الهامش متجهة إلى المركز الأساسي للأفكار، حيث يحول هذه الأفكار إلى موقع ممكن للكتابة، وفضاء يمكن تفكيكه ومساءلته لأنه المفكر الذي قام وبكل جرأة بمساءلة ونقد الأسس الذي يقوم عليهاالفكر الغربي وبالخصوص نقد مركزية العقل الغربي..اتمني لو تتاح فرصة لتبسيط نظريته وعلاقتها بفكر ما بعد الحداثة التذريري وممثلي هذا الفكرالآخرين زي الامريكي ديمان الممثل الحقيقي لهذا المذهب في الإنكليزية.
                  

10-10-2004, 10:35 AM

عشة بت فاطنة
<aعشة بت فاطنة
تاريخ التسجيل: 01-06-2003
مجموع المشاركات: 4572

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: عشة بت فاطنة)


    لوسيت فيناس/ متابعة:

    ان ميتافيزيقا الحضور هاته ، منطق الوجود هذا . أو الانطولوجيا ، كانت دوما في عمقها ، سواء ادركت ذلك او لم تدركه ، ثيولوجيا ، او لكي نختصر نقول (أنطوثيولوجيا ) كتب دريدا : ( ان العلامة والالوهية لهما نفس مكان ونفس زمان الولادة ) (وهناك) جملة لروسو توضح افتراض العقل المتمركز حول ذاته الذي يحكمنا : ( ان الكتابة ليست سوى تقديم الكلام ، ومن العجيب اننا نعطي اهتماما لتحديد الصورة أكثر من الموضوع ) .
    ان موقف دريدا ، (ك) زعزعة لليقين الفلسفي ، يقتضي ( تحرير الال من تبعيته او من تفرعه من اللوغوس وعن المفهوم المتعلق بالحقيقة أو بالمدلول الاولي ، كيفما كان المعني الذي نفهمه ) من غير من ان نحول بذلك الاولوية المنتزعة من الدّال في اتجاه المدلول . تحرير لا يمكنه أن يتحقق بدون اصابة شاملة لمنطق العلامة الذي تَرجع اليه اكتابة (انحطاطها).
    لذك ، فان لتفكير في الكتابة هو رافعة من التساؤلات الحاسمة ضمن مشروع التفكيك ، ان الانشغال الفلسفي هنا يتحالف مع هّم الموضوع الادبي ومع وضعية المكتوب . ان دريدا ، بذكره للطابع المشكوك فيه والمتخيل جزئيا ، للحد الذي يفصل الكتابة الصوتية عن الكتابة غير الصوتية ، وباستدعائه لدوسيسر ضد دوسيسر يقيم الدليل على ان اللغة ، وعموما كل مدلول ، بعيدا ان تكون تلك التى يحب ان تحتمل النقش ، هي دوما مكتوبة سلفا . وبأن القول ليس مكبر صوت للمعنى .

    مواصلة ...
                  

10-11-2004, 03:44 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    شكرا سناري وعشة بت فاطمة على رفدكم للبوست
    والشكر ايضا لعتالي

    المش=============================اء
                  

10-11-2004, 03:47 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صبحي حديدي:بين جاك دريدا وتفكيك الزرقاوي (Re: osama elkhawad)

    لو كان إدوارد سعيد علي قيد الحياة هذه الأيام، فالأرجح أن النصّ الذي كان سيكتبه في مناسبة رحيل جاك دريدا (1930 ـ 2004) كان سيبدو بين أفضل المراثي، وأرفعها رصانة في الجانب النقدي، وأشدّها توغلاً في فكر وفلسفة ومحاسن ومساويء الفيلسوف الفرنسي الشهير. كان بين الرجلين خلاف عميق، لم يتسنّ له أن يظهر علي السطح للأسف، وإلا لكنّا كسبنا واحدة من أعمق مناظرات النصف الثاني من القرن العشرين. وكان بين الرجلين، غنيّ عن القول، احترام متبادل وصداقة وعلاقات شخصية وحتي عائلية.
    وأذكر أنني، قبل عشر سنوات تقريباً، استوضحت سعيد عن هذه المسألة، مشدّداً علي أنه شخصياً، وفي مطلع مساره الفكري، كان واحداً من قلّة من النقاد أبناء جيله في أمريكا، ممن قدّموا الفلسفة الأوروبية ودراسات النُظُم المختلطة والفينومينولوجيا والبنيوية، وسواها. لماذا كنتَ قاسياً علي دريدا بصفة محددة، سألت آنذاك، وهل تغيّر موقفك بعض الشيء؟ الراحل، الذي كان يعرف أننا لم نكن في حديث مجالس، وأنّني كنت أحاوره لكي ينشر كلامه علي الملأ، أجابني هكذا: أولاً: أعتقد أن دريدا رجل لامع تماماً. لقد أحببته، وقامت بيننا صلات شخصية وطيدة. ولكني مع ذلك شعرت بتلك الحالة الطفيفة من انعدام التوازن بين منهج التفكيك ذي الطابع التشكيكي وربما الفوضوي العالي من جهة، وبين اجتهادات التفكيك المنهجية من جهة ثانية. ولقد بدا لي، علي نحو محتوم ربما، أنّ ما يلوح كنزعة تشكيك تأملية ونيتشوية هي حالة يسهل تطويعها لملائمة مختلف المؤسسات: حقيقة أن دريدا أصبح دريدائياً ، وأن مدرسة كاملة في أمريكا تُعرف اليوم باسم الدريدائيين . وبالمناسبة، أخبرني دريدا نفسه أن شهرته في أمريكا تختلف عن شهرته في فرنسا حيث لا يبدون به اهتماماً واسعاً. ولقد بدا لي أنّ حالة المؤسسة هذه أخذت تفقده حرّيته في الاستكشاف الدائم .
    وتابع سعيد: لقد شعرت، وأذكر أنني ناقشت هذه المسألة مع شومسكي، أنّ أعمال دريدا تنطوي علي الكثير مما يثير البلبلة وإطلاق العنان للأهواء، بدل المحاولة الجادّة للانخراط سياسياً في بعض قضايا الساعة الكبري مثل فييتنام أو فلسطين أو الإمبريالية. لقد شعرت علي الدوام بوجود نوع من المراوغة، فأقلقني ذلك. وحين كنت التقي به، كنّا نتبادل حوارات مفيدة. لقد زارني في بيتي، ودعوته لإلقاء محاضرات في كولومبيا في أواخر السبعينيات. وحين جئت الي باريس لإلقاء بعض المحاضرات في السوربون، دعاني وعرّفني علي زوجته. في المستوي الشخصي كانت الأمور علي مايرام. ولكني شعرت انه بدأ يطوّر حسّ الدفاع عن منطقة وعقيدة جامدة. وكنت أقول في نفسي: ما معني ذلك؟ أضف إلي أنني ازددت انغماساً في السياسة، وخيّل إليّ أنه يزداد ابتعاداً عن السياسة .
    الحال، للإنصاف، تبدّلت جذرياً في ما بعد، لأنّ دريدا أخذ يقترب أكثر فأكثر من موضوعات الساعة، لكي لا نقول موضوعات السياسة بالمعني الحرفي للمفردة. لقد أصدر عدداً من الأعمال الهامّة في سياسة الأبارتيد، وسياسة الصداقة، وسياسة الضيافة، وسياسة ماركس، إلي جانب كرّاسة في تحليل هزّة 11/9. وهذا، في الواقع، ينسجم تماماً مع روحيّة منهج التفكيك التي أطلقها دريدا مطلع الستينيات، معتبراً أنّ جميع النظريات الغربية الخاصة باللغة والاستخدام اللغوي (أي، في عبارة أخري، النطاق الذي يشمل الثقافة الغربية بأسرها) قائمة علي مركزية كلامية. وبين أبرز إجراءاته في كشف (وبالتالي: تفكيك) الفرضيات الراسخة كان قلب الهَرَمية التقليدية التي تقول بأسبقية الكلام علي الكتابة (ومن هنا الأهمية الفائقة للدراسة الشهيرة صيدلية أفلاطون ، التي ترجمها الصديق الشاعر العراقي كاظم جهاد). الإجراء التالي كان استبدال هذه الهرمية المقلوبة عن طريق إدخال كتابة بَدْئية Archi-ژcriture ليست سوي تكوين مُختلق لكنه مع ذلك يمكن أن يدلّ علي الكلام والكتابة في آن.
    غير أنّ انقلاب فكر دريدا إلي فكر دريدائي ، لكي نعيد التذكير بالتعبير الثاقب الذي ساقه سعيد، كان العتبة الأولي لانزلاق منهج التفكيك إلي حيث لم يكن يليق بالمنهج أبداً، ولم يكن دريدا نفسه سعيداً به. لقد أعرب مراراً عن سخطه من اللهو بالمصطلح، واستخدامه كيفما اتفق، وبالتالي رواجه في صيغة موضة فلسفية لم تعد تملك من أدوات التفكيك سوي المعني المباشر للمفردة ذاتها! والمفارقة أنّ شكوي دريدا كانت تنطبق علي حال التفكيكية في الولايات المتحدة، البلد الذي احتضن فلسفة التفكيك ورفعها إلي مصافّ عليا (وأحياناً مقدّسة لا تُمسّ!) في جامعات أساسية مثل ييل وجون هوبكنز.
    وذات يوم غير بعيد اشتكي دريدا، علانية، من أنّ صحيفة نيويورك تايمز استخدمت مصطلح التفكيك للحديث عن تحضير طبق يخنة الأرانب ! وليس مصادفة بحتة أنّ الصحيفة ذاتها نشرت، في يوم رحيل دريدا وإلي جانب مقالة في رثائه، تحليلاً مطوّلاً بعنوان... تفكيك أبو مصعب الزرقاوي !
                  

10-11-2004, 03:51 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    دريدا: تفكيك فلسفة الحضور
    رشيد بوطيب

    لاغرو أن دريدا، أحد أعلام فلسفة الاختلاف بالثقافة الفرنسية، إلى جانب كل من فوكو ودولوز، هو أول من حاول تحرير هايدغر من التأويل الوجودي الذي قدمه سارتر للفلسفة الهايدغرية. إن التفكيكية وكما بين ذلك بننغتون في كتابه عن دريدا(1) هي ترجمة للمصطلح الهايدغري: التدمير. فهذا هايدغر يعلن في بحثه الصغير: "الهوية والاختلاف"(2) يعلن بوضوح أن الفلسفة الأوروبية منذ أفلاطون تأسست على مبدأ الواحد وأنه رغم وجود فلسفات ثنائية وأخرى تعددية وأخرى ثائرة على كل نظام، إلا أن التيار الغالب كان هو التيار المتمركز على مبدأ الواحد. وتمثل فلسفة أفلاطون وعالم مثله خير مثال على ذلك، وفي الفلسفة الحديثة لا تخرج الهيغلية عن هذا النهج وهي تفهم الدولة كمجيء الله إلى العالم، وكل المثالية الألمانية. بل إن دريدا في كتابه الرائع "الصوت و الظاهرة"(3) قد بين بأن هوسرل، المؤسس للفينومينولوجيا ليس سوى امتدادا للفلسفة الأفلاطونية، وبلغة أخرى للمثالية الألمانية.
    في هذه النظرة الأحادية البعد، الامبريالية المعنى، الوعي هو الحضور في ذاته، هو الوجود الذي نطلق عليه عامة اسم الذات. هذا الحضور الذي سماه هايدغر بالتحديد الأنطوـ لاهوتي للوجود. ثار هايدغر على منطق الوعي وفلسفة الحضور، وقبله أيضا نيتشه وفرويد. لم يحاول نيتشه تأسيس حقيقة جديدة، ولم تشغله أبدا أسئلة كانط الترنسندنتالية. لم يعد الوعي أرضا آمنة للمدلولات، أصل ومآل المعنى، لم يعد ذلك الخالق، المكتفي بذاته. لقد كان نيتشه وكان بطله المفاهيمي زرادشت تفكيكا على حد تعبير دريدا "للجراماتيكا الميتافيزيقية بامتياز". دون أن يغفل المرء فرويد الذي رفض هو الآخر نظام الوعي اللاهوتي. وقد بينت ساره كوفمان في كتابها "قراءة دريدا"(4) ذلك بوضوح، حين أعلنت أنه رغم أن فرويد فهم اللاوعي كنظام، فإنه يمكن القول أن اللاوعي لا مكان له وأنه لا يتسم بصفة الحضور، وأنه يبذر اللانظام في عالم الأنا وهو بذلك مثل مفهوم الكتابة أو الاختلاف عند دريدا، يهز بنيان الميتافيزيقا بعنف. نيتشه، فرويد، هايدغر ولكن خصوصا البنيوية كان لها كبير أثر على فلسفة الاختلاف. البنيوية كفلسفة موت الإنسان، تدافع عن فكرة أن الكاتب كشخص وأحاسيس ونظرة إلى العالم قد مات، وأنه لم تعد له سلطة على نصوصه. في كتابها:"اللغة، هذا المجهول"(5) رسمت جوليا كريستيفا معالم الاتجاه البنيوي. إن اللغة حسب هذا الاتجاه، أصبحت موضوعا للعلم. لم تعد تلك الممارسة التي تجهل نفسها، بل ستتكلم منذ الآن قوانينها الخاصة، هذه القوانين التي يمكن تلخيصها بفكرة فصل اللغة عن المتكلم، وهذا من شأنه أن يهز مركزية الإنسان ووحدته، فإذا كانت النهضة قد حملت شعار الإنسان ضدا على الإله القروسطي، فإن البنيوية تحمل شعار اللغة ضدا على الإنسان.. الإنسان كمعنى وأيديولوجيا.

    1- البناء الميتافيزيقي للسانيات سوسير
    يبدأ دريدا الفصل الثاني من كتابه "هوامش الفلسفة"(6) الذي يحمل عنوان:"اختلاف" بكتابة كلمة "اختلاف" بطريقة إملائية جديدة. لا يمثل هذا فقط هدما للإملاء الأورثدوكسي ولكن أيضا لنظام الوعي وتوتاليتاريته. ولا ريب أن سوسير هو أول من فهم أهمية الاختلاف واعتبر ذلك شرط إمكانية عمل الدوال. فاللغة بنظره هي نظام من الاختلافات، ولا وجود لبنية لا يكون الاختلاف وحداتها. وحسب دريدا ليس الاختلاف كلمة ولا مفهوما. و لن يعمل دريدا على تبرير طريقة كتابته لكلمة"اخت(لا)ف"، لأنه ليس حبيس منطق جدلي. إن بإمكان المرء أن يقرأ ويكتب هذا الاختلاف الإملائي و لكن ليس بإمكانه سماعه. "إنه غير مسموع" يقول دريدا. اختلاف لا علاقة له بنظام الوعي ولا بنظام التجربة. إن المركزية الصوتية تخفي دائما مركزية عقلية، ودريدا لا يريد قول شيء. إن فلسفته ليست إرادة - قول. إن الاختلاف يتجاوز كل أشكال الثنائية و الحرف الأول من الأبجدية اللاتينية دائم الغياب، إنه لا يقول شيئا، ليس بطبيعة ولا بوعي، لا يتضمن حقيقة. إن دريدا لا يمارس فلسفة كلاسيكية ومنطق الاختلاف ليس فقط منطقا لا-أنطولوجيا ولكن أيضا لامنطقيا. إنه بلغة دريدا: استراتيجيا ومغامرة. الاستراتيجيا تعني أنه لا وجود لحقيقة ترنسندنتالية تحكم الكتابة، فالكتابة ضد كل أشكال الأنطولوجيا واللاهوت. والمغامرة، لأن الكتابة لا تسجن نفسها بهدف معين أو باستراتيجية تسعى للبرهنة على صحة مقدماتها وامتلاكها من جديد. إنها استراتيجيا غير غائية، استراتيجيا التيه والضياع. لا يهدف دريدا إلى بناء نظام فلسفي جديد، والاختلاف ليس مسكنا جديدا للحقائق والمدلولات، بل مشروعا تفكيكيا، تبرز ملامحه بوضوح في قراءة دريدا لسوسير. إن الدال حسب سوسير يظهر للوجود لحظة غياب الموجود، لذلك فهو ثانوي والاختلاف نتيجة ذلك ليس له إلا وجود مؤقت. وسيحاول دريدا تجاوز هذا الاختلاف المؤقت الذي يظل حبيس الحضور، فلسانيات سوسير، رغم احتفاءها باللغة وبالدليل، تظل حسب دريدا سجينة الميتافيزيقا. وقد بين ذلك بننغتون بوضوح في كتابه السابق الذكر. ويمكن أن نلخص رأيه في نقطتين: أولا: إن مفهوم الدليل الميتافيزيقي ـ ويعني به الدليل عند سوسير ـ الذي يميز بين الدال والمدلول يجد أصوله في الفلسفة الثنائية التي كانت تميز بين المحسوس والعقلاني. وسوسير لم يعمل أكثر من محاولة امتلاك هذه الثنائية من جديد. ثانيا: إن التفكيكية تدافع عن أولوية الدليل ضدا على المرجعية. لا وجود لمرجعية خارج الدليل. إن فلسفة الاختلاف تحتفي بالثانوي، بالدليل. وهكذا سيهز دريدا بعنف سلطة الحضور، هذه السلطة التي ترغمنا على التفكير في الوجود دائما من خلال ثنائية الحضور والغياب. ليس الاختلاف ذاتا ولا أصلا ولا مرجعية، وحتى لو تساءل دريدا عن مفهوم الاختلاف فإنه لا يفعل ذلك إلا ليفكك السؤال في حد ذاته. إن السؤال عن الماهية هو سؤال ميتافيزيقي، وبلغة هايدغر: حجب للوجود. وهكذا سيحتفل دريدا بالكتابة ضدا للوعي. الكتابة أنثى والوعي يخشى كل ما هو أنثوي، يخشى تحويله إلى كتابة، لأن ذلك يفقده قدسيته وتعاليه، فالكتابة إيذان بموت الخالق وتجاوز لمنطق الهوية، إنها تتحقق على حد تعبير ساره كوفمان كإضافة، ككائن هجين، كشجرة بلا جذور، كنص بلا قوانين محددة، مفتوح على النصوص الأخرى، على الآخر.

    2- دريدا و هوسرل: تفكيك المركزية الصوتية
    يؤكد بعض النقاد الألمان بحق، بأن إدموند هوسرل هو أهم فيلسوف عرفته البشرية بعد أفلاطون. ولعل أهميته تبرز أكثر حين مطالعتنا لكتابات ما بعد الحداثة التي يمكن وصف فلسفتها بأنها مشروع نقدي وتفكيكي لنظام الوعي وفلسفة الحضور الهوسرليانية. وكمثال على ذلك، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي يمكن أن نلخص نقده لفلسفة هوسرل في جملة واحدة، نقتبسها من كتابه "الصوت والظاهرة":

    "المعنى محفوظ للذي يتكلم". المعنى مثال، وعقلانية، ولهذا ليس تناقضا أن يربطه هوسرل بالذات، بذات حاضرة ومتكلمة. بطريقة ساخرة، يمكن القول بأن قدر الذات هو المعنى. إنه محكوم عليها أن تقول، أن تجترح معنى. والمعنى سابق للكلام، ذاتوي، ثابت مرة وللأبد بمكان ما قد نسميه الوعي، وبإمكان المرء أن يستحضره كلما أراد ذلك، كما يستحضر العبد ربه لحظة الصلاة. وتحويل المعنى إلى كلام أو لغة، يظل بنظر هوسرل عملا ثانويا، نوعا من التدنيس، إذا استعملنا لغة دينية. "الإيبوخي" هو نقيض ذلك، الايبوخي أو الاختزال الفينومينولوجي الذي يمثل خروجا من العالم، الذي يضع المعرفة كما الوجود بين قوسين. المنهجية الأخرى للفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي الاختزال الصوري، وعن طريقها يتم "شطب وجود الأشياء، حقيقة كل ما هو زمني ومحسوس لصالح نظرة إلى الكل الجوهري. يتم إلغاء وجود العالم لكي يتم الإمساك بجوهره."(7) تبدو الفينومينولوجيا إذن كعلم قبلي. "فقبل الوجود، قبل كل قوانين الواقع، يمثل الجوهر وقوانينه"(8 ) إن الفينومينولوجية الترنسندنتالية هي نوع من الاكتفاء الذاتي الداخلي، وعي مطلق، حذف للعالم الخارجي، في كلمة: أفلاطونية. إن الوعي في هذه الفلسفة ليس نتاجا للطبيعة، بل هو حر من كل طبيعة، في حين لا يمكن للطبيعة أن توجد حال غيابه. إن هوسرل قد عبر عن ذلك بوضوح قائلا:"إذا محونا كل العقول من العالم، لا يبقى هناك وجود للطبيعة، ولكن إذا محونا الطبيعة، فإن شيئا ما يظل على قيد الحياة: العقل، كعقل فردي"(9) وهذه النظرة إلى الطبيعة كشيء ثانوي وتابع للعقل، توضح أيضا اختلاف الفينومينولوجيا عن علم الدلالة التقليدي، الذي يقبل فقط بالكلمات التي تحيل على موضوع واقعي. إن المفهوم المركزي لفلسفة اللغة الهوسرليانية هو: العبارة. والعبارة تنقسم إلى علامة سواء كانت مادية أم صوتية أم كتابية وإلى معنى. ويميز هوسرل بين نوعين من العلامات: العبارة والعلامة أو الإشارة. فالعلامة الأولى لها معنى، في حين أن الثانية هي علامة إشارية. ودريدا سيفهم هذا التمييز كنظام ميتافيزيقي لا يقبل التواصل. إنه يقول:"فقط حين يتم حذف الوظيفة التواصلية تظهر للوجود الوظيفة التعبيرية الخالصة(...) حتى يتم اختزال الإشارة وإقامة العبارة الخالصة داخل اللغة، يجب إذن حذف كل علاقة بالآخر."(10)

    "الأبحاث المنطقية" هي بالنسبة لدريدا النص النواة لكل الفينومينولوجيا. إن دريدا يعالج في كتابه:"الصوت و الظاهرة" مشكلة العبارة كما فهمها هوسرل بالبحث المنطقي الأول. وسيكشف دريدا كما سنرى عن البنية الميتافيزيقية لنظرية المعنى الهوسرليانية. إن هوسرل نفسه يميز في كتابه:"التأملات الديكارتية" بين ميتافيزيقا أصيلة أو فلسفة أولى والميتافيزيقا التقليدية، التي خانت العقل. إن الفينومينولوجيا هي، اعتبارا لمنهجها الحدسي، الحسي ولكن أيضا العقلاني، ضد كل شكل من أشكال الشطط الميتافيزيقي. ولكن رغم هذا الزعم، فإن دريدا يرى بأن الفينومينولوجيا لم تضع موضع سؤال، لا العقل الترنسندنتالي ولا اللغة التقليدية لهذا العقل. إنه يقول:"بين اللغة التقليدية (أو لغة الميتافيزيقا التقليدية) و لغة الفينومينولوجيا، لم يتحقق أي شكل من أشكال القطيعة..."(11)

    إن هوسرل يفهم اللغة ككائن عقلاني. إنه لم يفهم الاختلاف بين اللغة والمنطق. وإذا استعملنا أسلوب فوكو، نقول، إنه يمارس فقط لغة جدلية. فهم غائي للغة، أو بلغة دريدا، فهم لا يميز بين الجراماتيكية (النحوية) والمنطق. إنها جراماتيكا منطقية، تتأسس على الوعي وتجد أصلها ومآلها بالوعي. جراماتيكا ميتافيزيقية، وعي، لا يعبر إلا عن شيء واحد وهو الحضور، وبلغة أخرى: الصوت. الصوت الفينومينولوجي الذي لا يجب خلطه بالصوت الفيزيقي، لأنه صوت ترنسندنتالي وشعوري، صوت يمتلك روحا لا تنتمي إلى العالم. في الفصل الأول:"الدليل و الأدلة" من كتاب دريدا الآنف الذكر، يبدأ الفيلسوف الفرنسي بالحديث عن مفهوم العلامة أو الدليل عند هوسرل. إن هوسرل يعتقد بأن بعض العلامات لا تمتلك معنى. وهي تلك العلامات التي يسميها المرء بالعلامات الإشارية أو باختصار: الإشارة، في مقابل العبارة. الإشارة تنتمي إلى العالم، إلى عالم بلا وعي وبلا أنا وبلا ذات متكلمة. في المقابل فإن العبارة معنى، حدث شعوري، "إرادة قول". ويمكن توضيح هذه الأنطولوجيا اللغوية بالجدول التالي:



    العالم
    الوعي

    الإشارة

    (لا تريد قول شيء)
    العبارة

    (معنى،إرادة قول، ذات، عقل، موضوعية مثالية)

    الامبيريقية
    الحقيقة




    وسوف يوضح هوسرل بأن العبارة ليست إشارة إلى شيء ما. إنها ليست علامة وجود، وحتى لو كانت دائما مرتبطة بخطاب تواصلي. فهذا التواصل يظل دائما بالنسبة لهوسرل سطحيا. إن العبارة تجد أصلها خارج فعل التواصل وبنية الإشارات، خارج العالم، في عالم المثال والمونولوج. إن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية لا تسمح بتبادل الكلام، لأنها تفهم التواصل كفعل سطحي، إن أصالتها تتحقق دائما في غياب الآخرين، في غياب الاختلاف، في الحياة المنعزلة للـروح. إن الجدول التالي يوضـح ذلك:



    الذات المستمعة
    وساطة فيزيقية
    الذات المتكلمة

    فهم نية المتكلم
    العبارة الإشارية


    له علاقة مع علامات امبيريقية و ليس مع ذاتية، ليس مع حضور أو إرادة قول.




    العبارة في نظر هوسرل "تجسيد". إنها تعبر عن معنى موجود قبلا بالوعي. وقد نفهم العبارة كمظهر أو تجسيد لمعنى داخلي. التجسيد أو المظهر أو الخارج ليس طبيعة ولكنه معنى، إنه صوت الذات المتكلمة. إن بنية الخطاب لدى هوسرل هي مثالية. دال مثالي، لا يقبل التغير ومدلول مثالي. مثالية لا تعني أكثر من إمكانية دائمة لإنتاج الذات كحضور. الوجود حسب هوسرل وكما بين ذلك دريدا هو تكرار أو عملية استحضار. وهذا التصور يفسر في رأيي هرمية ونهائية النظام الهوسرلياني. إذ أنه نظام لا يكتفي فقط برفض التواصل، ولكنه يدفن الوجود في أصل معين ويختزله بمكان محدد. يقول دريدا:"للتطور التاريخي حسب هوسرل دائما شكلا أساسيا، وهو تكوين المثالية، بحيث أن تكرارها وإذن التقليد يتم الحفاظ عليه للأبد:التكرار والتقليد، يعني النقل وتجديد الأصل. و هذا التحديد للوجود كمثالية هو تقدير أو فعل أخلاقي ـ نظري يؤبد الحكم الأصلي لفلسفة في شكلها الأفلاطوني."(12) الصوت هو تعبير عن هذا الحضور، عن هذا الشكل الأفلاطوني. ويتساءل دريدا لماذا يعتبر الصوت الأكثر مثالية من بين العلامات؟ من أين يأتي هذا التواطؤ بين الصوت والمثالية؟. إن هذا هو السؤال النواة لهذا الكتاب. وعبر طرح هذا السؤال يحاول دريدا تفكيك العلاقة بين المركزية الصوتية والمركزية العقلية. إن دريدا يحاول توضيح أن العلاقة بين الصوت والوعي هي علاقة داخلية. إن الصوت يظل سجين الأنا. لا مكان للآخر، لا مكان للعالم. فنفس الدال ومعنى المدلول هما نفس الشيء، الواحد، المثيل، الأنا، الآن هنا. في الوقت الذي أتكلم فيه، أسمع ما أقول، أحقق نفسي كحضور، كنفس وروح، أحصن حياتي. وقد أشار دريدا في كتابه: De la grammatologie إلى أن تاريخ الميتافيزيقا، ليس فقط من أفلاطون حتى هيغل، ولكن أيضا من ما قبل السقراطيين وحتى هايدغر، اعتبر دائما العقل كأصل للحقيقة. وهذه النظرة نظرت إلى الكتابة دائما كشيء ثانوي وتقني، يقع خارج الحقيقة. الصوت بعكس الكتابة هو مكون من مكونات هذا الاقتصاد الميتافيزيقي، إنه دال لا ينتمي إلى عالم التجربة، إنه الوعي ذاته. إن الكتابة لا تملك معنى ولا تأثيرا، إنه بالإمكان الاستغناء عنها. إن الميتافيزيقا لا تحتاج إلى جسد، إنها نرجسية، نوع من الإصغاء للذات. الصوت والوجود يدخلان في علاقة تقارب. إن الصوت وكما قال هيغل، ينحدر من الروح. إن الكتابة في هذه النظرة الميتافيزيقية اللاهوتية، ليست أكثر من وسيط. إنها لا تتضمن حقيقة، إرادة قول، إنها تجسيد. إن دريدا يوضح بأن مفهوم القصدية سجين ميتافيزيقا إرادية.. إن إرادة القول هي تعبير عن الحضور، وكل ما هو خارج الإرادة أو الذات هو بلا معنى، مثل اللغة والجسد والطبيعة. فالثنائية جسد/عقل تلعب دورا أساسيا في نظرية المعنى الهوسرليانية. العقل إرادة ومعنى، ولكن الجسد مجرد من كل معنى، موت. إن دريدا يفهم الفينومينولوجيا كاختزال إلى المونولوج. إنه يقول:"في الحياة الروحية الوحيدة لا نحتاج إلى كلمات واقعية ولكن فقط إلى كلمات متخيلة"(13) إن العلامة في الفلسفة الكلاسية كما في علم اللغة نوع من الملحق أو المساعد، لا علاقة لها بالحقيقة، إذ أنه يمكن الاستغناء عنها حين الحديث عن الحقيقة. إن العلامة أو اللغة هي مجرد انعكاس للحقيقة المثالية، التي تتأسس خارج العالم. إن العلامة أو اللغة ليس لها معنى، لأن وجودها في العالم يتحقق كجسد. وهذا الفهم للعلامة يقود هوسرل إلى تحقير التواصل، إن الآخر يمثل خطرا بالنسبة له،إنه تنسيب للمعنى الأصلي.الآخر كعلامة أوكتابة أو إنسان أو طبيعة يظل دائما في فلسفة هوسرل ثانويا، إنه نوع من الحشو. ويمكن تلخيص تفكيك فلسفة الحضور كما قام به دريدا في أربع نقط أساسية هي: 1ـ إن دريدا يعتبر بأن العلامة ليست فقط انعكاس لمعنى أصلي ولكنها شرط إمكانية هذا المعنى. وإنها ليست فعل استحضار لمعنى مصنوع من قبل.2ـ في البدء كانت العلامة وليس الذات، فليست الذات هي التي تكون العلامة ولكن نظام العلامة يكون الذات. 3ـ يتجاوز دريدا اختزال الزمن في الآن. الآن أو الحاضر كتحديد أنطوـ لاهوتي للوجود، كأصل للحقيقة وخالق للمعنى هو بالنسبة لدريدا شكل من أشكال الأفلاطونية. 4ـ تجاوز دريدا الهرمينوطيقا التقليدية التي زعمت دائما إعادة امتلاك المعنى الأصلي، هذه الهرمينوطيقا المبنية على الفهم وليس على الاختلاف. إن الغياب يلعب في نظره دورا أساسيا في تكوين المعنى.



    المـراجــع:



    1- „ Jacques Derrida“ Geoffrey Bennington, Seuil, P:252

    2- « Derrida zu Einführung » Heinz Kimmerl, Junius 1922, Seite:16

    3- „La voix et le phènomène : introduction au problème du signe dans la phènoménologie de Husserl » Quadrige/Puf 1967

    4- « Derrida lesen » Sarah Kofman, aus dem Französischen von Monika Buchgeister und Hans-Walter Schmidt, Edition Passagen, Seite :53

    5- „Le langage cet inconnu“ Julia Cristeva, Points 1981,Page: 10

    6- « Marges de la philosophie » Jacques Derrida, Les éditions de minuit, 1972

    7- « Edmund Husserl » Franz Josef Wetz, Campus, Seite :56

    8- Ibid, Seite :57

    9- Dem Zeichen auf der Spur“ Jörg Lagemann und Klaus Gloy, F-V 1998, Seite71

    10- „ la voix et le phénomène » page :6

    11- Ibid, page :59

    12- Ibid, page :23

    13-
    Ibid, page :47

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    * رشيد بوطيب: كاتب مغربي يقيم في ألمانيا [email protected]

    نقلا عن مجلة "ألواح"
                  

10-11-2004, 03:53 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    مقاربة نقدية لاستخراج احتمالات التأويل

    رحيل جاك دريدا، فيلسوف التفكيك

    اشهر فيلسوف فرنسي، انطلق من نصوص فلسفية كلاسيكية ليضع نظرية «تفكيك البناء» النقدية.

    ميدل ايست اونلاين
    باريس - توفي الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن عمر 74 عاما ليل الجمعة السبت في مستشفى باريسي بعد صراع مع سرطان في البنكرياس، وفق ما اعلن محيطه.


    كان جاك ديريدا اشهر فيلسوف فرنسي في العالم، وقد اشتهر بصورة خاصة في الولايات المتحدة حيث لقيت نظريته "تفكيك البناء" اللغوية اصداء كبيرة.


    ولد ديريدا في 15 تموز/يوليو 1930 في الجزائر. التحق عام 1950 بدار المعلمين العليا في باريس قبل ان يصبح مساعدا في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة ثم في جامعة السوربون في باريس. وعين عام 1965 استاذ فلسفة في دار المعلمين العليا حيث شغل منصب مدير دراسات.


    وزاول ديريدا نشاطه التعليمي لفترة طويلة بين باريس وعدد من ابرز الجامعات الاميركية منها جامعتا يال وجون هوبكنز.


    اجرى الفيلسوف دراسة نقدية معمقة للمؤسسة الفلسفية ولتعليم مادة الفلسفة، فانشأ عام 1983 معهد الفلسفة الدولي الذي تولى ادارته حتى العام 1985. وقام فيما بعد بالتدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية.


    من مؤلفاته الكثيرة "الكتابة والاختلاف" (ليكريتور ايه لا ديفيرانس) و"الانتشار" (لا ديسيميناسيون) و"هوامش الفلسفة" (مارج دو لا فيلوزوفي) و"الحقيقة بالرسم" (لا فيريتيه آن بانتور) و"من اجل بول سيلان" (بور بول سيلان) وغيرها.


    ووضع ديريدا انطلاقا من نصوص فلسفية كلاسيكية نظرية "تفكيك البناء" التي تعرض مقاربة نقدية يستخرج من نص ما احتمالاته التأويلية.


    تميز ديريدا في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر بادانته المتواصلة لسياسة فرنسا الاستعمارية في هذا البلد، وظل يأمل حتى اللحظة الاخيرة قبل ان يغادر الجزائر مع عائلته عام 1962، في شكل من الاستقلال يتيح التعايش بين الجزائريين والفرنسيين المولودين في الجزائر. وغالبا ما كان يتحدث بعد رحيله عن الحنين الى البلد الذي نشأ فيه.


    وكان من اعضاء فريق الدعم للمرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 1995. وكان متزوجا من محللة نفسية وله طفل من سيلفيان اغاسينسكي زوجة جوسبان حاليا.
                  

10-11-2004, 03:56 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    البيان:اخبار الثقافة

    صدور الطبعة العربية من كتاب جاك دريدا ..ما الذي حدث في 11 سبتمبر


    سبقت الطبعة العربية لكتاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا «ما الذي حدث في 11 سبتمبر» الصادرة عن المجلس الاعلى للثقافة في مصر غيرها من الطبعات باللغات الاخرى بأربعة اشهر، وذلك للمرة الاولى.


    ويعرض الكتاب في جناح المشروع القومي للترجمة في معرض القاهرة الدولي ويتضمن حواراً اجرته الايطالية جيوفاني بورودري مع دريدا عن أحداث 11 ـ سبتمبر، ومن المتوقع صدوره في العاصمة البريطانية في ـ ابريل المقبل. ويدور الحوار حول الخلفية التاريخية والتداعيات المستقبلية للحدث، ويطرح دريدا افكاره متسائلا في البداية عن فكرة الحدث من وجهة نظر الفلسفة التفكيكية التي يعتبر من ابرز منظريها.


    وقالت المترجمة صفاء فتحي ان دريدا لا يعتبر ما حصل «وفقا للنظرية التفكيكية حدثا لكنه امر يفتح الباب امام احداث اخرى قادمة مستقبلا لا يمكننا الان توقعها او التنبؤ بها او تعريفها».


    وأضافت ان الحوار «يتطرق الى علاقة الولايات المتحدة بالدول الاوروبية والعالم العربي وغيرهما من دول وشعوب الكرة الارضية ضمن سياق تاريخي يحدد ان فكرة الولايات المتحدة تمثل القوى العظمى».


    وأوضحت ان الحوار يظهر «تنصيب الولايات المتحدة نفسها كبطل مدافع عن المؤسسات الدولية الا انها اول من يخترقها ومع ذلك يرى دريدا ان اضعافها قد يؤدي الى اضعاف اعدائها». واكدت ان دريدا يعتبر «العولمة امرا مفيدا وسيئا في اللحظة ذاتها، اذ انها تؤدي الى نتائج سلبية على الواقع العالمي وشعوبه واستبعاد الملايين الذين يكتفون بمشاهدة اغتناء الاخرين على شاشات التلفزيون». وقالت ان الفيلسوف يرى انها في الوقت ذاته قد «تشكل فرصة تتيح للقانون الدولي والمؤسسات الدولية ان تفرض نفسها وان تتدخل من اجل احلال قوى الديمقراطية والسلام». وقالت ان فكرة «الديمقراطية القادمة لدى دريدا تعني احلال العدل، الا انها لن تكف خلال سعيها عن اصلاح نفسها والارتقاء بها الى آفاق انسانية ارحب» ويلقى الكتاب اقبالا من المثقفين العرب والمصريين من رواد المعرض ويقع في 160 صفحة من القطع الكبير.
                  

10-11-2004, 04:01 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    ميشيل لوي يبحث عن الرومانسية في اعمال ماركس: من الصعب أخذ افكار دريدا بجدية -

    عبد السلام باشا
    منذ سنوات يقوم الباحث البرازيلي ميشيل لوي بتحليل العلاقة بين الرومانسية والحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية الثورية، داخل وخارج أمريكا اللاتينية. ميشيل لوي يشغل منصب مدير الابحاث في (المركز الوطني للبحث العلمي) في باريس، وقام منذ أيام بالقاء محاضرة في برشلونة بعنوان (الرومانسية في أعمال كارل ماركس) وأجرت معه جريدة (لا بانجوارديا) هذا الحوار الذي يقول فيه ان الرومانسية حركة بدأت في القرن التاسع عشر لكنها ما زالت موجودة حتي اليوم بسبب نقدها للحضارة الرأسمالية. ويشير الي آثارها في اعمال كتاب مثل أندريه جيد وبورخيس والسرياليين وغيرهم..
    û ما هي الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية المعاصرة التي ترتبط بالرومانسية؟
    ــ حركات اجتماعية حديثة بها ملامح رومانسية، لأنها تنتقد تدمير أشكال الحياة والثقافات التقليدية بواسطة الحضارة الرأسمالية ــ الصناعية. المثال الأمريكي اللاتيني علي هذا هو حركة (زاباتيستا) في المكسيك، التي تستند إلي ثقافة المايا، الحياة الشيوعية للسكان الاصليين، وترفض النيوليبرالية ودكتاتورية السوق. جانبها الرومانسي ظاهر في البعد الشعري ــ الخيالي لنصوص القائد ماركوس، التي تحيل إلي الاساطير القديمة. وهذا يفسر التعاطف الذي تحصده في المكسيك والعالم.
    û وخارج امريكا اللاتينية؟
    ــ في فرنسا توجد الحركة الريفية الجديدة التي تناضل من أجل زراعة أكثر تقليدية ضد الانتاج (الزراعي ــ الصناعي) الرأسمالي، بوسائله المدمرة للبيئة. في اطار تطور هذه الكونفيدرالية الريفية ذات الجذور المسيحية اليسارية والفوضوية الاشتراكية، يمكن رؤية عنصر رومانسي واضح. بعض قادته كانوا تلاميذ لجاك إيلول، مؤلف الكثير من الكتب في نقد الحضارة التكنولوجية الصناعية برؤية رومانسية إلي حد كبير. اعتقد في وجود أمثلة اوروبية ولاتينوامريكية كثيرة، ومنها لا يجب ان ننسي الارجنتيني خورخي لويس بورخيس.

    رومانسية بورخيس
    û ماذا يوجد من الرومانسية عند بورخيس؟
    ــ اعتقد ان بورخيس رومانسي اصيل بدأ بأفكار فوضوية، لكنه سرعان ما تحول إلي الجانب المحافظ، لكن هذا لا يمنع ان يكون رومانسياً وناقداً حاداً، شخصية يشعر بالشر في الحضارة الحديثة ويرغب في العودة للماضي. هذا واضح في جميع أعماله التي تستوحي ثقافات الماضي، ثقافات ما قبل الرأسمالية، الثقافات الشرقية، عالم الشعر والسحر والغموص والاساطير.
    û علي الرغم من انه معجب بالفلاسفة التجريبيين الانكليز: هيوم وبريكلي؟
    ــ من دون شك. لكنه يفهمهم علي طريقته: تحت التجريبية، لكن بعلاقة سحرية مع الواقع ارجعها للرومانسية.
    û ما فهمك اذن للرومانسية؟
    ــ لا أعرف الرومانسية كمدرسة أدبية من القرن التاسع عشر، كما تفعل المختصرات، لكنه كحركة اجتماعية وثقافية واسعة، لها حضورها في مجال الفن والأدب، لكن في الفلسفة ايضاً، في السياسة، في الافكار الاجتماعية والاقتصادية، في اللاهوت والدين. أي في كل مجالات الثقافة الاجتماعية. اعتمد في قولي هذا علي اعمال لمؤلفين مثل (لوكاش) أو المخرج (أ. ب. ثومبتوس) لكن هؤلاء لم يقوموا بالتحليل حتي النتائج الاخيرة. الرومانسية كما افهمها، ولدت في النصف الثاني للقرن الثامن عشر، لكنها لم تنته في 1830 أو 1848، وانما استمرت حتي اليوم.
    û ما هو ملمحها الاساس؟
    ــ حسب تحليلي، الرومانسية حركة ثقافية للاعتراض علي الحضارة الصناعية الرأسمالية الحديثة، لانها تدمر قيم الجماعية، لانها تحول الحياة الاجتماعية الي كم. والأهم لانها تسبب تعاسة العالم. هذه هي نظرية ماكس وبر ، الرومانسية اعتراض علي تعاسة العالم. ومحاولة يائسة أحياناً، لاعادة امتلاكه عبر الدين ــ من أكثر أشكال الرومانسية محافظة ــ أو عبر الخيال، والحلم واليوتوبيا أو الحب المجنون.
    û هل تنظر الرومانسية نحو الماضي دائماً؟
    ــ قلب الاعتراض الرومانسي مستوحي من قيم قبل حداثية، قبل رأسمالية، يمكن ان تكون حقيقية أو متخيلة، لكنها دائماً ما تستند إلي الماضي، ومع هذا يوجد منحدر يحول هذه القيم إلي المستقبل: هنا نتحدث عن رومانسية ثورية أو طوباوية. ماركس قال في (رأس المال) انه ما دامت الرأسمالية موجودة، ستوجد الرومانسية والنقد الرومانسي.

    تنوع الرومانسية
    û لكن فهم الرومانسية بهذه الطريقة، ألا يوسع المفهوم أكثر من اللازم؟
    ــ نعم توجد مخاطرة، لكن هذا يعود لتنوع الرومانسية في الواقع. منذ بدء الحركة كان لها طابع عريض، ما زال يحتوي علي المتناقضات: كان هناك ثوريين مثل روسو ولا ثوريون مثل الشاعر نوفاليس . هذا التعارض غير منفصل عن الروح الرومانسية، وهو ما يوجد هذه الاختلافات، هو رفض الحضارة الحديثة والرأسمالية الصناعية. الآن، كما قلت منذ قليل: من المعتاد قراءة الرومانسية في منحاها المحافظ، لكن يوجد تقليد ثوري ويوتوبوي كبير، أهم ملامحه عدم العودة إلي الماضي. لكن الحنين إلي الماضي يرسم المستقبل. علي سبيل المثال، روسو، واليوتوبيون الاشتراكيون والفوضويون الرومانسيون في نهاية القرن التاسع عشر مثل ويليم موريس وفي القرن العشرين مثل أرنست بلوخ وآخرين..
    û وماذا عن النازية، لا علاقة لها بالرومانسية؟
    ــ النازية حركة رومانسية وحداثية في الوقت نفسه، علي المستوي الايدلوجي والثقافي يوجد بعد رومانسي لا يقبل المناقشة: فكرة (عودة الرايخ الالماني) الذي يعود للعصر الوسيط، للاسطورة، لكن هذه الملامح الرومانسية يتم التعبير عنها بايديولوجية علمية، بالداروينية الاشتراكية ونظرة لا علمية حول الاجناس. اللغة النازية حول الاجناس لغة غير علمية. توجد خطب لهتلر يقول فيها اليهود فيروس ويجب القضاء عليهم ، وهكذا نحن أحفاد باستوري، خطاب هذياني، لكنه مصاغ بلغة طبية علمية، بالاضافة إلي هذا فان المصدر الاكبر لمعاداة السامية النازية، ليس معاداة السامية الرومانسية الألمانية في القرن التاسع عشر ــ التي كانت أكثر تديناً وتدرك اليهودية كدين عدو للمسيحية ــ وانما معاداة سامية حديثة، عنصرية، مؤسسها الأول هنري فورد.
    û لماذا تربط فورد بالنازية؟
    ــ لان فورد، مخترع النوردية في كتابه اليهودي العالمي قلب جزءاً كبيراً من موضوعات الدعاية النازية المعادية للسامية. هنا تظهر علي سبيل المثال، شخصية (اليهودي البلشفي)، هذا الكتاب كان في المقدمة لدي هتلر وآخرين من غلاة النازية. ومن المهم الاشارة إلي ذلك المصدر الغربي الحديث الصناعي للنازية، الذي لا علاقة له بالرومانسية. من جانب آخر فقد كرست النازية في آلياتها وأيديولوجيتها عنصرية الآلة الحديثة، في الانتاج العسكري كما في الانتاج العام. وأيضاً في الابادة الصناعية العلمية لليهود والغجر.
    û هل تعد الطليعيات الفنية في بدايات القرن العشرين داخل الحركة الرومانسية وحساسيتها؟
    ــ نعم والسريالية خصوصاً، اندريه بريتون نفسه عرف الحركة بـ(ذيل الطائرة الرومانسية)، مشيراً إلي اتجاهها الادبي، وكحركة سياسية ــ ثقافية، هي اعتراض عنيف علي الحضارة الرأسمالية، التي يتهمها، ليس فقط باستغلال العمال، وانما أيضاً بعنصريتها الفظة وانحطاطها وانها (أتعست العالم) بين كل الحركات الفنية الثقافية في القرن العشرين، السريالية هي أكثرها في طرح اعادة ابهاج العالم.
    û كيف تري اعادة الابهاج هذه؟
    ــ عبر الشعور والخيال، الرسم والشعر السريالي مهتمان بهذا البحث، ولهذا تستند إلي تقاليد الماضي، الكيمياء، والثقافات الافريقية الاصلية بعناصرها السحرية.. من جانب آخر، في حركة معادية للرأسمالية كهذه، معادية للوطنية والتدين، نجد انها أحد اكثر الاشكال الثورية للرومانسية في القرن العشرين.
    û عندما تختار هذه الموضوعات وتحيطها بهذه الاشارات ــ من لوكاش إلي لوثيان جولدمان وهنري لينبري ــ تبتعد عما يسمي بالفلسفة الفرنسية المعاصرة، المرتبطة بما بعد البنيوية. لماذا قمت بهذا الاختيار؟
    ــ بصراحة شديدة لم أتفاءل كثيراً بالبنيوية، وايضاً بما بعد البنيوية. التي تبدو لي مجرد قلب لموضوعات البنيوية، التي تؤكد علي تحديد للبني، بينما ما بعد البنيوية تذيب كل شيء في الاستبطانات المختلفة والعابها اللغوية. انهما وجهان للعملة نفسها، يقودان سياسياً إلي نقطة نهاية. الوحيد من بين هؤلاء الكتاب الذي يبدو لي مثيراً هو باليبار علي الرغم من اعتقادي ان هذا لتجاوزه هذا الاطار وانفتاحه علي أفكار أقل عقماً.
    û وجاك دريدا؟
    ــ دريدا حالة خاصة. أعجبني في كتابه أشباح ماركس . اعترف ان هذا ليس فيما هو فلسفي ــ لكي أكون صريحاً، يشق عليّ ان آخذه مأخذ الجد ــ لكن سياسياً، هو مهم جداً، علي الاخص لتأكيده اننا نحتاج ماركس لفهم عالم اليوم ولانه يطرح الحاج لمقاومة عالمية النيوليبرالية، وبهذا المعني، كان بداية لدورة في الحقل السياسي الثقافي.
    û وهذه الدورة تبعد دريدا عن ريشارد دورتي، مفكر الموضة الآخر.
    ـــ تماماً. بالاضافة إلي هذا فهو يبتعد عن نوع من الفكر قد يقود إلي موقف من الخلاعة السياسية ويقنن النيوليبرالية وخطابها النسبي مثل دورتي فكرة أن كل الافكار تتصارع في سوق الثقافة، وهي النسخة ما بعد الحداثية من الايدلوجية النيوليبرالية.
    û وماذا يقول دريدا في هذا الصدد؟
    ــ دريدا ضد هذا بشكل ايجابي، وعلي الرغم من ان هذا ليس شيئاً لاحقاً، لانه ان كان يأخذ بنظريته التفكيكية حتي آخر النتائج، فيجب عليه ان يفكك كل النظريات، ونظام القيم. دريدا يقول، في ما يتعلق بجنوب أفريقيا: لا يمكننا ان نفكك خطاب الظلم، لانه، كيف يمكن مكافحة العنصرية؟ وهو هنا يناقض نفسه ــ لحسن الحظ في رأيي ــ لأن تفكيكية متماسكة ستنتهي إلي أن تكون أكثر قرباً من دورتي ونسبية (كل شي مباح).

    جريدة (الزمان) العدد 1308 التاريخ 2002 - 9 -10

                  

10-11-2004, 04:03 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    الإرهاب الدولي يكشف إفلاس الفلسفة الغربية

    * أمير طاهري
    جيوفانا بورادوري تجري حوارات مع يورغان هابرماس وجاك ديريدا حول رؤيتهما لمصير الإنسانية في ظل أزماتها .
    الإنسانية كلها تتكون إما من إرهابيين أو ضحايا للإرهاب. هذه هي النتيجة المدهشة التي يمكن أن يخرج بها المرء من هذا الكتاب الغريب الذي اعده جيوفانا بورادوري تحت عن «الفلسفة في زمن الإرهاب»، والذي يورد سلسلة من الحوارات مع يورغان هابرماس وجاك ديريدا. ويعتبر هابرماس، بصورة عامة، أهم الفلاسفة الألمان الحديثين بعد هربرت ماركوزة. وقد قاده منهجه القائم على «الفلسفة المهمومة بالإنسان»، أي التي تعمد إلى الإنتقال إلى مواقع النزاعات، قاده إلى إيران وإلى الشرق العربي وإلى عدة أقطار إفريقية وآسيوية، حيث يفترض أن الحركات الإرهابية المعاصرة قد وجدت منابعها وألقت جذورها.
    دريدا هو المعبود الفرنسي لفلسفة ما بعد الحداثة والذي يستخدم منهجه في التفكيك لاستخراج أي معنى من أي نص أو سياق. ويتمثل مشروع غيوفانا بورادوري، في ابتداع مفهوم جديد للإرهاب بعد 11 سبتمبر (يلول). وتخرج أسئلتها الحارقة كلا من هابرماس ودريدا من موقعيهما الفلسفيين، المتعارضين، كاشفة عن موقفيهما المتشابهين بصورة مدهشة حول ما يعتبر انه خطوة نحو قانون عالمي كزموبوليتاني شبه كانطي.
    يضاف إلى ذلك أننا نجد في هذه الحوارات، وفي ملاحق بورادوري، إعتمادا كبيرا على شخصيات قليلة نسبيا (كانط، كارل شميدت، هانا أريندت)، للإيحاء بأن النظم الفلسفية التي يصدر عنها كل منهم، أي النظرية النقدية عند هابرماس والتفكيك عند جاك دريدا، ليست متناقضة أو متمايزة بهذا الوضوح الذي كان المرء يعتقد فيه من قبل.
    وتساعد بنية الكتاب، أي حوار تتبعه مقالة تفسيرية، على توضيح الترابط بين أفكار هابرماس ودريدا التي يعبران عنها من دون سابق تحضير، وبين فلسفتيهما المتكاملتين. ويبدو هابرماس هنا أقل محافظة مما يبدو عليه في كتبه الأخرى، رغم أن نقطة تركيزه تبقى، والحق يقال، هي إمكانية التواصل والتفاهم في ظل تزايد خطر الإرهاب، من جانب، وسياسات إدارة الرئيس بوش في واشنطن.
    أما دريدا فيلعب دور الموجه والقائد في رحلة تفكيكية تشير إلى لحظات مهمة وحركات مثل المناعة الذاتية، وهو يقظ دائما وواع وعيا كبيرا بالسياق الذي يتحدث فيه «نهاية الحرب الباردة» والذي وقعت فيه أحداث 11 سبتمبر (ايلول) وشنت فيه الحرب ضد الإرهاب. وبطبيعة الحال فإن هذه الحوارات تكشف ايضا اختلافات الفيلسوفين خاصة في الإجابة على سؤال بورادوري حول 11 سبتمبر كحدث، وحول موقفهما من طريقة تعامل أميركا مع الحرب ضد الإرهاب.
    المقدرة التي تتمتع بها بورادوري للربط بين قضايا الإرهاب، وحرب الولايات المتحدة «الصليبية» ضد عدو مجهول، متوار ودائم الحضور رغم ذلك، وبين قضايا كرم الضيافة والتسامح، تفتح الباب لحوار خصب يفوق التصور. كما أن مقدرتها على توجيه الحوار من دون أن تفرض على محاورها أجندة فلسفية مسبقة، تجعل هذه الحوارات مادة غنية للقراءة.
    فلماذا إذن يتعامل المرء بجدية مع هذا الثنائي العجيب؟ بل لماذا نسخر عرضا كاملا للكتب لما يتفوهان به من كلام؟
    السبب بالطبع ليس هو أهمية ما يدلي به هذان الرجلان. فكثير من الكلام الوارد هنا يمكن أن يسمعه المرء في مقاهي باريس حيث يناقش المثقفون مصائر الإنسانية، وغير ذلك من القضايا غير ذات الموضوع، فوق عدد لا يحصى من أقداح القهوة وشفطات لا تعد من السجائر الفرنسية غير المفلترة.
    ولكن الكتاب يستحق الاهتمام لسببين إثنين على الأقل:
    أولا: هو يمثل شريحة كبيرة من طليعة المفكرين الغربيين حول قضية الإرهاب. ويواجه المرء هنا حضارة مهووسة بالتعريفات والأوصاف. فالظواهر تشرح حتى تموت، إذا سمح لنا بمثل هذا القول. ونلتقي هنا بقدر من الشروحات للإرهاب اسبابه وكيفياته، حتى يصل المرء إلى التعاطف مع الإرهابيين أنفسهم. بمعنى آخر فإن التفسير يتحول بصورة خفية إلى تبرير. وهذا هام لأن حضارة تبرر أسوأ تجاوزات أعدائها لا ينتظر منها أن تعبئ الطاقات الأخلاقية لمواجهة هذا العدو، دع القوة المادية الكفيلة بهزيمته.
    والسبب الثاني وراء اهمية هذا الكتاب هو انه يكشف عن افلاس الفلسفة الغربية المعاصرة، ولاسيما فيما يتعلق بالقضايا المعاصرة مثل البيئة وثورة المعلومات والعولمة، وبالطبع الارهاب الدولي. ويرجع هذا الافلاس بصفة اساسية الى حقيقة واحدة: رفض الفيلسوف الغربي المعاصر اتخاذ مواقف، بل ورفضه الاعتراف بوجود الخير والشر كنوعين متميزين لا ترتبط بتوازن السلطات السياسية والاقتصادية العسكرية.
    وفي هذا المجال فإن كل الاحكام قائمة منطلق اطار القوة: الاقوياء دائما على خطأ، ودائما اشرار، والضعيف على حق دائما.
    ولنبدأ بهذا الجزم لدريدا: «هل يجب تنفيذ الارهاب دائما عن طريق القتل: الا يمكن ان نرهب بدون القتل؟ وهل يعني القتل بالضرورة اماتة الشخص؟ اليس القتل هو «عدم الرغبة في معرفة سماح المرء للاخرين بالموت» مئات من الملايين من البشر يموتون من الجوع والايدز والافتقار الى العلاج الطبي، اليس ذلك جزءا من الاستراتجية الارهابية المتعمدة والواعية، بدرجة ما؟ ربما نخطئ عندما نعتقد بسرعة ان كل الارهاب طوعي، وواعي ومنظم ومتعمد ومحسوب بدقة: هناك مواقف تاريخية وسياسية ينشط فيها الارهاب، كما لو انه يعمل بطريقة ذاتية، كما لو انه نتيجة بسيطة لبعض الوسائل، بسبب علاقات القوة القائمة في المكان، بدون ان يعي أي شخص واي موضوع ضميري واي «آنا» بالامر او الشعور بالمسؤولية».
    وربما يسأل الشخص: هل هذا الشخص جاد؟
    وللاسف فإن الاجابة: نعم.
    وتؤكد جيوفانا بورادوري، التي نظمت الحوار وجمعت الكتاب، للقارئ ان كل من دريدا وهابراماس راجعا تعليقاتهما قبل النشر. وفي الواقع فإن ما يقوله دريدا هو ان كل شخص على وجه الخليقة اما ارهابي او ضحية او الاثنان. وهو يجعل القضية بأكملها عدمية، لانها لا تسمح بأي تفرقة بين تلك القلة التي تتعمد قتل ارواح الابرياء والاغلبية العظمى التي لا تفعل ذلك.
    والحقيقة هي ان الارهاب «طوعي وواع ومنظم ومتعمد ومحسوب وهو ما يجعله ارهابا، وليس شيئا اخر». وبغض النظر عن التبجح السياسي الذي يتردد تحت سطح هذه المقولة، فإن قول مثل هذه الاشياء ربما يكون كافيا لتشويه سمعته كمفكر، بل كفيلسوف، بمقارنة في نفس الوقت النشاط البريء (او عدمه) عن طريق التدمير المتعمد للحياة البريئة والممتلكات بطريقة تدعم الشر بالقول بطريقة ما «انه مقبول، لا شيء يختلف عما يفعله الغرب الشرير كل يوم في حالة اللاوعي التي تتسبب عمدا (بالرغم من عدم معرفتهم بذلك) في الالم والمعاناة في جميع انحاء العالم».
    كما يتجاهل دريدا ايضا حقيقة ان الاغلبية العظمى من ضحايا الارهاب من غير الغربيين. ويعلم الله كم هو عدد الجزائريين الذين قتلوا على يد الارهابيين منذ عام 1991. ولكن من المؤكد ان الرقم اكبر من ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن. هل يجب على المرأ القول بإستحقاق ذبح سكان ضاحية بن طلحة في العاصمة الجزائرية لان القتلة «شعروا بالضعف والحرمان؟».
    أما مساهمة هابرماس في الحوار فهي الأخرى غريبة:
    «بدون الترويض السياسي للرأسمالية المنفلتة فان التراتبية المدمرة للمجتمع العالمي ستبقى صعبة المعالجة. ان التفاوتات في آلية تطور الاقتصاد العالمي يجب على الأقل ان تتوازن في ما يتعلق العواقب الأكثر تدميرا، وأولها الحرمان والبؤس اللذان تعاني منهما مناطق وقارات بأكملها».
    ولكن ماذا يعني هذا؟ هل يمكن لصانع قنبلة في بغداد أو البريدة أن يزعم بأنه يعد لقتل أشخاص أبرياء في سبيل «ترويض الرأسمالية المنفلتة»؟
    مع ذلك ماذا تعني عبارة «الرأسمالية غير المقيدة»؟ أليست الرأسمالية مقيدة بقوانين السوق هذا إذا تجنبنا ذكر الحواجز الكثيرة المفروضة عليها من خلال القوانين المحلية والقومية والعالمية؟
    ما لم يدركه هابرماس هو أن «النتائج المدمرة» التي ذكرها هي نتيجة لغياب حكم القانون وغياب الاحترام الاجتماعي والسياسي للأفراد (خصوصا النساء) والدمار الكبير الناجم عن الأنظمة السياسية التي حكمت بالعنف هذه البلدان ودمرت حياة الناس فيها واقتصادهم.
    يرى هابرماس أن أفرادا مثل صدام حسين وعيدي أمين والخمير الحمر وأناستازيو سوموزا وغيرهم هم ضحايا أكثر من أن يكونوا مبدعين في ميدان الفظائع.
    هذه تحفة أخرى من هابرماس: «...لمحاولات الفهم فرصة تحت الشروط المتناظرة للأخذ ذي المنظور المزدوج. النوايا الحسنة وغياب تجلي العنف هي بالتأكيد مساعدة لكنها غير كافية». بصيغة أخرى ليس بالإمكان تحقيق فهم على المستوى الدولي إلا إذا وصلت كل الأمم إلى نفس المستوى من حيث الاقتصاد والقوة العسكرية وإلى حد ما من حيث النضج السياسي.
    وحالما تصل تلك الأمة إلى ذلك المستوى فإنها أوتوماتيكيا تصبح مؤهلة كي تكون ضحية للإرهاب.
    ويحث هابرماس ودريدا كلاهما القارئ كي «يفكر بطريقة أخرى» وأصبحت هذه الصيغة كليشة متكررة في الكثير من كليات الفلسفة الفرنسية والألمانية. كذلك استخدمت من قبل رئيس إيران محمد خاتمي لوصف نفسه وأتباعه الذين هم على الرغم من إخلاصهم له يستخدمون قاموسا مستعارا من فوكو وهابرماس ودريدا.
    قبل عامين فقط زار هابرماس إيران وتنقل بين جامعاتها وحلقاتها الدراسية الخاصة بالدين لمدة ثلاثة أسابيع، ثم نشر استنتاجاته في سلسلة من المقابلات مع الإعلام الألماني. الشيء الأكثر أهمية من كل ما قدمه هو زعمه بأنه ليس هناك شيء مثل الفلسفة الإسلامية. فهو قد التقى بعدد كبير من رجال الدين الذين كانوا أكثر اهتماما بهيغل وماركيوز من جعفر الصادق.
    يكشف هذا الكتاب تلك الفجوة القائمة في الفهم في العالم الغربي بما يخص الإرهاب فمن جانب هو يمتلك الخبراء الذين صاغوا أنفسهم بأنفسهم والذين يظهرون عبر شاشات الفضائيات لمناقشة الإرهاب ضمن صياغات عسكرية بحتة ومن جانب آخر لديه فلاسفة مثل دريدا وهابرماس الذين يغرقون الأسماك في الماء بسبب كثرة الشروح.
    قد يكون هذا الغياب عن فهم الإرهاب هو الدافع الأساسي للقلق حول المسار المستقبلي لما سماه بوش بـ «الحرب على الإرهاب».
    وإذا كنت لا تعرف لم أنت تحارب فكيف يمكنك أن تتوقع محاربته بشكل فعال ناهيك من تحقيق النصر في هذه الحرب؟
    -----------------------------------------
    * الشرق الاوسط
                  

10-11-2004, 04:06 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    جاك دريدا في العقل والكتابة والختان


    تأليف: د. امينة غصن


    الناشر: دار المدى للثقافة والنشر ـ دمشق 2002


    الصفحات: 154 صفحة من القطع الوسط


    لعل من ابرز الاصدارات العربية في الشهرين الاخيرين المنصرمين، كتاب الدكتورة امينة غصن، الموسوم «جاك دريدا، في العقل والكتابة والختان». وفي اعتقادنا ان احدا لم يجرؤ قبل الدكتورة غصن على تناول دريدا بهذا العمق وهذه الجرأة في الوطن العربي، على الرغم من شهرة فيلسوف التفكيكية والاكثر اهمية بين فلاسفة العصر، الفرنسي، الجزائري المولد جاك دريدا، رغم ان د. امينة غصن لا تعتبره فلسفيا انما لها وجهة نظر تحددها بالقول «دريدا ليس فيلسوفا ولا السنيا ولا مؤرخاً ولا فقيها انما هو ناقد سريالي مأخوذ بما اخذ به ستيفان ملارميه في نظرية «الخلق من عدم»،


    وهو خلق فني اخطأ دريدا الافادة منه لان ملارميه كان ينزع في مشروعه لتجريد الكلمات من ذاكرتها وشحنها بمدلولات عذراء بكر لا تحيل الى معان سبقتها كي لا يقع في استحواذ اللغة واستملاكها». والدكتورة غصن وهي من ابرز الباحثات في سياق البحث في فلسفة دريدا ومنهجه النقدي التفكيكي، توظف في هذا الكتاب عبر قراءة واسعة مقاربات مهمة لمناهج عدة مثل البنيوية، النيلولوجيا، والتاريخ القديم بالذات والسياسة والادب والدين وهي تحاول ان تبحث في العديد من خبايا دريدا وعلاقته بالمنتج الانساني، بحثا ونقدا وتهديماً.


    ان فيض جاك دريدا ليس فيض المنهج، ولا فيض الابداع، وانما هو فيض النصوص التي لجأ اليها جاك دريدا اما لتسييبها او لهدمها، وهو يفيض النصوص المؤولة، افزع متلقيه بقراءاته الضئيلة، لان ضئيل القراءة او ضحلها، يظن ان لدريدا منهجيات وتفكيكات لا تعد ولا تحصى في حين انه ليس لدريدا إلا التناقض، والادعاء الذي لا يقوم إلا بتكذيب الآخر، سعيا لاخلال خطاب التفكيك والتناص والسرقة محل خطاب هذا الدريدا المخيف هو الدريدا «السهل الممتنع» الذي اجاد لعبة الجدلية التي تراوح بين حدي الحضور والغياب.


    وهكذا نجد ان دريدا يهتم بهدم لغة الآخر ليضع لغته هو، فهو مسحور بالمراوغة والبعثرة وبالتالي فهو يسعى لنسف اي وحدة تجمع ما بين الادب والسياسة والفلسفة، الباحث عن حقيقة الكتابة في الواح التاريخ والدين، وهو الوفي لإله الهدم والتخريب على حد تعبير د. غصن او وصفها له كونه حفاراً للقبور «لا يعني بالحرمات وانما بتعميق الهوات والحفر وسلخ الهويات وانتزاع الشارات من أصحابها وكأنه في مشادة دائمة مع المبدعين الذين يود انتزاع خطابهم منهم ليحل محله خطابه هو».


    دريدا وهو الطامح الى ان يترك اثراً من خلال كتاباته يجد نفسه عاجزاً عن تغيير صورة ختانه وهذا ما دفعه للبحث عن حقيقة الكلام لا في كلام الحقيقة او ان يستحضر توت وثاموس وافلاطون، مثلما يبحث عن نيتشه وهيغل وبيكيت.


    وهنا يبدو دريدا كوريث شرعي لنيتشه المناهض للمنهجية والمعترض على لوغو مركزية الميتافيزياء والطعن في مفهومي الكون والحقيقة، فدريدا يرفض الاعترف بكل حقيقة للكون ليقر بأن اصل المشكلة هو الكتابة، وان الاسلوب الطائش هو الاسلوب المكتوب فقد استسلم الفلاسفة في رأيه لطيش الكتابة التي اصبحت بحاجة ملحة لوجود أب متسلط يراقب طيشها ويحوله الى منهج فكانت مركزية العقل التي اقرها الفلاسفة لتثبيت المعنى والجوهر.


    ولكن هل يستطيع دريدا ان يبريء نفسه من تهمة الفلسفة؟! الدكتورة غصن تجد اجابة لنفي التهمة، ام ترى لالصاق تهمة جديدة به كما تسميها غصن؟


    حيث ينفي دريدا عن نفسه تهمة «الفيلسوف» وتهمة الادب وتهمة علم الجمال فهل يحق لنا ان نتهمه بالفقيه؟ ام بالانثروبولوجي؟ ام بالانتولوجي ام بالألسني، ام بالاركيولوجي الباحث عن اصل اللغة واصل الكتابة واصل الارث واصل الهوية؟ وترى الدكتورة غصن ان دريدا جاء ليطهر اللغة من جرائمها ويحاسب ذاكرتها ويكشف تاريخها المزور، ولكنها سرعان ما تطرح سؤالاً مشروعاً عن مشروعية كتابات دريدا التي تحمل «وشمة» على حد تعبيرها أو «وشم معاصريه واثارهم مثل كولنور، وفوكو، ولاطان، وليفيناس، ليوتار،


    ام انها تحمل وشم اسلافه كافلاطون، وهيراقليط، وهيغل، وهايدغر، وهوسرل وفرويد، وماركس، ونيتشه؟


    إلا ان ما يمكن الوصول اليه بلا جدل هو مشروع الهدم او التفكيك عند دريدا، وهو يجد ان الكتابة لا تخضع الى القوانين لان الكتاب سرعان ما يأخذهم الغياب، وبهذا يخسر المبدع نصه أو بادق تعبير ملكية نصه.


    الدكتورة امينة غصن تحلل شخصية دريدا ابتداء من ولادته مروراً بالاثر الذي لا يمحى في جسده دليلاً على انتمائه الديني الذي حاول ان يغيره بعد ان هاجر وتقول: هذه الفوضى هي التي انسحبت على هوية جاك دريدا اليهودي الجزائري الذي منحته فرنسا الجنسية الفرنسية وهي جنسية تحولت الى نقمة وأزمة، اشعرت جاك دريدا بالاقتلاع والغربة مرتين، الأولي لانه فرنسي اغتصب ارض الجزائريين، والثانية لانه يهودي يبطن يهوديته ولا يعرف منها إلا اثر الختان، ويتظاهر بالكاثوليكية التي يهدمها ولا يؤمن بها، ولا بغفراناتها هذه الفوضى هي التي جعلت دريدا لأن يكون فيلسوف التفكيك الاول فهو نفسه انسان مفكك تماماً.


    وتجد الدكتورة غصن انه فعلا مفكك في حياته وانتماءاته وعقيدته الدينية وهو يشعر بهذه التناقضات التي عاشها دون ان يستطيع ان ينسى اثارها وتصل الى قناعة تامة في وصفه بعد ان درست كل ما يتعلق بحياته وتقول: وان كان هناك دال بلا مدلول، فهو جاك دريدا الفيلسوف الفرنسي الذي ليس هو فرنسيا ولا جزائرياً ولا يهودياً ولا سفارديا، وانما فيلسوف ضدي يقوم مشروعه الفلسفي على انهاء الفلسفة.


    وعلى الرغم من عدم القدرة على جمع كل ما ذهبت اليه الدكتورة امينة غصن عن دريدا، وذلك لارتباط جدلي فيما تكتبه من الحرف الاول في الكتاب الى السطر الاخير منه، يجعل القاريء في ازمة فكرية وهو يتنقل مع د. غصن ودريدا الذي لم تترك جانبا من حياته وفكره واسلوبه وفلسفته إلا وحاولت ان تسبر اغوارها وتتعمق بعيداً في حياته وفلسفته وتجده مراوغاً واحياناً نازياً على الرغم من انه يريد ان يثأر من هذه النازية بما ميزته ساميته، انه كتاب ينبغي ان يقرأ لأن يطرح اسئلته مثلما يستفز القاريء المتعمق لطرح اسئلته ايضا في محاولة يائسة للوصول الى جواب يتناسب وما يطرحه جاك دريدا ويتعايش مع الابداع والحياة الثقافية بشكل عام.


    عبدالاله عبدالقادر

                  

10-11-2004, 04:07 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    رحيل صاحب النظرية التفكيكية الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا


    توفي آخر الفلاسفة المعاصرين، الفرنسي اليهودي، المولود في الجزائر جاك دريدا، السبت في مستشفى باريسي بعد صراع مع سرطان البنكرياس، وبعدما أشبع العالم علماً وفكراً واستفزازاً خلال عقود طويلة.

    فصاحب النظرية الفلسفية المعروفة بنظرية "التفكيكية الإجتماعية" وضع نهجا لها عممه في الأدب وعلم اللغات والفلسفة والقانون والهندسة المعمارية في مرحلة ما بعد الحداثة.

    واستند دريدا في هذا المنهج الى قطيعة كان أعلنها نيتشه تجاه الميتافيزيقا.

    ويقوض نهج التفكيكية مفهوم الحقيقة بمعناه الميتافيزيقي، وكذلك الواقع بمعناه الوضعي التجريبي, لتحوّل سؤال الفكر الى مجالات اللغة والتأويل.

    وألف ديريدا، بحسب وكالة الأسوشيتد برس، عشرات الكتب. إلا أن انطلاقته الفلسفية كانت عام 1967 حين نشر أول كتابين، خط فيهما أسس فكره "الكتابة والإختلاف" و "عن علم النحو" ثم تبعهما "هوامش الفلسفة" وآخر إنتاجه كان "أشباح ماركس".

    نعاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بقوله "أعطت فرنسا العالم به، واحدا من أبرز الوجوه الثقافية في عصرنا."

    ودرس الفيلسوف الراحل في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وكل من جامعة جون هوبكينز ويال.

    وكان يرفض أن يضع نفسه في البرج العاجي حيث يضع بعض الفلاسفة والمثقفون أنفسهم عادة. ولطالما دافع عن حقوق المهاجرين الجزائريين في فرنسا، وقضايا إنسنانية أخرى.

    وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية أن ديريدا لفظ أنفاسه الأخيرة في مستشفى بباريس ليل الجمعة.

    وتقول كتابات ديريدا الكثيرة إن هناك طبقات متعددة من المعاني في الأدب والفن والموسيقى والمعمار ليست مقصودة بالضرورة أو حتى مفهومة من قبل مبدع العمل.

    ويقول المراسلون إن المجتمع الأكاديمي غالبا ما عارض هذا التفسير.

    وفي عام 1992 احتج عدد من أعضاء هيئة التدريس بجامعة كمبريدج في بريطانيا على خطط منحه درجة شرفية متهمين كتاباته بأنها "معتقدات تافهه تنكر الفرق بين الحقيقة والخيال".

    كما شن جاك ديريدا أيضا حملة لصالح حقوق المهاجرين في فرنسا وضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا ودعما للمنشقين في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية.

    وقد تم عمل فيلم وثائقي عن حياة ديريدا العام الماضي.

    وفي أحد المشاهد وخلال التجوال في مكتبة ديريدا يسأله أحد منتجي الأفلام: "هل قرأت جميع الكتب الموجودة هنا؟" فأجاب ديريدا بالنفي قائلا: "لا أربعة منها فقط لكني قرأتها بعناية فائقة".

    شبكة النبأ المعلوماتية - الاثنين 10/10/2004 - 26/ شعبان المعظم/1425
                  

10-11-2004, 04:10 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    ذهنية الإرهاب.. لماذا يقاتلون بموتهم؟
    عرض/ إبراهيم غرايبة
    يقدم هذا الكتاب آراء مجموعة من الكتاب الأوروبيين مثل جان بودريار، وأمبرتو إيكو، وجاك دريدا، وإد فوليامي، وجان لوكاريه، حول ما يتم تعريفه باعتباره إرهابا وتداعيات أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الشهيرة، والحرب الأميركية على العراق، ويفتح آفاقا للقراءة والتأويل والمحاورة حول أهداف الإمبراطورية الأميركية الجديدة وسعيها لتوسيع مصالحها، ومحاولتها لإحاطة نفسها بهالة من الأفكار والشعارات والرموز والاعتقادات، وتحولها إلى سبب للعنف ومصدره.


    غلاف الكتاب
    -اسم الكتاب: ذهنية الإرهاب..لماذا يقاتلون بموتهم؟
    -المؤلف: جان بودريار وآخرون
    -ترجمة: بسام حجار
    -عدد الصفحات: 222
    -الطبعة: الأولى 2003
    -الناشر: الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي


    ذهنية الإرهاب
    يفسر الفيلسوف الفرنسي جان بودريار الفعل الإرهابي وما يترتب عليه في قراءته لأحداث 11 سبتمبر/ أيلول قائلا "نحن (الغرب) الذين أردنا هذه الأحداث وإن ارتكبها (هم)، وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو حادثة محضة نفذها بضعة متعصبين يمكن القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيدا أن الأمر ليس كذلك".

    الحادث برأي بودريار يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة، فمن المنطق أن يؤجج تفاقم القوة الرغبة في تدميرها، وأن تكون شريكة في تدميرها الخاص. فالغرب وقد تصرف كما لو أنه في موقع (الله) ذي القدرة الإلهية الكلية والشرعية والأخلاقية المطلقة يغدو انتحاريا ويعلن الحرب على نفسه، وقد كان انهيار برجي مركز التجارة تواطؤا غير مرتقب.

    فالنظام الذي وضعته هذه القوة العالمية هو الذي أنشأ الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت، وباستئثاره على كل الأوراق فإنه يرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة، فهو رعب مقابل رعب، ولم يعد هناك أي بعد أيديولوجي، فقد أصبحنا بعيدين عن كل أيديولوجيا وسياسة. فالطاقة التي تغذي الرعب لا تعبر عنها أيديولوجيا، ولا أي قضية، ولم يعد الأمر منوطا بتحويل العالم كما تهدف الحركات الأيديولوجية، ولكن نظام القوة العالمي المهيمن هو الذي يهدف إلى ذلك، ولو كان الإسلام مسيطرا على العالم لنشط الإرهاب ضد الإسلام، ذلك أن العالم هو الذي يقاوم العولمة، والإسلاميون يعبرون عن كل واحد في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة.

    كانت فكرة مقاومة النظام العالمي أو العولمة بسيطة، فهذا النظام الذي يكره الموت ويتجنبه، يكون السلاح المميت ضده هو الموت، وقد استخدم المنفذون رتابة الحياة الأميركية قناعا للعبة المزدوجة، عاشوا في ضواحي أميركا، وتدربوا في وسط عائلاتها قبل أن يتحولوا فجأة إلى قنابل بشرية، وربما كانت قدرتهم على تدبير هذه الحياة السرية أكثر أهمية وخطورة من العمل الذي قاموا به في 11 سبتمبر/ أيلول.


    ما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها، وما تزعمه هذه القوى من رعاية للقانون الدولي، وما تتخذه من ذرائع لشن الحرب على بعض الدول تجعل الولايات المتحدة في طليعة الدول المارقة

    سيناريوهات للحرب الشاملة
    من ناحيته يناقش الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو مقولة صراع الحضارات أو الثقافات التي تفسر الحرب الأميركية على العالم الإسلامي وحرب المسلمين عليها، وهل الحرب هي الشكل العادل للعنف؟

    يمكن القول وفق تحليل إيكو إن الغرب هو الذي كانت له الغلبة في تاريخ الصراع الطويل بين الشرق والغرب، فأوروبا لم تحتل من قبل المسلمين باستثناء حالات قليلة في إسبانيا وشرق أوروبا، ولكن المسلمين اضطروا في عقر دارهم إلى القبول بالتكنولوجيا الغربية على نطاق واسع، وكان يمكن أن يعد ذلك انتصارا لولا أن المسلمين تمكنوا من استخدام هذه التقنية في تدمير مركز التجارة العالمي، ولكن هل يعتبر ما يجري صراعا بين الشرق والغرب على غرار الحروب الصليبية؟

    يستبعد إيكو مقولة صراع الحضارات في تفسير ما يجري، ويدعو بقوة إلى مقاومة نزعة العداء الحضاري والثقافي لأن كلفتها تضر بالغرب، وقد تلحق به الهزيمة، فقد تداخل الشرق بالغرب، وتداخلت المصالح والعلاقات على نحو لم يعد ممكنا حمايتها إلا بالتعاون والعمل المشترك.

    ماهية الدولة المارقة
    يتساءل المفكر الفرنسي جاك دريدا حول ما تؤول إليه مفاهيم العقل والديمقراطية والسياسة والحرب والإرهاب عندما تنتهي سيادة الدول أو تنتقص، وهو ما تقوم به الولايات المتحدة مستخدمة قوتها العالمية الضاربة.

    والواقع أن ما تقوم به الولايات المتحدة والدول المتعاونة معها وما تزعمه هذه القوى من رعاية للقانون الدولي، وما تتخذه من ذرائع لشن الحرب على بعض الدول تجعل الولايات المتحدة برأي دريدا في طليعة الدول المارقة.


    العراق لا يشكل تهديدا لجيرانه ولكن سوء حظه يقع في امتلاكه كميات هائلة من النفط مغرية للشركات الأميركية، أما مسألة حقوق الإنسان فمعظم حلفاء أميركا يمارسون انتهاكات بشعة ضد الانسان وحقوقه وحرياته

    الإرهاب والحرب العادلة
    يلاحظ الكاتب والروائي البريطاني جون لوكاريه أن الولايات المتحدة تشهد موجة من الجنون هي الأسوأ بين كل ما شهدته في تاريخها، ويحتمل أن تكون على المدى البعيد أشد وقعا من حرب فيتنام.

    كانت مجموعة الرئيس الأميركي جورج بوش في مرحلة السعي لتبرير حرب شاملة مجنونة، وقد وجدت في أحدث 11 سبتمبر/ أيلول فرصة لهذه الحرب المخطط لها قبل سنوات عدة، وكانت الإدارة الأميركية محاطة بمجموعة من الأزمات الكبيرة، مثل شرعية رئاسة بوش، وانهيار شركة إنرون ذات الصلة بالمسؤولين الأميركان الحاليين، وانحياز الإدارة الأميركية للشركات الكبرى العملاقة، وعدم اكتراثها بفقراء العالم والبيئة والمعاهدات الدولية، ثم الانحياز المطلق لإسرائيل الذي أوقع الولايات المتحدة في خروقات عدة لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها.

    وقد أتاحت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الفرصة لحرب تريدها الإدارة الأميركية وتخطط لها، وجاءت هذه المرة بدعم شعبي كبير، وبموازنة إضافية هائلة (360 مليار دولار)، ولم تكن الحرب على أفغانستان كافية، ولم تكن هي المقصودة، ونجحت الإدارة الأميركية مرة أخرى في تجييش الرأي العام للحرب على العراق. ويعتقد الأميركان كما في استطلاعات الرأي أن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين هو المسؤول عن الهجمات على مركز التجارة العالمي، وبقليل من العناية سوف يضمن هذا العصاب المدروس بدراية فائقة أن يأتي نجاح بوش وأعوانه في العودة إلى البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة على طبق من فضة.

    ولعل الجانب المقزز في الحرب الاستعمارية الأميركية والهيمنة الأميركية على العالم بما في ذلك أوروبا هو النفاق الديني الذي يغطي به المحافظون الجدد إرسال الجنود إلى القتال، وتعميم فكر سوريالي مثل أن الله أوكل إلى أميركا إنقاذ العالم، وكل من يجرؤ على المساءلة سيجد نفسه في تهمة لا يستطيع الخروج منها كالعداء للسامية، والعداء لأميركا، والإرهاب.

    ولكن مطالعة محدودة في سيرة بوش ومجموعة الإدارة المحيطة به تكشف مدى تورطهم في فساد الشركات الكبرى العملاقة، التي تبحث عن حرب جديدة تنقذ الخسائر التي تتعرض لها، وتغطي على الفضائح والفشل سياسيا وإعلاميا.

    ويميل لوكاريه إلى الاعتقاد أن العراق لا يشكل تهديدا لجيرانه، ولكن سوء حظه يقع في النفط الذي يتوافر في أراضيه بكميات هائلة مغرية للشركات الأميركية، وأما مسألة حقوق الإنسان فهي لا تحتاج إلى نقاش، فمعظم حلفاء أميركا المهمين مثل حكام باكستان وتركيا يمارسون انتهاكات بشعة للحريات والديمقراطية وأبسط حقوق الإنسان.


    كل إستراتيجيات الأمن ليست سوى استكمال للإرهاب، وإنه انتصار فعلي ذاك الذي حققه الإرهاب بإغراقه الغرب في الهاجس الأمني، أي في شكل مقنع من أشكال الإرهاب المستمر

    فرضيات حول الإرهاب
    يعود الفيلسوف الفرنسي جان بودريار مرة أخرى في هذا الفصل، وقد أثارت مقالته الأولى (ذهنية الإرهاب) نقاشا واسعا، ليطرح فرضيات حول العنف والعولمة والإرهاب والغرب والإسلام.

    ويجد بودريار أن النظام العالمي المهيمن يقتضي بالضرورة وجود إرهاب لكي يستمر في العمل والسيطرة، لأنه دون إرهاب سينهار هذا النظام، وهكذا فإن تواطؤا عميقا ينشأ بين الخصمين، حتى إن المحلل يتساءل من يستخدم من؟

    هذا التواطؤ ليس بالضرورة خطة مقصودة تعد مسبقا، ولكن نظام الهيمنة والعولمة والسلطة بحد ذاته يحمل نقيضه، وقد يكون التناقض حاجة بنيوية في النظام نفسه. والأميركيون يحتاجون لأن يكونوا ضحايا ويتعاطف العالم معهم، فالضحية في حل من أي عقدة ذنب تجاه أفعاله وجرائمه، وتحتاج أن تستخدم مأساتها كما لو أنها بطاقة ائتمان! وقد جاءت أحداث مركز التجارة العالمي لتستخدم أميركا قوتها الفائضة التي لم تكن تعرف كيف تتصرف بها وهي مرتاحة الضمير.

    وقد يكون هذا السيناريو مثل حكايات الخيال العلمي، ولكن هذا الموقف الافتراضي القائم على وجود قوة غامضة تهدد بالإبادة كان موجودا بالفعل في الذهن أو اللاوعي الأميركي، وكان قائما لديهم هم فقط، ولا يشاركهم فيه أحد حتى تحول هذا الافتراض إلى حقيقة بفضل الإرهاب والعنف، وتلك هي أميركا كما تحسب نفسها في ظل غياب الغير، وترمق نفسها بتعاطف يكاد يقارب العته.

    وهناك رواية متطرفة مفادها أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول هي مؤامرة إرهابية داخلية نفذها اليمين المتطرف الأصولي في أميركا بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية، فماذا لو كان هذا الحادث مزيفا ومفبركا؟ الواقع أن هذه الرواية يتواطأ معها الميل الغربي للتقليل من شأن الخصم، فقد تكون أفضل لدى الغرب من الاعتراف بقدرة هؤلاء المجاهدين الغامضين على تكبيد الأميركان هذه الضربة الكبيرة، وقد سبق في قضية تحطم طائرة لوكربي أن ساد لوقت طويل التحليل القائل بترجيح العطل الفني في الطائرة سببا لتحطمها، فالاعتراف بالتقصير حتى لو كان خطيرا هو أفضل من الاعتراف بقوة الآخر.

    ولكن حتى لو كان هذا التفسير حقيقيا، وثبت بالفعل أن الحادث كان من تدبير بعض المتطرفين أو العسكريين الأميركان، فإنه في المحصلة يصب في الافتراض الأول، وهو أن النظام يحمل عناصر تدمير ذاته، ويبقى علامة على عنف داخلي مدمر للذات يؤكد صحة الافتراض الأول.

    ثم إن كل إستراتيجيات الأمن ليست سوى استكمال للإرهاب، وإنه انتصار فعلي ذاك الذي حققه الإرهاب بإغراقه الغرب في الهاجس الأمني، أي في شكل مقنع من أشكال الإرهاب المستمر.

    فشبح الإرهاب يرغم الغرب على إرهاب نفسه، باعتبار أن شبكة الشرطة العالمية تعادل التوتر الذي قد تسببه حرب باردة شاملة، وتعادل الأضرار في الأبدان والعادات التي قد تنجم عن حرب عالمية رابعة.

    لم يؤد هدم البرجين إلى إخفاق النظام العالمي لا سياسيا ولا اقتصاديا، ولكن صدمة الهجوم ووقاحة نجاحه (كما يصفها بودريار)، ثم ما تبع ذلك من فقدان الثقة وإفلاس الصورة، حطم المعادلة، وتحول النظام والإرهاب معا إلى شبحين يتعذر إمساكهما أو تعيين موضعهما، وربما كانت هذه هي ضربة الصميم التي تلقاها النظام.


    عدد المحافظين الجدد في البيت الابيض ليس كبيرا لكنهم الأكثر أهمية في صوغ السياسات الأميركية والتفكير السياسي، وهم الأكثر حماسا للحرب على العراق والأكثر تأييدا لليكود الإسرائيلي

    المحافظون الجدد
    تتحدث مقالة نشرت في صحيفة اللوموند الفرنسية عن المجموعة المحيطة بالرئيس الأميركي بوش، والتي تمثل النفوذ في البيت الأبيض في قضايا العراق، وإسرائيل، والأمم المتحدة، والعلاقات الأوروبية الأميركية، وهم الأشد حماسا للحرب على العراق، ويؤيدون الليكود الإسرائيلي بشدة.

    إن عددهم ليس كبيرا، ولكن البيت الأبيض يصغي لما يقولون، من بينهم بول ولفويتز، الرجل الثاني في وزارة الدفاع الأميركية والباحثة لين تشيني زوجة ديك تشيني نائب الرئيس بوش.

    وهناك ثلاثة شخصيات لا تتحدث عنها وسائل الإعلام كثيرا، ولكنهم الأكثر أهمية في صوغ السياسات الأميركية والتفكير السياسي، وهم إيرفنغ كريستول، وغاري باور، وريتشارد بيرل، وهذا الأخير وقع فترة من الزمن تحت الأضواء الإعلامية، ولكنه هرب منها باستقالة لم تبعده عن التأثير، وإنما أنقذته من التركيز الإعلامي.

    فكريستول يبلغ الثالثة والثمانين من العمر، ويعمل في المعهد الأميركي للمشاريع، أحد أبرز معاهد تيار المحافظين الجدد، ويعتبر كريستول عراب هذا التيار، وكان ماركسيا، ويوصف بأنه من الماركسيين الجدد، ثم تحول إلى التروتسكية، ووصف بأنه من التروتسكيين الجدد، ثم إلى الاشتراكية والاشتراكيين الجدد، ثم الليبرالية والليبراليين الجدد، وأخيرا المحافظين الجدد.

    والواقع أنه يغلب على غلاة اليمين أنهم تحولوا إلى هذا الموقع من التطرف اليساري أو التطرف الليبرالي، وكذلك الأمر في الليبرالية التي استقطبت غلاة اليسار والماركسية سابقا.

    ويقود الأصولية المسيحية حول بوش "غاري باور" رئيس مجموعة القيم الأميركية التي تدير عدة كنائس بروتستانتية متنفذة وقوية، وقد كان باور أحد مستشاري الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ريغان، ويرأس أحد أهم اللوبيات وأكثرها نفوذا في السياسة الأميركية، وهو لوبي حماية الأسر العاملة.

    وكان بيرل يرأس مجلس السياسات الدفاعية، وهي الهيئة الاستشارية لوزارة الدفاع الأميركية، وقد وصفته الصحافة بأنه بطل الحرب الباردة، وكان نائب وزير الدفاع في عهد ريغان، وكان يقود ويوجه سياسات ريغان المحافظة والتي ينتمي إليها المحافظون الجدد المحيطون ببوش، وهو مقرب من الليكود الإسرائيلي

                  

10-11-2004, 04:14 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)




    جاك دريدا ونظرية التفكيك (1)

    بقلم : س . رافيندران

    ترجمة : خالدة حامد

    يعد التفكيك deconstruction أهم حركة ما بعد بنيوية في النقد الأدبي فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً . وربما لا توجد نظرية في النقد الأدبي قد أثارت موجات من الإعجاب وخلقت حالة من النفور والامتعاض مثلما فعل التفكيك في السنوات الأخيرة . فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد ( مثل ج. هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ) هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم ، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون في خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم على التفكيك الذي يعدونه سخيفاً وشريراً ومدمراً . ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد .

    فهل أن التفكيك مدمر حقاً ؟ إذا كان الجواب نعم ، كيف يكون ذلك ولماذا ؟ وإذا كان الجواب لا ، فلماذا هذا الرعب ؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد فهم مفاهيم التفكيك الأساسية وتقويمها ، ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا هو كتاب " في علم الكتابة " (2) Grammatology Of الذي يعد لسان التفكيك … العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا ، الفيلسوف والناقد الفرنسي .

    وأنا أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان ، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه ، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations محتملة ، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا . وسأعمد إلى توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بوصف وتقويم مفاهيم التفكيك .

    يؤكد م. هـ. ابرامز M. H. Abrams أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو : " 1ـ أنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة ، النص المكتوب أو المطبوع ، 2ـ أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية " (3) . ولم يعمد أبرامز إلى تبسيط مكانة دريدا بوصفه تفكيكياً من خلال مساواته مع البنيويين الفرنسيين الآخرين حسب ، بل إنه شوهه إلى حد كبير حينما حاول تعريف بعض الكلمات الأساسية في النقد التفكيكي مثل " الكتابة " ecriture و " النص" text . وقد بين أن الكتابة عند دريدا هي النص المطبوع أو المكتوب وأن مفهوم النص محدد على نحو غير اعتيادي .

    وسأبرهن في معرض تقييمي لدريدا وتعليقي عليه أن ما جاء به أبرامز لا يتعدى كونه حفنة من سوء التأويلات التي لم يحدثنا فيها عن ماهية التفكيك بل عن أمور لا تمت إلى التفكيك بصلة .

    أما نيوتن غارفر Newton Garvar فهو معلق آخر على دريدا ، إذ يؤكد أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة ، وأنه يشدد على أسبقية البلاغة على المنطق :

    ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات utterances في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى ، والذي بسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية (4) .

    وقد حظيت المحاجة التي تقول أن التفكيك حقل معرفي بلاغي ، بدعم هيليس ميلر الذي يقول : " إن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر ، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً " (5) . ويعتقد موراي كريغر Murray Krieger أن دريدا " بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها ، وربما يكون قد أبطلها أيضاً " وأضاف إن الهجوم الذي شنه دريدا يعد " شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير" (6) . ويؤكد فريدريك جيمسون Fredric Jemson أن فكر دريدا ينفي وهم تخطي الميتافيزيقيا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف (7) .

    ومن الممكن أن تكون هذه التعليقات مصدر تضليل إذا عددناها بياناً أو تقويماً سليماً لنظرية دريدا ، على الرغم من فائدتها في سيرورة البحث في التفكيك ، فنحن حينما نعد دريدا مع بقية فلاسفة اللغة الذين يعتقدون أن المنطق مستنبط من البلاغة ، فإن هذا يعني سد الطريق أمام إمكان إدراك حداثة أفكاره ، كما إن مساواة دريدا بأفلاطون والتأكيد أن دريدا يكرر النزاع القديم مع الأسطورة myth يمثل إساءة لمكانة دريدا ، والتأكيد على أن دريدا لم يفعل شيئا سوى نقل الاهتمام من " الكلام " إلى "الكتابة " وبذا فإن حصر النص في حجيرة خاصة ، لهو سوء تأويل حقاً . إذ ينبغي للمرء أن يكون حذراً عند مقاربة المصادر الثانوية الرامية إلى فهم دريدا والتفكيك . وقد انقسم النقاد على فريقين … فهم أما يخفقون في فهم دريدا أو يسيئون تأويل أفكاره ، ولهذا السبب لا يمكن الاعتداد بالمادة الثانوية ، ولا يمكن أن نعدها طرقاً سالكة توصل إلى عالم التفكيك ، لكن مع ذلك يوجد نقاد آخرون أمثال هارولد بلوم Harold Bloom وهيليس ميلر وبول دي مان Paul DeMan وجيفري هارتمن Jeoffrey Hartman الذين هم بقدر أصالة دريدا ، إلا أن كل واحد منهم يشكل مدرسة تقريباً ونادراً ما يفسر دريدا … المعلم العظيم الأول للتفكيك . ويعد فهم دريدا الخطوة الأولى على طريق فهم التفكيك ، ومما لا شك فيه أن الخطوة الأولى تستدعي مماحكة أفكار دريدا .

    يمكن القول إن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وإن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تستعصي على التعريف . وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك … وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا ، وسأنوي بعد وصف المصطلحات وتحليلها التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال الذي يخص الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي ، وسأبين في المراحل النهائية من تحليلي إن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وإن للتفكيك مضامين روحية .

    ومن الجدير بالذكر أن " الكتابة " و " الكلام " كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا . وتتمتع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة ، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وإن الكلمة المنطوقة " صوت" phone كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي . كما تُعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصورة الصوتية . وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم ، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر . ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال . ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئا أشبه بالثالوث في هذه العلاقة : الذهن الإنساني ، الدال (الصورة الصوتية ) ، المدلول (المفهوم) .

    والآن ، ما المكانة التي تحتلها الكلمة المكتوبة في الفهم التقليدي للغة ؟ انطلاقاً من المفهوم التقليدي للغة تعرّف الكلمة المكتوبة بأنها التمثيل الكتابي للكلمة المنطوقة : وبهذا الصدد فإنها دال الكلمة المنطوقة … وهكذا فإن " الكلمة المكتوبة هي دال الدال وتعد ثانوية بالنسبة إلى الكلمة المنطوقة " ولا يمكن أن تقوم الكلمة المكتوبة بأي شيء عدا تمثيل الكلمة المنطوقة في حين أن الكلمة المنطوقة هي الدال . فإذا أردت أنا استحضار مفهوم " زهرة " ينبغي لي عندئذ أن أنطق صوت " زهرة " (زَهْرَ ة) ، والدال هو هذه الصورة الصوتية أو الصورة السمعية . لكني حينما أكتب كلمة " زهرة " فما عليّ سوى تمثيل الصورة الصوتية من خلال بنية كتابية graphic structure . ولا ترتبط هذه الصورة الكتابية بأية صلة بالمفهوم ، بل أن الصورة الكتابية لا تستطيع تمثيل المفهوم لأنها بنية مرئية للصورة الصوتية غير المرئية حسب ، أنها شيء أشبه بالطيف . وهي ثانوية بالنسبة إلى الصورة الصوتية ومن الممكن إهمالها ، بل لا بد من إهمالها .

    وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الحجج التقليدية التي نسبت مكانة ثانوية إلى الكلمة المكتوبة ومكانة رئيسة للكلمة المنطوقة هي حجج ميتافيزيقية ولاهوتية ( . وكتب دريدا في تعليقه على الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه مفهوم الكلمة المنطوقة قائلاً :

    …. إن فهم الله هو الاسم الآخر للوغوس logos بوصفه حضوراً ذاتياً . ومن الممكن أن يكون غير متناه وحاضرٍ ذاتياً ، كما يمكن توليده من خلال الصوت بوصفه صفة ذاتية . إنه ترتيب الدال الذي يمكن للذات من خلاله أن تستعير من خارج ذاتها الدال الذي تبعثه وتؤثر فيه في الوقت نفسه . وكذا الحال مع تجربة الصوت ، إذ تحيا هذه التجربة وتعلن عن نفسها بوصفها إقصاءً للكتابة ، بمعنى آخر إقصاءً للدال " الخارجي " ، " المحسوس " ، " المكاني " الذي يعيق الحضور الذاتي (9) .

    ويؤكد دريدا أن مفهومي الكلام والكتابة التقليديين " يحيلان إلى خارج المعنى" (10) logocentric ، وهذا مصطلح مهم آخر يستعمله دريدا ليعني به ما هو متجه ميتافيزيقياً أو ما هو متجه لاهوتياً (11) . ولكي أكون أكثر دقة أود أن أوضح أن مفهومي الكلام والكتابة قد شكلتهما واشترطتهما وتحكمت بهما الميتافيزيقا . والحق إن هذا " التمركز حول اللوغوس " هو " تمركز حول الصوت " phonocentrism .. ذلك الاعتقاد الذي يرى أن الصوت يقارب الواقع المتعالي (12) transcendental . ونجد في نظرية دريدا أن التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت هما مصطلحان مختلفان يمثلان ظاهرة واحدة : النشوء الميتافيزيقي metaphysical genesis لمفهوم الكلام والفهم . ويركز التمركز حول اللوغوس والتمركز حول الصوت على الصوت لأن هذين المفهومين يتولدان من الاعتقاد القائل أن الصوت يتوسط بين العقل الإنساني والواقع المتعالي . ويمكن القول أن هذه الحجة مقاربة للمفهوم الهندي لسلطة الـ mantras . الذي يمكن تعريفه " بأنه صوت أو سلسلة من الأصوات . ونحن نعتقد أن للصوت سلطة لأننا نرى أن بإمكانه إثارة السلطة المتعالية ؛ إذ تعزى الأهمية إلى نبرة الكلمات التي ننطقها … فكيف يمكن لصوت كلمة معينة نطلق عليها اسم " mantra" أن يكون متمتعاً بالسلطة ؟ إنه يتمتع بهذه الميزة لأننا نرى أن الصوت يعمل وسيطا بين اللوغوس والسلطة المتعالية . وأنا لا أسعى هنا إلى تأكيد أن المفهوم الغربي التقليدي الخاص بالتمركز حول اللوغوس ، التمركز حول الصوت هو المفهوم نفسه الخاص بـ mantra لكني أؤكد وجود أوجه تشابه .

    ونلاحظ في التفكيك أن ثمة عنصراً آخر هو " التمركز حول الكتابة " graphocentrism ، وهو مصطلح مهم بحاجة إلى التفسير قبل الدخول في صلب نظرية دريدا . ومن الممكن أن نبدأ القول بأن الكتابة writing كتابية graphic ، وأن الجرافيم grapheme هو حرف في الأبجدية أو أنه مجموع الحروف أو المجموعات الحرفية التي من الممكن أن تشير إلى الفونيم phoneme ( الذي يمكن تعريفه بأنه أصغر وحدة كلام تميز ملفوظا ما أو كلمة ما من ملفوظ آخر أو كلمة أخرى في اللغة) . وإذا علمنا أن الكتابة كتابية لذا يمكن القول أن الجرافيم ، تبعاً إلى ما يذكره المفهوم التقليدي ، دال صرف يقصد به أن وحدة الكتابة ليس لها أية صلة عدا كونها تمثل الصورة الصوتية . ولهذا السبب يمكن القول أن المقصود بالتمركز حول الكتابة هو انتقال الأهمية من الكلام إلى الكتابة ، وهو يمثل قلباً للمفهوم التقليدي القائل بأولوية الكلام أو الكلمة المنطوقة على الكتابة أو الكلمة المكتوبة .

    وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول اللوغوس إلى التمركز حول الكتابة (13) ، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولا بد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير ، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس . فإذا كان بالإمكان مقارنة الكتابة والكلام والمفهوم الذي يمثلونه بالجسد والروح والواقع المتعالي فعندئذ يكون التركيز على الكلام هو التركيز على الروح ( والتركيز على الكلام هو التركيز على التمركز حول الصوت والتمركز حول اللوغوس) . أما التركيز على الكتابة فهو التركيز على الجسد ( والتركيز على الكتابة هو التمركز حول الكتابة). فإذا كان التفكيك تمركزاً حول الكتابة ، وإذا كان التمركز حول الكتابة يعني التركيز على الكتابة فعندئذ يمكن تعريف التفكيك بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، وإنه تحد لما هو أخلاقي ، إنه الانغمار في الحياة الدنيوية، إنه يعني اختفاء الرب … فهل من المقنع أن نقول أن التفكيك عدمي nihilistic؟ يمكن القول أن هذه التوكيدات كلها صحيحة ، والجواب عن الأسئلة أعلاه هو " نعم " عن كل ما يقوله دريدا ، وكل ما يقصده التفكيك . سأعود لهذه المشكلة بعد دراسة مصطلحات دريدا التي تعمل بصفة أدوات تفكيكية .

    فبعد أن عرض دريدا الأساس الميتافيزيقي واللاهوتي لمفهومي الكلام والكتابة ، شرع في فحص مسألة الوصف اللساني للغة والمفاهيم التي يحاول الوصف بناءها . والحق أن دريدا يأتي كرد فعل على نظرية سوسير التي تقول إن العلامة sign اللسانية هي وحدة الدال والمدلول . وتزعم اللسانيات الحديثة ، التي ترتكز على مفهوم الدال والمدلول ، والبنيوية ، التي تدين لذلك المفهوم ، أنهما جعلتا من دراسة اللغة وفعل النقد حقلين معرفيين علميين ، وقد بين دريدا أن هذا الزعم هو خداع حسب لأن مفهوم الدال والمدلول في اللغة الذي جاءنا من اللسانيات هو صورة أخرى لمفهوم الكلام والكتابة التقليدي . وقد لاحظ دريدا في أثناء عرضه للعلاقة المتبادلة بين الميتافيزيقا واللاهوت ، ما يأتي :

    دائماً ما يوحي مفهوم العلامة داخل ذاته بالفرق بين الدال والمدلول … حتى إن تم تمييزهما بأنهما وجهان لعملة واحدة ، ولهذا السبب يبقى هذا المفهوم ضمن تراث مفهوم التمركز حول اللوغوس الذي هو في حقيقته تمركزاً حول الصوت : التقارب المطلق بين الصوت واللصوت والكينونة being ، وللصوت ومعنى الكينونة ومثالية المعنى . ( OG, p. 112 )

    ولهذا السبب فإن نسق اللغة الذي يقال أن اللسانيات جعلته علمياً وأن البنيوية استعارته بحماس بوصفه نموذجاً للنقد ، هو في حقيقته النسق القديم نفسه ، أي نسق " التمركز حول اللوغوس – التمركز حول الصوت " الذي هو نتاج الميتافيزيقا .

    ومن الواضح أن دريدا حشر الميتافيزيقا واللسانيات في خانة واحدة وهذا يعني أن الميتافيزيقا فسحت المجال أمام اللساني ليتصور ظاهرة اللغة في ضوء القطبية الثنائية ، بمعنى أن المفاهيم الميتافيزيقية ـ مفهوم الواقعي والمثالي ، مفهوم الجسد والروح ، مفهوم الخير والشر ـ قد فسحت المجال أمام اللساني ومكنته من تصور اللغة في ضوء قطبية ثنائية مشابهة . وتعد الحجة اللسانية ، التي تقول أن الصورة السمعية تستحضر المفهوم ( أي أن الدال يستحضر المدلول) ، تركيزاً على أولوية الكلمة المنطوقة على الكلمة المكتوبة ، وبهذا الصدد فإن اللسانيات البنيوية هي صورة معدلة عن الإهمال التقليدي للكتابة ، ذلك الإهمال الذي نتج عن النفور الفلسفي والميتافيزيقي من الطابع الخارجي والمرئي والمجسد للكلمة المكتوبة ، ويتضح من ذلك أن خلف مفهوم اللغة التقليدي ، وخلف مفهوم العلامة اللسانية عند سوسير كمنت ميتافيزيقا على شكل قوة اشتراطية قوية .

    وقد أطلق دريدا تسمية " المفهوم المبتذل للكتابة " على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة ، وعدّه مفهوماً ثانوياً ، أي شيئاً ليس له وجود إلا لغرض تمثيل الصوت الذي تجسده الكتابة . ويضيف قائلاً أن الاعتقاد الذي ساد في التراث الغربي بصدد الكتابة هو أنها "الحرف " و " النقش المرئي " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى اللوغوس . وهذا هو المفهوم المبتذل تحديداً . وقد نبذ دريدا هذا المفهوم المبتذل الذي كان يوجه فهمنا للغة ، على الرغم من أننا لم نكن واعين به تماماً ، مثلما وجه أداءنا في ميدان النقد الأدبي من خلال دفعنا إلى الاعتقاد بأن كل شيء يستنبط المعنى ويعطيه فقط حينما يرتبط بفكرة ما ، والتي ينبغي أن ترتبط ، بالمقابل ، بفكرة أخرى وهكذا دواليك بحيث أن هذه الأفكار كلها ستتجمع في فكرتنا عن الكينونة المتعالية ، ولهذا السبب أصبحت فكرتنا عن الكينونة المتعالية تعمل بمثابة فكرة تتحكم في أفكارنا عن اللغة ، وأفكارنا في النقد … وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها… ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى ، وستتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية. ومن الجدير بالإشارة أن جميع شذرات الأفكار التي يمكن نسجها في نسق واحد ، يجمعها مركز واحد تمثله فكرتنا عن الكينونة المتعالية وإن احتمالية النسق توحي بوجود المجموع . ويمكن تعريف المبدأ الجمعي بأنه فكرة الكينونة التي هي إبداع الميتافيزيقيا . وقد تمثلت محاولة دريدا بتحرير فهمنا للغة وفعل النقد من هذا التأثير الجمعي الذي مارسته الميتافيزيقا ، وتوصل إلى عملية التحرير هذه من خلال صياغته لمصطلحين جديدين من الممكن أن يبطلا مفهوم اللغة القديم وطريقة النقد القديمة . إلا أن أذهاننا خضعت لاشتراطات الفهم التقليدي للغة سواء كنا واعين بذلك الفهم أم لا . فنحن حينما نزعم إننا صغنا أفكاراً جديدة فإننا لم نفعل في حقيقة الأمر سوى تحويل الأفكار القديمة . فعلى سبيل المثال إن المصطلحات اللسانية التي جاء بها سوسير ـ التي يقال أنها أحدثت ثورة في فهمنا للغة ـ هي نتاج آخر للميتافيزيقا ؛ فنحن نكرر أنفسنا حينما نقول إن نسق اللغة الجديد علمي . والحق أن بالإمكان أن تتولد أفكار جديدة حينما تكون أذهاننا محايدة . وإن القصد من وراء عرض دريدا للأساس الميتافيزيقي للغة والنقد هو دفع أذهاننا إلى الحيادية لأننا ندرك تماماً أن ظاهرة طبيعية تماماً مثال اللغة تخفي في داخلها بذور الميتافيزيقا ، بل حتى التفسير العلمي للغة الذي قدمه سوسير هو في الحقيقة ضحية الميتافيزيقا . وقد شرع دريدا ، بعد عرض الأساس الميتافيزيقي الذي تقف عليه اللغة ، في صياغة مصطلحاته الخاصة التي بإمكانها توليد فهم جديد للغة .. وتشكل هاتان الخطوتان بنية التفكيك . وسأبدأ الآن بوصف المصطلحات التفكيكية وتقويمها .

    لقد استند مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا إلى ثلاث كلمات معقدة جداً ، هي : الاختلاف difference والأثر trace والكتابة الأصلية [الأولى] (14) arche - writing. وسأعمل على تفسير كل مصطلح من هذه المصطلحات الثلاث بأوسع قدر ممكن تسمح به محددات هذا المشروع ، وسأبين الكيفية التي تؤدي بها هذه المصطلحات إلى فعل التفكيك. فالاختلاف يشير إلى فعلينactions : 1 ـ أن يختلف ، أن لا يكون متشابهاً " differ " 2ـ أن يرجئ ويؤجل (15) (11) " defer" . وينبغي الانتباه إلى إن الأول مكاني spatial والثاني زماني temporal . ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة : أي الاختلاف والتأجيل ، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل ، وليس من خلال الدال والمدلول ، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى ، وشيء غير موجود في العلامة على الإطلاق . ويمكن توضيح ما ذكرناه بالمثال الآتي : فنحن نميز بين كلمتيthree [وتعني ثلاثة] و tree [تعني شجرة](16) في الكلام والكتابة ، فهما مختلفتان تماماً وتكشفان عن هويتهما . ويعد هذا الاختلاف إحدى القوتين الموجودتين في كل علامة . أما القوة الأخرى في العلامة فهي قدرتها على الإرجاء ، أي قابليتها على التأجيل . فعلى سبيل المثال إن كلمة " وردة " في قصيدة ما لا تبدأ بكشف المعنى إلا حينما ندرك أنها ليست تلك الوردة التي نراها في الواقع ، بل أن لها شيئاً آخر ، ذلك الشيء الذي ينبغي اكتشافه . ولهذا السبب فإن العلامة نصفها واف والنصف الآخر غير وافٍ ، وهذه الحقيقة ضرورية لبداية فهمنا إلا إنها غير كافية بسبب نقصها . ومثلما أكد سوسير فإن العلامة هي ليست " الدال + المدلول " بل العلامة هي " الاختلاف + الإرجاء " . ويرى سوسير أن العلامة اتحاد في حين يراها دريدا اختلاف .

    وبما إن العلامة غير وافية وناقصة لذلك ينبغي أن تفهم على إنها " تحت الشطب [ المحو] " under erasure وهو مصطلح صاغه دريدا ليشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها . فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة ، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها . ولهذا السبب تحمل كل علامة هذه الإشارة عليها . فعلى سبيل المثال إن كلمة " مرئي " التي استعملها آنفاً لم تحمل أية إشارة واضحة عليها ، لكنها علامة على الرغم من ذلك . لكن إذا نظرنا اليها من زاوية تفكيكية فإنها ستظهر عندئذ علامة مشطوبة ، على النحو الآتي : " مرئي " . وينبغي ألا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي ، بل على نحو إيحائي فقط . فهذه الشطبة توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها ، بل عدم قطعيتها . إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها انها دال لشيء أزلي ، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة ، كما إنها لا تحيل أي شيء متعالٍ .. فالعلامة سياقية contextual ، وهي تخلق سراب المدلول ، وإن جل ما تستطيع القيام به أنها ترسلنا بحثاً عما تحتاج هي إليه وتذكرنا بما هو غير كائن فيها . ولهذا السبب إن العلامة " أثر " ، فهي ليست التمثيل المرئي أو الكتابي المحسوس للصورة الصوتية بل إنها الأثر الذي يصفه دريدا بأنه ليس طبيعياً ، ( أي إنه ليس الإشارة أو العلامة الطبيعية أو المؤشر index بالمعنى الهوسرلي ) ، أكثر من كونه ثقافياً ، وإنه ليس مادياً أكثر من كونه نفسياً ، وإنه ليس بايولوجياً أكثر منه روحياً .

    إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها ، ولهذا السبب فإن ما هو موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها ، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها ، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة . وهكذا نقول أن العلامة أثر ، وتحمل في أثرها قوتين هما الاختلاف والإرجاء . لذا صار من الضروري أن يتغير مفهوم الكتابة مع ظهور مصطلحي " الاختلاف " و " الأثر" إذ ما عاد بالإمكان الإبقاء على تعريفها بأنها " الحرف " و " النقش المحسوس " و " الجسد والمادة " الخارجية بالنسبة إلى العقل . وعند محاولة دريدا تعريف الكتابة وضح ذلك قائلاً : "... إنها النقش inscription عموماً ، سواء كان ذلك حرفياً أم غير حرفي حتى وإن كان ما تم توزيعه في الفراغ غريباً عن نظام الصوت..."(OG, p. 9) (17) . وبهذا المعنى يمكن أن نعد التصوير السينمائي والرقص والباليه والموسيقى والنحت جميعها كتابة . وقد لاحظ دريدا عند التوسع بمفهوم الكتابة هذا أن :

    قد يتحدث المرء أيضاً عن الكتابة الرياضية ( أي الرياضة عموماً ) أو الكتابة العسكرية أو السياسية في ضوء التقنيات التي تتحكم بهذه المجالات حالياً . وهذا لا يصف نسق الدلالة الذي يرتبط ارتباطا ثانوياً بهذه الأنشطة حسب ، بل يصف أيضاً ماهية هذه الأنشطة ذاتها ومضمونها. ( OG, p. 9
    عن مجلة "أفق"
                  

10-11-2004, 04:17 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)


    جاك دريدا ونظرية التفكيك (2)

    فاللغة بذاتها هي كتابة ضمن ذلك المعنى ( GO, p. 8 ). وقد لاحظ غايتاري سبيفاك Gayatri Spivak أن : " ثمة شيء يحمل في داخله أثر التغير الأزلي ، أي بنية النفس ، بنية العلامة . ويطلق دريدا على هذه البنية اسم " الكتابة" (1 . وقد ذكر سبيفاك الملاحظة الآتية في معرض توضيحه لمفهوم الكتابة : " هكذا نجد أن الكتابة هي اسم البنية التي يسكنها الأثر دائماً . وهذا مفهوم أوسع من المفهوم التجريبي للكتابة الذي يشير إلى نسق دلالة تجريبي على جوهر مادي " (OG, p. xxxix) .

    وقد أطلق دريدا تسمية " الكتابة الأصلية " على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق . وتعمل الكتابة الأصلية في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية . والكتابة بمعناها الضيق تعد كتابية graphic تعتمد مفهوم الجرافيم الذي هو في حقيقته دال صرف . أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها ، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي . ويمكن القول أن الشكل الكتابي graphe هو " أثر متمأسس (19) institutionalized " ( GO, p. 46) .

    وقد أصبح لتوجه النظرية التفكيكية نحو التمركز حول الكتابة دلالة تضمين واسعة بسبب الأثر المتمأسس ، ولهذا السبب فإن التغيير الذي أحدثه دريدا لم يكن تغييرا بالأهمية التي تمتع بها مفهوم الكلام على مفهوم الكتابة ، قدر تعلق الأمر بالفهم التقليدي لهذه المصطلحات . إذ يوحي التمركز حول الكتابة ، بالمعنى الذي حدده دريدا ، بالتوجه الذي يسلكه الفهم على نحو يدفع الذهن إلى تصور وظيفة الأثر في أنواع التعريف كلها التي تسير الوعي أو الإدراك . فالأثر يبدي عمله في صورة البورتريت (الصورة الشخصية) ، والملصق الجداري (البوستر) واسم العَلَم ، والإيماءة والكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة ، وغيرها . ويمثل التمركز حول الكتابة الإدراك الجديد لوظيفة الأثر . فأنا حينما أتصور صورة شخصية يبدأ ذهني أو إدراكي بالعمل رغبة مني في فهم دلالة هذه الصورة ، وتعد عملية اشتعال الذهن غير مادية . فالذهن يتحرك بحثاً عن شيء بعيد عما موجود في الصورة (بمعنى البحث عن شيء خلّف بصماته الشبحية على الصورة) ، وتلك هي وظيفة الاختلاف . في حين أن البصمة الشبحية هي الأثر . لأن الأثر بذاته غير موجود ( GO, p. 167) . ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد بأن شيئاً ما ، شيئاً غائباً ، قد ترك بصماته ( بصماته الشبحية ) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن (وتلك البصمات الشبحية هي الأثر) .ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء (الاختلاف + الإرجاء = الاخـ" ت " لاف) (20) .

    ويتم عرض مفهوم اللغة التقليدي بوصفه أسطورة .. فقد كان ينطوي بداخله على شيء باطني [صوفي] : مثل قرب الصوت من المدلول ، وغيرها . ونلاحظ أن العنصر الباطني هو العنصر الميتافيزيقي ، فقد كانت الميتافيزيقا تسيطر على مفهومنا للغة . وقد صاغ دريدا مصطلحات جديدة وشكل مفاهيم جديدة حتى يتكون فهم للغة متحرر من مفهوم الميتافيزيقا . ولهذا السبب يعد تحرير فهم اللغة من الميتافيزيقا إزالة للغموض والحيرة ، إذ يتم التخلص من العنصر الغامض تماماً . وإن إزالة الغموض هو في حقيقته إزالة للأسطرة (الطابع الأسطوري) أيضاً (21) . ومن الصواب أن نقول أن التفكيك يبدأ بإزالة ما هو باطني وإزالة الأسطرة في الفهم التقليدي للغة.

    لقد انطوت دراستنا هذه للتفكيك على ثلاث مراحل ، تمثلت المرحلة الأولى في تسليط الضوء على مفهومي الكلام والكتابة ، واشتملت على مسألتين مركزيتين هما : السبب الذي يكمن وراء الاعتقاد السائد الذي يقول بأسبقية الكلام وأولويته على الكتابة ، وما مدى البعد الذي وصلته الميتافيزيقا في تأثيرها . ودرسنا في المرحلة الثانية الزعم اللساني القائل أن اللسانيات الحديثة أضفت طابعاً علمياً على دراسة اللغة وجعلتها حقلاً علمياً . وتمثلت المسألتان المركزيتان اللتان تناولتهما في هذه المرحلة بتأكيد أن المفهوم اللساني للعلامة هو صورة أخرى للمفهوم التقليدي للكلام والكتابة ، وعلى أن اللسانيات الحديثة هي ضحية الميتافيزيقا ، وتتألف المرحلة الثالثة من وصف مصطلحات دريدا وتقويمها : الاختلاف والأثر والكتابة الأصلية . وقد سلطنا الضوء على دلالة مصطلح التمركز حول الكتابة من منظور دريدا .

    وبناء على ما سبق ، لقد تغير فهمنا للغة ، فما مصير النقد ؟ يبدأ الجواب عن هذا السؤال بافتراض أن الأدب هو شكل من أشكال الكتابة ، وإن القصيدة أو القصة أو أي عمل أدبي هو بنية آثار.. تلك الآثار التي نعرف أنها بصمات شبحية لا نعرف ماهيتها إلا إننا واثقون من كينونتها ووجودها . أما النقد ، الذي يعرف بالدرجة الأساس بأنه بحث في كلمة ، وسطر ، ونص ، أو أي شيء يحرك الذهن من نقطة إدراك حسي معينة إلى عوالم البحث بمعية دافع قوي للتأويل ، فإنه يبدأ بالشك ، الشك الذي يستند إلى الإقناع . فالناقد يشك في مظهر العلامة (كأن تكون كلمة ، وسطراً ، وقصة وتمثالاً ، صورة وبورتريتاً ، …إلخ ) لأنه يحمل قناعة مؤداها أن ما يظهر له هو ليس كل شيء ، بل هناك شيء آخر ، فنحن لا نكتفي بالأشياء كما هي ، بل نرغب بالبحث فيها والتوغل إلى أبعد من حدودها لاكتشاف أسرارها لأننا نشعر أن ثمة شيئاً مفقوداً أو شيئاً غائباً عما نتصوره نحن وندركه حسياً ، وإن هذا الشعور الأزلي بأن هناك شيئاً مفقوداً أو غائباً هو الكتابة الأصلية . ويعد الأدب واحداً من أنواع التعبير عن الكتابة الأصلية ، بينما يعد الرسم نوعاً آخر ، والموسيقى نوعاً آخر أيضاً ، وتعمل الكتابة الأصلية بصفة آثار في الموضوعات . فالآثار أشبه ما تكون بطبع الأقدام .. فمن هو الذي مشى على الرمال ؟ لقد مشى أحدهم وخلف وراءه آثار أقدامه في كل مكان ، وإن كل تلك البصمات التي تركها خلفه تذكرنا به إلا أنه مفقود وغائب . ويمكن تعريف الكتابة الأصلية بأنها إدراكنا حقيقة أنه مفقود ، وأنه غائب ، والذي يرافقه الشعور بالمعاناة المتولد عن تجربتنا التي نستشف منها عدم القدرة على اكتشاف هذا الغائب على الرغم من صمتنا المطبق أو عنفنا الصارخ ، فكل البصمات التي يخلفها وراءه هي الآثار لأنها هي التي تؤكد حضور هذا الغائب على الرغم من غيابه ، فياله من موقف غريب حقاً ! (وربما كان التشخيص - أي إضفاء الصفات الشخصية على غير العاقل - صيغة من صيغ التبسيط إلا أنه قد يساعد على الفهم ) .

    وقد اعتاد النقد التقليدي الظهور مع فكرة ما عبر المواجهة مع العمل الأدبي ، ولهذا السبب يعد نقد القصيدة اكتشافا لمعناها . ولهذا فإن المعنى فكرة أو مفهوماً يمكن أن يلحق بفكرة أخرى أو مفهوماً آخر والاستمرار بهذا الإلحاق حتى تلتحم هذه الأفكار في فكرة الكينونة المتعالية أو الحقيقة المتعالية . لكننا لا نعي حقيقة أن ما نسميه " المعنى" هو في حقيقة الأمر فكرة تتخذ من الميتافيزيقا ملاذاً لها . ولم تنج البنيوية ، التي يقال أنها سيرورة ثورية ، من قبضة الميتافيزيقا ، وإن القول أن البنيوية توحي بالنسق ، يعني أن هناك مركزاً في مكان ما ، وذاك المركز هو المفهوم المركزي الذي من الممكن اكتشافه بوصفه مفهوم الكينونة أو السلطة المتعالية . ويوحي مفهوم النسق أن كل شيء مفهوم على أفضل وجه ، أو أنه قابل للفهم في الأقل ، فحيثما وجد النسق ينعدم الإرباك أو التشويش . وسيؤكد التفكيك أن هذه أوهام حسب إذ كل ما نزعمه بأنه الحقيقة أو الكينونة هي " فبركة " ليس إلا . فهذه الكلمات تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل في بحثنا عن المعنى ، وهذا يعني في مرحلة ما من مراحل تاريخ البحث عن المعنى أن الباحثين أعلنوا ، لسبب أو لآخر ، أنهم وصلوا إلى آخر نقطة ممكنة من بحثهم وأنه لا ينبغي القيام بأي بحث آخر يتجاوز هذه النقطة ، ولغرض حماية ما أسموه " النقطة النهائية " من الإهانة التي يمكن أن تنسبها إليهم البحوث المستقبلية ، عزوا لتلك النقطة نوعاً من القدسية وأسموها الحقيقة truth أو الكينونة being أو أي شيء آخر . وقد عملت نقطة البحث النهائية أو المفهوم المقدس بصفة مركز للنقد بنوعيه التقليدي والبنيوي . لذلك كان ثمة خداع كبير سار على هداه نشاطنا النقدي وفهمنا للغة .

    ألا توحي هذه التعليقات بأن كل ما كتب هو محض خيال ؟ أنا أعتقد إن التفكيك يوحي بذلك . وهذا يشمل كتبنا المقدسة أيضاً ! (والحق أن التفكيك لا يعترف بشيء اسمه كتاب ، بل بالنصوص فقط). فماذا عن مفهوم " الرب " إذن ؟ وما مصير المفاهيم الأخرى التي لا تعد ولا تحصى مثل : المصدر origin والحقيقة والكينونة والواقع المتعالي و ... الخ ؟ إن دريدا لا ينكر وجود الرب بل إنه يتساءل ، على نحو غير مباشر ، عن مفهومنا للرب ومدى صلته ، ولعلنا كنا نستخدم مصطلح " الرب " god للإشارة إلى إله معين كنظام دفاعي لحماية مفهوم المصدر والحقيقة والكينونة وما يشبهها من مصطلحات . فما المصدر الحقيقي أو الحقيقة الحقة اللذان ينبغي البحث فيهما . ربما تكون هذه المفاهيم وراء نطاق فهم الإنسان . فقد يكون عالم الحقيقة ، أو الرب ، عالماً محرماً على الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً بإزائه سوى تخيله ، أو تكوين معنىً واهٍ عنه في أحسن الأحوال . إنه يشعر بغياب الكينونة الأسمى Supreme ولاشك ، وإن هذا الإحساس بالغياب و التوق للحضور هو الكتابة الأصلية ، أما بصمات ذلك الحضور الغائب الذي ندركه في كل مكان فهو الأثر . ومن خلال سعي دريدا إلى عرض الأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه فهمنا للغة ، ومحاولة تحرير فهمنا من الميتافيزيقا ، شرع دريدا في إطاحة الأديان عن عروشها في ممالك اللغة . فقد مثلت الأديان حصانات وفرت الحماية للمفاهيم الميتافيزيقية . ومع ذلك ينبغي أن نقر بأن دريدا يوحي ، على نحو غير مباشر ، بأن الرب وراء جميع المفاهيم الإنسانية والمعالجات اللفظية . وينبغي التأكيد عند هذه النقطة تحديداً أن دريدا لا يوحي بأي شيء مهول ، فهو يتبنى منهج البحث الحر في مجال المعرفة ، ويحاول تحرير الذهن من الضغوط والضوابط التي فرضت عليه باسم الرب أو الأديان . ويدفعنا دريدا ، بقوة ، إلى إعادة التفكير بالمصدر أو الحقيقة من خلال عرض الذهن على الحرية الجديدة في البحث ، ولهذا السبب تنطوي جدالات دريدا وحججه على مضامين روحية.

    وأخيراً ينبغي لي العودة إلى قضية النقد . فقد كان النقد ، بالمعنى التقليدي ، تطبيقاً لأنموذج يرمي إلى فهم العمل الأدبي ، وربما يكون هذا النموذج فلسفياً أو أخلاقياً أو دينياً أو لسانياً . ومن المحتمل أن الناقد غير واع تماماً بحقيقة أنه يطبق نموذجاً معيناً ، فالذي نطلق عليه أسم " التقويم الذاتي" هو في حقيقته غير ذاتي ، فنحن نلحق ما موجود في العمل الأدبي بشيء ما في سيرورة ذلك الفهم الذي يؤدي إلى التقويم . ومن الممكن أن يكون هذا الـ" شيء ما " هو النسق الأدبي الذي منح الكلمات والأفعال actions والظواهر إمكانية توليد المعنى . فعلى سبيل المثال ، إذا حاولت تفسير قصيدة The Lake Isle of Innisfree ، سأتمكن من ذلك أما من خلال ربط مضمون القصيدة بالمعلومات المتوفرة التي تتعلق بحياة الشاعر … تلك المعلومات التي تخص مزاجه وكآبته وتأملاته في الطبيعة سريعة التغير ، وسرعة زوال الأشياء الجميلة ، ونفوره من المكاسب المادية وعشقه للحياة الحالمة . ثم أبدأ بربط هذه الأفكار الموجودة في القصيدة بهذه الأفكار الخارجية التي تعمل بصفة نسق لربط الأفكار في القصيدة . ولهذا السبب تصبح الأفكار التي تزخر بها القصيدة ذات معنى فقط حينما أشرع أنا بعملية ربط هذه الأفكار بما هو خارج عن القصيدة . وفضلاً عن ذلك فإني قد أبدأ بالبحث في سبب كآبة الشاعر وأسباب عشقه للحياة الحالمة ، وأسباب دفعه إلى كراهية المكاسب المادية . ونلاحظ في هذا النوع من النقد أن التركيز لا يكون على النسق بحد ذاته لأن التركيز على النسق لدراسة النسق ذاته يؤدي بنا إلى البنيوية . فعلى سبيل المثال : ما المغزى الأدبي من ترك الموطن الرئيس والذهاب إلى جزيرة ؟ هل هناك مغزيات أخرى ؟ الجواب : نعم بالتأكيد . ونجد في بعض شخصيات شكسبير الكوميدية مثل مسرحية " كما تحبها " و " حلم ليلة منتصف صيف" أن الشخصيات تغادر المدينة لائذة بالغابات التي يتم فيها حل الصراعات وانتشار الحكمة ، وعلى هذا الغرار هناك عدد من الشخصيات في القصائد والروايات التي تغادر المدن صوب الجزر المعزولة ، ومثال ذلك شخصية " بروسبيرو " في مسرحية " العاصفة " وشخصية " جيليفر " في رواية "رحلات جيليفر " . ولهذا السبب نجد أن رغبة الشاعر ييتس باللجوء إلى جزيرة Innisfree تحاكي رغبة الكتاب السابقين . ونحن نقر بأننا نفهم القصيدة لأننا نألف هذه القناعة ، أي الاقتناع بترك المدينة ومباهجها واللجوء إلى الجزيرة ذات معنى كبير في الشعر ، ذلك لوجود قناعة أدبية أو اتفاق أدبي بأن لهذه الفكرة معنى ما وهكذا نجد أن بإمكان التحليل البنيوي أن يركز على العناصر الأخرى للقصيدة بغية دراسة النسق الشعري . وقد طبقت في المثال الأول ، أي مثال التطبيق غير البنيوي ، نماذج معينة متعارف عليها في الأدب على القصيدة فقط من أجل فهم القصيدة . أما في المثال الثاني ، أي مثال التفسير البنيوي ، فقد استعملت القصيدة وعناصرها لدراسة النسق الشعري أو لدراسة نماذج الأدب المتعارف عليها . وينبغي الإشارة هنا إلى أن التفكيك لا يمثل أي من هاتين الحالتين ، أو نقيضهما .

    فالتفكيك لا يمنح الناقد أية نماذج ، ولا يطبق أي أنموذج على النصوص الأدبية ، بل أنه يدمر جميع النماذج الموجودة ولا يقدم أي نموذج ، ولهذا تسبب الكتابة التفكيكية حيرة كبيرة . فعلى العكس من النقد البنيوي لا يؤمن النقد التفكيكي بوجود نسق يمكن فهمه . إذ توحي فكرة النسق بأن الأشياء منتظمة أو من الممكن جعلها كذلك ، إلا أن هذه الفكرة مصدر مواساة حقاً ، ونحن نفضل المواساة على الحيرة . وعلى الرغم من أن المواساة قد تنطوي على خداع لكنها أفضل من معاناة الحيرة . وقد أعلن البنيوي ، بعد أن واجهته مشكلة تعقيد الأدب والأذهان التي تكمن وراء الأعمال الأدبية ، أن التعقيد قابل للتحليل ويمكن فهمه ، ويزعم وجود نسق أدبي بإمكانه تفسير التعقيدات . إنه تأكيد الإرادة التي تجعل البنيوي يزعم هذا الزعم . فالبنيوية هي التوكيد لإرادة الإنسان وقدرتها على حل ما هو معقد ، وعلى العكس من ذلك يبحث التفكيك في إمكانية النسق ، ويتساءل عنها وعن الكيفية التي جاءت بها التقاليد والمواصفات الأدبية إلى الوجود . فالمواجهة القائمة بين الوعي الإنساني ونسق العلامة هي من التعقيد بحيث يصعب فهمها . ولهذا السبب ، يؤكد التفكيك ، تبعاً إلى ما يذكره ديفيد اليسون David Allison ، ضرورة إعادة التفكير بمشكلة اللغة كلها (22) . وربما كان من الضروري وجود حقل معرفي جديد يستعمل أصول الكلمات [التأثيل] etymology وعلم النفس معاً بصفة حقل معرفي واحد لأداء هذه المهمة . ونلاحظ هنا أن التفكيك ينبذ الميتافيزيقا والفلسفة بوصفهما من أنماط الإدراك الخادعة ، كما إن اللسانيات التي كانت تخفي الميتافيزيقا في نماذجها الخاصة باللغة ، لا تلائم التفكيك . وكذلك لا يلجأ التفكيك إلى البنيوية التي ترتكز بقوة على اللسانيات .

    قد يبدو التفكيك حقلاً تحكمه قواعد وأنظمة ولغة خاصة يصعب على المبتدئ فهمها ، إلا أن الحقيقة مختلفة . فنحن لدينا قواعد وأنظمة ولغة خاصة في النظريات النقدية التقليدية أكثر مما في التفكيك . فالمبتدئ يواجه مصطلحات تقنية كثيرة مثل شخصية، حبكة ، ثيمة ، صورة ، رمز، شعر غنائي ، سونيتة ، و ... إلخ ، وقد استعملناها مراراً وتكراراً حدّ أنها أصبحت طبيعية بسبب ذلك . وفضلاً عن ذلك ، فإننا إن لم نفهم المصطلحات التي على شاكلة " اختلاف " ، " أثر" ، " كتابة أصيلة " ، ... إلخ ، فإننا لا نتمكن من فهم واستيعاب أي عمل مكتوب ينضوي تحت هذه النظرية إذ من الصعب فهم أي شيء جديد . إلا أن المرء سيفيد من تعلم هذه النظرية كثيراً إذا ما تحمل الجهد أولاً . وتتمثل هذه الفائدة في أننا نتساءل في صلة فهم الإنسان وعالمه والمعرفة . ويلقي التفكيك ضياءً جديداً على عملياتنا الفكرية . ويخبرنا أن سلطة اللغة ليست متأتية من سلطة الأدب ولا من نسق اللغة لأن سلطة اللغة ، شأنها في ذلك شأن سلطة الموسيقى والرسم والنحت والطقوس ... إلخ ، متأتية من حس بدائي أصيل بشيء مفقود وغائب ، وتوجيه إدراك الإنسان بعد ذلك .

    الهوامش :

    (1) هذه المادة مترجمة عن كتاب ( البنيوية والتفكيك ) تأليف س . رافيندران Structuralism & Deconstruction. By: S. Ravindran. (المترجمة)

    (2) يُعرف جاك دريدا هذا المصطلح في كتابه " في الغراماتولوجيا " [في علم الكتابة] بأنه دراسة للأدب ولحروف الهجاء ولمقاطع الكلمات والقراءة والكتابة " قائلاً إنه يستند في ذلك إلى تعريف ليتريه Littre ، وأنه لم يعثر على هذا المصطلح في هذا القرن إلا في كتاب غيلب Gelb الذي يحمل عنوان " درس في الكتابة : أسس الغراماتولوجيا " A Study of Writing: The Foundations of Grammatology (1952) /د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة / وسيرمز له المؤلف بالرمز OG . (المترجمة)

    (3) م . هـ . ابرامز "الملاك التفكيكي" مجلة البحث النقدي 3(1977) ص 428 .

    (4) نيوتن غارفر ، تمهيد لكتاب " الصوت والظاهرة " ( إيفانستون : مطبعة جامعة نورثويسترن ، 1973 ) ص xxii . ويوضح غارفر في معرض تعليقه على مكانة المنطق والنظرية في فلسفة اللغة ، قائلاً : " نجد في تاريخ الفلسفة الغربية، ان فلسفة اللغة – وبضمنها الكثير من الميتافيزيقا – قد اعتمدت المنطق أكثر من اعتمادها البلاغة " ( التمهيد صxi ) . لكنه وضح في تعليقه على الحركتين اللتين حدثتا في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين ، قائلاً : " لقد كانت الحركة الأولى تعزيزاً لفلسفة اللغة التي تعتمد المنطق إلا ان الحركة اللاحقة كانت تدميراً لذلك التراث ، تدميراً يتحدث عنه دريدا بوصفه ختاماً للميتافيزيقا " ( التمهيد ، ص xii ) .

    (5) ج . هيليس ميلر " الناقد مضيفا " مجلة البحث النقد ي 3(1977)ص 41 .

    (6) موراي كريغر ، " نظرية النقد " (بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1972) ص 220 - 243 .

    (7) فريدريك جيمسون ،"سجن اللغة"(برنستون:مطبعة جامعة برنستون ، 1972)ص176 .

    ( " لقد اقترن نسق اللغة بالكتابة الأبجدية الصوتية ، ذلك النسق الذي تولدت فيه الميتافيزيقا المتمركزة حول اللوغوس ، التي تحدد معنى الكينونة بأنه الحضور . لقد كان هذا التمركز حول اللوغوس مطوقاً دائماً ومضطهداً لأسباب بعيدة تماماً عن التأمل في أصل الكتابة والمكانة التي تحتلها .... " ( جاك دريدا ، " في علم الكتابة " ترجمة غياتري تشابرافورتي سبيفاك - بلتيمور ولندن : مطبعة جامعة جون هوبكنز ، 1972 ) ص 43 ، وقد كانت الاقتباسات تلحق بالرمز ( OG ) .

    (9) لقد أوضح جاك دريدا في تعليقه على الخلفية الميتافيزيقية لمفهوم الدال - المدلول قائلاً : " يعود الاختلاف بين الدال والمدلول إلى الحقبة الأخرى التي شملت تاريخ الميتافيزيقا ، هذا إذا نظرنا إلى الموضوع من منظور ضيق وضمني ، أما إذا ضيقنا المنظور أكثر فسننظر إلى حقبة الخلق والتناهي المسيحية التي تلائم المفاهيم الإغريقية "(OG ،ص 13 ) .

    (10) يستخدم دريدا مصطلح logocentric (التمركز حول اللوغوس )، أحياناً ، بدلاً من مصطلح phonocentric (التمركز حول الصوت ) للإشارة إلى نظم فكرية أو عادات التفكير التي تستند إلى ما يسميه بميتافيزيقا الحضور ـ وهو التعبير الذي وجده عند هيدغر ـ ويعني به الاعتقاد بوجود مركز خارج النص أو خارج اللغة يكفل صحة المعنى دون أن يكون قابلاً للطعن فيه أو البحث في حقيقته( د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة) . أما جابر عصفور فيذكر ( عصر البنيوية / تأليف أديث كيرزويل / ص274 ) أن اللوغوس لفظ يوناني يشير إلى الكلمة التي تعبر عن الفكر الداخلي ، أو الفكر الداخلي نفسه . وحينما يشير دريدا إلى التمركز حول اللوغوس ( الذي يترجمه عصفور إلى " مركزية اللوجوس ") فإنه يبغي تدمير تأثيره الطاغي ، وتدمير مبدأ الأصل الثابت الواحد ، وما يقترن به من مبدأ الغائية أو العلية ، وتأكيد أهمية الكتابة التي لن تغدو تابعاً بل أصلاً . (المترجمة)

    (11) من الممكن أن نعرف على التمركز حول اللوغوس بالميتافيزيقا ، لأن كليهما تعبير عن الرغبة بالمدلول . ويجد التمركز حول اللوغوس المعنى كله في العقل اللوغوس ، تلك الكلمة التي تعكس العقل الإلهي .

    (12) يمثل التمركز حول الصوت رفضاً للكتابة بوصفها تقنية حسب . وكذلك توكيد تقارب الكلمة المنطوقة من المدلول . فالكلمة المكتوبة لا تفيد إلا بصفة مدلول للكلام.

    (13) " تنطلق هذه الحركة مما يسميه هو " النموذج المغلق " المتمركز حول اللوغوس للآراء التقليدية أو الكلاسية للغة (والتي يؤكد أنها تعتمد وهم الكينونة المتعالية الأفلاطونية أو المسيحية أو الحضور الذي يضمن المعاني ) وصولاً إلى ما أسميته أنا " نموذجه المتمركز حول الكتابة " الذي يعد الحضور فيه بمثابة " بصمة على البياض " ( م . هـ . إبرامز ، " (الملاك التفكيكي " ص ، 429 ) .

    (14) الكتابة الأولى : التعبير مستقى من فرويد ، وقد استعمله للإشارة إلى اللاوعي عندما لاحظ لعبة للأطفال تتضمن ترك اثر الكتابة على الشمع بعد نزع الورقة . وقد استعمل دريدا هذا المفهوم ، مشيراً إلى فرويد مرات عدة في كتابه " الكتابة والاختلاف " . وهو يقول : " إن الكتابة تعد استكمالاً للإدراك حتى قبل أن يعي الإدراك نفسه . والذاكرة أو الكتابة هي فاتحة عملية وعي الإدراك بذاته . أما " المدرَك " فلا يمكن قراءته إلا في الماضي ، تحت الإدراك وبعده " . (د. محمد عناني / المصطلحات الأدبية الحديثة) . (المترجمة)

    (15) يقول موراي كريغر أن مفتاح النقاش حول كلمة difference ( أي الاخـ"ت"لاف) هي اللعب على الكلمة الفرنسية differ التي تعني المعنيين الآتيين : (1) to differ ( أي يختلف ولا يشبه ) (2) to defer ( أي يرجئ أو يؤجل ) اعتمادا على الفرق بين الكيانات الحاضرة المختلفة ( الاختلاف ) والكيانات المتشابهة ، إحداهما حاضرة والأخرى غائبة تفصل بينهما فجوة زمنية (الإرجاء ) . وهناك بعض أوجه الخداع في " differance وهي أن (a) غير مسموعة وإن كانت مرئية ، وإن المصطلح لا تقابله أية كلمة ، وبذا فانه يفيد فقط في المساعدة على تذكر الكلمة التي يتباين عنها ، ولا تكون موجودة بصفة مفهوم لآتها تختلف عن ذاتها.(نظرية النقد،228 –231).

    (16) تلفظ الأولي " ثري " وتلفظ الثانية " تري " (المترجمة) .

    (17) يوضح دريدا في " الكتابة والاختلاف " قائلاً : " إن الكتابة واحدة من الأشكال التي تمثل الأثر عموماً ، لا الأثر نفسه " ( O G ص 167 ) . " وإن فكرة الأثر هي أنه يمكن أن يخضع لسؤال الماهية الأونطو– ظاهراتي ontophenomenological . فالأثر هو لاشيء ، وهو ليس كياناً ، بل انه يتجاوز السؤال الذي يقول : ما هو ؟ "(O G ص 65 ) .

    (1 غياتري سبيفاك ، تمهيد لكتاب " في علم الكتابة " لجاك دريدا (بلتيمور ولندن: مطبعة جامعة جون هوبكنز ، 1974 ) ، ص xxxix .

    (19) التأسس : مصطلح يشير إلى العملية التي تتحول بها المعايير والقيم وأنماط السلوك إلى أنماط ثابتة . ( عصر البنيوية / تأليف اديث كيرزويل / ترجمة جابر عصفور / دار آفاق عربية للطبع والنشر / 1985 / ص 277 ) . (المترجمة)

    (20) ينبغي الالتفات إلى أن دريدا اشتق كلمة اختلاف differance من الجمع بين الاختلاف difference ( بمعنى عدم التشابه ) + deference ( بمعنى الإرجاء وتفيد معنى الأثر ) ، أي انه استبدل الحرف( e ) في كلمة الاختلاف بالحرف ( a ) ويبدو الاختلاف واضحاً في هذه الكلمة إلا أن من الصعوبة توضيحه حين نقله إلى العربية لذلك عمد مترجم "الكتابة والاختلاف " كاظم جهاد إلى وضع حرف التاء بين معكوفتين صغيرتين. (المترجمة)

    (21) تعكس ملاحظة ج ، هيليس ميلر عن اللغة موقفاً تفكيكياً : " إن اللغة ، منذ البداية، خيالية ووهمية ومنزاحة عن أية إحالة مباشرة إلى الأشياء كما هي . وينبغي احتجاز الظرف الإنساني في شبكة من الكلمات تتشابك عبر القرون وتزخر بالأساطير والمفاهيم والقياسات الميتافيزيقية ، أي باختصار نسق الميتافيزيقا الغربية بأكمله " ("التراث والاختلاف " ) في مجلة "داياكرتكس " 2 ، 4 ( 1972 ) ، 11 ) .

    (22) ديفيد أليسون، مقدمة كتاب " الصوت والظاهرة " ص xxxvii – vii i

                  

10-11-2004, 04:19 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    ذكريات رجل أعمى
    جاك دريدا
    بقلم: حسن شريف

    جاك دريدا فيلسوف فرنسي متخصص في التحليل النفسي ونقد الفن، الف العديد من الكتب منها "حقيقة اللوحة".
    اختار دريدا عدد اربع واربعين لوحة من مقتنيات متحف اللوفر ليتحدث عن افكاره ونظرياته عن "العمى" هذه المادة هي ترجمة مختصرة وبتصرف مني عنوان المقالة "ذكريات رجل أعمى" وبعنوان فرعي "الصورة الذاتية وخرائب أخرى" المقالة ترجمها من الفرنسية إلى الانجليزية توماس وست ونشرت في مجلة "آرت انترناشيونال" العدد 14 – 1991.
    مظهر رجل أعمى.
    الأعمى ليس هو الشخص الذي فقد بصره ولكن الأعمى هو الشخص الذي فقد البصيرة، القصد من الأعمى هنا هو الشخص الذي يمتلك العين ولكن لا يعرف ولا يريد ان يتعلم طريقة الرؤية، لذلك فهو دائما يرفض لأنه يفتقد المعرفة، الفنان يمتلك وجها إلا أن هذا الوجه يفتقد العين بطريقة مجازية، عين هذا الوجه مغلقة في الليل، اعين معصوبة، لأنه يفكر في المشهد الذي جربه بصريا، لهذا السبب الفنان يقدم الاستعارة بدلا من العين الحقيقة كـ "قصة رمزية".
    الفنان هو ذلك الشخص الذي طرد عنه المفهوم السائد لرؤية الاشياء. لهذا السبب هو يتعامل مع حس فوق طبيعي، صد الفنان عن المفهوم السائد يجعله يتذكر قصة "الإخلاص المفقود" لهذا السبب نشاهده بأنه يتلمس طريقه اثناء التجوال، لمسة الرسام لمسة اعجازية وخارقة تشبه لمسة النحات اثناء تعامله مع مادته، ايضا هذه العملية تشبه سماع قصيدة لشاعر اعمى، هنا يتحول اللمس والصوت لتعويض البصر. هذه العناصر التي هي اللمسة الاعجازية للفنان وصوت شاعر اعمى تعكس نوعا من اللغة والتي من خلالها يستطيع الفنان ان يتمتع بـ "القصة الرمزية" وبالتالي هو يتمتع بـ "الاخلاص المفقود" هذه الترجمة تتحول إلى اعادة اكتشاف النور، اي الفنان يكشتف النور من جديد وعن طريق هذه العناصر والتجارب يستطيع الفنان ان يترجم بين المرئي واللامرئي لذلك السبب فهو يتحسس جميع ميادين الفنون، الرسم، الشعر، والنغمة العتيقة للقطعة النحتية.
    بقدر ما تستطيع العين رؤية الصورة الذاتية:
    يجرب الفنان رسم صورة ذاتية لنفسه اي اعادة تقديم نفسه، عندما يلقي الفنان لمحة سريعة على الصورة الغابشة والموجودة في المرآة التي امامه في هذه اللحظة يصاب الفنان بصعق ويصبح غير قادر على الكلام، عن طريق هذه العملية يوقف الفنان اللحظة من خلال التأمل العميق واللامحدود في الصورة الموجودة في المرآة. في هذه الحالة يصاب الفنان بـ "عشى ليلي" بسبب الافراط الزائد للنور الصادر من التأمل العميق واللانهائي من الصورة الصادرة من المرآة، هنا يصاب الفنان بـ "الصمت" المرآة تعكس الصورة المتناقضة ظاهريا وبالتالي تعكس العمى الموهمة للتناقض ظاهريا، الرسام يعتقد بانه نجح في تحقيق غايته والتي هي رؤية صورة ذاتية لنفسه مرسمومة على سطح القماش، ولكن في الحقيقة هو نجح فقط في رسم صورة، وهذه هي بداية الاغراء بالهذيان، هذا الهذيان يشبه هذيان اوديب عندما اقتلع عينيه اعتقادا منه بأنه يستطيع ان يرى اكثر وضوحا. موضوع الصورة الذاتية يحدد المكان المقترح ليعكس الصورة الذاتية وهي عادة ترسم او تتبخر في اكثر من جلسة واحدة، موضوع اللوحة اي الصورة الذاتية تحدق وبطريقة حادة كما هي الحال عند المشاهد الذي يحدق وبطريقة حادة في اللوحة اثناء وقوفه امامها.
    الموضوع والذي يمثل رسم صورة ذاتية للفنان عن نفسه يرى ذاته معالجا ومقدما عن طريق لوحة، الموضوع يرى نفسه اثناء رسم الصورة وبعدها.
    اذن عن ماذا يوحي هذا الوجه وبالتالي عن ماذا يوحي هذا الموضوع؟ وهل موضوع اللوحة يكشف عن ذاته ام عن ذوات أخر؟
    في هذه الحالة الموضوع يشارك المشاهد عملية العمى ويجعل المشاهد يرى الصورة الذاتية للفنان بطريقة رمزية.
    الانفعال والدوافع البصرية:
    الرغبة الرئيسية للفنان هي العرض والمشاهدة وتعويض المشاهد البصر لمعرفة مصدر ابتكاره لهذا السبب اللوحة تقدم النظرة المحدقة، هذه النظرة هي نظرة مجازية عن الانفعالات المفرطة والدوافع المتعذرة كبتها مثل الافتضاحية او الاظهارية، السلوك والتصرفات الصناعية والمتكلفة، النرجسية اي افتتان المرء بجسده. الرسام يجعل ذاته يشاهد من قبل الآخرين بعد ان شاهد ذاته من خلال اللوحة التي رسمها قبل ان يعرضها للآخرين، اي جعل الذات عرضة للمشاهدة وجعل الذات ضحية من قبل نفسه أولا وفيما بعد من قبل المشاهد اي الآخر أي جعل الصورة الذاتية عرضة للتحديق من قبل الرسام نفسه وكأن شخصا آخر يحدق في الرسام. هذه العملية تشبه العملية التي يقوم بها شخص مختلس النظر وهي نوع من الرغبة الشديدة وفضول قوي وبطريقة طائشة في اختلاس النظر، هي نوع من اقتحام الحجاب وكشف المستتر ولكن بحذر شديد اثناء النظرة المختلسة لكي لا تشاهد من قبل الغير، وهي نوع من اشباع الرغبة والتأمل الرمزي بأن الاخر أعمى.
    هذه العملية هي اشباع المتعة الغامضة والمبهمة انها نوع من النظرة الغرامية اي الرسام يرمق بنظرات غرامية على مشهد محظور.
    الدموع تحجب التحديق
    يعتقد ان وظيفة العين هي الرؤية ولكن الوظيفة الحقيقية للعين هي البوح وكشف النقاب عن الاشياء الظاهرة، وظيفتها هي اظهار الذكريات وتسلط النور على هذه الذكريات المكبوتة، العين تناضل وبكل قوتها لسحب هذه الذكريات من الظلمة واظهارها إلى النور. لماذا نعتقد ان العين خلقت للبكاء، اثناء البكاء الدموع تحجب الرؤية، لهذا السبب الدموع ربما تبرهن ان العين في اساسها ليست فقط لها علاقة باليقظة ولكن العين لها علاقة بالحدس لمعرفة الصورة وبالتالي العين تموضع الصورة وتشيئها اي العين تجعل الصورة موضوعياً ولها شكل محس. اذا العين هي البئر في كلتا الحالتين في وجودها او فقدانها، لذلك السبب حضور الدموع في العين هو حالة مختلفة تماما.
    الدموع هي الرطوبة المطفوحة من المنبع اي من البئر، هذه الدموع المطفوحة متفجرة من بئر آخر، هذه البئر تختلف تماما عن "بئر البصر" ببساطة هذه الدموع المنبثقة من العين غرقت في الذات. عندما نشاهد من خلال لوحة وجها يبكي وعادة يكون وجه امرأة، هذا الوجه يذكرنا بالسمة المميزة للعين التي تعتمد على مقابلة النور والعتمة اي النهار والليل، منبع هذه الميزة هو الذكريات القديمة، ذكريات ما قبل الوعي، لهذا السبب هذه الذكريات اقدم من العملية التي تقوم بها العين والتي هي البصر والعمى.

    الاتحاد الثقافي
    27 فبراير – 1997
                  

10-11-2004, 04:27 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    جينالوجيات ما بعد الحداثة
    بقلم : رشيد بوطيب / ألمانيا *

    جاءت فلسفة ما بعد الحداثة كردّ فعل على أحادية البعد وإمبريالية المعنى وواحدية اللغة والرؤية إلى العالم والحقيقة ، في الفلسفة الحديثة. أو بلغة أخرى ، كرد فعل على مشروع الحضور الهيغلي ، هذا المشروع الذي يمكن تلخيصه في الجملة - الأم التي ضمنها هيجل مقدمة كتابه " أصول فلسفة الحق " :

    " ماهو عقلاني ، هو واقعي . وماهو واقعي ، هو عقلاني "(1) .

    إن هيجل هو مشروع الوحدة بامتياز . وروجيه غارودي يعبر عن ذلك بوضوح حين يقول عنه : " إنه يعتبر أن مهمة الفلسفة هي إعادة تحقيق الوحدة والكلية الأصلية للعالم الممزق بسبب من الخطيئة والسقوط"(2) ، وقبل ذلك عبر الفيلسوف الألماني روزتنسفايغ عن نفس الفكرة حين أعلن أن " مهمة الأزمنة القادمة هي إعادة تحقيق الوحدة الضائعة للإنسان اليوناني ." (3) ولكن مشروع ما بعد الحداثة يرى في هذه الوحدة أو في هذا البحث المحموم عن الوحدة أصل التوتاليتارية . وهو بذلك قد فقد كل مشروعيته ، سواء كان مشروعا فكريا أو تشاركيا كما أعلن ذلك ليوتارد في : La condition postmoderne

    * * * * *
    لعل كتاب المفكر الألماني بيتر برغر ، " جذور فكر ما بعد الحداثة " (4) خير تعبير عن هذه الثورة ضد هيجل وضد فلسفة السرديات الكبرى . ورغم أن صاحب الكتاب يرى أن أول متمرد على المشروع المثالي للحداثة كان هو نيتشه إلا أنه يرى في تأويل كوجيف لفينمنولوجيا الروح لهيجل وخصوصا لفصله عن السيد والعبد ، القشة التي قصمت ظهر البعير . فباالنسبة لفلاسفة مثل بطاي وبلانشو ولاكان الذين تأثروا كلهم بتأويل كوجيف ، كان لا يمكنهم تأسيس مشروعهم دون الدخول في صراع نقدي مع هيجل . أو بالأحرى مع فلسفة الذات الهيجلية . ولا عجب أن يصف بلانشو الأدب كوعي بدون ذات . إن هيجل فهم فلسفته كمشروع توفيقي بين المسيحية وفلسفة الأنوار . ولكن كوجيف فهمها كفلسفة دنيوية جاءت لتحل محل المسيحية . كفلسفة للموت . فحياة العقل لا تخاف الموت . بل إن القدرة على التضحية بالحياة هي التي تجعل من ذات معينة ، ذاتا حرة . وهذا ما يجعله يفرق بين السيد والعبد . إنه يرى أن على الإنسان أن يمتلك شيئا آخر أهم من الحياة حتى يتميز عن الحيوان . وهذا الشيء في نظره هو الاستعداد أو القدرة على اجتراح الموت في معركة الاعتراف . ولعل ذلك ما يميز السيد عن العبد . فالعبد لا يرقى إلى مستوى المغامرة بحياته ، إن السيد هو وعي خالص . أما العبد فمازال سجين جسديته ، يرفل في تراب الحياة . لذلك فالسيد وحده من يحقق اعتراف الآخرين به .

    إن كوجيف لا يرى في فصل " السيد والعبد " مجرد تعبير عن بنية الوعي ولكن الفصل - الأم الذي تتمركز حوله كل فينومنولوجيا الروح . إن كوجيف يصل في نهاية تأويله إلى القول بأن السيادة تعيش مأزقا تاريخيا ، في حين أن العبودية هي حاملة لواء التقدم التاريخي . لسبب بسيط وهو أن العبد ينسج علاقة مباشرة مع العالم ، لأنه يعمل . أما السيد فإنه يستهلك فقط ما ينتجه العبد ولا يتصل بالعالم إلا عن طريق العبد . إن كوجيف يرى أنه إذا كان الصراع الأول بين السيد والسيد قد فتح أبواب التاريخ فإن الصراع الثاني بين السيد والعبد سوف ينهي التاريخ . إن العبد سيعي حريته وسيطالب السيد بالإعتراف بها . إن كوجيف يرى في نهاية التاريخ ، نهاية مفهوم الإنسان نفسه . ويرى بيتر برغر أن احتكاك وتفاعل السورياليين بتأويل كوجيف لكتاب هيجل " فينومنولوجيا الروح " هو الذي تولدت عنه كل أفكارهم المتمردة عن الانتحار والعنف ، والتي تمثل في النهاية احتجاجا على مشروع الحداثة العقلاني ، الذي أقصى الحياة واختزل الإنسان في الوعي . فضدا على سردية السيد- العبد الهيجلية ، يبرز الفعل السوريالي كفعل يرفض الصراع والعمل . إنه سلبية خالصة . والحرية المجردة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق نفي الآخر أو نفي الذات . إن الأنا السوريالية أنا ممزقة والعقل والأخلاق يعيشان اللا إستقرار . أزمة للوعي عميقة وانهيار للبناء الديكارتي . وهكذا سيثور جورج بطاي في " التجربة الداخلية " على هيجل ، فيحتفل بالضحك والإمكان والاستعارة وتعددية اللغة واللا معرفة . إنه يعلن بوضوح : " أنا أسخر من المعرفة ، أنا أريد أن أعيش " وهو يقول أيضا " هذه الكتابة لا يجب أن تعدنا بشيء ، إنها لا تمنحنا يقينا معينا أو نتيجة ، أو ربحا " وهو يحرر الحقيقة من علاقتها وتبعيتها للواقع ويفهمها كظاهرة لغوية ، تماما كما أعلن ذلك لاكان حين اعتبر أن الكلام هو الذي يصنع الحقيقة .

    أما بخصوص بلانشو فإنه بخلاف بطاي الذي خاض حربا نقدية ضد المشروع الهيجلي ، استفاد كثيرا من كتاب فينمنولوجيا الروح لهيجل ويظهر ذلك بجلاء في كتابه النقدي " الأدب والحق في الموت " ، حيث سيعيد إنتاج فكرة هيجل عن الوعي التجريبي ، عن هذا العدم الذي يشتغل على العدم . ليصف الكاتب أيضا بالعدم الذي يشتغل على العدم ، وليفهم الكتابة كصيرورة تجريبية ، حيث الكاتب والكتاب معا في تغير مستمر . هذا التغير الذي يرفض فكرة الكاتب عن كتابه ، أو فهم الكاتب لكتابه . ولكن إذا كان هيجل يهدف إلى المصالحة والتوليف بين الفرد والواقع ، ليصل بالوعي إلى سلامه ، فإن بلانشو يحتفظ بفعل الكتابة في مرحلة النفي ، التي تعني عدمية الكاتب واختفاء المكتوب . وهو بذلك يقترب من تأويل كوجيف لفينمنولوجيا الروح ، حيت الموت يلعب دورا مركزيا ، وخصوصا لتأويل كوجيف للفصل المعنون " الحرية المطلقة والرعب " ، هذا الفصل الذي يمثل نقدا لما أفرزته فلسفة الأنوار من نتائج ، وخاصة للثورة الفرنسية التي انتهى بها المطاف إلى العنف من أجل العنف ، إلى موت بلا معنى ، يقول هيجل . لكن بلانشو يختلف عن قراءة هيجل للثورة ، ويرى في الكاتب ثوريا جديدا ، يمارس الحياة في الموت ، " فالكلام هو حياة هذا الموت " ، كما يقول ، والأدب تجربة بدون ذات .

    ثم ينتقل بيتر برغر لمعالجة فكر ميشيل فوكو ويبدأ بكتابه المهم " تاريخ الجنون في العصر الكلاسي " . إن السوريالية التي جاءت كرد فعل على إمبريالية العقل وسلطته المطلقة والتي احتفت بالخيال والحلم والجنون ، ستجد طريقها أيضا إلى فكر ميشيل فوكو . فلا أحد ينكر علاقة هذا الفكر بنيتشه وبطاي . ففي التصدير الذي كتبه فوكو لكتابه سنة 1972 يحتفل فوكو بكتاب لا سيد له ولا خالق ، ذي لغة حرة ، متشظية ، مزدوجة . إن كتاب فوكو هذا ، لا يمثل تاريخا للأفكار ولا تاريخا للمؤسسات التي عالجت ظاهرة الجنون ، إنه لا يسجن كتابه بهدف معرفي أحادي البعد ، فالمعرفة في حد ذاتها فقدت كل قدسية . إن بيتر برغر يرى أن فوكو يدافع عن الجنون في كتابه ويحتفي به كفعل تحرير . وفوكو يدافع أيضا عن لغة " لا- جدلية " ضدا على اللغة الجدلية التي سيطرت على الفلسفة من أفلاطون وحتى سارتر . إن اللغة بالنسبة له كالأدب بالنسبة لبلانشو ، وعي بدون ذات ، فهي ليست أبدا ، ذلك المسكن الآمن للفكر .

    أما لاكان الذي تابع هو الآخر بباريس دروس كوجيف عن هيجل ، فإنه سيتمرد هو الآخر على هيجل ، معتبرا أن الأنا ليست أبدا تلك الذات الظاهرة . وهو يعود لأسطورة نرجس اليونانية ليشرح تمزق الأنا . فنرجس الذي أحب صورته المنعكسة على الماء ، لم يستطع قط تملك ما يحب ، تملك نفسه ، أناه . إن الأنا تقع في مكان آخر، لا تطوله يد . ولكي نصل إلى فهم الذات ، يجب أن نحرر الأنا من براثن الوعي التجريبي ، فقط كما علمنا فرويد ، في اللاوعي ، هذا المرفوض من طرف نظام الأنا ، تتكلم الذات .

    * * * * *
    وإذا كان بيتر برغر قد حصر جذور ما بعد الحداثة في تأويل كوجيف لهيغل ، فإنه بإمكان المرأ أن يعود بتلك الجذور إلى الأدب وخصوصا إلى دوستويفسكي ، و روايته " الأبله " . كما يمكن أن نجد تأسيسها الحقيقي لدى نيتشه . دوستويفسكي ونيتشه هي إحدى الجينالوجيات الممكنة ، رغم أن ما بعد الحداثة ضد كل جينالوجيا ، لأن هذا يعني دائما أن هناك خالق ما في أول السلالة . وإذا كان لنا أن نتحدث عن شجرة ما بعد الحداثة ، فيمكن أن نقول بأنها شجرة بلا جذور ولكن أغصانها ممتدة ومتشابكة .

    إن نيتشه يقول في مقدمة كتابه " إتسو هومو" ( قف ، إنه الإنسان) : " إنني مثلا ، وبلا شك ، لست بعبعا ، لست غولا أخلاقيا ، حتى أنني من طبيعة مناقضة لهذا الإنسان الذي تم تقديسه حتى الآن كرجل فضيلة . بيننا ، يظهر لي ، أن ذلك جزء من كبريائي . أنا تلميذ للفيلسوف ديونيسوس . وأفضل أكثر أن أكون شبقا على أن أكون قديسا . ولكن فليقرأ المرء فقط هذا الكتاب . ربما أكون قد نجحت ، ربما لا يكون لهذا الكتاب أي معنى آخر ، غير التعبير وبطريقة صافية وإنسانية عن هذه المفارقة . آخر ما يمكن أن أعد به هو " إصلاح " البشرية . لن أشيد أصناما جديدة . فليتعلم الأقدمون إذن ، ماذا يعني أن يكون للمرء أقدام من طين . الإطاحة بكل الأصنام ( الأصنام ، هكذا أسمي " المبادئ المثالية " ) تلك هي مهمتي . ذلك أنه لما اختلق المرء العالم المثالي ، نزع بنفس الدرجة عن الواقع قيمته ومعناه وصدقيته . " العالم الحقيقي " و " العالم الكاذب " بلغة أوضح : العالم المختلق والواقع ... المبادئ المثالية الكاذبة كانت لحد الآن ، اللعنة المسيطرة على الواقع . الإنسانية نفسها ، من فرط ما توغلت فيها هذه الأكاذيب ، أصبحت مزيفة وخاطئة ، حتى في غرائزها الأكثر عمقا " (5).

    لا يعد نيتشه البشرية بسردية كبرى ولا يدعي امتلاك الحقيقة أو حتى الرغبة في امتلاكها ، وكذلك كان دوستويفسكي . ويؤكد النقاد أن الرواية الروسية قد خرجت من معطف جوجول ولكن لا أحد انتبه إلى أن ما بعد الحداثة كنظرة إلى العالم تجد جذروها بأدب دوستويوفسكي ، خصوصا بروايته " الأبله " ، علاقة وطيدة لا ريب بين فلسفة ما بعد الحداثة والأدب . ربما لأن كلاهما يحتفل باللغة وتعدد الأصوات . إن نبوءة دوستويوفسكي تتمثل في فكرة واحدة ، إن حق لنا أن نسميها فكرة وهي أن الحقيقة لم تعد مرتبطة ذاك الإرتباط اللاهوتي والأنطلوجي بالعقل . إن آجلايا يبانتشينا تقول للأبله ميشكين : " ما تقولونه ليس سوى الحقيقة ، وهو لذلك غير عادل " . أن ميشكين بإمكانه أن يتحمل الحقيقة . كأبله عاش أربع سنوات بالغربة ، يظل دائما غريبا ليس فقط عن طبقته الاجتماعية بل عن المجتمع ككل . إن الإنسان الإيجابي والجميل يظل في المجتمع الواقعي غريبا . محاربة الوهم ، أليست تلك بمهمة الرواية ؟ ألم يكن ذاك بمشروع سرفانتس ورابليه ومن بعدهما دوستويوفسكي ؟ الفلسفة التي كانت في بدئها سخرية من كليانية المعرفة السوفسطائية تتحول مع مرور الوقت إلى نظرة إلى العالم كليانية ، تستسلم لنتائجها ، تعيد هي الأخرى إنتاج أوهامها ، من عالم المثل الأفلاطوني وحتى الفينمنولوجيا الترنسندنتالية الهوسرليانية . إن تاريخ الفلسفة ، هو تاريخ أوهام هذه الفلسفة . ضدا على الوهم تأسست الرواية ، ضدا على فروسية العقل ، تأسست الرواية كلغة وليس كوعي ، ككتابة وليس كفكرة ، كتعبير عن العراء الترنسندنتالي (6). إن حواريتها إذا استعملنا لغة باختينن هي نضال ضد بطليموسية اللغة وأحاديتها (7) . العقل يتكلم لغة وحيدة . في ديوانه الشرق والغرب يقول غوته بأن الأدب الفارسي لم يعرف المسرح لأن الاستبداد لا يسمح بالحوار ، وكذلك الشأن مع العقل ، هذا الكائن الذي سيطر على الحداثة ، أو الذي صنع مشروعها ، إنه لا يقبل بغير الخضوع : " العقل ، إنه الجلاد " قال فوكو . تقنية رواية الأبله عند دوستويوفسكي تقوم على تعدد اللغات وتعدد وجهات النظر إلى العالم ، وليس على تقنية السارد العليم . وذاك ما سمح بتنسيب هذه النظرات إلى العالم ، بل ما أدى إلى ذاك التناقض بين المعرفة والممارسة لدى الكاتب نفسه .

    إن جيل دولوز وفليكس جيتاري في كتابهما المشترك " ما الفلسفة ؟ " قد فهما أيضا أبله ديستويوفسكي كمشروع محاربة للوهم . لقد لخصوا تاريخ الحداثة في أبلهين ، الأبله الأول هو ديكارت ، الذي قال الأنا ، الذي قذف بالكوجيتو إلى الوجود . إنه من يمسك بالمقدمات الذاتية التي ترسم مخططه . إنه المفكر الخاص في مقابل المفكر العمومي ، السكولائي . الأبله الثاني ، أبله دوستويوفسكي ، هو أيضا مفكر خاص ولكنه في مقابل الأول الذي كان يبحث عن الحقائق بنفسه ، الذي كان يريد أن يحرر الحقيقة من الكنيسة ، لا يريد قط أن يفكر ، لا يبحث عن حقيقة ، إنه يريد العبث .

    * * * * *
    يؤكد مؤرخو الفلسفة الألمان بحق ، بأن إدموند هوسرل هو أهم فيلسوف عرفته البشرية بعد أفلاطون . ولعل أهميته تبرز أكثر حين مطالعتنا لكتابات ما بعد الحداثة التي يمكن وصف فلسفتها بأنها مشروع نقدي وتفكيكي لنظام الوعي وفلسفة الحضور الهوسرليانية . وكمثال على ذلك ، الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ، الذي يمكن أن نلخص نقده لفلسفة هوسرل في جملة واحدة ، نقتبسها من كتابه : " الصوت والظاهرة " : " المعنى محفوظ للذي يتكلم " ( . المعنى مثال ، وعقلانية ، ولهذا ليس تناقضا أن يربطه هوسرل بالذات ، بذات حاضرة ومتكلمة . بطريقة ساخرة ، يمكن القول بأن قدر الذات هو المعنى . إنه محكوم عليها أن تقول ، أن تجترح معنى . والمعنى سابق للكلام ، ذاتوي ، ثابت مرة وللأبد بمكان ما قد نسميه الوعي ، وبإمكان المرء أن يستحضره كلما أراد ذلك . وتحويل المعنى إلى كلام أو لغة ، يظل بنظر هوسرل عملا ثانويا ، نوعا من التدنيس ، بالمعنى الديني للكلمة . " الإيبوخي " هو نقيض ذلك ، الإيبوخي أو الاختزال الفينومينولوجي الذي يمثل خروجا من العالم ، الذي يضع المعرفة كما الوجود بين قوسين . المنهجية الأخرى للفينومينولوجيا الترنسندنتالية هي الاختزال الصوري ، وعن طريقها يتم شطب وجود الأشياء ، حقيقة كل ما هو زمني ومحسوس لصالح نظرة إلى الكل الجوهري . يتم إلغاء وجود العالم لكي يتم الإمساك بجوهره .

    تبدو الفينومينولوجيا إذن كعلم قبلي . " فقبل الوجود ، قبل كل قوانين الواقع ، يمثل الجوهر وقوانينه " (9) ، على حد تعبير هوسرل . إن الفينومينولوجية الترنسندنتالية هي نوع من الاكتفاء الذاتي الداخلي ، وعي مطلق ، حذف للعالم الخارجي ، في كلمة : أفلاطونية . إن الوعي في هذه الفلسفة ليس نتاجا للطبيعة ، بل هو حر من كل طبيعة ، في حين لا يمكن للطبيعة أن توجد حال غيابه . إن هوسرل قد عبر عن ذلك بوضوح قائلا : " إذا محونا كل العقول من العالم ، لا يبقى هناك وجود للطبيعة ، ولكن إذا محونا الطبيعة ، فإن شيئا ما يظل على قيد الحياة : العقل ، كعقل فردي " (10)

    وهذه النظرة إلى الطبيعة كشيء ثانوي وتابع للعقل ، توضح أيضا اختلاف الفينومينولوجيا عن علم الدلالة التقليدي ، الذي يقبل فقط بالكلمات التي تحيل على موضوع واقعي . إن المفهوم المركزي لفلسفة اللغة الهوسرليانية هو العبارة . والعبارة تنقسم إلى علامة سواء كانت مادية أم صوتية أم كتابية وإلى معنى . ويميز هوسرل بين نوعين من العلامات : العبارة والعلامة أو الاشارة . فالعلامة الأولى لها معنى ، في حين أن الثانية هي علامة إشارية . ودريدا سيفهم هذا التمييز كنظام ميتافيزيقي لا يقبل التواصل . إنه يقول في كتابه الصوت الظاهر : " فقط حين يتم حذف الوظيفة التواصلية تظهر للوجود الوظيفة التعبيرية الخالصة (...) حتى يتم اختزال الإشارة وإقامة العبارة الخالصة داخل اللغة ، يجب إذن حذف كل علاقة بالآخر . " (11)

    " الأبحاث المنطقية " هي بالنسبة لدريدا النص النواة لكل الفينومينولوجيا . إن دريدا يعالج في كتابه : " الصوت والظاهرة " مشكلة العبارة كما فهمها هوسرل بالبحث المنطقي الأول . وسيكشف دريدا كما سنرى عن البنية الميتافيزيقية لنظرية المعنى الهوسرليانية . إن هوسرل نفسه يميز في كتابه : " التأملات الديكارتية " بين ميتافيزيقا أصيلة أو فلسفة أولى والميتافيزيقا التقليدية ، التي خانت العقل . إن الفينومينولوجيا هي ، اعتبارا لمنهجها الحدسي ، الحسي ولكن أيضا العقلاني ، ضد كل شكل من أشكال الشطط الميتافيزيقي . ولكن رغم هذا الزعم ، فإن دريدا يرى بأن الفينومينولوجيا لم تضع موضع سؤال ، لا العقل الترنسندنتالي ولا اللغة التقليدية لهذا العقل . إنه يقول : " بين اللغة التقليدية (أو لغة الميتافيزيقا التقليدية) ولغة الفينومينولوجيا ، لم يتحقق أي شكل من أشكال القطيعة..." (12)

    إن هوسرل يفهم اللغة ككائن عقلاني . إنه لم يفهم الاختلاف بين اللغة والمنطق . وإذا استعملنا أسلوب فوكو ، نقول ، إنه يمارس لغة جدلية . فهم غائي للغة ، أو بلغة دريدا ، فهم لا يميز بين الجراماتيكية (النحوية) والمنطق . إنها جراماتيكا منطقية ، تتأسس على الوعي وتجد أصلها ومآلها بالوعي . جراماتيكا ميتافيزيقية ، وعي ، لا يعبر إلا عن شيء واحد وهو الحضور ، و بلغة أخرى : الصوت . الصوت الفينومينولوجي الذي لا يجب خلطه بالصوت الفيزيقي ، لأنه صوت ترنسندنتالي وشعوري ، صوت يمتلك روحا لا تنتمي إلى العالم .

    بالفصل الأول : " الدليل والأدلة " من كتاب دريدا الآنف الذكر ، يبدأ الفيلسوف الفرنسي بالحديث عن مفهوم العلامة أو الدليل عند هوسرل . إن هوسرل يعتقد بأن بعض العلامات لا تمتلك معنى . وهي تلك العلامات التي يسميها المرء بالعلامات الإشارية أو باختصار: الإشارة ، في مقابل العبارة . الإشارة تنتمي إلى العالم ، إلى عالم بلا وعي وبلا أنا وبلا ذات متكلمة . في المقابل فإن العبارة معنى ، حدث شعوري ، " إرادة قول ".

    وسوف يوضح هوسرل بأن العبارة ليست إشارة إلى شيء ما . إنها ليست علامة وجود ، وحتى لو كانت دائما مرتبطة بخطاب تواصلي . فهذا التواصل يظل دائما بالنسبة لهوسرل سطحيا . إن العبارة تجد أصلها خارج فعل التواصل وبنية الإشارات ، خارج العالم ، في عالم المثال والمونولوج . إن الفينومينولوجيا الترنسندنتالية لا تسمح بتبادل الكلام ، لأنها تفهم التواصل كفعل سطحي ، إن أصالتها تتحقق دائما في غياب الآخرين ، في غياب الاختلاف ، في الحياة المنعزلة للروح .

    العبارة في نظر هوسرل " تجسيد " . إنها تعبر عن معنى موجود قبلا بالوعي . وقد نفهم العبارة كمظهر أو تجسيد لمعنى داخلي . التجسيد أو المظهر أو الخارج ليس طبيعة ولكنه معنى ، إنه صوت الذات المتكلمة . إن بنية الخطاب لدى هوسرل هي مثالية . دال مثالي ، لا يقبل التغير ومدلول مثالي . مثالية لا تعني أكثر من إمكانية دائمة لإنتاج الذات كحضور . الوجود حسب هوسرل وكما بين ذلك دريدا هو تكرار أو عملية استحضار . وهذا التصور يفسر في رأيي هرمية ونهائية النظام الهوسرلياني . إذ أنه نظام لا يكتفي فقط برفض التواصل ، ولكنه يدفن الوجود في أصل معين ويختزله بمكان محدد . يقول دريدا : " للتطور التاريخي حسب هوسرل دائما شكلا أساسيا ، وهو تكوين المثالية ، بحيث أن تكرارها وإذن التقليد يتم الحفاظ عليه للأبد : التكرار والتقليد ، يعني النقل وتجديد الأصل . وهذا التحديد للوجود كمثالية هو تقدير أو فعل أخلاقي - نظري يؤبد الحكم الأصلي لفلسفة في شكلها الأفلاطوني . " (13) .

    الصوت هو تعبير عن هذا الحضور ، عن هذا الشكل الأفلاطوني . ويتساءل دريدا لماذا يعتبر الصوت الأكثر مثالية من بين العلامات ؟ من أين يأتي هذا التواطئ بين الصوت والمثالية ؟ . إن هذا هو السؤال النواة لهذا الكتاب . وعبر طرح هذا السؤال يحاول دريدا تفكيك العلاقة بين المركزية الصوتية والمركزية العقلية . إن دريدا يحاول توضيح أن العلاقة بين الصوت والوعي هي علاقة داخلية . إن الصوت يظل سجين الأنا . لا مكان للآخر ، لا مكان للعالم . فنفس الدال ومعنى المدلول هما نفس الشيء ، الواحد ، المثيل ، الأنا ، الآن هنا . في الوقت الذي أتكلم فيه ، أسمع ما أقول ، أحقق نفسي كحضور، كنفس وروح ، أحصن حياتي . وقد أشار دريدا في كتابه e la grammatologie إلى أن تاريخ الميتافيزيقا ، ليس فقط من أفلاطون حتى هيغل ، ولكن أيضا من ما قبل السقراطيين وحتى هايدغر ، اعتبر دائما العقل كأصل للحقيقة . وهذه الميتافيزيقا نظرت إلى الكتابة دائما كشيء ثانوي وتقني ، يقع خارج الحقيقة . الصوت بعكس الكتابة هو مكون من مكونات هذا الاقتصاد الميتافيزيقي ، إنه دال لا ينتمي إلى عالم التجربة ، إنه الوعي ذاته . إن الكتابة لا تملك معنى ولا تأثيرا ، إنه بالامكان الاستغناء عنها . إن الميتافيزيقا لا تحتاج إلى جسد ، نرجسية هي ، نوع من الإصغاء للذات . الصوت والوجود يدخلان في علاقة تقارب . إن الصوت وكما قال هيغل ، ينحدر من الروح .

    إن الكتابة في هذه النظرة الميتافيزيقية اللاهوتية ، ليست أكثر من وسيط . إنها لا تتضمن حقيقة ، إرادة قول ، إنها تجسيد . إن دريدا يوضح بأن مفهوم القصدية سجين ميتافيزيقا إرادية .. إن إرادة القول هي تعبير عن الحضور ، و كل ما هو خارج الإرادة أو الذات هو بلا معنى ، مثل اللغة والجسد والطبيعة . فالثنائية جسد/عقل تلعب دورا أساسيا في نظرية المعنى الهوسرليانية . العقل إرادة ومعنى ، ولكن الجسد مجرد من كل معنى ، موت . إن دريدا يفهم الفينومينولوجيا كاختزال إلى المونولوج . إنه يقول : " في الحياة الروحية الوحيدة لا نحتاج إلى كلمات واقعية ولكن فقط إلى كلمات متخيلة " (14) .

    إن العلامة في الفلسفة الكلاسية كما في علم اللغة نوع من الملحق أو المساعد ، لا علاقة لها بالحقيقة ، إذ أنه يمكن الإستغناء عنها حين الحديث عن الحقيقة . إن العلامة أو اللغة هي مجرد انعكاس للحقيقة المثالية ، التي تتأسس خارج العالم . إن العلامة أو اللغة ليس لها معنى ، لأن وجودها في العالم يتحقق كجسد . وهذا الفهم للعلامة يقود هوسرل إلى تحقير التواصل ، إن الآخر يمثل خطرا بالنسبة لهوسرل ، إنه تنسيب للمعنى الأصلي . الآخر كعلامة أو كتابة أو إنسان أو طبيعة يظل دائما في فلسفة هوسرل ثانويا ، إنه نوع من الحشو ...

    ويمكننا أن نلخص مشروع ما بعد الحداثة في ثلاثة كلمات مفاتيح : موت الإنسان والتاريخ والميتافيزيقا . وهذا يعني رفض كل المفاهيم الجوهرانية والترنسندنتالية للطبيعة البشرية . رفض للوحدة والانسجام والكليانية واحتفاء بالتشظي والفردية والاختلاف .

    هوامش:
    * رشيد بوطيب : كاتب من المغرب ، مقيم بألمانيا
    (Hegel „Grundlinien der Philosophie des Rechts“ Reclam S.56 (1
    (Garaudy, Roger „La pensée de Hegel“ Bordas 1966,p.13 (2
    (Flechtheim „Hegels Strafrechtstheorie“, Dunker 1966 S.16 (3
    (4) Bürger, Peter „Ursprung des postmodernen Denkens“ Velbrück Wisseenschaft 2000
    Nietzsche, Friedrich „Ecce homo“ dtv S.258 (5)
    (6) جورج لوكاتش "نظرية الرواية" ترجمة الحسين سحبان، منشورات التل، الرباط 1988
    (7) ميخائيل باختين "الخطاب الروائي" ت: محمد برادة، دار الأمان.
    (Derrida, Jaques „La voix et le phénomène“ PUF 1967 (8
    (Wetz, Franz Josef „Edmund Husserl“ campus S.57 (9
    (10)Lagemann und Gloy „Dem Zeichen auf der Spur“ Fachverlag 1988. S.71
    (11) الوصت و الظاهرة، ص.6
    (12) نفس المرجع، ص.59
    (13) نفس المرجع، ص.23
    (14) نفس المرجع، ص.4
    7
                  

10-11-2004, 04:33 PM

Abomihyar
<aAbomihyar
تاريخ التسجيل: 03-19-2002
مجموع المشاركات: 2405

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    سلامات يا أسامة
    حمد لله على السلامة وانشاء الله الديار ترحب بيك.

    من CNN حول رحيل جاك دريدا
    -----------------------------------------------------------


    رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا

    1206 (GMT+04:00) - 10/10/04

    جاك ديريدا

    باريس، فرنسا (CNN) -- توفي آخر الفلاسفة المعاصرين، الفرنسي اليهودي، المولود في الجزائر جاك دريدا، السبت في مستشفى باريسي بعد صراع مع سرطان البنكرياس، وبعدما أشبع العالم علماً وفكراً واستفزازاً خلال عقود طويلة.

    فصاحب النظرية الفلسفية المعروفة بنظرية "التفكيكية الإجتماعية" وضع نهجا لها عممه في الأدب وعلم اللغات والفلسفة والقانون والهندسة المعمارية في مرحلة ما بعد الحداثة.

    واستند دريدا في هذا المنهج الى قطيعة كان أعلنها نيتشه تجاه الميتافيزيقا.

    ويقوض نهج التفكيكية مفهوم الحقيقة بمعناه الميتافيزيقي، وكذلك الواقع بمعناه الوضعي التجريبي, لتحوّل سؤال الفكر الى مجالات اللغة والتأويل.

    وألف ديريدا، بحسب وكالة الأسوشيتد برس، عشرات الكتب. إلا أن انطلاقته الفلسفية كانت عام 1967 حين نشر أول كتابين، خط فيهما أسس فكره "الكتابة والإختلاف" و "عن علم النحو" ثم تبعهما "هوامش الفلسفة" وآخر إنتاجه كان "أشباح ماركس".

    نعاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بقوله "أعطت فرنسا العالم به، واحدا من أبرز الوجوه الثقافية في عصرنا."

    ودرس الفيلسوف الراحل في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وكل من جامعة جون هوبكينز ويال.

    وكان يرفض أن يضع نفسه في البرج العاجي حيث يضع بعض الفلاسفة والمثقفون أنفسهم عادة. ولطالما دافع عن حقوق المهاجرين الجزائريين في فرنسا، وقضايا إنسنانية أخرى.
                  

10-11-2004, 04:37 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    وهنا حوار أجراه الناقد السوري المعروف صبحي حديدي مع ادوارد سعيد.
    وفيه اشارات الى جاك دريدا

    صُــحــبـة إدوارد ســــــعـــيــد

    إدوارد ســـعـيـد: الـحــاجــة الـى الـمـــاركــســـيـة

    حـاوره صـبـحـي حـديـدي

    * واخر الخمسينات ومعظم الستينات شهدت ما يُعرف بـ "تحرير" العلوم الاجتماعية، لاسيما مع أنثروبولوجيا ليفي ـ ستروس وعلم نفس الشعوب البدائية عند ليفي ـ برول. هل كان لهذه الاتجاهات وما يشبهها تأثير مبكّر عليك؟

    - بالطبع. لقد كانت دراستي في اميركا، كطالب جامعي في برنستون ثم مرحلة تحضير الدكتوراه في هارفرد، تقليدية للغاية. لقد تلقّيت تعليماً ممتازاً، وأقصد أنني درست الآداب الانكليزية والفرنسية والايطالية، وآداب الاغريق والرومان، وبعض المسرح، والكثير من الفلسفة، والكثير من الموسيقى. لكن الأمر تمّ بطريقة تقليدية للغاية، وغير نظرية على نطاق واسع. لم أتلق أي درس في النظرية لأن هذه الدروس لم تكن تُعطى، ببساطة.

    في هارفرد كنت أحضّر للدكتوراه في الأدب المقارن، وتوجّب أن أقرأ كل شيء. ولم يكن ثمة تركيز على المنهجية، بل على قراءة مادة واسعة. ومهما كانت طبيعة المنهجية التي اكتسبتها، أذكر انني قرأت وأنا طالب في هارفرد كتاب جورج لوكاش "التاريخ والوعي الطبقي" بترجمة كوستاس أكسيلوس الى الفرنسية. وفي العام ذاته، 1958 أو 1959، قرأت ترجمة ستانلي ميتشل الإنكليزية لكتاب لوكاش "الرواية التاريخية"، وحدي في الحالتين. وبالطبع كنت، في تلك الفترة، قد اكتشفت فيكو.

    ولقد بتّ نهماً الى نصوص النظرية، التي يمكن أن تخرجني، واعتماداً على نفسي أيضاً، من الدرب الشكلاني أو اللاتاريخي أو اللانظري الذي كنت أسير فيه. كنت أحضّر للامتحانات وأكتب أطروحتي عن كونراد، ولكني لم أتوقف عن البحث عن النظرية. وفي عام 1959 أو 1960، على سبيل المثال، اكتشفت هايدغر وميرلو ـ بونتي، وحدي من جديد.

    ثم أنهيت الدكتوراه وغادرت هارفرد في عام 1963 وجئت الى جامعة كولومبيا، وبدأت على الفور أتحسس بعض ما يجري هنا في فرنسا. أولى المحطات كانت لوسيان غولدمان، الذي قادني الى ليفي ـ ستروس، وهذا بدوره قادني الى رولان بارت. وخلال عام 1966 التقيت بهم جميعاً هنا في أميركا خلال مؤتمر ضخم ضمّ جاك دريدا ورولان بارت وجاك لاكان وتزفيتان تودوروف وآخرين. وفي أواسط الستينات كنت قد انخرطت تماماً في أعمالهم، لأنني اكتشفتهم في سياق نوع من "تحرير" الذهن أو التحرر من المناهج الأنغلوـ سكسونية الجامدة، غير النظرية، أو الوضعية، أو ما سمّي آنذاك مقاربة "النقد الجديد" والتي كانت تحت سيطرة ت. س. إليوت الشديدة وتحولت في أميركا الى نوع من العقائدية الجامدة اعتبرتها خانقة.

    ذلك التأثّر، في حالتي، استمرّ نحو عقد من الزمن، بين 1963 ومطلع السبعينات حتى كتاب ميشال فوكو "الانضباط والعقاب"، ثم بلغ نهايته. لقد أدركت انني أخذت منهم ما أردت أخذه، لأنني لم أكن ابن مدرسة قط. ولقد اعتدت لقاء دريدا في هذه القاعة بالذات حيث نجلس، وكان يأتي لإلقاء بعض المحاضرات، وكنّا على ودّ تام. ولكن منهجي نهض دائماً على رفض أنظمة الآخرين، وأدركت أن الفرنسيين كانوا يبنون امبراطوريات ويفتشون عن حَوَاريين. لقد عرفتهم جميعاً بصفة شخصية، ولكني أدركت أن دربي مختلف، وانني أسير في اتجاه آخر. وبالطبع، في أواسط الستينيات وعام 1967 تحديداً، بات العالم العربي مهما بالنسبة إليّ، ولم يكن لدى هؤلاء ما يضيفونه لي على ذلك المستوى. وهكذا أسقطتهم من حسابي.

    أضف الى ذلك انني لم أكن في يوم من الأيام متأثراً بالفيلسوف الفرنسي ألتوسير، رغم أنني قرأته، بل قرأت كل ما كتبه. لكنه لم يحركني وأدركت، في أواخر الستينات، أن اكتشافي لكتابات أنطونيو غرامشي كان أكثر أهمية عندي، فضلاً عن استمرار اهتمامي بأعمال لوكاش الأولى مثل "نظرية الرواية" و"الروح والأشكال" ومقالاته المبكرة عن المسرح. وأعتقد أن لوكاش شخصية فذّة كبيرة.



    *وماذا عن ميشال فوكو؟

    - لقد أثار فوكو اهتمامي، وكنت بين أوائل من قرأوا وكتبوا عن غولدمان وليفي ـ ستروس وميرلو ـ بونتي وفوكو فى أميركا. ولكنهم أثاروا اهتمامي حتى نقطة محددة فقط، لأنهم في نهاية الأمر لم يخاطبوا تجربتي. لقد مثّلوا وجهة نظر فرنسية وجدتها مهمة ومخلصة، وثمة ما يتوجب أخذه منها. لكنها لم تكن تأثيراً من النوع الملازم. ولقد فقدت الاهتمام بالفرنسيين، الذين مالوا الى النزعة الاقليمية شيئاً فشيئاً.



    * في مطلع مسارك الفكري كنت واحداً من قلّة في أميركا قدّموا، وشدّدوا على، الفلسفة الأوروبية، ودراسات النُظُم المختلطة، والفينومينولوجيا، والبنيوية، وسواها. ولكنك كنت قاسياً على دريدا بصفة محددة. لماذا، وهل تغيّر موقفك بعض الشيء؟

    - حسناً، في هذه المسألة كان باعثي على الدوام أمر قد يكون مرتبطاً بواقعة ما، ولكنه يعني الكثير بالنسبة لي:

    أولاً: أعتقد أن دريدا رجل لامع تماماً. لقد أحببته، وقامت بيننا صلات شخصية وطيدة. ولكني مع ذلك شعرت بتلك الحالة الطفيفة من انعدام التوازن بين منهج التفكيك ذي الطابع التشكيكي وربما الفوضوي العالي من جهة، وبين اجتهادات التفكيك المنهجية من جهة ثانية. ولقد بدا لي، وعلى نحو محتوم ربما، أنّ ما يلوح كنزعة تشكيك تأملية ونيتشوية هو حالة يسهل تطويعها لملاءمة مختلف المؤسسات: حقيقة أن دريدا أصبح "دريدائياً"، وأن مدرسة كاملة في أميركا تُعرف اليوم باسم "الدريدائيين". وفي المناسبة، أخبرني دريدا نفسه أن شهرته في أميركا تختلف عن شهرته في فرنسا حيث لا يبدون به اهتماماً واسعاً. ولقد بدا لي أن حالة المؤسسة هذه أخذت تفقده حريته في الاستكشاف الدائم.

    ثانياً: لقد شعرت، وأذكر انني ناقشت هذه المسألة مع نعوم شومسكي، أن أعمال دريدا تنطوي على الكثير مما يثير البلبلة واطلاق العنان للأهواء بدل المحاولة الجادّة للانخراط سياسياً في بعض قضايا الساعة الكبرى مثل فييتنام أو فلسطين أو الامبريالية. لقد شعرت على الدوام بوجود نوع من المراوغة، فأقلقني ذلك. وحين كنت التقي به، كنّا نتبادل حوارات

    مفيدة. لقد زارني في بيتي، ودعوته لإلقاء محاضرات في كولومبيا في أواخر السبعينات. وحين جئت الى باريس لبعض المحاضرات في السوربون، دعاني وعرّفني على زوجته. على المستوى الشخصي كانت الأمور على ما يرام. ولكني شعرت انه بدأ يطوّر حسّ الدفاع عن منطقة وعقيدة جامدة. وكنت أقول في نفسي: ما معنى ذلك؟ اضف إلى ذلك أنني ازددت انغماساً في السياسة، وخيّل إليّ أنه يزداد ابتعاداً عن السياسة.

    ثم هنالك الكثير من نفاد الصبر. لقد بدت لي نصوصه أكثر عدداً مما ينبغي، وكانت تدور في نطاق أكثر إفراطاً من أن يكون مفيدا. وأذكر ذات مرّة أن اثنين من طلابي، وكانا من جنوب أفريقيا، كتبا نقداً لقطعة من دريدا حول الأبارتيد. وتناهى إليّ في ما بعد (أما هو فلم يخبرني) أنه اعتقد أنني أحرضهما على الكتابة ضده. وهكذا أخذت هذه البارانويا تقلقني. انه أكبر منّي سنّاً، ولكني لم أنظر الى نفسي كمؤسسة أبداً. أنا لا أعبأ بما يقول الناس عنّي، وهم يذكرونني بقدر من السوء لم يسبق قط أن تعرّض له هو. أعتقد أنه منمّق على نحو مفرط. لقد أحببته، وأنا معجب به، وهو رجل لامع، الى آخره. ولكني، ربما، أجد حالة التعقيد هذه أكثر تعقيداً مما يتوجب أن تكون عليه.



    *أما زلت تعتقد أنه كاتب مقالات أكثر منه فيلسوفاً؟

    - دونما ريب، ولكني أقصد المديح هنا. نيتشه كان كاتب مقالات، والأمر يعتمد على ما يقصده المرء من كلمة "فيلسوف". لنقل أن تعريفي للفيلسوف يتضمن شخصاً مثل هيغل، الذي لا أحبه ولم يسبق لي أن شعرت بالارتياح مع التراث الهيغلي. غرامشي كان كاتب مقالات، وكذلك تيودور أدورنو. وهكذا فانني أفضّل كاتب المقالات، وأنظر الى نفسي ككاتب مقالات. ولكن ما يقلقني في دريدا هو طابع علاقته بعصره، الأمر الذي كان إشكالياً للغاية في نظري.



    * كتابك الأول "جوزيف كونراد و رواية السيرة الذاتية"، الذي صدر عام 1966 وكان في صيغته الأصلية أطروحتك للدكتوراه في هارفرد، كان أول دراسة تتناول العلاقة بين مراسلات كونراد الخاصة ورواياته القصيرة. وأنت في الكتاب تركّز على نقاط ستصبح موضوعات أساسية في نقدك اللاحق للرواية: الهوية، الذات، فينومينولوجيا الوجود، التوترات الديناميكية بين الأمم والكيانات الفردية، النزعة الأوروبية، "الأدبي" في امتداده في المجتمع والتاريخ، الى آخره. هل كان الكتاب خطوة أساسية نحو ذلك النظام المنهجي الذي ستطلق عليه اسم "القراءة الطباقية"؟

    - هذا الكتاب، وكتاب "البدايات: القصد والمنهج"، كانا مهمين بمعنى تجريب الصواب والخطأ. لقد كنت بطريقة ما أحاول العثور على أرض مشتركة بين المشكلات الأعمق في التجربة المعيشة، وهي في حالة كونراد مشكلة الهوية، أو بالأحرى غياب الهوية أو انخلاع الهوية المنكسرة، ومشكلة اللغة، والاستمرار. ولقد ركّزت على الروايات القصيرة لأنني أحسست انها الموقع الذي تبدّى فيه حرص كونراد على تطوير الروايات القصيرة الى روايات طويلة، أو على الذهاب من الشكل القصير الى الشكل الكبير، الأمر الذي كان مشكلة على الدوام.

    وهكذا تناولت جميع هذه الجوانب الإشكالية عند كونراد، وحاولت وضعها في سياق موضوعي نسبياً عند القارىء: حياة كونراد، مساره، نجاحه، فشله، ناشروه، أصدقاؤه، الإبحار، بولونيا... وبدأت أطور منهجاً لتناول المسألتين معاً، على نحو طباقي. وأعتقد انني نجحت، بطريقة متواضعة. ولكني هنا اعتمدت كثيراً على الفلسفة الوجودية، وفينومينولوجيا ميرلو ـ بونتي، وعلى هايدغر كما ذكرت.

    في "البدايات" كنت، كما هو واضح، أحاول تكوين سبيل جديد لنفسي، واعتقدت أن التشديد الرئيسي يقع على فيكو لأنه كان أول من أوضح ان البدايات لا تُكتَشف، بل تُصنَع وتُخلَق وتُصاغ. أقصد القول انني، وأنا في مطلع الثلاثينات من عمري، كنت قد أكملت الأشياء التقليدية، ووضعت كتاباً وبعض المقالات، والمطلوب الآن أن يكون لي اسم بطريقة ما. ولقد استغرق ذلك زمناً طويلاً. بدأ في عام 1966، وانقطع بفعل الحرب، ثم أحسست أن الضرورة تقتضي الاهتمام بمنهج ما في خلق أي مشروع. اختيار المنهج كان شكلاً من أشكال البداية، لكن المركزي فيه بالطبع كان مشكلة القَصّ أو النص السردي. من أين يبدأ المرء؟ إلى أين يذهب المرء؟ القصّ السردي لا بصفته مسألة معطاة، بل كشكل من التحرّش، وكيف يُقحَم على احساس المرء بنفسه، إلى ما هنالك.

    ثم جاء بعد ذلك سؤال برمّته حول نقد مطابق لتلك الفكرة، وتكثّف الأمر منذ اهتمامي بالبنيوية وميشال فوكو، ومدى ملاءمتها. لقد اعتبرت ان الكتابين تجريبيان أسفرا عن نتائج غنيّة للغاية. وحدث أنهما تضافرا تماماً مع حرب 1967 وعودتي الى العالم العربي. لقد ذهبت الى عمّان في عام 1969، وكنت فيها عام 1970 خلال أحداث أيلول الأسود، ثم بدأت انخرط في الحركة الفلسطينية. وفي العام ذاته تزوجت من امرأة لبنانية، هي مريم قرطاس، وخلال سنتي 1972ـ1973 أنهيت "البدايات" في بيروت حيث أمضيت السنة الأكاديمية متفرغاً. وهناك بدأت أدرس اللغة العربية، إذ لم يسبق لي أن قمت بذلك على نحو جدي في المدرسة، وكنت قد انصرفت عن دراسة العربية منذ سن الخامسة عشرة. تلقيت دروساً يومية على يد أنيس فريحة، وقرأت معه العديد من النصوص الحديثة والكلاسيكية: طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ. ثم كنّا نعود إلى التراث، لنقرأ الغزالي وابن خلدون، وكانا بين اكتشافاتي الفكرية الكبرى في تلك الفترة، فضلاً عن العديد من النصوص التاريخية والشعرية.

    ذلك، كما أعتقد، قادني الى مسألة الاستشراق. ولقد خطرت لي الفكرة حين عدت إلى هارفرد كأستاذ زائر في عام .1974 تلك كانت فترة حرب 1973، وبدأت أرى كيف يمكن ربط الأحداث المروية بالتمثيلات الشعبية، وكانت الأحداث المروية هي الشيء الرئيسي، وبعدها تأتي مشكلة التمثيل كمسألة تالية. وهكذا بدأت الاهتمام بما سيتحوّل في ما بعد الى كتاب "الاستشراق".



    *قبل مناقشة كتاب "الاستشراق" توجد نقطة ذات صلة به. في معظم الكتابات التي تدور حول الإسلام أو الشرق عموماً، ينصبّ التركيز على ما يمكن وصفه بمراكز العمران، وعلى المراجع والنصوص. أما المجتمع والحياة اليومية والتراث الشفهي والثقافة الشفهية فهي شبه غائبة. كيف تفسّر هذه الظاهرة؟

    - في مطلع الثمانينات فقط اكتشفتُ مدرسة من المؤرّخين الهنود تدعى "دراسات التابع"، يرتكز عملها بأسره على المصادر غير المكتوبة. انها مدرسة في الدراسة التاريخية تقول بأن تاريخ الهند حتى ذلك العهد هو التاريخ الذي كتبته النخبة القومية تحت تأثير البريطانيين. أما ما أثار اهتمامهم فهو تاريخ الهند كما يُرى من خلال صراع فقراء المدن وجماهير الأرياف التي لا تمتلك أية نصوص.

    وحتى أوان ذلك الاكتشاف لم أكن قد أدركت وجود تواريخ أخرى، شعبية وغير مكتوبة، يمكن ابتكار منهج كامل خاص بها، مثلما يفعل المؤرخون الهنود. ولكنني لم أكتشف الجهد ذاته في العالم العربي. لست معنياً بالفولكلور والطقوس الشعبية، إذ أنني ابن مدينة أساساً. ولكنني معني بوجود أدب آخر عابر لما هو مدوّن، وهو ما لم تركّز عليه كمجموعة أي مدرسة من مدارس المؤرخين العرب. ولا بدّ من القيام بالعمل في إطار مجموعة.

    لقد ظلت الهند مستعمرة بريطانية طوال 400 سنة، وكان التعليم هناك خاضعاً للهيمنة البريطانية. ومع ذلك فان عدداً لا بأس به من المثقفين الهنود تمكنوا، اثر الاستقلال في عام 1937، من استثمار ما تعلّموه على أيدي البريطانيين، وتفرعوا عنه لدراسة ماركس وغرامشي وبارت وسواهم، واستخدموا هذا المزيج الجديد من المقاربات لتكوين مقاربة أصيلة تماماً، وقاموا بتطبيقها على تاريخهم الخاص.

    ويساورني الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر. ما إن يقرأ الواحد منّا كتاباً من تأليف فوكو أو غرامشي حتى يرغب في التحوّل الى "غرامشوي" أو "فوكوّي". لا توجد محاولة لتحويل تلك الأفكار الى شيء ذي صلة بالعالم العربي. نحن لا نزال تحت تأثير الغرب، من موقع اعتبرته على الدوام دونيّاً وتَتَلمُذياً. تأمّل العدد الكبير من الأفراد في شمال أفريقيا، في المستعمرات الفرنسية السابقة، ممن يكتبون وكأنهم تلامذة فوكو أو دريدا أو تودوروف. انها نوع من فانتازيا التكرار التي أجدها مضحكة في معظم الحالات. والقسط الأعظم منها راجع في نظري، وهذا مجرد انطباع، الى فهم ناقص لحقيقة الغرب.

    انهم يركزون على جانب واحد فقط. على سبيل المثال، يبدأ أحدهم بدراسة فرنسا من دون أن يفقه شيئاً عن العالم الأنغلو ـ سكسوني. أنت لا تستطيع دراسة الغرب هكذا، واعتقد أنك لا تستطيع القيام بذلك من دون معرفة الكثير عن الولايات المتحدة أساساً، لأنها صاحبة التأثير الأعظم ليس على العالم الغربي فحسب، بل على العالم الحاضر بأسره. لا توجد كليّة واحدة في أي جامعة عربية تتخصص في الدراسات الأميركية. أمر مدهش! توجد جامعتان أميركيتان كبيرتان، وربما أساسيتان، في العالم العربي: واحدة في لبنان والأخرى في القاهرة. ولكن لم يسبق لهاتين الجامعتين أن درّستا أميركا. هذه ليست اشارة ضدهم بل ضدنا نحن، لأننا لم نطلب أن تضمّ جامعاتنا كلّيات تتخصص بالدراسات الأميركية وتدرّس أميركا على نحو جدّي وعلمي، بالإضافة إلى تدريس ما تبقّى من عالم الغرب. لدينا واحد من اثنين: إمّا شعارات عريضة حول الغرب (استعمار، امبريالية...)، واما مدارس صغيرة من المقلّدين (الهيغليين، الماركسيين، الدريدائيين...) الذين لا يتقنون اللغة نفسها. على سبيل المثال، غرامشي مترجَم الى العربية عن الإنكليزية وليس الإيطالية، ولوكاش مترجم عن الفرنسية وليس الألمانية، وماركس عن الإنكليزية. هذه مسألة إشكالية للغاية.

    ولهذا اعتقد أننا لم ننل قسطنا بعد من سيرورة التنوير والتحرر، بالمعنى الفكري. وأعتقد أن اللوم يقع على المثقفين، إذ ليس وفي وسعنا أن ننحي باللائمة على الإمبريالية أو الصهيونية فقط.



    * أنت تمتدح كثيراً عمل ماركسيين من أمثال لوكاش وغرامشي وأدورنو ورايموند وليامز. وذات مرّة قلت: "لقد تأثرت بالماركسيين أكثر مما تأثرت بالماركسية أو أي نزعة مكرّسة". كيف ترى الماركسية اليوم؟

    - الفقرة التي تقتبسها صدرت عنّي في طور كان يضفي بعض المعنى على اليسار الماركسي الذي أقمت معه صلات طويلة، كشخص متأثر لا كعضو منتسب لأي حزب. منذئذ، في أميركا أساساً، وفى أمكنة أخرى من العالم العربي، اختفى اليسار الماركسي. وانني اليوم أجد نفسي في وضع غريب أحاول فيه إعادة طرح مسألة الماركسية، كشيء يمكن إحياؤه على نحو انتقائي بهدف ادخاله في الخطاب المعاصر، سواء في العالم العربي أو في العالم الثالث عموماً، فضلاً عن الولايات المتحدة في طبيعة الحال.

    هنا أشعر أن الماركسيين، من النوع الذي اقترنت به، قد تخلّوا عن الماركسية هم أنفسهم، فباتوا ما بعد ـ ماركسيين ومحافظين جدداً واستهلاكيين أو تحريفيين، الى آخره. وهكذا فإن المسألة عندي هي نفخ الحياة في خطاب معارض مهم، يقع على عاتقه اليوم واجب العثور على بدائل للإيديولوجيا الماركسية، وللوضعية الجديدة كما يمثلها أشخاص من أمثال ريشارد رورتي، وللنظرة القَدَرية التأملية للعالم، والتي تكتسح العديد من المثقفين هذه الأيام.

    ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدّ رئيسي كما اعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح حول ما إذا كان من الممكن القيام به أم لا. وأجد نفسي معنياً بالسؤال على نحو جدّي، ومشدوداً للغاية الى النموذج الذي أرساه أشخاص مثل غرامشي ووليامز. السؤال أيضاً: ألا يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو : أكثر من ذي قبل.



    * كنتَ رائداً في عملية مدهشة من قراءة، وإعادة قراءة، وإعادة مَوْقعَة فرانز فانون، خصوصاً في نظريات الأدب والنقد ما بعد الكولونيالي. كيف ترى صلاحية فانون في عصرنا؟

    - حسناً، أشعر ان القراءة الكبرى لعمل فانون لم تتم بعد. توجد أنماط مختلفة من تأويل فانون يجيب كل منها عن اهتمامات مختلفة، ضيّقة الأفق بعض الشيء: القراءة النسوية، العالمثالثية، الماركسية، التفكيكية. لقد بدأت مقالة حول هذا الموضوع تحت عنوان "إعادة النظر في النظرية المترحّلة"، أنظر فيها الى عمل فانون، "المعذبون في الأرض"، من منظور لوكاشي.

    ولكني أعتقد أن قراءة فانون كمفكّر متجانس لم تجر بعد. هومي بابا قام بدراسة لافتة لكتاب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، وهو كتاب جيد للغاية، ولكنه أيضاً سوسيولوجي وسِيَري. انني اتحدث عن فانون المفكر، الرجل ذي المواهب المتعددة والرؤى الرفيعة التي تبدأ من ميدان التحليل النفسي لكي تعبر الى الوجودي والماركسي والكولونيالي، وهذا ما يتوجب القيام به. أما صلاحيته لعصرنا فهي مدهشة، وأرى أهمية خاصة في طرح السؤال الآتي ومناقشته: أيمكن هذه القراءة أن تتيح لنا اشتقاق نظرية حول التحرّر، أم لا؟.



    * فقرات من حوار مطول جرى في باريس، تموز .1994








                  

10-11-2004, 04:40 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
جاك دريدا:الدين في عالمنا (Re: osama elkhawad)

    دريدا وآخرون يتأملون:
    الدين في عالمنا

    ليس من السهل قراءة كتاب مثل هذا.
    لابد من اعادة المحاولة مرات، ليس فقط لأهمية الموضوع أو الأسماء التي ناقشته إنما كذلك للعمق الذي حوته الآراء المقدمة لتلك الحلقة الدراسية التي حملت عنوان¢الدين في عالمنا¢.

    أشرف علي عمل هذه الحلقة جاك دريدا وجياني فاتيمو، والأخير تحدث عن ظروف ميلاد هذا العمل في بداية الكتاب الذي صدر عن دار توبقال بترجمة ل:محمد الهلالي وحسن العمراني.

    يفتتح جاك دريدا المناقشات مثيرا اسئلته تحت عنوان¢ إيمان ومعرفة منبعا الدين في حدود العقل وحده¢ وجزء من العنوان يفصح بالطبع عن رؤية دريدا فهو يقول أنه والمشاركون ليسوا رجال دين تابعين لمؤسسة كهنوتية وفي نفس الوقت فهم ليسوا اعداء للدين مثل بعض فلاسفة عصر التنوير. يقصد دريدا بهذا تحرير الدين من كل سلطة خارجية دون تحريره من كل إيمان، أو بتعبير آخر الالتزام بالموقف الحذر والمعلق للأحكام.
    يستخدم دريدا هذا الحياد لمناقشة مسألة الدين في عصرنا هذا، دون أن يمنعه هذا الحياد من قول ما يؤمن به ويعتقده، خاصة فيما يفرق بين الأديان السماوية الثلاثة.

    ودراسات الكتاب جميعها تحاول تأمل ذلك التعقيد الذي أصاب مسألة الدين في عالم يبدو وكأنه يبتعد كل يوم عن الدين، تلك المفارقة في حاجة إلي جهد فلسفي لفهمها وهو ما حاول المشاركون في الكتاب تقديمه، والذي لم يكن بينهم من يمثل المسلمين، كما أسف دريدا


    --------------------------------------------------------------------------------


                  

10-11-2004, 04:47 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    تأليف: برنارد هاريسون

    ‏ الميثولوجيا البيضاء

    دريدا ونقاده في العقل والبلاغة

    ترجمة: رشاد عبد القادر

    تمهيد:‏

    في البداية نُشِرَتْ مقالة "الميثولوجيا البيضاء" عام 1971 في مجلة "البويتيك"، وصدرت ثانية- بوصفها المقالة الأطول من بين إحدى عشرة مقالة- في "هوامش الفلسفة" 1972؛ وهي مقالات "تشق طريقها" بمناحٍ واتجاهاتٍ متعددة "عَبْر تناول صارم مترابط للبقع العمياء، مناطق القلق، والتناقضات المتنوعة التي تميِّز خطاب العقل الفلسفي". إنّ ما تتناوله الميثولوجيا البيضاء معالجةً هو، بشكل عام، موقع الاستعارة في الخطاب الفلسفي. وقد اقْتُبِس العنوان عن الحوار اللاذع والذكي بين "آرِيْستْ Ariste وبوْلِفِيل Polyphile، أو لغة الميتافيزيقيا" في كتاب حديقة أبيقور لـ أناتول فرانس. حيث يكتشف آرِيْست الميتافيزيقي بوْلِفِيل وهو يتصفح "أحد الكتب الصغيرة التي تضع حكمة العصور بين يدي القارئ، مُسْتَعْرِضاً جميع المذاهب، الواحد تلْو الآخر، من اللإيليين السالفين إلى الانتقائيين المتأخرين، مُنْتَهياً إلى لاشليير M.Lachelier". بَيْد أن بولفيل غير مبالٍ بنيل الحكمة. فهو، مستبقاً بذلك على نحو لافت اهتمامات دريدا، لا يُعْنى إلا بـ"الشكل اللفظي" للمنطوقات المميزة للميتافيزيقيا التي عرضها في ملخص صغير وعلى نحو عشوائي عبر حواره، فأوصلته إلى المثال الرائع: "تتملَّك الروح الله باتِّساق إذ تشترك في المطلق." ‏

    يسأل آريست بولفيل، بعد أن يلاحظ بحذر: أن "كل شيء يشير‏ [إلى...]، وأنه يمكن تأسيس استنتاج من هذا القبيل على نحو راسخ في المحاجة، يسأله إلام أفضت به أفكاره عن "الشكل اللفظي" للقضايا الميتافيزيقية. يرد هذا الأخير على سؤاله عبر وصف لغة الميتافيزيقيا باستعارة مسهبة مطولة. فالميتافيزيقي يشبه شاحذ السكين الذي يختار سن العملة المعدنية والأوسمة بدلاً من المقصات والسكاكين. بعد أن يمحو حاشية القطعة المعدنية النقدية؛ التاريخ والصورة، بحيث لا يبقى أثر لـ فكتوريا أو وليم أو الجمهورية، يقدم قطعه المعدنية النقدية المشوَّهة، بما أنها لم تعد تملك أية قيمة أو أصل قومي يميزها، على أنها سك عملة قد تحرر من قيود الزمان والمكان، عملة ذات قيمة لا تثمَّن وتداول لا حدود له. إذن، بحسب بولفيل، ومع سيرورات التجريد التي تولد المفردات الميتافيزيقية: "كل مصطلح أولي للغةٍ يمثّل في الأصل شيئاً حسياً معيناً". حتى في أعلى مستويات التجريد يبقى خطاب الميتافيزيقي مسكوناً بالدلالات المجسدة المادية الممحوَّة والأصلية لمصطلحاته، إذ تستقي الادعاءات الميتافيزيقية من هذه الفحاوي المتآكلة المتنصلة وحدها أياً يكن المعنى الذي لم تزل تمتلكه. التجريد نفسه احتيال لأنه استعارة مقنَّعة؛ فالفلسفة الأخلاقية، مثلاً، تبدأ في تضاد الصور، في تضاد السبل القويمة والملتوية. وبدلاً من أن تحررنا من الاستعارة باسم العقل، تمارس الميتافيزيقيا باسم التجريد والعبارات العامة أسلوباً في التفكير لم ينجح إلا في أن يحجب عن نفسه استعاريته العميقة بإبعاده الاستعارة إلى هوامش نشاطها "الرسمي". وبدلاً من مناصرة العقل والحقيقة في حرب أفلاطون بين الشعراء والفلاسفة وبِقَدَر غريب، "يُجبَر الميتافيزيقيون الذين يفكرون في الهرب من عالم الظواهر على العيش أبد الدهر في المجاز. شعراء يرثى لهم إذ يجعلون ألوان الحكايات الرمزية القديمة باهتة، وهم أنفسهم ليسوا إلا جامعي الحكايات الرمزية، صُنّاع الميثولوجيا البيضاء". وكما يعبر دريدا، إن مجرد خطأ مطبعي، وما يلمح إليه يظهر في نسخته فعلاً، كفيل بتحويل آريست Ariste، المدافع عن الميتافيزيقيا، إلى آرتيست [ 'Artiste'فنان].‏

    يقدم آريست وبولفيل الثيمات الرئيسة لمقالة دريدا الذي يفترض أن يكون القارئ متآلفاً معها. وتعد مقالته أيضاً مصدر نوعين من اللعب بالكلمات التي يستخدمها دريدا على نحو مميز، هنا كما في أمكنة أخرى، ليبني تضمينات محاجَّته ويعرضها، وكلتا اللعبتين غامضتان بما فيه الكفاية، ما يتطلب شرحاً للقارئ الذي يتناول المقالة للمرة الأولى، على الرغم من أن الأمر قد يقع تحت طائلة الحذلقة. الهم الأول: العنوان. إذ ثمة نسق من ظلال المعاني لمفردة Blanche في الفرنسية يمتد عبر المفردات التي لها الأصل ذاته كـ blanchir (يبيّض [قماشاً]، يبيض [بمادة مبيضة]، يحل، يعتق، blanchisserie المصبغة، وblanchiment (تبييض الجدران، تبييض أوراق النبات [منعها من الاخضرار]، وغيرها). يوحي السياق أن هذا النسق وحده هو ما كان قد وضعه مؤلف آريست وبولفيل نصب عينيه، رغم أن بعض ظلال المعاني التي يحتوي عليها - كتهميش وحجب مظاهر نشاط المرء، ودس الأشياء تحت البساط- ستكون أيضاً في المركز من محاجة دريدا. غير أن Blanche تنطوي أيضاً على ظلال معان عرقية (العرق الأبيض، وغيره)، ويتخذ دريدا خطوات يفعِّل فيها هذا النسق أيضاً في ذهن القارئ. إن الميثولوجيا التي يجمعها "شعر" الميتافيزيقيا "الكئيب" هي، في نظر دريدا، الميثولوجيا المميِّزة للغرب وللعرق الأبيض. وكما أسلفنا، ليس ثمة بيِّنة في السياق أن أناتول فرانس، صاحب العبارة الأصلي، قصد أن يتم تناولها هكذا. لكن يمكن للمرء أن يجيب بروح نقد جامعة ييل في الثمانينيات: إن دريدا، في دفعه لظلال معانيها [الميثولوجيا البيضاء] في ذلك الاتجاه المبرر لغوياً بأكمله، إنما يقيم الدليل على قوة رأي من آرائه الأكثر مركزية وهو أن اللغة تفوق القصد، فالمتكلم لا يمكنه، بوضع توقيعه على نص ما، أن يؤسس أي حق في أن يستبعد نسقاً ثانوياً من القراءات المحتملة بوصفه غير مقبول ومتنافراً مع مقاصده؛ وفي نهاية الأمر، لا تستند الكيفية التي نفهم بها ما نقرؤه إلى مقاصد الكاتب الخاصة، بل إلى القدرات المتأصلة في اللغة التي اختار الكاتب أن يكتب بها.‏

    مصدر دريدا الآخر للعب بالكلمات في المقالة هو مفردة exergue "حاشية القطعة المعدنية". يقدمها قاموس أكسفورد بوصفها ذات أصل فرنسي، وهي مصوغة بوضوح من اليونانية X خارج و?pyov العمل: "قد يقصد بها، كونها شبه يونانية حولت إلى الفرنسية hors-d'oeuvre (المشهّي)، شيء ما يقع "خارج العمل". ومن حيث معناها النُّمِّي التقني، حاشية العملة النقدية هي "الحيِّز الصغير الذي يكون عادة على قفا العملة المعدنية أو الميدالية، في أسفل الصورة أو الرسم الرئيسي، المخصص للنقش الثانوي كالتاريخ والحرف الاستهلالي من اسم النقاش، وغيرها. والنقش المدرج هناك أيضاً." إن ما ينطوي عليه هذا التعريف، سنرى أنه عنصر أساسي في لعب دريدا على المصطلح، هو أن محتويات الحاشية تحدث صدعاً في الاكتفاء الذاتي للقطعة، إذ تربطها بالزمن، تربطها بصانع وبأصل وبمكان في التاريخ. بمعنى ما، لا تمثل محتويات الحاشية جزءاً إضافياً للنقش بقدر ما تمثل ما وراء النقش، تمثل تعليق العملة النقدية على فشلها في أن تفسِّر نفسها بنفسها بقدر ما يتعلق الأمر بوجودها ومنابعها، وتمثل تعليقاً على فشلها في أن تظل شيئاً "متحرراً من الزمان والمكان"، شيئاً ذا قيمة لا تُثمّن وتَداوُل لا حدود له.‏

    محاجَّات دريدا‏

    يطلق آريست غير المقتنع طلقة الوداع، بانسحابه المفاجئ، قائلاً: "لو أنك ساجلت وفق الأصول، لتمكنت من تفنيد محاجاتك بسهولة تامة". وقد وُجِّهت التهمة نفسها إلى دريدا. الحق، بات متعارفاً عليه أن لا يتهم أفراد الدوائر الفلسفية التي تتحدث اللغة الإنكليزية دريدا بأنه لا يساجل "وفق الأصول" فحسب، بل حتى لا يملك محاجّات البتة ليقدمها، ويعلل التأثير الهائل لأعماله، حسب الذائقة، إما بوصفه ضلال دُرْجة أدبية، أكثر مما هي عقلية، أو بوصف [هذا التأثير] نتاج جيل جديد من الفلاسفة والنقاد الذين لم يعودوا يأخذون المحاجة على محمل الجد أكثر مما يفترضون أن دريدا يأخذها.‏

    يندرج معظم الفلاسفة التحليليين في المعسكر الأول. أما ريتشارد رورتي، الذي يندرج، إن لم يكن يكوّن، في المعسكر الثاني، فيعتبر أن دريدا يعمل بدرجة أقل من خلال المحاجة مقارنة بسيرورات "إعادة بناء النص سياقيا"ًrecontextualization، تشبه تلك التي يتبين بها جابي ضرائب "مبدع" إمكانية جدولة وجيهة لمادة ما في جدول مفضلاً إياه على جدول آخر.‏

    يبدو لي أن كلتا الاستجابتين لا تملكان الكثير لينصح بهما. إذ لا أجد في دريدا مقلداً فرنسياً لـ رورتي ولا أجده مشعوذاً. إن أحد الأسباب التي تكمن وراء الصعوبة التي يجدها الفلاسفة المثقفون تحليلياً في فهم تفكيكية دريدا بوصفها محاجة، أو ما يفهمونه على أنه محاجة، هو أنهم يجدون مشقة في تحديد الآراء الفلسفية التي يهاجمها على وجه التحديد. تقدم الميثولوجيا البيضاء حالة وثيقة الصلة بهذه النقطة. يبدو أن دريدا يهاجم إمكانية وجود خطاب غير استعاري بذاته. إلا أن معظم الفلاسفة التحليليين سيؤكدون أنه من العبث افتراض أن هجوماً كهذا قد ينجح. إن لم يكن بمقدورنا التمييز في الممارسة بين ما هو حرفي [ظاهر اللفظ] وما هو استعاري في استخدامات المصطلحات، فلن نضمر مثل هذا التمييز في استعمالنا لها؛ لكن إن استطعنا التمييز بين الاستعاري والحرفي يمكننا آنذاك أن نقوم بإبعاد الاستعارة عن أنواع الخطاب التي ليس للاستعارة فيها وظيفة، أو لها وظيفة تشويشية وتحريفية ليس إلا. والدافع وراء استبعاد الاستعارة من الخطاب العلمي قديم قدم مقالة جون لوك واستمر هذا الاستبعاد بنجاح إلى حد كبير طوال العقود الثلاثة التالية من خلال المناهج التي يوصي بها لوك في التحديد الدقيق للمصطلحات وإواليات اشتغالها. من الواضح أن الدور المتزايد لعلم الرياضيات في العلوم الطبيعية ساعد هذه السيرورة في بداياتها؛ ولا شك أن تساؤل دريدا عن احتمال وجود الاستعارة في علم الرياضيات وثيق الصلة هنا. إن كان الخطاب غير الاستعاري ممكناً في علم الرياضيات، وبالتالي في الفيزيقا، فلِمَ لا يكون ممكناً في الفلسفة، لا سيما في فلسفة ذات أهداف ومناهج مرتبطة عن كثب مع أهداف العلم؟‏

    إذا لم يغرر بنا تضييق الخناق على دريدا بهذه الطريقة، من الضروري التذكر أن ثمة أكثر من طريقة لتأسيس التمايز بين ما هو حرفي وما هو استعاري. تبرز مشكلة الاستعارة في الموروث التحليلي بوصفها نتيجة تحدٍّ مُدْرَك طرحته المنطوقات الاستعارية على مبدأ فريج Frege ومفاده أن معنى تقرير ما، وليكن S ، هو صدق شروطه [الشروط الضرورية والكافية لحقيقته]. ويقتضي مبدأ فريج - في أبسط أشكاله- مبدئياً على الأقل، كشرط لكمال المعنى إمكانية رؤية كيفية البت فيما إذا كان S [شيئاً] حقيقياً أم مزيفاً. ما يراود ذهن معظم الفلاسفة التحليليين حين يقولون إن تقريراً ما، كـ"الثلج أبيض"، حقيقي حرفياً أو أنه مستخدم حرفياً، هو أن هذا الشرط قد تحقق. والتقرير أو السياق أو استخدام الكلمات الاستعاري، كـ"الوقت، مهووس يُذرّي التراب"، هي إحدى الحالات التي يظهر فيها الرابط الفريجي مفصوم العرى بين المعنى والحقيقة. فهل حقيقةً الوقت مهووس يذري التراب؟ يعجز السؤال عن أن يكون ذا فحوى. لكن لا يبدو أن أبيات تنيسون تعجز عن أن يكون لها فحواها. فهل ثمة، إذن، نوع من المعنى؛ معنى استعاري، لا يمكن فهمه في علاقته مع افتراضات صدق الشروط الآنفة الذكر؟ إن أكثر المجادلات انتشاراً في الوقت الحاضر، تلك الدائرة بين بلاك ودافيدسون، بخصوص الاستعارة تتعلق تماماً بهذا السؤال الأخير.‏

    العقبة الحقيقية التي يواجهها الفيلسوف التحليلي في فهم آراء دريدا في الاستعارة لا تكمن فقط في أن دريدا لم يكن مهتماً بتاتاً بتلك المشكلة، بل تكمن أيضاً في عدم اهتمامه بالكيفية التي يتم بها تأسيس التمايز بين ما هو استعاري وما هو حرفي؛ الأمر الذي تقوم على أساسه تلك المشكلة. إن فكرة المعنى بعامة، في حالة دريدا، تفسر دائماً بطريقة لا فريجية، أو ما قبل فريجية؛ أي ليس من حيث صدق الشروط، بل من حيث العلاقة بين الدال والمدلول التي يأخذها دريدا - وإن كان لا ينفك يفككها- عن سوسير؛ ويصدق الأمر نفسه على مفهوم الاستعارة، أو بالأحرى على التضاد المؤسِّس بين ما هو استعاري وما هو حرفي. فالخطاب الحرفي، في نظر دريدا، هو في الواقع خطاب نستطيع فيه تعيين مدلول كل عبارة، ولتكن E، دون إحالة إلى العلاقة بين E والعبارات الأخرى في اللغة. وعلى النقيض من ذلك، الخطاب الاستعاري هو خطاب يقتضي تعيين مدلول لكل عبارة فيه الإحالة إلى العلاقات بين E والعبارات الأخرى.‏

    إن هذه الطريقة في رسم التمايز بين الاستعاري والحرفي متأصلة، بالسبل التي يتعقبها دريدا في القسم الثالث من الميثولوجيا البيضاء، في تعريف أرسطو للاستعارة: "الاستعارة هي تحويل إلى شيء ذي اسم يدل على شيء آخر". ما يريده دريدا منا أن نلاحظه في هذا التعريف: هو افتراضه الضمني أن دلالة الاسم تبقى ثابتة تناسباً مع سيرورة "التحويل" أو "النقل" الاستعارية. وفي غمرة نقاش المعرفة، يرى أرسطو، في كتابه "فن البلاغة"، وفقاً لترجمة فريز J.H. Freese أن "الكلمات تعني شيئاً ما". وفي تتبعه ترجمة غارنيير الفرنسية، يعطي دريدا هذا التعريف تحويراً يجر به أرسطو إلى نطاق الفلسفة العقلانية لما بعد النهضة: "إن الخاص في الأسماء أن تدل على شيء ما،" ومن هنا يورط دريدا أرسطو في نظرية من نظرية المعنى، مع أن فتغنشتين يستمدها من أوغسطين، فهو يعيّنها أيضاً بوصفها جذراً عميقاً: "لكل كلمة معنى. والمعنى مترابط مع الكلمة. إنه الموضوع الذي تمثله." إذا كان معنى الاسم هو ما يدل عليه، فإن ما يتم "نقله" في الاستعارة هو تلك الدلالة. والآلية اللفظية التي تؤثر على النقل تصبح، على نحو مترابط، مجرد وسيلة نقل تدخل في أي حال من الأحوال في جوهر، بوصفه معنى، ما يتم نقله. هكذا يصل المرء إلى ما وصفه دريدا سابقاً بكونه "الأطروحة الفريدة للفلسفة" في أن الفحوى الذي تنقله الاستعارة (يتكلم دريدا هنا عن تضادات مؤسسة معينة للميتافيزيقيا يعتبرها استعارية بالضرورة في صفتها)" هو جوهر مستقل بصرامة عما ينقله."؟‏

    إن تحديد الاستعارة بهذه الطريقة، أي بوصفها تضاداً بين استخدام مفردة للإبانة عن الكيان الذي تدل عليه على نحو صحيح أو دقيق (المصطلح الأرسطي الذي يبدو لدريدا أنه يساند هذا المعنى هو [proper] kurion وبين استخدامها "على نحو خاطئ" بخصوص كيان آخر لإظهار شيء من التشابه بين ذاك الكيان أو تماثله مع الكيان الأول، إن هذا التحديد للاستعارة، يقترح دريدا، يقلل تلقائياً من مرتبة اللغة اليومية كما وصفها سوسير - حيث تستند إمكانية تعيين موقع دلالة أي مصطلح إلى العلاقات بينه والمصطلحات الأخرى للغة- نقول، إنه يقلل من مرتبتها إلى دور ثانوي بوضعها مقابل فكرة لغة أكثر ملاءمة وأكثر فلسفية يُستخدم فيها كل مصطلح ليَسْتجمع دلالته "الخاصة"، وتصبح الاستعارة مجرد اسم آخر لاستخدام خاطئ للمصطلحات. حيث (يبدأ "أرسطو" دريدا في أن يتبدَّى مرتاباً مثل هوسرل) "المثل الأعلى لكل لغة... (هو)... أن يحمل إلى المعرفة الشيء عينه." ولإنهاء هذه المرحلة من إعادة بناء محاجة دريدا، نقول بإيجاز: في محاجته ضد إمكانية وجود "خطاب يقدّم نفسه بكونه غير استعاري"، لا يساجل دريدا، على نحو مناف للعقل، أن ليس ثمة قضية علمية أو فلسفية تملك صدق شروط أنقى من "الوقتُ مهووسٌ يذرّي التراب"؛ بل يساجل ضد إمكانية وجود لغة "فلسفية" تستطيع، بالمعنى السابق، أن "تحمل إلى المعرفة الشيء عينه."‏

    إننا مطالبون، إذن، بالتركيز على المحاجة، أو عقدة المحاجات المترابطة التي تقول بـ: 1. أن "الأفكار" أو "المفاهيم" تستطيع أن تكون ملائمة أو غير ملائمة للواقع؛ 2. وبالتالي، يجب أن يكون ثمة نسق ما من المفاهيم الصحيحة والمخلصة، إذا جاز التعبير، ميتافيزيقياً للوجود على ما هو عليه؛ 3. أن معظم العلامات الأساسية للغة ملائمة ميتافيزيقياً ستختار مفاهيم من هذا القبيل بحيث تمتلك كل علامة معنى بمعزل عن أية علامة أخرى، بما أن معناها سيكون المفهوم الذي يمثلها ليس إلا؛ 4. أنه من الممكن إنجاز مثل هذه اللغة، على الأقل على نحو متشظّ ومن حيث المبدأ، وبالتالي فهي بمثابة الهدف "الخاص"، والحق الهدف الذي لا مفر منه للتنظير الفلسفي؛ 5. إن اللغة اليومية هي أداة لا تلائم الفلسفة لأن 6. الاعتماد المتبادل لعلاماتها يجعل من المتعذر إنجاز وضوح الإحالة وأحادية معناها التي تجعل من كل علامة أساسية للغةٍ واضحة منطقياً (بمصطلحات رسل) الاسمَ "الخاص لشيء فريد"؛ أي، لإنجاز المثل الأعلى الأرسطي الذي "لم تنكره" أية فلسفة مخلصة لطبيعتها بوصفها فلسفة. "إن هذا المثل الأعلى هو الفلسفة." ‏

    وقد أدت مجموعة الأفكار هذه، في زعم دريدا، وظيفة الدافع الأساس للميتافيزيقيا الغربية منذ أفلاطون، رغم أن دورها، مع تطور فلسفة ما بعد النهضة منذ ديكارت، بات أكثر مركزية وأقل تحدياً. ولتبديد الانطباع السائد، لغاية الآن لدى جماعات معينة في أن غرض دريدا الأساسي هو الظاهراتية، إن لم يكن مقتصراً عليها، يحتاج المرء أن يتذكر فقط الدور المركزي الذي لعبته مثل هذه الأسئلة في المجادلات الدائرة بين برادلي ورسل، حيث كانت أصلاً باعثاً على الموروث التحليلي. ولأن برادلي إلى حد ما يقول بأطروحة - الأمر الذي يذكرنا بشدة بآراء دريدا- أن أي حكم "يستند إلى الشروط التي لا يتضمنها" فهو يعدّ أن الحقيقة يمكن لها آخر الأمر أن تُمنح للعقل، أو بتعبير دريدا "تُحمل إلى المعرفة" على مستوى المطلق. وبالمقابل، يعتبر رسل، وهو يقف هنا بوصفه نمطاً للميتافيزيقي عينه الذي يتصوره دريدا، بأن معنى علامة أساسية إنما هو مقوم بسيط منطقي ونفسي نوعاً ما من مقومات التجربة، يُمنح مباشرة للعقل دونما إحالة إلى معنى أية علامة أخرى في فعل اكتساب المعرفة.‏

    الاعتقاد بأن المعنى علاقة دلالية تقوم بين علامة توقيفية ومظهر من مظاهر الواقع أو مقوم من مقوماته يُمنح للعقل ببساطة ووضوح مطلقين كان، بطبيعة الحال، موضع انتقادات واسعة في هذا القرن ومن منتقديه فتغنشتين وسوسير ومارلوبونتي. على الرغم من استناد دريدا بعض الشيء بدرجات متباينة إلى آراء الناقدين الأخيرين، إلا أن آراءه النقدية تبقى متفردة به في خطوطها العامة. وقد يكون أحد سبل فهم هذه الآراء، على الأقل في الشكل الذي تأخذه في الميثولوجيا البيضاء، هو أن نرى إليها على أنها تفصح عن هجوم على "التقابل الكلاسيكي بين المفهوم والاستعارة". وبحسب مصطلحات ذاك التقابل، إن استخدام اسم للدلالة على مفهوم يحضر مظهراً من مظاهر الواقع؛ جزءاً من حقيقة الأشياء، أمام العقل، في حين أن استخدام اسم استعارياً يؤسس مجرد رابط مبني على أساس تشابه مُدَرك بين اسمين أو تماثلهما. بعبارة أخرى، إن الرابط الذي تؤسسه الاستعارة هو ترابط بين كيانات لغوية؛ أي ترابط ملفق تماماً داخل مجال اللغة. ورابط الاسم/المفهوم، من جانب آخر، ليس جوهرياً علاقة لغوية مطلقاً. إنه رابط بين العقل والعالم الذي تمثله اللغة أو تعبر عنه. قد يكون للخطاب الاستعاري قيمة ما ولكن قيمته تكمن فقط في مساعدته أن يضعنا على مسار مفهوم جديد. يقدم القسم الأخير من مقالة دريدا نقداً لهذه القصة المألوفة لدى نيتشه وغاستون باشلار. فالاستعارة، إذن، مسلمة بها في الفلسفة طالما أنها تعد بالرجوع إلى حرفية المفهوم ومعها مصادر إضافية:‏

    تحدد الفلسفة الاستعارة على أنها خسارة مؤقتة للمعنى، اقتصاد للخاص من دون تلف يتعذر إصلاحه، التفاف لا مفر منه بلا ريب، لكنها أيضاً تاريخ وقد وضع نصب عينيه إعادة استيلاء دائرية على الحرفي ضمن أفق المعنى "الخاص".‏

    إذن، نحن نقف قبالة مثال عن نمط تفكير يستدعي على نحو مميز تفكيكية دريدا: إذ ثمة مفهومان، في هذه الحالة هما الاستعارة والمفهوم، متقابلان بطريقة تنطوي ضمناً على منح امتياز لأحدهما دون الآخر وذاك بجعل الأول يتبدى مركزاً والآخر هامشاً (من هنا جاء عنوان كتابه "هوامش الفلسفة"). إن تفكيك مثل هذه التراتبية المفهوماتية، وفق فهم دريدا للمصطلح، ليس مجرد مسألة قلب علاقة المركز والهامش. إنه بالأحرى تبيان أن التمايز بين المركز والهامش الذي نحن بصدده يمكنه أن يصبح واضحاً عبر استناد خفي إلى مكونها الهامشي ليس إلا. هدف دريدا من تضاد المفهوم/ الاستعارة إظهار أن هذا التضاد بأكمله يستند إلى الاستعارة، بالمعنى الثاني من المعنيين اللذين ميزناهما آنفاً. ولكي يكون التضاد واضحاً من حث رؤية العلاقات بين الخطاب "الخاص" والاستعاري اللذين يدمجهما هذا التضاد، ينبغي على مصطلحات المفهوم والاستعارة نفسها أن تكون مصطلحات في لغة "خاصة"؛ أي، لغة تكتسب فيها المصطلحات معنى بمعزل عن العلاقات فيما بينها، وذلك باتصالها المتكافئ مع مقومات واقعٍ خارج اللغة وتعادلها معه. محاجة دريدا، في الواقع، أنها ليست كذلك وأن ليس ثمة مصطلحات تستمد من لغة كهذه. يستند هذا الاستنتاج جزئياً، بطبيعة الحال، إلى تطبيق أوسع للتفكيكية المنخرطة في زعم أكثر شمولية بأن فكرة لغة كهذه هي عينها فكرة متصدعة؛ فهي لا تستطيع أن تتسم بالإقناع إلا من خلال نزع التشديد عن سمات محددة وتهميشها، ويصنف هذا الزعم في مكان آخر تحت المصطلح الدريدي "الاختلاف والإرجاءDifférance" الذي ينتمي إلى لغة بذاتها. غير أن ذاك الزعم الأوسع ليس في مركز الاهتمام المباشر للميثولوجيا البيضاء. ويمكن أن نوجز محاجات دريدا المركزية في مقالته فيما سيأتي:‏

    1. إن مفهوم الاستعارة ليس دخيلاً على الميتافيزيقيا. بل إنه مفهوم ميتافيزيقي.‏

    ويستهل القسم الثاني من المقالة، Plus de Metaphore، ببيان من هذا القبيل: "تبقى الاستعارة، في خصائصها الأساسية كافة، فلسفة كلاسيكية، ومفهوماً ميتافيزيقياً".‏

    2. وهو [مفهوم الاستعارة] في حد ذاته، شأنه شأن المفاهيم الميتافيزيقية الأخرى، ينبثق من شبكة من مثل هذه المفاهيم: نظام من المصطلحات حيث تفسر معانيها، في علاقاتها بعضها ببعض، الواحدة الأخرى على نحو تبادلي.‏

    إذن، الهدف الذي يضعه دريدا لنفسه في مناقشته لأرسطو، بادئ الأمر في القسم الثالث من المقالة، هو إظهار كيف أن التمايز بين الخطاب "الخاص" والحذفي، وهو مركزي في حد ذاته في زعم الفلسفة بأنها تشكل خطاباً من النوع الأول، ينبثق من شبكة التمايزات، التي "يبدو أنها تنتمي إلى سلسلة أنطولوجيا أرسطو الطويلة عديمة الحركة، بنظريتها في قياس تمثيل الوجود، بمنطقها، ونظريتها المعرفية، وبمزيد من الدقة بشعريتها وبلاغتها".‏

    3. من هنا، أن أية محاولة لإقامة التضاد بين الاستعاري والحرفي (أو "الخاص") في لغة تتعالى على ذلك التمايز الذي يميز، من وجهة نظر خارج اللغة، ما بين العلاقة المباشرة بين الاسم وحامله وبين العلاقة غير المباشرة بين اسم واسم متورط في الاستعارة والعبارات الملتوية، نقول، ستفشل هذه المحاولة لأن المصطلحات التي تشتغل بإوالياتها ستبرهن أنها نفسها قابلة للتأويل فقط، عند نقطة ما، من خلال قوة الاستعارة والعبارات الملتوية.‏

    في الواقع هذه هي الحركة التي تسود مناقشة دريدا للمحاجة في القسم الثاني من المقالة، أسباب فشل محاولات محددة أن تقدم تصنيفاً يفترض فيه أن يكون غير استعاري لاستعارات أرسطو. بعد ذلك، في "حذف الشمس"، يتناول دريدا الثيمة نفسها بالبحث في مناقشته اشتقاق أرسطو، في كتابه "الشعر"، اسماً لفعل الشمس، الغفل من الاسم في حالات أخرى، في "قذف لهبها" من الفعل "يبذر" [speirein] وتتمثل فكرة دريدا هنا: بما أن قياس التمثيل بين أشعة الشمس والبذر غير "مرئي" [vu]، ولا تفرضه الطبيعة علينا على نحو لا مرد له، إن تبدى لنا بوصفه إكراهاً، فهو يستطيع فعل ذلك لأنه ينبثق من "السلسلة الطويلة التي نادراً ما تكون مرئية" لقياسات التمثيل التي سيكون مصطلحها الأول صعباً على أي امرئ أن يظهره، هذا إذا تجاوزنا ذكر أرسطو. بعبارة أخرى، يتصدى أرسطو لإمكانية أن التسمية - المجتزأة والهامشية من خلال مناقشته الكاملة للاسم بحسب دريدا- من جانب، والتعبير الملتوي وقياس التمثيل من جانب آخر، قد تُثبت في آخر الأمر استحالة انعتاقها. ترجع هاتان المحاجتان إلى زعم مركزي: لكي يقول الميتافيزيقي ما يريد قولـه، يحتاج إلى أن يرى الأمور من وجهة نظر خارج اللغة، وجهة نظر مبدئياً منيعة عليه. مثلما يقول دريدا، "تستحيل السيطرة، من الخارج، على الاستعارة الفلسفية في حد ذاتها باستخدام مفهوم استعارة يظل نتاجاً فلسفياً". من الواضح هنا أن تعليل دريدا لاستناد الميتافيزيقيا إلى الاستعارة يمضي عميقاً أكثر من تعليل أناتول فرانس. إذ أن محاجة "آريست وبولفيل" ترتد إلى النزاع الوضعي المعهود: إذ ثمة استخدام أساسي بدائي للكلمات حيث تستمد، بمعزل عن علاقة بعضها ببعض، معانيها من الترابط مع مظاهر الخبرة البسيطة المجسدة المادية، لكن، وعلى وجه التحديد، ما يطعن دريدا في صحته هو إمكانية أن يظهر في التجريد هذا الترابط البدائي بين اللغة والعالم [الخارجي] من "سلسلة" العلامات.‏

    4. ومن ثم ليس ثمة شيء بوصفه "جوهراً"؛ أي أن معنى مصطلح ما "مستقل بصرامة عما ينقله." فما يدل عليه تعبير ما، وليكن E، هو أمر داخلي في اللغة التي ينتمي إليها.‏

    من هنا،‏

    5. يكف "التفاف" الاستعارة أو العبارات الملتوية، تلك السفينة التي تصورها عادة الميتافيزيقيا الغربية على أنها تعود محملة بمعنى حرفي جديد، يكف عن أن يكون ممكناً تصوره وكأن المرء يسلك منعطفاً مسدوداً. والحذف، كما يظهر المصطلح في عنوان القسم الثالث من المقالة، هو، في البلاغة، بين أشياء أخرى، إسقاط كلمة أو أكثر تكون ضرورية للتعبير عن معنى كامل لجملة ما. لكن- هذه هي فكرة دريدا- إذا كان المعنى الكامل لجملة ما لا يجب أن يمنح بربط مصطلحاتها واحداً تلو الآخر بجواهر ممنوحة خارجياً إلى اللغة، فإن فكرة معنى معبر عنه تماماً، معنى غير حذفي تتلاشى إلى فراغ؛ وبما أن سلسلة مثل هذه التأويلات لا نهائية، فإن تراكم طبقات المعنى الملحقة (أحد العبارات المفضلة لدى دريدا) قد تكون لا نهائية أيضاً.‏

    ويستتبع هذا أن جميع الخطابات، بما فيه الخطاب الميتافيزيقي، تقع في أحبولة الإمكان، السلطة الزمنية والعرف المكاني التي يتمنى شاحذ بولفيل الميتافيزيقي أن يحرر قطعها المعدنية النقدية المتآكلة كيما يخلع عليها قيمة غير محدودة وتداولاً لا حدود له. إن الخطاب الميتافيزيقي خطاب مشتق من الاستعارة، وليس ما تُرك وقتما طهرت اللغة نفسها من آثار الاستعارة والعبارات الملتوية والحذف على اختلاف أنواعها.‏

    السياسة والهومانيزم‏

    إن أحد أهداف الميتافيزيقيا الغربية، ابتداء من أفلاطون وأرسطو إلى هيغل، ماركس، هوسرل، هايدغر أو سارتر، كان توصيف الجوهر أو الطبيعة المتطابقة مع مفهوم الإنسان. وهو المشروع الذي يضعه دريدا نصب عينيه حينما يتكلم عن الهومانيزم ويناشد نهاية الإنسان كشأنه في مقالة أخرى في "هوامش الفلسفة". يستند هذا المشروع، بطبيعة الحال في نظر دريدا، إلى قوة اللغة، من جانب، في خلق معنى جديد وذاك بتحويل العلاقات بين العلامات كيما تنتج التفسير المتعلق عن بعد ولكن الدخيل تماماً على جوهر الإنسان الأمر الذي كان ميزة لأرسطو وهايدغر على التوالي، ويستند من جانب آخر إلى إنكار وتهميش تلك القوة لصون معقولية الزعم القائل أن ثمة مثل هذا الجوهر وينبغي نشدانه. جوهر أصلي، وحدي، كفيل بأن يُمنح للفكر بنهائية [وإلى الأبد]. إن حركة الاستناد والتهميش المزدوجة هذه هي، في نظر دريدا، في الصميم من دافع الثقافة الأوربية على مر السنين في أن تقدم نفسها على أنها محددِّة لطبيعة الإنسان بذاته. ما يقصيه هذا الدافع هو الاختلاف بفحواه الثقافي وبالمعنى الذي يقصده دريدا بـ(الاختلاف والإرجاء)؛ أي، قوة العلامات في أن تنمو ملتحمة مع المعاني الملحقة التي تختلف عن تلك المعاني الملحقة سابقاً وترجئ إلى أجل غير مسمى توطيد معنى وحدي نهائي. ويمثل تجمع الثقافات غير الغربية سياسياً، داخل الغرب وخارجه، القوة المهمشة لـ "الاختلاف والإرجاء" الذي "يثقل، بوطأة صامتة متنامية مهدِّدة، على السياج الذي أقامه كلام الغرب [حول نفسه]." تتعلق لعبة الاستعارة الاقتصادية التي تستفتح الميثولوجيا البيضاء بهذه الثيمة. وقطع بولفيل النقدية المشوهة هي موضوع لـusure بمعنييها- الاستعمال (الكشط) abrasion (استهلاك القيمة بالبلى والاستعمال) والمراباة (usury) بما أنها تفتح إمكانية أن تكون اللغة نفسها، في اللعبة اللامتناهية للاستعارة والحذف، قادرة على منح فائدة لـ"الميتافيزيقيا؛ الميثولوجيا البيضاء التي تعيد حشد ثقافة الغرب وتعكسها". وما نقش على حاشية القطعة المعدنية أو الميدالية - التاريخ واسم النقّاش- هو الذي يحمل، على وجه الدقة، الإحالة إلى احتمال [حدوث شيء ما]، وإلى التاريخية، والآخر، أي ما يجب إقصاؤه إن كان ينبغي على الكسب الاقتصادي الذي وعد به الـ usure أن يتحقق. من المغري بطبيعة الحال، أن نربط هذه الثيمة؛ أي استغلال وتهميش الآخر غير الغربي في الآن نفسه، بباكورة تجربة دريدا، حينما كان طفلاً لأسرة يهودية جزائرية، في الاستبعاد السياسي والشخصي في ظل قوانين حكومة فيشي العنصرية التي يرصدها دريدا بمشاعر مؤثرة في نص عن السيرة الذاتية يشغل ذيل صفحات (أي، هوامش) كتاب جاك دريدا لـ جيوفري بنينغتون‏ ودريدا. ‏



    بعض اعتراضات قياسية‏

    إن أكثر اعتراض ماثل للعيان يثار ضد التفكيكية، من قبل الفلاسفة والنقاد غير المبالين على حد سواء، هو أنها تستلزم تبعات عبثية أو تبعات لا تصدق. والأكثر شيوعاً في هذا الزعم المعلن بصراحة وفظاظة شديدتين هو: 1. أن محاجات دريدا تلغي التمايز بين اللغة والواقع خارج اللغة بإذابتها هذا الأخير في الأول؛ 2. أطروحته في أن محاولة تأسيس معنى ممتلئ لتعبير ما يخضع من حيث المبدأ لإرجاء غير محدود، تستلزم أن ليس ثمة تعبير له معنى في أية حال (عدمية لغوية)؛ 3. ومع التخلص من فكرة أن أي تعبير له معنى محدد ومن إمكانية التمييز بين اللغة والعالم، بدد دريدا إمكانية أي تصور واقعي (أي، غير نسبي وغير براغماتي) للحقيقة؛ وأخيراً 4. بتبديل النقد العقلاني للميتافيزيقا بما يبدو أنه توجه بلاغي للنقد خان دريدا التزام حركة التنوير الفلسفية بالعقل وأسبغ غشاوة على التمايز المنهجي بين الفلسفة من جانب وبين الأدب والنقد الأدبي من جانب آخر.‏

    من الواضح، بطبيعة الحال، أنه لن ينظر كل امرئ إلى 1 و4 على أنها تكوّن "اعتراضات". والحق، أن إحدى أكثر السمات المميزة واللافتة للمناقشة الغزيرة- غالباً يكون ملؤها الحنق- في الثلاثين سنة التي مضت لعمل دريدا هو ميل مؤيِّديه في أن يلوحوا باكتشافات تصنع عهداً جديداً هي نفسها التي يلوح بها المنتقصون من قيمته بوصفها سخافات.‏

    كما سيتكشف البحث في كتابات دريدا بيسر (على المرء الحذر نوعاً ما للتمييز هنا بين كتابات دريدا وملخصات مشايعيه وشروحهم لأعماله)، فقد أنكر دريدا غير مرة أن تكون آراؤه تستلزم أياً من التبعات الآنفة. وبالمثل كما يعلق بنينغتون بعد تعيين سلسلة استشهادات كهذه، "لا يكفي إثارة هذه الفقرات التي قد تكون دائماً مجرد تنصل أكثر من كونها تفنيداً".‏

    بقدر ما يتعلق الأمر بـ1 و2، كما ساجلت بإسهاب في مكان آخر، ليس ثمة ضرورة للتفنيد بما أن كليهما استنباط خُلْفيّ [استنباط غير متفق مع المقدمات]. جلي من محاجة الميثولوجيا البيضاء في تلخيصنا لها، أن دريدا لا يساجل ضد القناعة المألوفة العادية أن ثمة كيانات بذاتها خارج اللغة، بل يساجل ضد الأطروحة الفلسفية أن ثمة معاني (دلالات) يتم تصورها بوصفها كيانات خارج اللغة. إذا كان هناك مثل هذه الكيانات، ممنوحة لحضور الوعي الهوسرْلي المحض، أو لاكتساب المعرفة الرسلي [من رسل]، كان بمقدور سائر مصادر المعنى المتضمنة في المفهوم المتطابق أن تُمنح بإسهاب إلى العقل المتأمل في مثل هذا الكيان (فكرّ، مثلاً، في "الفطرة البسيطة" الديكارتية التي تعزز ابستمولوجيا "الإدراك الواضح والمميز" الديكارتي). مؤكد أن إصرار دريدا على الاختلاف والإرجاء بوصفهما أمرين أساسيين للعلاقة القائمة بين العلامة والمدلول يتبع كنتيجة له إنكار الأطروحة الفلسفية، على اختلاف أنواعها، أن المضمون الدلالي الممتلئ لمفهوم ما، يمكنه أن يُمنح وبإسهاب إلى فعل معين خاص، غير لغوي أو خارج اللغة، للوعي. ويتبع كنتيجة أبعد له، أن المرء لا يستطيع أبداً أن يكون على يقين في أنه استخلص كامل المعنى المضمر باستخدام معين للكلمات في سياق معين (هذه هي، دون شك، النتيجة التي يضعها بعض شراح دريدا نصب أعينهم عندما ينسبون طابعاً تلمودياً إلى عمله). ما لا يتبعه هذا الإصرار كنتيجة له هي أطروحة - تحال إلى دريدا على نحو غير محكم- أننا لا نستطيع أن نميز في سياق معين من الاستخدام بين ما قد يعنيه تعبير ما في ذاك السياق، وما لا يمكنه أن يعنيه في السياق عينه؛ لذا لا نستطيع أن ننسب أي معنى محدد إلى أي تعبير في أي سياق مهما يكن. الحق، أن الأمر ليبلغ درجة العدمية الدلالية. إن إعادة صياغة مبدعة ستخدم، من دون شك، في استخلاص مثل هذه الأطروحة من الجمل وأشباه الجمل القصيرة المقتطفة من عمل دريدا وتقدَّم، مجردة من سياقها، بوصفها دليل إدانة. غير أني على ثقة أن ليس ثمة إمكانية استدلال على مثل هذه الأطروحة تترتب على تحليل متأنٍ، مهما يكن، لمحاجة دريدا كما حاولنا منذ وهلة، وبطبيعة الحال، لا تترتب على المحاجات المقدمة هنا. هذا فضلاً عن أن هذه الأطروحة ستكون متناقضة مع أمر هو قطعاً زعم مركزي في فلسفة دريدا، أعني، الأطروحة التي تقول إننا لسنا بحاجة مَنْفَذٍ إلى المقاصد الواعية للكاتب أو المتكلم أو أحوالهما كي نكون قادرين على فهم ما يكتبه أو يقوله.‏

    دريدا والبراغماتية الأمريكية الجديدة‏

    إن معرفة معنى تعبير هي، للوهلة الأولى، معرفة الكيفية التي ينبغي للمعنى أن يستخدم في الخطاب. أخذت مجموعة كبيرة من الكتابات الفلسفية واللغوية، ولم تزل، ذاك الفكر البين لتدل ضمناً أن معرفة المعاني هي معرفة القواعد [النحوية]. وقد كانت إحدى الوظائف التقليدية للاعتقاد بالمعاني أو المفاهيم الفعليين؛ بمعنى خارج اللغة، التي يهاجمها دريدا في الميثولوجيا البيضاء، أن توضح ما الذي يضفي سمة المصداقية على القواعد التي نحن بصددها. أُضفِيَت المصداقية على القواعد، على حد قولهم، لأنها تقوم، خارج اللغة، على أساس طبيعة الأشياء. هنا يكمن السبب في أن الخطاب بمقدوره أن يمثل بصدق طبيعة الأشياء. وإذن، يستمر الخطاب في تتبعه مسار الواقع من خلال واقعة أن المفاهيم التي يمضي بها الخطاب حثيثاً ليست مجرد بنيات لغوية، بل سمات، أو كما كان الراحل رسل سيقول: "مقومات" الواقع عينه. إذا نبذنا المعاني فإننا بالتالي، هكذا يزعم، ننبذ الحقيقة نفسها، أو أقله ننبذ أي تصور للحقيقة غير نسبي وغير براغماتي. من ثم نصل إلى المجادلات بشأن الواقعية، اللاواقعية والنسبية، التي غذّت حديثاً الموروث التحليلي في الفلسفة.‏

    على النقيض مما يظن عادة، يبدو ليس ثمة سبب للافتراض أن دريدا قد حازب، سواء أكان عمداً أم سهواً، في هذه المساجلات. ويبدو أنه ليس ثمة ما يمنعه من أن يتخذ موقفه على أساس الزعم السلبي المحض في أن التفسير التقليدي للمعاني بتحويله لها إلى صنف من الكيانات الميتافيزيقية إنما هو تفكيك ذاتي. بالمثل، لو سأل سائل عما يمنحنا السيطرة، إذن، على فكرة الجزم الحقيقي، ليس هناك ما يمنعه من الإجابة على نمط فتغنشتين أو أوستين أن ليس ثمة شيء ميتافيزيقي واحد يمنحنا السيطرة على فكرة الحقيقة بوجه عام، بل هناك كثرة هائلة من الأشياء غير الميتافيزيقية تمنحنا سيطرة عليها في حالات مجسدة متنوعة من الحياة اليومية، ولصياغة هذه النقطة بتعابير أكثر دريدية نقول: إن مفهوم الحقيقة يتشكل داخل اللغة مثله مثل أي مفهوم آخر، ينتثر داخلها، كأي مفهوم، إلى ما لا نهاية استجابة لقوى الاختلاف والإرجاء.‏

    في الواقع أعتقد أن هذه المواقع هي التي يستند إليها دريدا، رغم أن المكان ليس مناسباً لجمع التأييد النصي لهذا الزعم. كما لا توجد مراوغة بخصوص هذه المواقع. لكن عدها قراء عديدون، القراء المتحدثون باللغة الانكليزية خاصة، مواقع مراوغة. في حين صعب على آخرين الاعتقاد بأن محاجات دريدا لا تحيله بالضرورة إلى موقع نسبي شكوكي جذرياً عن القواعد والمعنى اتخذه كواين Quine وكتاب آخرون من ضمن إطار تأثير الأفكار الكواينية كدافيدسون Davidson، رورتي، أو كريبك Kripke. أشار صاموئيل ويلر Samuel C. Wheeler III في دراستين له إلى الحركة المؤسسة لأسرة الآراء الأخيرة هذه، وقد اعتبرتا إلى حد بعيد بكونهما تقيمان رابطاً وثيقاً بين فكر دريدا‏ وفكر دونالد دافيدسون:‏

    بدون النظرية الجوهرية [الماهوية] بخصوص المعاني والقواعد الدلالية، ثمة فحسب جمل مقبولة في متن معين للخطاب. الجمل المقبولة في متن الخطاب هي، على مختلف أنواعها، أجزاء من "نظرية" تتباين أجزاؤها بطرق متعددة في الدرجة لا في النوع. توجد "الأشياء"، إذن، بوصفها افتراضات نظرية ما. وما يحل محل الضرورات والجواهر الموضوعية هي فكرة الوجود وفقاً لنظرية؛ أي، تعهد أنطولوجي. ‏

    ما ينيط بدريدا، في نظر ويلر، الإمساك بالاختيار بين "الجوهرية بخصوص المعاني والقواعد" والبرغماتية الدافيدسونية وشكوكيتها بوصفه اختياراً لا مفر منه هو محاجته أن معنى علامة ما، مع غياب المعاني الممنوحة لحضور الوعي بأكمله وبكليته، يستند إلى الآثار التي تربطه بعلامات أخرى، التي بدورها تحدث آثاراً هكذا إلى ما لا نهاية. وفي قوله: "إن هذا التصور السوسيري في أن المنظومات المفهوماتية أنظمة اختلافات، يشبه شبكة اعتقاد كواين"، يعتبر ويلر أن محاجة دريدا تستلزم أطروحة كواين الشهيرة في "عدم تحدد الترجمة":‏

    إن الصورة التي يتطلبها إنكار الحضور... هو أنه هناك نزعات المؤول لما ينبغي عليه قوله ومتى ينبغي قول ذلك (نظريته) ونزعاتنا لما ينبغي علينا قوله ومتى ينبغي قول ذلك. الترجمة أو التأويل هي مجرد ترسيمة تقوم على أساس هذه العناصر. والتساؤل عما يعنيه حقاً منطوق ما بلغة في لغة أخرى مثله مثل السؤال أي مواقع كرة القدم هو موقع الدفاع. ‏

    هذا الفهم هو في حد ذاته مثار جدل، فهو يتجاهل التباين، المشار إليه، بين التحليل الفريجي للمعنى من حيث صدق الشروط الذي يتقاسمه عملياً سائر الأطراف المشاركة في المجادلات التي أثارها ويلر في الفلسفة التحليلية، وبين تصور دريدا السوسيري جوهرياً عن المعنى بوصفه متورطاً في علاقة بين علامة (دال) ومضمون مفهوماتي (مدلول). ومحاولة البرهان، شأن دريدا، على أن الميتافيزيقيا الغربية ليس بمقدورها الزعم أنها رسخت على نحو قاطع مضمون مدلول معين، مفهوم "الإنسان" مثلاً، لاستحالة إقصاء الانجراف المنتثر في مضمون هذا المفهوم أو أي مفهوم آخر، ذاك أن إمكانية مثل هذا الانحراف متأصلة في طبيعة أية لغة يمكن للميتافيزيقيا (لا أن تُنطق أو يُفكر، بل) أن تُكتب بها، نقول إن محاولة البرهان هي، من دون شك، أن يلتزم المرء بإنكار "الجوهرية بخصوص المعاني والقواعد". لكن من الصعوبة بمكان أن نفهم لم ينبغي لهذه المحاولة أن تلزم المرء بأطروحة كواين في عدم التحدد، إلا إذا أخذ الاختيار بين الجوهرية بخصوص المعاني وعدم تحدد الترجمة الكوايني [من كواين] كي تستنفد الخيارات النظرية المتاحة، إذ أن هذه الأطروحة هي بلا ريب، رغم الرواج الهائل حديث العهد لطريقة كواين في النظر إلى المسائل، مثار جدل.‏

    يبدو واضحاً، على أية حال، أن تضمينات موقع دريدا تتعارض مع التضمينات الدافيدسونية، أقله من جانب بارز. وقد لاحظ آيرن هارفي Irene Harvey أن دريدا يعير دور الأمثلة في الميتافيزيقيا اهتماماً مركزياً:‏

    ابتداء من عمله عن هيغل، على نحو بارز في Glas [نواقيس]، توخى دريدا تعيين حدود "بقايا" الـAufhebung9 [بديل، إبطال]. فبدءاً من مكان اليهود فيما يتعلق بالأسرة، الدولة، النصرانية، والفلسفة، يتعقب دريدا المسالك التي يقصي بها هيغل اليهود فقط كيما "يتضمنـ"هم "في مستوى أعلى"؛ أعني، ليس بوصفهم يهوداً، بل بوصفهم النصرانيين الأصليين، في-الـ-طريق ليكونوا ما هم ليسوا عليه... وما هو بمثابة المجازفة بالنسبة (لدريدا) هو توضيح حدود هذا الإقصاء والتضمن في الآن نفسه لـ اللا-مثال non-example بكل ما للمصطلح من معنى- داخل المذهب الفلسفي الهيغلي. فاليهود ولا-مكانهم ليسا إلا مثالاً عن هذه الطريقة لكونهم على علاقة مع الـAufhebung. فبما أنهم مستبعدون بمقدورهم أن يكونوا متضمنين؛ على أن الآخر راديكالياً، يجب إقصاؤه في حد ذاته. ‏

    ما تعززه هذه الفقرة هو التشديد مرة أخرى على مركزية غرض كتابة دريدا في تسليط الضوء على استناد زعم الميتافيزيقيا الغربية أنها تعبر عن آراء الإنسانية بعامة إلى آخر مستبعد مهمش حيث إمكانيته، إذا جاز التعبير، متأصلة في طبيعة علاقة الدال/المدلول تبعاً [للشكل الذي] أسست به في الاختلاف والإرجاء. كيما يكون هذا موقفاً واضحاً، يجب أن يكون ثمة إواليات اشتغالِ مجانسةٍ لمبدأ الوضوح الذي اقترحه ميشيل دوميه Michael Dummett في سياق آخر. وكي يُفهم الآخر بوصفه ما "يجب إقصاؤه في حد ذاته" ينبغي أن يكون ممكناً للآخريّة أن تظهر نفسها في الكتابة من خلال إواليات اشتغال الاختلاف والإرجاء. إن كان بمقدورها فعل ذلك، فعلى الأقل، أحد أحلام حركة التنوير الفلسفية قد مات: إذ لا يمكن أن يكون ثمة "تاريخ عالمي للإنسانية". في فقرة لافتة للنظر ينحاز رورتي للموروث الكوايني البراغماتي الجديد ونصب عينيه ذاك المشروع [تاريخ عالمي للإنسانية] تماماً:‏

    إن إجابة البرغماتي على السؤال الذي يطرحه ليوتار Lyotard في "التاريخ العالمي والتباينات الثقافية": "هل يمكننا الاستمرار في تنظيم الأحداث المتراصة فوقنا من عوالم الإنسان وغير الإنسان على يد فكرة تاريخ عالمي للإنسانية؟" هو أننا نستطيع وينبغي.. علينا نحن الديوويين [من جون ديووي] أن نمتلك تاريخاً لنعرف ارتقاء جنسنا البشري، تاريخ تشدد وقائعه الحديثة على الكيفية التي تطورت بها الأحوال في الغرب طيلة قرون قليلة مضت، ويخلص إلى اقتراحات عن الكيفية التي يمكن لها أن تتقدم أكثر في القرون القليلة القادمة. لكن لو سأل سائل عن التباينات الثقافية، عما ينبغي لتاريخنا أن يفعله مع الصينيين والكاشيناهو، لا يمكننا الرد سوى أن التواصل، على حد علمنا، مع هذه الشعوب قد يفيد في تعديل أفكارنا الغربية عن أفضل المؤسسات التي يمكن لها أن تجسد روح الديمقراطية الاجتماعية الغربية... إن هذا الضرب من التمركز العرقي هو، نعتقد نحن البرغماتيين، أمر لا بد منه ولا اعتراض عليه... ليس بمقدورنا أن نسلخ جلد الديمقراطية الاجتماعية الغربية عن أنفسنا حينما نواجه ثقافة أخرى ولا ينبغي علينا أن نحاول. كل ما علينا فعله هو أن نمكث ما فيه الكفاية داخل قاطني تلك الثقافة لنحصل على بعض الأفكار عن الكيفية التي ننظر بها إليهم، ونرى إن كان لديهم أفكار نستفيد منها. ‏

    من بالغ الصعوبة تلفيق فقرة أكثر بعداً، في ثقتها بنفسها وغلبتها الثقافية العرضية، عن روح عمل دريدا. لكن الموقف الذي تجسده ليس مشدوداً إلى نير زعم كواين وحده، بل تبعة ضرورية لهذا الزعم مثلما يعبر عنه ويلر: "ثمة فحسب جمل مقبولة في متن معين للخطاب". إن توسيعاً ملائماً لهذا الزعم وإضفاء صبغة أكثر راديكالية عليه، كفيلان بأن يفسحا الطريق لتفسير دافيدسون "للتأويل الراديكالي" الذي بدوره سيخلي الطريق للنتيجة التي يستكشفها دافيدسون في فكرة منظومة مفهوماتية بالذات أن ليس ثمة "أساس واضح يمكننا بناء عليه القول أن المنظومات مخلتفة". ففي حين أن اللغة في نظر دريدا تسلمنا من انجراف مستمر للمألوف إلى الاختلاف والإرجاء، إلى الآخرية، نجد أن طبيعة التأويل البراغماتية في نظر دافيدسون تجعل من المستحيل مبدئياً لأية آخرية راديكالية أن تظهر نفسها في "اللغة" التي تصبح بناء عليه وعلى نحو قاطع وأبدي لغتـ"نا". وندلف من هنا إلى إعادة تقديم رورتي، من الباب الخلفي للبراغماتية، إذا جاز التعبير، وفي ظل يافطة الديمقراطية الغربية المطامنة، من دون شك، لبعض الأسماع، وعلى وجه التحديد مزاعم الميتافيزيقيا الغربية التي قضى دريدا حياته مُجدّاً في قتالها، نقول إعادة تقديمه لكيفية الوصول إلى "التاريخ العالمي" وحتمية علاقة مع الآخرين تأنف أن تواجههم- في حين أنها قد تبحث فيهم وتستفيد منهم- بوصفهم أفراداً متخلصة بذلك من فهم غريب غير أنه مكافئ لما ينبغي أن يكونه الإنسان كي يكون إنساناً.‏



    دريدا وهابرماس في الأدب والفلسفة‏

    الاعتراض الرابع في أن دريدا يخون قضية العقل بإسباغه غشاوة على التمايز بين الخطاب الأدبي والخطاب العلمي، يفصح عنه يورغن هابرماس ويوضح حدوده بقوة. شأنه شأن رورتي، وعلى نحو سديد من دون شك، ينظر هابرماس إلى دريدا، بوصفه يخاطب المشكلة التي تمخض عنها كامل "خطاب الحداثة" في ما إذا كان ممكناً إضفاء سمة المصداقية على معايير العقل الغربي وكيف يتم لها ذلك؟ مثل رورتي أيضاً، يرغب هابرماس في أن يحتفظ بشيء من السيطرة على فكرة التاريخ العالمي، مع أنه سيسلم ورورتي بأنه لا يمكن لها أن ترتكز على البراغماتية سواء أكانت براغماتية ديووي، كواين أم براغماتية دافيدسون على مختلف أنواعها، كما لا يمكن الزج بفكر دريدا في خدمة مثل هذا المشروع. إذ أن دريدا، في رأي هابرماس، عدو العقل بصراحة؛ فهو أحد الأشخاص الذين يريدون "بسط سلطان البلاغة على دائرة المنطقي". وخطأ دريدا، وفق هابرماس، هو ما يراه رورتي وويلر بكونه فضيلته الرئيسة إذ لا يرى بديلاً ثالثاً، من جانب، للإحالة إلى خارج النص Logocentrism التي تقرن الدفاع عن المعايير العقلانية بميتافيزيقيا الحضور، ومن جانب آخر، لا يرى بديلاً ثالثاً للنسبية التي تجعل من ثوابت الصحة والنقد العقلاني داخلية في الممارسات اللغوية والمتعلقة، في نهاية الأمر، باحتمالات الافتراض، التاريخ والمصالح العملية المشتركة التي حدث أنها وسمت مجموعات بشرية معينة بسمة مميزة. يقترح هابرماس خياراً ثالثاً يبلغ، في الواقع، مصاف الاستدلال المتعالي لمعايير العقل لكونها شروطاً مسبقة لإمكانية التواصل:‏

    إن ألعاب اللغة لا تفعل فعلها إلا لأنها تسلم جدلاً بـ"أوضاع مثالية" Idealizations تتعالى على أية لعبة لغوية محددة؛ ولكونها شرطاً ضرورياً لاحتمال بلوغ الفهم، تحدث هذه الـ"أوضاع المثالية" منظور اتفاق متاح للنقد على أساس مصداقية المزاعم... واستناداً إلى هذه الحاجة لإقامة الاختبار ضمن الممارسة العادية يمكن للمرء التمييز، مع أوستين وسيرل Searle، بين الاستخدامات "المعتادة" للغة واستخداماتها "الطفيلية".‏

    ومن طريق الاحتكام إلى الـ"أوضاع المثالية" المختلفة والمعايير المقترنة بالمصداقية التي تحكم الأنماط المختلفة للمشروع اللغوي، يمضي هابرماس حثيثاً في إقامة تمايز بين "لغة الفلسفة والعلم"، ولكونها مخصصة إلى حد بعيد لـ"أغراض معرفية فهي مطهرة من كل ما هو استعاري ومجرد بلاغي، منعتقة من الاختلاطات الأدبية"، وبين اللغة الأدبية المتصورة بوصفها لا تُعنى إلا بإمكانية "العالم التوليدية" للغة نفسها. لا يعير هابرماس بالاً، على ما يبدو، لما قد تكونه فكرة النشاط الأدبي المتصورة في هذه المصطلحات؛ الحال، أنه يذكر ها بعبارات- مثل "لا تواصل شؤون العالم"، تخول "الأفعال الإنشائية"- بـ"خلق لعوب لعوالم جديدة، أو بالأحرى بإثبات قوة العبارات المبتكرة للغة في الكشف عن العالم"- توحي بأنها قد لا تملك أية فكرة أساسية على الإطلاق. إن وجود الأدب في نظر هابرماس شيء من الأحجية، وقد كان كذلك ولم يزل بوجه عام بالنسبة للمنظرين في أوساطنا. إلا أنه صريح في أن الأدب لا يملك دوراً في تكوين هوية المرء سواء أكانت شخصية أم ثقافية، كما لا يملك دوراً في تشكل وجهة النظر أو مصطلحات ترابط المجتمعات، إذ أن هذه المهمات تقتضي ضمناً وظائف معرفية هي ميدان مقصور على "العلم والفلسفة".‏

    إن السيرورات التي تجري لغوياً كاكتساب المعرفة، توارث الثقافة، تشكل الهوية الشخصية، إضفاء السمة الاجتماعية، والدمج الاجتماعي منخرطة جميعها في التغلب على مشاكل يطرحها العالم... وهذه السيرورات التي تجري لغوياً ضمن العالم هي، في نظر دريدا، مطمورة في سياق مكون للعالم يضر بكل شيء: إذ تستسلم بنوع من القدرية للحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص. ‏

    قد يكون الدفاع عن دريدا ضد هذا الهجوم من طريق التنويه إلى المدى الذي يقترب فيه هابرماس من المغالطة المنطقية. إذا كان دريدا على حق لتوقع المرء أن الحدود بين العقل والبلاغة ستبدأ في التدفق والاندماج عندما تتجلى الاستنادات المتبادلة الغامضة المبيتة في تعقد هذه المقولات المستقلة والمتضادة جذرياً في الظاهر فحسب. يسلم هابرماس جدلاً أن هذا لا يمكنه أن يحدث بما أن الطلاق بين العقل والبلاغة الذي يتعالى على دفق اللغة هو فوق لعبة الاختلاف والإرجاء ووراء نطاقها. غير أن هذا في حد ذاته يثبت ما ينكره دريدا في أن مثل هذه المقولات المميزة لطريقة التفكير "الغربية" على الأقل منذ حركة التنوير الفلسفية ليست مجرد نتاج موضعي لإمكان تاريخي آخر، بل تحررات أبدية للعقل الأزلي الثابت. من المحتمل، بطبيعة الحال، أن أطروحة رفيعة وإيجابية كهذه قد تتوقف على دفاع سلبي متواضع. فالحد الفاصل بين العقل والبلاغة قد يتجاوز التمايزات المألوفة والواضحة تماماً مما يجعلها وراء نطاق قوة المحاجة، مهما كانت بارعة ودقيقة، لتحل محلها. بيد أنه من الغامض ثانية ما الذي ستكونه هذه التمايزات. إن أكثر الطرق حصافة ووضوحاً لتمييز تقارير "العلم والفلسفة" عن مثيلاتها في الأدب تركز على التخييل الجلي لهذا الأخير. على أن، ليس ثمة ما يقتضي في موقع دريدا، بقدر فهمي له، أن ينكر التمايز بين تقرير أدبي كـ: "لا بد أن أحداً ما كان يلفق الأكاذيب عن جوزيف ك، فمن دون أن يسيء إلى أحد اعتقل في صبيحة يوم جميل"، والتقرير الواقعي كـ"تبعد الأرض قرابة 93000000 ميلٍ عن الشمس "الناشيء عن واقعة أن هذا الأخير يدعي الحقيقة وهو في الواقع حقيقة. لا يقول دريدا، بأي معنى تافه مناف للعقل، بأن العلم "مطمور" في الأدب. ولا يتعهد، كما أشرنا، بالزعم المنافي للعقل على السواء كسابقه في أنه من المتعذر تطهير الخطاب العلمي، على الأقل ضمن حدود معينة وفي الأقسام المحكمة على نحو معقول للعلوم الطبيعية، من الاستعارة بالمعنى العادي للمزاعم التي تكون صدق شروطها إما مصمتة أو غير أساسية لوظائفها في الخطاب.‏

    لكن إذا كان الإخفاق مصير الدفاع السلبي المتواضع لمقولات هابرماس فلا خيار لديه، إذن، إلا أن يقدم دفاعاً أكثر إيجابية ورُقيّاً، ويجب على المحاجة المتعالية التي أشرنا إليها آنفاً أن تتبوأ كامل أهمية المحاجة. فهل يمكنها فعل ذلك؟ إن دعوى دريدا المضادة هي، في الواقع، أن مصطلحي العلم والأدب، كباقي المصطلحات، لا يضفى عليهما المعنى من خلال وضع الواحد منهما تلو الآخر، إذا جاز التعبير، بالاشتراك مع المضامين المفهوماتية المعطاة بكمال ونهائية مطلقين للوعي، بل هي مصطلحات مفهومة فقط من خلال علاقاتها مع بعضها البعض في لغة هي نفسها لغة محتملة، كيان تاريخي، لغة شعب من الشعوب، لغة قبيلة أو ثقافة، ولكونها كذلك فهي عاجزة عن مقاومة القوى التي تقشر معاني جديدة وظلال معان من القديمة في سيرورة ليس لها نقطة أصل محددة ولا نهاية.‏

    إن أقٌوى ورقة يمكن لهابرماس اللعب بها الآن هي الزعم أن تقسيم معين لوظائف "الأدب"، من جانب" ووظائف "العلم والفلسفة"، من جانب آخر، أمر لا بد منه لأن "الأوضاع المثالية"، معايير تحديد نجاح مزاعم الشرعية أو إخفاقها التي تعين هذه الوظائف، هي "شرط ضروري (لاحتمال) بلوغ الفهم". قد تنشأ الأوضاع المثالية التي نحن بصددها خارج اللغة، بما أنها "مفترضة مسبَّقاً" من قبل "ألعاب اللغة، وبما أنه كيما تفعل محاجة هابرماس فعلها، يجب أن تكون هذه الأوضاع المثالية منيعة على "الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص" الذي يسيطر على جوانية اللغة.‏

    من المؤكد أنه ينبغي على المرء أخذ الحقيقة على أنها حالة واضحة ومركزية لمثل هذا الوضع المثالي. وبمقدور المرء الآن استدعاء فتغنشتين لمساندة دريدا. لكي يكون ثمة استخدام عام للمصطلحات بأية حال، يجب أن يمتلك المتكلمون منفذاً مشتركاً إلى المعايير التي تفرق بين تطبيق صحيح لمصطلح وبين استخدامه على نحو خاطئ أو فارغ. ذلكم، هذه المعايير التي توضح جوهرياً أن ما يصل إليه التمايز بين حقيقة أسرة هذه التأكيدات وزيفها أو تلك في الممارسة يجب أن تكون داخلية في اللغة؛ إذ لا يمكن لها أن تكون أوضاع مثالية تطبق "من خارج اللغة" على لغة يتم تصورها على أنها تؤدي وظيفة بطريقة أو بأخرى، على اعتبار أنه لا يمكن أن تكون هناك لغة تقوم بوظيفتها إلى أن توطد طبيعتها وإواليات اشتغالها.‏

    الحقيقة، باختصار، فكرة داخلية في لغة بذاتها، وليست وضعاً مثالياً مقترنة مع ضروب معينة من المشاريع تتم مواصلتها عبر لغات يمكن لها أن توجد بوصفها لغات بين متكلمين محرومين على نحو لا يمكن إنكاره من إمكانية "بلوغ الفهم" من دونها. من هنا، فإن تفسير هابرماس ما بعد النهضوي المعين تاريخياً وثقافياً إلى أبعد حد للوظائف النسبية للعلم- مشارك- الفلسفة والأدب لا يمكن الدفاع عنه بوصفه تعالياً أزلياً على "أية لعبة لغوية خاصة"، ذاك أن تقسيم الوظائف التي ينطوي عليها تتولد من طبيعة الأوضاع المثالية التي يفترضها مسبقاً بالضرورة إمكانية طرائق الفهم غير المنصوص عليها سابقاً من قبل لغة ينظر إليها بوصفها حاصل "لعبة لغوية خاصة".‏

    الحق، يبدو ثمة شيء توقيفي، مع أنه مألوف تماماً، حول تقسيم العمل بين العلم/الفلسفة والأدب الذي يقترحه هابرماس. لم ينبغي، مثلاً، أن يمنع الأدب من التأثير في "تشكل الهوية الشخصية"؟ الهوية الشخصية هي لا محالة مسألة نزعات متأصلة إلى حد بعيد، تستجيب بطرق معينة لأنماط معينة من المواقف. إن نزعات استجابة، كهذه، كثيراً ما تترافق مع الميول المعتادة على حد سواء؛ لتفسير أنماط المواقف التي نحن بصددها بطرق تخطيطية، إن لم نقل مقولبة، إلى أبعد حد. فالرواية والمسرحية قد تطور تضمينات مواقف بطرق، هي على نحو مقنع حقيقية لتجربة القارئ في الحياة، تُفْقِد على نحو خطير استقرار طرائق التفسير التخطيطية المألوفة له وتشوش على نحو خطر استتباب طرائقه المعتادة في الاستجابة لمثل هذه المواقف. بذاك، سيعتقد المرء، أن الأدب يؤثر حتماً على "تشكل الهوية الشخصية". يتوافق هذا التسليم مع الخبرة الشخصية لغالبيتنا التي تحتفظ، من بين التأثيرات العديدة التي جعلتنا على ما نحن عليه، بمكان مهم للروايات والقصائد والمسرحيات التي كانت مصدر خبرة لكل امرئ.‏

    والغريب، يبدو لي، أن المرء بمقدوره الاقتراب من لب ما يفصل دريدا عقلانياً عن هابرماس، وبالتالي الاقتراب للسبب نفسه من غالبية نقاد دريدا، من خلال تركيزهم هنا على بلاغة محاجة هابرماس. لنأخذ مثالاً عبارة "الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج النص". فهابرماس يستخدمها لتوصيف ما يجري في الأدب، على النقيض من "السيرورات التي تجري لغوياً" التي تكون حياة العلم والفلسفة. فالتضاد الذي تنقله الكلمات عاطفياً (لكن، هل مفردة عاطفي هي المفردة السليمة؟ هل يمكن للمرء، بأية حال، أن يميز بوضوح بين عاطفية ما يقوله هابرماس هنا، بلاغيته، نغمته وفحواه؟) هو بين استخدام اللغة لتنفذ "السيرورات" التي تتعالى على اللغة، من جانب، وبين انغماس مسكر في اللغة التي تتنازل عن كامل السيطرة الواعية للذات فوق طبيعتها نفسها إلى المقتضيات المترنحة لعباب الكلمات المتناثرة على نحو يتعذر ضبطه.‏

    إن ثيمة الأدب والفن هذه بشكل عام بوصفها تقتضي ضمناً تنازل الذات عن نفسها من طريق الهجر عن العقل وضبط النفس الأبولوني إلى القوى الديونيسوسية هي، كما يذكرنا هنري ستيتن Henry Staten، ثيمة في غاية القدم. إنها، كما يقترح ستيتن على نحو لافت، الخوف من فقدان هوية الذات، الذي يحث توصيف أفلاطون لـ"أداء أيون Ion راوية القصيدة الملحمية بوصفه أداء ميكانيكياً آلياً": "إن التحكم العقلاني الواعي تماماً للمنطوق الذي يبتغي- الحقيقة هو الوقاية الوحيدة ضد تشظي الذات التي تخبو في عباراتها." ‏

    غير أنه، إلى أي مدى يستطيع "التحكم العقلاني" أن يمضي؟ إن الفكر الذي يوحّد هابرماس ومن ورائه، بطبيعة الحال، كامل الجناح العقلاني لحركة التنوير الفلسفية مع أفلاطون عن طريق تلك المفردة المكروبة "المتعذر ضبطه" هو أن "تشكل الهوية الشخصية" ينبغي أن يمضي قدماً على نحو مثالي في ظل تحكم السيرورات التي، مهما كانت مبتكرة، تستبقي عند مستوى عميق معين صفة الاختيار العقلاني. بعبارة أخرى، إذا كانت الذات تتغير وجب عليها فعل ذلك لأنها، على مستوى معين أعمق، تقرر لأسباب وجيهة أن تتغير وبذا لا تتغير على ذلك المستوى بل تبقى هي نفسها على نحو منيع. يبدو من وجهة نظر هذا النموذج أنه على البديل أن يقر أن الذات لا تملك وحدة وبالتالي لا تملك وجوداً، بل تتكسر إلى ما لا نهاية وعلى نحو لا عقلاني في محاذاة تصدعات نص دريدا ولا نهائيته. يبدو لي أن الرعب الذي يميل بعض القراء إلى الشعور به في قراءتهم دريدا، شأنهم في قراءة نيتشه، ينشأ من واقعة أن دريدا، مثل نيتشه، يستحضر تهديد قصور الذات في النواة المنيعة للمداولة العقلانية التي تكوّن وفق النموذج العقلاني وحدة الذات.‏

    وبَعدُ، عندما تُعلَن نظرية العقلاني عن الذات بهذه الصراحة الشديدة، أيمكن الدفاع عنها عن بعد؟ لنفترض، ملتفتاً إلى الماضي، أني تغيرت، بت شخصاً مختلفاً نوعاً ما، لنفترض أيضاً أنه يمكن أن نعزو ذاك التغيير إلى اللحظة التي انتهيت فيها إلى تقدير تلك القوة العقلانية لمحاجة معينة حق قدرها؟ فهل يمكن القول دائماً أنني اخترت عن عمد، من خلال نسق محاجات مضمرة على نحو أبعد نوعاً ما، لأصل إلى أن المحاجة التي نحن بصددها مقنعة؟ مؤكد لا؛ أو بالأحرى، ألن يكون مثل هذا الافتراض في غالبية الظروف هو نفسه افتراضاً توقيفياً؟ إذ يجب أن تنتهي الأسس التي تجعل من محاجة ما مقنعة في مكان ما. إن سأل سائل عما نجده مقنعاً في الأسس المقدمة لاستنتاج معين، فإننا ننتهي أن نصرح ثانية بهذه الأسس على نحو كسيح فقط. لأنها هي، وحدها، الأسباب التي تجعل لتلك المحاجة وزناً بالنسبة لنا. لقد ترنحت ثملاً مبتعداً عن نفسي ليس إلا، على جهل بالأنواع الأبولونية للسعار الديونيسوسي، على أثر الحدث المتعذر ضبطه لإنتاج المحاجة! في هذا السياق الذي هو، بطبيعة الحال، بوضوح طريقة جنونية في التعبير عن الأشياء. ولكن هل الأمر أقل جنوناً في سياق تغير طريقة نظر المرء إلى الأشياء التي يحدثها الأدب؟ حينما يتحدث المرء عن مثل هذه التغييرات التي تحدثها البلاغة، بالمعنى الحديث للمصطلح، يكون الإيحاء، بالطبع، أنها أنجزت بوسائل لا عقلانية أو ما دون عقلانية، من خلال الإقناع أو غسل الدماغ. ولكن، أيمكن صون ذلك جدياً، بالنظر إلى غنى العلاقات بين التخييل الأدبي الجاد والواقع؟ ولمّا يقيم وليم بليك في قصيدته لندن علاقة بين:‏

    كَمْ مِنْ صَرْخَة كنّاسِ مَداخِنٍ‏

    أرْعَبَتْها كُلّ كَنِيسَة مُسْوَدَّة؛‏

    وتنهيدة الجندي المَنْحُوس‏

    دَماً تنحدر على جُدْرانِ القَصْر. ‏

    فهل ينبغي لنا أن نقول إنه ينقلنا إلى أرض أحلام مؤلفة من كلمات (حيث أعدُّها هي ما يتحدث هابرماس عنها على أنها "قوة العبارات المبتكرة للغة في الكشف عن العالم" التي تتحول إلى معناها الحقيقي في لغة واضحة)؟ أم أنه من باب أولى يقدمنا إلى تجميع قسري غاشم للأشياء التي نعرف تماماً أنها مترابطة في العالم الواقعي، على أننا نتمكن من أن نبقيها بعيدة عن بعضها ما فيه الكفاية في تفكيرنا ومشاعرنا اليومية إذ أن هذه الارتباطات تصبح غير واضحة ومخففة إن بقيت لافتة للنظر بأية حال؟ أجد صعوبة في إنكار أنه عندما يجبر المرء، كما تجبره الأبيات السابقة، على تذكر هذه الارتباطات والتأمل فيها، تكوّن التجربة ما لا يمكن للمرء إلا أن يدعوه محاجة بسبب من نوعية راديكالية بليك السياسية. يبدأ العقل والبلاغة، المحاجة والإحساس المعمق- مقولات لا يألو هابرماس جهداً أن يحجب فيما بينها- في أن تغشي الواحدة الأخرى في مثل هذا الشعر، لتكشف عن التواطؤ والاستنادات الخفية من النوع الذي سيقود المرء إلى أن يتوقعه في قراءته دريدا. الحق، أن هذه التغشية من صفات (أريد أن أقول) الأدب العظيم.‏

    إذا كان على المرء أن يتحول إلى الراديكالية (ليطور ضرباً مختلفاً للذات إلى حد ما) كنتيجة لقراءته بليك، فمن الواضح، إذن، أن أي فعل أو خيار، سوء أكان عقلانياً أم فعلاً حراً، لن يتسبب في أن تنشأ تلك الذات من السابقة؛ الذات قبل- تاثير- بليك. من وجهة نظر الذات السابقة قد تكون آراء الذات الجديدة لعنة. ولعله لا يمكن للمرء أن يتنبأ من معرفة الذات القديمة إمكانية انبعاث الذات الجديدة. بعبارة أخرى، من وجهة نظر الذات "القديمة"، يوضح التغيير فقط أنماطاً من القلقلة واللانهائية هذه التي يجدها قراء دريدا العقلانيون مروعة. أمر لا يدعو إلى الدهشة، فما نتعامل معه هنا هو حدث النمو الشخصي حيث أن عقلانيته أو عدمها هي مسألة بعض تحكم ضمني تبذله الذات "القديمة"، بل هي قدرة الذات "الجديدة" في أن تبني من جديد سيرورة التغيير من حيث التصور المعدل الخاص بها عما يعد عقلانياً؛ بعبارة أخرى، تصور قد يكون أحد ثمرات التغيير بعينه الذي يجعله واضحاً. يبدو لي، الآن، للأسباب التي وضعت لها مخططاً هنا، والتي أسهبت فيها في مكان آخر، أن إعادة البناء ليست أصعب في حالة تغيير النظرة الشخصية الذي يسببه الأدب منها في حالة تغيير النظرة الشخصية الذي تسببه المحاجة العلمية أو الفلسفية. ويبدو لي، إلى ذاك الحد، أن مقولات العقل والبلاغة التي يتهم هابرماس دريدا بأنه يخلط فيما بينها هي، إن لم تكن زائفة، على الأقل مقولات تظهر بتعمق الأنواع الدريدية للاشتراك الضمني.‏

    قد تبدو هذه الطريقة في الدفاع عن دريدا ضد هابرماس أنها تجعل فكره يتبدى أقل راديكالية، وأقل فوضوية مما أُظهِرَ عليه غالباً في المجادلات بين النقاد الأدبيين التفكيكيين ومن هم ضدهم، التي احتكرت نقاش عمله حتى الآن.لكن أعتقد أن ظهور صراع الخندق الأخير بين العقل والفوضى الذي يسم هذه المجادلات انبثق جزئياً من سمة النظريات والمناهج النقدية- النقد الجديد الأمريكي بالدرجة الأولى- التي قاومها التفكيكيون. يرى النقد الجديد- موضوع سلسلة من التحذيرات لسنا في حاجة للخوض فيها هنا- أن العمل الأدبي يمتلك معنى من شأن الناقد أن يشرحه، ولكن لا تستطيع أية إعادة صياغة نقدية للنص أن تمنح ذلك المعنى بأكمله، ولكن تجربة قراءة كلمات النص، مع فهم كامل ودقيق، تستطيع أن تمنح المعنى بكامله ونهائياً. جادل النقاد التفكيكيون في الواقع، على غرار دريدا، أن فكرة المعنى الكامل للنص في اشتقاقه من تجربة قراءة رفيعة الثقافة ومطلعة على نحو مثالي (حتى لو فسر بوصفه معنى تعددياً يعانق الاحتمالات المتقابلة للتأويل) كانت أضغاث أحلام: ذاك أنه في طبيعة نص ما بوصفه نسيجاً من كلمات ذات علاقات حرون من اختلاف الواحدة مع الأخرى وإرجائها ومع علاقاتها مع النصوص الأخرى، لا يمكن الحيلولة دون انتثار المعنى من دون حدود. وقد رد النقاد ضد- التفكيكيون، بالطبع، أن هذا كان معادلاً للقول أنْ ليس ثمة نص يملك أي معنى، أو أي معنى واقعي، على الإطلاق. لكن، هل يمكن للمناقشات الجدلية أن تظهر الاختيار بين هذه الخيارات بوصفه حقاً أمراً حتمياً، والخيارات نفسها بوصفها مستنفدة؟ ولِمَ ينبغي أن نعتقد بنص أدبي له معنى فوق معاني كلماته وجمله ووراءها؟ لماذا لا نعتقد بدلاً من ذلك بقوة كل من إفقاد استقرار استجابات القراء وإثارتها، بدون وضع أي حد لسلسلة الاستجابات التي قد تثار بطرق غير متوقعة بربط كلمات النص مع بعضها أو مع كلمات من نصوص أخرى؟ إن مثل هذه القيود غالباً ما يفترضها المقصد الخاص بالمؤلف. ولكن هنا، أعتقد أن دريدا على حق في أن ينكر، ليس ما نفهمه من أن المقصد الخاص بالمؤلف يصنع اختلافاً في التأويل، بل بأننا نستمتع بالوصول إلى المقصد الخاص بالمؤلف مهما يكن؛ إذ هو نفسه أكثر من مجرد شيء يصنعه التأويل (أي "تأثير الاختلاف والإرجاء"). فرضاً، قد نحتاج الكثير من إعادة التأويل لتحويل، لنقل، ستيرن Sterne من فاسق تنويري ساخر كما رأى فيه الفيكتوريون إلى نصراني ساخر ولكنه مخلص تماماً، غير أن، كما حاولت أن أبرهن في مكان آخر، هذا التحول في وجهة نظرنا نحو مقاصد ستيرن يستطيع أن ينظم محاجات قوية تماماً لصالح [التحول]. ‏



    خاتمة: دريدا، فتغنشتين، وأرسطو‏

    لا يمكننا التغاضي عن الفكرة الأخرى التي يطرحها هابرماس ضد دريدا ومفادها أنّ التفكيكية بتقديمها نقداً مَحْضاً سلبياً للميتافيزيقيا ليس بمقدورها أبداً أنْ تَنْعَتِقَ بِصرامة منها. على حدّ تعبير هابرماس: "يرث دريدا نقطة ضعف نقد ميتافيزيقي لا ينفلت من مقاصد الفلسفة الأولى. "فالإخفاق، بالطبع، سمة حتمية لموقع دريدا. لا انعتاق من الميتافيزيقيا لأنه لا انعتاق من اللغة ولأن الدافع إلى الميتافيزيقيا، إلى التسليم بالتماثل بين المقومات الأولية للواقع والمدلولات الأساسية للغتنا، مضمّن في التصوّر السوسيري للعلامة بوصفها توحيداً بين دال ومدلول.‏

    والمرء يمكنه دفع ذاك النقد إلى مدى أبعد. حقاً، قد لا يكون ثمة طريقة، كما يجادل دريدا، في أن نؤسّس أساليب كلامنا على صنف معيّن من المدلولات، الممنوحة من خارج اللغة للوعي أو لأيّما شيء آخر، إذ ليس من طبيعة المدلول أن يُمْنَح من خارج اللغة. لكن، لم ينبغي على المرء أن يبيح لفكره التّقيّد، والحال أن دريدا كثيراً ما يبدو عليه، بتحليل سوسير للعلامة؟ لِمَ لا ينبغي على المرء أن يحذو حذو فتغنشتين في تأسيس طرقنا في استخدام الكلمات على الممارسات المفهومة ضمناً؟ ربما تكون القضية الـ في النحو الفلسفي نصّاً فاصلاً هنا:‏

    إنّ دور الجملة في الحساب التحليلي هو فحواها.‏

    فمنهج لقياس - الطول، مثلاً- له علاقة بالنسبة لصحّة تقريرٍ ما عن الطول تماماً كنفس علاقة فحوى جملة ما بصدق هذه الجملة أو زيفها.‏

    وبخلق ممارسة، للقياس في هذه الحالة- وهي لا تحتاج إلى أكثر من مقارنة الحيز الذي تشغله أشياء متباينة على نحو نظامي عبر رؤية عدد المرّات التي نمدد فيها شيئاً آخر، موظّف قياسياً لهذه الغاية، قبالة الحيّز من أقصاه إلى أدناه - نقدّم أسلوباً لتحديد صدق أو زيف أيّ طرف من صنف القضايا التي لها شكل: طول m n A على أنّ A هو ما سنقارنه بشيء آخر و m معامل القياس (ما يُستخدم بانتظام في تأسيس مقارنات من هذا القبيل). إننا، بعملنا هذا، نستحضر مجموعة من العبارات الجديدة إلى الوجود بوصفها عناصر ممتلئة المعني في لغتنا: الطول، أطول من، مُعامِل الطول، وغيرها. مع ذلك، لم يستلزم منح معنى لكل عبارة من هذه العبارات ربط أيّ منها بكيان، مدلول، سواء أمُنِحَ هذا الكيان للوعي أم كوّنته اللغة. لقد استلزم ببساطة منح كلّ تعبير دوراً أو استخداماً معيّناً في سياق ممارسة هي بدورها لم تؤسّس على القواعد أو المقاصد بل ببساطة تأسّست على ما نفعله.‏

    إنّ هذه الرؤية إلى الأشياء، كما بيّن هنري ستيتن، تقدّم عناصر متعادلة [وحدات متماثلة في تركيبها] لعدّة استنتاجات في فكر دريدا، بما فيها الميثولوجيا البيضاء. فبما أنّ المعنى يؤسّس على ما نفعله، وبما أنّ ما نفعله يمكنه أن يتغيّر وهو غير "مقيّد في كلّ مكان، مهما كان، إلى القواعد"، ليس ثمة جواب نهائي للسؤال عمّا هو المعنى "الخاصّ" لتعبير ما. المعاني، في نظر فتغنشتين ودريدا، يتمّ التوسّع فيها داخل اللغة، إذ ليس ثمة علامة لها معنى مستقل عن باقي العلامات: "لفهم جملة ينبغي فهم لغة"57-. والممارسات التي تنتج صدق الشروط، حينما تفصل عن تلك الوظيفة، قد تنتج أيّ عدد استعارات -من النمط الذي يميّزه أرسطو بوصفه "من طريق القياس"58- لن تنتج أبداً، من خلال السيرورة التي يسخر دريدا منها بتورية على أنها الـ USURE، أيّة عودة لـ "الخاصّ"، ولن تنتج أبداً المعنى المشروط بصدقه.‏

    إلاّ أنّ فتغنشتين ليس نسخة كامبردج أو فيينا عن ديريدا، والتباين المركزي بينهما هو أنّ تصوّره عن الارتباط بين المعنى والممارسة، في المرحلة المتأخرة من فكره، قد حرّره من قبول أية نسخة من فكرة أنّ المعنى علاقة بين عبارة، علامة، وشيء آخر: مفهوم، مدلول، نسق صدق شروط. وحرّره أيضاً من الدائرة الفلسفية؛ "قارورة الذباب" إذا استخدمنا إحدى استعاراته، التي نطَنْطِن فيها سدىً عن فكرة وجوب أن يكون من الممكن أن نلصق معنى محدداً بكل عبارة قائمة بذاتها في لغةٍ بناء على رأي مفاده أن هذه الغاية يمكن بلوغها من خلال التفاف عبر اللغة برمتها، والعودة ثانية. أشرنا آنفاً إلى إواليات اشتغال ثنائي الأفكار ذاك في ذهن المثالي برادلي. تلك الثنائية التي أصبحت، من طريق كواين، البديهة المؤسّسة للكثير من تفسيرات الفلسفة الأمريكية المعاصرة في محاولاتها الحديثة لربط دريدا بالموروث الكوايني. يحاول هذا الموروث التخفيف من حدّة المفارقة في المكوّن الثاني من الدائرة عبر جعل المهمة المعينة للمعنى إمبيريقية وشرطية، مجرد مسألة إمكانات التفسير على ضوء التصديق أو المخالفة الفطري. ويفعّل دريدا من جهته المفارقة لأهميتها قلت أم كثرت من خلال التشديد المستمر على أنّ الالتفاف عن طريق اللغة التي يمكنها وحدها أن تقودنا إلى معنى حاسم لعبارة قائمة بذاتها هو التفاف غير محدّد أو أقلّه التفاف طويل على نحو غير محدّد. لن تعود سفن المعنى محمّلة بغنى جديد للحرفيّ، للمعنى "الخاصّ" لأنها لن تعود البتّة.‏

    أما في نظر فتغنشتين، فإنّ السفن ليست بحاجة لأن تشرع في الرحلة منذ البداية. نحن نعرف ما تعنيه طول 3X سنتيمترات إذْ نعلم أنّه بمقدورنا تحديد صدق أيّة جملة لها هذا الشكل أو زيفها بإنفاق مال ووقت متواضعين لشراء مقياس وحدة طول والكشف عن الكيفية التي نقيس بها. وما قد يحدث بالتالي لكلمة طول في رحلتها اللاحقة عبر الأدب والحياة لا يعنينا لأن هذه الرحلات ليست رحلات بحث عن معنى حاسم للكلمة يأخذ على عاتقه ثمناً ينبغي دفعه فقط بسبب من عودته الإشكاليّ، بل من بابٍ أولى هي بعثات لإقامة فرع منافذ وصناعات جديدة للمعنى مولّتها المصادر الأصلية للممارسة المؤسّسة.‏

    إن الحركة التي تحرر فتغنشتين من المفارقة التي ولّدتها فكرة أن الكلمات يجب أن تصل إلى شيء ما غير ذواتها، ولكن تستطيع فعل ذلك فقط من خلال بعضها بعضاً، تحرره أيضاً من مشروع الميتافيزيقيا الغربية المتصوّر بوصفه سعياً وراء الحضور الممتلئ للمعنى ونهائيّته. بعبارة أخرى، أنّه متحرّر من الاشتراك شبه الطفيلي الذي، كما يشير إليه هابرماس عن حق، يربط التفكيكية بما تفككه وقد يربط بالطريقة نفسها مشاريع تحليلية معينة، مهما تكن علميّة في طموحها، إلى مشاريع عتيقة للميتافيزيقيا الغربية تنظر إلى نفسها بوصفها قد تجاوزتها.‏

    تقود هذه الفكرة إلى أخرى. إن بقي فكر فتغنشتين خارج مشروع الميتافيزيقيا الغربية ألن يكون ثمة بعض، أو كثير، ممّا اعتبر تقليدياً بوصفه فلسفة خارج هذا المشروع ضمن مدى سواء أقلّ أم كثر؟ إلى أيّ مدى يتوجّه عمل دريدا، ليس إلى الفلسفة الغربية، إنّما إلى اتّجاهات معينة في الفلسفة الغربية التي باتت لها الغلبة في القرن السابع عشر، في المقام الأول بفضل زخم الديكارتية، وبقيت على ما هي عليه إلى القرن الحالي؟ كيف يكون الغرب، في الواقع، فلسفة غربية، إلى أيّ مدى صمّم حصن لتهميش الآخر غير الغربي ولإقصائه، وإلى أيّ مدى هي نفسها خليط من سائر ضروب التأثيرات: النصرانية، العربية، اليهودية، الهندوسية؟ إنه موضوع ضخم لتقديمه في هذا المقام الأخير ممّا بدأ على أنّه مقدمة غير أنّه مضى، ربما، إلى أبعد من حدود دراسة من هذا القبيل. لعلّه بمقدور المرء الإشارة إلى أنّ مثل هذا الموضوع يمكن البدء به عبر إمعان الفكر عن قرب أكثر لمعالجة دريدا لأرسطو في الميثولوجيا البيضاء. إنّ هذا الـ أرسطو هو سلف الميتافيزيقيا الغربية؛ أعني، أنه في نظره، يملك إحساس القرن السابع عشر الفرنسي. وقد ظهرت طرق متباينة لقراءة أرسطو في أواخر الستينيات، عبر عمل جون جونز John Jones، مارتا ناسبوم Martha Nussbaum، مايلز بيرنيت Myles Burnyeat، هيلاري باتِنم Hilary Putnam، وغيرهم. فباتنم مثلاً في مقالة لها بعنوان أرسطو بعد فتغنشتين تنفخ الحياة في أرسطوٍ يبدو، في استعداده أن يجعل الشكل تغزوه تقلّبات التجربة، قريباً من دريدا -أو فتغنشتين في مرحلته المتأخرة- أكثر مما هو عليه في ميتافيزيقيا الحضور.‏

    وهؤلاء الكتّاب جميعهم على حدّ سواء، بتذكيرهم لنا بشعور من الغرابة الشديدة تجاه الطرق القديمة في التفكير مقارنة بنافذتنا المفتوحة، مثل فتغنشتين، على الآخر المهمش بطريقة لا تفعلها كتابة دريدا تماماً رغم استكشافها الساخط النفيس للحيل وخداع النفس في سيرورة التهميش.‏



    تيريز. كوم
    17/11/2003

    [email protected]
    جميع الحقوق محفوظة بـ تيريز. كوم 2004
    ©copyright
    tirej.com,2002










                  

10-11-2004, 05:00 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)




    جاك دريدا: اسرائيل لم تعد تمثل بالنسبة لي اليهودية ولا شتات اليهود ولا الصهيونية العالمية الأصلية
    طباعة


    المحرر: كوليت مرشيليان
    التاريخ: 8/23/2004

    الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، صاحب فلسفة "التفكيكية"، محط انظار الاعلام والصحافة اليوم ليس فقط لأنه يصارع المرض منذ فترة بل لأنه ومنذ صيف 2003 تتوالى النشاطات والاعمال الفنية، السينمائية خاصة، التي تناولت حياته وفكره. وهو بدوره، وقع أعمالاً جديدة وشارك في مؤتمرات عالمية عديدة دارت حول أعماله وفلسفته التفكيكية، من لندن الى كوامبرا، مروراً بباريس وريو دي جانيرو. كذلك، أخرج آمي كوفمان وكيربي ديك فيلماً عنه بعنوان "دريدا" وذلك بعد الرائعة السينمائية "دريدا من هناك" لصفاء فتحي عام 2000. وتصدّر غلافات وملفات عدد كبير من المجلات الأسبوعية والشهرية من "الماغازين الأدبية" الى مجلة "أوروبا" الى "دفاتر الأدب"... الكثير من الاطلالات في عام واحد ومع هذا دريدا لا يخفي مرضه وارهاقه من العلاج الطويل الأمد أو مع هذا رفض ان يتحدث عن مرضه الى صحيفة "اللوموند" التي حاورته منذ أيام. نقتطف بعض المقاطع من الحوار:



    - بشكل عام، أنت تجد صعوبة كبيرة في قول كلمة "نحن"، "نحن الفلاسفة، او نحن اليهود" مثلاً. ولكن، مع هذا الخراب في العالم الذي يمتد، لا تجد صعوبة في قول "نحن الأوروبيين". وكنت قد ذكرت في كتاب سابق لك "الرأس الآخر" الصادر عام 1991 أثناء حرب الخليج الأولى انك "الأوروبي العجوز" أو القديم مثل "نوع من التهجين الأوروبي".
    ـ أحب ان اذكرك بأمرين: صحيح أنني أجد صعوبة في قول كلمة نحن، لكنني أحياناً كثيرة أقولها، وذلك على الرغم من كل المشاكل التي تعذبني في هذا الموضوع، ابتداء بسياسة اسرائيل الانتحارية واليائسة وصولاً الى الصهيونية (لأن اسرائيل لم تعد تمثل بالنسبة لي اليهودية ولا شتات اليهود ولا الصهيونية العالمية الأصلية التي صار لها وجوه عديدة ومتناقضة) وهناك عدد كبير من الأصوليين المسيحيين في الولايات المتحدة الأميركية يعتبرون انفسهم من الصهاينة "المخلصين". وهذا اللوبي يمتلك القوة والسلطة أكثر من الجماعة اليهودية الأميركية، وإذا تركنا جانباً الموقف من الأزمة العراقية في سياسة الأميركيين واليهود التي لا أوافق عليها الى جانب العديد من المواقف السياسية لهم، فأنا، وعلى الرغم من كل المشاكل مع انتمائي اليهودي، لا أرفضه ولا أتنكر له أبداً.

    قد أقول دائماً، وفي ظروف معينة، "نحن اليهود"، هذه "النحن" التي تؤرقني هي في صلب القلق في فكري، وهي ما وصفته في كتابي "اليهودي الأخير". وسوف تبقى في فكري تماماً كما حدد أرسطو الصلاة في فكره: "انها ليست حقيقية ولا مغلوطة". قد أقول أحياناً "نحن اليهود" وأحياناً "نحن الفرنسيين".
    ثم، ومنذ بداياتي في العمل هي مركز اعادة التخريب او التفكيكية التي كتبت عنها، حتى انني ضد المركزية الأوروبية في المعنى الحديث لها، وكما صورها البعض من فاليري الى هوسرل الى هايدغر، مثلاً. التفكيكية بشكل عام هي مؤسسة اعتقدها البعض موجهة كتحذير عام ضد المركزية الأوروبية. وحين يحدث معي وأقول احياناً اليوم "نحن الأوروبيين"، فالأمر مختلف هنا: كل ما يمكن تفكيكه في التراث الأوروبي لا يمنع وبسبب ما حدث في أوروبا، من انحسار دور هذه القارة والاحساس الهائل بالذنب الذي جعل ثقافتها تنحسر أيضاً (بسبب التوتاليتارية والنازية، والمجازر والاستعمار والانتداب) اليوم وفي الأجواء الجغرافية ـ السياسية الراهنة، أوروبا، أوروبا أخرى ولكن بالذاكرة عينها، تستطيع (وهذا هو التمني الوحيد لدي) ان تتحد ضد سياسة أميركا المهيمنة والمتسلطة (حسب تقارير وولفوويتز وتشيني ورامسفيلد) وضد التيوقراطية العربية ـ الإسلامية (أو سلطة رجال الدين) التي لا ضوء ولا مستقبل سياسياً لها (ولكن يجب ألا نخلط بين هاتين السياستين ونحن نتحد مع الذين يحاربون من الداخل هاتين القوتين).

    وتجد أوروبا نفسها اليوم مضطرة الى تحمل هذه المسؤولية الجديدة. وأنا لا أتكلم عن الاتحاد الأوروبي كما هو اليوم أو كما يرتسم لدى الأكثرية الحالية وهو معرض الى العديد من الحروب الداخلية، ولكني أتحدث عن أوروبا جديدة قادمة وتبحث عن نفسها. في أوروبا (جغرافياً) وخارجها. وما نسميه جغرافياً أوروبا عليه ان يأخذ على عاتقه مسؤولية، وهي مستقبل الانسانية والحقوق العالمية للإنسان، وهنا ألخص كل ايماني. وهنا لا أتردد في قول "نحن الأوروبيين" فأنا لا أتحدث عن قيام أوروبا جديدة لها سلطة وقوة عسكرية متفوقة لتحمي سوقها وتمارس نزاعها مع الآخرين، ولكن أتحدث عن أوروبا أخرى تأتي لتزرع بذرة السياسة الجديدة التي ستشمل العالم. وهي بالنسبة لي الحل الوحيد. هذه القوة بدأت تعمل. ولكن مع أن عواقب كثيرة تعترضها لكنني أظن انها ستنطلق ولا شيء سيوقفها. عندما أقول أوروبا أقصد بها هذا... ولا أقصد أن تكون سلطة عسكرية للقتال، بل سلطة عسكرية لا مهددة ولا دفاعية ولا احتياطية، بل موجودة وحاضرة دائماً لتنفذ ما تتوصل اليه قوات الأمم المتحدة (مثلاً وبكل حذر، في اسرائيل، وخارج اسرائيل ايضاً). وسوف تكون ايضاً المكان المناسب الى كل انواع العلمنة والعدل والقانون الاجتماعي، أكثر منه موقع الموروثات الأوروبية.
    أتيت على ذكر "العلمنة" هنا. دعني أفتح المزدوجين هنا لأستطرد. العلمنة هنا لا تعني "الحجاب" في المدرسة بل "الحجاب" في الزواج... لو كنت معنياً بنص التشريعات، لكنت اقترحت وبكل بساطة اختفاء كلمة وفكرة "الزواج" في نص مدني وعلماني. "الزواج" هو نتيجة وقيمة دينية ... في الانجاب والتواصل والإخلاص الأبدي، الخ... أرغب في تداخل الحكم العلماني بتعاليم الكنيسة. والزواج في وجهته الأحادية ليس من تعاليم اليهودية (لكنه فرض على اليهود من قبل الأوروبيين في القرن الماضي مع أنه لم يكن يطبق بعد لدى اليهود في المغرب) ولا هو في تعاليم الإسلام، كما نعلم جميعنا. ومع إلغاء فكرة "الزواج"، هذا الخبث المقدس والديني، الذي لا مكان له في الفكر العلماني، قد نستبدله "بالزواج المدني" او "القران المدني" وفقاً لعقد موقع من الطرفين، وهذا العقد يتم تهذيبه وتحسينه مع الوقت وقد يتم هذا العقد بين شخصين أو أكثر، أو بين جنسين مختلفين او متشابهين. أما بالنسبة الى الذين قد يرغبون في "الزواج" بالمعنى التقليدي ـ وأكن له احتراماً لا يزول - يمكن لهم ان يقوموا بذلك امام السلطة الدينية التي يختارون تماماً كما قد يرغب بعض المثليين الجنسيين في قيام زواجهم في أي مكان في العالم امام السلطة الدينية. قد يرتبط اثنان امام السلطة الدينية أو المدنية او الاثنين معاً او لا يرتبط احدهم ولا بأي طريقة. هنا أضع نقطة النهاية على موضوع الزواج. (انها طوباوية لكنني على موعد معها).



    اوروبا، ومنذ عصر الانوار والنهضة، وهي تقيم النقد الذاتي باستمرار، وفي هذا الواقع، ثمة امل كبير للمستقبل. على الأقل، انا آمل في ذلك كي تخف نقمتي أمام الاتهامات التي توجه الى أوروبا على انها لم تكن يوماً الا أرضاً للجرائم.



    بالنسبة الى موضوع أوروبا، الا تجد نفسك في موقع حرب مع الذات؟ من جهة، تقول ان أحداث 11 أيلول هدمت القواعد الجغرافية ـ السياسية القديمة للسلطات والقوى الكبرى، وبذلك تركز على مقوله جديدة للفكر السياسي الذي تقوله أوروبياً هذه المرة، ومن جهة ثانية، انت تتعاطف مع الروح الأوروبية ومع المثال الأوروبي...
    ـ حين نقول سياسة نستخدم عبارة اغريقية، مفهوماً أوروبياً افترض دائماً الدولة، الشكل "المهذب" المرتبط بالأرض الوطنية. فأياً كانت أشكال الانقسامات داخل هذا التاريخ، فإن المفهوم السياسي هذا يبقى سائداً، في الوقت الذي نجد فيه قوى كثيرة هي في سبيلها الى التفكك: فسيادة بلد لم تعد مرتبطة بالحدود والأرض، ولا تكنولوجيا الاتصالات والاستراتيجية العسكرية كذلك، وهذا التفكك يضع فعلياً المفهوم القديم للسياسي في أزمة. وللحرب، وللتمييز بين المدني والعسكري، وبين الحدود الوطنية والحدود العالمية (...) انا في حرب ضد نفسي، هذا حقيقي، ولا يمكن ان تعرفوا الى أي درجة قد تصل هذه الحرب، وهي أبعد مما تعتقدون، واحياناً قد أقول وأفكر في أمور متناقضة هي، في الواقع، حقيقية، أحياناً تجعلني أبني ذاتي من جديد، تجعلني اعيش أو أموت.
    هذه الحرب، أراها أحياناً حرباً راعبة وقاسية ولكن أعرف في الوقت ذاته، انها الحياة. ولن أجد السلام إلا في الراحة الأبدية. اذاً لا استطيع الجزم بأني قادر على فهم هذا التناقص، لكني أعرف ايضاً انه هو الذي يبقيني على قيد الحياة، ويجعلني اطرح السؤال، تحديداً، "كيف علي ان اتعلم العيش".



    (ترجمة: كوليت مرشيليان، "المستقبل")








                  

10-11-2004, 05:03 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)








    بورتريه سينمائي

    بقلم: مايكل ويت

    ترجمة: أمين صالح

    المخرجان الأمريكيان كيربي ديك وآمي زيرنج كوفمان قدما في العام 2002 فيلماً وثائقياً بعنوان دريدا، يقوم علي لقاءات مطولة أجراها المخرجان مع دريدا وزوجته مرجريت وابنه رينيه إضافة إلي آخرين. هنا نترجم ما كتب مايكل ويت في مجلة sight and sound، عدد مارس 2003، عن انطباعاته حول هذا الفيلم.

    إنه بورتريه وثائقي للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. إننا نري دريدا، في البداية، بشعره الأشعث وهو في طريقه إلي الحلاق، ثم نلحق به وهو يخطط للعلاقة بين الفلسفة والبيوغرافيا (السيرة الذاتية) بلغة إنجليزية لا عيب فيها تقريباً، في مؤتمر أكاديمي. دريدا يظهر وهو يوجه خطابه إلي إحدي الحلقات الدراسية. والفيلم يؤكد الطريقة التي بها نشاط دريدا الفكري قد تردد صداه عبر التخوم الصارمة منذ أربعة عقود خلالها أنتج أكثر من 54 كتاباً.

    يتناول الفيلم أيضاً تأملات وملاحظات دريدا بشأن العلاقة بين الواقع المادي لحياة الفيلسوف وكتاباته. من ناحية أخري، الفيلم يتعاقب بين صور لدريدا العام ودريدا کالخاص خلال مرحلة تمتد ثماني سنوات، من مائدة الافطار إلي ستوديو التلفزيون، ومن اجتماعات عائلية إلي مجموعة من قاعات المحاضرات. والفيلم يمزج شظايا من المقابلات مع المادة الوثائقية ومقتطفات من كتبه علي شريط الصوت.

    إننا نتابع الرجل العجوز، المفعم بالنشاط، والبالغ من العمر 72 سنة، في رحلاته من فرنسا إلي الولايات المتحدة وإلي جنوب إفريقيا، حيث يجمع بين محاضرة عن موضوع کالغفران وزيارة إلي زنزانة كان نيلسون مانديلا محتجزاً فيها.

    الفيلم بورتريه منفذ ببراعة وبشكل جميل للفيلسوف جاك دريدا بوصفه نجماً جذاباً وكثير الأسفار. إنها ليست محاولة لتقديم فلسفة دريدا علي نحو نظمي وتصنيفي، أو لاستنطاق تعقيدات هذه الفلسفة. ولا يقصد من هذا توجيه نقد للفيلم، بل نعتقد أن الفيلم، في أغلب الظن، سوف يلقي قبولاً وارتياحاً من قبل العديد من الطلبة الذين وجدوا صعوبة فائقة في فهم مؤلفات دريدا.

    إن جاذبية هذا الفيلم تكمن في مكان آخر، في انفتاحه علي كل الوافدين الذين ليس لديهم إطلاع واسع، جنباً إلي جنب مع أولئك المتضلعين إلي حد بعيد في فكر دريدا - وفي اللمحات التي يقدمها الفيلم نحو المنزل والحياة العملية لواحد من أكثر فلاسفة اليوم أهمية وشأناً.

    التوكيد في المقابلات هو علي عرض الذهن التحليلي المتألق وهو يعمل. دريدا مرهف الملاحظة في المشاهد التي تقتضي منه أن يناقش موضوعاً يطرح علي نحو اعتباطي تقريباً، وينتظر منه أن يرتجل بتوسع في إجاباته علي أسئلة الكاميرا. عندما تنجح الاستراتيجية فإن النتائج تكون رائعة: مراقبة دريدا وهو يلاحق فكرة أو يصوغ ويجيب علي سؤال يطرحه بنفسه، هي - هذه المراقبة - غالباً ما تكون ساحرة، كما عندما يوجه إليه مثل هذا السؤال: ما الذي تود سماعه من هايدجر أو هيجل أو كانت في فيلم وثائقي مماثل لهذا الفيلم؟ (كانت إجابة دريدا: حياتهم الجنسية).

    هناك أيضاً مقابلات مع وعن أفراد عائلته: المناقشة الطارئة، العرضية، عن حبه لأخته. الرهبة التي تظهر علي وجه أخيه رينيه فيما هو يحاول أن يقدم بياناً عن مواهب جاك. محاولة جاك وزوجته مرجريت تذكر اليوم الذي التقيا فيه للمرة الأولي في يوم عطلة وذلك في العام 1953.

    الثيمة البنائية المركزية للفيلم هي ما يقدمها دريدا نفسه في البداية عندما يورد تلخيص هايدجر لحياة أرسطو: کولد.. فكر.. ومات، وكل ما تبقي هو محض حكاية. الفيلم يستنطق بدماثة هذا الوضع، وثمة في ما يبدو تشكيلة عشوائية من الوقائع البيوغرافية (المتعلقة بالسيرة الذاتية) العادية أو المألوفة: دريدا كان قد طرد من المدرسة وهو في سن الخامسة عشرة لأنه كان يهوديا. ورفض عرضاً من الكاتبة والمخرجة السينمائية مرجريت دورا لتأدية دور في أحد أفلامها. وفي فترة مراهقته، حلم دريدا بأن يصبح لاعب كرة قدم محترفا.

    المخرجان لا يعتمدان علي السرد الكرونولوجي (المتسلسل زمنياً) بل ينتزعان من الأجزاء المصورة ما يتلاءم مع تركيب بورتريه سمعي بصري مفعم بالحيوية وجذاب للغاية والفيلم يذكرنا أحياناً بأشكال واستراتيجيات السينما السياسية في السبعينات، مقترحاً في المقام الأول عبر الاستطراد والكولاح، مازجاً أحجام BETA وDV.

    إن معالجة صانعي الفيلم، المتسمة بالاحترام، للمادة، إضافة إلي حضور دريدا الذي يبدو جذاباً وحليماً ويقظاً ومرحاً، ومليئاً بالطاقة، كل هذا يجعل من مشاهدة الفيلم والاستماع إلي دريدا تجربة ممتعة، وبصرف النظر عن دور الفيلم في حث المتفرج علي البحث عن أقرب مكتبة لشراء مؤلفات دريدا، فإن الفيلم يظهر ذلك الحضور الساحر (الكاريزمي) لدريدا والذي يضاهي حضور النجم السينمائي.

    لقد تركني الفيلم مع فكرة غريبة بعض الشيء: ماذا لو استطاع مخرجو الموجة الجديدة في الخمسينات أن يلتقطوا دريدا جنباً إلي جنب مع بريجيت باردو وبلموندمر، ماذا لو نجحت مرجرريت دورا في إقناعه بأن يمثل في فيلمها.. هل كان يمكن لتاريخ الفلسفة وتاريخ السينما الفرنسية أن يتغيرا، وأن يبدو مختلفين تماماً عما هي الآن؟

    حريدة الأيام في 1 يونيو 2003
                  

10-11-2004, 05:08 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وداعا جاك دريدا ومفهوم "المغفرة" (Re: osama elkhawad)

    المغفرة كفعل تحدٍ للتقاليد والإجماع
    Richard Holloway

    On Forgiveness

    في المغفرة

    Canongate Books

    Edinburgh- New York, 2002

    98 pages.



    هناك مغفرة فقط حيث ثمة ما لا يُغفر، على ما يجادل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. فلكي يستحق فعل المغفرة الصفة المنسوبة اليه، لا بد وان يكون غفراناً غير مشروط لما لا يُغفر. فإذا ما أتى هذا الفعل مسبوقاً او ملحقاً بالتوبة، او بالاقرار بالذنب وإصلاح ما أفسد، فإنه لا يكون بأصدق من سبيل مصالحة تمليها رغبات الجماعات ومصالحهم. ففي مثل هذه الحالة فإن من يحظى بالمغفرة ليس الشرّ او فاعله، اي المذنب، وإنما التائب والمعترف بالذنب، اي عملياً شخص آخر مختلف لمن يحتاج الى المغفرة. هذا في حين ان فعل المغفرة هو ذاك الذي يغفر ما يستحيل العودة عنه وإصلاحه.

    فلئن بدا مثل هذا التعريف "مفرطاً ومغالياً ومجنوناً" على ما يصفه دريدا، فهذا لأن المغفرة، على ما يجادل الفيلسوف الفرنسي في مقالة شهيرة له (كنا قد عرضنا لها من قبل على هذه الصفحة)، لهي جنون وينبغي ان تلبث "جنون المستحيل". والمقصود بالجنون ههنا، ان المغفرة فعل غير مقدر او محسوب، وغالباُ ما يباغت المستقر والتواضع عليه، تماماً كما يفاجىء فعل الثورة سياق التاريخ والسياسة والقانون. ففي مثل هذا السياق ليس ثمة سياسة او قانون مغفرة، الاّ بما تقتضيه الحاجة وتشترطه المصلحة.

    انه لمن هذا التحدي الذي يطرحه دريدا، ينطلق ريتشارد هالواي، الكاتب البريطاني، مطران إدنبره السابق واستاذ "الإلهيات" في جامعة لندن، في كتابه موضوع هذه القراءة. وعنده ان الدين الإبراهيمي (اليهودية والمسيحية والإسلام) لهو أكفأ من تعامل مع مسألة المغفرة. وتاريخ الوعي الإنساني بمحنة الآخرين ليتجلى خير ما يتجلى في الدعوات التوحيدية الابراهيمة الى التعاطف والعفو عما مضى.

    ولعل ما ييسر للكاتب التصدي لهذا التحدي، وسوق حجج حسنة الوقع، انه لا يستند الى فرضيات او مسلمات تهمّش او تستبعد الجمهور العلماني ، والليبرالي النزعة، على الأرجح، ممن يتوجه اليه أصلاً. فهو لئن جادل لصالح الدين، فإنه لا يمانع الأخذ بشرط، او مفارقة اخرى من مفارقات دريدا، شأن القول ب"الدين من غير دين"، اي الدين من دون المؤسسة الدينية بما تُملي من تطبيق تعاليم او تنفيذ وصايا وممارسة طقوس وشعائر. انما هو القيم الإلهية، كالحب الالهي بما هو العدل وليس الإلتزام الحرفي بالنصوص الدينية. ولا يضير الكاتب ايضاً الاخذ بالمعرفة العلمية حول بدء الوجود عوضاً عن حكاية الخلق الدينية. فالغاية الأسمى، وإن الأعسر، على ما يجادل الكاتب، هي معرفة "كيف" وليس "لماذا"- كيف يزودنا الدين بنظرية للمغفرة تنال الرضا ولا تتجاهل، في الوقت نفسه، حجم التحدي الذي يشير دريدا اليه؟ وصعوبة معرفة "كيف" هذه تنبع من حقيقة ان الكاتب يحاور جمهوراً علمانياً، وليبرالياً على الأغلب، اي جمهوراً سياسياً يتطلب حجة تُقرّ بفرضياته وتجاري طموحاته العمليّة.

    لذا فهو يُرجىء الكلام على المغفرة غير المشروطة، او المستحيلة، على ما يصفها، الى ان يتسنى له إقامة الحجة على ان المغفرة المشروطة نفسها ضرورية وملازمة لمطلب العدل.

    يسوق الكاتب في سبيل هذا الغرض ثلاث حجج مستمدة من أمثولات إنجيلية: اولاها، ان الوجود الانساني من السعة والتعقيد ما يجعل من العسير إحصاء كافة ذنوب البشر، ومن ثم غفرانها واحداً إثر الآخر. وحيث ان هناك من الآثام، مما يُقترف من دون مشيئة او معرفة المذنب، فإن البشر جميعاً غير معصومين من شبهة إرتكاب الآثام، من ثم فإن الدعوة الى المغفرة ليست دعوة مستحقة الى مجموعة معينة، من الافراد والجماعات ، وانما لكافة بني البشر. فيتوجب على المرء المغفرة لأنه يتوقع ان يُغفر له ما إقترف او ما قد يقترف من ذنب، سواء ادرك إقترافه ذنباُ ام لم يدرك.

    ثانياً، ان جلّ جرائم البشر وآثامهم لا تنحصر بالظروف الوثيقة الصلة بهذه الأفعال، وانما غالباً ما ترتبط بظروف وملابسات أشمل وأعقد، وبما يتجاوز كلاً من الجاني والضحية. وان معرفة لهذه الظروف الشاملة تبيّن انه حتى حينما يكون من المتعذر غفران الجريمة، فإن سلوك الجاني كان محكوماً بجملة من العوامل التي تتجاوز مدار إرادته المباشرة. ومثل هذه الحقيقة قد لا تعفيه من المسؤولية بيد انها توجب المغفرة، تبعاً للتقاليد الدينية، خاصة إذا ما أقرّ الجاني بالذنب.

    ثالثاً، وهي الحجة الأهم، ان المغفرة لهي السبيل الوحيد لتحرير الضحية من عبء الماضي. وقد يكون من العدل الخالص الاّ تغفر الضحية لمن أساء اليها وألحق الأذى بها، ولكن لأن من المستحيل إسترجاع الماضي والحؤول دون حصول ما حصل، فإن المغفرة تكون السبيل الوحيد لئلا يتحول الماضي الى "حفّار قبور الحاضر والمستقبل" على حد تعبير شهير لنيتشه. وحالة التثبيت عند الماضي التي يعمد بعض الضحايا الى الأستسلام اليها، انما تعني ان حياة الضحية بما تنطوي عليها من إمكانيات وإحتمالات لا تُحصى، قد إنتهت عملياً، وأن الحاضر والمستقبل ما هما سوى ملحق او تتمة للماضي.

    ومن الواضح ان هذه الحجج تنهج سبيل العقلنة النفعية الذي يُظهر ان سياسة المغفرة المشروطة لهي في صالح الجميع سواء لغرض تحقيق سلام كوني او إنقاذ الضحية من وسواس الإنتقام والثأر. بيد ان هالواي يدرك ان هذا الوسواس، مثلاً، قد يكون من النفوذ والرسوخ في نفس الضحية بحيث يتضاءل في حضوره اي مردود نفعي للمغفرة المشروطة، وبما فيه إستعادة حياتها المرهونة للماضي. الى ذلك فثمة من الجرائم الفظيعة ما يجعل من المحال إصلاح ما أُفسد، بل وحيث الأذى من الهول ما يجعل التوبة والإقرار بالذنب، اي شروط المغفرة المشروطة، امر لا جدوى منه، بل ولا معنى له. فأي جدوى للإقرار بالذنب حيال "تجارة الرق" او "المحرقة" او غيرهما من الجرائم التي أودت بحياة ملايين البشر؟ وأي معنى هناك لإقرار كهذا؟

    هنا تبرز الحاجة الى المغفرة غير المشروطة- المغفرة بإعتبارها غاية بحد ذاتها لا إحتساب فيها لمنفعة لاحقة، مباشرة او غير مباشرة. و مستعرضاً أمثولة إنجيلية حول ذاك الأب الذي يغفر لإبنه العاق أفعاله المشينة،قبل توبة هذا الأخير بل ومن دون ان يتوقع (الاب) توبته اصلاً، يخلص هالاوي الى ان هذه هي المغفرة غير المشروطة، طالما ان فعل المغفرة قد أغفل ما تمليه التقاليد والقوانين والاعراف التي تتبعها الجماعة التي ينتمي الأب المذكور اليها. لو كان الأب قد أخذ بعين الحسبان شروط الجماعة وقوانينها لما إستطاع ان يغفر لإبنه من دون شروط مسبقة، او على امل ان يتوب الابن بعدما يُغفر له، بيد ان تجاوزه لهذه القوانين هو الذي أفسح المجال لإنبثاق فعل مفاجىء لا يحتكم او يجاري سياسة الافعال المتواضع عليها. تماماً كما هي الثورة، على حد تعبير دريدا، "تُفاجىء مسار التاريخ والسياسة والقانون" وتتجاوزها جميعاً، ولكن من دون ان تُرسي اساس سياسة وقانون بديلين.

    وكأي مقدم على فعل مفاجىء لا غرض له الاّ ذاته، فإن المبادر الى مغفرة خالصة سيُتهم بالغفلة والمغالاة والجنون، او حتى الخيانة، نظراً الى خرقه محور الاجماع واعراف الجماعة. ولكن هل نجى انبياء الدعوة الابراهيمية من تهمة الخيانة والجنون، من قِبل جماعاتهم؟ وهل يمكن الكلام على قيمة كونية تتجاوز حدود الجماعة ومصالحها من دون الاستعداد لهذا الجنون، لهذه الخيانة؟

    (الحياة – ملحق تيارات 25/11/2002)

                  

10-11-2004, 05:17 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة (Re: osama elkhawad)

    د. حامد أبو أحمد

    (*) الخطاب والقاريء.. نظريات التلقي وتحليل الخطاب ومابعد الحداثة- حامد أبوأحمد- كتاب الرياض- العدد 30 - يونيو 1996- ص191-225.

    --------------------------------------------------------------------------------

    1-مفهوم ما بعد الحداثة - مقدّمة

    مصطلح الحداثة هو أحد المصطلحات التي دار، ومازال يدور، حولها جدل كبير في العالم العربي. وقد ظهرت كتب كثيرة حول هذا الموضوع خلال الثلاثين عاما الماضية. وهذه قضية قد نتوقف عندها بشيء من التفصيل فيما بعد إن شاء الله. لكن الذي يعنينا الآن هو مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي كثرت الكتابات عنه في أوروبا وأمريكا خلال عقدي السبعينات والثمانينات من هذا القرن الميلادي، وصار يشكل قضية مهمة في الثقافة الغربية في صلتها بتطور الحياة والمجتمعات هناك. وسوف نتناول هذه القضية معتمدين بصفة أساسية على الترجمة العربية لكتاب نشر عام 1994 ضمن سلسة "الألف كتاب الثاني" التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب. ويحمل الكتاب عنوان "ما بعد الحداثة –تحليل نقدي" وهو من تأليف مارجريت روز وترجمة أحمد الشامي، وتنبع أهمية هذا الكتاب من أنه يقدم تحليلا نقديا لكثير من الكتابات التي تناولت مفهوم " ما بعد الحداثة" وما يتوازى معه أو يرتبط به من مصطلحات ومفاهيم أخرى، وخاصة مصطلح "ما بعد الصناعي".

    ولنبدأ بالجانب التاريخي في محاولة لتحديد الفترة التي شهدت ظهور ما بعد الحداثة.و سوف نجد صعوبات كثيرة في هذا التحديد لسبب بسيط هو أن مصطلحي "الحداثة" و "ما بعد الحداثة" من أكثر المصطلحات استعصاء على التحديد.

    و الواقع أنه- كما يقول محمد عابد الجابري- ليست هناك حداثة مطلقة وكلية وعالمية، وإنما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر و من مكان لآخر.و بعبارة أخرى فإن الحداثة ظاهرة تاريخية، وهي مثل كل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها،محددة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، فهي تختلف إذن من مكان لآخر، و من تجربة تاريخية لأخرى، الحداثة في أوروبا غيرها في الصين، غيرها في اليابان…من هنا تأتى خصوصية الحداثة عندنا،أي دورها الخاص في الثقافة العربية المعاصرة،و هو الدور الذي يجعل منها بحق حداثة عربية(1).و ما يقال عن الحداثة في هذا الصدد ينطبق على ما بعد الحداثة،بل أن الأخيرة أكثر دخولا في التنوع و الاختلاف،و هذا ما تعكسه الحوارات و المناقشات التي سوف نتعرض لها في هذه الدراسة.

    وقد عرض كثير من المؤلفين الأوروبيين لاستعمال مصطلح ما بعد الحداثة،و من هؤلاء مايكل كولر MICHAEL KOEHLER في مقال له عام 1976 تحت عنوان POSTMODERNISM أشار فيه إلى استخدام المصطلح واشتقاقاتة عند فيديريكو دي أونيس عام 1934، وعند عالم الأنثروبولوجيا دادلي فيتيس عام 1942، وعند أرنولد توينبي المؤرخ الشهير الذي يرجع استخدام هذا المصطلح عنده إلى عام 1947 حسب رأي كولر، وهناك أيضا تشارلز أولسون ( فيما بين عامي 1950 و195 وإيرفنج هاو ( 1959)، وصولا إلى المتأخرين من أمثال هاري ليفين ( 1969) وليزلي فيدلر ( 1965) وأميتاي انزيوني( 196 وإيهاب حسن في مقاله عما بعد الحداثة عام 1971 رالف كوهين في "التاريخ الأدبي الجديد" عام 1971. وبعد أن ينتهي مايكل كولر من هذا الاستعراض لمصطلح ما بعد الحداثة يقول إنه من الواضح عدم وجود اتفاق على ما يمكن اعتباره "بعد حديث". ويرجع ذلك لأسباب كثيرة منها المعنى المزدوج لمفهوم الفترة " الحديثة". فلفظ الحديث – كما يقول كولر- يمكن اعتباره مرادفا لكلمة DIE NEUZEIT الألمانية التي تعنى حرفيا " العصر الجديد " رغم أنها تترجم عادة " الفترة الحديثة " THE MODERN PERIOD ، أو العصور الحديثة MODERN TIMES ، وهذا التعبير من وجهة نظر كولر يشير إلى الفترة الممتدة منذ عصر النهضة الأوروبية، أي منذ حوالي عام 1500 م ومع هذا يخلص كولر إلى أن ما بعد الحداثة لم تبدأ في التشكل إلا في السبعينيات، أي منذ عقدين من الزمان ومن ثم فإنه يسمى الفترة من عام 1945 حتى عام 1970 باسم الحداثة المتأخرة . وهذا التقسيم يعد أكثر التقسيمات مصداقية عند كثير من مفكري ما بعد الحداثة، إذ يرون أن الحداثة تبدأ من منتصف القرن التاسع عشر تقريبا وتستمر حتى العقود الأولى من هذا القرن أو حتى منتصفه ، وبعضهم يعود ببداية الحداثة إلى القرن الثامن عشر ، وهو المسمى في أوربا " عصر التنوير" وتستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية لكي تعقبها فترة الحداثة المتأخرة.

    ويحدد تشارلز جنكس في مؤلف له عن ما بعد الحداثة أزمنة الحديث في الفترة من عام 1920 حتى عام 1960، والحديث المتأخر خلال عقد الستينيات،أما ما بعد الحديث فيتداخل مع المرحلة السابقة إذ يبدأ من الستينيات ويستمر حتى الآن. ولكن تحديدات جنكس تختص بمجال العمارة. وسوف نرى فيما بعد أن ما بعد الحداثة لا تقتصر على الآداب والفنون فقط ، بل تشمل مجالات كثيرة من أهمها العمارة . ومن ثم فإن هناك مؤلفين كثيرين وقفوا أبحاثهم المابعد حداثية على الميدان المذكور، وتوسعوا في بحث سماته وخصائصه وتداخله مع الميادين والتيارات الأخرى.

    أما الناقد المصري الأمريكي إيهاب حسن – وهو من أبرز المتخصصين في أبحاث ما بعد الحداثة وصاحب الفكرة التي تقول باستحالة التحديد – فقد قدم في بحثين منشورين عامي 1971 و1980 على التوالي نوعا من التحديد لتاريخ ما بعد الحداثة، إذ رأى اعتمادا على سمات وخصائص معينة أن فترة ما بعد الحداثة تبدأ منذ الثلاثينيات من هذا القرن، بل إنها– أي ما بعد الحداثة –يمكن أن تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي. ومعنى ذلك أن الفترة التي تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي. ومعنى ذلك أن الفترة التي شهدت ظهور ما بعد الحداثة في بعض البلدان هي نفسها التي شهدت ظهور الحداثة أو الحداثة المتأخرة في بلدان أخرى. وهذا ليس بغريب فهناك الآن، في العالم، بلاد لم تدخل مرحلة التحديث بعد، وبلاد أخرى مازالت على الأعتاب، وبلاد تعاني من أعتي صنوف التخلف… هذا إذا نظرنا إلى الحداثة من منظور شامل يشمل العالم كله، أما إذا اقتصرنا على العالم المتقدم في أوروبا وأمريكا وبعض بلاد العالم الأخرى نجد أن الفروق ليست شديدة التفاوت. وكل هذا إن دل فإنما يدل على أن مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة ينطويان على كثير من المشاكل وكثير من التعقيدات سواء بالنسبة لتحديد الفترة، أو بالنسبة لتحديد المفهوم على نحو ما سنرى في السطور التالية. وعلى أية حال فإننا نجد أنفسنا أكثر ميلا إلى الرأي الذي يقول إن ثقافة هذا القرن العشرين هي ثقافة ما بعد الحداثة.


    --------------------------------------------------------------------------------
    مفهوم ما بعد الحداثة

    هناك – كما أسلفنا – ارتباط كبير بين مصطلحين يميزان المرحلة الجارية في أوروبا وأمريكا وهما " ما بعد الحداثة " و " ما بعد الصناعي " . وسوف نحاول البحث عن تحديد أو تعريف لما بعد الحداثة من خلال عرضنا لآراء مجموعة من المؤلفين، ثم ننتقل إلى المصطلح الثاني لعرض الآراء الدائرة حوله كذلك وإبراز التداخل الحادث بين المصطلحين، وما ينطوي عليه ذلك من تمديد وتشعيب وتداخل لحركة الثقافة في المجتمع. وهذه سمة تميز دوائر البحث الآن في كل أنحاء العالم. وسبق أن نبهنا إليها عندما كتبنا عن علم النص وقلنا إنه علم عبر التخصصات INTERDISCIPLINARIO، أي يتناول الظاهرة اللغوية عبر مجموعة من التخصصات العلمية كعلوم القواعد واللسانيات والتاريخ والاجتماع والاقتصاد وسواها. ثم إنه لم يعد يقتص على دراسة اللغة الأدبية، كما كان الحال فيما مضى، بل يمتد ليشمل لغة الحديث، ولغة الصحافة والاقتصاد، والسياسة ...الخ .

    ونتوقف أولا عند ديك هيبدايج ######## HEBAIGE في كتاب له صادر عام 1988(2)، حيث يقول إن نجاح مصطلح ما بعد الحداثة قد ولد مشاكل خاصة به. ثم يشير إلى أنه مع انتهاء عقد الثمانينات سوف تزيد صعوبة التحديد الدقيق للمعنى وراء مصطلح " ما بعد الحداثة"، لأنه يتشعب عبر مناقشات مختلفة، ويتجاوز الحدود ما بين فروع المعرفة المتنوعة، وتسعى أطراف مختلفة للاستشهاد بهذا المصطلح واستخدامه للتعبير عن خضم من الأشياء والتوجهات والطوارئ المتنافرة. ويقدم هيبدايج عدة استعمالات لمصطلح ما بعد الحداثة عند آخرين مثل جان فرانسوا ليوتار الذي قال عن ما بعد الحداثة إنها حركة تقبل بمفهوم " كله ماشي" وذلك أثناء الهجوم الذي شنه على مفهوم آخر يختص بعمارة ما بعد الحداثة . كما عرض هيبدايج لآراء وأفكار كتاب آخرين مثل جاي ديبور في كتابه " مجتمع المشاهد (بفتح الميم ) " (1967) وجان بودريلارد في أعماله الصادرة في السبعينات وغيرهما لكنه – أي هيبدايج – بدا وكأنه قد تبنى مفاهيم بودريلارد عندما قال: " إن ما بعد الحديث هو الحداثة الخالية من الأحلام والآمال التي مكنت البشر من احتمال الحداثة "، ويضيف: " إن ما بعد الحداثة هي حالة من فقدان المركزية، ومن التشعب، نُساق فيها من مكان إلى مكان عبر سلسلة متصلة من السطوح العكسية كالمرايا المتقابلة ، تجتذبنا صرخة الدال SIGNIFIER المجنون " . ويصف هيبدايج ما بعد الحداثة بأنها التلفيق، والتعارض ( أي المحاكاة الأشكال السابقة ومزجها )، والأليجورية ( المجاز)، والفراغ المفرط في العمارة الجديدة.

    وممن استعملوا مصطلح ما بعد الحديث في فترة مبكرة جوزيف هودنوت HUDNUT ، الذي يقال إنه استخدمه منذ عام 1945، وربما قبل ذلك التاريخ. ويصف هودنوت عمارة ما بعد الحداثة بأنها لون من البناء سابق التجهيز يتم على نطاق الإنتاج الضخم. وهذا المفهوم يرفضه حاليا كثيرا من المعماريين المنتمين لمذهب ما بعد الحداثة لأنهم يرون أنه يصف عمارة الحداثة المتأخرة ULTRA- MODERNISM وليس ما بعد الحداثة . وقد كتب هودنوت ، في مقال منشور عام 1945 يقول: لا أتخيل إنسانا رومانسيا يملك المنزل الذي سأصممه للمستقبل. ولن أدافع عن اختيار العميل لأنه ينبع من الضعف البشري. كلا، لسوف يكون المالك إنسانا حديثا أو إنسانا ينتمي لمذهب ما بعد الحداثة إذا تصورنا وجود مثل هذا المفهوم: فلا عاطفة، ولا خيالات جامحة ولا أهواء. ومن ثم سيكون ذوقه وتفكيره أكثر انتسابا لأسلوب الحياة في مجتمع جمعي صناعي، وسيبدو له العالم بمثابة نظام من التتابع السببي يتحول في كل يوم على أيدي معجزات العلم المتراكمة ". وكما هو واضح فإن منزل المستقبل في عرف جوزيف هودنوت هو المنزل أو الكوخ سابق التجهيز. لقد تخيل هودنوت، تلك المنازل في مقالات منشورة عام 1949 على النحو التالي:" إنها تضغط بواسطة ماكينات عملاقة تشكل البلاستيك أو الصلب ، وتنتج خطوط التجميع عشرات الآلاف منها، وتسلم في أي مكان بمجرد طلبها بالهاتف، وتصبح جاهزة للسكنى بمجرد ربط بعض المسامير". وقد كتب تشارلز جنكس في كتاب له صادر عام 1986 عنوانه WHAT IS POST- MODERNISM ? أن هودنوت أدخل مصطلح " ما بعد الحداثة " إلى عالم اللاشعور المعماري. ولعل جنكس استقى ذلك من قول هودنوت: " إننا نتعلم بعد كيف نضفي معنى مقنعا على الأساليب والدوافع الحديثة ".

    وقد استخدم المؤرخ الشهير أرنولد توينبي مصطلح ما بعد الحديث في عدة أجزاء من كتابه A STUDY OF HISTORY صدرت عامي 1939 و 1945، فضلا عن طبعات أخرى مختصرة. ويستخدم توينبي هذا المصطلح للإشارة إلى التغيرات التي شهدتها الحضارة الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر،ولِوَصْف الفترة التي تبدأ منذ الحرب العالمية الأولى (1914-191 .ويؤرخ توينبي بما بعد الحديث للإشارة إلى ظهور الطبقة العاملة الصناعية في المدن، وذلك بعد أن استخدم كلمة حديث MODERM للإشارة إلى الطبقة الوسطى في الحضارة الغربية، وفي ذلك يقول: " إن تعريف الثقافة الغربية الحديثة، باعتبارها حقبة من التطور الثقافي الغربي تتميز بصعود الطبقة الوسطى، يلقى الضوء على الظروف التي ربما يتمكن فيها أي غريب متلق لتلك الثقافة من أن يجعل منها ثقافته الخاصة، وذلك قبل بدء حقبة ما بعد الحداثة في الغرب التي تتسم بظهور طبقة عاملة في المدن الصناعية. ففي العصر الحديث في التاريخ الغربي تتناسب قدرة غير الغربيين على الاستغراب مع قدرتهم على الأخذ بأسلوب حياة الطبقة الوسطى في الغرب ".

    ومن الاستعمالات المبكرة أيضا لمصطلح ما بعد الحداثة ما ورد في كتابات المؤرخ الفني الأسترالي برنارد سميث ولعلّه واحد من أقدم من طبقوا هذا اللفظ في القرن العشرين على الفنون البصرية. وقد استخدمه في خاتمة عمل له صادر عام 1945 حيث استدل به على ظهور واقعية سياسية واجتماعية جديدة في أعمال الفنانين الإستراليين نويل كونيهان، و جوزل بيرجنر، وفكتور أوكونور.

    وفي هذا الشكل الجديد من الواقعية تمتزج عناصر مستوحاة من التعبيرية بأخرى مستمدة من أساليب مختلفة من القرن العشرين مع التصوير الواقعي لموضوع الفقر والكدح في العمل. ويضع برنارد سميث خصائص للفن " بعد الحداثي " يستقيها من أعمال كتاب آخرين على النحو التالي:

    توينبي (1934) : ما بعد الحرب العالمية الأولى =حقبة ما بعد الحداثة –الفن الحديث =الأشكال المهجورة البيزنطية (الطراز القوطي الجديد أو ما قبل الروفائيلية) أو المستقبلية.

    دي أونيس (1934): وكل من كيتيس وهيس (1942) : شعر ما بعد الحداثة= رفض للزخرفة الحداثية الأسبق زمنا.

    هودنوت (1945): المنزل ما بعد الحديث=

    1-امتداد الوظيفة المميزة للحركة الحديثة، واختفاء الزخارف.

    2-يحتاج إلى حساسية المعماري.

    سميث (1945): الفن الحديث " بعد البيزنطي " =رفض للزخرفة واتجاه نحو مزيد من التجريد، فن ما بعد الحداثة ( في الأربعينيات ) =رفض للتجريد الحداثي.

    وهناك مفاهيم أخرى للحداثة وما بعد الحداثة في العالم المتحدث باللغة الأسبانية (أسبانيا وأمريكا اللاتينية) نتركها الآن لفترة لاحقة عندما نركز على مفهوم الحداثة الذي كان له في أمريكا اللاتينية بالذات اعتبار خاص(3). ولعلنا لاحظنا، في السطور السابقة، أننا اقتصرنا على النظريات المبكرة لمفهوم مرتبطة بمفاهيم المجتمع بعد الصناعي، والتي تكونت خلال العشرين أو الثلاثين عاما الأخيرة لوصف التغيرات الحادثة في التكنولوجيا والمعرفة العلمية وطبيعة العمل. وهذا ما سوف نناقشه في السطور التالية.

    مفهوم ما بعد الصناعي

    استعمل هذا المصطلح في كثير من الأعمال التي ظهرت في الفترة الأخيرة عن عصر"المعرفة " أو "المعلومات " المعتمدة على الحاسب الآلي، فضلا عما يتعلق بالمفاهيم الخاصة بطبيعة العلاقة بين المجتمع الصناعي والمجتمع بعد الصناعي. وقد سجل دانيال بل في دراسة مهمة له ظهرت عام 1973 تحت عنوان " الدخول إلى مجتمع ما بعد الصناعي " استعمالات مبكرة لفكرة ما بعد الحديث في مؤلفات لارثر ج.بنتي (1917)، وديفيد ريزمان (195 وهيرمان كان وانتوني ج.فينر ( 1967) وزبيجنيو بريزنسكي(1970)، وكينيث كنيستون وبول جودمان (1971) و آلان تورين، وروجيه جارودي وغيرهم. وكان آرثر بنتي من أوائل من كتبوا عن عدم ملاءمة المنتجات الصناعية لفن العمارة، وقال باستحالة الخروج بلون معماري جديد من تلك المنتجات. وفي كتاب له عنوانه "ما بعد الصناعي " (1992) كتب يقول : "إن كافة ألوان الفن بلا استثناء يتهددها الفناء بشكل أو بآخر بسبب الإنتاج الآلي. ولا يبدو أن ثمة بديلا لكل ما هو مهدد. ويمكن القول بأن مشكلة العمارة بالغة التعقيد بحيث لا يمكن إطلاق تعميمات مبسطة عليها. لكن العمارة تتعرض لهجوم من كل جانب، تشنه عليها مجموعة متشابكة من التأثيرات التي يحاول المعماري مجابهتها بلا فائدة. ومعظم هذه التأثيرات جاءت نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لإنتاج الآلة الذي لا تنظمه قواعد". ويدعو بنتي للعودة إلى المجتمع الحرفي اللامركزي القائم على الورش الصغيرة، حيث العمل الذي يسمو بالنفس،وهو المجتمع الذي يطلق عليه "دولة ما بعد الصناعية " ولكن بنتي تعرض بعد سنوات للنقد باعتبار أنه يقدم رؤية رجعية غير واقعية للمجتمع بعد الصناعي الجديد. وعلى الرغم من ذلك فإن معظم النظريات الحديثة المتعلقة بمجتمع ما بعد التصنيع لا تزال تحمل لمحات من رؤية بنتي المتمثلة في أن تنظيم الآلات والتحكم فيها. وتقسيم العمل بين الإنسان والماكينات قضايا جوهرية في المذهب الصناعي والمذهب ما بعد الصناعي.

    وتختلف صفات مجتمع ما بعد الصناعة من مؤلف لآخر وفقا لرؤية كل منهم وموقفه من طبيعة العمل والإنتاج. فإذا كان بنتي قد أدان مجتمع الرفاهية الذي صنعته الآلات، فإن ديفيد ريزمان يطابق بين هذا المجتمع المرفّه ومجتمع ما بعد التصنيع، وقد استخدم برزينسكي عام 1970 وصف " المجتمع التكنوقراطي " للدلالة على المجتمع الذى تسوده التكنولوجيات والإلكترونيات في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد انتقد دانيال بل هذا المفهوم لما ينطوي عليه من تحويل بؤرة التغيير من المعرفة النظرية إلى التطبيقات العملية للتكنولوجيا، ولما يتسم به من طابع الحتمية التكنولوجية، وذلك لأن دانيال بل يرى أن المبدأ المحوري في مجتمع بعد الصناعي هي المعرفة العلمية النظرية وليس التكنولوجيا. ولهذا فان زيادة تقسيم العمل الذهني، في نظر ، يمثل إحدى سمات المجتمع بعد الصناعي.

    وقد ركز "بل" على هذا المفهوم في كتابه المذكور " الدخول إلى مجتمع ما بعد الصناعي " (1973) موضحا التغير في البنية الاجتماعية، وطريقة تحول الاقتصاد وإعادة تنسيق نظام شغل الوظائف في إطار العلاقات الجديدة بين العلم والتكنولوجيا. وقد وجه "بل" اهتمامه في أبحاث أخرى (1976) إلى اتساع الهوة بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، حيث رأى أن ثقافة ما بعد الحداثة هي بمثابة امتداد للثقافة النرجسية الحديثة واتساع للفجوة بين المجتمع والقيم. وعندما أدرك بل أن مفهومه عن المجتمع بعد الصناعي ينطوي على تعميم موسع قام بتجزيئه إلى المكونات الأساسية التالية:

    قطاع اقتصادي: التحول من إنتاج السلع إلى مجتمع الخدمات.

    التوزيع المهني: هيمنة الطبقة المهنية وطبقة الفنيين.

    المبدأ المحوري: المعرفة النظرية تشغل موقعا مركزيا بوصفها مصدرا للابتكار وصياغة السياسات في المجتمع.

    التوجه المستقبلي: التحكم التكنولوجي والتقييم التكنولوجي.

    صنع القرار: خلق تكنولوجيا ذهنية جديدة.

    وقد كتب "بل" عام 1973 عن انهيار الكل المتكامل الذي تمتزج فيه الثقافة والشخصية والبنية والاقتصاد بفضل وجود نسق قيمي واحد… وكان هذا موجودا في المجتمع البرجوازي (والرأسمالي ) في القرن التاسع عشر … ومن باب المفارقة أن كل هذا دمرته الرأسمالية ذاتها فالإنتاج الضخم والاستهلاك الضخم في ظل الرأسمالية شجعا بحماس على ظهور نمط من الحياة القائمة على مبدأ اللذة، مما أدى إلى تدمير القيم البروتستانتية ... وعاد "بل" إلى كلام شبيه بهذا عام 1976 م قال فيه: " بسبب ابتكار الرأسمالية " للاعتماد الفوري " لم يبق سوى مذهب اللذة، وفقد النظام الرأسمالي مذهب التعالي "…(الأزمنة الروحية ) مما يعيدنا إلى مذهــــب العدمية "…ومما يجدر ذكره أن أفكار دانيال بل عن المجتمع بعد الصناعي تتشابه مع أفكار سان سيمون عن المجتمع الصناعي … وهذا يدل على أن المجتمع بعد الصناعي عند "بل" ينبغي أن يفهم على أنــــه امتداد للمجتمع الصناعي، لا علىأنه مرحلة جديدة مختلفة عنه كل الاختلاف ...وهذه الفكرة موجودة أيضا فيما يخص الصلة بين مجتمع ما بعد الحداثة ومجتمع الحداثة ...


    2-نظريات التفكيك

    معروف عن نظريات التفكيك،بصفة عامة،أنها تتجنب تقديم أية تعريفات واضحة حتى للتفكيكية ذاتها… والتفكيكية …كما يقول كريستوفر نوريس تعطل وتعلق كل ما نأخذه قضية مسلما بها في اللغة وفي تجربة التواصل الإنساني واحتمالاتها المعتادة ... ثم إنه لا يمكن تقديم التفكيكية بوصفها "نظرية" أو "نظاما" أو حتى مجموعة من الأفكار الثابتة المستقرة... ومن يفعل ذلك يكون كمن يقف ضد طبيعة هذه النظرية (4)…

    وعلى الرغم من هذا الجانب المضطرب في التفكيكية فإنها قد حظيت باهتمام كبير من قبل المنتمين لمذهب ما بعد الحداثة، وكثيرون من هؤلاء وجهوا اهتمامهم نحو تفكيك قائمة مختارة من نصوص الحداثة، ثم استبدلوا بها قوائم جديدة تشتمل على بدائلهم بعد الحداثية..وينبغي أن نشير إلى أن المنحى التفكيكي في مذهب ما بعد الحداثة مختلف عن التفكيكية في حد ذاتها ، وإن كانت خصائص كل منهما واحدة أو متقارب… فالتفكيكية، كما جاء في كتابات مؤسسها جاك دريدا تهاجم الصرح الداخلي سواء الشكلي أو المعنوي للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفي،كما تهاجم ظروف الممارسة الخارجية،أي الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمؤسسة التربوية... وقد أشار كريستوفر نوريس في كتابه عن "التفكيكية" إلى الكثير من خصائص هذه الحركة... من ذلك أنها تقلب مسلمات الفلسفة الكلاسيكية، رأسا على عقب، ومن هذه المسلمات أن الفلسفة تستطيع التوصل إلى الحقائق التي يطمسها الأدب ويفسدها بالتلاعب الظاهري باللغة والخيال، في حين أن الفلسفة والتفكير العلمي هما أيضا مرتبطان ببنيات لغوية لها تأثير حيوي وقدرة على تعقيد النشاط المنطقي في كل من الفلسفة والتفكيرالعلمي...أي أن آليات التعطيل في الأدب والفلسفة بل والتفكير العلمي واحدة، ومن ثم يكون الوصول إلى الحقيقة المطلقة أمرا في غاية الصعوبة ... ثم إن التفكيكية هي أولا و أخيرا – وكما يرى نوريس – نشاط نصي، يمثل إثارة لعلامات استفهام حول جوهر التفكير الميتافيزيقي الذي يضع المفاهيم المتطابقة خارج نطاق التلاعب باللغة، وفي مستوى يعلو على هذا التلاعب...

    ونظريات التفكيك في مذهب ما بعد الحداثة هي تلك النظريات التي تستخدم مفاهيم مستمدة من النظرية التفيكيكة أو المرتبطة بها بهدفين هما:

    أما تكوين فكرة عن ما بعد الحداثة بوصفها انفصالا عن الأعمال والقواعد المنتمية للتيار الحديث والحداثة السابقين، وذلك كما نرى في أعمال إيهاب حسن وليوتار.

    وأما لنقد أشكال أخرى لما بعد الحداثة بأعمالها وقواعدها، كما في أعمال ليوتار وجيمسون ، على سبيل المثال، ونقدهما لعمارة ما بعد الحداثة والنظريات الخاصة بذلك.. وكل هذا يدل على أن التفكيكية بصفتها النظرية كان لها دور مهم، على هذا النحو أو ذاك في صياغة جانب كبير من نظريات ما بعد الحداثة.. وسوف نتوقف في السطور التالية عند أهم المفكرين الذين كان لهم دور بارز في بلورة المنحى التفكيكي في نظريات ما بعد الحداثة.

    إيهاب حسن

    ما بعد الحداثة عند ايهاب حسن يؤرخ لها منذ عام 1971 م، وهو العام الذي ظهر فيه كتابه THE DISMEM إضافة إلى مقاله BESMENT OF ORPHEUS POSTNODERNISM : A PRACTICAL BIBLIOGRAPHY .. وقد قال تشارلز جنكس عن المقالة المذكورة: " إنها تسجيل لميلاد ما بعد الحداثة وبمثابة شهادة نسب لها ".. ويقول إيهاب حسن :إن مفهوم ما بعد الحداثة ( الذي يمكن أن تضاف إليه أيضا صفة التفكيكية) بدأ ينتشر في شتى أنحاء العالم في السبعينيات من خلال أبحاث أمريكية (من بينها بالطبع كتابات حسن نفسه) ووصل إلى أسماع نقاد من أمثال جان فرانسوا ليوتار.. وقد استخدم ليوتار مصطلحي ما بعد الحديث وما بعد الحداثة بعد إيهاب حسن لكن المفاهيم التفكيكية الموجودة في أعمال حسن عن ما بعد الحداثة كانت موجودة من قبل في أعمال نقاد فرنسيين مثل جاك دريدا(الذي صدرت بعض أعماله عن التفكيكية في الستينيا ) وبودريلار وليوتار نفسه.. ومن هذه المفاهيم ضرورة التحرر من أعمال الحداثة، واستحالة تحديد الحقيقة وغيرهما.

    وإذا كان إيهاب حسن قد كتب عن ما بعد الحداثة في أوائل السبعينيات، إلاّ إنه لايرى أنها بوصفها حركة تبدأ منذ هذا التاريخ، وإنما تعود بداياتها إلي الثلاثينيات من هذا القرن الميلادي، بلى إلى التسعينيات من القرن الماضي ... أما الخاصية الرئيسية التي تميز ما بعد الحداثة فهي استحالة التحديد.. ومن ثم فإنه من الصعوبة بمكان وضع خصائص محددة لما بعد الحداثة، والتمييز بينها وبين الحداثة، التي يفترض أنها (أي ما بعد الحداثة) جاءت لتثير علامات استفهام حول اعمالها، ولتكون بديلا عنها ... ويضرب حسن مثالا لاستحالة التحديد والتمييز بين الحركتين بخاصية أو خاصيتين يقال إنهما من خصائص ما بعد الحداثة، وهما المفارقة والمحاكاة التهكمية IRONY PARADY ، ويمكن القول إنهما أيضا من خصائص الحداثة.. وليس هذا فقط، بل إن الحداثة يمكن النظر إليها على أنها ظلت قائمة إلي جانب ما بعد الحداثة،واشتملت على عناصر مشتركة مثل التوجه التكنولوجي، وسلب الإنسانية(أو التجريد) والبدائية، ومذهب الإثارة الجنسية والتناقض الاسمي، والتجريبية، وهذه عناصر أصبحت أكثر دخولا في مذهب ما بعد الحداثة.

    وعلى الرغم من وجود تشابه بين مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة فإن إيهاب حسب يضع سلسلة من التقابلات بين الاثنين نختار منها ما يلي:

    الحداثة تتجه نحو المدينة ، وما بعد الحداثة تأخذ إلى جانب المدينة القرية الكوكبية مما قد يؤدي إلى زيادة أو تقليل الدمار والفوضى.

    الحداثة أخذت بالمذهب التكنولوجي، وما بعد الحداثة تتجه نحو التكنولوجيا خاطفة السرعة، وظهور أشكال فنية جديدة، وحدوث تشتيت لا نهاية له بواسطة وسائل الإعلام.

    قامت الحداثة على التجريبية، في حين أن ما بعد الحداثة تقول ببنيات مفتوحة، غير متصلة أو محددة، ارتجالية أو عفوية مع وجود التزامن، والخيال، والتلاعب والفكاهة، والمحاكاة التهكمية، وتزايد الإشارة للذات وتداخل الوسائط، ومزج الأشكال، واختلاط المستويات، ونهاية المبدأ الإجمالي التقليدي الذي يركز على جمال العمل الفني أو تفرده.

    قالت الحداثة بالتناقضية، بينما تدعوا ما بعد الحداثة إلى الثقافات المتقابلة، واجتياز التغريب عن الثقافة بأكملها، وقبول عدم الترابط، وعدم الاستمرار، وتطور التجريبية الراديكالية في الفن كما في السياسة أو الأخلاق.

    وفي مقال لإيهاب حسن عام 1980 م يطرح خمسة أفكار لثقافة ما بعد الحداثة، وتتسم طروحاته هنا أيضا بخاصيتى استحالة التحديد والتفكيك.. وهذه الأفكار هي:

    اعتماد تيار ما بعد الحداثة على تجاوز الصبغة الإنسانية للحياة الأرضية بصورة عنيفة، بحيث تتجاذب فيها قوى الرعب والمذاهب الشمولية، والتفتت والتوحد، والفقر والسلطة.

    ينبع تيار ما بعد الحداثة من الاتساع الهائل للوعي من خلال منجزات التكنولوجيا، ونتيجة لذلك صار الوعي ينظر إليه على أنه معلومات، والتاريخ على أنه حدوث، وتلك رؤية متناقضة ظاهريا.

    في الوقت نفسه يتبدي تيار ما بعد الحداثة في انتشار اللغة بوصفها مقوما إنسانيا ، وفي غلبة الخطاب والعقل..

    ما بعد الحداثة توحي بنمط جديد من تلقاء الفن بالمجتمع على عكس ما حدث في تيار الحداثة الذي كان يقبع في برج عاجي.

    يتطلع تيار ما بعد الحداثة إلى الأشكال المفتوحة، والمرحة والطموحة، والانفصالية، والمتروكة أو غير المحددة، لتكوين خطاب مؤلف من شظايا، أو تكون إيدولوجية التصدع التي تعمد إلى الحل والفض وتستنطق الصمت.

    ويضيف إيهاب حسن مفهوم " الإنشائية " إلى خصائص أو محددات ما بعد الحداثة في مقالات له نشرت عام 1986 م ولكن تعريف الإنشائية لا يعني " إنشاء الواقع ، فحسب بل يرتبط بمفاهيم أخرى ، انتشرت هي الأخرى في فترة ما بعد الحداثة ، مثل " استحالة التحديد " و" التشرذم " و " نقض الأعمال الأدبية المقننة " أو " اللاذاتية " و " اللاعمق " و " اللاتمثيلي " و" اللاتقديمي " والمفارقة ، والتهجين ، والاحتفالية ، والأداء ، و اللامفارقة..

    ويلاحظ أن إيهاب حسن في تنظيراته لما بعد الحداثة يهتم بالدرجة الأولى، بالأعمال الأدبية. ومن ثم يشير إلى بعض الأعمال التي تنسب إلى الحداثة، كما يشير إلى أعمال أخرى ما بعد حداثية.. بل إنه يرى أن بعض قدامى الكتاب، ممن برزوا في النصف الأول من القرن العشرين، يتوافقون مع تيار ما بعد الحداثة مثل صمويل بيكيت، وخوري لويس بورخيس، ونابوكوف وغيرهم.. ويرى إيهاب حسن أن تيار ما بعد الحداثة يمثل استمرارا لتيار الحداثة، ومن ثم فإن مقطع POST (ما بعد ) لا يعبر عن الانفصال بقدر ما يعبر عن الاستمرارية ..وإذا كان إيهاب قد اهتم بالأعمال الأدبية فإن هناك نقادا آخرين من تيار ما بعد الحداثة صبّوا اهتمامهم على مجال آخر يحظى بنصيب وافر في التنظيرات الما بعد حداثية وهو مجال العمارة.. ومن هؤلاء تشارلز جنكس الذي سوف نكتب عنه، إن شاء الله ، عندما نتناول نظريات المزاوجة.

    جان فرانسوا ليوتار

    يقول ليوتار في مقدمة كتابه THE POSTMODERN CONDITION (1979) إنه يقصد بمصطلح ما بعد الحداثة " وضع المعرفة في المجتمعات بالغة التقدم ".. وهذا المصطلح– في رأيه– يشير إلى حال الثقافة في أعقاب التغيرات التي بدلت قواعد اللعبة بالنسبة للعلم والأدب والفنون منذ نهاية القرن التاسع عشر.. ويضيف ليوتار معرفا ما بعد الحديث بأنه " شك فيما وراء القص " ولعل هذا التعريف الأخير – كما تقول مارجريت روز – يميز بدقة بين معنى المصطلح عند ليوتار ومعناه عند علماء الاجتماع أو عند إيهاب حسن، وهو في الوقت نفسه يحتفظ بالعناصر التفكيكية المستوحاة من إيهاب حسن ويضيف إليها.. ومن بين أنواع ما وراء القص التي ذكرها ليوتار فلسفة هيجل، والهرمنيوطيقا، والماركسي، والرأسمالية، وآراء هابرماس الذي تعرض فيما بعد لهجوم عنيف من ليوتار في كتاب له صادر عام 1982 م لأن هابرماس حاول بعد عام 1997 م الدفاع عن " مشروع المودرنية " في محاضرة له عنوانها ADORNO PRIZE (1980) ضد مفهوم ما بعد الحداثة عند المحافظين الجدد.. وإذا كان ما بعد الحديث عند ليوتار يمثل شكا فيما وراء القص فإنه يعني الشك في الفلسفات والمذاهب المذكورة بغية تجاوزها إلى مشروع أكثر حداثة أو بتعبير أدق " ما بعد حداثي "..

    ويبدأ ليوتار كتابه الصادر عام 1979 م بقوله: " بداية يقوم هذا الكتاب على افتراض أن حال المعرفة يتغير بتغير المجتمعات ودخولها إلى ما يعرف بعصر ما بعد التصنيع، ودخول الثقافة إلى مرحلة تعرف بمرحلة ما بعد الحديث".. ويرجع هذا التغير – في رأي ليوتار –إلى الخمسينيات من هذا القرن العشرين أو اكتمال إعادة البناء في أوربا.. ويستعمل ليوتار مصطلح ما بعد عصر التصنيع بالمفهوم الذي رأيناه من قبل عند دانيال بل أي المجتمع الذى تمثل فيه المعرفة النظرية أو العلم المبدأ المحوري، ولكن ليوتار يختلف عن "بل" في أن السمة الرئيسية التي يركز عليها الأول هي فهم المعرفة العلمية بوصفها خطابا. أي أن المعرفة العلمية عند ليوتار لا تتعدى كونها نوعا من أنواع الخطاب. أي أن المعرفة العلمية عند ليوتار لا تتعدى كونها نوعا من أنواع الخطاب، فيتعامل معها بأسلوب تفكيكي مثلهامثل الأشكال الأدبية الأخرى أو الخطاب الفلسفي.. كما يتعامل ليوتار مع المعرفة العلمية بوصفها قابلة للصمود أو الانهيار حسب علاقتها بألوان الخطاب الأخرى الشمولية أو ألوان ما وراء القص الشمولية.

    وعلى الرغم من هجوم ليوتار على الماركسية باعتبارها شكلا من أشكال ما وراء القص فإنه يبدو متأثرا ببعض مقولاتها ومفهوماتها مثل مفهومي نزع الملكية والتشيئ، ومقولة اقتصار العمل على إنتاج قيم التبادل بدل من قيم الاستخدام.. وتتسع الهوة بين مفهوم ليوتار عن العلم الحديث ومفهوم "بل" عن العلم في مجتمع ما بعد التصنيع، ولكن يبدو إن ليوتار يرى أن الهدف من العلم هو الوصول بالتلاعب اللغوي إلى الحد الأقصى، ومن ثم يخلص إلى أنه لا فائدة من انتشار الكمبيوتر في المجتمع(الذي يعد أساسيا في كثير من التعريفات الأخرى لمجتمع ما بعد التصنيع) إلا إذا أعيد توجيهه من وظيفة تحسين الأداء إلى فتح أبواب الذاكرة وبنوك المعلومات جميعها للعامة.

    ويقدم ليوتار في كتابه المذكور الصادر عام 1979م ملخصا للأوضاع التي وصفها بما بعد الحديث في النقاط التالية:

    1-تشاؤم بشأن ما يسمى "بما وراء القص" في الفترة الحديثة.

    2-استمرار تأثر بعض ألوان الخطاب في مجتمع ما بعد التصنيع بمفاهيم معينة مثل مفهوم((الادائية)).

    3-حل هذه المشاكل يكمن في فتح بنوك المعلومات.

    وقد وجهت انتقادات إلى ليوتار من بينها أنه يقصر عناصر مجتمع ما بعد التصنيع على ألوان الخطاب أو البيانات بطريقة أشبه بتيار الحداثة المتأخرة أو تيار ما بعد البنيوية، بل إن نقده للعناصر الرأسمالية التي لا تزال باقية في مجتمع ما بعد التصنيع مستوحى من الأطر الحداثية ،لما وراء القص التي رفضها ليوتار نفسه في مكان آخر.

    فريدريك جيمسون

    في عام 1984م كتب فريدريك جيمسون في تصديره للترجمة الإنجليزي لكتاب ليوتار THE POSTMODERN CONDITION يقول :" إن ما بعد الحداثة، كما تفهم بصفة عامة، هي الخروج على الثقافة السائدة والإستيطقا السائدة، وانفصال عن وضع اقتصادي اجتماعي معين في لحظة ما تحدد في مواجهة الابتكارات والتجديدات البنيوية التي أتت بها ما بعدد الحداثة ".. وكما أسلفنا فإن كثيرا من منظري ما بعد الحداثة يقولون بمفهوم الاستمرارية وليس الخروج أو الانقطاع، لهذا فإن جيمسون في هذا التعريف يبدو شديد الاختلاف عن الآخرين..

    وقد كتب جيمسون عام 1984م أيضا يقول إن ما بعد الحديث يتمثل في ثقافة الرأسمالية، وإن مجتمع مابعد التصنيع هو مجتمع الرأسمالية المتأخرة.. وكان قد كتب قبل ذلك عام 1983م، في مقال نشره هال فوستر HAL FOSTER يقول : ما بعد الحداثة ليس مجرد مصطلح يصف أسلوبا بعينه ، و إنما هو على الأقل من وجهة نظري –مفهوم يقسم التاريخ إلى فترات للربط بين ظهور ملامح شكلية جديدة في الثقافة وظهور شكل جديد من أشكال الحياة الاجتماعية ، ونظام اقتصادي جديد ، وهذان هما ما يطلق عليهما التحديث أو مجتمع ما بعد التصنيع أو المجتمع الاستهلاكي، أو مجتمع وسائل الإعلام أو الإبهار ، أو الرأسمالية متعددة الجنسيات .. وهذا التعريف – كما تقول مارجريت روز –فيه توليف وخلط بين مفاهيم ما بعد الحديث، وما بعد عصر التصنيع والتحديث، والرأسمالية، إضافة إلى عناصر أخرى كان ليوتار يرى أن مذهب ما بعد الحداثة ينقدها أو ينقضها.

    ويرى فريدريك جيمسون أن تيارات ما بعد الحداثة قد فتنت بالرخيص والسوقي مثل مسلسلات التلفزيون، وثقافة الأعمال الفنية المبتذلة، والإعلانات، والموتيلات وعروض الترفيه المسائية المتأخرة وأفلام الدرجة الثانية من هوليود، وما يسمى بالأدب الشبيه (أو المناظر) الذي تولد عنه سيل من المطبوعات الرخيصة مثل قصص الرعب والروايات الغرامية والسير الشعبية والروايات البوليسية وروايات الخيال العلمي والفانتازيا..

    كل هذه المواد لم تعد مجرد مصدر للاقتباس منها كما كان جوليس JOYCE أو مالر MAHLER سيفعلان لو شهداها، بل إن هذه المواد أصبحت تغوص في أعماق تيارات ما بعد الحداثة وتتوحد بها..

    ويصف جيمسون ما بعد الحداثة بأنها باردة لأسباب عدة من بينها موت الشخص الفرد الذي عاش قبلها ،أي موت التفرد والابتكار.. وفي هذا يقول في مقاله المنشور عام 1983 م تحت عنوان "ثقافة ما بعد الحداثة": "تأتى المعارضة (أو المحاكاة) مرة أخرى.ففي عالم يتعذر فيه الابتكار الأسلوبي لا يبقى لنا سوى محاكاة أساليب ميتة،والحديث من خلال أقنعة وأصوات تنتمي لأساليب محفوظة في متحف وهمي..و لكن هذا معناه أن الفن المعاصر أو فن ما بعد الحداثة سيتناول الفن ذاته بأسلوب جديد، بل أن رسالة أساسية من رسائل هذا الفن ستكون الفشل الحتمي للفن و الإستطيقا، أي فشل الجديد و السجن في الماضي".

    و قد انتقد إيهاب حسن رؤية جيمسون لثقافة ما بعد الحداثة بوصفها ثقافة ليس فيها سوى محاكاة الأساليب الميتة قائلا إن هذه رؤية جزئية،كما أنها تلوي عنان الأمور لتربط ما بعد الحداثة بفرضيات قديمة و رجعية آي حد ما..

    يورجين هابرماس

    يرى يورجين هابر ماس أن مقطع POST (ما بعد) في مصطلح ما بعد الحداثة يمثل رغبة لدى دعاة ما بعد الحداثة في الابتعاد عن ماض بعينه،إضافة إلى إنه في الوقت نفسه يعبر عن عجزهم عن تسمية حاضرهم "لأننا حتى الآن لم نجد حلا للمشاكل التي تنتظرنا في المستقبل" و هذا التقابل بين جوهر الحاضر و حل مشاكل المستقبل ملمح رئيسي في تناول هابرماس لما بعد الحديث..و من الملاحظ في موقف هابرماس ما بعد الحداثي إنه يقدر مشروع الحداثة الذي صاغه في –رأيه- فلاسفة التنوير منذ القرن الثامن عشر.. جاء ذلك في محاضرة له عام 1980م،و قد هاجم في هذه المحاضرة عمارة ما بعد الحداثة التي كانت موضوع معرض بيناي فينيسيا عام 1980 م،لأن هذا الطراز المعماري يضحي بتقاليد المودرنية لإفساح الطريق أمام تاريخية جديدة..و يقول هابرماس أن عمارة ما بعد الحداثة نقيض للحديث والحداثي حتى في نقدها لقوى التحديث التي يفترض أن مشروع المودرنية ذاته يمثل نقدا لها..و قد كتب هابرماس عام 1981م عن وجود صلة بين "المحافظين الجدد" الذي يسعون لإحياء تقاليد قديمة "للقضاء على ثقافة ترفض توجهاتهم، وبين الراديكاليين الذين ينتقدون التطور،و الذين يعدون العمارة الحديثة رمزا للتدمير الذي نجم عن التحديث"،و كلتا الجماعتين في رأيه تريد الانسلاخ عن الحديث.

    و كما هو واضح فإن هابرماس لا يرى أية جوانب مشرقة في تيار ما بعد الحداثة،لأنه يعتقد أن الهدف الرئيسي للتيار هو نفي أو رفض مشروع المودرنية. و يقول هابرماس أن أطروحة ما بعد الحداثة قد تكون محقة في إبرازها للمشاكل الناجمة عن تزايد تحديث الثقافة في إطار الحداثة ذاتها،و لكن هذه الأطروحة لا تقدم بديلا مقبولا للحداثة بحيث يمكن ملء الفراغ السلبي الذي تتصوره ما بعد الحداثة بمحتوى إيجابي.و جدير بالذكر أن هابرماس ليس وحيدا في رؤيته السلبية لتيار ما بعد الحداثة،بل يشترك مع آخرين في ذلك مثل جان فرانسوا ليوتار الذي هاجم هو الآخر عمارة ما بعد الحداثة.و لكن يبدو أن هابرماس هو اكثر الناس تشاؤما فيما يتصل بمستقبل ما بعد الحداثة،و هذه الرؤية نابعة-كما رأينا-من تقويمه الإيجابي لتيار الحداثة أو المودرنية،الذي رأى أنه لعب دورا مهما في الثقافة و الحضارة في الغرب.


    --------------------------------------------------------------------------------

    3- نظريات المزاوجة

    ما بعد الحداثة عند الناقد و المؤرخ المعماري تشارلز جنكس تختلف اختلافا بينا عما رأيناه من قبل عند إيهاب حسن و جان فرا نسوا ليوتار و غيرهما لأنها – حسب تعبير جنكس نفسه- تقوم على مفهوم معاكس لذلك، إذ إنها تعني عند نهاية التطرف الريادي، و الرجوع جزئيا إلى التقاليد، إضافة إلى منح أهمية للاتصال بالجماهير. و لهذا بدأ جنكس كتابه WHAT IS POST-MODERMISIM (1986) برسم لكار لو ماريا مارياني عنوانه " اليد تأتمر بأمر العقل " علق عليه تعليقا يعكس اهتمامه، أي جنكس، بالمزج بين الحداثة و الطرز التاريخية الأخرى، وبخاصة الكلاسيكية. وفي ذلك قال: "إن موضوع الفن من وجهة نظر الحداثيين هو عملية الإبداع الفني، أما عند أصحاب ما بعد الحداثة فهو تاريخ الفن. فنجد إن مارياني يقوم بتطويع صيغ ترجع للقرن الثامن عشر منها " البرود المثير للغرائز " ليرسم صورة تعبر عن الإبداع العبقري الذاتي. ففي رسم " اليد تأمر بأمر العقل " إشارة إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث عن أصل فن التصوير، وفيها إيحاء بأن الفن اليوم ما زال يتولد من الفن ذاته، وأنه مغلق متصومع ". وفي لوحة أخرى لما رياني عنوانها "مدرسة روما" تعود إلى عامي 1980و1981 يستخرج جنكس، في كتابه المذكور، ما فيها من عناصر كلاسيكية مثل تصوير مارياني لتجار القطع الفنية والفنانين المعاصرين في أزياء كلاسيكية، ومثل تقليده لمدرسة أثينا لروفائيل ولبعض الكلاسيكيين الذين كانوا معجبين به، وهذا الاستلهام للعناصر الكلاسيكية يبرز السخرية اللاذعة الموجودة في لوحة مارياني،وهي لوحة-كما يقول جنكس-تستخدم المحاكاة التهكمية، والمعارضة والهجاء إلى جانب النسق الكلاسيكي.

    ويرى جنكس أن مصطلح ومفهوم ما بعد الحداثة كان شائعا في النقد الأدبي فقط حتى عامي75-1976م، وهي الفترة التي كتب خلالها كتابه (THE LANGUAGE OF (PAST-MODERN ARCHITECTURE وكان هذا المفهوم السائد –في رأية-يعني "ما فوق الحديث - ULTRA MODERN،ونزعة العدميةMIHILISM ، ومناهضة التقاليد. وما فعله جنكس هو أنه نقل هذا المصطلح إلى مجال العمارة، وتوسع في درسه في هذا المجال، وزاوج فيما بين الأنساق، على النحو الذي رأيناه في الفن من استلهام العناصر الكلاسيكية في لوحات ما بعد حداثية. وهذه المزاوجة بين الأنساق – في نظره-نبعت من "ضغوط متناقضة في الحركة"، لأن بعض المعماريين أرادوا التغلب على عقبة الحداثة أو العجز عن التواصل مع الآخرين الذين يستخدمون تصميماتهم، فاضطروا إلى اللجوء إلى لغة مفهومة بعض الشيء، وهي الرمزية التقليدية أو المحلية.ولكنهم في الوقت نفسه أرادوا أن يتواصلوا مع أقرانهم وأن يستخدموا التكنولوجيا المتاحة لهم. أي أن اللجوء إلى الجمع أو المزاوجة بين أنساق حديثة وأخرى قديمة أو تقليدية قد صدر عن رغبة حقيقية في التواصل مع الآخر أو مع الجمهور، بعد فترة طويلة استخدمت فيها الحداثة الأساليب المغلقة التي يصعب في معظم الأحيان التواصل معها حتى على مستوى النخبة. وهذا التوجه في تيار ما بعد الحداثة إن دل فإنما يدل على أن ثم قطاعا لا يستهان به من منظري ما بعد الحداثة يضعون نصب أعينهم هدفا مهما هو التواصل مع الجمهور، أو بتعبير آخر تداولية الحدث الفني.

    وقد عرف جنكس عمارة ما بعد الحداثة، في الطبعة الثانية من كتابه سالف الذكر (197 بأنها لون من ألوان المزاوجة بين الحداثة وغيرها من الطرز والأساليب. وقد استخدم لفظ المزاوجة-DOUBLE CODIN ليؤكد أن عمارة ما بعد الحداثة هي لون معماري يسعى إلى توصيل رسالة لمستخدمي البنية المعمارية ومشاهديها من خلال تعدد الأساليب والشفرات.ويستخدم جنكس مصطلح الشفرة للإشارة إلى أن العمارة إنما هي رسائل مرسلة إلي مستخدميها بطريقة تشبه طريقة أفعال الكلام أو الإشارات الأخرى. ثم إنه اشتق لفظ DOUBLE CODING أي "مزاوجة الإشارات" ليشير إلى أن عمارة ما بعد الحداثة تضيف نسقا إشاريا ومجموعة من الرسائل إلى الطراز الحديث. ذلك أن العمارة – في رأي جنكس – شكل من أشكال اللغة،ومن ثم لابد من وضع كافة الوظائف في نسق إشاري محدد حتى يتحقق التواصل المطلوب.

    ويوضع جنكس ذلك بمثال هو " إناء الحمام " ( أوالبانيو) الذي هو من وجهة النظر الوظيفية مثال طيب للشكل المهيأ لأداء وظيفة محددة. ولكن هذا الإناء نفسه قد يستخدم لوظائف أخرى، ففي جنوب إيطاليا على سبيل المثال يمكن أن يستخدم وعاء لتنظيف العنب،وفي شمال اليونان قد يستخدم مدفأة، أي أنه يكسب وظائف مختلفة باختلاف السياق والنسق الذي يرد فيه. وفي ذلك يقول جنكس: "إن أدراكنا للوظائف يتبع أعرافا هي بالأساس تقاليد وأعراف تاريخية، وفي الأغلب أعراف تعسفية لا طبيعية". وعندما يربط ذلك بقضية التواصل يقول "إذا مارس المعماري العمل في أربعة أو خمسة طرز مختلفة يمكنه أن يتحكم تحكما أفضل في كيفية استخدام الشكل لتحقيق التواصل. عندئذ تنشأ تعددية تعكس التنوع الفعلي للمدينة وشتى ألوان الثقافة فيـها" .

    وهذا التوجه القائم على المزاوجة عند تشارلز جنكس يكمن أن نسميه" كلاسيكية ما بعد الحداثة" وقد استخدم هو نفسه هذا التعبير في ملحق وضعه للطبعة الصادرة من كتابه المذكور عام 1984 قال فيه: "إن كلاسيكية ما بعد الحداثة التي ظهرت في أواخر السبعينيات ما زال أمامها شوط طويل، ولكنها قد وصلت فعلا إلى نوع من الإجمال مثل الطراز الدولي الذي شاع في العشرينيات.

    ولكن كلاسيكية السبعينيات تختلف في أنها أسلوب تلفيقي حر يستخدم عند الضرورة في المباني العامة". ويضيف جنكس "إن هذا الأسلوب ليس طرازا كليا بعكس الطراز الدولي الذى كان جميعا أو كليا على حد وصف نيكولاس بفسنر، كما أنه موجود بوصفه لونا فنيا جنب مع طرز أخرى. وباختصار فإن هذا الطراز الكلاسيكي بعد الحديث هو الجانب الأساسي في التعددية التي تعد أسلوبا ضروريا للتواصل".

    وهذه التأملات ما بعد الحداثية التي قدمها جنكس في مجال العمارة، والتي تقوم كما أسلفنا– على فكرة المزاوجة، والرجوع جزئيا إلى التقاليد السالفة تعطينا فرصة للتأمل فيما تزخر به الساحة الشعرية العربية حاليا من تجارب جديدة تبني على النمط الكلاسيكي أو تنطلق منه، أو تؤسس عليه، على نحو ما نرى عند عفيفي مطر في أشعاره الأخيرة ، وسعد الحميدين في ديوانه الأخير " أيورق الندم" وغيرهما من شعراء موجة ما بعد الريادة، بل أن بعض الشعراء الرواد مثل عبد الوهاب البياتي يصدرون حاليا من رؤية تمزج ما بين الحداثي والكلاسيكي ضمن مفهوم يمكن أن نسميه أيضا " كلاسيكية ما بعد الحداثة ". وإذا كان هذا التيار القائم على المزاوجة قد نبع عند الفنان والناقد الغربي من واقع رؤية ترغب في التواصل مع الجمهور بعد فترة انقطاع طويلة، فإنه يمكن أن يكون قد نبع كذلك عند شعرائنا العرب من رؤية مشابهة بعد أن أحسوا ببرودة تجرى في أوصالهم نتيجة لعدم التواصل الحميم مع الجمهور. وربما يكون هذا التفكير الاجتماعي التواصلي أبعد ما يكون عن رؤية هؤلاء الشعراء، ولعله لم يخطر ببالهم على الإطلاق، ومن ثم فإن التفسير الذي أراه أكثر مواءمة لذلك هو أن روح العصر تجري من الناس، وخاصة المبدعين والمشتغلين بالثقافة، مجرى الدم، أو لعلها لغة التسامي والتوحد التي تجعل من الجماعية سمة مشتركة في حقل ما مثل الشعر، على حد تعبير الدكتور عبدا لله الغذامي في كتابة " الكتابة ضد الكتابة" (5) .بل إن هذه الجماعية، تأخذ فيما نحن بصدده سمة عالمية فنراها عند مارياني وجنكس وغيرهما مثلما نراها عند عفيفي مطر وسعد الحميدين وسواهما من شعرائنا العرب المحديثن.

    ولكي نوضح أحد الفروق المهمة بين الحداثة وما بعد الحداثة في نظريات المزاوجة نتناول خاصية من خواص الحداثة وهي استخدام لغة عالمية مجردة من الحس الشخصي، وهو ما أطلق عليه الفيلسوف الأسباني خوسيه أورتيجا إي جاسيت "تجريد الفن " أو " إطراح النزعة البشرية "(6 ). وهذا التوجه لعب دورا كبيرا في تشكيل المخيلة الحديثة انطلاقا من نوفاليس الذي حدد على أساسه ماهية الخيال، ذلك لأن الخيال عنده هو الملكة القادرة على خلق اللاواقع. ثم جاء الشاعر الفرنسي بودلير فاستخدم كلمة"مجرد" بمعنى عقل، و قال إن الخيال قوة ترتبط أوثق ارتباط بالعقل الذي يحكمها ويحدد لهل الطريق. و قد استمر هذا الاتجاه التجريدي عند الشعراء الرمزيين ( 7 )،و الشعراء الذين جاءوا بعدهم ممن نسجوا على منوالهم أو فتحوا أبوابا جديدة للإبداع الإنساني،و أخص منهم بالذكر جيل 1927 في أسبانيا،و هم الذين يسمون بجيل الشعر الصافي،و هو تيار أكثر دخولا في التجريد من كل ما سبق.و لم يتقدم عليهم في هذا الصدد إلا مجموعات الشعراء السبعينيات ووجدوا في معظم بلدان العالم،يمتحون من رؤية واحدة،و يسيرون في طرق متشابهة على الرغم من كثرة البيئات وتنوعها واختلافها.و إذا انتقلنا إلى مجال العمارة الذي خصه تشارلز جنكس بالتنظير إلى ما بعد حداثي نجده في مقالة كتبها عام 1975 يرد على المقولة الحداثية السابقة التي تزعم أن استخدام أشكال مجردة من الحس الإنساني يمثل توجها عالميا أو أنه بمثابة لغة عالمية،يرد على ذلك قائلا:لا يزال المعماري مؤمنا بأنه يعطي أعماله هوية دولية من خلال أشكال ناطقة،و إنما هو في واقع الأمر يكسبها هوية في إطار نسق تاريخي محدود خاص لا يشاركه فيه معظم عملائه".و يقترح جنكس حلا لهذه المشكلة تعددية جديدة تتضمن الواقعية الاجتماعية التي اعتبرها توم وولف بديلا للحداثة الأدبية ،و الواقعية الاجتماعية التي عرضتها جين جاكوب في نقدها للحداثة.و بهذا اقترب جنكس من برنارد سميث الذي استخدم مصطلح ما بعد الحداثة عامي 1944 و 1945 للإشارة إلى رد فعل واقعي اجتماعي جديد ضمن التجريد الحداثي.

    كما وصف جنكس هجوم جاكوب على الحداثة عام 1961 بأنه كان إيذانا بانتهاء العمارة الحداثية.و قد اقترح جنكس بدائل أخرى للغة المجردة من الحس الشخصي التي كانت تستخدمها الحداثة،و تتمثل هذه البدائل في:

    1-الواقعية الاجتماعية المذكورة.

    2-التخطيط القائم على التفضيلات و رفض التصميم المحكم بحيث تؤخذ في الاعتبار مصالح الأغلبية والأقلية.

    3-الترميم و الحماية للمحافظة على الأبنية القديمة.

    4-مدينة التصادم التي تقوم على التعقد الرمزي للتوصل إلى التنوع الاجتماعي المفتقد في المدن الحديثة.

    5-المدن المصطنعة أو البديلة . ولا بد لتلك المدن أن تكون شعبية وبمثابة رد فعل استهلاكي للعمارة الحديثة. فالمعماري الحديث لا يلقى بالا للطرز التاريخية أو الجو العام للبناء وروح البناء، أما المجرب المغامر فيهتم بكل هذه الأمور.

    6-أن تكون العمارة شكلا من أشكال اللغة، على النحو الذي أشرنا إليه من قبل. ومن ثم لابد من وضع كل الوظائف في نسق إشاري محدد كي يتحقق التواصل المطلوب.


    --------------------------------------------------------------------------------
    لغة العمارة بعد الحديثة

    يصف جنكس في كتبه الصادرة في أعوام 1977 و 1986 و 1987 عمارة ما بعد الحداثة وصفا ينطوي على نقد لبعض العناصر الوظيفية في عمارة الحداثة، وعلى رفض للحداثة أو المودرنية التي تتجاوز حدود السيطرة والتحكم. وقد سبق أن أشرنا إلى أن جنكس في الكتاب الأول (1977) قد عرض مفهوم ما بعد الحداثة بوصفه مزاوجة لطراز الحداثة بغيره من الطرز وخاصة الكلاسيكية. وفي السطور التالية سوف نتتبع بإيجاز تطور هذا المفهوم في كتابيه التاليين وهما: What Is Post – Modernism ( 1986)، و" ما بعد الحداثة الكلاسيكية الجديدة في الفن والعمارة " (1987).

    يبدأ جنكس كتاب عام 1977 ( الطبعة الأولى) بالحديث عن موت العمارة الحديثة بتفجير أجزاء من إحدى البنايات في مدينة سان لويس عام 1972. وفي ذلك يقول في شيء من الدعابة" لقد انتهت العمارة الحديثة تماما في عام 1972 بعد أن ضربت حتى الموت على مدى عشرة أعوام من جانب النقاد مثل جين جاكوب .. ماتت العمارة الحديثة في مدينة سان لويس بولاية ميسوري يوم 15 يوليو 1972 في الساعة 3.32 مساء تقريبا ، بتفجير مبنى Prutt – Igoe المنكوب بالديناميت، أو تحديدا بتفجير عدة أجزاء منه ". وقد كتب جنكس في كتابه التالي الصادر عام 1986 ما يفيد أن الحداثة قد فشلت بوصفها أسلوبا للتشييد على نطاق واسع، وبوصفها أسلوبا لبناء المدن، ومن أسباب هذا الفشل عدم التواصل بين السكان ومستخدمي الأبنية الذين قد لا يروقهم الطراز المعماري، وقد لا يفهمون معناه، وربما لا يدرون كيف يستخدمونه. وفي كتاب عام 1987 نرى جنكس يتفق مع أندرياس هويسن في أن أحد أسباب تبلور ما بعد الحداثة في حركة معمارية في منتصف السبعينيات هو أن العمارة أكثر من أي شكل فني آخر تأثر بنزع الملكية التي جاءت مصاحبة للتحديث، وأنه كان ثمة رابطة مأساوية بل وقاتلة بين العمارة الحديثة والتحديث تتعارض تعارضا مباشرا مع الحركة الحديثة في الفنون الأخرى. ويرى جنكس أن المجتمع السكني المذكور في برويت إيجو والذي حصل على جائزة من المعهد الأمريكي للمعماريين عند تصميمه عام 1951 قد أدى الي ارتفاع نسبة الجريمة بالمقارنة بغيره وتعرض مرارا للتخريب. وفي ذلك يقول "كان الهدف منه ترسيخ قيم معينة عند سكانه عن طريق القدوة الحسنة، وهو الأمر الذي كان يتعارض مع ذلك الطراز المعماري، لأن تلك الأفكار الساذجة المأخوذة من فلسفات العقلانية والسلوكية والبرجماتية كانت لا عقلانية مثله مثل تلك الفلسفات ذاتها ".

    وهذه الأفكار التي عرضها جنكس في كتبه المذكورة تضع أيدينا على بعض الخصائص المهمة لتيارات ما بعد الحداثة، ومن بينها عدم التسليم بالأفكار الجاهزة المطلقة، بل ينبغي وضع كل فكرة، وكل رأي على محك الاختبار لأنها مثل أي شي تمثل فرضية تحتمل الصدق والكذب.

    وعلى الرغم من أن جنكس ليس من أنصار التيار التفكيكى في اتجاه ما بعد الحداثة ، بل إنه يعارضه معارضة شديدة إلا أنه يقترب منه اقترابا قويا في المقولة السابقة. وقد سبق أن أشرنا، في مقال سابق، إلى أن التفكيكية تعطل وتعلق كل ما نأخذه قضية مسلما بها في اللغة وفي تجربة التواصل الإنساني واحتمالاتها المعتادة. ومن خصائص ما بعد الحداثة أيضا أنها تنظر إلى الإبداع الإنساني نظرة واحدة، وقد سبق أن رأينا أن العمارة عند جنكس تمثل شكلا من أشكال اللغة. أي أن العمارة، مثلها مثل اللغة والأدب والثقافة والعلوم بعامة تدخل ضمن نظام إشاري واحد هو الذي صار يعرف حاليا بسيميائية الثقافة. فكل شئ ينطوي على أنظمة إشارية تمثل حلقة من حلقات التواصل الإنساني. وكل هذا أدى إلى أن تأخذ كثير من العلوم حاليا صفة" عبر التخصصي" Interdisciplinar.

    وهكذا رأينا تشارلز جنكس في كتبه المذكورة انتقد ما رآه من عيوب في الحداثة، وفي الوقت نفسه أخذ يرسي مفهومه عما بعد الحداثة بوصفه يقوم على المزاوجة بين طراز الحداثة والطرز الأخرى، وأهمها الكلاسيكية. ثم إنه وضع مؤشرات إيدولوجية لما بعد الحداثة (ثمانية مؤشرات) من بينها المزاوجة المذكورة، والشعبي و التعددي في مقابل المثالي الحديث والبرجماتي في الحداثة المتأخرة، والشكل السيميوطيقي في مقابل الشكل الحتمي الحديث والشكل الوظيفي والسائب في الحديث المتأخر، والفنان/العميل في مقابل الفنان المتنبي في الحداثة أو الفنان المضطهد في الحداثة المتأخرة، والجزئية في مقابل الطراز الكلي الحديث.

    ولا شك أن هناك نظريات أخرى كثيرة في التيار الجديد المسمى ما بعد الحداثة،خاصة وأنه يمثل موضوع الساعة الآن في الأوساط الثقافية الغربية، ولكننا لا نستطيع أن نتوقف، في هذه العجالة،عند هذه النظريات جميعها.


    --------------------------------------------------------------------------------

    انظر محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1،1991،ص16.

    عنوان الكتاب:Hiding in The Light: On Images and Thing.

    انظر في ذلك الفصل الأول من كتابنا"رواد الشعر الإسباني"،وهو تحت عنوان"خنوان رامون وحركة الحداثة".

    انظر كريستوفر نوريس، التفكيكية: النظرية والممارسة،ترجمة د. صبري محمد حسن،دار المريخ،الرياض،1989،ص13و21,

    انظرعبداللع الغذامي،الكتابة ضد الكتابة،دار الآداب، بيروت،1991،ص16.

    طرح أورتيكا إي جاسيت هذه النظرية في كتاب شهير له صدر في بدايات هذا القرن العشرين تحت عنوان "تجريد الفن" La deshumani Zacon del Arte.

    انظر د.عبدالغفار المكاوي، ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر- الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1927،ص98-

                  

10-12-2004, 09:07 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    شكرا اسامة عبدالجليل على ايرادك لما قالته سي ان ان عن دريدا

    المش============================ء
                  

10-12-2004, 09:09 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    البنيوية والتفكيك

    تطورات النقد الأدبي


    تأليف : س. رافيندران

    ترجمة : خالدة حامد

    هذا كتاب يعنى بالبنيوية والتفكيك ، كتبه الهندي س . رافيندران أثناء تحضيره للماجستير في الجامعة الأمريكية في كنساس . ويضم هذا الكتاب خمسة فصول تنقسم على جزأين . عالج المؤلف في الفصول الثلاثة ( من القسم الأول ) موضوعة البنيوية عند ثلاثة مستويات مختلفة . يمثل الفصل الأول مقدمة عامة في البنيوية ، والقصد من هذا العرض تسليط الضوء على هذا الموضوع وإيضاحه للقراء المبتدئين . ويناقش هذا الفصل فكرة البنية والنسق ، والأساس اللساني للحركة البنيوية وأبعاد المغامرة البنيوية في الأدب . ونظراً إلى أن هذا الفصل مخصص للقراء المبتدئين ، نجد أن المؤلف قد برع في أسلوبه المنبسط عارفاً تمام المعرفة أن البساطة لا تعد فضيلة عند التعامل مع مشكلة نظرية معقدة .

    أما الفصل الثاني فيمثل تفسيراً لكتاب رولان بارت S / Z الذي يمثل دراسة قصة بلزاك التي تحمل اسم " سارازين " . وقد شرح بارت في S / Z نظريته عن الشفرات ، وابتكر طريقة جديدة لقراءة النص . وتمكن المؤلف من إجراء مسح مكثف لمنهجية بارت ، وتقويماً لإمكانية تطبيقها في النقد . وسيكون هذا الفصل مصدر فائدة كبيرة لأولئك الذين قرأوا S / Z وأطالوا التفكير بمنهجية بارت .

    ويعد الفصل الثالث محاولة أكثر طموحاً من الفصلين السابقين . فبعد أن وجد المؤلف أن من غير المجدي أن يقدم نظرية بذاتها ، قام هو بتطبيق نظرية النقد البنيوية على روايتي "عودة المواطن " و " قلب الظلام " . ويواجه التأويل البنيوي ، الذي يهدف إلى زيادة الموضوعية إلى الحد الأقصى ، مهمة تفرض عليه تحدياً كبيراً عند مواجهة هذين العملين لأنهما يحملان طابع السيرة الذاتية . ومع ذلك يمكن ملاحظة أن المؤلف لم يطبق أية صيغ آلية على هاتين الروايتين تحت اسم البنيوية . بل على العكس من ذلك ، تمكن من تفسير هاتين الروايتين من منظور بنيوي يمثل نتيجة تراكمية لطول معرفته بالمذاهب البنيوية وإدراكه لها .

    يضم الجزء الثاني فصلين هما الثالث والرابع . يمثل الفصل الرابع مقالة تمهيدية عن نظرية التفكيك عند جاك دريدا . ويمكن لنا القول أن أول مرحلة على طريق فهم التفكيك هي فهم الاصطلاحات التفكيكية . ولهذا السبب شرع المؤلف بتفسير مصطلحات مثل : "الاختلاف" و "الأثر" و "الكتابة الأصلية" و "العلامة تحت الانمحاء" ، التي يرتكز إليها أي عرض للتفكيك . ويهدف التفكيك ، عموماً ، إلى العرض المنهجي المنظم للأساس الميتافيزيقي الذي يرتكز عليه فهمنا للغتنا الذي تحكم بدوره بفعل النقد الأدبي . وقد كانت الكثير من نظريات النقد ، إلى بزوغ فجر التفكيك ، واقعة تحت قبضة الميتافيزيقيا وإن كنا غير واعين للمذاهب الميتافيزيقية التي كانت تظلل مركز مفاهيم اللغة ونظريات النقد . ويبين التفكيك المركز الميتافيزيقي ويحثنا على تحرير اللغة والنقد من الميتافيزيقا .

    ويحاول المؤلف ، في الفصل الخامس ، تقديم تأويل تفكيكي لكتاب " رحلات جيليفر " من خلال تقديم تحليل مجازي للخطاب الذي يقدم النص . وربما تجدر الإشارة إلى أن الاستنتاج الذي توصل إليه لا يعد مختلفاً عن استنتاجات النقاد بخصوص "رحلات جيليفر" إلا أن تناوله الموضوع بطريقته غير الشائكة هو الذي يمنحه هذا التميُّز . والحق أن من الضروري أن يظهر التأويل التفكيكي للنص ( أو إلى أي عمل أدبي ) محملاً باستنتاجات جديدة تماماً عن النص . لهذا نجد المؤلف يشير إلى مسألة أن قراءتي هي عن الخطاب الوارد في "رحلات جيليفر "أكثر منها عن موضوعة النص . وربما كان للمؤلف ما يسوغ قيامه بتغيير إدراك القارئ وتصوره لخطاب النص والكشف عن وجهة جديدة لفهم القارئ . ولعل براعة هذا المؤلف تتجلى في أسلوبه التعليمي المشوق ؛ فهو يعزز أقواله واستنتاجاته بهوامش وببليوغرافيا خاصة لكل فصل ، مستقلة عن غيرها من دون محاولة حذف فقرة أو أكثر من الفقرات التي تتكرر لأن كل فصل يتمتع بهوية مستقلة على الرغم من استمرارية فكرته التي يشترك بها مع ما سبقه وما يعقبه من فصول.

    عنوان الكتاب بالإنكليزي هو :

    STRUCTURALISM AND DECONSTRUCTION
    Developments in Literary Criticism
    By: Sankaran Ravindran
    Lecturer in English
    Calicut University Centre
    Tellincherry (Kerala)

    ATMA RAM & SONS
    DELHI * LUCKNOW
    Published By
    H. O. Kashmiri Gate
    DELHI
    First Impression, 1982
    Printed at: The Lucknow Publishing House - Lucknow
                  

10-12-2004, 09:16 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محاولة لمقاربة ابن عربي في ضوء ما بعد الحداثة (Re: osama elkhawad)

    ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة :
    مقام نعم و لا
    محمد المصباحي


    بدايةً لا بد من الاعتراف بأنني أتيت إلى ابن عربي بالعَرَض لا بالذات، لا لأنني ما زلت أعدّ نفسي لحد هذه الساعة من أهل النظر لا من أهل المشاهدة، بل وأيضا لأنني أتيت إليه في لحظة أولى من خلال ابن رشد، أي من خلال الموقف العقلاني من العالم، وآتي إليه الآن عبر حجاب ما بعد الحداثة[1]. وهناك أمر ثالث يشفع لي عرضيتي في التعامل مع فكر الشيخ الأكبر، وهو أن هذا الفكر نفسه عرضي الهيئة، مما يسمح لي بهامش كبير من الحرية لدخول أرجائه والخروج منها دون مطالبة بأي حساب مذهبي. ولعل هذه العرضية هي التي جعلتني أحبه واستمر معه، خصوصا وأنه يرى أن المحِّب مطالَب بالتقلب والتحول. بقي لي أن أقرّ من ناحية أخرى بصعوبة رؤية ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، إذ كيف يمكن رؤية فكر رجل ينتمي إلى زمن ما قبل الحداثة من وراء حجاب فكر متمرد على الحداثة نفسها، رافضاً الانحباس في أية صورة مذهبية كانت؟

    ثلاث مداخل : المِرآة، ’نعم ولا‘، المقابلة
    من أجل الالتفاف على هذه الصعوبات، سأستعين بثلاثة مداخل هي عبارة عن أفكار تداولها ابن عربي نفسه : فكرة المرآة، وفكرة ’نعم ولا‘، ثم فكرة المقابلة. لقد توسلنا بهذه الأفكار لكونها تمنحنا حرية أكثر للجمع بين المطابقة والاختلاف، بين الجزم بأن الوجه الذي تراه في المرآة هو وجهك، وبأنه ليس وجهك في آن واحد[2]. ولعل هذا هو بعينه ما تؤم إليه الإجابة المتناقضة: ’نعم ولا‘، التي ردّ بها ابن عربي على السؤالين اللذين طرحهما عليه ابن رشد في لقائه المشهور بقرطبة[3]، فهي الأخرى تتردد بين الإثبات والنفي دون شعور بالحرج الذي يشعر به عادة أهل النظر في مثل هذا الوضع. إن هذا الشعور المتناقض هو ما يتملك المرء عندما يقرأ فكر ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، فإنك ما تكاد تشعر بالتقارب الودّي بين الفكرين الأكبري وما بعد الحداثي، حتى يبتعد الواحد منهما عن الآخر فراسخ وبرازخ. لذلك، لن تكفينا مرآة واحدة للنظرة المزدوجة التي نريد أن نلقيها على الأفقين الأكبري وما بعد الحداثي، بل سنستعمل مرآتين ؛ المرآة الأولى هي التي ينص عليها عنوان المداخلة، أي مرآة ما بعد الحداثة، التي سنسعى أن نَرى في مجلاها صورة أو صور الشيخ الأكبر ؛ والثانية مرآة ابن عربي، التي سنجليها عساها أن تعكس لنا جملة من صور ما بعد الحداثة.

    ونرى أن مشروعية الرؤية في هاتين المرآتين المتقابلتين تقوم على أربعة مبادئ : أولها أن كل إنسان هو مرآة في نفسه؛ والثاني أن هذه المرآة تعكس العالم كله، أو كما قال في ’تجلى المعية‘ إن « الإنسان نسخة جامعة للموجودات [وأن] فيه من كل موجود حقيقة »[4] ؛ والمبدأ الثالث هو وجود « المناسبة » بين الإنسان والوجود، لأن المرآة لا يمكن أن تعكس إلا ما يناسب طبيعتها ؛ والرابع أن الذات عندما ترى نفسها في المرآة فإنها تراها من حيث هي آخر، أو قل إن المرآتين تعكس بعضها البعض بحيث ترى نفسها في الأخرى. ومع ذلك، علينا أن نحتاط من المرآة، فهي لا تستطيع أن تعكس سوى مثال الشيء وشبيهه، لا الشيء نفسه. ومن ثَم، إذا كانت المناسبة موجودة بين ما بعد الحداثة وابن عربي، فإنها لا تتعارض مع الاختلاف والخلاف ؛ أليس ابن عربي هو القائل بأن « الخلاف حق حيث كان »[5]؟

    ليس غرضنا إذن أن نثبت هوية أو اختلافا بين هذين الأفقين، وإنما غرضنا أن نستشف ما إذا كان فكر ابن عربي قادرا على التّماس مع مقتضيات الزمن الحاضر، وفتح آفاق جديدة لوجودنا وفكرنا، وإنهاض الهمة فينا لكي ننطلق من أجل تطوير لغتنا وأسئلتنا وذاتنا العتيقة وتجديد بنائها بما يتوافق وتحديات هذا الزمن الذي نحن فيه؟

    ولمّا كنا قد جعلنا المرآة ومقام العلاقة الجدلية بين ’نعم ولا‘ وسيلتين لمقاربتنا، فإن طيف ’المقابلة‘ التي جرت بين الرجلين، والتي حكاها لنا ابن عربي، سيسكن هذه المقاربة من أولها إلى آخرها. وأول ما استدرجتنا إليه علاقة المقابلة افتراض ’مقابلة‘ برزخية أخرى تجري ما بين ابن عربي وأحد مفكري ما بعد الحداثة كأن تقول نيتشه أو هيدجر أو ديريدا. إننا نتوقع أن يكون مآل مثل هذه المقابلة المفترضة أقل درامية من مقابلته مع فيلسوف قرطبة، وذلك لسببين؛ أولهما أن ما يجمع بين ابن عربي وما بعد الحداثة هو، بجهة ما، أقوى بكثير مما كان يجمعه مع أبي الوليد. فقد كانت فلسفة هذا الأخير تقوم على إخضاع الوجود لمقتضيات العقل وتحويله إلى علم وقوة، الأمر الذي يقتضي تقسيم الوجود إلى مقولات ومبادئ وجواهر وأعراض، تمهيداً للسيطرة عليه وإخضاعه. وهذا ما يفسر الإجابة المترددة لابن عربي بين ’نعم ولا‘ على سؤال ابن رشد. ذلك أنه إن لم يكن الشيخ الأكبر يُنكِر على العقل حقه في معرفة الوجود، فإنه كان يستنكر ادعاءه احتكار معرفة الوجود، لأن المعرفة في نظر الشيخ الأكبر تحيل دوما على اللامعرفة. أما ما بعد الحداثة، التي كانت نتيجة انقلاب جذري على العقل، وبالضبط على العقل التنويري، فلم تعد تؤمن بما تسميه أوهام العقلانية: المعرفية والأخلاقية والإنسانية، حيث كفّت عن الاعتقاد بأن العلم هو الوجه الوحيد للحقيقة، وبأن الماهية ثابتة وسارية في جوف الموجودات، وبأن البرهان قادر على الوقوف على نظام كل الأشياء، وبأن المعرفة يمكن أن تكون موضوعية، وبأن الخير يمكن أن يكون مطلقاً لا نسبية فيه وخلاف بشأنه. موازاة لذلك، نادت ما بعد الحداثة إلى إعادة النظر في الوسائل المعرفية التي كان يقصيها العقل، كالخيال والأسطورة، وعملت على إلغاء الازدواجيات التي كان يقوم عليها الفكر الاستدلالي، كالازدواجية بين الصورة والأصل، بين الذات والأعراض، وبين المبدأ والأثر.

    أما السبب الثاني الذي نتوهم أن يكون وراء نجاح المقابلة المتخيَّلة بين ابن عربي وما بعد الحداثة، فيتعلق بسؤالها : ذلك أن سؤال أبي الوليد كان يتعلق بمدى مطابقة النظر مع الكشف. وكانت إجابة ابن عربي ’بنعم ولا‘ في آن واحد، لأن ابن عربي لم يكن ينكر طريق النظر، ولكنه كان يعارض أي خلط أو توحيد بين هذا الطريق وطريق الكشف. أما مفكرو ما بعد الحداثة فقد توقفوا عن وضع مثل هذا السؤال منذ فجر نشأتهم، سؤال التطابق أو التقابل بين الكشف والبرهان، بحكم عدم إيمانهم بالغاية التي كان يؤم إليها الفكر السابق عليها، وهي تحقيق الاتصال بالمبدأ الأقصى، أو أنهم على الأقل لم يعودوا يعبأون بالبحث عن هذه الغاية. هكذا تكون العقبتان الرئيسيتان: عقبة هيمنة العقل على الوجود، وعقبة سؤال التطابق، قد زالتا لتنفتح الطريق أمام توارد معالم التشابه والتناظر بين فكر ابن عربي وما بعد الحداثة.

    وما دمنا قد توهمنا حصول هذه المقابلة في برزخ من الخيال ما بعد الحداثي، فقد يتوجب علينا أن نغير من استراتيجية السيناريو بعض الشيء، فنقلب الأدوار جاعلين الطالب للمقابلة والواضع لسؤالها هو ابن عربي، وليس ممثلي فلسفات ما بعد الحداثة. أما عن السؤال المطروح، فلا يمكن أن يكون صامتا، أو مرموزا على هيئة ’لا’ أو ’نعم‘؟، وإنما يجب أن يكون صريحا. في حين أن إجابة ما بعد الحداثة قد تكون ’بلا نعم ‘، وقد تكون بنفس الوتيرة التي كانت عليها إجابة أبن عربي على أحد سؤالي ابن رشد :’نعم ولا‘. ولكن ليس بنفس الدلالة التي أعطاها لها ابن عربي، لأنه مهما كان تقارب ما بعد الحداثة من بعض أوجه الفكر الأكبري، فإن ما بعد الحداثة ذهبت بعيداً في انقلابها على العقلانية التنويرية إلى درجة جعلتها تستخلص نتائج لم تكن تخطر على بال الشيخ الأكبر. لقد انتهت ما بعد الحداثة بصفة عامة إلى رؤية للعالم مختلفة جذريا عما كان يراهن عليه ابن عربي من حيث المضمون: فرؤية ما بعد الحداثة متشظية، تفكيكية وعدمية، رؤية مؤثثة بالأشباح والأطلال والفكر الخرائبي إزاء الوجود والمعرفة والإنسان والتاريخ والأخلاق، وإزاء كل شيء ينتمي إلى الأجهزة الثقافية والحضارية القائمة، ولو أنها صاغت هذه الرؤية بالفكر ضدا على الفكر[6]. ولذلك لا نتوقع أن توجد ’ليلى‘ واحدة يسعى للقائها كل مجانين ما بعد الحداثة، بل ’ليلات‘، هذا إن افترضنا أنهم قادرون على العشق!. حقاً، كاد الشيخ الأكبر أن يلامس هذا الموقف، ولكنه وقف دونه، لأنه مهما نوّع من ملامح ليلاه (الأحدية، الوحدانية، الوحدة؛ الهوية، الربوبية، الألوهية)، ومهما كانت سِعَة قلبه لاحتضان كل الصور، فإنه بقي مؤمنا بالحقيقة الواحدة. ولعل تلميحه إلى وجهي التشابه والتباين بين موقفه وموقف السفسطائية ما يؤشر إلى نوع العلاقة التي يمكن أن تنشأ بينه وبين الأفق ما بعد الحداثي. فقد قال عنهم : « فالعالم كله في صور مثل منصوبة، فالحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال... وهذا لا قائل به إلا من أُشهِد هذا المشهد. فالفيلسوف يرمي به، وأصحاب أدلة العقول كلهم يرمون به، وأهل الظاهر لا يقولون به... ولا يقرب من هذا المشهد إلا السوفسطائية. غير أن الفرق بيننا وبينهم أنهم يقولون إن هذا كله لا حقيقة له، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول إنه حقيقة، ففارقنا جميع الطوائف »[7]. فما يظهر كأنه لعبة دلالات وصور خيالية بالنسبة للفكر المعاصر، هو عين الجد عند الشيخ الأكبر، لأن كل الأشياء لها شيء من نَفَس الرحمن.

    ’ نعم و لا ‘ والمتقابلات الأربع
    إن استجلاء مرآة ما بعد الحداثة يقتضي منا أن نتبين وجه انتماء ’الإجابة المتقابلة‘ لابن عربي إلى المتقابلات الأربع: التناقض، والتضاد، والإضافة، والملكة والعدم. فعن السؤال الأول المرموز لابن رشد : « نعم؟ »، أجابه ابن عربي إجابتين متقابلتين في نظر العقل البرهاني، كانت أولاهما إيجابية: ’نعم‘ ؛ لكن ما أن استشعر ابن عربي بما أفرح أبو الوليد من إجابته حتى انقلب عليها نحو إجابة سلبية :’لا‘[8]. هكذا يكون ابن عربي قد اثبت ثم نفى، مما يُدخِل إجابته المتقابلة على السؤال الأول ضمن تقابل ’التناقض‘، علماً بأن هذا التناقض يوجد على مستوى الانفعال (الفرح/الانقباض) لا على مستوى الفكر. أما السؤال الثاني لابن رشد الذي يتميز بوضوحه هذه المرة، فيطرح فيه صراحة ما كان مضمراً في السؤال الأول، وهو مسألة مدى مطابقة طريقي النظر والكشف : « كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي: هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ »[9]. عن هذا السؤال جمع ابن عربي في إجابته بين ’نعم ولا‘ دفعة واحدة، دون انتظار للأثر الانفعالي الذي قد تحدثه الإجابة، مما يجعلنا ندخلها ضمن علاقة ’التضاد‘. في حين يمكن إدراج تعليق ابن عربي على هذه الإجابة: « وبين نعم ولا، تطير الأرواح من موادها »[10] ضمن علاقة ’الملكة والعدم‘. وأخيراً، بوسعنا أن نتوقع أن قصده من جمعه بين ’نعم ولا‘ كان أن يبيّن أن كل واحد منهما موجود في الآخر، وكأن كلاًّ من ’نعم‘ و’لا‘ مكيال للآخر، مما يجعلهما أدخل في باب ’الإضافة الذاتية‘. إن هذه القراءة التقابلية لإجابة ابن عربي تجعلنا نذهب إلى أنه أراد أن يحوّل التقابل بين ’نعم ولا‘ من تقابل إقصائي، ينفي المقابل ويلغيه، إلى تقابل جدلي، يطلب المقابل ليتفاعل معه. ’فنعم ولا‘ في الفكر الأكبري متقابلان، ولكنهما متضايفان تضايفا ذاتيا، بحيث لا يمكن لأحدهما أن يوجد بدون الآخر.

    فإذا علمنا أن هذه المتقابلات الأربع تعود بأصلها، من جهة، إلى نظرية الواحد، بحكم تفرعها عن التقابل الأول، وهو تقابل الواحد والكثير ؛ وتعود من جهة ثانية، إلى نظرية الوجود، لكون ’المتقابلات الأربع‘ من لواحق مقولات الموجود، فإنه سيتبين لنا أن استعمال ابن عربي للمتقابلات الأربع في إجابته المحيّرة يدل مرة أخرى على أن لغته كانت تدور في أفق الوحدة، أي أفق الهوية والاختلاف، المناسبة والتقابل، الاتصال والانفصال، الإضافة والمكيال، السلب والحركة، وهو أفق يجري فيه الجمع بين المتضادات دون أي حرج نظري أو انفعالي. وهذه لعمري إحدى السمات القوية التي تجمع ما بين ابن عربي وروح ما بعد الحداثة.

    ومع ذلك، فإن موقف ابن عربي هذا يجعلنا في حيرة من أمرنا، فلا نستطيع البث في معنى الجمع بين المتقابلين ’نعم ولا‘: هل هو تعبير عن إمكان واستحالة الجمع بين الفلسفة والتصوف، بين النظر والكشف، بين الاتصال والانفصال؟ هل كان الجمع بين ’نعم‘ و’لا‘ اعترافا بتاريخ الفلسفة ونفيا له في نفس الوقت، أم هو اعتراف بجزء مما كانت تقول به الفلسفة، ونفي لجزء آخر منها؟ هل هذه الإجابة المتقابلة هي إقرار بازدواجية الحقيقة ذاتها، أم بازدواجية الطريق إليها ؟ ثم هل إجابته ’بنعم‘ أرادها أن تكون قطعية مطلقة، فنفاها ’بلا‘ قطعية جازمة، أم أن القصد من إجابته ’بنعم‘ أن يترك شيئا من ’لا‘ في داخلها، والعكس ؟ هل كانت غايته أن يثبت بأن « العيان يُغني عن البرهان »[11]، أم أنه كان يريد الجمع بين العيان والبرهان معا ؟ إن منطق الفكر الأكبري يمنعنا من استبعاد أي من هذه الأسئلة، ولا أي جانب من هذه الإمكانيات المفترضة، لأن النفي الصارم الذي يَؤُول إلى العدمية، والإيجاب الجازم الذي ينتهي إلى الوثوقية، ليسا من شيم الفكر الأكبري القائم على القلب والتقلب[12]. فقد كان يقول إن « التجلي المتكرر في الصورة الواحدة لا يعول عليه »[13]، وأن « الإقامة على حال واحد نفسين فصاعدا لا يعول عليه عند أكابر الرجال »[14]. فابن عربي لا يمكن أن ينتمي لا لأصحاب ’نعم‘، ولا لأصحاب ’لا‘، لأنه يفضل أن يوجد في برزخ بينهما، متمتعا بمقام الحيرة، التي كلما زادت حدتها ازداد كمال الإنسان[15].

    إن الدرس الذي نستخلصه من العلاقة الجدلية بين ’نعم ولا‘ هو أنه ليس بوسعنا أن نرى جُمَاع فكر ابن عربي دفعة واحدة في مرآة ما بعد الحداثة، لأن فكره غير قابل للحصر بسبب تحوله المستمر في مقامات ومواقع مختلفة، وبحكم تجدد صوره اللانهائية، وتعدد أسئلته ومجالاته، وتنوع طرقه وغاياته. ولهذا سنقتصر في سعينا هذا على رؤية صورتين من صور ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة: صورة العقل في علاقته مع القلب، وصورة الوجود في علاقته مع الوجدان.

    صورة ’العقل‘ الأكبري في مرآة ما بعد الحداثة


    عندما نوجه نظرنا إلى مرآة ما بعد الحداثة تطالعنا أوجه تشابه عديدة بين مفهومي العقل الأكبري وما بعد الحداثي. فبالنسبة للشيخ الأكبر، يتخذ العقل صورتين[16]، صورة فاعلة يكون فيها العقل مرادفا ’للفكر‘، أي للقياس والممارسات الاستدلالية والحدّية بصفة عامة، وصورة منفعلة يتخذ فيها العقل معنى المكان، مكان قبول المعارف الآتية إليه إما من الله، أو من الفكر، أو من القلب.

    يوجه ابن عربي نقده العنيف فقط لصورة العقل الفاعلة، أي للعقل بمعناه الفكري، حيث يرصد ثلاثة عيوب أساسية للعقل، تهم ثلاث مستويات: كيفية توصله بمعطياته، وأسلوب استعماله لهذه المعطيات في أفعاله المعرفية، ثم قيمة المعرفة التي يتوصل إليها. وهذه العيوب هي : عيب الوساطة، وعيب التقييد، ثم عيب الموضوعية والحياد.

    إذا نظرنا إلى الكيفية التي يحصل بها العقل على معطياته المعرفية، فإننا نلفيه لا يستطيع أن يدرك بنفسه، لا الظواهر الخارجية ولا المعاني الغيبية، وإنما هو يقوم بذلك بالواسطة، عن طريق الاستدلال والحد، سواء على صعيد الطبيعة أو على صعيد ما بعد الطبيعة[17]. فبالنسبة لظواهر الطبيعة كالألوان مثلا، أو أسرار الذات والأسماء الإلهية، يبدو العقل عاجزا أن يقف عليها بنفسه ومباشرة. فالألوان إنما يدركها العقل عن طريق الحواس «... وكذلك القوة البصرية جعل الله العقل فقيرا إليها فيما توصله إليه من المبصرات فلا يعرف الخضرة ولا الصفرة ولا الزرقة ولا البياض ولا السواد ولا ما بينهما من الألوان ما لم ينعم البصر على العقل بها، وهكذا جميع القوى المعروفة بالحواس »[18]. أما الصفات والأسماء والذات الإلهية فلا يمكن أن يدركها الإنسان إلا بالقلب والبصيرة. هكذا يبدو العقل غير مستقل بنفسه بالنسبة لموارده المعرفية سواء إزاء الحواس والخيال، أو إزاء القلب. من هنا جاء افتقاره وتبعيته لغيره : «يا أخي ما أفقر العقل حيث لا يعرف شيئا مما ذكرناه إلا بوساطة هذه القوى، وفيها من العلل ما فيها »[19]. ويستخلص ابن عربي بأنه إذا كان لا مناص من التقليد، فلنقلد الخبر، فهو أولى من تقليد العقل، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمعرفة الذات الإلهية، التي يتكفل الله نفسه بالإخبار عنها[20].

    أما العيب الثاني للعقل، وهو عيب الحصر والتقييد[21]، فيتجلى في نظر الشيخ الأكبر في أرقى وسائله للبحث عن الحقيقة والتعبير عنها، وهما الحد والبرهان. ذلك أنه لمّا كانت نظرية الحد تنطلق من اعتبار أنه لا يوجد للشيء الواحد إلا حدّ واحد، بحكم حيازته لماهية واحدة فقط ؛ وأن هذه الماهية محصورة في مقوّمَين اثنين فقط، هما جنسها القريب، وفصلها الذي يميزها داخل هذا الجنس عن بقية الماهيات، فإن حدّ ذات الشيء معناه في نظر محي الدين إعطاء صورة فقيرة عنها، لأنه يستبعد كل الصفات الأخرى التي تتحلى بها الذات ما خلا الصفتين اللتين يُعتَقَد أنهما أساسيتان. ويظهر عيب التقييد بكيفية سافرة وغير مقبولة عندما يتطاول العقل على الذات الإلهية التي هي بالتعريف غير قابلة للحدّ والتقييد ولو كان تقييد إطلاق[22]. لكن ليس معنى هذا أن ابن عربي يتخذ موقفا لا أدريا من الذات الإلهية، بل إنه يقترح بديلا للوقوف على غناها، وقابليتها للتحلي بصور لا متناهية، هو طريق القلب، لأنه مكان يسع كل شيء، ولأنه لا يقيد ولا يحصر، بل يحيط بكل الصور في تقلبها وتواردها المستمر على الذات[23].

    ونجد نفس العيب – عيب الحصر والإفقار - يخالط الممارسة البرهانية. فعندما يستعمل العقل البرهان لاستخلاص وإثبات المعارف الجديدة من المقدمات والمبادئ، يركز انتباهه على أعراض الشيء الذاتية، دون اعتبار لباقي أعراضه الأخرى غير الذاتية، التي لها هي الأخرى أهميتها في التعبير عن جوانب غنية من معنى الشيء، مما يؤدي إلى إفقاره. وهنا يحضرني انتقاد هيدجر لمفهوم المكان الفلسفي. فعندما تنظر الفلسفة إليه نظرا برهانيا، أي بالاستناد إلى مبادئ وخلاصات علم الهندسة، تلغي وظائفه الفعلية والانفعالية، وتفرغه من امتلائه بالمعاني المتأتية من علاقته بالإنسان وبالأحداث الكبار التي جرت فيه[24]. وهنا لا بد أيضاً من استحضار موقف ابن عربي من المكان، الذي كان يتعامل معه من حيث هو ذات مؤنثة، أي من حيث هو مكانة، لا من حيث إطار عقلي فارغ[25]. فالأمكنة بالنسبة إليه ليست على حد سواء، بل هي متفاضلة بحسب امتلائها بالأحداث والرجال: « من شرط العالِم المشاهِد، صاحب المقامات الغيبية والمَشاهد، أن يعلم أن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرا. ولو وُجِد القلب في أي موضع كان، الوجود الأعم، فوجوده بمكة أسنى وأتم. فكما تتفاضل المنازل الروحانية، كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية »[26]. وهذا ما يفسر شعور الإنسان بالزيادة والنقصان بحسب المكان الذي حل فيه، فـ «... وجود قلوبنا في بعض المواطن أكثر من بعض »[27]، بل إنه يقرر بأنه « لا شك عندنا أن معرفة هذا الفن، أعني معرفة الأماكن، والإحساس بالزيادة والنقص، من تمام معرفة العارف وعلو مقامه، وشرفه على الأشياء وقوة ميْزه »[28]. إن المكان بالنسبة لابن عربي إذن ليس مقولة فلسفية، أو أداة علمية فارغة لتحديد وتأطير الأشياء، بل إنه جزء من الزمان والتجربة الروحية للذين مروا به، وحدثت لهم إشراقات أو كرامات فيه أو بفضله.

    العيب الثالث للعقل البرهاني في نظر ابن عربي يتمثل في ادعائه القدرة على الوصول إلى معرفة موضوعية ومحايدة تصمد أمام تحولات التاريخ، وتتعالى عن صراع الآراء وتطاحن المعتقدات. على العكس من ذلك يذهب الشيخ الأكبر إلى القول بأن كل معرفة مشروطة بذات ما، وبوضع معرفي وتاريخي معين، ولا يمكن القول أبدا بحقيقة خارج عن مدرِكها وفاعلها الذاتي والموضوعي[29]. ومما يدل على ذلك أن المبادئ الأولى التي يستند إليها العقل في عملياته المعرفية كمبدأ الذاتية وعدم التناقض، والثالث المرفوع، والسببية... ليست في مأمن من الخطأ والضلال. ولعل اختلاف أهل الفكر والنظر فيما بينهم خير دليل على أن عدم صحة دعوى موضوعية وثبات المعرفة العقلية[30]، في مقابل أهل الكشف والوجود من الأنبياء والأولياء، الذين لا نجد – حسب ابن عربي – أي أثر للخلاف والصراع فيما بينهم، بل كل واحد منهم يؤيد كلام السابقين عليه. وبهذه الجهة يكون شيخ مورسية أقرب إلى الإيمان بأن طريق الاتفاق والتسليم والتقليد، أوْلَى وأسلَم للوصول إلى العرفان الحق، من الخلاف والصراع والإبداع.

    لم يكن همّ ابن عربي إذن البحث عن معقولية للوجود، بإخضاع هذا الأخير لمقولات العقل ومبادئه من أجل استثماره عملياً، لم يشأ قراءة الوجود من وراء حجاب الفكر، فيراه عبارة عن ماهية مدفونة في أعماق الظواهر والأشياء. لقد كان، على العكس من ذلك، ينأى بنفسه قدر الإمكان عن ’الموضوعية‘ الباردة التي تفصله عن الوجود وتجعل هذا الأخير مجرد موضوع للعلم والسيطرة. لقد أراد الشيخ الأكبر أن يُبقِي الوجود قريبا منه، شاخصا أمامه، متجليا في صورة حسية أو خيالية يمكن أن تسكن نفسه إليها. باختصار، كان ابن عربي أبعد الناس عن العقل الحسابي الحاصر للحقيقة والمستعمل لها، وأقرب ما يكون إلى العقل الجامع، عقل اللوغوس، العقل المنفعل بالوجود والراغب في مدد من جُوده.

    وهنا قد يلتقي هيدجر مع ابن عربي، فهما معا لم ينتقدا العقل من أجل إصلاحه وتقوية فعاليته، أو الزيادة من هيمنته على الوجود، بل انتقداه لغاية استبداله إما بالفكر المرادف للشعر بالنسبة لهيدجر، أو بالذوق والكشف بالنسبة لابن عربي، هذا الاستبدال الذي من شأنه تحرير الوجود من المقولات والماهيات والمبادئ العقلية، أي من الحُجُب التي تُنسي الوجود. ومع ذلك علينا أن لا نفهم أن الغرض من انتقاد ابن عربي للعقل إلغاءَه وتفكيك المؤسسات التابعة له كما فعل الغزالي، وإنما كانت غايته أن يبين حدوده، وينبه إلى ضرورة دعمه بطريق الخبر والمشاهدة والكشف. فهو يعترف بأن نور العقل مساوق لنور الإيمان، ولو أنه لا يصل إلى مرتبة هذا الأخير. ولذلك فهو يوصي باستعمال النورين العقلي والإيماني معاً، لكن دون أن لا يتم الخلط بينهما[31]. فقد يشهد نور الإيمان لنور العقل، ولا يشهد نور العقل بصحة ما أعطاه الإيمان والكشف، لأن ما يقتضيه البرهان الوجودي من السلب والتنزيه بالنسبة للذات الإلهية غير ما يقتضيه الإيمان. يقول ابن عربي : « أحذر أن تصرف نظرك الفكري فيما أعطاكه الإيمان، فتحرم عين اليقين، فإن الله أوسع من أن يقيده عقل عن إيمان، أو إيمان عن عقل، وإن كان نور الإيمان يشهد العقل من حيث ما أعطاه فكره بصحة ما أعطاه من السلوب، ولا يشهد نور العقل من حيث فكره بصحة ما أعطاه نور الإيمان والكشف »[32].

    أما بالنسبة للمعنى الثاني للعقل، أي العقل المنفعل القابل، فقد أُودع فيه قوة « القبول لما يعطيه الحق، ولما تعطيه القوة المفكرة »[33]. غير أنه في مكان آخر يجعل القلب وسيطا بين العقل والحق، مما يسلبه القدرة على القبول المباشر من الحق: « فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب، لا بالعقل، ثم يقبلها العقل من القلب كما يقبل من الفكر...»[34]. إن نور هذا العقل « يشهد بصحة ما أعطاه الكشف والإيمان :

    للشرع نور وللألباب ميزان ** والشرع للعقل تأييد وسلطان

    والكشف نور ولكن ليس تدركه ** إلا عقول لها في الوزن رجحان»[35].

    وبهذا النحو يتبين لنا أن العقل المنفعل في الأفق الأكبري أفضل من العقل الفاعل، لأنه يتسم بالقبول، ولأنه يقبل إما مباشرة من الحق، أو عن طريق القلب، في مقابل العقل الفاعل الذي لا يقوى على إدراك الأشياء والذوات مباشرة، وإنما بالواسطة. وهذه العلاقة تفسر لنا الفرق بين باراديجم الوحدة عند ابن عربي وباراديجم الاتصال عند ابن رشد. فمحي الدين كان يطالب الراغب في الوصول أن يوقّف العقل الفاعل من أجل العقل المنفعل، عقل القبول والتلقي، في حين كان باراديجم ابن رشد يقوم على استنفاذ كل إمكانيات العقل الهيولاني، أي جعله ممتلئا تماما حتى يكتسب قوة جديدة يقتدر بفضلها على الاتصال بالعقل الفعال. بعبارة أخرى، تقوم استراتيجية ابن رشد على تحويل العقل الهيولاني إلى عقل فعال، وهذه هي لحظة الاتصال بالوجود ؛ بينما تقوم استراتيجية ابن عربي على تحويل العقل الفعال (أي الذي يقوم بفعل التفكير النظري) إلى عقل هيولاني قابل للمدد والهبة الإلهية.

    وقد كان ابن عربي يؤثر طريق الكشف والمشاهدة على طريق أهل النظر، بالرغم من أنها طريق غير حتمية ولا مضمونة النتائج، وبالرغم من أنها قائمة على الانتظار، أو بالأحرى على تدريب أهل الكشف على اكتساب فضيلة الاستعداد للانتظار، انتظار المدد الإلهي:« فمن طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه، وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك »[36]. ولعل هذا شبيه – وإن كان السياق مختلفا للغاية - بما صرح به هيدجر في حوار شهير له نشر بعد وفاته بخمس سنوات. فحينما سُئل عما إذا كان للفلسفة من دور تلعبه في عالم يطحنه طغيان العولمة التقنوية، أجاب بأن مهمة الفلسفة تنحصر في إعدادنا لانتظار إلهٍ، هو وحده القادر على إنقاذنا من الهول المنتظر[37].

    ومن البيّن بنفسه أن انتقاد العقل هو، بجهة ما، دعوة للاعقلانية، بحيث يمكن للمرء أن يترجم الأكبرية (التي هي ما بعد رشدية) وما بعد الحداثة معاً بما بعد العقلانية. ولعل أسلوب كتابة ابن عربي خير دليل على لاعقلانيته. إذ لمّا كان الخبر مبدأ تفكيره، فقد اتخذت كتابته شكل الرواية والحكي[38]، فتجده غير معنِيّ ببناء نسق متماسك يحترم فيه تسلسل الأفكار وانسجامها، غير عابئ باحترام وحدة الأجناس والأقوال الأدبية والعلمية، مفضّلا على ذلك التنقل بحرية من فكرة إلى أخرى، ومن موضوع إلى آخر، ومن حكاية إلى أخرى دون أي رادع منطقي. وهذا ما أضفي على كتابته طابعا «فوضويا» يجعل معظم قرائه يتيهون في مفازاتها، إلا الراسخون منهم في أجوائها، الذين يجدون فيها مع ذلك نظاما رائعا في خضم الفوضى العارمة. إن الفكر الذي لا يتقيد بشكل واحد للكتابة، الذي يأبى نصّه الخضوع لأي نظام قولي، ويرفض الامتثال للحواجز الصناعية والمصطنعة التي تفصل بين أجناس الأقوال والمناهج والمقاربات، النص الذي يمتزج فيه النثر بالشعر، والبرهان بالكشف، والعقل بالخيال، والفلسفة بالتصوف، وعلم الطبيعة بعلم الحروف الخ.، يجعل صاحبه أقرب المفكرين الوسطويين إلى سماحة هذا الزمن. إن المفكر الذي يفضل اللغة على الأونطولوجيا، والتأويل على التفسير، والحكي على التحليل، المفكر الذي يبحث عن ليلاه بين الأطلال، وعن معنى للوجود بين الأحلام والأساطير، وعن الخلق في ثنايا الحروف والأفعال والأسماء، يرفعه إلى مقام المفكرين المغامرين الذين لا يترددون أمام إحراق سفنهم، سفن العلم والفلسفة، من أجل أن يتحركو بريحهم التي في داخلهم، بريحهم الذاتية، لا بالريح الآتية إليهم من خارج. إن تخليه عن المركز المِلّي والفلسفي لقاء البحث في الأطراف والتخوم عن معنى طائش، أو دلالة متسترة وراء هذه الإشارة أو ذلك الرمز، يجعل منه مشاغبا كبيرا، ومحرضا خصباً للبحث عن التجديد بكل الطرق، إذ لا فضل لطريق على أخرى إلا بقدرتها على خرق العادة. إن فكراً ينأى عن الذاتية بمعناها الهيدجري، في سبيل النظرة الموضوعية للوجود، أي في سبيل القرب من الوجود كما هو، لا كما يظهر عبر مقولات الإنسان، يجعله أقرب من أي فكر آخر من أفق ما بعد الحداثة.

    غير أنه، سواء بالنسبة لابن عربي أو بالنسبة لأفق ما بعد الحداثة، لا معنى للفصل بين العقلانية واللاعقلانية، بين المعنى واللامعنى، بين العقل والخيال، بين النظام والفوضى، ما دامت المرجعية في الأفقين معاً هي الوجود لا العقل. فإزاء الوجود: العقلانية واللاعقلانية هما على حد سواء. بل من شأن التخلي عن العقلانية الصارمة أن يخفف من ثقل الذات، ويسمح لها بتجاوز عوائق معرفية ضاغطة، كالتقابل بين الذات والموضوع، بين الصورة والأصل، بين الظاهر والباطن وبين البرهان والتمثيل. وفي هذا الاتجاه كان صاحب فصوص الحكم يقول أحيانا إن النسخة هي مصدر الأصل، وأن الشبيه والخيالي يوجد في أصل وجود الأشياء الواقعية. وهذه النظرة إلى العالم هي التي جعلته ينوه بقيمة الخيال، والصورة، ويحرض على التعدد والتحول في الطرق والمعارف، إيماناً منه بأن « المعرفة إذا لم تتنوع مع الأنفاس لا يعول عليها»[39].

    ومع ذلك، وعند تدقيق النظر في المرآة على نحو عدل، نستطيع أن نرى ملامح من الاختلاف الدقيق بين انتقاد ما بعد الحداثة وانتقاد ابن عربي للعقل موضوعا وغاية ووسائل. فقد تكون عملية الانقلاب على العقل، أو الانقلاب على الانقلاب الذي قام به العقل، واحدة في شكلها، بل قد تكون واحدة في شعاراتها، ولكن موضوعها وأدواتها ومقاصدها مختلفة. فموضوع النقد عند ابن عربي هو العقل من حيث هو أداة معرفية تتطاول على الوجود الإلهي بوسائلها المقيِّدة والحاصرة ؛ أما موضوع نقد ما بعد الحداثة للعقل فهو الوجود الطبيعي، أي ادعاء العقل حيازته لحقيقة العالَم الطبيعي وقدرته على استعمال هذه الحقيقة لقضاء ’مآرب أخرى‘ لا صلة لها بالمقاصد العلمية. كما لم تكن غاية ابن عربي من انتقاده العقل تحرير القلب من قيد العقل، من أجل إطلاق العنان للغرائز والانفعالات الجسدية، أو من أجل توسيع أوراش بحث جديدة، أو استحداث زوايا جديدة للنظر إلى الوجود كما تفعل ما بعد الحداثة، بل من أجل تحويل اتجاه الطاقة البشرية الحسية والوجدانية والفكرية نحو الأفق الأعلى. ولذلك كان البديل الذي قدمه ابن عربي هو الاتكال أساساً على تأويل الأخبار والقصص والإشارات الواردة في الكتب المنزّلة والسنن الشارحة لها، لا على المشاهدة الحسية أو التفكير الشاعري كما تفعل ما بعد الحداثة. باختصار، شيء مما كان يقول به ابن عربي صارت تروم إليه ما بعد الحداثة، لكن لا من أجل العودة إلى روح القرون الوسطى، الثّمِل بالمقدس والعجيب والخارق للعادة، بل للقفز إلى عصر الوجود الافتراضي، الوجود الذي تم تشكيله من عالم العدد والصورة والحركة، عالم الوحدة النابعة من الإنسان.

    صورة الوجود الأكبري في مرآة ما بعد الحداثة :
    نسيان الوجود
    الصورة الأكبرية الثانية التي نود مشاهدة جانب منها في مرآة ما بعد الحداثة هي صورة الوجود. لقد أحدث ابن عربي، شأنه في ذلك شأن هيدجر، انقلابا داخل الانقلاب الذي قامت به الفلسفة على غيرها من أجناس القول اللاعقلاني منذ فجر نشأتها عند اليونان. وكانت غاية الانقلاب الأكبري استعادة الموجود لمشروعيته بعد أن اغتصبها العقل. وقد تجلى هذا الاغتصاب خاصة في تحويل الوجود إلى مجرد مسود للإنسان – السيد. لذلك كان على ابن عربي أن يقلب علاقة السيد بالمسود بين الإنسان والوجود. فبدلا من أن يكون الإنسان سيدا على الوجود، غدا في الرؤية الأكبرية مسوداً له. وبذلك توقف الوجود عن أن يكون موضوعا، ليصبح ذاتا ناطقة باسم الإنسان. وبلغة هيدجر الريفية، يكون معنى عودة المشروعية للموجود أن يتوقف الإنسان عن أن يفرض نفسه سيدا للوجود، ويقنع بأن يكون مجرد راعي له[40].

    بيد أن إعادة الاعتبار إلى الوجود بالنسبة لابن عربي كانت من حيث إن الوجود هو الله، من حيث هو وجود واحد أحد، من حيث هو وجود مقدس يقتضي العبودية والعبادة، لا من حيث هو وجود وحسب. إن إعادة المعنى للوجود بالنسبة لصاحب الفصوص متلازمة ومتآنية مع إعادة المعنى للإنسان، باعتباره كائنا منذوراً لأن يعرف الله، لأنه خلقه من أجل أن يعرفه ويعترف به[41]. من هنا نفهم لماذا كان مسعى الشيخ الأكبر موجها نحو غائية أخروية، خلافا لمسعى ما بعد الحداثة التي لم تعد تعنيها لا البداية ولا النهاية.

    غير أن الذي أثار استغراب ابن عربي هو نسيان الإنسان للوجود، وكأن ’نسيان الوجود‘ من صميم الطبيعة البشرية. حقا، لم يطرح الشيخ الأكبر إشكالية النسيان على مستوى تاريخ الفلسفة أو تاريخ الميتافيزيقا، كما سيفعل هيدجر، وإنما على مستوى تاريخ الوجود البشري من حيث هو تاريخ لنسيان الله. وهذا ما جعل لغة ابن عربي زاخرة بلغة النسيان والحضور، كالغفلة والسهو والنوم والحجاب، واليقظة والشهود والكشف والتذكر، بحيث يمكن اعتبار التقابل بين قاموسَيْ الحضور والنسيان من بين المحركات الأساسية للتجربة الصوفية عند ابن عربي. لقد ربط الشيخ الأكبر ربطا اشتقاقيا وذاتيا بين الناس والنسيان، معتبراً ’الناس‘ اسم فاعل مشتق من النسيان[42]. لكن ما ذا نسي الإنسان ؟ أو ما هو موضوع نسيان الإنسان؟

    هناك ثلاثة موضوعات مترابطة لنسيان الإنسان عند ابن عربي، وهي : الصورة، والنفس، والله. فمن جهة، بما أن صورة الإنسان هي نفسُه، فإن « مَن نسِيَ صورتَه نسي نفسَه »[43]، أو بالأحرى مَن نَسي صورته أنساه الله نفسَه ؛ ومن جهة ثانية، لمّا كانت صورة الإنسان ليست شيئا آخر سوى صورة الله – استنادا إلى حديث نبوي يعتمد عليه ابن عربي كثيرا لبناء نظريته في الإنسان -، فإنه يترتب على ذلك أن مَن نَسِيَ نفسَه، أي صورته، نسي الله ؛ لكن، من جهة ثالثة، من نسي الله، نسيَه الله، إشارة إلى قوله تعالى « نَسَوا الله فنسيَهم »، وكأن النسيان متبادل بين الإنسان والله، من غير أن يكون له نفس المعنى، لأن النسيان البشري أدْخَلُ في مقولة الانفعال، بينما النسيان الإلهي هو من مقولة الفعل، إذ أن نسيان الله هو أن يُنسي الإنسانَ نفسه.

    هكذا تتضح العلاقة المتبادلة بين عدم معرفة الإنسان بذاته وعدم معرفته بالله، فانفصال الإنسان عن صورته هو انفصال عن الله، وانفصاله عن الله هو انفصال عن صورته ونفسه. غير أن معرفة الذات تنطوي على مفارقة: فالإنسان لا يعرف ذاته إلا إذا أفناها، أي أنه لا يرى ذاته في مرآة ذاته إلا إذا جلّى وجه مرآته. وهذا تلميح لنسيان آخر أشار إليه ابن عربي منتقداً إياه في مضمار انتقاده لبعض المتصوفة، لا سيما متصوفة الحلول، الذين بسبب ادعائهم بأنهم لا يشهدون من الله إلا أعيانَهم وأحوالَهم، يُنسِيهم الله أنفسَهم[44].

    ويتخذ مضمون نسيان الإنسان لله صورتين، يمكن الاقتراب منهما من خلال مقولتين: إما عن طريق مقولة الإضافة فيكون نسيانُ الإنسان لله نسيانا لعبوديته له[45] ؛ أو عن طريق مقولة الجوهر، فيكون نسيان الإنسان لله نسيانا لكون « الحق سمعَه وبصرَه وجميعَ قواه »[46]. إنها لحظة حضور وشهود قوية حينما يحصل للإنسان الوعي بأن الحقّ سمعَه وبصرَه وجميع قواه: أليست هذه اللحظة هي إحدى المعاني القوية لوحدة الوجود الأكبرية؟

    لكن مَن المسؤول عن هذا النسيان المزدوج: نسيان الذات من حيث هي نسيان لله، ونسيان الله من حيث هو نسيان للذات ؟ من بعض أقواله نفهم أن النسيان طبيعة ذاتية للإنسان[47]، ومن بعض أقواله الأخرى نتبيّن أن صاحب النظر « وحده ... الذي يدخله السهو »[48]. بهذه الجهة، يصبح الفكر علةً لنسيان الوجود، أو بعبارة محي الدين إن « الاشتغال بالفكر حجاب »[49]، في مقابل التذكر الذي هو أداة حضور وانكشاف الوجود. ولعل هذا التقابل هو ما شجع صاحب الفتوحات أن يُسَمّي المتصوفة أحيانا « بأهل الكشف والوجود »[50]، وأحيانا أخرى « بأهل التذكر »[51]. ذلك أن ’الذاكرة الوجودية‘ تمكّن هؤلاء القوم في آن واحد من أن يكون الله حاضرا دائما في قلوبهم، ومن أن يرجعوا إليه مباشرة، لا بواسطة الاستدلال الفكري أو الرؤية العقلية. ومن هنا جاء تنويهه بصاحب الذوق الذي « لا غفلة عنده عن ذلك جملة واحدة... »[52]. هكذا يحقق المتصوف ما يعتبره ابن عربي مهمة الإنسان الكبرى، وهي الحضور الدائم لله في القلب، نظير حضور الله مع الإنسان أينما ولّى وجهه.

    فإذا ولّينا وجهنا شطر هيدجر، فإننا نجده يربط نسيان الوجود أيضا بالإنسان وبمصير الوجود ذاته من حيث هما أمران متلازمان[53]. غير أن موضوع ومعنى هذا النسيان الهيدجري يختلف كثيرا عما كان يؤمه الشيخ الأكبر. فموضوع نسيان الوجود عند الفيلسوف الألماني لم يكن الوجود الإلهي، ولا حتى وجود الموجود، أو مجموع الموجودات، وإنما كان موضوعه حقيقة الموجود[54]. لم يكن موضوع نسيان الوجود عند هيدجر إذن ينتمي إلى مجال التيولوجيا ولا إلى مجال الأنطوتيولوجيا، وإنما إلى مجال الميتافيزيقا، باعتبارها تاريخا لاحتجاب الوجود بالموجود. فالموجود يُنسِينا الوجود عن طريق الإنسان[55]، أي عن طريق عقله الذي يحوّل الموجود إلى تقنية. ولذلك كان تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ هيمنة العقل على الموجود، وهذا ما يسميه هيدجر تارة بالإنسية، وتارة أخرى بالعدمية، التي استفحل أمرها أخيرا إلى درجة تمكنت فيها من الهيمنة الكونية على مقدّرات الموجود كلها. لقد صار حضور الموجود الطاغي بفعل التقنية، أي بفعل العقل، حجابا على الوجود، وهذا هو معنى نسيانه. بهذا النحو يصبح العقل، من حيث هو عقلانية وتقنية، والإنسان، من حيث هو إنسية، هما المسؤولان عن نسيان الوجود. أو بتعبير آخر، إن ’النزعة الذاتية‘، أي إرجاع الوجود إلى الذات، هي المسؤولة عن نسيان الوجود[56].

    ومن ثم لا يمكن تجاوز نسيان الوجود إلا بنسيان النسيان ذاته، وذلك إما بدفع تاريخ الميتافيزيقا إلى نهايته، أي بدفع العدمية إلى استنفاذ كل إمكانياتها، أو بالتخلي عن العقلانية والإنسية والذاتية، أي بالتوقف عن جعل العقل محور الموجود والكف عن المناداة بشعار الإنسية، وذلك من أجل العودة إلى الوجود. وتقتضي هذه العودة عند هيدجر إعادة النظر في المخاطب بالسؤال. فبدلا من توجيه سؤال الحقيقة إلى الموجود، علينا أن نوجهه إلى الوجود[57]. ومن ثَم، لا يمكن تجاوز العدمية والإنسية معا إلا بالتخلي عن الميتافيزيقا - التي انحازت إلى الموجود، باحثة عن حقيقته من خلال مفاهيم ومقولات وأسئلة غيّبت الوجود في مبادئ وأصول وغايات - والتوجه مباشرة إلى الوجود لمساءلته عن حقيقته من حيث هو مختلف عن الموجود. لقد وحّد هيدجر بين النسيان وكل من العدمية والإنسية، والذاتية، والتقنية، لأن القاسم المشترك بين هذه المقامات هو الإنسان من حيث هو حيوان عاقل. إن طغيان الإنسان، باعتباره أحد الموجودات، قد حجب الوجود. ولذلك كان هدف هيدجر الأخير تعويض الذاتية بالموضوعية، وهذا نفسه ما رام إليه ابن عربي تحت مسمى مقام الفناء. لكن ليس معنى هذا أنه، من أجل الكشف عن الوجود والقرب منه بوصفه موضوعا، يجب أن يحتجب الإنسان، أو أن يطمس فكره، بحجة أنه أداة تحويل الموجود إلى علم وتقنية، أي أداة تحويله إلى إرادة للقوة والهيمنة. بل إنه عند تقليب أقوال هيدجر المتقلبة، يظهر لنا أن حقيقة الوجود توجد في الإنسان[58]. أليس الإنسان هو راعي الوجود وحامي حماه، وهو الناطق باللغة التي هي مسكنه ومأواه ؟!

    هكذا نصل إلى أن الرجلين كانا ينشدان معا كشف الحجب عن الوجود، والقرب منه، الذي هو قرب من ’الأصل‘[59]. بيد أنه إذا كان القرب من ’الأصل‘ بالنسبة لهيدجر هو قرب من النشأة، من لحظة الانبثاق بمعناه الفيزيائي، أي القرب من الطبيعة، دون أي مبالاة أو اهتمام بسبب ظهورها في حوادث وظواهر وموجودات، ومن غير اللجوء إلى سؤال الـ’لمَاذا‘[60]، فإن ابن عربي، وإن كان هو الآخر من المناهضين للسببية وللسؤال اللمّي والماهوي، لأن ذلك أدخل في باب قلة الأدب، وبالرغم من أن الشيخ الأكبر كان يريد أن يتحد بلحظة الإبداع في معناه العنفواني، فإنه لم يصل به الأمر إلى أن يحرر الأشياء - وبخاصة الإنسان - من وسواس البحث عن الأسباب والغايات، لم يصل به الأمر إلى أن ينظر إلى الوردة في ذاتها، من حيث هي موجودة فقط، لا من حيث هي مقيدة بسؤال ’لماذا؟‘، كما فعل هيدجر.

    ****

    ما الذي رأيناه، إذن، في المرآة أو المرآتين المتقابلتين؟ ما رأيناه هو ’المثيل الآخر‘، أو ’الآخر المثيل‘، لا المثيل المتطابق، ولا الآخر المغاير. نعم، لا ننفي أن رؤيتنا كانت خاضعة لطبيعة المرآة ذاتها، التي تأبى إلا أن تُظهِر في عز المماثلة، شيئا من المخالفة. إن الوقوف على الاختلاف بين الأفقين الأكبري وما بعد الحداثي – ممثلا في هيدجر- أمر أساسي بالنسبة لنا، حتى نحتفظ بحق البقاء على مسافة منهما معا. ذلك أنه لم يكن غرضنا من تطلعنا لرؤية ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، ومشاهدة هذه في مرآة ابن عربي أن نثبت بأن الحداثة قد تراجعت عن أسسها القوية الأولى بكيفية قاطعة مرتدة بنفسها إلى فكر صوفي خالص، أو أن نثبت أن ابن عربي استطاع بفكره أن يتجاوز حاجز الزمن والتاريخ، وأن يتطابق مع غيره بكيفية مطلقة، وإنما كانت غايتنا أن نرى هذا في ضوء ذاك، وأن نبرز جملة من الانعكاسات والتقاطعات المتبادلة بين المرآتين، الأكبرية وما بعد الحداثية، عساهما أن تكونا ضامنتين لإمكانية نجاح لقاء مستقبلي بين العقل والقلب، بين النظر والكشف، بعد أن فشل هذا اللقاء في الماضي بين ابن رشد وابن عربي.

    لقد بدا لنا أن ما بعد الحداثة ماضية في مصادرتها لكل أحلامنا، في مقابل ابن عربي الذي كان يحرص على أن يَبقى في عالم من الحلم. لقد كان يفكر بالحلم وفي الحلم، يؤول الحلم بالحلم، وكأنه كان يخشى أن يستيقظ فيجد نفسه في عالم خال من الحلم، كما هو حالنا نحن أبناء هذا الزمن. ولذلك، فنحن ما زلنا نحتاج إلى الأحلام، وإلى الأحلام التي تفسر الأحلام. لكن لا الأحلام التي تعود بنا إلى الوراء، إلى الأساطير التي استنفذت تأويلها، بل إلى الأحلام التي تقفز بنا إلى الأمام قفزة أونطولوجية.









    --------------------------------------------------------------------------------



    [2] أن منطق المرآة، وهو منطق أونطولوجيا الخيال، يحررنا من هيمنة المنطق الصوري والأونطولوجية التابعة له، طالما أن المنطق المرآوي ينطلق من رؤية هيراقليطية-سفسطائية تضع الصيرورة مبدأَ لتصور العالم، مما يجعل الجمع بين المتضادات أمراً لا يثير أي حرج لدى القائل به ؛ عن أهمية المرآة في فكر ابن عربي انظر مايكل سيلس :

    Michael A. Sells, Mystical Languages of Unsaying, Chicago, 1994, p. 63-64, 73.

    [3] . عن رواية ابن عربي للقائه مع ابن رشد انظر الفتوحات، ج 1: 153-154؛ انظر تحقيق عثمان يحيى، القاهرة، 1985، السفر 2، ص 372-373 ؛ انظر بعده هوامش 8-10.

    [4] . كتاب التجليات، ضمن رسائل ابن عربي، بيروت، ب.ت.، ص 11.

    [5] . الفتوحات، 4: 296.

    [6] . بالنسبة لهيدجر لا يمكن القيام بتغيير في الفكر إلا بنفس الفكر الذي كان أصلا له، لا غيره، انظر مثلا :

    Martin Heidegger, “Only God can save Us”, in Heidegger, The Man and the Thinker, ed. By Thomas Sheehan, Chicago, 1981, p. 62.

    [7] . الفتوحات، ج3: 525.

    [8] . صاغ ابن عربي سؤال ابن رشد المرموز كالآتي « وقال لي : نعم؟ قلت له نعم، فزاد فرحه بي لفهمي عنه. ثم أني استشعرت بما أفرَحَه من ذلك، فقلت له لا، فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده » ن.م.، ج 1: 154.

    [9] . نفس الصفحة.

    [10] . نفس الصفحة.

    [11] . رسالة لا يعول عليه، ضمن رسائل ابن عربي، ص19.

    [12] . عن طبيعة التقليب التي يتصف بها القلب يقول : « فإن القلب معلوم بالتقليب في الأحوال دائما فهو لا يبقى على حالة واحدة فكذلك التجليات الإلهية. فمن لم يشهد التجليات بقلبه ينكرها، فإن العقل يقيد وغيره من القوى، إلا القلب فإنه لا يتقيد وهو سريع التقلب في كل حال، ولذا قال الشارع ’إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء‘، فهو يتقلب بتقلب التجليات والعقل ليس كذلك، فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل » الفتوحات، 1: 289 ؛ كما يقول : « فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل، فلو أراد الحق في هذه الآية بالقلب أنه العقل ما قال « لمن كان له قلب »، فإن كل إنسان له عقل، وما كل إنسان يُعطَى هذه القوة التي وراء طور العقل المسماة قلبا في هذه الآية... فالتقليب في القلب نظير التحول الإلهي في الصور...» ن.م.، 1: 289.

    [13] . رسالة لا يعول عليه، ص 3.

    [14] . ن.م.، ص 2.

    [15] . عن علاقة الحيرة بالكمال « فالكامل من عظمت حيرته، ودامت حسرته ولم ينل مقصوده لما كان معبوده، وذلك أنه رام تحصيل ما لا يمكن تحصيله، وسلك سبيل من لا يُعرف سبيله » الفتوحات، ج2، ص 212.

    [16] . هناك صورة ثالثة للعقل، يكّن لها ابن عربي تقديراً عظيما يفوق تقديره للخيال، وهي صورة العقل في معناه الميتافيزيقي الذي يبوئه مكانة أول مخلوق خلقه الله ؛ انظر مثلا الفتوحات، 1: 46 ؛ 2: 67 ؛ وهذا العقل الأول هو القلم بلغة الشرع، انظر كتاب الوصايا، ضمن رسائل ابن عربي، ج 2، ص 4.

    [17] . عن افتقار العقل إزاء غيره يقول : « إن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول » الفتوحات، 1: 289 ؛ ويضيف في ن.ص. : « وقد علم الله أنه جعل في القوة المفكرة التصرف في الموجودات والتحكم فيها بما يضبطه الخيال من الذي أعطته القوى الحسية، ومن الذي أعطته القوة المصورة..» ن.م.، 2: 319 ؛ كما يقول «فإن العقل ليس له مجال بميدان المشاهد والغيوب، فكم للفكر من خطأ وعجز، وكم للعين من نظر مصيب، ولولا العين لم يظهر لعقل دليل واضح عند اللبيب » ن.م.، 2: 628.

    [18] . ن.م.، 1: 289 ؛ عن تبعية العقل للحواس والخيال يقول: « وإدراك العقل على قسمين، إدراك ذاتي هو فيه كالحواس لا يخطئ ؛ وإدراك غير ذاتي، وهو ما يدركه بالآلة التي هي الفكر، وبالآلة التي هي الحس، فالخيال يقلد الحس فيما يعطيه، والفكر ينظر في الخيال فيجد الأمور مفردات، فيحب أن ينشئ منها صورة يحفظها العقل فينسب بعض المفردات إلى بعض، فقد يخطئ في نسبة الأمر على ما هو عليه، وقد يصيب، فيحكم العقل على ذلك الحد، فيخطئ ويصيب. فالعقل مقلد، ولهذا اتصف بالخطأ » ن.م.، 2: 628.

    [19] . ن.م.،1: 289.

    [20] . عن عيب التقليد يقول: « فقد علمنا ما عنده [العقل] شيء من حيث نفسه، وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما هو من كونه عنده صفة القبول. فإذا كان بهذه المثابة، فقبوله من ربه لما يخبر به عن نفسه تعالى أولى من قبوله من فكره، وقد عرف أن فكره مقلد لخياله، وأن خياله مقلد لحواسه، ومع تقليده فهو غير قوي على إمساك ما عنده ما لم تساعده على ذلك القوة الحافظة والمدركة... فتقليد الحق أوْلىَ »، ن.م.، 1: 289؛ ويضيف « ... فيعرف الأمور كلها بالله، ويعرف الله بالله. إذ لا بد من التقليد، وإذا عرفتَ الله بالله، والأمور كلها بالله، لم يدخل عليك في ذلك جهل ولا شبهة ولا شك ولا ريب » ن.م.، 2: 298؛ « فقلد ربك، إذ لا بد من التقليد، ولا تقلد عقلك في تأويله، واصرف علمه إلى قائله، ثم اعمل حتى تنزل في العلم كهو، فحينئذ تكون عارفا، وتلك المعرفة المطلوبة والعلم الصحيح » ن.م.، 2: 298.

    [21] . عن عيب التقييد، يقول : « فإن العقل تقييد من العقال » ، ن.م.، 3، ص 198 ؛ لكن إن كان العقل « مقيدا بالتقلب، فلا يبرح بتقلب، فهو صحيح » ن.ص. ؛ انظر أيضا مايكل سيلس، م.م.، ص 78-79.

    [22] . انظر الفتوحات، 2: 661 ؛ 3: 162 ؛ ويقول « فإن الله لا يقبل التقييد، والعقل تقييد، بل له التجلي في كل صورة» ن.م.، 3: 515؛ ويذهب ابن عربي إلى أنه حتى وصف الله بالإطلاق تقييد له، انظر مثلا ن.م.، 3: 219 ؛ 4: 332؛ غير أنه يقبل أحيانا وصف الله بالإطلاق في التقييد، انظر ن.م.، 3: 454.

    [23] . عن طبيعة القلب وسعة أرجائه انظر ن.م.، 1: 56؛ 1: 91؛ 1: 289-290؛ 1: 331؛ 1: 366.

    [24] . عن الفرق بين مفهوم المكان في الهندسة والفلسفة عند هيدجر، انظر :

    Heidegger, L’Etre et le temps, tr. Alphonse de Waelhens, Paris, Gallimard, 1964, p. 131.

    [25] . يقول عن المكان : «المكان إذا لم يؤنث لا يعول عليه، يعني المكانة» رسالة لا يعول عليه، ص12.

    [26] . الفتوحات، 1: 98.

    [27] . ن.م.، 1: 99.

    [28] . ن.م.، 1: 99؛ كما يضيف في نفس الصفحة : « ... قد أخبرني أنه يُحس بالزيادة والنقص على حسب الأماكن والأمزجة، ويعلم أن ذلك راجع أيضا إلى حقيقة الساكن به، أو همته كما ذكرنا. ولا شك...».

    [29] . عن اختلاف المعقول باختلاف النسبة إلى المنسوب إليه انظر مثلا ن.م.، 2: 319.

    [30] . عن اختلاف مقالات أهل النظر في مقالاتهم، انظر مثلا ن.م.، 2: 319 ؛ غير أن هيدجر كان يعتبر الصراع الذي يدور بين الفلاسفة ليس سوى صراع عشاق، وإلا فإن الحقيقة واحدة والجميع يقولون نفس الشيء الواحد، انظر:

    Martin Heidegger, Lettre sur l’humanisme, in Questions III, Paris, 1965, p. 110, 152.

    [31] . عن خطورة الجمع بين طريقي الإيمان والبرهان يقول : « الذي أوصيك به أيها الأخ الإلهي... أنه عليه مع اعتمادك على ما اقتضاه البرهان الوجودي مما ينبغي أن يكون الحق عليه سبحانه من التنزيه والتقديس فتجمع بين العلم الذي أعطاك الإيمان وبين العلم الذي اقتضاه الدليل العقل، ولا تطلب الجمع بين الطريقين، بل خذ كل طريقة على انفرادها » كتاب الوصايا، رسائل ابن عربي ج2، ص 1.

    [32] . ن.م. ، ج 2، ص 2.

    [33] . الفتوحات، 2: 319.

    [34] . ن.م.، 1: 289.

    [35] . ن. ص.

    [36] . ن.م.، 1: 95 ؛ ولعل طبيعة المقاربة الاستعداية لابن عربي هي التي جعلت بيتر كوت يصف نظرية الوجود عند ابن عربي بأنها أنطولوجية الاستعداد (dispositional ontology)، انظر:

    Peter Coates, Ibn ‘Arabi and Modern Thought, Oxford, Anqa publishing, 2002, p. 11, 29.

    [37] . بصدد مهمة الفلسفة الانتظارية في زمن العولمة التقنية، انظر :

    Martin Heidegger, “Only God can save Us”, p. 57, 60 ; cf. « Que veut dire ‘penser’ ? », in Essais et conférences, tr. J. Beaufret, Paris, Gallimard, 1958, p. 164-165.

    [38] . ومن المعلوم أن لهذا الأسلوب في الكتابة نظائر عديدة لدى الفلاسفة المعاصرين كبول ريكور (Paul Ricoeur) وجان فرانسوا ليوتار (Jean François Lyotard)، وريتشارد رورتي ( Richard Rorty)، أ. ماكإينتَير (Alasdair MacIntyre)، حيث يجعلون من الحكي جوهر كل خطاب، سواء كان فلسفيا أو علميا أو قانونيا أو أدبيا.

    [39] . رسالة لا يعول عليه، ص 10؛ قارن مع ما يقوله هيدجر «وحده الفكر ذو الصور المتعددة قادر... على الإجابة على «السؤال» (سؤال كتاب الوجود والزمن) ذي الأوجه المتعددة تعددا داخليا »، رسالة إلى ريتشاردسون، انظر:

    M. Heidegger, « Lettre à Richardson », Questions IV, Paris, Gallimard, 1976, p. 188.

    [40] . عن مفهوم الراعي عند هيدجر انظر مثلا رسالة في الإنسية، ص 119.

    [41] . هذا هو مضمون الحديث القدسي: « كنت كنزا لم أُعرَف، فأحببت أن أُعرَف، فخلقت الخلق، وتعرفت إليهم، فعرفوني »، الفتوحات، 3: 367.

    [42] . ن.م.، 1 : 618.

    [43] . ن.م.، 2: 359.

    [44] . عن انتقاده لبعض المتصوفة الذين أنساهم الله أنفسَهم يقول : « ولما خلقنا الله على الصورة الإلهية كان في نسياننا الله أن أنسانا الله أنفسنا. فنُهِينا عن ذلك. فإنه من نسي نفسه بالضرورة نسي ما لله عليها من الحقوق وما لها من الحقوق، فتركوا الله إذ علموا أنهم لا يشهدون من الله ما هو الله عليه، وإنما يشهدون من الله أعيانهم وأحوالهم لا غير، فلما علم الله هذا من بعض عباده الذين لهم هذا الوصف أنساهم أنفسهم فلم يروا عند شهودهم أن أحوالهم عين ما رأوا فيقولون في ذلك الشهود قال لي الله وقلت له، وأين هذا من مقام قولهم لا نرى من الحق إلا ما نحن عليه، فلم يكن لهم ذلك إلا من كونه تعالى أنساهم أنفسهم » ن.م. ، 3: 553.

    [45] . عن كون نسيان العبودية هو سبب تسمية الإنسان باسم الناس، وبأن النسيان من طبيعة الإنسان، أي من صورته، يقول « ورد في الخبر ’أن الله خلق آدم على صورته‘، فكان في قوة الإنسان من أجل الصورة أن ينسى عبوديته، ولذلك وصف الإنسان بالنسيان فقال في آدم « فنسي ». والنسيان نعت إلهي، فما نسي إلا من كونه على الصورة، فما زلنا مما كنا فيه قال تعالى « نسوا الله فنسيهم » كما يليق بجلاله » ن.م.، 2: 244 ؛ وفي مكان آخر يتكلم عن النسيان بوصفه عقابا للإنسان : « فإذا كانت حياة العبد عارضة لا ذاتية فينبغي أن لا يزهو بها ولا يدعي، فما ادعى وقال أنا، وغاب عن شهود من أحياه، عرض له الموت العارض، أي هذا أصلك، فرده إلى أصله، ولكن غير طاهر بسبب الدعوى ونسيان من أحياه » ن.م.، 1: 379.

    [46] . ن.م.، 1: 594؛ انظر أيضا : 1: 397 ؛ 1: 486 ؛ 1: 618 ؛ ونقرأ أيضا« ... وقال أيضا وهو من باب الإشارة والتحقيق « قل أعوذ برب الناس ملك الناس » فمن باب التحقيق لما سماهم ’الناس‘ ولم يسمهم باسم يقتضي لهم أن يكونوا حقا أضافه نفسه إليهم باسم ’الملك‘. ومن باب الإشارة اسم فاعل من النسيان معرفا بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا » ن.م.، 1: 618.

    [47] . كما يظهر من قوله : « والإنسان نشأة عنصرية تطلبه حقائق متجاذبة بالفعل صاحب غفلة ونسيان » ن.م.، 3: 268.

    [48] . ن.م.، 1: 736 ؛ عن نسيان رب النعمة انظر الفتوحات، 2. 482.

    [49] . ن.م.، 2: 523.

    [50] . عن تسمية المتصوفة بأهل الكشف والوجود، انظر مثلا ن.م.، 1: 38؛ 2: 523.

    [51] . عن تسمية المتصوفة بأهل التذكر انظر ن.م.، 1 : 180؛ نشير إلى أن هيدجر هو الآخر يربط الفكر بالتذكر، انظر « ماذا يعني الفكر» ص 161-162، 164، وبالحضور أو الكشف، ن.م.، ص 166-169:

    « Que veut dire ‘penser’ ? », in Essais et conférences, tr. J. Beaufret, Paris, Gallimard, 1958 ; cf. aussi Question IV, p. 181-182.

    [52] . الفتوحات، 3: 235 ؛ ويضيف في نفس الصفحة عن حصانة أصحاب الذوق من الغفلة قائلا : « ومن ليس له هذا المقام ذوقا يغفل عن الحق بالأشياء حتى يستحضره في أوقات ما. فهذا هو الفارق بين أصحاب الذوق وبين غيرهم ».

    [53] . عن نسيان الوجود عند هيدجر، يمكن الرجوع مثلا إلى :

    Heidegger, Introduction à la métaphysique, tr. G. Kahn, Paris, Gallimard, 1967, p. 31, 121 ; cf. « Temps et Etre », in Questions IV, p. 58.

    [54] . بالنسبة لهيدجر الوجود ليس هو الله، ولا هو الجوهر ولا الماهية، انظر رسالة في الإنسية، ص 102.

    [55] . عن أن الموجود هو الذي ينسينا الوجود، انظر مثلا :

    Heidegger, Concepts fondamentaux, tr. P. David, Paris, Gallimard, 1985, p. 89-90 ; cf. Lettre sur l’humanisme, p. 104 ; 114-115.

    [56] . عن كون النزعة الذاتية هي المسؤولة عن نسيان الوجود، انظر مثلا، هيدجر، رسالة في الإنسية، ص 125.

    [57] . عن توجيه السؤال إلى الوجود انظر ن.م.، ص 88، 123.

    [58] . حول كون حقيقة الوجود هي في نفس الوقت التفكير في الإنسان، أو أن ماهية الإنسان أساسية لحقيقة الوجود، انظر ن.م.، ص 124، 135.

    [59] . عن مفهوم القرب من الوجود عند هيدجر انظر ن.م.، ص 102، 114-115، 120.

    [60] . عن أهمية السؤال المنزه عن أية غاية، انظر:

    Questions IV, p. 128 ; M. Heidegger, Le principe de la raison, tr. Par A. Préau, Paris, Gallimard, 1962, p. 108.



    محمد مصباحي

    أستاذ الأدب العربي الحديث

    كاتب وباحث في الأدب السردي العربي

    سيرة حياته : http://www.chez.com/medmesbahi/mon_cv.htm

                  

10-12-2004, 09:28 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    موقع المؤلف في: مابعد الحداثة

    ياسين النصيّر

    1
    لماذا يتوجه نص ما بعد الحداثة الأدبي إلى المؤلف وليس إلى القارئ؟ بعد أن اعتمدت الحداثة على القارئ بوصفة مؤلفا جديدا، وراحت نظريات الحاثة تعول على القارئ كثيراً لتعدده أولاً ، ولأنه يعتمد التأويل ثانيا، ولكونة منفتح اللغات واللسان والقدرات المعرفية وحتى الأعمار ثالثا، في حين أن المؤلف ليس إلا ذلك اللكم من الراجع والنصوص القديمة والحياتية وقد تهيأت له فرصة بفعل قدرات خاصة لأ يظهر بدور ما اسماه جيرارد جينية عن النص " بجامع النص" هل هو محاولة من" ما بعد الحداثة" منهجا وفكراً لإعادة الأعتبار إلى المؤلف بعد أن ألغته الحداثة ؟ أم أن إعادة الاعتبار، بحد ذاتها قضية منهجية وترتبط بمفهومات لم تنتبه إليها الحداثة؟ من قبيل أن المعرفة ليست إلا مدخلا للنص قد لا تكون واحدة في كل زمان ومكان، فما يملكه الأفريقي عن حركة النجوم مثلاً مختلف عما يعرفه العربي عنها، كلتاهما معرفة ولكن المتغيرات كامنة في البيئة وفي حركة الفكر من المجرد إلى المحسوس ، من الذاتي إلى الموضوعي ومن داخل إلى الخارج، إضافة إلى تنوع أدواتها .

    وهل أن الفن الأدبي وهو يؤسس معارفه التحديثية في داخل بنيته، قد أفرز تشكيلة من النسق جديدة، بحيث لم تعد ملائمة لسياقات القراءة غير "التأليفية"؟ أم أن الكتابة نفسها ، وبعد أن أصابها الكثير من شظايا النقد النصي، ما عادت قادرة على تحميل القارئ أعباء التفكير الأحادي الذي يتوخاه النص الحديث؟ والذي يفرزه قارئ غير معني بحقيقة الكتابة؟ أم ياترى لا هذا ولا ذاك، إنما هي العوامل مجتمعة ، وقد صاغت سمات ما بعد الحداثة للنص ،رؤية مغايرة للمنهجية القديمة التي بها يستقبل القارئ النص. لأن النص لم يعد ينتمي لمؤلفه بعد الانتهاء منه، باعتباره " نصاً مولِّدا" كلما مرّ زمن ما عليه. وعندئذ يكون المؤلف، هو المعني بما ينتجه مؤلف آخر كي لا يكرر القافية نفسها، ولا يعيد تجارب سبق وأن وطئتّها أقدام المكتشفين الأوائل، وربما لأن المؤلف أدرى بالطريقة الفنية التي هي عليها النص السابق، فتصبح قراءته له بمثابة بنية مضمرة فيه، وكأن المؤلفين ينتمون إلى تنظيم سري لا يعرف أحدهم الآخر إلا بشفرات الكتابة نفسها؟. أن ما بعد الحداثة تصب اهتمامها على تفكيك البنية وليس على تظّامها وسياقاتها الكلية. على البحث عن " كل" الأساسيات التي ولّدّت النص. ومثل هذه الطرق المتعرجة في النص لا يكتشفها القارئ العادي، وإن حصل وأكتشفها ستبقى لديه في حدود المعرفة الخارجية، في حين أنها لدى مؤلف آخر ستكون علامات يعمّق بها مسارها أو يغيرها، والثقافات ما كانت يوماً حصيلة لقراءات محايدة أو خارجية، كما تعتقد الحداثة بقدر ما كانت حصيلة لقراءات تأليفيه جديدة. نص ما بعد الحداثة يتوجه إلى الكاتب، باعتباره حقلاً خاصا بالفكر المولد لاستيعابه لشروط النص الفنية، وعندما يلغي عن قصد القارئ؛ الذي كان يعني وفق النظرية النقدية القديمة المُخاطب بالرسالة؟. أنا يسعه لتحويله إلى مؤلف آخر.والتغيير يجرى هذه المرة على "الرسالة" نفسها، بعد أن كانت تجري على المرسل إليه، فالمتغيرات الإيديولوجية الكبيرة التي حدثت في النصف الثاني من هذا القرن جعلت من النص خارج منطق الأيديولوجيات، وخارج منطق "الاستقبال"، وما ارتباطه الفكري بأطر فلسفية متغيرة إلا من قبيل التحتيم على الكاتب أن ينآى بنصه من الرسالة المباشرة مهما كانت لغتها غير متداولة، إلى الرسالة الموجهة إلى الذات ، خاصة وأن معنى الآخر أصبح في ما بعد الحداثة مضمراً في "الذات المبدعة" نفسها، وليس في ذات "الآخر" القارئ،المجهول، لا سيما وان الحال" التأليفيه" ذكورية مهما كان جنس المؤلف، والذكورية تؤكد في سياقاتها على إنتاج نص خنثوي يحمل كل الأبعاد دون أن يكون إحداها.والمعني بالنص الخنثوي، عدم الصفاء النوعي لأي نص معاصر وحديث، ليس من خلال مبدأ التداخل بين الأجناس، إنما من خلال أن العصر ما عاد معتمداً على لغة نقية قارة، وعلى كل مستويات البث " الشفري" للنص.

    2

    في التراث العربي الإسلامي لم يكن القارئ هو المعني أبداً، إنما كان المعني هو الوالي أو الخليفة أو المؤلف الآخر، بدليل أن الهوامش التي تكتب على المؤَلف السابق تخاطب المؤلف القديم والمؤلف الجديد معا ، فالمؤلف الذي يعتمد الهامش أساسا في توصيل معرفته للأخر ، كان يعتمد على حوار مضمر مع مؤلف قادم، هكذا سار الدرس التعليمي والديني ليس بين مؤلف وقارئ إنما بين مؤلف ومؤلف أخر. ولذلك بقي النص العربي القديم في إطار النسخ وفي إطار المحافظة على النص الأساس، ثمة تجاور تأليفي بين المؤلفين وليس تجاور بين القارئ والمؤلف. وحتى المعنيين بالآمر: الخلفية أو الوالي ما كان ليقرأ الكتاب في حضرة قراء عاديين، ولا المؤلف كان يقرأه في حضرة قراء عاديين أيضاً ، إنما كان الخطاب التأليفي يجري في حضرة مؤلفين عدة الأقل فيهم يمتلك الإنصات والتطبيق، وهو الخليفة أو الوالي، في حين ان المؤلف الأكثر كفاءة هو الذي يحتذي النص السابق ليؤلف نصه الجديد.

    الممهدات لنص ما بعد الحداثة في الأدب العربي

    موقع المؤلف

    ياسين النصيّر


    لماذا يتوجه نص ما بعد الحداثة إلى المؤلف – الكتابة ، وليس إلى القارئ – الكتابة كما أكدته الاتجاهات البنيوية، حينما عُدَّ القارئ – الكتابة هو الأساس في العملية الأدبية كلها؟ ثم بنت على تأليه القارئ – الكتابة تصورات منهجية وفكرية – دنيوية في أغلبها، لعل في المقدمة منها التأكيد فاعلية على الهرمونطيقا، في القراءة – الكاتبة، تلك القراءة التي خلخلت مركزية المصدر الواحد للنص، ومن ثم التمرد على مركزية الألوهية المطلقة والنقد والتاريخية، والتي بموجبها يتم إعادة التوازن بين المؤلف- الكتابة للنص وبين القدرة على إعادة إنتاج النص بأشكال مختلفة.

    في ضوء ذلك عدّ المؤلف في وقتها ثانياً ؟ بل ما هو إلا جامع نص من الدرجة الثانية كما يشير جينيت إلى ذلك. هل هي محاولة منهجية من نص" ما بعد الحداثة" لإعادة الاعتبار إلى المؤلف بوصفه الفاعل – ولكن ليس الفاعل المطلق بعد أن اعادة فكرة ما بعد الحداثة المركزية إلى قوى مجهولة وليس إلى البطل الذي يعيش على الأرض؟؟ بمثل ما عادتها إلى الكتابة بوصفها القدرة الذاتية الموشاة بما يحيطها من معارف وتجارب؟. أم أن إعادة الاعتبار هذه، بحد ذاتها قضية ترتبط بمفهمات تشكل صلب توجهات عامة لا تشمل الأدب وحده، بل تشمل نص ما بعد الحداثة بتشكيلاته المتنوعة كلها، مع إبقاء دور فاعل لـ" الكتابة" بوصفها قيمة مطلقة قابلة للمراجعة والتأويل ، ومن ثم دخولها التاريخ عن طرق إعادة الإنتاج، وليس عن طريق النقد كما كان نص الحداثة يعول على توسيع مفهوما ته. وبذلك يفقد نص ما بعد الحداثة سلطة النقد .

    إذن فالمؤلف تكوين ينتمي للأصالة الدينية، قبل أن ينتمي للأصالة الأدبية، فهو له تكوين قيمي خاص، بوصفه خلاقاً، وله تكوين نظري إجرائي يتميز به عن القارئ لاعتماده مفردات ذات تكوين شبه قارة، هي " الكتابة" وله بناء معرفي – كتابي خاص، هو " الرؤية لـ" وهذان التكوينيان لا يمتلكهما القارئ. وله بعد ذلك زمن تاريخي معين يصبّ فيه نصه، أي ثمة وعاء مشترك، يشير ويشار إليه هو العلاقة بين التاريخ والمنتج. وله موقف من الذي يحدث، فكريا واجتماعيا ، أي له قضية يريد التعليق عليها، القضية قد تكون " رسالة من نوع خاص" مادتها الكتابة، أو تفسير لحدث، أو التعبير عن حال. وهذه القصدية التي عليها المؤلف لا يمكن عدها مجردة من مغزى كوني " لألوهية" شاملة يتولى المؤلف صياغتها وفق صيغ زمانية – مكانية – لغوية –.

    وقبل البدء في الحديث عن هذه النقطة الجوهرية، أي إمكانية نص ما بعد الحداثة بتركيباته الجديدة، لإعادة الاعتبار إلى المؤلف – الكتابة، نود القول أن نص ما بعد الحداثة في هذه المقالة لا يعني الأدب وحده، بل المسار التكويني الذي يمر من خلاله، ففي الحياة الثقافية العربية اليوم ثمة توجهات منهجية فرضتها طريقة العمل في نص ما بعد الحداثة وهي أن النص لا يتشكل من لغة فنية واحدة، فاللغة الفنية الواحدة، تعني قارئا واحداً وإن تعدد، ولا يتوجه لقارئ محدد باتجاه أو بفكر ، ولهذه الظاهرة بنى أسلوبية ومنهجيات وأشكال تعبير مبنية على شيء من التنوع، لكنها لم تكن على درجة واحدة من الوعي الممارس بها. بحيث تصبح منهجا قاراً يمكن احتذاؤه وتقليده. هذا الانفتاح على التجربة الحرة، وعلى قارئ غير معين، وعلى أسلوب متولد في اللحظة ، هو أحد مجالات لامحدودة العلاقة بين نص مكتوب، ونص مقروء على مدار الأزمنة.

    2

    في أدبنا العربي نجد الكثير من النوى الأسلوبية التي لو درست منهجيا ووفق سياقات نقدية حداثوية لأنتجت طرق قول قريبة جدا مما نقرأه الآن في نص ما بعد الحداثة، ولكن تراجع الوعي النقدي وتابعية النقد العربي تجعله ليس متخلفا فقط، إنما غير قادر على صياغة منهجية كامنة في الأدب العربي نفسه، رغم أن مثل هذا التصور قد يبدو غريبا، إذ كيف يكون هناك أدب له إمكانية أن يولد منهجية جديدة لنص جديد، والمجتمع العربي غير متطور، ولنا في دراسة مثل هذه الظاهرة القول بظهور القرآن الكريم لغة وبنية في مجتمع شبه متخلف. فاللغة العربية وآدابها قادرين على تكوين بنية خارج السياق الاجتماعي في مراحل تكوين معينة، وفي المرحلة الحالية نجد مثل هذه القدرة متوفرة، بل ولها أوليات قول وإنشاء كبيرة. في هذه المقالة نتلمس تلك الأوليات الأسلوبية علنا نؤشر لما تحتويه من قدرات تطويرية قادرة على رسم تخطيطه منهجية لاحقة.

    3
    منها قضية الكولاج في اللوحة الفنية، هذه البنية التي شكلت تحولا فنيا في سطح اللوحة،وفي بنيتها، عندما عكست فاعلية الزمان المتعدد في مكانية محددة وعلى سطح ملموس، ولأنها جاءت جزءا من نظرة مستقبلية أوربية، للفن الأوربي ، لذا لم تثمر كثيرا بما يفيد تطويرها إلى مغاير منهجي خاص بالفن العربي ، لكنها شكلت تعددية أسلوبية جعلت من اللوحة الفنية غير نقية الشكل. هذا ما نلاحظه في لوحات محمد مهر الدين وضياء العزاوي على وجه الخصوص. وفي فن أوربا ما بعد الحداثة تحول الكولاج إلى تجسيدات مستقلة في فضاء مكاني مرئي يمكنك معاينة اللوحة من اتجاهات مختلفة وبطريقة بدت للمشاهد كما لو أنه في معرض نحتي، وتحولت موضوعات اللوحة إلى تكوينات اجتماعية فيها من متروك الحياة اليومية الكثير: عمال المجاري والفلاحين والأرض الخراب والنفايات وإطارات السيارات والمراوح وأشياء مهملة في البيت يعاد تشكيها مجدد بحيث تتحول إلى مغايرة لما كانت عليه بتركيبة جمالية غير ممنهجة. في مننا العربي كنا قريبين من هذه الخطوة التحويلية.

    ومن هذه المنهجيات التوظيف الحر وفي للشكل الفني، هذا اللون من التعامل الذي حول اللوحة الفنية إلى جسر ثقافي مرتبط بموروث لغوي عربي وعالمي من خلال تعميم الشكل الفني ومرونة الخط لتشكيل انسيابية بصرية على سطح اللوحة وفي توجهاتها الفكرية، مما جعل اللوحة الفنية تعتمد التشكيل الحروف لخلق بنى وكتل جديدة تطورت في جوانب منها إلى تجريد مدروس مع عفوية ومرونة شعرية. في لوحات شاكر حسن أل سعيد مثلاً. هذا الشكل الفني اليوم تحول على يد كونييه وأبل وغيرهم إلى تشكيلات لأحياء مجهرية وواقعية بحيث بدت التكوينات في اللوحة الحديثة لا تخضع لمفهوم تصميمي سابق. وفي فننا العربي وحروفنا المرنة الكثير من جوانب تقدير طاقة الحرف الداخلية بالتمرد على أوزانه القديمة وبالتحرر من تركيبته البصرية القارة كمحاولة للوصول إلى ما يختزنه حرف له أكثر من ثلاثة آلاف سنة في نسيج المجتمع والثقافة.

    ومن المنهجيات الفنية المختلفة في النص العربي الحديث، التداخل بين السينما والمسرح، الأمر الذي عدّ في مرحلة سابقة تطويرا لفن المسرح المعاصر وعد جانبا من بنية التغريب الحديثة وحداثة في شكل الفرجة والاحتفالية المقتربة من وعي المشاهد المتباين الثقافات إلى الحد الذي جعلنا نتقبل مسرح ورواية أمريكا اللاتينية ونجعلها مع مسرح ستانسلافسكي ومايرخولد وبرشت وبيكت وماثيو أرنولد ، دون أن نعي الفواصل التاريخية بينها،ý مما يعني خلق شكل فني قوامه المادة التعبيرية فتغيرت بنية الفصول إلى بنية اللوحات، وتداخلت الأزمنة فيما بينها فمن التسجيلية إلى الوثائقية وإلى السردية الحوارية، هذا ما جعل المسرح المعاصر معتمدا على الفرجة المنفتحة المعتمدة على قدرات الإخراج والتمثيل اكثر من اعتمادها على نص مكتوب، وبالتالي جعل المخرج –القارئ- المنهجي هو الفاعل الأول، الذي تطور لا حقا ليصبح الدراماتورج هو الفاعل الحقيقي للنص، ومن هنا لم يعد شكسبير مثلا هو النصوص المكتوبة ، بل هو الرؤية المنفتحة على العمل والفكر المعاصرين بما يلائم المنهجيات الأسلوبية – التقنية الحديثة. وفي مسرحنا العربي شهدنا مثل هذه التحولات الأسلوبية ولكن لم يمنهج نقديا وإجرائيا بما يفيدها من تقديم بديل كامن في رحم الممارسة الفنية العربية، في المغرب الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد وفي العراق قاسم محمد وعادل كاظم ويوسف العاني وفي سوريا نبيل حفار وفي لبنان يعقوب شدراوي وفي مصر تجارب كبيرة الفريد فرج ونعمان عاشور وميخائيل رومان ومحمود ذياب وغيرهم ولدى تجارب المخرجين الجدد الكثير من هذا : جواد الاسدي وعوني كرومي وحازم كمال الدين وغيرهم وكذلك الأمر في دول عربية وتجارب عربية. ما بعد الحداثة في المسرح الأوربي المعاصر تعتمد على فاعلية الجسد وفاعلية الحكاية التي تنشأ خارج السياق الأجتماعي لذلك نجد تداخلا بين فن الفرجة وفن الجسد، وللتيارات هذه مسارح ونقاد وصحف قد نأتي عليها في يوم قادم خاصة في هولندا وبلجيكا.

    ومن المنهجيات الممهدة لنص ما بعد الحداثة في الأدب العربي الحديث ، التداخل الأسلوبي بين السرد والوثيقة في الفن الروائي العربي الأمر الذي عد على يد كتاب جيل الستينات أسلوبية متطورة جعل من فن السرد وثيقة بعد أن كان تصورا ذاتيا ، ومن الرواية تعبيرا عن حركة مجتمع بعد إن كانت بوحا لمفكر له منهجية اجتماعية معينة، وصوتا تتداخل فيه الأزمنة بعد أن كان ميكرفونا لحال محددة بفترة دون أخرى. ولعلنا فيما ينتجه صنع الله إبراهيم مثالا على التطور الأسلوبي الحديث ، في حين لم تنتج محاولات الغيطاني المهمة في الستينات ، تلك التي بنت بيتها الروائي على اتساع مخيلة النثر العربي تطويرا لأساليب قص لاحقة بل بقيت ضمن دفتي التجربة، وهي عندي مهمة جدا لأنها اختصرت شكل جديد اكتفت بحدوده. مما يعني إن الرواية العربية ما زالت تبحث عن بقع خلاقة جديدة في السرد دون أن تفقد هويتها النوعية،

    وإذا كان الحديث عن الشعر يكتسب أهمية قصوى في تلمس خطوط المنهجية الممهدة لنص ما بعد الحداثة في الأدب العربي فأن ذلك يدفعنا إلى تأمل الشكل الحر في القصيدة أولا كحداثة أولى ثم ومآل إليه لاحقا في بنية قصيدة النثر ثم تحولات قصيدة النثر إلى شكل سردي قد يسقطها في الأقصوصة، أو ينقذها إلى بنى شعرية حرة لا تقع في العادي والعاطفي والذاتي، هذه المحاولات لا ترى الآن من داخل النص الشعري وحده، بل ترى من أساليب التعبير الكبيرة والشعبية الأخرى: الأغنية منذ بداية عصر النهضة ، والشعر الشعبي وتمردا ته الأسلوبية والنثر العربي القديم وطاقته الشعرية والوثائقية المتبقية على زمن مضمر وحر، من هذه المواقع وغيرها يمكن تلمس الخطوط الجديدة لنص لا يقع تحت تأثير أوبني قوالب معينة حتى لو كانت هذه البنى حديثة، ولموضوع القصيدة العربية في حداثتها الثالثة ، ما يمكن القول فيه أنه بداية أسلوبية جديدة لنص ما بعد الحداثة.

    4
    ونعيد السؤال الاستهلالي لماذا يتوجه نص ما بعد الحداثة للمؤلف- الكتابة ، وليس للقارئ- الكتابة، مع علمنا أننا لا نستطيع الاستغناء عن القارئ؟

    في هذا الإطار تجري عملية إزاحة منهجية للقارئ، وليس إلغاء له، ففي الوقت الذي يسعى نص ما بعد الحداثة لأن يكتشف مساحات قول جديدة من خلال التداخل بين الأساليب إلى الحد الذي يصبح بلا أسلوب، يتم ذلك من داخل الإزاحة المنهجية لوعي القارئ العادي حسب فرجينا وولف ، وليس القارئ المستثمر، أي القارئ –الكتابة، القارئ المنتج، القارئ التاريخي إن صح القول. ففي المرحلة الحالية التي يتوجه إليها نص ما بعد الحداثة نجد القارئ هو الآلة المنتجة، السينما، المسرح، الموسيقى، الفن التشكيلي، الإعلان، الاتصال ،استثمار الجنس، المتغيرات الكرنفالية في مظاهر المدينة، الأعياد وأشكالها التعبيرية الثقافية الكبيرة، متغيرات الأزياء واللباس، والمتغيرات الديموغرافية، والمتغيرات القومية والسكانية وقضية حقوق الإنسان، والحروب الموضعية، والتطورات الأسلوبية على أساليب العرض في المخازن والأسواق، والرؤية المعاصرة للتلفزيون ،والقنوات الفضائية، والتداخل بين الذاتي والموضوعي فيما يخص بنية المجتمعات الغربية في إطار الاعتماد على قدرات وابتكارات الفرد في تطوير الاقتصاد والفكر ..الخ. كل هذه البنى الجديدة وغيرها فرزت قارئا مغايرا للقارئ السابق، مما وضع الظرف الموضوعي المؤلف من جديد في دائرة الضوء الكبرى في تكوين رؤية معاصرة ودقيقة لما يجري في بنية المجتمع. فالمجتمع الحديث ليس بحاجة إلى نبي أو إله يؤلف له مستقبله، بل بحاجة إلى مؤلف يتابع المتغير دون أن يقف عنده، مما يعني تبدلا في الأسلوب وفي اللغة وفي المنهج وفي القصدية، وعدم الوقوف على ذكورة أو أنثوية بل على بنية خنثوية فيما يخص تهجين كل المكونات والبحث عما هو مشترك وليس خاصاً.

    5

    في هذا الصدد ، أعني دور المؤلف في نص ما بعد الحداثة يعود إلى أن البنى المعرفية الجديدة ما عادت مسجلة بمصادر ومرجعيات مدونة، كما كانت يوم ذاك، أي ليس ثمة تاريخية أو بنية نقدية –دينية تقود وتقف خلف المنجز الحالي، بل لا تاريخ محدد للنص، مما يتطلب أن يكون المؤلف في وضع متغير المواقع ، متنقل بين الأزمنة، مغير من وجهات نظره، شاكا في كل المقولات ، وغير منسجم مع أي موروث، بل وفي أشد حالاته إدراكا للمعرفة أنه منفتح على كل ما من شأنه أن يمد نصه بلغة جديدة. من هنا لا يأتي نص ما بعد الحداثة منضبط الشكل ، بل له من اللعب الفني الكثير ومن عدم الانسجام مع توجهات فئة أو مجموعة متجانسة، حتى لو كانت حزبا منظماً. والنص الذي يؤلفه الكاتب لا يعود إلى تاريخية معينة ولا يندرج ضمن مفهوم سوسي ولوجي أو أيديولوجي. ولذا لابد لها من جامع نص،- مؤلف- جديد، وليس لقارئ نص متلق بعد أن اصبح التلقي فعلا آليا ومصنعاً، ويعني ذلك أن المرجعيات تعود ثانية للنص الأدبي ليس بوصفها جزء من تاريخ الحال، إنما لأنها قادرة على منح النص مساحات تأويليه جديدة نابعة من العلاقة التاريخية مع الحاضر، الذي يضفي عليها بما يستجد به من تطورات تغيرات بنيوية غير مستقرة فيأتي المؤلف ليعيد تشكيل تلك البنى وفق سياقات جديدة. فالكتابة نفسها ، وبعد أن أصابها الكثير من شظايا النقد النصي، ما عادت قادرة على تحميل القارئ أعباء التفكير الأحادي الذي يتوخاه النص ، والذي يفرزه قارئ غير معني بحقيقة الكتابة.
                  

10-12-2004, 11:18 PM

malamih

تاريخ التسجيل: 01-28-2003
مجموع المشاركات: 2781

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    كان يؤسس لفوضي عارمة..
    وكان منهجه مقلوبآ
    يؤسس للآخر المبتور.. كان لا يحب النظام لذا أسس لفراغ مستحيل ..أعتبر الأفتتان به مصيبة ..كان يبحث عن شئ في ذهنه هو لا منطق الآخرين .. أضيف نفسي لقائمة المعارضين له ..عذرآ أسامة هذا لا ينتقص من مبحثك القيم عنه ودمت لنا نبراسآ وقراءات في الزمن الأسفيري.. و دمت
                  

10-13-2004, 08:12 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    كيفك يا ملامح
    كنت اود لو فصلت قليلا في نقدك الحاد لجاك دريدا
    طبعا معروف ان مناوئ جاك دريدا الاكبر هو سليل مدرسة فرانكفورت يورقين هابرماس
    وللاسف حتى الان لم اجد نصا عن ذلك بالعربية
    فكل النصوص التي بحوزتي هي بالانجليزية
    وشكرا لتعليقك المقتضب

    وارقد عافية
    المش=================================================اء
                  

10-13-2004, 08:53 AM

Safa Fagiri
<aSafa Fagiri
تاريخ التسجيل: 08-10-2004
مجموع المشاركات: 3642

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    ***
                  

10-13-2004, 10:52 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وجهة نظر اسلامية حول المعرفة في سياق الحداثة (Re: osama elkhawad)

    هذه وجهة نظر اسلامية حول الحداثة نرفقها بعد ذلك بوجهة نظرها حول ما بعد الحداثة نقلا عن "اسلاماونلاين"

    أزمة المعـرفة في سـياق الحـداثة

    أ. عبد الرحمن الحاج
    23/11/2002

    فرضت الأحداث التي تبعت السقوط الدرامي للخلافة الإسلامية العثمانية في الربع الأول من القرن الماضي، وصعود الدولة العلمانية، أجواء من اهتزاز "الثقة بالنفس" في العالم العربي والإسلامي جعلت كل جهود الإصلاح والنهضة تفقد رصيدها دفعة واحدة، ليتحول العمل من "المطالبة بالتغيير" إلى "المطالبة بحماية الذات والهوية" من تغوُّل الغرب في المجتمعات الإسلامية واستلابها المتزايد له.

    فنحن نلحظ أن السؤال التاريخي للفكر الإصلاحي الذي صاغه شكيب أرسلان في مطلع القرن: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" ينقلب في منتصف القرن (1369هـ/1950م) إلى "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" عند أبي الحسن الندوي. وليس من قبيل المصادفة أن يلقى هذا الكتاب رواجاً فاق آمال المؤلف ذاته وتطلعاته -كما يقول في مقدمة الطبعة الرابعة-. كما لم يكن من قبيل المصادفة أيضًا أن يقدم له سيد قطب بوصفه "من خير" ما قرأ من الكتب التي تتناول الإسلام كـ "عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر، وروح الثقة من غير اغترار، وشعور الاطمئنان من دون تواكل، وتشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، تبعة الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة"، بعد أن انتكس المسلمون "إلى الجاهلية الأولى" -على حد تعبير سيد قطب في مقدمته للكتاب-.

    إذًا.. لقد هيمن الظرف التاريخي الذي ساد الخمسينيات على إعادة صياغة السؤال الإصلاحي، بحيث بدا سؤالاً ليس من أجل التغيير بقدر ما هو من أجل الثبات والحفاظ على الهوية الإسلامية.

    وإذا كان السؤال الذي صاغه الندوي بناء على حسه التاريخي بالمجتمعات المسلمة وأزمتها العاصفة يشير إلى ظرفيته، فإن التطورات اللاحقة منذ ذلك الحين وحتى اليوم غيرت كثيرًا من مبررات طرح سؤال كهذا. فإذا كان السبب في سؤال الندوي هو مسألة الهوية الإسلامية، أو بتعبير أحد مقدمي كتابه المولعين به "انصراف المسلمين عن الإسلام"؛ فإن هذا الوضع ما عاد قائمًا الآن، ويرجح ذلك الرأي أكثر من مؤشر.

    لقد سقطت كل المبادئ والاعتقادات العلمانية الحداثية بسقوط المنظومة الشيوعية الاشتراكية من ناحية، وسقطت من ناحية ثانية بتأثير أكثر التجارب مرارة مع النظم العلمانية والدكتاتوريات الشمولية التي شملت أهوالها معظم البلدان الإسلامية، ومن ناحية ثالثة كان هناك نشأة ظاهرة "الصحوة الإسلامية" التي اكتسحت المجتمعات الإسلامية برمتها منذ منتصف الثمانينيات، ثم أدت الهيمنة الأمريكية العسكرية على قلب العالم الإسلامي رابعًا، وانفجار الانتفاضتين الأولى والثانية إلى تمسك شديد بالهوية الإسلامية بدا أنه لم يعد بعدها السؤال "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" ذا فائدة، فقد انحسرت أزمته التاريخية.

    لكن السؤال ما زال ـ برأينا ـ قائماً، لم تنسخه الظروف التاريخية كاملاً، كما لم تنسخ ظروف ولادته سؤال أرسلان السابق له: "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟" لكن مبرراته اختلفت، والغاية من الإجابة عليه اختلفت أيضًا، غير أن ذلك لا يعني قط أنه باتت لنا أسئلتنا الجديدة التي يجب أن نجهد لصياغتها والبحث على الإجابة عنها، وهو ما لم يحدث بعد. وليس إعادة فتح ملف النهضة مؤخراً في الفكر العربي على الأقل إلا بحثاً عن سؤالنا الضائع.

    في السابق كانت المسألة الأخلاقية والقيمية هي المحور المركزي الذي يدور حوله سؤال الندوي وجوابه، ويتضح ذلك من عناوين فصول الكتاب: الإنسانية في احتضار، والنظام السياسي والمالي في العصر الجاهلي، ومن الجاهلية إلى الإسلام. وكما يشير الشهيد "سيد قطب" في مقدمته للكتاب نفسه؛ فإن "الجاهلية" –التي يصف بها الندوي كل المجتمعات غير المسلمة- هي "الطابع الروحي والعقلي" المساوي لسقوط "القيم الأساسية للحياة البشرية كما أرادها الله، لتحل محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم [الخمسينيات من القرن الماضي]". فالإنسانية ترتكس بالقيم والأخلاق "في ذات الوقت الذي تتفتح فيه آفاق العلم الباهرة"، إذ لم يكن مطروحاً قط مسألة "المعرفة" الإنسانية عمومًا والغربية خصوصًا، وهذا أيضًا مفهوم بالنسبة لنا. فقد كانت الإنجازات الباهرة لهذا العلم الغربي نفسه هي السبب الرئيس وراء "الاستلاب" للغرب وتهديد الهوية الإسلامية. وليس غريباً بعد أن نلحظ دائمًا عند رواد الفكر الإسلامي في تلك الحقبة (ومنهم الندوي وسيد قطب بكل تأكيد) النظر إلى تقدم العلوم الغربية الساحق، وتمامها على أنه مسلمة لا يطاولها سؤال الندوي: "ماذا خسر... إلخ".

    وفي ذلك الوقت أيضًا كان سؤال الهوية ملحاً، إذ العالم الإسلامي كان أمام خيار راديكالي جذري متناقض: إما "التغريب": وهو يساوي لدى العلمانية العربية آنذاك التقدم، ولدى النخبة الإسلامية الاستتباع السياسي والثقافي، بما يساوي الخروج من الملة، أو "الأسلمة": وهو يعني لدى النخبة الإسلامية العودة إلى ما يمليه إيمان الأمة واستقلالها وأمانتها التاريخية في رسالة الإسلام، ولدى العلمانية العربية كان يعني الرجعية والتخلف، أو حسب تعبير الندوي في أحد عناوين كتبه "الفكرة الغربية والفكرة الشرقية".

    لكن اليوم ما عاد هذا الخيار قائماً. فنحن أمام تجربة تاريخية امتدت أكثر من قرن، وجعلت النخبة الثقافية والسياسية تتأكد من أن كلا الخيارين ما عاد ممكنًا. وهكذا نشهد شبه اتفاق على أن أي خيار للأمة يجب أن ينطلق أولاً من عمق ثقافتها وإيمانها، إذا كانت هناك رغبة أكيدة في النهضة. لقد زالت إذن مبررات الإيمان باللحاق إلى الغرب. لقد نضج العقل العربي والمسلم، بتجربته هذه، كما بعمق معرفته بالغرب. فنخبنا الثقافية تعلمت هناك، وتجاوزت حالة "الانبهار" به، لتبدأ حقبة جديدة تظهر فيها نقداً لاذعاً وعميقاً للغرب بمختلف أطيافه، وربما ساعد على ذلك اطلاعهم عن كثب على كتابات الفلاسفة النقاد للحداثة من أمثال هابرماس وفوكو وهايدغر.. وغيرهم.

    فانطلاقا من نقد الحداثة، فتَّحت هذه المعرفة بالغرب العيون العربية والمسلمة على العيوب المزمنة داخل النسق الثقافي والعلمي الغربي، وأصبح ممكنًا الآن بهذه المعرفة إقامة مقارنات بين أنظمة معرفية مختلفة، والتعرف على بنية الأجهزة المعرفية (مفهوم العقل، ونظرية المعرفية بالدرجة الأولى)، واكتشاف مميزاتها وعيوبها. وبهذا فإن سؤال الندوي من الممكن أن يتجدد بمده على ميدان ما كان ممكنًا التفكير فيه من قبل، وهو الظاهرة العلمية الغربية ذاتها، التي كانت من قبل تمتلك سلطة قاهرة حتى على المثقفين الإسلاميين أنفسهم. فبإمكاننا الآن أن نسأل: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين معرفيًّا؟".

    نحن ندرك جيداً أنه من المستحيل على مقال بهذا الحجم أن يحيط بمسألة غاية في التعقيد والعمق مثل مسألة المعرفة، وعبر مسيرة تاريخية طويلة تمتد لبضعة قرون، لهذا فإن ما نذكره هنا في الواقع ليس إلا خطوطًا عريضة جداً تتيح لنا تلمس القضية على وجه العموم فحسب.

    المعرفة ومفهوم العقل

    تقودنا أي بداية البحث في الإبستمولوجيا، أي: "أصول المعرفة" إلى البحث في مفهوم العقل، إذ على مفهوم العقل يعتمد كل ما يتعلق بالمعرفة ومصادرها.

    كان "مفهوم العقل" أحد الأمور التي بحثت عند المسلمين كثيرًا في علمي الكلام والأصول، وتوصلوا فيها إلى نتائج عديدة، برزت فيها توجهات مختلفة؛ إلا أن التوجه الأكثر رواجًا، والذي يمكن القول بأنه يمثل وجهة النظر الإسلامية، هو ذلك الذي ينظر إلى العقل باعتباره "فعلا غريزيا" فطريا "غير مكتسب"، هو الذي يُكسِب الإنسان إنسانيته، وهو فعل يقوم على وجود مسلمات مركوزة فيه باعتبارها "علمًا ضروريًّا". واعتماداً على هذا العلم الضروري القائم يستطيع الإنسان بناء المعرفة التي توصف بـ"المكتسبة"؛ مما يعني أن العقل ليس مفهومًا فيزيولوجيًّا، وإنما هو "فعل" وقدرة. فبنية العقل في منظورها الإسلامي تتألف من العلم الضروري والقدرة على المعالجة (التحليل والتركيب والحفظ والمقارنة...).

    إن القول بوجود "علم ضروري" يعني أن بإمكان العقل البشري -نظريًّا على الأقل- التوصل إلى "المعرفة اليقينية"، وهي في كل الأحوال معرفة مكتسبة، أي معرفة تتراوح مستوياتها من الخطأ إلى الوهم فالشك فالظن فاليقين.

    غير أن الوصول إلى اليقين -معرفة الشيء كما هو عليه في الواقع- أمر لا يمكن أن يستقل به العقل البشري دائمًا، وحتى عندما يكون ذلك ممكنًا فإنه على مستويات جزئية فحسب وليست كلية. فالوصول إلى المعرفة الكلية حيث "العلة الأولى" ـ حسب تعبير المتكلمين ـ أمر غير ممكن بدون "مصدر معرفة خارجي"، هو في المحصلة مدبر الكون والقوة الخالقة المطلقة (الله). وعلى هذا، فالوصول إلى اليقين العقلي (المعرفي) يشترط وجود "الوحي" ضمن مكونات نظرية المعرفة.

    تعرض مفهوم العقل إلى تغييرات جذرية مع بداية النهضة الغربية التي تأسست على إنجازات المسلمين، فقد تم اختزال وظيفته من التعرف على الحقائق الكلية والجزئية، وتوجيه الفعل انطلاقاً من المعرفة المكتسبة إلى إدراك الظواهر الحسية فحسب وتوجيه الفعل انطلاقاً من الخبرة التجريبية.

    فقد كانت قضية عجز العقل عن "إدراك الغيب" وبنيته التفصيلية بمثابة المقولة الرئيسية التي تم إعادة بناء مفهوم العقل في إطارها. ولكن إعادة التركيب والبناء هذا استبعد الثقة بـ"الوحي" (متمثلاً بالعهدين القديم والجديد)، وهو ما أدى آليًّا إلى انحصار المعرفة بـ"الحس".

    لقد دشن الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون (1561-1927م) جهود إعادة بناء مفهوم العقل الذي حمل كتابه "الآلة الجديدة" الجانب الفطري من العقل مسؤولية "ارتكاب الأخطاء وتشويه الحقائق"؛ لأنه "أكثر جنوحاً للخطأ من الأحاسيس". لم يلبث بعد ذلك أن استبعد أقطاب المدرسة الوضعية مثل: جون لوك (1704م) وديفيد هيوم (1777م) مفهوم المعرفة الفطرية (العلم الضروري"1") جملةً وتفصيلاً، وكان هيوم يعمل جاهداً لأخذ المنطق الوضعي إلى نهايته؛ لينكر أن مبادئ وعمليات العقل بحد ذاتها ليست فطرية وإنما هي مكتسبة. لكن إنكار هيوم أدى إلى إنكار الرابطة الضرورية بين السبب والمسبب، وتحويلها إلى رابطة شكلية ظاهرية ناتجة من مجرد الألفة والعادة.. وهو ما يؤدي بالفكر الوضعي إلى نسبية مطلقة. فالعقل لم يعد ينطوي على مبادئ ثابتة، بل على مجموعة من القواعد المستمدة من العادة والألفة. وكان من المرشح لأفكار هيوم أن تؤسس بذلك مبكراً لمأزق خانق وخطير للمعرفة الغربية، فيما لو قدر لها أن تسود.

    غير أن أفكار كانط -التي قدر لها أن تصوغ الفكر الغربي- أعادت بعض التوازن للفكر الغربي بإعادة مفهوم المبادئ الفطرية والضرورية، لكنها كرست النظرة الوضعية في الوقت نفسه؛ إذ جعلت استخدام هذه المبادئ الفطرية في غير المحسوس أمراً مستحيلاً، مما جعل العقل يقتصر في إدراكه على "الحقائق الجزئية" إلى حقيقة كلية متمثلة في إله خالق مهيمن، على الرغم من اعترافه بضرورة رد عالم الظواهر المحسوسة إلى عالم علوي ماورائي.

    المفارقة المذهلة التي يلاحظها بعض الباحثين تتمثل في إنكار كانط قدرة العقل النظري (الخالص) على الوصول إلى معرفة راسخة للحق العلوي، في الوقت الذي يؤكد فيه لزوم مفهومي الله واليوم الآخر لتأسيس فعل أخلاقي عند الحديث عن العقل العملي.

    لقد أسست هذه النظرة الكانطية للشرخ الاعتقادي للدين، والذي تحول بذلك إلى مسألة نفسية ذاتية خارجة عن مفهوم الحقائق. كما أسست في الوقت ذاته لتطويع الوقائع لخدمة الأغراض الشخصية بدلاً من اعتماد العقل للبحث عن حقائق الأشياء، مما أدى لإلغاء الضوابط التي تتدخل في عملية نقل المعارف من مستوى الحدس إلى مستوى التفكير، وتحول دون تطويع الاستدلال لتحقيق مآرب شخصية.

    وإذا كانت المعرفة الدينية من منظور وضعي تحتاج إلى إيمان ميتافيزيقي (غيبي) غير ممكن البرهنة عليه دومًا؛ فإن المعرفة الغربية الوضعية المادية ليست أقل ميتافيزيقيةً من المعرفة الدينية، فهي تنتهي في المحصلة إلى الجزم بمرجعية المادة وحدها في الوقت الذي تشكل هذه النتيجة أحد الاحتمالات الممكنة فحسب.

    المعرفة في سياق الحداثة

    كانت الأسس التي صاغت المعرفة الغربية على نحو ما شاهدنا في المفهوم الجديد للعقل قد صيغت من داخل النسق الثقافي الغربي ذاته، ومن داخل الحركة التاريخية التي مرّ بها، فهو متأثر إلى حد بعيد بالمسألة الدينية، كما تجلت لديه في دور الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، بحيث أصبح لازماً لكي تتحرر المعرفة أن تستبعد سلطة الدين، وهي سلطة تأسست على ركيزة ادعاء امتلاكها للحقيقة "الكلية" التي تنتهي إليها المعارف الجزئية. هذا فيما كانت المعرفة في الحضارة الإسلامية على علاقة حميمة مع الدين، بل إنها انطلقت بتأثيره.

    والآن، وبعد قرون من مضي البحث الغربي، تكاد المعرفة الغربية الحداثية تستنفذ طاقتها، فكل ما أنتجته الحداثة بات الآن ماضياً في نسق معرفي ثابت، بحيث أصبح ثمة إدراك عميق لدى علماء العلوم الطبيعية الحديثة -كما يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري- بأن المعرفة الكلية أو حتى شبه الكلية مستحيلة، وبأن رقعة المجهول تتزايد بنسبة أكبر من تزايد المعلوم، وبأن معرفتنا العلمية المادية، عن الواقع ليست يقينية، وإنما احتمالية إلى حد كبير.. وذلك بسبب استحالة تفسير الواقع كليًّا اعتمادا على التفسير المادي.

    وأدى هذا إلى انعدام اليقين المعرفي، ثم إلى شيوع ظواهر ما كانت متوقعة من قبل، بل لقد ظن العقل الغربي أنه استطاع محوها، وأنها بقيت سمة المجتمعات المتخلفة: أعني الإيمان بالسحر، بحيث أصبح معلوماً الآن أن عدد المؤمنين بالسحر في البلاد المتقدمة يفوق عدد نظرائهم في البلاد المتخلفة، فضلاً عن البلدان المسلمة. أليست الإيرادات الخيالية مؤخراً لفيلم "هاري بوتر" في الولايات المتحدة ذات دلالة بالغة؟

    بعدما أصبحت المرجعية العليا للمعرفة هي المادة.. جرى النظر للإنسان بوصفه مادة متطورة في أرقى صورها، ولَكم هي بشعة تلك النتيجة المنطقية لمرجعية المادة أن يصبح الإنسان برغم تمايزه عن أشكال المادة، أن يُردَّ إليها، وتجري معرفته ودراسته على النحو الذي تجري فيه دراسة مواد أخرى كالطين والرماد والبخار. وهكذا شهدت المعرفة الغربية في العلوم الإنسانية مطلع القرن الماضي سعياً محموماً لتطبيق المنهج التجريبي قي حقولها، وهو ما أدى إلى معرفة مبتورة للإنسان، هذا في الوقت الذي فشلت فيه بتحقيق ذلك، فهي بهذه العملية أعني رد الإنسان إلى الطبيعة تقوم باختزاله وإساءة فهمه.

    إن تحقق المعرفة الغربية أفرز مفارقة غريبة -كما يشير المسيري- إذ يفترض أنها تقود إلى نقطة الصفر؛ حيث التحكم في الإنسان والتنبؤ بسلوكه بل وتغييره نمطيًّا، يبدأ بوضع الإنسان في المركز بعد أن أصبح الحس الإنساني هو المصدر الوحيد للمعرفة، لتحل محله القوانين الطبيعية / المادية، ثم تزيحه تدريجيًّا. وينتهي الأمر بتفكيك الإنسان تماماً، بل إلغاء مقولة الإنسان. وفي الحضارة الإسلامية اعتبر أن السلوك الإنساني غير ممكن التنبؤ فيه، فمفهوم الحرية أصيل، في حين أن توجهات فكرية أخرى قالت بهذه الإمكانية، لكنها في كل الأحوال جعلتها خارج إمكانات الإدراك الإنساني، وجعلتها محصورة بالقدرة الإلهية المطلقة، أي بمالك الوجود والعلة الأولى فيه.

    كما أفرزت هذه المعرفة الغربية تصنيفاً عنصريًّا للبشر يقوم على أسس مادية، وأكدت التفاوت بين الشعوب، فنظرت إلى الشعوب غير الغربية وأراضيها ومواردها باعتبارها مادة استعمالية يمكن للسوبرمان الغربي أن يوظفها لحسابه باعتباره أرقى الشعوب، وأكثرها رقيًّا، وهذا ما لم يكن ممكنًا داخل الثقافة والحضارة الإسلامية، بل إنه يمكن القول أن أحد تحديات الحضارة الإسلامية للحداثة هو في قدرتها على محو الفوارق العنصرية بين البشر.

    القيم والارتهان للمعرفة المادية

    "المعرفة الكلية" تتحدد دوماً باعتبارها أساسًا لكل تعيُّنات "القيم". فالثانية لا تصدر إلا عن رؤية كلية فلسفية تمنح العالم معناه، وهكذا تكون المعرفة الغربية قد أفرزت منظومتها القيمية بنفي المرجعية الإلهية وتحويل الإنسان ذاته مرجعية أخلاقية لنفسه.

    على هذا الأساس أصبحت القيم مسألة نسبية وشخصية إلى حد بعيد، ونسبية القيم هذه لا بد أن تتجه إلى صراع تناقضات المصالح والممارسات الإنسانية المنبثقة عنها، فاعتبر هذا الصراع أساساً لحسم التناقضات، فيما أصبح بذلك البقاء للأقوى (الأصلح) هو المبدأ. لقد ولدت هذه القيم ما أسماه المفكرون "العقلية الإمبريالية" للغرب، والتي دفعت الأوربيين لغزو العالم ونهبه، وتحيا الولايات المتحدة نفس الحالة، فما إن شعرت بالقوة حتى عادت لتفكر بهذا المنطق الإمبريالي نفسه بصورة فاضحة في غزو العراق واحتلاله. لقد أصبحت أخلاقيات القوة والمصالح أساساً عمليًّا للفكر الغربي مضمراً أحياناً ومصرحا به في أحايين أخرى.

    مرجعية المادة حولت المنفعة واللذة إلى أهداف أساسية للوجود الإنساني (الموضوع الجنسي يتصدر القائمة)، وهو ما يجعل النزعة الاستهلاكية سلوكاً "حتمياً"، يجعل عجلة الاقتصاد تتسارع نحو مبدأ "مزيد من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة" على حد تعبير المسيري. وهو أمر يقضي بتحول الحاجة من أن تكون سبباً للاختراع إلى أن يكون الاختراع هو مولد الحاجة!

    ليس غريباً بعد ذلك أن يشعر المرء في العالم الغربي بتشظي أفراد المجتمع وتفكك بنائه، فالروابط الأخلاقية والقيمية باتت محكومة بفردانية مزمنة.

    وما بين فقدان النهايات الكلية (العلة الأولى للوجود) للمعرفة المادية وانغلاقها على المادة، وبين قيمها المفرطة في استهلاكيتها وفردانيتها دون هدف سوى اللذة ذاتها والشعور الشخصي بتحققها، وجد الإنسان الغربي نفسه قد تفكك معنويًّا وأمام معضلة عويصة هي ما عرف بـ"أزمة المعنى".

    كما أن منطق المعرفة الغربية العنصري جعل علومها الإنسانية ذاتها ذات منحى عنصري أيضًا في التطبيق فضلاً عن جذورها الإمبريالية. فعلوم الاجتماع الغربية لا يطبقها الغرب على المجتمعات الأخرى -إلا في حالات فردية نادرة-؛ لأنه ينظر إليها بأنها أولاً مجتمعات متخلفة ينطبق عليها البحث الأنثروبولوجي أحياناً والاستشراقي غالباً. وهي ثانياً علوم تشربت الخصوصية الغربية، فبالرغم من "موضوعيتها" فإنها لا تنطبق إلا على المجتمعات الغربية، ومن عظيم المفارقات أن تطرح نفسها بعد ذلك على أنها علوم كونية!

    كما أدت هذه العنصرية ذاتها إلى حجب مساهمات الحضارة الإسلامية وطمس حلقتها التاريخية، فضلاً عن سرقتها ونسبتها إلى الغرب ذاته كظاهرة مستمرة في كل تاريخ المعرفة الغربية حتى اليوم، في الوقت الذي كانت فيه الحضارة الإسلامية لم تشهد شيئاً من ذلك، بل إنه من صميم مبادئها العلمية "إن كنت ناقلاً فالصحة".

    بدأت الآن العلوم الاجتماعية في الغرب تدخل أزمتها، وهي أزمة تبدأ من قصور المرجعية (المادية) لفهم الإنسان المتعقد التركيب وهي أزمة ستولد مفاعيلها فيما بعد في تيار نقد الحداثة الراهن، هذا التيار الذي يجد موضوعه في تاريخ الحداثة المركب من مجموع فلسفتها ومعرفتها وقيمها وممارساتها وتاريخها في المجتمعات الغربية.

    قد لا يمكننا المراهنة على تيار ما بعد الحداثة المنبثق في العقود الأخيرة من القرن الماضي، لكننا بكل تأكيد سوف نتمكن بواسطته من إنجاز رؤية أكثر وضوحاً عما كان شديد الإبهار لنا حتى الربع الأخير من القرن الماضي.

    وفيما أصبحت المعرفة الغربية مسدودة الأفق فقد كانت إمكاناتها في المعرفة الإسلامية مفتوحة. وإذا كانت المعرفة الغربية قد تأسست على موقف من "الدين" والمعرفة الدينية، فإن المعرفة في الحضارة الإسلامية قامت على مصالحة وتسوية معها تجعل كل المقولات بين العلم والدين المنقولة من السياق الغربي وتاريخه الديني أمراً لا معنى له في سياق الحضارة الإسلامية.

    ولا تتوقف خسارة النموذج المعرفي الغربي على المعرفة بحد ذاتها وحسب، بل إنها تمس المنظومة القيمية في عمقها، حيث يمكن القول إن فقدان المعنى والسمة العنصرية والإمبريالية والاستهلاكية ودوامة اللذة المفرغة... إلخ، أمر كان يمكن تجنبه في إطار النموذج المعرفي الإسلامي، فقد أصبح بمقدورنا اليوم أن نقول بثقة بأن الخسارة التي وقعت فيها المعرفة الغربية وأدت إلى أزمتها الراهنة، يمكنها أن تعوضها بالاستعانة بالنموذج الإسلامي لها، وهي استعانة لا تعني استعادة المعرفة القديمة وإنما نموذجها.

    طالع معنا بعض محاور الملف

    ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين.. لماذا نعيد طرح السؤال؟

    الفلسفة الغربية.. من معاداة الإيمان والحق إلى نسيانهما..


    --------------------------------------------------------------------------------

    (1) لم أجد أفضل لتقريب مفهوم العلم الضروري الفطري من قوله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" (الأعراف: 172 - 173).. (المحرر).

                  

10-13-2004, 10:58 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" (Re: osama elkhawad)

    الفلسفة الغربية.. من معاداة الإيمان والحق إلى نسيانهما

    أ. محمد إبراهيم مبروك
    23/11/2002

    عندما كتب العلامة أبو الحسن الندوي كتابه الفريد في موضوعه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، رصد أنه "ليس على وجه الأرض اليوم أمة أو جماعة تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها، وتزاحمها في سيرها، وتعارضها في وجهتها، وتنافسها في مبادئها وفلسفتها الجاهلية ونظام حياتها المادي، لا في أوربا ولا في أمريكا ولا في أفريقيا أو آسيا. وأن الذي نرى ونسمع من خلاف سياسي ونزاع بين الأمم فإنما هو تنافس في القيادة وتنازع فيمن يكون هو القائد إلى هذه الغاية المشتركة".

    وهذا الذي رصده العلامة الندوي غدا الآن في مطلع القرن العشرين مسلَّمة من المسلمات، الأمر الذي يعني أن دراسة الأزمة الحضارية في عمقها الفلسفي للغرب تعني دراسة النموذج الأعلى الذي يتمثله العالم بوجه عام، ومن ثم تمثل نتائجها الإجابة الجديدة على سؤال العلامة الندوي الذي نطرحه مرة أخرى بعد نصف قرن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

    وتمثل المظالم الاقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة والانتحار والتفسخ الاجتماعي والأسري داخل الغرب نفسه مبررات كافية للقول بأن الغرب في أزمة يحق لنا البحث في عمقها الفلسفي دون الانخداع بالمظهر القوي الذي تبرزه العولمة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي والقوة العسكرية المبهرة، هذا إذا سلمنا جدلاً بكون المآسي التي يصنعها الغرب في باقي العالم لا تمثل في ذاتها أحد مظاهر هذه الأزمة.

    الفكر الغربي في مرحلة انتقالية

    تتمثل تطورات الصراع الفكري في الغرب منذ عصر النهضة في البحث عن المنظومة التي تجمع بين الإجابة عن أسئلة الإنسان المصيرية: من هو؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين يمضي؟ وما الهدف؟ ثم سائر منظومة القيم الحياتية كالحرية والعدالة الاجتماعية، أي: المنظومة التي يسعى إليها الإنسان في كل زمان ومكان، والتي لم تتحقق في نموذجها المثالي إلا في الإسلام. فالإسلام هو الذي يمثل التجسيد الواقعي المتكامل لمطامح جان جاك روسو الفكرية التي أفقدتها رومانسيته القدرة على طرح منظومة لها القدرة على التمثل والتحقق العملي، بعكس ما يتميز به الإسلام من عقلانية وتحرر وعدل، على الرغم من جوهره الإيماني. والمفارقة أن روسو أكثر الفلاسفة تمردًا على فكر فلاسفة الاستنارة؛ بالرغم من انتمائه إليهم. ولكن مشكلة الغرب أنه لم يبحث عن الإجابة على تلك الأسئلة التي طرحها روسو إلا في نسقه العلماني الذي يتمحور حول الاقتصار على العقل الإنساني وخبراته في إدراك الحقيقة وتصريف شئون الحياة. وبعد مسيرة من التخبط بين مدرسة "المادية الواقعية" التي مثلها هوبز ولوك وهيوم، ومدرسة "المثالية العقلانية" التي مثلها بيركلي وكانط وهيجل، وجد الغرب نفسه في نهاية القرن التاسع عشر يتمزق في طاحونة صراع ذي أبعاد ثلاثة هي المسيحية والرأسمالية والماركسية.

    فالإنسان الغربي مثله كمثل كل البشر يبحث عن العدل والطمأنينة التي يمنحها الإيمان إياه. وكانت المسيحية هي البديل المطروح أمامه. لكنه –أي الإنسان الغربي- يصطدم بتناقض المسيحية مع العقل، وافتقادها لروح الحرية والعدالة؛ لما اصطبغت به من كهنوت. وإذا وجد الحرية في الليبرالية الرأسمالية اصطدم بافتقادها للإيمان، وغلبة الروح النيتشوية عليها، تلك الروح التي أحلَّت النوازع الشريرة في الإنسان محل الإله، كما أراد نيتشه الذي كان يرى "أن القيم هي ما وضعته إرادة القوة.. طالما أنها هي مبدأ ذاتها ولا مبدأ يصنع لها ذاتها من خارجها".

    وإذا صدق الإنسان الغربي ما تبشر به الماركسية من عدل اجتماعي فلم يجد ذلك كافيًا في ذاته ليضحي لأجله بما ينشده من إيمان وحرية.

    ويبدو أن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت تمثل حقًا مرحلة فارقة في تاريخ الفكر الغربي، الأمر الذي دفع المؤرخين إلى الاعتياد على تسميتها بمرحلة الحداثة.

    وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف الملامح الأساسية لفكر تلك المرحلة والخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة الغربيين على ما يمكن إدراجه من أفكار وفلسفات إليها؛ فإن السمة الأساسية لفكر الحداثة، والتي لا يكاد يختلف عليها أحد هي التمرد على الماضي بما يمثله من رؤى دينية أو فلسفات تأملية. فإذا كان فكر الاستنارة يمثل تمردًا على الرؤى الدينية؛ فإن الحداثة تمثل -تحديدًا- تمردًا على اليقين العقلاني الذي يمثله فكر الاستنارة، سواء في بعده المادي أو المثالي، بعد أن فقد مصداقيته، كما يمثل سعيًا إلى إنتاج مشروع فلسفي جديد. وعلى ما نرى فإن فلسفة البراجماتية تمثل أهم نتاج لهذا السعي.

    البراجماتية.. الهروب من الحق إلى المصلحة

    على الرغم من التباين الشديد بين التيارين الفلسفيين الأساسين الغربيين المثالي العقلي والمادي التجريبي، فإنهما قد اتفقا على أن هناك مرجعا ما أو أصلا قائما بالفعل يمكن الرجوع إليه في تقدير مدى صحة فكرة مطروحة أو رأي أو قول ما، وإن يكن هذا الأصل القائم عند المثاليين هو فكرة العقل، وعند التجريبيين يتمثل في أية واقعة خارجية تُدرَك بالحواس؛ فإن الاتجاه البراجماتي كما يتحدث عنه الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس في كتابه "البراجماتية" الذي صدر في عام 1907، هو تغيير اتجاه النظر بعيدًا عن الأشياء الأولية التي اعتاد مفكرو عصر الاستنارة البدء بها، مثل: المبادئ، والنواميس، والفئات، والحتميات المسلم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، والنتائج، والآثار، والوقائع، والحقائق.

    فالبراجماتية ليس لها أية عقائد يقينية أو جزمية، أو أية مبادئ؛ اللهم إلا طريقها، ومناهجها. ويرى المذهب البراجماتي أن أسماء مثل: الإله، المادة، العقل، لا نستطيع اعتبارها نهاية مطاف سعينا نحو الحقيقة؛ إذ يتعين على الإنسان من وجهة نظره أن يُخرِج من كل كلمة قيمتها النقدية الفورية العملية، ومن ثم فإن النظريات تصبح أدوات ووسائل؛ لا حلولاً لألغاز، ولا إجابات صارمة على أحجية. فالبراجماتية -كما يقول وليم جيمس- تعني أن توضع كل المفاهيم المطروحة على بساط البحث على المحك البراجماتي (نافعة / غير نافعة)، فإذا لم يكن ثمة فرق عملي بين قولين بالقياس إلى صحة هذا أو ذاك؛ إذن فالاثنان حقًا عبارة واحدة في شكلين كلاميين. وإذا لم يكن ثمة فرق عملي يحدث، سواء كانت عبارة معينة صحيحة أو باطلة؛ إذن فالعبارة ليس لها معنى حقيقيا. وفي كلتا الحالتين فليس هناك شيء يستحق أن نتنازع من أجله. وعلى ذلك فإن الحقيقي –براجماتيًّا- في أوجز عبارة ليس سوى النافع في سبيل تفكيرنا تمامًا، كما أن الصواب ليس سوى النافع في سبيل مسلكنا.

    والبراجماتية لا تمثل ولا تناصر أي نتائج معينة في طريقتها، كما أن حيازة الحقيقة فيها بعيدة كل البعد عن أن تكون غاية في ذاتها. فهي لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة أو أداة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور. والحق يفضل على الباطل عندما يرتبط كلاهما بالموقف، أي: الموقف العملي الذي يتم البحث فيه عن أيهما أنفع. أما إذا لم يرتبط بذلك فإن الحق يتساوى مع الباطل. ولأن الحقيقة ترتبط بالنتائج البراجماتية؛ فهي نفسها في حالة تغير وتبدل وانتقال.

    ولنا أن نتساءل: حتى لو كانت المنفعة هي الهدف الوحيد، فكيف يمكننا بغير الحق أن ندرك ماهية هذه المنفعة؟ ولكن جيمس يقلب الأمور كلها رأسًا على عقب باستهتار ولا مبالاة شديدين؛ فهو لا يبحث عن الحق كغاية أو كهدف في ذاته. وما دامت الفكرة نافعة فليس مهمًا عنده كونها حقًا أو باطلاً، بل ليس مهمًا الموضوع الذي تؤدي إليه أيًّا كان.. لاحظ أخي القارئ مدى اللامبالاة بمصالح الآخرين الذين لا تكون الفكرة نافعة لهم. وما دامت المنافع تتغير وتتبدل بتغير الظروف والأحوال فلا بد أن يلازمها الحق في تبدلها وتغيرها. وهكذا نستطيع أن نفهم جيمس جيدًا.

    لقد كان الحق هو الغاية لكل الفكر الإنساني قبل ظهور البراجماتية، ولكن وليم جيمس جعل الحق هو مجرد وسيلة إلى الفوائد والمنافع الشخصية؛ بإضفاء صفة الحق عليها. ولكن الأهم من ذلك كله أنه يخلط بين الحقائق والوسائل بطريقة تؤدي إلى تذويب الحقائق بشكل مطلق ونهائي.

    ويعي وليم جيمس جيدًا مدى ضعف نظريته منطقيًّا، وأنه لا يقدم أي مفهوم يقيني للحقيقية، أو حتى راجح الصحة، وهو لا يطالبنا أن نعتقد بذلك، وإنما يقول للغربيين: ما دمتم قد فقدتم الثقة في الوسائل المعرفية التي لديكم، وتدركون قدر ضعفها؛ فينبغي عليكم أن تأخذوا كلامي ولو على سبيل الظن أو حتى الاحتمال. فالأنماط المتعددة في التفكير –كما يقول- كلها متعارضة، وليس فيها واحد على سبيل الحصر يستطيع أن يقيم الحجة على دعوى الصحة المطلقة؛ أفلا ينبغي أن يثير ذلك احتمالاً أو فرضًا أو ظنًا أو حدسًا مناصرًا لوجهة النظر البراجماتية؟ وما دامت هذه الأنماط المتعددة من التفكير غير صحيحة، ولكنها خدمت أغراضا معينة لكم، فلماذا لا يثير ذلك ولو حتى احتمالاً مناصرًا لمقولتنا؟ إن الحقائق ينبغي أن تكون هي الوسائل التي نستطيع بها أن نصل إلى ما نريد.

    أي أن وليم جيمس يبدأ بموقف عبثي من الكون، وينتهي بنا إلى موقف عبثي أيضًا، ثم يقول لنا إنه ما دام الأمر كذلك فبدلاً من اليأس والمرارة والسأم؛ على كل منا أن ينتفع بما يريح نفسه ويجد فيه اللذة، ولو بشكل مؤقت ومتغير. وخلاصة ما يريده وليم جيمس قوله بأن الإنسان لكي يستريح تمامًا، عليه أن يعتقد أن ذلك الذي يفعله هو الحقيقة.

    إن ما يقدمه جيمس تحديدًا هو حالة من الإلهاء المتواصل عن القلق الإنساني الذي يسببه البحث عن الإجابة على الأسئلة المصيرية. هو الإلهاء الذي يتمحور حول اللذة والمنفعة، ولكن هذا الإلهاء البراجماتي يتوافق تمامًا مع منطق الرأسمالية الغربية التي تعمل على الدوام على تجدد الرغبات التي لا يمكن وضع حد لإشباعها، فإن نتيجة هذا الإلهاء المادي المتواصل الذي لا يمكن أن توفره الطبيعة ذاتها لكامل البشر هو التجني على أشد الحاجات المادية الضرورية للآخرين.

    وإذا كانت البراجماتية هي عملية انتقال بارعة من المذهبية الفلسفية إلى التبرير الفلسفي لكل ما هو قائم على أنه هو ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية، وعلى أنه الوحيد الذي يتلاءم مع افتراضها محدودية قدراتنا المعرفية؛ فإنها في الوقت نفسه تمثل تعبيرًا حقيقيًّا عن النسق الفكري الذي انتهت إليه الحضارة الغربية في أقصى نموها المادي.

    والذي يعنيه ذلك أنه إذا كانت البراجماتية فلسفة تحايل وتكيف مع الواقع المعيش، فإنه من نفس مضمون العجز الفلسفي الكامن في الفكر العلماني في أقصى تطوره الذي انطلقت منه الفلسفة البراجماتية انطلق اتجاه آخر يزاحم الفكر البراجماتي؛ هو اتجاه الأفكار ما بعد الحداثية.

    ما بعد الحداثة لا تعرف الحق ولا تبحث عنه

    وإذا كانت الحداثة قد نأت بنفسها عن الرؤى الدينية والأيديولوجيات التأملية؛ فإن ما بعد الحداثة ترى على حد قول مفكرها البارز جان فرانسوا ليوتار: "إمكانية التآكل الكامنة في نهج إضفاء المشروعية الآخر، وهو جهاز الانعتاق المنبثق عن التنوير". وهذا يعني أن ليوتار رأى أن مهمة فكره الأساسية إنهاء أساطير القواعد العقلية الكلية التي أنتجها عصر التنوير الغربي.

    فالموقف ما بعد الحداثي ينطلق من التداعيات الفلسفية لبلوغ النسق العلماني أقصى مراحل تطوره إلى مرحلة العجز عن إدراك الحقائق المطلقة. وهو فكر لا ينزع المشروعية عن الرؤى الدينية والأيدلوجيات التأملية وحسب، بل ينزعها أيضًا عن المشروعات الحداثية التي تمردت على الرؤى الدينية والتأملية (أي ينزع القداسة عن مشروعات التنوير الغربية نفسها). فما بعد الحداثة "تحمل من الحداثة الذات المنقسمة المفتتة، لكنها تمحو كل مسافة نقدية منها، فهي ضد الضد؛ حيث يكون ذلك لشيء أساسي هو عدم إمكانية المعرفة ومن ثم فهي ضد الاستلاب؛ لأنه لم يعد ثمة ذات لتستلب ولا شيء يجري الاستلاب عنه، فالأصالة لم تُرفض بقدر ما نسيت ببساطة".

    والاتجاه ما بعد الحداثي يدين بدوره لأفكار نيتشه الذي عادت أفكاره للظهور فيما بعد البنيوية: كالعلاقة بين المعرفة والقوة، ونسبية المعرفة، وموت الإله. بيد أن هذه الأفكار نمت وتطورت من خلال مرورها بمصفاة البنيوية وما بعد الحداثة في مجال الفنون. وللألماني هيدجر تأثيره الكبير أيضًا في الاتجاه التفكيكي الذي يمثله دريدا الذي يعد واحدًا من أبرز فلاسفة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة.

    ويمكن القول بأن الفكرة البنيوية التي تقول إن اللغة تصنع موضوعاتها الخاصة بها قد تطورت إلى نظرية في المعاني "ونقطة البدء في هذه النظرية أن المعنى لا يأتي بأية حال من الأحوال عن العلاقة بشيء خارجي. فليس هناك شيء مطلقًا بإمكاننا البحث عنه ليضمن لنا المعنى، وليؤكد لنا أننا على حق". ويمكن وضع هذه الفكرة بصورة أخرى بالقول بأنه لا يوجد من يلعب دور الإله، أي: لا يوجد مدلول متعال. وكون أن المعنى لا يأتي بأية حال من الأحوال من خارج اللغة هو الأمر الذي يعني انتفاء القصدية وموت المؤلف؛ لأن الاعتراف بوجود المؤلف يمثل قيدًا على تفسير النص يتمثل في وجود معنى لا نهائي. والتسليم بوجود معنى نهائي بالنسبة لرولان بارت، البنيوي، والذي مهد للتفكيك، هو "التسليم بوجود حقيقة أو حقائق مسبقة وثابتة، ومن ثم فإن موت المؤلف -كما يقول بارت- يعني رفض فكرة وجود معنى نهائي أو سري للنص، بل رفض وجود الله ذاته وثالوثه: العقل والعلم والقانون".

    ومن الواضح أن الفكر الغربي انتبه أخيرًا إلى أن مجرد وجود معنى أو منطق أو إمكانية اليقين المعرفي يعني التسليم بوجود الله، وهو الأمر الذي يعاند في رفضه. ومن ثم كانت هذه النهاية الحتمية لفكره في تلك الرؤية التفكيكية التي تقضي على الإنسان بعد أن تم القضاء على الإيمان بالله.

    إن مفهوم العلاقة يعني ضمنًا وجود شيء ما مدلول عليه، كما يشير مفهوم البنية إلى وجود شيء ثابت ومنتظم. أما اتجاه ما بعد البنيوية فإنه يتخلى عن هاتين الفكرتين، ويقول إن هناك مستوى واحدًا فقط هو مستوى السطح، وليس ثمة أعماق خفية في الحياة. ومستوى السطح في صورته الأولية يتسم بالفوضى واللامعنى، أي: أنه لا يقر له قرار.

    واهتداءً بنيتشه، فقد قلب فوكو رأسًا على عقب النظرة الدراجة عن العلاقة بين القوة والمعرفة، حيث يقول "إيان كريب" في كتابه: "النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس": "إذا كانت القوة هي الدافع لفعل أشياء لم يكن باستطاعتنا القيام بها من دونها فإن فوكو يرى أن المعرفة هي في ذاتها قوة تمارسها على الآخرين لتحدي الآخرين، أي أن المعرفة ما عادت أداة للتحرير وأصبحت أداة للاستعباد".

    أما بالنسبة لهيدجر الذي كان يذهب إلى أن اللغة بيئة الوجود كان "يرى أن المشكلة تتعلق بتقاليد المعرفة التي حُجب بها البشر عن حقيقة الكينونة"، وهو يرى أن "التقاليد تأخذ ما توارثناه وتسلمه إلى ما لا يحتاج إلى برهان. إنها تحول بيننا وبين تلك المنابع الأولى التي جاءت منها جزئيا المقولات والمفاهيم التي نتوارثها، وهي في الواقع تدفعنا لنسيان أن لها تلك الأصول، وتجعلنا نفترض أن ضرورة العودة إلى مصادرها أمر لا نحتاج حتى إلى فهمه".

    وعلى هذا الأساس فإن هيدجر قد انتهى إلى أن تلك التقاليد الحاجبة تحتاج إلى عملية تدمير، حيث أنه "إذا كان لتاريخ الكينونة أن يصبح شفافًا؛ فإنه يجب هدم تلك التقاليد الجامدة، وإنهاء عمليات الإخفاء التي تتسبب فيها. ونحن نفهم ذلك بمعنى أننا إذا كنا سنعتبر مسألة الوجود مدخلاً فإن علينا أن ندمر المحتوى التقليدي للمعرفة القديمة؛ إلى أن نصل إلى تلك التجارب الأولى التي حققنا فيها أدواتنا الأولى لتحديد طبيعة الوجود".

    لماذا لم يهربوا من عجزهم إلى الإيمان

    وخلاصة ما سبق، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن ما بعد الحداثة فلسفة لا عقلانية مادية لا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت متماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية، وحتى إن وُجدت الذات ووُجد الموضوع فلن يتفاعلا؛ إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل.

    وما نراه هو أننا أمام موقفين إدراكيين لبلوغ النسق الفلسفي الغربي العلماني مرحلة العجز الكامل عن الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده تمامًا عبر مسيرة تطوره الحضاري.

    الموقف الإدراكي الأول موقف تحايلي يقدم الإلهاء الحسي المتواصل بديلاً عن البحث الفلسفي، وبذلك يتم تكريس الوعي الغربي في اللهاث وراء رغبات تجدد على الدوام، ولا يمكن إنهاء عملية تلبيتها أبدًا وهذا هو الموقف البراجماتي.

    الموقف الإدراكي الثاني موقف جاد وصريح مع النفس، يعترف بهذا العجز ويستسلم له بما يحمله ذلك من تشرذم ولا جدوى وانهيار.

    وهذا هو الموقف ما بعد الحداثي وإذا كان الموقف الأول هو الموقف الأكثر إغراء للجماهير والنخب السياسية والاقتصادية بوجه خاص، فإن الموقف الأخير هو الموقف الأكثر تلاؤمًا مع جدية الفلاسفة والعلماء والعقول المفكرة الغربية. وهذا يعني -مع افتراض وجود مفكرين قلقين ومصلحين حقيقيين بين هذا العالم الغربي- أنه لا حل لهم لوجود إجابات حقيقية عن الأسئلة المصيرية، وتحقيق مطامحهم في الإيمان والعدل والحرية إلا في البحث عن نسق جديد يخالف النسق العلماني تمامًا، ولا حل لوجود ذلك النسق إلا في الإسلام؛ لأنه الوحيد الذي يجيب على هذه الأسئلة ويلبي هذه المطامح.



                  

10-13-2004, 01:29 PM

تراث
<aتراث
تاريخ التسجيل: 11-03-2002
مجموع المشاركات: 1588

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وجهة نظر اسلامية حول ما بعد الحداثة-نقلا عن "اسلامأونلاين" (Re: osama elkhawad)

    اسامة العزيز
    غبتُُ عن هذا المنبر لعدة أشهر ، تركته حينها مكتظاًً بالمشكلات والبذاءات
    ..
    وعدت اليوم اليه بغرض واحد : هو تعزية أبناء وبنات الوالد العظيم شيخ الدين في فقده العظيم .
    فاذا بي أجد نفسي أمام واحد من أعظم البوستات التي نشرت في هذا البورد منذ تاسيسه ، أمام هذا البوست عن جاك دريدا .
    لقد شعرت وانااسمع نبأ رحيله انني فقدت صديقاً شخصياًحميم جداً ، شعرت وكأن السنوات التي عرفت فيها دريدا من خلال كتاباته ، أو ما من خلال ما كُتب عنه ، عشتها معه حقيقة ، بلحمنا ودمنا، لحظة بلحظة. حزنت كما يحزن الشخص على وفاة امه أو ابيه أو صديق عمره . ولذلك عندما وقفت يوم أمس لألقي كلمة في أربعينية زين السقاف ، ووجدت نفسي استعرض اسماء بعض الأصدقاء، الذين نشطت حركة رحيلهم في الفترة الأخيرة ، وجدت نفسي أذكر من ضمنهم جاك دريدا.
    أشكرك يااسامة على هذا الجهد الضخم ، هذا البوست العظيم ، على الخدمة الكبيرة التي قدمتها لنا من خلال جمع كل هذه النصوص عن دريدا ومنهجه ونشرها هنا مطعمة بأرائك الثاقبة. لقد أعاد إلىّ هذا البوست ثقتي في ان هذا البورد مفيد جداً .
    سنخصص جلسة المنتدى القادمة لا ستعراض ما جاء في هذا البوست الثري .
    وأرجو ان تحرض معي الدكتور عبد اللطيف على الفكي ، وان يساهم بقية االمهتمين في هذا التحريض ، ليحدثنا عن الراحل العظيم ويعيد هنا نشر بعض ما كتبه عنه ، وخاصة منه الجزء الذي خصصه للحديث عن دريدا في كتابه الأخير .
    اسامة . اهو كدة البوستات ولا بلاش . عشت مكرماً.
                  

10-13-2004, 05:42 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عن هابرماس بالعربية (Re: osama elkhawad)

    لايمكن الحديث عن دريدا دون الحديث عن هابرماس فدريدا وهابرماس هم اعظم فيلسوفين في الغرب في الوقت الراهن

    وهابرماس هما من المدافعين عن الحداثة ويعتقد ان مشروعها ما زال قائما,
    ويرى ان الفاشية والنازية جعلت هذا المشروع غير مكتمل
    وكتابه عن الخطاب الفلسفي للحداثة يعد من اهم الكتب التي قاربت الحداثة في نموذجها الاوروبي
    والكتاب عبارة عن احدى عشر محاضرة القاها يورقين هابرماس
    الحداثة وخطابها السياسي

    ديموقراطية الغرب أمام منعطف لا يدعو إلى التفاؤل

    محمود شريح

    للمرة الأولى تصدر فلسفة يورغن هابرماس (1929- ) بالعربية مباشرة عن الألمانية في سبع مقالات ترجمها د. جورج تامر، المُحاضِر في جامعة إرلنغن–نورنبرغ، وتمَّ اختيارها بالتعاون مع هابرماس نفسه الذي أشفع المقالات السبع بمقدمة خصَّ بها الطبعة العربية، أعلن فيها بحكمة وفطنة أن النزاع الإسرائيلي–الفلسطيني إنما نشأ، إلى حد ما، في أوروبا (ص 9). وتندرج هذه المقالات الفلسفية والاجتماعية التي راجعها جورج كتورة خير مراجعة، في رويَّة وفطنة وجلاء، تحت خانتين أساسيتين: الحداثة والسياسة، تتقاطعان عند نصٍّ يجمعهما، أي الخطاب مشتبكهما. ومن هنا عنوانها مجتمعة الحداثة وخطابها السياسي، في قسمين: أولهما يلمُّ بمفاهيم ذات صلة وثيقة بالحداثة، وثانيهما يأخذ الخطاب السياسي للحداثة، في 236 صفحة من القطع الوسط، مع هوامش ثرية، ونبذة عن المؤلف، وأخرى عن المعرِّب، وكشَّاف مصطلحات أبجدي بالعربية وما يقابلها بالألمانية.
                  

10-13-2004, 05:55 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من الحداثة وخطابها السياسي لهابرماس-تحدي الاصولية (Re: osama elkhawad)


    تحدِّي الأصولية


    يورغن هابرماس


    يقدم المفهوم الأوروبي لحقوق الإنسان للناطقين باسم حضارات أخرى رقعة مناوأة، ليس فقط فيما يختص بناحية السيادة، أي بالتفصيلة الفردية للحقوق الشخصية، بل أيضاً فيما يختص بعلمنة السيادة السياسية المنفصلة عن صور دينية وكونية للعالم. أما من وجهة نظر الفهم الأصولي لأيٍّ من الأديان الثلاثة – الإسلام أو المسيحية أو اليهودية – فإن ادِّعاء امتلاك الحقيقة هو ادِّعاء كلِّي، أي أن من شأنه عند الضرورة أن يُفرَض بوسائل العنف السياسي. وهذا المفهوم ذو نتائج تضفي على الجماعة طابع الإقصاء للآخر. فالتشريعات الدينية المتعلقة بالنظرة إلى العالم من هذا النوع لا تتوافق مع استيعاب أصحاب العقائد الأخرى ومنحهم الحقوق.

    يعني الإضفاء غير الديني للشرعية بواسطة حقوق الإنسان، أي بفصل السياسة عن السلطة الإلهية، تحدياً لا يستفز الأصوليين وحدهم؛ فثمة أيضاً مثقفون هنود، مثل أ. ناندي، يكتبون بيانات معادية للعلمانية. وهم ينتظرون التسامح والتلاقح بين حضارتي الدينين الهندوسي والإسلامي من تشابك طريقتي إقامة الدين أكثر مما يتوقعونهما من حياد الدولة الديني. وهم يشكُّون في صحة حياد سياسي لا يحيِّد فعلاً إلا الدين في أهمِّيته العامة. في أفكار كهذه يرتبط السؤال المعياري عن كيفية إيجاد قاعدة مشتركة للعيش السياسي المشترك العادل بسؤال آخر تجريبي. وربما أدى تميُّز مجال ديني منفصل عن الدولة إلى إضعاف التأثير الذي تمارسه قوى الإيمان ذات النزعة الخاصة. ولكن مبدأ التسامح ليس ضد أصالة الاعتقادات وأنماط الحياة الدينية وادعائها الحقيقة، بل إنها يجب أن تتمكن من التعايش، متساوية في الحقوق، ضمن الكيان السياسي الواحد.
    إن نواة النقاش لا يمكن وصفها بالتجادل حول الأهمية التي تنسبها حضارات مختلفة إلى الدين. فقد كان مفهوم حقوق الإنسان هو الجواب على مشكلة تواجِهُها اليوم حضارات أخرى، كما واجهتها أوروبا حين كان عليها أن تتغلب على النتائج السياسية للانشقاق الديني. وصراع الحضارات يجري اليوم في إطار المجتمع العالمي الذي يجب فيه على فاعلين جماعيين أن يتفقوا، شاؤوا أم أبوا، على معايير العيش المشترك، بصرف النظر عن منقولاتهم الحضارية المختلفة. فالحماية المستقلة ضد التأثيرات الخارجية لم تعد في وضع العالم الحالي خياراً. عدا عن ذلك، تتفجر التعددية فيما يختص بالنظرة إلى العالم أيضاً في داخل تلك المجتمعات التي ما زالت تهيمن عليها منقولات قوية.
    وحتى في مجتمعات منسجمة حضارياً انسجاماً نسبياً لم يعد ثمة مفرٌّ من إعادة تشكيل عكسي لمنقولات عقائدية سائدة تنادي بإقصاء الآخر. وينمو بالدرجة الأولى في الطبقات المثقفة وعيُ أن "الحقائق" الدينية الخاصة يجب أن تتوافق مع العلم غير الديني المعترف به عموماً، وأن يُدافَع عنها في وجه ادِّعاءات دينية أخرى للحقيقة ضمن النطاق الخطابي الواحد. وكما حدث للمسيحية منذ الانشقاق المذهبي، تتحول صور العالم النقلية، تحت ضغط انعكاس ظروف الحياة الحديثة، إلى "عقائد معقولة شاملة". وهكذا يصف رولز فهماً ذاتياً وفهماً للعالم خلقياً، صار انعكاسياً، يفسح المجال للاختلافات الموجودة مع اعتقادات دينية أخرى. وهي فروق متوقعة منطقياً، يمكن التوصل معها إلى التفاهم حول قواعد التعايش المتساوي في الحقوق.
    تعرض أفكاري التأوُّلية نموذج إضفاء الشرعية الغربي كجواب على تحديات عامة لا تتعرض لها اليوم الحضارةُ الغربية فقط. هذا لا يعني طبعاً أن الجواب الذي وجده الغرب هو الجواب الوحيد أو الجواب الأفضل. من هنا يعني النقاش الحاضر بالنسبة لنا فرصة نكتشف فيها نقاطنا القاتمة. وينبِّهنا التأمل التأويلي في نقطة انطلاق الخطاب حول حقوق الإنسان، الدائر بين مشاركين ذوي خلفيات حضارية مختلفة، إلى مضامين معيارية موجودة في الافتراضات المسبقة الصامتة التي يتضمنها كلُّ خطاب يهدف إلى التفاهم. والمشاركون جميعاً يعرفون جيداً حدساً، وبصرف النظر عن الخلفية الحضارية المختلفة، أن التفاهم المبني على الاقتناع لا يمكن التوصل إليه ما برحت العلاقات المتناسقة بين المشاركين في التواصل مفقودة، وأعني علاقات الاعتراف المتبادل، وتبادل المنظورات، والاستعداد المشترك لتأمل المنقولات الخاصة أيضاً بعين الغريب، والتعلُّم المتبادل، إلخ. على هذا الأساس، لا يجوز لنا أن نكتفي بانتقاد القراءات الانتقائية والتفسيرات المغرضة والتطبيقات الضيقة الأفق لحقوق الإنسان، بل يجب أن يطال نقدُنا أيضاً ذاك الاستعمال الوقح لحقوق الإنسان من أجل ستر عالمي لمصالح خاصة تضلِّل إلى الظن الكاذب بأن كُنْه حقوق الإنسان يُستنفَد بسوء استعمالها.

    *** *** ***

    من الحداثة وخطابها السياسي

    ترجمة: جورج تامر
                  

10-14-2004, 05:58 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    شكرا صديقي تراث على كلماتك الدافئات
    ان الفكرة التقليدية للمنبر تقوم على الحوار بين طرفين او اطراف
    وفي كثير من الاحوال لا تنتج معرفة ويصبح البوست دائريا يعيد تكرار نفسه
    وقد جربت فكرة هذا البوست قبل ذلك من خلال حديثي عن التناص في بوست من عادل عبدالرحمن الى مصطفى سيد احمد وايضا من خلال بوستي عن الاسلام والعولمة والذي اتمنى مواصلته فهو يتطلب جهدا كبيرا في الترجمة والتلخيص
    كما انني طبقت نفس الفكرة في بوستي عن العلاج بالموسيقى
    وساحاول تطبيقها مستقبلا متى اتيح لي الوقت الكافي

    واتمنى ان يشاركنا الصديق عبداللطيق على الفكي والذي اعلم انه يعد كتاب عن نقد الميتافيزيقيا في الخطاب السوداني المعاصر من خلال توطينه لافكار دريدا

    ونحن في انتظار الصديق بولا الذي وعد بمشاركة شحمانة

    وارقد عافية

    المش============================================اء
                  

10-14-2004, 06:00 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    نسيت يا تراث ان اقول لك ان لي عظيم الشرف في ان يكون البوست هو محور تخزينة الخميس الثقافية
    وارجو ان تنقل تحياتي واشواقي للحضور

    المش==============================================
    اء
                  

10-14-2004, 06:04 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هابرماس ومفهوم التواصل (Re: osama elkhawad)

    مفهوم التواصل : من الحقيقة إلى الاختلاف
    هابرماس و لوهمان

    بقلم : رشيد بوطيب* / ألمانيا

    لا غرو أن التواصل هو المفهوم الأكثر مركزية في علم الاجتماع الألماني المعاصر . إنه يمثل بالنسبة لهابرماس ونيكلاس لوهمان نقلة براديجمية . نقلة براديجمية أو نقلة تواصلية ، يعني ذلك أن مفهوم التواصل أصبح ضروريا من أجل وصف وتشريح البناء الاجتماعي .

    وقد تحقق مفهوم التواصل كنظرية علمية بداية مع الأمريكي جورج هربرت ميد ونظريته عن التفاعل الرمزي . إن ميد دافع عن فكرة أن التواصل هو المبدأ المؤسس للمجتمع . وهو يفهم التواصل كتدخل للآخر في تكوين وبناء الأنا أو الهوية . إن الأنا بالمعنى الترنسندنتالي ، المكتفي بذاته ، لا مكان لها في عالم التواصل . والوعي في نظره إمكان وليس بناء قبليا . فلا تحقق للوعي خارج التفاعل الاجتماعي ، خارج التواصل ، وفي استقلال عن بقية أعضاء المجتمع . وإذا انتقلنا إلى علم الاجتماع الألماني ، فإننا سنلاحظ بأنه ينقسم إلى مدرستين ، مدرسة هابرماس ، الأقرب إلى الروح الكانطية ، ومدرسة نيكلاس لوهمان ، التي انفصلت نهائيا عن المثالية الألمانية ، والتي تقترب في طروحاتها من مدرسة مابعد الحداثة الفرنسية .

    1- هابرماس : نظرية الاجماع

    يربط هابرماس الحقيقة بالعقل ، رافضا الطرح الميتافيزيقي وطرح العلوم الحقة أيضا . فالحقيقة في نظره ، لا تتأسس انطلوجيا ، وليست هبة التجربة ، وانما تتأسس على العقل ، وتهدف إلى الاجماع . "العقل هو المرجعية الأخيرة للمفكرين والممارسين والمتكلمين من البشر في الواقع اليومي كما في العلم" (1) عقل ليس بمفهوم المثالية الألمانية . عقل لا يعيش خارج التاريخ ، بل كما بين ذلك هابرماس في كتابه "الفكر ما بعد الميتافيزيقي" : "الوعي الترنسندنتالي يجب أن يحقق نفسه في الواقع ، عليه أن يتحول إلى كائن تاريخي من لحم ودم" (2) مع هابرماس ستعيش الفلسفة تحولا براديجميا Paradigmenwechsel . الفلسفة كنظرية للعقلانية ، عليها أن تحصن مفهومها المركزي ، الذي هو العقل . ولن يتم ذلك إلا بالتحول من فلسفة للوعي إلى فلسفة للغة . بذلك فقط تتحول إلى عقل عبر ـ ذاتي يعيش داخل مجتمع ، متحررا من كل شطط انطلوجي . وقبل أن يشرع هابرماس بشرح هذا العقل العبر- ذاتي ، يبدأ أولا في بحثه المهم "نظريات الحقيقة" (3) بنقد وتشريح الفلسفة التحليلية أو بنقد نظريات الحقيقة لدى المدرسة التحليلية ، هذه المدرسة التي هدفت تجاوز الميتافيزيقا . ففي نظرها ، وكما صاغ ذلك بيتر يانيش : "الحقيقة هي جملة - حقيقة وليست وجود - حقيقة" (4) ولهذا سمي هذا الاتجاه بالنقلة اللغوية Linguistic turn . نظرية هابرماس في المقابل نقلة برجماتية ، نظرية للتواصل أو نظرية عبر- ذاتية للحقيقة ، تجد أصلها في سيميائية بيرس . وحسب هذه النظرية ، الحقيقة ترتبط صميميا بالاقناع والاجماع والتواصل . يبدأ هابرماس نقده للفلسفة التحليلية بطرح السؤال التالي : ما الذي يمكن أن نقول عنه بأنه صحيح أم خاطئ ؟

    جواب طارسكي : الجمل . أما أوستن فيرى بأنها المزاعم وليست الجمل ، ويشرح هابرماس رأي أوستن ، حيث يوضح أنه بإمكان المرء أن يستعمل الجملة الواحدة للتعبير عن مزاعم مختلفة ، كما يمكنه أن يعبر عن مزعم واحد بجمل كثيرة . ولكن هابرماس يوضح كيف أن المزاعم لا تحقق شرط الثابتية ، لأنها ترتبط بزمن محدد . إذ أنها يمكن أن تصدق في زمن معين ولا تصدق في زمن آخر . الحقيقة في نظر هابرماس ذات طبيعة لا زمنية . هابرماس شأنه في ذلك شأن ستراوسن يرى أن المقولات هي التي تقبل الخطأ أو الصواب . ثم ينتقل بعدها لنقد نظرية الحشو . رامسي منظر هذا الاتجاه ، يرى أنه حين نزعم مثلا أن ب صحيحة ، فإن الوصف أو الكلمة "صحيحة" مجرد حشو ، لأنها لا تعني شيئا آخر سوى ب نفسها . إن العبارة : "إنها صحيحة" منطقيا زائدة . وينتقد هابرماس هذا الرأي في نقطتين :

    أولا : إن نظرية الحشو تهمل أن الإعلان بأن ب صحيحة ، تعني أن ادعاء-صحة Geltungsanspruch قد أعلن . فحين نقول : ب فقط ، ولا نقول شيئا بحقها ، لا نزعم شيئا .

    ثانيا : هابرماس يميز بين الفعل Handlung والخطاب Diskurs . فالافعال تتضمن ادعاءات الصحة في المقولات وتعترف بها . بعد تناول وجبة طعام جيدة ، نقول : "الحمد لله" . كلمة "الله" هنا تخبر بأن الطعام كان جيدا أو مشبعا ، أما حقيقة "الله" في هذا السياق ، فهي ليست موضع سؤال . في الخطابات بعكس ذلك ، تصبح ادعاءات الصحة اشكالية . هنا لن نتبادل الأخبار أو المعلومات ، بل سنبرهن اذا ما كانت كلمة "الله" حقيقة أم خطأ . معنى هذا الكلام أو هذا المثال بالذات ، أنه في مجال الأفعال ، القول أو الإعلان بعد وجبة طعام دسمة : "الحمد لله الحقيقي" ، كلمة "الحقيقي" في هذا السياق مجرد حشو . لكن في مجال الخطاب تصبح هذه الكلمة أو هذا الزعم ضروريا وليس حشوا . ويلخص هابرماس نقده لنظريات الحقيقة في أربع نقط :

    أولا : ان نظرية الحقيقة كاجماع (نظرية هابرماس) ، ترى أن الحقيقة والصحة ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب ، من دون أن تنكر الاختلافات المنطقية بين الخطابات النظرية والتطبيقية . ولكن نظرية الحقيقة الميتافزيقية توضح صحة القضايا التطبيقية بالطريقة نفسها التي توضح بها القضايا النظرية . في المقابل ينكر التيار الوضعي إمكانية الحديث عن الحقيقة في المجال التطبيقي .

    ثانيا : ان نظرية الاجماع تفرق بين الأنظمة التي تتكون من تجارب ومعلومات وأفعال وبين الخطابات التي لا بد من البرهنة على صحة ادعاءاتها ، في حين تخلط نظرية الحقيقة الترنسندنتالية بين شروط التجربة وشروط الخطاب أو الاستدلال .

    ثالثا: تفرق نظرية الاجماع بين ادعاءات الصحة العبر- ذاتية واليقينيات الذاتية . في حين تقوم بعض نظريات الحقيقة ، نظرية التوافق مثلا ، على يقين ذاتي .

    رابعا : نظرية الاجماع تفرق بين ادعاءات الصحة التي تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي وتلك التي لا تنتمي إلى هذا الخطاب . في حين تخلط بعض نظريات الحقيقة بين الاثنين .

    ان هابرماس ينتقد بالخصوص الخلط بين الموضوعية والحقيقة ، وبين ادعاء الصحة واليقين الذاتي . إنه يرى أن الحقيقة تنتمي إلى عالم الأفكار وليس إلى عالم الإدراك الحسي . في حين أن كلتا النظريتين ، الترنسندنتالية والأمبريقية تنظر إلى الحقيقة كإدراك حسي . إن الموضوعية تنتمي حسب هابرماس إلى مجال الأفعال والتجارب ، في حين تنتمي الحقيقة إلى مجال الخطاب الاستدلالي . وضدا على الخلط بين ادعاءات الصحة واليقينيات الذاتية ، يعلن هابرماس بأن الحقيقة ليست علاقة تطابقية ، ليست منطقا توافقيا . إنها عقل واستدلال . لكن ما هي العلاقة التي تنسجها الحقائق التي نزعمها مع مواضيع تجربتنا؟ الحقائق هي ادعاءاتنا التي نزعم أنها صحيحة ، أما المواضيع فهي تنتمي إلى العالم ، ونظرية التوافق أو التطابق خلطت بين الحقائق والمواضيع . إنها تقول بأن ادعاءات الصحة يجب أن تتوافق مع الحقائق . تبدو الحقائق في مثل هذه النظرة ، شيئا واقعيا ، جزءا من العالم ، مواضيع . إن هابرماس ينتقد هذه النظرة قائلا : "إن نظرية التوافق تحاول بلا جدوى الخروج من المجال المنطقي- اللغوي الذي بداخله فقط يمكن أن نوضح حقيقة فعل لغوي" (5) . إن الحقيقة كما يفهمها هابرماس ، قول لا واقع ، استدلال وليست تجربة .

    ونتيجة للتفاعل النقدي مع النظريات اللغوية والبرجماتية ، وصل هابرماس إلى اكتشاف ادعاءات الصحة ، التي بحسب نظرته تقوم عليها كل الأفعال التواصلية . إنه يدافع عن فكرة وجود أربع ادعاءات للصحة ، وهي كالتالي : المفهومية ، الحقيقة ، الصحة ، الصدقية .

    الحقيقة والصحة هي ادعاءات صحة تنتمي إلى الخطاب الاستدلالي ، في حين لا تملك المفهومية والصدقية طابعا استدلاليا ، ولكن طابع الفعل . ثم ينتقل هابرماس للتمييز بين اليقينيات المبنية على التجارب الذاتية (اليقينيات الذاتية) وادعاءات الصحة ، حيث يرى أن هذه الأخيرة عبر- ذاتية ، يمكن التحقق منها ، في حين أن اليقينيات الذاتية فردية وذاتية . وهذه اليقينيات المرتبطة بالتجربة الشخصية تنقسم إلى ثلاثة : فهناك اليقين الاعتقادي المرتبط بالتجارب التواصلية والذي يرتكز على ادعاء الصدقية ، واليقين غير المحسوس الذي يرتبط بفعل الفهم والذي يرتكز على ادعاء المفهومية ، ثم اليقين المحسوس الذي لا يتضمن أي ادعاء- صحة .

    بعد ذلك ينتقل هابرماس للتمييز بين الصحة والحقيقة . إن الاثنين معا ادعاءات صحة استدلالية ، لكن هل يعني هذا بأن البرهنة على صحة معيار تشبه طريقة البرهنة على حقيقة قول معين؟

    ويسرد هابرماس جوابين من تاريخ الفلسفة على هذا السؤال : الجواب الأول قدمه القانون الطبيعي الكلاسي ، الذي رأى بأن المعايير الصحيحة هي أيضا مقولات حقيقية . والجواب الثاني قدمته الاسمانية والأمبريقية والتي ترى أن المقولات المعيارية غير حقيقية . إن هابرماس يفرق بين الحقيقة و الصحة قائلا : "ادعاء صحة فعل لغوي تقريري يرتبط بمواضيع التجربة والحقائق . أما ادعاء صحة معيار معروف ، فهو في حدّ ذاته موضوع تجربة أو حقيقة" (6) .

    إن المعايير متضمنة في الفعل اللغوي . فحين يقول المرء : "الكذب خطيئة" ، لا يزعم شيئا . إنه يعبر فقط عن حكم أخلاقي معروف . ولهذا يوضح هابرماس لماذا نستعمل حين الحديث عن معايير أخلاقية جملة : "يجب أن تفعل.." وليس جملا تقريرية .

    وسيدافع هابرماس - دائما في بحثه "نظريات الحقيقة" عن نظرية الاجماع ضد اعتراضين . الاعتراض الأول يمس نظريات الحقيقة البرجماتية ، والذي يرى أنه لا يجب الخلط بين الحقيقة وبين مناهج تحصيل المقولات الحقيقية .

    لا غرو أن نظريات الحقيقة البرجماتية تقوم على مبدأ المفهومية أو التفاهم بين المتكلمين الفاعلين . وأن الفلسفة الرجماتية ترتكز على مبدأ النفعية . إن هابرماس وكما رأينا ، لا ينكر حضور مبدأ المفهومية بادعاءات الصحة العامة . ولكن يرى أن فلسفته لا تقوم على مبدأ النفعية . ولهذا يفرق بين تحصيل حقيقة ، وهو اجراء ينتمي إلى مجال الأفعال ، وبين الحقيقة التي تنتمي إلى مجال الخطاب أو الاستدلال .

    أما الاعتراض الثاني فإنه يرى أن الاجماع ، الذي لا يعني شيئا آخر سوى الاتفاق على رأي معين ، لا يمكن أن يكون مقياسا للحقيقة . إن هابرماس لا ينكر فكرة الاتفاق ولكنه لا يرى في الاتفاق أو التوافق على رأي معين ، مقياسا للحقيقة ولكن هدفا لادعاءات - الصحة الاستدلالية . إن الحقيقة في هذه النظرة تهدف إلى الاجماع ولكنها تقوم على الاستدلال أو هي الاستدلال نفسه .

    بعد ذلك يقدم هابرماس تعريفا لمنطق الخطاب ، ويقول : "إن منطق الخطاب هو منطق برجماتي يبحث في المميزات الصورية للسياقات الاستدلالية" (7)

    يتضمن هذا التعريف نقطتين اساسيتين:

    أولا : أننا أمام منطق برجماتي . وهذا المنطق يتكون من اجرائين : الاستدلال والاجماع .

    ثانيا : هذا المنطق البرجماتي يمثل قطيعة مع الفلسفة التحليلية . إننا نقف أمام ابستمي عبر- ذاتي ، حيث الاجماع له الكلمة الأخيرة .

    ثم ينتقل هابرماس للحديث عن ظروف الكلام المثالية والتي يمكن أن نلخصها في كلمتين : المساواة في الفرص . أن يكون للمتكلمين الفاعلين نفس الحرية في التواصل والاستدلال وفي وضع كل شيء موضع سؤال ، وفي التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم ، بحيث أن حرمان بعضهم من امتياز معين ، من شأنه أن يضع عقبات أمام التواصل ، وبالتالي ، أمام الحقيقة . لأن الحقيقة تبنى على الاستدلال وليس على القهر ، لأنها ضد صناعة الوعي واستعمار الواقع .

    ولكن ألا ترتكز نظرية الاجماع على مقاييس للحقيقة ثابتة وقبلية؟ أليست هذه النظرية احتفاء بسلطة العقل؟ ألا تشيد ميتافيزيقا جديدة أو أمرا حمليا على الطريقة الكانطية؟ ولماذا يتوجب على الحقيقة أن تهدف إلى الاجماع؟

    إن الخطاب في نظر هابرماس ، استدلال . وعن طريق الاستدلال فقط نحقق الاجماع . استدلال يقوم على مبدأ سواسية الفرص . وإذا تأملنا لغة هابرماس : الاجماع ، الاستدلال ، الصدقية ، سواسية الفرص .. سنكتشف بسهولة أننا أمام نظرية آخرية ، متحركة ومفتوحة . نظرية يمكن أن نلخصها في كلمة واحدة : الديمقراطية . إننا أمام فلسفة عبر- ذاتية ، يلعب فيها العقل دورا إجرائيا فقط . ومع ذلك فقد تعرضت هذه النظرية لنقد حاد في الفكر الألماني المعاصر ، وعلى رأس منتقديها ، عالم الاجتماع الكبير نيكلاس لوهمان .

    2- نيكلاس لوهمان : التواصل وموت الذات .

    يرى لوهمان في كتابه المركزي : "الأنظمة الاجتماعية" ( أن التواصل لا يجب أن ينبني على مبادئ انطلوجية ، كما يرى أن التواصل لا يهدف إلى الاجماع . إن التواصل حسب هذه الرؤية ليس لعبة ذاتية وإنما لعبة تقوم على الاختلاف بين المعلومة والتوصيل . إن لها هدفا واحدا ، وهو التواصل نفسه ، الذي ينتج الاجماع كما ينتج الاختلاف . فالاجماع حسب لوهمان لا يمكنه تجاوز عوامل الازعاج والاضطراب . في حين أنه بمساعدة التواصل قد نصل إلى فهم ما هو غير منتظر وغير مرغوب فيه . لوهمان يرفض أن يقوم التواصل على العقل . بدل ذلك يرى أن عليه أن يقوم على الصراع أو ما يسميه بالاستقرار الدينامي , فالصراعات في نظره تحافظ على مرونة النظام وقابليته المستمرة للتعلم .

    ويتساءل لوهمان في كتابه عن العنصر المؤسس لهذه النظم ، هل هو الفعل؟ أم التواصل؟

    إن التواصل لدى نيكلاس لوهمان ليس فعلا ، وصيرورة التواصل ليست سلسلة من الأفعال . إن التواصل ليس مجرد فعل إخبار ، بل هو حاصل تفاعل العناصر الثلاثة : الإخبار والخبر أو المعلومة والفهم . إنه اختلاف وليس بفعل . ورغم ذلك فإن الفعل يظل عنصرا أساسيا في تكوين التواصل ، إنه فعل إعادة إنتاج للنظام . لذلك فلوهمان يعتبر أنه ليس خطأ أن نفهم التواصل كفعل ولكنه فهم مع ذلك ، أحادي البعد . إن التواصل في تصوره هو الوحدة الأولية للتأمل الذاتي والوصف الذاتي للأنظمة الاجتماعية .

    إن السياق التواصلي هو بذلك عنصر ضروري للفعل الاجتماعي . هذا الجواب يمثل في حد ذاته ، من جهة تجاوزا لأنطلوجيا ماكس فيبر الاجتماعية ، والتي ترى أن وحدة العناصر معطاة مسبقا ، فيبر الذي يرى أن وحدة الفعل تجد مصدرها في الشعور الاجتماعي للفاعل . ومن جهة أخرى يمثل هذا الجواب تجاوزا لتالكوت بارسنز الذي فهم النظام الاجتماعي كبناء تحليلي يقوم على الفعل ، وعن طريق الفعل تدلف الذات إلى النظام ..

    إن نظرية لوهمان عن البناء الذاتي هي أيضا نظرية المرجعية الذاتية بامتياز . فوحدة النظام لا تتأسس أنطلوجيا . إنها هبة التواصل ، نتاج عمليات النظام نفسه . فهي لا تقوم على شعور الفاعلين وليست نتاج أبنية ومعايير معطاة مسبقا ، بإمكانها أن تحكم النظام وتتحكم بمساره . نظرية تنتقل من الوحدة إلى الاختلاف ، تتجاوز مفهوم الهوية ، إنها موت للذات . إن الإنسان في هذه النظرية لا ينتمي إلى النظام ولكن إلى البيئة المحيطة . النظام مستقل عن كل ذات . في البدئ كان الاختلاف وليس الهوية و "حين يدخل المرء إلى عالم التواصل ، يتعذر عليه نهائيا العودة إلى جنة الأرواح البسيطة" (9)

    إن فرضية لوهمان ترفض كل شكل من أشكال الثنائية الميتافيزيقية . فبدل الحديث عن التمييز: الذات/الموضوع ، يتحدث لوهمان عن نظرية النظام/المحيط . نظرية هي نتاج للعلوم الحقة ، التي تفهم االمرجعية الذاتية للعالم كوصف للوجود وليس تذويتا أو أمثلة للموضوع . إنها نظرية تهدف إلى تأسيس فهم لا ـ أنطولوجي للواقع .

    ويستند لوهمان ، من أجل شرح مفهوم التواصل ، إلى قراءة دريدا لفلسفة اللغة الهوسرليانية . إن الاختلاف بين الإخبار والخبر يقابله عند هوسرل الاختلاف بين الدليل والعبارة . وقد استحوذت على اهتمام هوسرل العبارة وليس الدليل ، لأن العبارة وعي وليست لغة ، أو لأنها تنتمي إلى مجال الوعي . ويرى لوهمان أن أولوية العبارة على الدليل لدى هوسرل تقوم على فهم ناقص لواقع التواصل . وقد عبر بيير تروتينيون على نفس الفكرة ، بلغة أخرى ، حين اعتبر فينمينولوجيا هوسرل ميتافيزيقا أو "ميتا منطق" (10) ، لأنها تعتقد بأن المنطق وليس الطبيعة هي التي تؤسس الحقيقة العلمية . إن الأنا الترنسندنتالية في فلسفة هوسرل ، هي مصدر كل الدلالات . ويرى لوهمان أن دريدا سيعمد إلى استبدال المركزية الذاتية والبناء الترنسندنتالي لفلسفة هوسرل ، بسيميولوجيا قائمة على الاختلاف ، ويرى بأن ذلك يساعد على فهم الاختلاف بين الاخبار والخبر في العملية التواصلية . إن دريدا يدافع عن الدال ويرفض الأنطو- تيولوجيا الفنيمينولوجية ، التي تحط من قدر الدال . إن الدال في نظره ، هو لامركزة للأنا وللمعنى وأيضا للوجود . إنه يقول بكتابه "الصوت والظاهرة" (11) بأن العبارة لدى هوسرل تجسيد شعوري . إنها تعبر عن معنى يسكن الوعي الإنساني ، إن العبارة في غياب الذات ، غير ممكنة التحقق ، وكل ما لا ينتمي للوعي ، لا مكان له في العبارة . إن الدال بالنسبة لدريدا ، مثل المرجعية الذاتية لدى لوهمان ، تجاوز للذات وتأصيل للاختلاف .

    إن التواصل كعملية إرسال هو علاقة عمودية . وكل ما هو عمودي ، هو انطلوجي . لأنه يتضمن سلطة معينة ، لأنه يتناقض والاختلاف . وغالبا ما يفهم التواصل كعملية إرسال ، إرسال لمعلومة من طرف المرسل إلى المرسل إليه . إن لوهمان سيتخلى عن مفهوم الإرسال هذا ، لأنه ذا بنية انطلوجية ، ذلك انه "يوحي بأن المرسل يبعث بشيء لا يملكه المرسل إليه" (12) . إن سلبيات هذا الفهم ، يلخصها لوهمان في ثلاثة :

    أولا: ان التواصل هو في هذا المعنى : اخبار .

    ثانيا : انه يخفي فكرة الهوية بين أحشائه . ذلك أن المرء يعتقد أن المعلومة التي يبعث بها المرسل إلى المرسل إليه هي واحدة بالنسبة للاثنين .

    ثالثا : ان التواصل في هذا المعنى عملية مزدوجة . ذلك أن المرسل يخبر المرسل إليه بشيء ما .

    إن التواصل حسب لوهمان هو العنصر الأخير للأنظمة الاجتماعية . إنه العملية التي تنتج عناصر هذه الأنظمة . وهي ليست بعملية مزدوجة . فالتواصل لا يقوم على الإرسال والاستقبال . إنه مركب من ثلاثة عناصر أو اختيارات Selektion : الاخبار ، المعلومة ، الفهم . ويفرق لوهمان بين المعلومة والاخبار ، فالمعلومة هي معالجة اختيارية للاختلافات . إنها ليست إرسالا . فالأنا لا تمتلك المعلومة ، والآخر لا يتوصّل بها . إنها نتاج للعملية التواصلية . والاخبار ، كما رأينا أحد المكونات الثلاثة للتواصل ، ولكن ليس أهمها . ولكن فقط حين يكون هناك اخبار تصبح للمعلومة قيمة داخل العملية التواصلية . إن المرء يتحدث عن التواصل ، حين تفهم الأنا أن الآخر قد أخبرها بمعلومة .

    ويعتبر الفهم المكون الثالث للتواصل . إنه لا يعني أكثر من تحقق للاخبار والمعلومة . وحتى لو كان هناك سوء تفاهم ، فإن الفهم لا يتأثر بذلك ، إذ ليس من الضروري أن يكون هناك توافق بين المعلومة والاخبار ، بل اختلاف . والمعلومة تنتمي إلى عالم معنى Sinnwelt ، والأنا والآخر هما أيضا جزءان من هذا العالم المعنى ، انهما لم يخلقا المعلومة . إن الفهم في هذه الرؤية يتأسس على التواصل وليس على الوعي . والتواصل لا يتحقق إلا إذا كان من الممكن ملاحظة وفهم الاختلاف بين المعلومة والاخبار بها . إن الفهم في النهاية ، لا يحقق فقط تواصلا معينا ، بل يفتح الباب لعمليات تواصلية أخرى .

    خلاصة:

    في الفصل الرابع من كتابه السابق الذكر ، ينتقد لوهمان نظرية الاجماع ، ويرى بأن على التواصل أن يكون قادرا على إنتاج اللا إنسجام أيضا . فالتواصل ليس انطلوجيا ، ولا يقوم على أسس انطلوجية ، وهو لا يريد أن يؤسس للاجماع . إن له هدفا واحدا وهو التواصل نفسه ، الذي يتضمن ، وينتج الاجماع والشقاق معا . فليس بإمكان الاجماع أن يتجاوز عوامل القلق ، ولا أن يفهم ما هو طارئ ، بعكس التواصل . إن التواصل لدى هابرماس يقوم على العقل . فالعقل هو أساس التفكير والفعل والكلام . أما لوهمان فإنه يدافع عن نوع من الاستقرار الدينامي ، عن الصراع ؛ لأن الصراع يسمح للنظام بأن يظل مرنا ومفتوحا . إن التواصل هو دعوة إلى الاحتجاج ، وليس إلى القبول والتسليم . إنه تجاوز لمنطق الهوية ، وتأكيد للاختلاف . إن المرء لا يفكر ، إنه يتواصل!

    * باحث في جامعة ماربورغ ، ألمانيا.

    الهوامش

    (1) Horster, Detlef“Jürgen Habermas: zur Einführung“ Junius.S.68

    (2) Habermas, Jürgen „Nachmetaphysisches Denken“ Suhrkamp.S.9

    (3) In „Wirklichkeit und Reflexion“ Pfülingen

    (4) Janich, Peter“Was ist Wahrheit“ Beck 1996.S.9

    (5)„Wahrheitstheorien“S.216

    (6) نفس المرجع، ص.235

    (7) نفس المرجع، ص.241

    ( Luhmann, Niklas „Soziale Systme“ Suhrkamp 1987

    (9) نفس المرجع، ص.207

    (10) Besnier, Jean-Michel“Histoire de la philosophiemoderne et contemporaine » Grasset 1993.p.484

    (11) Derrida, Jacques „La voix et le phénomène“PUF 1967

    (12) Soziale Systeme.S.193
                  

10-14-2004, 06:17 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    سلطة التكنولوجيا إذ تحول الإنسان إلى مجرد... أداة
    إبراهيم الحيدري الحياة 2004/10/10

    يشتمل كتاب يورغن هابرماس "العلم والتقنية كايديولوجيا" على سجال مع اطروحة هربرت ماركوزه التي تنص على ان "القوة المحركة للتكنولوجيا وتحويل الاشياء الى ادوات تنقلب الى قيود على التحرر وتحول الانسان الى اداة". وقد اهدى هذا الكتاب الى ماركوزه بمناسبة بلوغه السبعين من عمره.

    وفي عدد من اطروحاته حاول هابرماس اخضاع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت للتعديل واعادة صياغتها من جديد, مثلما حاول تعديل نظرية ماركس عن الرأسمالية ونظريته عن فائض القيمة وكذلك تقويم نظرية ماكس فيبر عن العقلانية, في محاولة لاقامة نظرية نقدية توجه الاهتمام الى نوعية العلاقات والاتصالات الرمزية وتوضيح أهمية القوى الخارجية الضاغطة والسلطة التي تمارسها التكنولوجيا على الانسان, عن طريق الكشف عن وعي جديد يتخذ, في نهاية الامر, صورة عقلانية تكنولوجية. كما اكد هابرماس في ذات الوقت, على انه اذا ما تحرر الانسان من الوعي التقني واستعاد وعيه الذاتي المستلب فسوف يكتسب في الاخير مكانته الحقيقية.

    لقد استطاع هابرماس (دوسلدروف 1929) الذي يعتبر اليوم من المع رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي في المانيا, وآخر من بقي منهم على قيد الحياة, والوريث الشرعي لها, ان يجدد وان يحدد الأطر الاساسية لهذه المدرسة في بعديها الفلسفي والسوسيولوجي. لذلك يعتبر اليوم احد اهم الفلاسفة الاجتماعيين النقديين المعاصرين إن لم يكن الوحيد الذي بقي حياً, وذلك بسبب البناء الفكري الرصين والتيار النقدي المنفرد الذي قاده الى مرحلة متقدمة من الشمولية والانفتاح على العلوم الاخرى.

    يتضمن الكتاب دراسات يكمل بعضها البعض الآخر, وهي كما يلي:

    1- العمل والتفاعل.

    2- التقنية والعلم.

    3- التقدم التقني وعالم الحياة.

    4- السياسة المعلمنة والرأي العام.

    5- المعرفة والمصلحة.

    وقد استطاع هابرماس في هذا الكــــتاب ان ينتقل الى مرحلة متقدمة في تكوين اتجاهه النقدي الخاص حول دور العلم والتقنية في مجتمع ما بعد الحداثة, منطلقاً من ان الرأسمالية المعاصرة رأسمالية متأخرة يأخذ التغير الاجتماعي فيها وتائر سريعة بحيث تتوسع النزعة العــلموية توسعاً كبيراً.

    في 1956 سبق لماركوزه ان ذكر بان الظاهرة المميزة التي مؤداها ان السيطرة تتجه في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعياً الى ان تخسر طبيعتهت الاستقلالية القامعة, اي انها تصبح "عقلانية" من دون ان تختفي سيطرتها السياسية لأنها تبقى مشروطة المقدرة والمصلحة في حفظ الجهاز بوصفه كاملاً وتوسيع مداه. وهذا المفهوم

    الشكلاني للعقلاني الذي استقاه من ماكس فيبر في الفعل العقلاني الهادف مطبقاً على معايير العلم والتقنية انما له تطبيقات مضمونية محددة. وكان ماركوزه على ثقة من ان ما دعاه فيبر "عقلنة" ليس عقلانية بالمعنى الصحيح وانما هو شكل من اشكال السيطرة السياسية غير المعترف بها, التي تتحقق باسم هذه العقلانية التي تتملص من علاقات المصالح الاجتماعية, وان الفعل العقلاني الهادف هو طبقاً لبُنيته "ممارسة الضبط" وهو لا يتخلى عن مضمونه السياسي. لذلك فان مفهوم العقل التقني ذاته هو ايديولوجيا. وبهذا تصبح التقنية ذاتها سيطرة على الطبيعة وعلى الانسان في آن, وهي سيطرة منهجية علمية ومحسوبة, تصبح على الدوام مشروعاً اجتماعياً - تاريخياً يُسقط فيها ما يريده مجتمع المصالح المتحكمة أفعاله بالناس والاشياء. وهو هدف "مادي" وينتمي الى حد ما الى العقل التقني ذاته.

    ومنذ نهاية القرن التاسع عشر اصبح هناك اتجاهان من التطور في المجتمعات المتقدمة رأسمالياً هما: نمو فاعلية الدولة القائمة على التدخل ـ التي تؤكد على ثبات النسق اولاً, وارتباط متنام بين البحث العلمي والتقنية.

    كما تحقق بقوة وبصورة متزايدة اتجاه آخر يميز الرأسمالية المتأخرة وهو اضفاء العلمية على التقنية, وخاصة بعد ارتباط التطور التقني بعجلة تقدم العلوم الحديثة حيث اندمج العلم والتقنية والاستثمار وصولاً الى نسق واحد من شأنه ان يرفع التقدم العلمي والتقني الى المجال العسكري. وهكذا تتحول التقنية والعلم الى قوة انتاج من الدرجة الاولى وتسقط بذلك, بحسب هابرماس, شروط الاستخدام بالنسبة الى نظرية قيمة العمل الماركسية, اذ يتحول التقدم العلمي والتقني الى مصدر فائض قيمة مستقل وتصبح قوة عمل المنتجين المباشرة اقل اهمية.

    كما تنفذ هذه الاطروحة الى الجماهير غير المسيّسة وتصبح خلفية ايديولوجية تنشأ عنها قوة مشرعنة عن طريق القوة الايديولوجية للوعي التكنوقراطي التي تثبت جدارتها من خلال التمويه. ومع ان الوعي التكنوقراطي هذا أقل ايديولوجية من الايديولوجيات السابقة كلها, الا ان تحول العلم الى صنم اكثر مقاومة وابعد تأثيراً من الايديولوجيات القديمة الاخرى, لأنه يعطل الوعي العام بنسق التفاعل الذي يقوم على اللغة المتداولة (التواصل), حيث تنشأ السيطرة والايديولوجيا ضمن شروط تواصل مشوّه يلغي الفوارق بين الممارسات وانعكاسات التقنية.

    بهذا تخترق الايديولوجيا الجديدة المصلحة التي ترتبط باللغة المتداولة وبالفردانية وتمتد الى المشاركة الذاتية للتفاهم والى انتاج تواصل خال من السيطرة, وهكذا يسمح الوعي التكنوقراطي باختفاء المصلحة العملية خلف توسع قوة التحكم التقنية الخاصة.


    سلطة التكنولوجيا إذ تحول الإنسان إلى مجرد... أداة
    إبراهيم الحيدري الحياة 2004/10/10

    يشتمل كتاب يورغن هابرماس "العلم والتقنية كايديولوجيا" على سجال مع اطروحة هربرت ماركوزه التي تنص على ان "القوة المحركة للتكنولوجيا وتحويل الاشياء الى ادوات تنقلب الى قيود على التحرر وتحول الانسان الى اداة". وقد اهدى هذا الكتاب الى ماركوزه بمناسبة بلوغه السبعين من عمره.

    وفي عدد من اطروحاته حاول هابرماس اخضاع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت للتعديل واعادة صياغتها من جديد, مثلما حاول تعديل نظرية ماركس عن الرأسمالية ونظريته عن فائض القيمة وكذلك تقويم نظرية ماكس فيبر عن العقلانية, في محاولة لاقامة نظرية نقدية توجه الاهتمام الى نوعية العلاقات والاتصالات الرمزية وتوضيح أهمية القوى الخارجية الضاغطة والسلطة التي تمارسها التكنولوجيا على الانسان, عن طريق الكشف عن وعي جديد يتخذ, في نهاية الامر, صورة عقلانية تكنولوجية. كما اكد هابرماس في ذات الوقت, على انه اذا ما تحرر الانسان من الوعي التقني واستعاد وعيه الذاتي المستلب فسوف يكتسب في الاخير مكانته الحقيقية.لقد استطاع هابرماس (دوسلدروف 1929) الذي يعتبر اليوم من المع رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي في المانيا, وآخر من بقي منهم على قيد الحياة, والوريث الشرعي لها, ان يجدد وان يحدد الأطر الاساسية لهذه المدرسة في بعديها الفلسفي والسوسيولوجي. لذلك يعتبر اليوم احد اهم الفلاسفة الاجتماعيين النقديين المعاصرين إن لم يكن الوحيد الذي بقي حياً, وذلك بسبب البناء الفكري الرصين والتيار النقدي المنفرد الذي قاده الى مرحلة متقدمة من الشمولية والانفتاح على العلوم الاخرى.
    يتضمن الكتاب دراسات يكمل بعضها البعض الآخر, وهي كما يلي:
    1- العمل والتفاعل.
    -2 التقنية والعلم.
    3- التقدم التقني وعالم الحياة.
    4- السياسة المعلمنة والرأي العام.
    5- المعرفة والمصلحة.

    وقد استطاع هابرماس في هذا الكــــتاب ان ينتقل الى مرحلة متقدمة في تكوين اتجاهه النقدي الخاص حول دور العلم والتقنية في مجتمع ما بعد الحداثة, منطلقاً من ان الرأسمالية المعاصرة رأسمالية متأخرة يأخذ التغير الاجتماعي فيها وتائر سريعة بحيث تتوسع النزعة العــلموية توسعاً كبيراً
    في 1956 سبق لماركوزه ان ذكر بان الظاهرة المميزة التي مؤداها ان السيطرة تتجه في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعياً الى ان تخسر طبيعتهت الاستقلالية القامعة, اي انها تصبح "عقلانية" من دون ان تختفي سيطرتها السياسية لأنها تبقى مشروطة المقدرة والمصلحة في حفظ الجهاز بوصفه كاملاً وتوسيع مداه. وهذا المفهوم الشكلاني للعقلاني الذي استقاه من ماكس فيبر في الفعل العقلاني الهادف مطبقاً على معايير العلم والتقنية انما له تطبيقات مضمونية محددة. وكان ماركوزه على ثقة من ان ما دعاه فيبر "عقلنة" ليس عقلانية بالمعنى الصحيح وانما هو شكل من اشكال السيطرة السياسية غير المعترف بها, التي تتحقق باسم هذه العقلانية التي تتملص من علاقات المصالح الاجتماعية, وان الفعل العقلاني الهادف هو طبقاً لبُنيته "ممارسة الضبط" وهو لا يتخلى عن مضمونه السياسي. لذلك فان مفهوم العقل التقني ذاته هو ايديولوجيا. وبهذا تصبح التقنية ذاتها سيطرة على الطبيعة وعلى الانسان في آن, وهي سيطرة منهجية علمية ومحسوبة, تصبح على الدوام مشروعاً اجتماعياً - تاريخياً يُسقط فيها ما يريده مجتمع المصالح المتحكمة أفعاله بالناس والاشياء. وهو هدف "مادي" وينتمي الى حد ما الى العقل التقني ذاته.

    ومنذ نهاية القرن التاسع عشر اصبح هناك اتجاهان من التطور في المجتمعات المتقدمة رأسمالياً هما: نمو فاعلية الدولة القائمة على التدخل ـ التي تؤكد على ثبات النسق اولاً, وارتباط متنام بين البحث العلمي والتقنية.<كما تحقق بقوة وبصورة متزايدة اتجاه آخر يميز الرأسمالية المتأخرة وهو اضفاء العلمية على التقنية, وخاصة بعد ارتباط التطور التقني بعجلة تقدم العلوم الحديثة حيث اندمج العلم والتقنية والاستثمار وصولاً الى نسق واحد من شأنه ان يرفع التقدم العلمي والتقني الى المجال العسكري. وهكذا تتحول التقنية والعلم الى قوة انتاج من الدرجة الاولى وتسقط بذلك, بحسب هابرماس, شروط الاستخدام بالنسبة الى نظرية قيمة العمل الماركسية, اذ يتحول التقدم العلمي والتقني الى مصدر فائض قيمة مستقل وتصبح قوة عمل المنتجين المباشرة اقل اهمية.كما تنفذ هذه الاطروحة الى الجماهير غير المسيّسة وتصبح خلفية ايديولوجية تنشأ عنها قوة مشرعنة عن طريق القوة الايديولوجية للوعي التكنوقراطي التي تثبت جدارتها من خلال التمويه. ومع ان الوعي التكنوقراطي هذا أقل ايديولوجية من الايديولوجيات السابقة كلها, الا ان تحول العلم الى صنم اكثر مقاومة وابعد تأثيراً من الايديولوجيات القديمة الاخرى, لأنه يعطل الوعي العام بنسق التفاعل الذي يقوم على اللغة المتداولة (التواصل), حيث تنشأ السيطرة والايديولوجيا ضمن شروط تواصل مشوّه يلغي الفوارق بين الممارسات وانعكاسات التقنية.

    بهذا تخترق الايديولوجيا الجديدة المصلحة التي ترتبط باللغة المتداولة وبالفردانية وتمتد الى المشاركة الذاتية للتفاهم والى انتاج تواصل خال من السيطرة, وهكذا يسمح الوعي التكنوقراطي باختفاء المصلحة العملية خلف توسع قوة التحكم التقنية الخاصة.

                  

10-14-2004, 06:20 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هابرماس وبوش (Re: osama elkhawad)

    نقلا عن "الوطن"

    الفيلسوف الألماني هابرماس: بوش جعل العالم (أقل أمنا)

    هامبورغ ـ د. ب. أ: صرح الفيلسوف الالماني البارز بورجين هابرماس لوكالة الانباء الالمانية (د.ب.أ) في مقابلة بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والسبعين التي تحل يوم 18 يونيو الحالي بأن إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش جعلت العالم مكانا (أقل أمنا) للعيش فيه.
    وقال هابرماس (ما من حكومة أميركية أخرى كانت بمثل هذا الطيش في معاملتها لقضايا الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة ولا بمثل هذه الوقاحة في تعاملها مع المعاهدات الدولية وقضايا حقوق الانسان وحظر شن الحروب العدوانية الذي هو لب ميثاق الامم المتحدة).

    وقال الفيلسوف وأستاذ علم الاجتماع السياسي الذي لقي تقدير العالم بعد وضعه نظريته الانتقادية عن العقلانية أن بوش بتجاهله للقيم الاساسية للتقاليد السياسية الاميركية نفسها جعل العالم (أقل أمنا).
    بيد أن هابرماس أدان أيضا الاتجاهات المناهضة لاميركا وقال أنه يؤيد المعارضة المتنامية داخل أميركا نفسها لبوش وقال (إن العالم لن يسوده النظام كما كان إلا إذا وجدت أميركا سبيلا للعودة إلى القيم التقليدية الاميركية الطيبة).
    وتابع قائلا: أن الاتحاد الاوروبي يمكن أن يصبح المثال الاول لتحالف قاري من دول قومية.

    وأضاف الفيلسوف: أن ملعب السياسة الدولية بحاجة إلى لاعبين لديهم القدرة على الوصول إلى حلول وسط فعالة وتطبيقها. يذكر أن أعمال هابرماس (نظرية فعل الاتصال) الصادر عام 1981 و(التحول الهيكلي للعمل العام) الصادر عام 1962 صارت من كلاسيكيات الفلسفة الحديثة.
    كما أصر هابرماس على أن حقوق الانسان والحقوق المدنية ليست حكرا على الغرب وقال (إن كافة الثقافات تتقاسم الان قيما أخلاقية معينة. وتجلى هذا في رد الفعل الموحد حول العالم إزاء الانتهاكات الضخمة لحقوق الانسان والحقوق المدنية سواء أكانت في رواندا أو الشيشان أو في بغداد).
    بيد أنه استطرد قائلا: (إن التسامح وفصل الدولة عن السلطة الدينية تتطلب نوعا من التكيف من جانب الطوائف الدينية الكبرى).
    وقال هابرماس أن الاسلام يتمتع بالقدر الكافي من الحيوية اللازمة لمواجهة هذا التحدي لكنه أضاف : (إن أي حوار فكري لن يؤتى ثماره إلا إذا واكبته رغبة واضحة في إدخال العدالة السياسية على اقتصاد العولمة).

    وقال هابرماس الذي أثر مفهومه للديمقراطية على أنها عملية تقوم على الاتصال في ثورة الطلاب في ألمانيا عام 1968 أن الافكار اليسارية الانتقائية في ذاك الحين صارت هي التيار الرئيسي في ألمانيا اليوم.
    ولعل يوشكا فيشر الطالب الناشط السابق وزير الخارجية الالماني هو أحد الامثلة على (نجاح الثورة) التي شهدتها الثقافة السياسية الالمانية فقد عارض خطط الحرب الاميركية ضد العراق بقوله لوزير الدفاع وداعية الحرب الاميركي دونالد رامسفيلد (إنني لست مقتنعا).
    ولد يورجين هابرماس في مدينة دوسلدورف الالمانية في 18يونيو عام 1929 ودرس الفلسفة وعلم النفس والادب الالماني والاقتصاد في جوتنجن وزيورخ وبون.

    وفي عام 1950 التحق بمعهد تيودور في ادورنو الشهير للبحث الاجتماعي في فرانكفورت ثم قام بعد ذلك بالتدريس في جامعات ماربورج وفرانكفورت ومعهد ماكس سلانك في شتارنبرج قبل أن يعود إلى فرانكفورت أستاذا للفلسفة.

    ومنح هابرماس الاسبوع الماضي جائزة كيوتو اليابانية وهي واحدة من ارفع الجوائز العالمية في الفنون والادب ونال الجائزة وقيمتها 50 مليون يوان (400.000 يورو) عن مجمل أعماله.
                  

10-14-2004, 06:29 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48494

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    جاك دريدا وجلساء الأستاذ محمود..

    لقد أعجبني هذا البوست ولذلك قمت بوضع وصلته هنا:
    أحد جلساء الأستاذ محمود محمد طه

    والشكر لأسامة ملايين إلى يوم الدين.. وهذا من آخر اختراعات الأستاذ عبد الله بولا الذي كان يقول: الشكر آلاف لا يوم الوقاف..

    وداعا دريدا..
                  

10-14-2004, 06:35 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    شكرا صديقي ياسر
    وارقد عافية

    المش==============================================اء
                  

10-14-2004, 06:38 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)


    هابرماس ومسالة التقنية

    سالم يفوت

    مقدمة

    ينتمي يورغن هابرماس(*) Iürgen Habermas إلى الجيل الثاني من مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقد دأب مؤرخو الفلسفة الألمانية المعاصرة في القرن العشرين على تقسيم مراحل تطور النظرية النقدية إلى مرحلتين أساسيتين : المرحلة الأولى وهي التي تأسست فيها النظرية النقدية على يد كل من هوركهايمر Max Horkheimer وأدورنو Theodor Adorno ثم ماركوز H. Marcuse ؛ والمرحلة الثانية يمثلها هابرماس بشكل أساسي. فقد أمد مدرسة فرنكفورت بدماء جديدة نتيجة تأثره بمصادر فلسفية معاصرة أخرى وإطلاعه الجيد على المناحي الفلسفية المعاصرة في فرنسا ممثلة في فلسفات الاختلاف خصوصا مع ميشال فوكو وجاك دريدا. ولعل كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة يعتبر أروع شاهد على ذلك. فقد حاول فيه هابرماس تحليل ودراسة أكثر النصوص الفلسفية التي أدمجت في صيرورتها أسئلة الحداثة ابتداء من فلاسفة الأنوار وكنط إلى دريدا، دون إغفال أي نص تناول مسألة الحداثة من أفق الاتفاق مع فكر الحداثة أو الاختلاف معه. ومن هذا المنظور اختلف هابرماس مع فلاسفة ما بعد الحداثة، ومع دريدا بالذات معتبرا أنهم يمثلون تيارا مناهضا للحداثة، لكن دون أن يبتعد عنهم نـهائيا أو يعتبر نفسه نقيضا لهم. "ففي الوقت الذي تنفصم فيه العرى الداخلية بين تصور الحداثة والأسلوب الذي يتم به فهم تلك الحداثة نفسها في أفق العقل الغربي، يغدو ممكنا إضفاء بعض النسبية على عمليات التحديث المتواصلة بشكل أوتوماتيكي تقريبا، واعتماد نظرة الملاحظ ما بعد الحداثـي الانتقادية"1.

    من كنط الذي سمح نسقه الفلسفي بانفتاحات فكرية لتدشين أول نظرة فلسفية في الحداثة مع هيغل، كما يعتقد هابرماس، إلى دريدا الذي يعبر عن لحظة فكرية من لحظات ما بعد الحداثة القائمة بشكل من الأشكال، على استلهام نمط السؤال النيتشوي(نسبة إلى نيتشه)، مرورا بماركس وماكس فيبر M.Weber وهايدغر والنظرية النقدية وبياجي وغيرهم..استنادا إلى كل هذا الركام الفلسفي والعلمي، وانطلاقا من الرغبة في جعل النظر الفلسفي أكثر إلتصاقا بواقعه وأكثر نقدية في عالم تنتصر فيه النزعات الوضعانية والذرائعية ويتم فيه إقصاء كل فكر نقدي، أراد هابرماس إعادة بناء النظرية النقدية بشكل يجعلها تستجيب أكثر للمعطيات الجديدة.

    وقد اعتمد في عملية إعادة البناء تلك على أعمال الفيلسوف هربرت ماركوز، خصوصا منها كتابه الإنسان ذو البعد الواحد. ولعل كتاب هابرماس: التقنية والعلم كإيديولوجيا2 هو الكتاب الذي يدشن المرحلة الثانية من مراحل تطور مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية. فقـد عثر هابرماس في أعمال ماركوز على العديد من العناصر التي وظفها في مشروعه الفلسفي ومناسبة للابتعاد قليلا عن النظرية النقدية الأولى. منـذ نـهاية الكتاب وهو منشغل بنظرية العقلنة: عقلنة الحياة والمجتمع الحديثين.

    كما أصدر هابرماس، في السنة نفسها التي أصدر فيها كتاب التقنية والعلم كإيديولوجيا، كتابا آخر يتناول نفس الموضوع تقريبا، إنما ببعض الإسهاب ومن منظور أكثر تجذرا في تاريخ الفلسفة، عنوانه: المعرفة والمصلحة3. وبهذا العنوان كذلك كان هابرماس قد ألقى سنة 1965 درسا افتتاحيا بجامعة فرنكفورت، ثم نشره ثلاث سنوات فيما بعد ضمن كتابه التقنية والعلم كإيديولوجيا.

    إن ما سوف ينصرف إليه اهتمامنا في هذا البحث هو تناول موقف هابرماس من الحداثة والتقنية ومن مختلف التيارات الفلسفية لمعاصرة المناصرة للعلم، وأبرزها الوضعانية المحدثة، أو المؤيدة للتقنية تأييدا يصل إلى حد الإعجاب.

    في أصول مناهضة الوضعانية

    إن معايشة هابرماس لمجهودات التحديث في ألمانيا، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، ولمرحلة البناء المسترشد بالعقلانية، حيث الخطاب الثقافي والسياسي يكبت السؤال ويقصى النقد، دفعته إلى اختيار الاستمـرار في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من السلب والنفي والنقد مبدأه الموجه ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة والمتداولة ومحاكمة الفكر الوضعاني الذي يكن له عداء نظريا مكينا4.

    ولو بحثنا عن أصول ذلك العداء لوجدناها منغرسة في أعماق الخيار النقدي لمدرسة فرنكفورت، وتضرب بجذورها فيها. فبالرجوع إلى أسئلة النظرية النقدية يتبين للمرء أن نقد الوضعانية شكل هاجسا أساسيا لدى دُعاة تلك النظرية،المتقدمين منهم و المتأخرين. فالكشف عن الآليات النظرية والتاريخية والعلمية التي حكمت الفكر الوضعاني، والكشف عن إرادة القوة التي كانت تحايث تلك الآليات استدعى منهم جميعا القيام بحفريات الجنوح العلموي لدى النزعات الوضعانية. وسوف نكتفي هنا بنموذج منهم، نعتبره بليغا، هو نموذج هربرت ماركوز (1898-1986).

    فقد خصص هذا المفكر العديد من مؤلفاته لنقد كل أشكال الاستقطاب، وعلى رأسها الاستقطاب العلموي والتقني، باعتبار التقنقراطيـة الوجه الآخر للفلسفة الوضعانية. فإذا كان أفلاطون أراد أن يجعل من الفلاسفة سادة، فإن التقنوقراطيين يريدون أن يجعلوا مـن المهندسين مجلس إدارة مديري المجتمع"5.

    ففي كتابه العقل والثورة6 يؤكد أن الوضعانية من حيث اشتقاقها تعني مذهب الإيجاب والقبول Positivisme، وهما أمران يجب أن يفهما في معناهما السياسي والإيديولوجي في سياق القرن التاسع عشر في فرنسا بالذات بعد الثورة الفرنسية. إن الإيجاب كان يعني قبول الأوضاع الراهنة والوقوف منها موقف الرضا والمناصرة؛ خلافا للرفض أو النفي الذي كانت تحمل لواءه فلسفات أخرى عاصرها أوغست كونت (1798-1857)، رائد الوضعانية، في فرنسا أو خارجها، أبرزها فلسفة هيغل (1770-1831) التي كانت ترتكز على فكرة السلب والتناقض، وهو ذات الاتجاه الذي سـار فيه ماركس (1818-1882) فيما بعد مع تعديله كي يستقيم على قدميه. هذا فضلا عن الفلسفات الاشتراكية الخيالية في فرنسا كفلسفة سـان سيمون (1760-1825) ومذهب برودون (1809-1865) الفوضوي. إنـها اشتراكيات تستند إلى فلسفة اجتماعية رافضة تتخذ موقف الرفض من الأوضاع الراهنة ومن النظم الاجتماعية القائمة كما يدعو إلى تغييرها تغييرا جذريا في الوقت الذي اكتفت فيه الوضعانية مع كونت بالدعوة إلى الإصلاح في إطار ما هو قائم وما هو موجود. لذا فإن الإعجاب بالعلم ومعاداة الفلسفة لدى هذا المفكر لا يمكن أن تفهم إلا في هذا السياق، سياق الهجوم المرير على فلسفات السلب والرفض ممثلة في المذاهب الفلسفية الاجتماعية التي عرفت انتشارا في فرنسا، وفي فلسفة هيغل واليسار الهيغلي في ألمانيا

    إن الوضعانية، مع أوغست كونت، لا يمكن أن تفهم على أفضل نحو ما لم نستحضر الخصم الذي كانت هاته الفلسفة تواجهه. فقد جاءت كرد فعل واع على الاتجاهات النقدية الـهدامة في فرنسا وألمانيا. وهـو رد فعل اتخذ طابعا مريرا بوجه خاص في ألمانيا فقد تم وصف مذهب هيغل، لقاعدتـه النقدية، بأنه فلسفة سلبية تنفي أي واقع لا معقول. لكن رد الفعل الإيجابي (= الوضعاني المحافظ) رأى في محاولة هيغل قياس الواقع وفق معايير العقل المستقل وتحديا للنظام القائم وبحثا عن إمكانيات الأشياء دون معرفة واقعها الفعلي لأنها تقتصر على الصور المنطقية ولا تصل إلى العمق الفعلي الذي لا يمكن استنتاجه في هاته الصور. إن الفلسفة السلبية، نظرا إلى بنائهـا التصوري، "تنفي" (أو تنكر) الأشياء على ما هي عليه. فالأمور الواقعة التي تؤلف الوضع القائم أو الحالة الراهنة، حين ينظر إليها في ضوء العقل، تصبح سلبية، محدودة، عارضة -أي تصبح صورا زائلة داخل عملية شاملة تؤدي إلى تجاوزها. وهكذا نظر إلى الجدل الهيغلي على أنه أوضح أنموذج لكل سلب هادم لما هو معطى…"7.

    حارب كونت أيضا هذا النمط الفرنسي من الفلسفة السلبية، أي ضد تراث ديكارت وعصر التنوير.

    ولعل النقطة التي يصبح فيها الارتباط واضحا بين وضعانية القرن التاسع عشر والوضعانية المحدثة هي توجيه الفكر نحو الأمور الواقعة، ورفع مكانة التجربة بحيث تصبح هي صاحبة القول الفصل في كل معرفة8.

    تجدر الإشارة أيضا إلى أن المشروع الذي قدمه كونت لبناء علم اجتماع جديد على أسس منهجية جديدة، كان الهدف منه فصل النظرية الاجتماعية عن ارتباطها بالفلسفة السلبية ووضعها في فلك المذهب الوضعاني (= الإيجابي). وفي الوقت ذاته تخلى كونت عن الاقتصاد السياسي بوصفه عماد النظرية الاجتماعية، وجعل من المجتمع موضوعا لعلم مستقل، وهو "علم الاجتماع"9.

    والحقيقة أن الخطوتين كانتا مترابطتين: فعلم الاجتماع أصبح علما نتيجة تخليه عن وجهة النظر المتعالية للنقد الفلسفي. وأصبح ينظر إلى المجتمـع الآن على أنه مجموع مركب من الوقائع متحدد بدرجات متفاوتة، تحكمه قوانين عامة بدرجات متفاوتة ـ أي أنه مجال يعامل كأي مجال آخـر للبحث العلمي. ورأي كونت أن التصورات التي تفسر هذا المجال يجب أن تستمد من الوقائع التي يتكون منها هذا المجال، أما مضمونات التصورات الفلسفية التي تحاول أن تصل إلى أبعد من ذلك فينبغي استبعادها.

    هكذا يرى ماركوز أن اسم الوضعانية (= الإيجابية) اسم سجالي، أي لا يمكن أن يفهم إلا في سياق خلافي واختلافي، أي لا يفهم إلا باستحضار الخصم الذي كان يحاربه. حينئذ يتبين للمرء أنه نحت للدلالة على ذاك التحول من نظرية فلسفية إلى نظرية تريد أن تكون علمية10. فحلول الملاحظة محل التأمل في علم الاجتماع عند كونت، يعني تأكيد النظام بدلا من أي خروج على النظام؛ وهو يعني سلطة القوانين الطبيعية بدلا من الفعل الحر، والتآزر بدلا من اختلال النظام. والواقع أن فكرة النظام، التي كانت أساسية في مذهب كونت الوضعاني، لها مضمـون شمولي في معناها الاجتماعي، فضلا عن المنهجي، ولقد كان التأكيد المنهجي ينصب على فكرة علم موحد، وهي نفس الفكرة التي تسيطر على التطورات الأخيرة للوضعانية11.

    ينعت ماركوز الوضعانية، أو الفكر الإيجابي، في موضع آخر، بأنها فلسفة أحادية البعد12 تعكس تطور المجتمع الأحادي البعد الجديد وأشكال الرقابة التقنقراطية فيه. ثمة إذن طابع إيديولوجي ملازم لكل جنوح وضعـاني وعلموي، فربط صدق الفكر والمعرفة باختيارهما الواقعي، وجعل العلوم الفيزيائية نموذج اليقين والدقة، والاعتقاد بأن تقدم المعرفة منوط بالاحتداء بذلك النموذج، كلها علامات على انتصار معايير الواقع التكنولوجي حيث يتحول العالم إلى عالم أدوات ومنافع ومصالح. لذا فإن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة ويشهد على التقدم التقني هو الرفاه، والفعالية وافتقاد الحرية الفردية. "وهل ثمة ما هو أكثر عقلانية من إلغاء الفردية عن طريق مكننة الأعمال الضرورية اجتماعيا، لكن الشاقة ؟"13. إن لغة الفعالية والإنتاجية هي لغة النظام التكنولوجي. وحتى الحقوق والحريـات التي كانت عوامل أساسية في المراحل الأولى من المجتمع الصناعي تقل أهميتها وحيويتها في مرحلة أكثر تقدما، وتفرغ من مضمونـها التقليدي. "فقد كانت حرية الفكر والكـلام والضمير ـ شأنـها شأن المشروع الحر الذي كانـت تخدمه وتذود عنه ـ تـهدف هي المكونة في جوهرها من أفكـار نقدية إلى استبدال ثقافة مادية و فكرية بالية بثقافة أخرى أكثر فعالية وعقلانية. وعندما أخذت تلك الحريات والحقوق صفة المؤسسات شاطـرت المجتمع الذي أصبحت جزءا لا يتجزأ منه، مصيره وبكلمة واحدة، إن الإنجاز يموه المقدمات".[1]

    يصف ماركوز المجتمع الصناعي المعاصر بأنه مجتمع يضفي صفة العقلانية على اللاعقلانية؛ باعتباره مجتمعا تسنده حضارة منتجة، ناجعة، قادرة على زيادة الرفاه وعلى إضفاء صفة الحاجة على ما هو زائد عن الحاجة وتحويل ما هو كمالي إلى ما هو ضروري والهدم إلى البناء. وبمقدار ما تحول الحضارة القائمة عالم الشيء إلى بعد للجسم والروح الإنسانيين، يصبح مفهوم الاستلاب بالذات إشكاليا. فالناس يتعرفون على أنفسهم في بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم في سيارتهم وجهازهم التلفيزيوني الدقيـق الاستقبال، وفي بيتهم الأنيق وأدوات طبخهم الحديثة. إن الآلية التي تربط الفرد بمجتمعه قد تبدلت هي نفسها، والرقابة الاجتماعية تحتل مكانـها في قلب الحاجات الجديدة التي ولدتـها.[2]

    فالأشكال السائدة من الرقابة الاجتماعية هي أشكال تكنولوجية بمعنى جديد. ومما لا ريب فيه أن البنية التقنية وفعالية جهاز التدمير والإنتاج قد ساهمتا، في المرحلة الحديثة الراهنة، في إخضاع السكان لتقسيم العمل الحالي. ولكن الرقابات التقنية غدت اليوم تعبيرا عن ذات العقل الذي أصبـح خادما لكل الجماعات ولكل المصالح الاجتماعية، بحيث وأن كل تناقض يبدو لا عقلانيا وكل معارضة مستحيلة.[3]

    يعتبر ماركوز أن ثمة رابطة ما بين العقل ما قبل التكنولوجي، والمتجلي في علاقات التبعية في أشكالها السابقة على العصر الصناعي، والعقل التكنولوجي. فإذا كان تميز العلاقات الأولى هو طابع التبعية الشخصيـة فإن ما يميز هذا العقل الأخير هو استمرار التبعية، إنما في لون جديد، إذ يحل محـل التبعية الشخصية، شيئا فشيئا نوع آخر من التبعية : تلك التي تخضـع المرء "لنظام أشياء موضوعي"، ويعني به القوانين الاقتصادية وقوانين السـوق وغيرها… ولئن كان "نظام الأشياء الموضوعي" من صنع السيطرة ونتائجها هو الآخر، فإن السيطرة تعتمد الآن على درجة أكبر من العقلانيـة، عقلانية مجتمع يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت ذاته وبصفة أنجع الموارد الطبيعية والفكرية ويوزع على نطاق متعاظم باستمرار أرباح هذا الاستغلال. نحن نحيا ونموت تحت راية العقلانية والإنتاج، كما يقول ماركوز، إنها إيديولوجية النظام الاجتماعي التكنولوجي الذي يرهن العقل النظري بالعقل العملي انطلاقا من أنـهما متمايزان ومنفصلان ومـن أن الحياد الذي هو جوهري وأساسي بالنسبة إلى العلم الخالص، يمكن نسبتـه أيضا إلى التقنية. فالآلة لا تبالي بالاستعمالات الاجتماعية التي صنعت من أجلها، وأن كل المطلوب أن تتفق هذه الاستعمالات مع الإمكانيات التقنية للآلة. بيد أن هذا التصور لا يبدو مطابقا للواقع. فالعلاقة القائمة بين العلمي وتطبيقه، بين عالم الإنشاء العلمي وعالم الإنشاء والسلوك، وثيقة جدا وتخضع لمنطق واحد وعقلانية واحدة : منطق السيطرة وعقلانيتها.[4]

    يقيم ماركوز البرهان على الطابع الأداتي النزعة للعقلانية الاجتماعية، ذلك الطابع الذي يجعل منها قبليا وبشكل مسبق تكنولوجيا، والتأكيد على أن هاته الأخيرة شكل من أشكال الرقابة والسيطرة الاجتماعية.[5]

    يقول ماركوز : "إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل "تقنيا" أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل، إن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهـاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطـرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى والأفق الأداتي النـزعة للعقل يطل على مجتمع كلي استبدادي موسوم بالسمة العقلانية".[6]

    يتبين، إذن، أن التقنية ليست شيئا محايدا عديم اللون والطعم والرائحة. كما أنـها ليست مجرد تطبيق عملي لممارسة نظرية هي العلم. إنـها منطق أو وضع أو موقف فلسفي أوإيديولوجي. ليست آلات وأدوات ووسائل عمل، في يد الإنسان، بل إنها أدوات ووسائل تكرس منطق السيطرة وتكشف عصر التقدم التقني وأيديولوجيا النظام التكنولوجي.

    ثمة مشابـهات بين هذا الموقف الذي دافع عنه ماركوز ثم هابرماس، وموقف الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر M. Heidegger الذي يعتبر الوضعية الأساسية للأزمنة الحديثة هي "الوضعية التقنية"، ولأن العصـر عصر تقني. فالتقنية شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجـود، أو نمط من أنماط تجلياته.

    إنه موقف يصبّ في القول "بلا حيادية" التقنية، خلافا للموقف الماركسي الذي يعتبرها مجرد تطبيق للعلم.[7]

    لقد تبلور هذا الموقف من التقنية والعلموية، بداية مع كل من هوركهايمر وأدورنو في كتابهما جدل العقل الذي خصصناه لنقد تجليات الحداثة التقنية.[8]

    التقنية والعلم كإيديولوجيا

    ينفي هابرماس وجود حياد أو براءة أو صفاء علمي. فالعلم في سياق العقلانية التقية تحايثه حسابات السياسة أي إرادة قوة بالمعنى النتشوي، ينبغي إخراجها إلى واضحة النهار. وهو أمر يتطلب نقد الوضعانية والتيارات المعجبة بالعلم والنـزعة التقنية. فهاته جميعا تعبيرات متنوعة للإيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية.

    تعتبر الوضعانية، في نظر هابرماس، تعبيرا عن ذلك الجنوح إلى تحنيط العلم لدرجة يتحول معها إلى إيمان جديد واثق من قدرته الهائلـة على تقديم أجوبة لكل الأسئلة المطروحة واقتراح حلول ناجعة لكل القضايـا. أما النـزعة التقنية فهي الجنوح إلى اعتبار التطبيق العملي للمعرفة العلمية هو وحده الكفيل بأن يقدم المجتمع ؛ بل إنـها تنظر إلى التقنية نظرة أداتية محيلة إياها إلى وسائل محايدة قوامها التوظيف العملي للمعرفة العلمية ومتناسية أن التقنية تحول الإنسان نفسه إلى وسائل وأدوات، فتقمع طاقاته الإبداعية والتحررية. بـهذا المعنى تكون إيديولوجيا ينبغي انتقادها من خلال نقد الحداثة والمجتمع الحديث الذي يجمع بين العلم والتقنية والصناعة وحول ذلك إلى "قوة منتجة أولى". فمنذ أن تحول العلم إلى قوة منتجة ذات وظائف اجتماعية، بات قوة إيديولوجية باعتباره يلعب دورا أساسيا في منح المشروعية للنظام الاجتماعي والسياسي الحديث المؤسس على العقلانية التقنية.

    يضع هابرماس على عاتقه، إذن، مهمة كشف الغطاء عن الوهم العلموي والتقنوي الذي يجعل النموذج التقنوقراطي النموذج الأسمى في العلاقة بين القرار السياسي والمعرفة العلمية.[9] وقد حاول في النص الأساسي الذي خصصه لمسألة التقنية، وهو كتاب : التقنية والعلم كإيديولوجيا أن يستأنف ابرز أطروحة دافع عنها ماركوز ويناقشها ؛ ألا وهي الاعتقاد بأن التكنولوجيا تضفي على الأشياء صفة الأدوات وتحيلها إلى مجرد وسائل فتنقلب بذلك إلى عائق أمام التحرر إذ يتحول الإنسان نفسه فيها إلى أداة.

    يرجع الفضل إلى ماكس فيبر M. Weber في استخدام مفهوم "المعقولية" لوصف الشكل الرأسمالي للنشاط الاقتصادي، والنمط البرجـوازي للمبادلات، والأنماط البيروقراطية للسيطرة. وعليه فإن العقلنـة تعني توسيع المجالات المجتمعية التي تخضع لمعايير القرار العقلي. والتي تشير بموازاة مع تصنيع العمل الاجتماعي ومكننة الحياة الاجتماعية وإضفـاء الصفة الآلية والتقنية على حياة الإنسان.[10] أن ما يميز الحضارة الصناعية المتقدمة هو رزوحها تحت أشكال من الرقابة المتعددة المستويات تحشر في عداد العقلنة والتخطيط والترشيد المتوخية كلهـا تحقيق "غاـيات" و"أهداف" معقلنة.

    ويؤكد هابرماس أن "العقلنة" المتزايدة للمجتمع تتم بموازاة مع عملية إضفاء صبغة المؤسسة على التقدم العلمي والتقني. فبقدر ما يتدخل العلم والتقنية في مؤسسات المجتمع ويفقدها طابعها كمؤسسات، بقدر ما تغدو الإنتاجية هي المعبئ الوحيد للمجتمع وتضع نفسها فوق كل مصلحة.

    هكذا يحول هابرماس مفهوم العقلنة، مثلما استخدمه ماكس فيبر، ويكيفه تكييفا يجعله يسير على قدميه، وليس على رأسه كما كان الأمر مع ماكس فيبر. وهابرماس، هنا، يسير في خطى ماركوز الذي انتقد الطابع الصوري للمعقولية في صيغتها الفيبرية وكأنـها مجرد عملية تتم في حدود نشاط عقلي يقرره رئيس مؤسسة رأسمالية متوخيا منه تحقيق غابات وأغراض عملية استناد إلى معايير العلم والتقنية. فهو يرى أن خلف هذه "المعقولية" المظهرية ثمة إرادة سياسية ثاوية تسعى إلى توسيع مجال السيطرة وعقلنته. فكل عقلانية تكنولوجية يحايثها منطق للسيطرة يتمثل في إخضاع الإنسان لنظام الأشياء. فطالما أن معقولية من هذا القبيل تقوم على وضع الخطط والاختيار بينها بحثا عن أفضلها، واستخدام التكنولوجيا الملائمة وتـهيئ الأنظمة المناسبة والمواتية، لبلوغ غايات ثابتة ومحددة، فإنها تبقى شيئا يتم في غفلة عن التفكير وفي خلسة من المصالح الاجتماعية الكبرى. معقولية من هذا القبيل، لن تخدم سوى علاقات التسيير والتحكم التقني؛ إنها تفترض نوعا من السيطرة على الطبيعة أو على المجتمع. ذلك أن النشاط العقلي حينما يطرح لنفسه غـايات يتحول إلى رقابة. لذا فإن "عقلنة" شروط الحيـاة تعني في نـهاية الأمر تحويل السيطرة إلى مؤسسة لها شرعيتها، والتي لا ينتبه إلى أنـها شرعية سياسية: وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه ماركوز ثم هابرماس لماكس فيبر.[11]

    ففي المجتمعات الرأسمالية المتقدمة صناعيا، تتجه السيطرة إلى أن تفقد طابعها القمعي الهيمني لتتحول إلى نوع من السيطرة "المعقلنة" دون أن تتخلى، مع ذلك، عن طابعها السياسي أو تفقده.

    لكن الطابع القمعي لا يختفي كلية، بل يتخذ لنفسه مظاهر وتجليات تتمثل في خضوع الأفراد ورزوحهم تحت نير جهاز الإنتاج والتوزيع واندماجهم الكلي في منطقه. إلا أن الأفراد لا يعون بالجوهر القمعي لكل ذلك لأنه يضفي على نفسه رداء جديدا من الشرعية مفاده الزعم بأن السيطرة على الطبيعة والتحكم في الإنتاجية المتزايدة هو ما سوف يضمن للأفراد شروط عيش رغد.

    لقد فاق تعاظم قوى الإنتاج، والذي هو أحد مميزات التقدم العلمي والتقني المعاصر، كل النسب والحدود. ومبادئ العلم الحديث قد ركبت وبنيت، مسبقا، على نحو يمكن معه استخدامها كأدوات مفاهيمية من طرف عالم الرقابة الإنتاجي الذي يجدد نفسه بصفة أوتوماتيكية. وكان من نتيجـة ذلك أن اندمجت النـزعة الإجرائية النظرية بالنـزعة الإجرائية العملية وامتزجت بـها. وهكذا قدم المنهج العلمي، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة الفعالة على الطبيعة، مفاهيم محضة، ولكنه قدم أيضـا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحـو مطرد الفاعلية من خلال السيطرة على الطبيعة. ولقد اصبح العقل النظري، بمحافظته على بقائه وحياده، خادما للعقل العملي. ولقد كان هذا التلاقي مفيدا لكليهما. واليوم ما تزال السيطرة قائمة، ولقد أخذت طابعا أكثر شمولا بفضل التكنولوجيا، وبوجه خاص بوصفها تكنولوجيا. فالتكنولوجيا تبرز ابتلاع السلطة السياسية من خلال امتدادها إلى كل دوائر الثقافة.

    إن التكنولوجيا المعاصرة تضفي صيغة عقلانية على ما يعانيه الإنسان من نقص في الحرية، وتقيم البرهان على أنه يستحيل "تقنيا" أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يختار أسلوب حياته. وبالفعل أن نقص الحرية لا يطرح نفسه اليوم على أنه واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية، وإنما يعبر بالأحرى عن واقع أن الإنسان بات خاضعا لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ورفاهيتها كما يزيد من إنتاجية العمل.

    إن العقلانية التكنولوجية لا تضع شرعية السيطرة موضع اتهام، وإنما هي تحميها بالأحرى، والأفق الأداتي الوسيلاني النـزعة للعقل يقود إلى مجتمع كلياني مستبد وقد أضفيت عليه الصفة العقلانية.[12]

    إن "العقلنة" في هذا المجال، التقني والأداتي، لن تفهم حقيقتها، حسب هابرماس، إلا في المعنى الفرويدي : عقلنة الكبت والسيطرة عليه.

    إن فكرة كون العلم الحديث يعتبر حصيلة تكوين تاريخي، لم يقتبسها هابرماس، وقبله ماركوز، من "التفكيك" الهايدغري للميتافيزيقا الغربية، بل اقتبسها من هوسرل وبالضبط من كتابه : أزمة العلوم الأوربية.[13]

    وفي سياق مادي متمركس، حاول أرنست بلوخ E. Bloch أن يطور هذه الفكرة لينتهي إلى أن معقولية العلم الحديث حرفها النظام الرأسمالي، مما جعل التقنية الحديثة تفقد براءتـها كقوة إنتاجية خالصة. لكن ماركوز يعتبر أول من اتخذ نفس الفكرة منطلقا تحليليا لنظرية في المجتمع، مجتمع الرأسمالية المتقدم. وبـهذا الصدد يذكر هابرماس أن لديه تحفظا مـن تلك النظرية لأنها تعاني من عدة التباسات لم يدخل في تفاصيلها.

    ومن مؤاخذاته على ماركوز، بخصوص هذه المسألة أنه يسقط في نوع من المثالية الحالمة التي تؤمن بانبعاث علم وتقنية جديدين بعد انتهاء سيطرة الإنسان على الإنسان واندثار أشكال الرقابة التي تحول دون تحرر الإنسان؛ وهو ذاته الموقف الذي دافع عنه ماركس الشاب في مخطوطات 1844 والعديد من أقطاب مدرسة فرنكفورت أنفسهم، فيما بعد، أمثال هوركهايمر، وأدورنو وغيرهما، بصيغ متخفية ومواربة.[14]

    وحجة هابرماس على ما يقول، نص صريح لماركوز يقول فيه: "ولكن ما أحاول أن أبينه هو أن العلم قد اتخذ بفعل منهجه ومفاهيمه، وسيلة لتعزيز عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان. فالطبيعة، المعقولة والملجومة من قبل العلم، ما تزال ماثلة في جهـاز الإنتاج والتدمير التقني الذي يضمن للأفراد حياتهم ويسهلها، والذي يخضعهم في الوقت نفسه لأرباب الجهاز. وهكذا يتداخل تسلسل العقل الهرمي مع تسلسل المجتمع الهرمي. ومن هنا أقول: إنه لو طرأ تغير على اتجاه التقدم فحطم العلاقة الوثيقة القائمة بين عقلانية التقنية وعقلانية الاستغـلال، لطرأ أيضا تغير على بنية العلم بالذات. وفي مثل هذه الحال ستتطور فرضيات العلم، من غير أن تفقد طابعها العقلاني في سياق تجريبي مغاير تماما (سياق عالم تمت تـهدئته)، وسينشيء العلم بالتالي مفاهيم عـن الطبيعة مغايرة كليا وسيقرر وقائع مغايرة جوهريا.[15]

    وكأن ماركوز، من خلال هذا النص، يلوح بإمكانية وجود علم غير مرتبط بالسيطرة، اي علم متحرر وتحرري، أي علم لا تشد فيه التكنولوجيا قبضتها وهيمنتها تدريجيا على الطبيعة لكي لا يشدد الإنسان قبضته على الإنسان ويحكم هيمنته تدريجيا عليه. أي أن صاحب كتاب الإنسان ذي البعد الواحد، يتناسى أن ثمة ارتباطا وثيقا بين التقنية مثلما هي متداولة في الازمنة الحديثة والمعاصرة وبين بنية النشاط العقلاني المتجه نحو تحقيق غايات محددة: وهو ما يفسر ضرورة الأشكال المتعددة للرقابة والاحتكام إلى النجاعة والإنتاجية. وكأن تاريخ التقنية هو تاريخ لإضفاء الموضوعية والأداتية على النشاط العقلاني للإنسان بالتدريج.[16] وعليه لا يتصور هابرماس كيف يمكن التخلي عن التقنية، عن هاته التقنية لصالح أخرى تختلف عنها اختلافا نوعيا تكون فيها الطبيعة شريكا للإنسان بدلا من أن تظل موضوعا لاستغلاله.[17]

    وبـهذه المناسبة يدعو هابرماس إلى ضرورة القيام بمراجعة نقدية للعديد من الأطروحات الأساسية التي يستند إليها ماركوز والتي هي، نوعا ما، أطروحات تنتمي إلى المادية التاريخية. لا بد في اعتقاده من إضفاء صفـة النسبية على مجال انطباق مفهوم الإيديولوجيا ونظرية الطبقات واللذين يشكلان الإطار المفاهيمي الذي ضمنه بلور ماركس الفرضيات الأساسية للمادية التاريخية، كما لابد من إعادة صياغته انطلاقا من اعتبارات جديدة. وهو هنا يقترح استبدال الزوج: قوى الإنتاج وعلاقـات الإنتاج، بزوج آخر أكثر تجريدا هو العمل والتفاعل. فعلاقـات الإنتاج تميز مجالا لم ينغرس فيه الإطار المؤسسي إلا خلال المرحلة الرأسمالية الليبرالية من تطوره؛ أما قبلها أو بعدها فلا. صحيح أن قوى الإنتاج، حيث تتراكم عمليات التعلم المنظمة في الأنظمة الفرعية للنشاط العقلاني الهادف إلى تحقيق غايات محددة، شكلت منذ البدء محركا للتطور، إلا أنـها، على ما يبدو، وخلافا لما تصوره ماركس، لا تشكل طاقة ثوريـة محررة في كل الظروف والأحوال تسير دوما في اتجاه الانعتاق. على أية حال، لم يعد صحيحا منذ أن أصبح النمو المتصاعد لقوى الإنتاج تابعا لوتيرة التقدم العلمي والتقني والذي هو تقدم يقوم بأداء وظيفة إضفاء الشرعية على السيطرة. ويفترض هابرماس أن النظام المرجعي القائم على العلاقة بين الإطار المؤسسي (أي التفاعل) وبين الأنظمة الفرعية للنشاط العقلاني الهادفة إلى إنجاز غاية محددة (أي العمل بمعناه الواسع) أكثر ملاءمـة لإعادة بناء تاريخ المراحل الاجتماعية ـ الثقافية التي مرت بـها البشرية.[18]

    غير أن هابرماس ما يلبث أن يعود إلى الأطروحة الماركوزية الشهيرة التي ترى أن الفئات المهمشة وحدها، في المجتمع الصناعي المتقدم، هي التي لا تقع تحت نير الوعي التقنوقراطي[19] ويعني هذا أنها هي القادرة على تحرير هذا المجتمع، فتلك الفئات تشكل البديل الموضوعي الجديد للطبقة العاملة التي اندمجت في المجتمع الرأسمالي وأصبحت تستفيد منه؛ أي تحولت إلى قوة إيجاب عوض أن تكون قوة سلب مثلما اعتقد ماركس.

    فمنذ أن أصبح العلم قوة إنتاج ذات وظائف مجتمعية، صار من الضروري إعادة النظر ومراجعة الموقف من التقدم التقني والعلمي وانعكاسه على بنية المجتمع الصناعي المتقدم ؛ كما بات من الضروري إعطاء نفس جديد لنقد النـزعة العلموية والوضعانية من حيث إنه نقد لم يعد من الممكن أن يظل شأنا ذا صلة وارتباط بالخلافات النظرية داخل جدران الجامعة.

    المعرفة والمصلحة

    أشرنا، آنفا، إلى أن هابرماس ينفي وجود "حياد" علمي في سياق العقلانية التقنية. فالعلم والتقنية، في المجتمعات المتقدمة صناعيا، تحايثهما حسابات السياسة. ولعل هذا ما يفسر الموقف التقليدي لمدرسة فرنكفورت المعادي للمذهبين اللذين يعبران عن الإيديولوجية المكونة للحداثة التقنية ويضفيان عليها شرعية موهومة أولاهما: النـزعة الوضعانية والنـزعة التقنية، ورديفتهما النزعة العلموية.

    أبرزنا، سالفا، تجذر نقد هاته النزعات الثلاث في التراث الفرانكفورتي خصوصا مع هوركهايمر وأدورنو وماركوز، وقلنا إن معايشـة هؤلاء لمجهودات التحديث في ألمانيا، خصوصا بعد الحرب العالميـة الثانية دفعتهم إلى خيار السير في تقليد ثقافي وفلسفي ألماني يتخذ من السلب والنفي والنقد مبدأه الموجه ويجعل من الفلسفة أداة لتفكيك الأفكار والمعتقدات الرائجة ومحاكمة الفكر الوضعاني. ويجمل بنا أن نذكر بأن الوضعانية، في نظر هابرماس جوهرها تقديس العلم والاقتناع بقدراته السحرية الخارقة على تقديم حلول وأجوبة لكل الأسئلة والمشاكل. أما النـزعة التقنية فقوامها إحالة المعرفة العلمية والتكنولوجية إلى إيديولوجيا.

    هذا من جهة، ومن جهة ثانية يذهب هابرماس إلى أن ما جعل من العلم قوة إنتاج ذات شأن في المجتمع المعاصر المتقدم، ارتباطه بالتقنية والصناعة الحربية والتصنيع المدني والتسيير الإداري وعملية صنع القرار واتخاذه. وهذا ما جعل العلم يتعرض لعملية تسييس هو والتقنية، مثلما جعل السياسة تتعرض لعملية علمنة. لقد أصبح التقدم العلمي والتقني المحرك الحقيقي لتوسع قوى الإنتاج، مما كرس الأطروحات الوضعانية التي تصب جميعا في مماثلة المعرفة بالعلم ومماهاتها به.[20] وفي ذلك إضفاء، غير مباشر، للشرعية على النظام السياسي والاجتماعي القائم على العقلانية التقنية وعلى كل القيم والشعارات التي أفرزتها هاته الأخيرة في المستوى الإبستمولوجي النظري أو في المستوى العملي: كالنجوع والفعالية والواقعية والإجرائية والبرغماتية.

    يميط هابرماس اللثام عن الأوهام الثاوية خلف هاته المفاهيم التي تصب جميعا في تكريس سيادة العلم والتقنقراطية وسيادة النموذج التقنقراطي. كما يزيح ألقاب عن وهم موضوعية المعرفة العلمية وبراءتها ونقائها، وذلك من خلال إبراز أشكال تخفي المصلحة والمنفعة الإنسانيتين في الممارسة النظرية العلمية.

    ففي مقدمة كتاب المعرفة والمصلحة يعلن هابرماس عن نيته في إعادة بناء ما قبل تاريخ الوضعانية المحدثة وذلك برد الاعتبار للتأمل الفلسفي خصوصا وأن الوضعانية تريد أن تبني نفسها كاتجاه، على أنقاض التصورات التقليدية للعالم ولا سيما الميتافيزيقية منها، وعلى فهم لا تاريخي للعلم يحيل الوقائع إلى معطيات مباشرة. لذا لا بد من رد الاعتبار للفلسفة وللسؤال الفلسفي لا في ثوبه الميتافيزيقي فحسب، بل وكذلك في ثوبه الابستمولوجي من خلال تنشيط المعرفة العلمية واستئناف النظر فيها كممارسة تاريخية وكحركة فكرية وكفعل فلسفي يعطي للعلوم التجريبية قيمتها الإجرائية الحقيقية وللعلوم الاجتماعية مكانتها الفعلية في تقسيم العمل النظري. يذهب هابرماس إلى أبعد من ذلك حينما يدعو إلى إعادة بناء الوضعانية المحدثة مـن منطلق القصد المنهجي في تحليل ارتباط المعرفة والمصلحة. ذلك أن الانتقال من نظرية المعرفة إلى نظرية العلم (أو الابستمولوجيا) لم يكن انتقالا بدون خسائر وضحايا. وأبرز ضحية، حسب هابرماس، هو التفكير الفلسفي. إن الابستمولوجيا الوضعانية أساسها نفي التفكير والاستغناء عنه.[21] من ضحاياه، أيضا، الفهم الذي يطرح كمقابل للتفسير ومعارض له. وهابرماس، في نقده للوضعانية بمختلف صيغها، انتبه إلى أن الفهم ومختلف مشتقاته كان يقصي من طرف الوضعانيين باسم العلمية والحذر العلمي ؛ هذا مع أن تكوين العلوم التجريبية نفسها يتضمن بالضرورة لحظـة فهم، ولو بصورة ضيقة، ثم في مرحلة ثانية عندما تتأكد شرعية الفهم باعتباره مؤسسا للعقلانية وموسعا لمجال الابستمولوجيا ضد المحاذير الوضعانية، يتعين مواجهة إدعاء علوم التأويل في زعمها بأنـها تعتبر البديـل الوحيد للوضعانية. ومن أجل دحض هذا الزعم أثبت أن الهيرميتوتيكا نفسها غير ممكنة ما لم تتوفر لحظة التأمل الذاتي النقدي مثلمـا تعكسه العلوم النقدية وهي في اعتقاد هابرماس: الماركسية والتحليل النفساني والفلسفة بوصفها نظرية نقدية. لأن كل هيرمينوتيكا لا تستند إلى الإنشغالات النقدية تظل عاجزة عن أداء دور حقيقي لا يسقط في الإيديولوجية.

    يعترض هابرماس، إذن، على النـزعات الوضعانية بخصوص موقفها من العلوم التجريبية؛ ودورها الايديولوجي كنـزعات تضفي صفة الشرعية على أشكال الرقابة والقمع في المجتمع الصناعي المتقدم برفعها شعار "حيـاد" العلم والتقنية وبراءتهما، ومناداتها بضرورة توفر ذلك حتى في العلوم الاجتماعية كشرط للحاقها بركب العلوم الدقيقة. وهو شرط يتجاهل خصوصية العلوم الاجتماعية ونوعية أساسها الابستمولوجي، كما يتغافل عن المحدودية المنهجية والمفاهيمية والإجرائية لكل حقل علمي.

    يؤكد هابرماس، إذن، على ألا حياد في الممارسة العلمية إذ كل نمط من أنماط المعرفة يخضع لتوجيه مصلحة معينة. ومن أجل الكشف عن المصالح الثاوية خلف كل نشاط معرفي تتعين ممارسة النقد في بعده الاستكشافي الحفري. وهو أمر لا تسعف الباحث فيه سوى العلوم الاجتماعية المسلحة بأعمال فرويد ونيتشه وماركس.[22]

    ويميز هابرماس بين ثلاثة أنواع من المصالح:

    ثمة أولا المصلحة التقنية أو الأداتية، وهي تلك التي تنظم العلوم التجريبية. فهاته الأخيرة تتحدد في كون دلالة عباراتها ذات الطابع التجريبي تكمن في قابليتها للاستغلال التقني. وهذا هو سر الارتباط بين المعرفة التجريبية والمصلحة التقنية.

    ثمة ثانيا المصلحة العلمية ومجالها هو مجال التواصل بين البشر والذي هو حقل العلوم التاريخية ـ التأويلية التي تنطلق من فهم المعنى عبر قناة التأويل، تأويل الخطابات والنصوص.

    ثمة أخيرا المصلحة من أجل التحرر، ومجالها العلوم الاجتماعية النقدية (الماركسية والتحليل النفساني وفلسفة التأمل النقدي). فالمصلحة مـن أجل الانعتاق توفر الإطار المرجعي للفرضيات النقدية باعتبار أن التأمل النقدي يحرر الذات من سلطة الأصنام والأوهام وقوى الجمود.[23] ما تجدر الإشارة إليه هو أن المصلحة لا تكون نشيطة إلا داخل الفعل النقدي الذي يكشف إلى واضحة النهار المصالح المحركة للأنشطة التي تولدها ضغوط المؤسسة.

    المصلحة التقنية مؤشر على بعد العمل، والمصلحة العملية مؤشر على بعد التفاعل، والمصلحة التحررية المؤسسة على النقد مؤشر على الفعل النقدي.

    ويتبين لمتصفح كتاب هابرماس، المعرفة والمصلحة، والذي تناول فيه بالدرس مفهوم المصلحة، الحضور القوي للتراث النقدي الألماني انطلاقـا من كنط إلى فرويد وماركس مرورا بـهيغل ونيتشه. غير أن الملاحظ هـو أن هابرماس كان منشغلا بتطوير هذا التراث النقدي كي يرقى إلى نظرية للمجتمع تصلح أن تطرح عناصر نظرية تواصلية في الحداثة.[24] وهـذا ما أدى به إلى إقصاء كل النـزعات التي تكبت السؤال النقدي وعلـى رأسها النزعة الوضعانية التي تطرح العلم باعتباره النشاط الوحيد الذي ينتـج عبارات ذات معنى، مقصية بذلك التفكير في إيديولوجيا العلـم والتقنية من خلال كبت السؤال بخصوص المصالح الاجتماعي الآجلة والعاجلة التي تكمن خلف كل قرار تقني.وبذلك تتكرس مشروعية السيطرة التقنية للمصالح القائمة،كمـا تظل المضمرات الايديولوجية للعلم والتقنيـة في الظل لا تطالـها يد النقد



    خاتمـة
    أوقفتنا الصفحات السابقة على موقف هابرماس من الحداثة والتقنية ومن مختلف التيارات المناصرة للعلم وعلى رأسها الوضعانية المحدثة. وقد تأكد لنا بهذا الخصوص أن ذلك الموقف ينحو، إلى حد كبير، نفس المنحى الماركوزي رغم أنه يوحي لنا بابتعاده قليلا عنه في بعض الأحيان إلى حد أبحنا فيه لأنفسنا مرة القول بوجود مشابهات بين موقف هابرماس وموقـف هايدغر من مسألة التقنية وفي النقطة المتعلقة بنفي وجود "حياد" في العلم والتقنية لكنه ما يلبث أن يعود إلى الأطروحة الماركوزية التي مفادها أن الفئات المهمشة في المجتمع الصناعي المتقدم هي وحدها التي لا تقع تحـت نير الوعي التقنقراطي،أي أنـها هي وحدها القادرة على تحريره

    والحقيقة أن فئة الطلاب، والتي يقصدها ماركوز وهابرماس، ليست طبقة بالمعنى الصحيح للعبارة لكون أوضاع أفرادها المتشابـهة أوضاعا عابرة وقتية ما يلبث بعدها أولئك الأفراد بعد تخرجهم من الجامعة أن يعودوا إلى انتماءاتـهم الطبقية الأصلية، يضاف إلى هذا أن المجتمع الرأسمالي المتقدم علميا وصناعيا، مثلما استوعب الطبقة العاملة وأدمجها فيه، استوعـب كذلك فئة الطلاب خصوصا بعد أحداث ماي 1968 بباريس. فالإصلاحات التي قامت بها السلطات الفرنسية لهياكل الجامعة وبرامج التعليم بـها، وتنويع المسالك التخصصية بـها، كلها أدت إلى احتواء الغضب الطلابي وقادت إلى تلافي أسبابه الممكنة مستقبلا، وهو ما عرف باسم مصطلح "التسوية". ومن الأمور الجديرة بالملاحظة، بـهذا الصدد، أن الوعي التقنقراطي هو الذي كتبت له السيادة، في النهاية، حتى داخل الوسط الطلابي. ولا أدل على ذلك من تناقص عدد الطلاب الأوربيين الذين يقبلون بعد حصولهم على شهادة الباكلوريا (أو الثانوية العامة)، على الدراسات النظرية الطويلة الأمد، وتفضيلهم عليها الدراسات التي تقدمها المعاهد المتخصصة في التسيير مثلا والتدبير والمحاسبة والإعلاميات وغيرها من التخصصات التي استحدثت لتصب في تعزيز المجتمع التقنقراطي وخدمة أغراضه والاستجابة لمتطلباته وأهدافه.

    أما عن المشابـهات الموجودة بين موقف هابرماس وموقف هايدغر من التقنية، فإنـها لا تعدو أن تكون مشابـهات سطحية بدليل النتائج التي توصل إليها كل واحد منهما، وبدليل موقف الأول من الثاني والذي عبر عنه في الصفحات التي خصصها له في كتابه: جوانب فلسفية وسياسية. إنه موقف واضح لا غبار عليه، يقرأ هايدغر قراءة سياسية لا تغفل ماضيه وقراءة فلسفية تقليدية تريد "التفكير بها يدغر ضد هايدغر".[25]

    تجدر الإشارة أيضا إلى أن نقد هابرماس للوضعانية يخلط بين الوضعانية المنطقية والفلسفة التحليلية والعقلانية النقدية لكارل بوبر فهو يجمع هذه الاتجاهات في سلة واحدة مهملا الفروق بينها والتحولات التي عرفها كل اتجاه خصوصا تجديدات بوبر وغيره والتي أعطت الوضعانية المحدثة نفسا جديدا جعلها تتحول معه إلى عقلانية نقدية. هذا في الوقت الذي ظل فيه الشغل الشاغل لـهابرماس هو التأكيد على أن الوضعانية المحدثة تستبعد الفهم باسم الحرص والحذر العلميين: لكن الحقيقة هي أن فلسفة العلوم لدى بوبر، مقارنة بمثيلتها لدى مدرسة فرنكفورت، أبعد مـن الوضعانية نتيجة ارتباطها، كمدرسة، بالتراث الفلسفي الميتافيزيقي الألماني[26]، أي بتراث حالم يضرب بجذوره عميقاني فلسفة التاريخ. ويعني هذا أن عقلانيتها لا تستجيب، في الحقيقة، لشروط العقلانية، لأن "العقل الكلي" لفلاسفة التاريخ هو، في نـهاية المطاف، لا عقلاني وقمعي يتخذ لنفسه رداء عقليا.[27]

    ولعل هذا التمسك بالتراث الفلسفي الميتافيزييقي الألماني هو ما يفسر لنا لم دخل هابرماس في سجال وحوار مع فلاسفة الاختلاف، فرغم دعوة هؤلاء إلى ما بعد الحداثة، فهو يعتبرهم جزءا من هذا الذي ينادون بالخروج منه ومظهرا من مظاهره. ومهما كانت مشاكل الحداثة، فإن ذلك لا يبيح، في نظر هابرماس، الانسحاب منها أو الاستسلام أمامها ؛ لأن ذلك يعني انسحاب الفلسفة من زمنها. وهو يعتبر التخلي عن العقل والعقلنة مظهرا من مظاهر ذلك الانسحاب وعزوفا عن الاستمرار بالمشروع الفكري الأنواري. وهذا ما يفسر في اعتقاده افتقاد ما بعد الحداثيين إلى أي تصور مستقبلي.

    كان من الصعب على هابرماس أن يلتقي مع فلاسفة الاختلاف أو أن يشاطرهم آراءهم ومقدماتهم والنتائج التي اهتدوا إليها رغم أنه يعتبر نفسه جزءا من ما بعد الحداثة الفكرية. وصعوبة اللقاء تعود اولا إلى الموقف من العقلنة، لأنهم يرون فيها مصدر معاناة وسبب قلق وجودي يعيشه الإنسان الحديث، بحكم أن هذه العقلنة اقترنت بآليات الدولة الحديثة وفرضت أنماطا أحادية البعد على الأفراد والجماعات. وفي هذا المستوى النقدي يلتئم العديد من الفلاسفة انطلاقا من نيتشه إلى هايدغر إلى فلاسفة الاختلاف وفلاسفة النظرية النقدية وفوكو…

    غير أن ما يعيبه هابرماس على هايدغر وفوكو ودريدا، هو أنهم يركنون إلى خيار جذري في نقد العقلنة دون التمييز بين ما هو أداتي ذرائعي منتج للاستلاب والتشيؤ، وما ساعد على تحرر الإنسان من عبودية الطبيعة والأشياء، فنقد العقلانية الذرائعية الأداتية ضرورة ما بعدها ضرورة، لكن شريطة أن تكون أداة النقد قادرة على ممارسة النقد على ذاتـها.[28]

    السبب الثاني لعدم إمكانية الالتقاء، اهتمام هابرماس بمسألة التواصل وتأكيده على أخلاقية التواصل، في وقت اعتبر فيه فلاسفة الاختلاف هذا الأخير عنصرا مؤسسا للنظام العام. هذا فضلا عن أن كل رغبة في سن أخلاقية للتواصل لا بد أن تحتكم إلى منطق سلطة ما وهو شيء لا ينسجم والقول بالاختلاف.[29]


    (*) ولد سنة 1929 بمديمة فرنكفورت بألمانيا.

    1 - J. Habermas, le discours philosophique de la modermité, Paris, 1988, p. 3.

    2 - صدر الكتاب باللغة الألمانية لأول مرة سنة 1968. نحن نعتمد الترجمة الفرنسية.

    J. Habermas, la technique et la science comme idéologie, trad. Franc. J. R. Ladmiral, Paris, 1973.

    3 - J. Habermas, Connaissance et intérêt, trad. Franc. Gérard Clémençon, Paris, 1976.

    صدر الأصل الألماني سنة 1968، وأعاد المؤلف طبع الكتاب سنة 1973 مرفقا إياه بتذييل هام. والنص الفرنسي الذي نعتمده هو نص الطبعة الثانية.

    4 - محمد نورالدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة، الدارالبيضاء، 1991، ص 7ـ8.

    5 - M. Horkheimer, Eclipse de la Raison, Paris, 1974, p. 68.

    6 - هربرت ماركوز، العقل والثورة، ترجمة فؤاد زكريا، بيروت، 1979.

    7 ـ نفس المصدر، ص 313.

    8 ـ نفس المصدر، ص 315.

    9 ـ نفس المصدر، ص 327.

    10 ـ نفس المصدر، ص. 327.

    11 ـ نفس المصدر، ص 334.

    12 ـ هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة ج. طرابيشي، بيروت، 1971، ص195.

    13 ـ نفس المصدر، ص 37.

    14 ـ نفس المصدر، ص 37.

    15 ـ نفس المصدر، ص 45.

    16 ـ نقس المصدر، ص 45.

    17 ـ نفس المصدر، ص 187.

    18 ـ نفس المصدر، ص 190.

    19 ـ نفس المصدر، ص 190.

    20 ـ للمزيد من الإطلاع على موقف ماركس من التقنية، انظر :

    Kostas Axclos, Marx penseur de la technique, 2 Vol. Paris, 1961.

    21- M. Horkheimer, Th. Adorno, la dialectique de la Raison, Paris, 1974.

    22 ـ محمد نورالدين أفاية، مصدر آنف، ص 62.

    23 - J. Habermas, la technique et la science comme idéologie, P. 3.

    24 - Ibid., p. 5.

    25 - Ibid., p. 9.

    الملاحظ أن هابرماس يتابع هنا ماركوز في كتابه : الإنسان ذو البعد الواحد، ص 190 ـ 191.

    26 ـ نشر النص الألماني في لاهاي سنة 1954ن وترجم إلى الفرنسية سنة 1962 بعنوان :

    Ed. Husserl, La Crise des Sciences Europèennes et la Phénomènologie transcendantale, trad. G. Granel, Paris, 1962.

    27 - J. Habermas, Op. Cit., p 11.

    28 ـ ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ص 192.

    29 - J. Habermas, Ibid., p. 13.

    30 - Ibid., p. 15.

    31 - Ibid., p. 59-60.

    32 - Ibid., p. 71-72.

    33 - J.Habermas, Profils philisophiques et politiques, trad., F. Dastur, J-R Ladmiral, M. de Lawnag, Paris, 1974, p. 44.

    34 - Ibid., p. 31.

    35 - J. Habermas, Connaissance et intérêt, p. 223.

    36 - Ibid., p. 230.

    محمد نور الدين افاية، مرجع آنف، ص ص 67 ـ 68.

    37 ـ نفس المرجع، ص 69.

    38 - J. Habermas, Profils philosophiques et politiques, pp. 87-119.

    39 - H. Albert, La sociologie critique en question, Paris, 1987, pp. 119-120

    40 - Ibid., p. 202.

    41 ـ محمد نورالدين أفاية، مرجع آنف، ص ص 257 ـ 258.

    42 ـ نفس المرجع، ص 258.
                  

10-14-2004, 06:43 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)


    آفاق ما بعد الحداثة، أم ما قبل الحداثة ؟!

    [تعقيب على مداخلة للدكتور عبدالله الغذامي].*

    نجيب العوفي

    الدكتور عبدالله محمد الغذامي، صاحب هذه المداخلة الشائقة والشائكة في آن، صوت طليعي ومتمرس، حملته إلينا ريح الصبا من قلب البلاد العربية، فيما يشبه المفاجأة السارة، ليشد أسماعنا إلى شدوه الأدبي والنقدي، واجتهاده النظري والمنهجي في مجال تشريح النصوص وفقهها، منذ كتابه المتميز (الخطيئة والتكفير) إلى كتابه الأخير لا الآخـر (ثقافة الأسئلة)، مرورا بجملة تآليفه الأخر ودراساته الدورية المبثوثة هنا وهناك. هو صوت يجمع بين الثقافة العربية الأصيلة التي نـهل من معينها القراح دون أن ينكفئ عليها، والثقافة الغربية الحديثة التي خاض غمارها دون أن ينجرف في تيارهـا أو يقع في إسارها. أي يجمع بين حد الأصالة وحد المعاصرة في توليفة سوية وبـهية، مجسدا بذلك نموذج المثقف العربي المتفتح الذي يشرع نوافذه للرياح اللواقح، دون أن يقتلع من مكانه أو يغيب عن زمانه، حسـب المقولة الغاندية الأثيرة لدى الباحث.

    هذه شهادة تقديرية وأولية لا مناص من الإفضاء بـها في حق الرجل، دون محاباة أو مَـيْن، وضعا للحق في نصابه واعترافا بالجميل لأصحابه.

    ومداخلة الدكتور الغذامي الـمُـمَحْورة على (آفاق ما بعد الحداثة)، تبدو حافلة بالنقاط الخلافية والبؤر الحساسة والساخنة. وهذا دليل على جراءتـها وخصوبتها وعمـق أسئلتها. وما إِخَالُ الدكتور الغذامي إلا فاسحا صدره للرأي الآخر و"النص المضاد"[1]، وهو الحداثي بامتياز، والمدافع عن "ثقافة الأسئلة"[2] بمَنْأى من أي تزمت أو تعنت. وفي الاختلاف رحمة كما قيل. كما أن الاختلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية، كما قيل أيضا.

    والباحث يفتتح مداخلته قائلا :

    "ولسوف تكون ورقتي هذه بمثابة الأسئلة حول عنوان الورقة المقترحة، وربما أقول إنني أكتب ضد الورقة وفي مواجهة العنوان".

    وبدوري ستكون ورقتي التعقيبية هذه، بمثابة الأسئلة المركبة على الأسئلة أو المرتبة عنها. ولربما قلت أنا أيضا، إنني أكتب ضد الورقة المضادة. فنحن إذن عازفان على الوتر التساؤلي ذاته، معزوفتين مختلفتين، إلى هذا الحد أو ذاك. وليس كالتساؤل والـمُـساءلة، واقْتِداح أَزْنِدَتهما، مدخلا إلى معرفة والإحاطة بالصفة. ولا يشفي غليل السؤال إلا السؤال.

    وستكون أسئلتي متدرجة وفق الوتيرة التي سارت عليها أسئلة المداخلة وتنامت عبرها، وذلك من باب حذْو النعل بالنعل أولا، وحفاظا على الخيط المنهجي الناظم ثانيا.

    1 ـ انطلاقا من استراتيجية التشريح والتفكيك التي يتبناها الباحث في معظم تحاليله وقراءاته، يعمد بادئ ذي بدء، إلى تفكيك العنـوان المقترح (آفاق النقد الأدبي في دول مجلس التعاون) ومجابـهة سلطته الاصطلاحية والمفهومية . وهو تفكيك يذهب إلى فك الارتباط بين حدي هذا العنوان وفصم العروة النحوية والدلالية التي تشدهما . يقول في هذا الصدد :

    "إن أول ما سأفعله بهذا العنوان هو استبعاد كلمات (في دول مجلس التعاون) ذلك لأنـها شبه جملة وليست جملة، وكأنما هي شبه حقيقة وليست حقيقة (…) ولذا فإنني سأخلص العنوان من قيد فكري وإيديولوجي ليس له من معنى سوى كونه سلطة اصطلاحية تفرض نفسها في لحظة غياب الأسئلة".

    وهو إذ يخلص العنوان من هذا القيد الفكري والإيديولوجي، حسب تعبيره، يجهز على المرتكز الجغرافي والتاريخي لأشغال هذا الملتقى بضربة لازب، من حيث أريد له أن يتحدد ويتحيز في الزمان والمكان واللسان، أي (في دول مجلس التعاون) ويقوم ، بدل ذلك، بتعويم وتـهويم آفاق النقد الأدبي في عراء الزمان والمكان واللسان . هذا من جهة. ومن جهة ثانية وتالية، فإن الباحث إذ يخلص العنوان من قيده الفكري والإيديولوجي يقع، من حيث يحتسب أولا يحتسب، في قيد فكري وإيديولوجي آخر ومضمر. لأن نفي "الإيديولوجي" في التحليل الأخير، هو ضرب من الإيديولوجيا، مموه وملـفَّح. وقراءته لمنطوق ومفهوم العنوان، لذلك، ليست "بريئة" أو محايدة، إن لم نقل إنـها "آثمة" و"ماكرة"، بالمعنى الإيديولوجي تحديدا. ومن جهة ثالثة، فإن شبه الجملة التي أسقطها البـاحث من الاعتبار، (في دول مجلس التعاون)، توقع العبارة الأولى (آفاق النقد الأدبي) في المحذور ذاته، وتناوح بـها عند حدود شبه الجملة. ولا يكتمل العنوان ويستقيم أوده، إلا بالتئام حديه والتحام شقيه، كما هو منصوص عليه في الورقة المقترحة.

    2 ـ بعد مواجهة العنوان وقص أحد جناحيه للاستفراد بالأول (آفاق النقد الأدبي)، يعقد الباحث مواجهة ثانية مع مصطلح (الأدبي) ليحرره من القيود الذهبية التي ارتسف فيها عبر العصور، وينضو عنه تلك الأقماط السميكة التي حاكتها له المؤسسة الثقافية الرسمية، ويطلقه من عنان، ليحاذي ضفافا وهوامش رحيبة وخصيبة كانت تعتبر بعيدة عن الشرعية الأدبية، وكان ينظر إليها، لذلك، بتعال واستخفاف. في حين أن الـهامشي والثانوي أكثر حيوية وفاعلية من المركزي والرسمي. يقول الباحث في هذا الصدد :

    "إننا نجنح إلى جعل الأدبي في الجليل والمعلن والمقبول تقليديا، وننسى الحقير والمستور والمهمش وقد يكون ذلك مقبولا لو أنه الجليل هو وحده الفاعل والمؤثر في الناس، ولكن الأمر يصبح خطـيرا إذا ما اكتشفـنا أن المحتقر لدى المؤسسة الثقافية الرسمية هو الفاعل والمؤثر في جماهير الناس".

    ولا مراء في أن الباحث يصدر في هذا الحكم، عن مفهوم حداثي وديمقراطي للأدب، ينفي التفرقة بين الرفيع والوضعي ويلغي الحواجز الجمركية بين أشكال التعبير وأنماطه، ويهتدي ضمنيا بـهَدْي وطروحات الرومانسية الألمانية والشكلانية الروسية من جهة، وتنظيرات ومقاربات البنيوية والسيميولوجيا من جهة ثانية. وهي اتجاهات ومنازع عملت سوية على تـهوية وتفضية مفهوم الأدب Littérature والأدبية Littérarité وجعل الأدب، كما قال موريس بلانشو "لا يقبل التفرقة بين الأنواع، ويرمي إلى تحطيم الحدود".[3]

    إلى هنا، نحن متفقون من حيث المبدأ، مع باحثنا الألمعي على أن مفهوم الأدب لم يعد مقصورا وحكرا على الجليل والسامي والرسمي، وأن خارطة نفوذه قد تراحبت واغتنت باللغات والأشكال والأنواع، وانفتحـت على الضفاف والحواف. أي أن مفهوم حديثا للأدب بدأ يسد مسد المفهوم الكلاسيكي ويفيض عنه.

    بيد أن الباحث الكريم، إذ هو يعيد الاعتبار للهامشي وينزع عنه وصمة الصغار والدونية، كان يعلي من شأنه ويرفع من وزنه على حساب الأدب الذي سماه رسميا ونخبويا ومتعاليا. يقول في سياق حجاجه وسجاله :

    "… وسيكون الأدبي عندنا اجترارا نخبويا معزولا ومتعاليا تعاليا ادعائيا واهما.

    وإن كان للعرب من ديوان في السابق، فلا بد أن صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها، ومنها الأغنية والنكتة، ومنها ممارسات المجتمع في عاداته وأعرافه وحكاياته وطرائق معاشه في اللباس والتبادلات السلوكية، ومنها وجوه المتعة والتنفيس الجماهيري في الألعاب، خاصة ما هو طاغ منها ومهيمن مثل كرة القدم."

    هنا يضعنا الباحث تجاه أحكام قيمة وصفات قادحة تغمز من قناة الأدب الرسمي ـ المكتوب، من قبيل الاجترار النخبوي المعزول والمتعالي تعاليا ادعائيا واهما. وهنا يضعنا أيضا، تجاه مفهوم فضفاض جدا وزَلِق جـدا للأدب، ينفتح به على "امبراطورية العلامات" الشاسعة، حسب تعبير رولان بارت، بما في ذلك معارض الأزياء، وموائد الطعام، وملاعب الكرة..

    والأخطر من هذا، هو أن تكتسح هذه المظاهر السلوكية وهذه الفنون الشعبية المشهد الثقافي العربي، فتزيح الشعر عن سدته وهو ديوان العرب والذروة والسنام من إبداعهم الأدبي. لماذا ؟! لأن "صفحات هذا الديوان قد تبدلت وجرى طمس الشعر فيها لتحل محله فنون أخرى مازلنا غافلين عنها".

    ولقد تبدلت صفحات هذا الديوان لا محالة، بفعل تعاقب الليل والنهار، لكن جذوة الشعر فيها ما تزال متوهجة ومتجددة، لا يخبو لـها ضرام. ولاشك في أن مفهوما فضفاضا وزلقا للأدب، كالذي يطرحه الباحث، لا بد من أن يفضي إلى ضرب من الخلط والالتباس بين الأدب "الرسمي" والأدب الشعبي، وبين الأدب بمفهومه العام والأدب بمفهومه الخاص.

    وفي ثقافات كل الشعوب، القارئة والكاتبة، ثمة حدود مائزة بين الأدبين، وإلا اختلط الحابل بالنابل، واستوى الطالع والنازل. وكأننا بذلك، نستبدل سلطة بأخرى، نزولا عند الشعار المعروف (الجمهور عاوز كده !).

    3 ـ تأسيسا على ما سبق وتتويجا له، يعقد الباحث مواجهة ثالثة مع مصطلح (النقد)، في مساق مواجهته التفكيكية للثوابت واليقينيات، لأن "تحرير مصطلح (الأدبي) من شرط الرسمي والجليل والبليغ، سوف يحرر مصطلح النقد أيضا من هذه الشروط القسرية والتقليدية". كيف ذلك ؟!

    يقول الباحث "يجب تحرير النقد من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأن المكتوب ويقلل من شأن الملفوظ ويقصر الفنيـة على الرسمي ويتعالى على الشعبي، ويكبر من الفردي ويهمل الجماعي".

    ويستطرد شارحا وخالصا إلى النتيجة المبتغاة : "فإذا ما تحررت مادة النقد من جهة وأداته من جهة ثانية، فإن ذلك سوف يكسر الجدود المفروضة ويفتح آفاق النقد على المدى الثقافي والمعرفي، ويضع النقد في حوار متفاعل مع المؤثرات القائمة فعلا في الوجود البشري".

    هنا أيضا، يخضع مفهوم (النقد) لعملية تعويم إبيستمولوجية، تفيض به عن تخوم تخصصه وحقله، لينداح طليقا عبر المدى الثقـافي والمعرفي الرحب، حيث تتكسر الحدود والأسْيِجة المفروضة وتتفاعل المؤثرات المختلفة في الوجود البشري. ويبحر النقد، من ثم، في أرخبيل متعدد الجزر والاتجاهات.

    وإذ يتحرر الأدبي من شرط الرسمي والجليل والبليغ، يتحرر معه النقدي أيضا وبالنتيجة، من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأنه المكتوب. والشرط البلاغي بالضبط، هو الذي يخصص ويميز اللغة الأدبية عما سواها من اللغات، سواء بمقاييس البلاغة القديمة أم الجديدة، أي علم الأسلـوب أو الأسلوبية. واللغة الأدبية الفصيحة أو "الرسمية" حد تعبير الباحث، كانـت وما تزال هي موضوع النقد الأدبي ومادة اشتغاله كخطاب واصف أو قول على قول، وإلا لما علقت ولصفت به صفة "الأدبي" بحال. والتحـرر من الشرط البلاغي والشرط الكتابي في وضع حساس وفسيفسائي كوضعنا، هو في آخر المطاف، تحرر من شرط اللغة العربية ذاتـها التي من أخص خصائصها البلاغة والشعرية، تجريان منها مجرى النُّـسغ. وهذه اللغة هي مساك الـهوية العربية، وهي طوق نجاتنا المتبقى في خضم هذا اليم الكوني اللُّـجّى الفاغر أشداقه للابتلاع والاقتلاع.

    وليس هذا النفث صادرا عن تلك النـزعة المتحجرة الأرثوذوكسية أو الإيديولوجية التي يشجبها الباحث على امتداد كتاباته، بقدر ما هو صادر عن جدل التحدي والاستجـابة، والالتحام والانقسـام، والبقاء والفناء. وهذا من قبيل البدهيات والمسلمات، والثوابت واليقينيات، التي لا يختلف فيها، فيما أظن، اثنان عربيان، ولا يصح في الأفهام شيء، إذا احتاج النهـار إلى دليل.

    4 ـ نأتي هذا إلى بيت قصيد المداخلة و"مربط الفرس" فيها، وهي الحداثة وآفاق ما بعد الحداثة، وفق صيغة العنوان.

    والدكتور الغذامي، للتذكير، هو أحد فرسان الحداثة البواسل والقلائل، الذين حملوها هما وسؤالا أكثر مما حـملوها يافطـة وشعارا، على امتداد رحلته الأدبية الدؤوب. ومداخلته هذه تنصب في صميم همومـه وشواغله، وتزودنا بجديد من عنده، حول مسالة الحداثة وما بعدها. يقول في هذا الصدد :

    "نحن في مرحلة (الـما بعد) : ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العصر الصناعي.

    وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي، ومن ثم هي (حالة) انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لم تعد الحداثة كافية للإجابة عنها".

    وما سأقوم به هنا بالضبط وبإيجاز، هو (مواجهة طغيان المصطلح)، مصطلح الحداثة، (وذلك بتشريح هذا المتسلط وإغراقه بالأسئلة)، حسب تعبير ومسلك الباحث نفسه.

    وأول ما يستدعي التشريح والمساءلة في الفقرة الآنفة، هو هذا الضمير النحوي الجمعي (نحن في مرحلة ما بعد الحداثة). ترى على من يعود وينسحب على وجه التحديد؟

    نحن هنا إزاء احتمالين :

    فإذا كان الباحث يتحدث من موقع المركزية الغربية بقطبيها الأوروبي والأمريكي، والأمر ليس كذلك، فإن ما قاله صحيح تماما. لأن هذه المركزية تعيش فعلا وقولا، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الكولونيالية (!)، وما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي. وخطاب الغرب وواقعه شاهدان على ذلك.

    وإذا كان الباحث يتحدث من موقع المحيط العربي الغارق في مشاكل الـهوية والمصير، والأمر كذلك، فإن قول الباحث يبدو مجانفا للواقع، أو على الأقل يحمل هذا الواقع، ما لا يحتمل، ويرى فيه ما لا يمتلك. لأن هذا الواقع، ببساطة، ما يزال يتحسس خطاه نحو عالم الحداثة ويَشْـرَئِبُّ صوْبـَها، من خلال تجربة النهوض والسقوط، والإقدام والإحجام.

    ولقد أتى علينا حين من الدهر ليس بقصير، كانت فيه مقولة (الحداثة) هي المعزوفة الأثيرة والجهيرة التي تتردد على الألسن والأقلام وما تكف عن الترداد، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج.. ولكن للأسف، خرجنا من المزاد بلا زاد. وفي ظني أن الجدل الذي ثار نقعه حول إشكالية الحداثة والاشتجار الفكري والنقدي والإبداعي حول أسئلتها، في سياقنا العربي، هما على حد تعبير لويس بورخيس "كالعراك الذي يجري بين أصلعين من أجل مشط !".

    لماذا ؟!

    لأن (الحداثة)، كانت واحدة من المقولات التي ارتحلت إلينا من الشط الآخر، دون أن نقوم بتكييفها وتمثلها وتبْـيِـئتها، حد تعبير إدوار سعيد ولأن التربة لم تكن مهيأة لغراسها والبـُنى التحتية لم تكن ملائمة لاستقبالـها. أي أننا، وخلافا لما ذهب إليه الباحث، لم نجز بعد العصر الصناعي، ولم نتخط لحظة البنيوية ولا الحداثة، ولم نتخلص من ربقة الكولونيالية، ولم نصل إلى حالة الانكسار المعرفي. أي أننا، بعبارة، لم نجد بعد أجوبة شافية لأسئلتنا القديمة المزمنة. الشيء الذي يجعل حداثتنا في نـهاية التحليل، حداثة لُـوغوسية، نظرية وفوقية، أكثر مما هي حداثة أميريقية وقاعدية. والشيء الذي يدعونا تاليا، إلى التفرقة والتمييز بين الحداثة Modernité والعصرية Modernisme وفق مقاربة هنري لفيقر.

    ذلك أن العصرية "هي الوعي الذي تكونه عن نفسها العصور والحقب والأجيال المتتالية. فالعصرية بذلك تتمثل في ظاهرات الوعي وفي العصور وإسقاطات الذات، وفي التمجيدات المصنوعة من أوهام كثيرة ونفاذ محدود إلى لب الأمور".

    أما الحداثة فهي "تفكير بادئ وتخطيط أولي تتفاوت جذريته، للنقد والنقد الذاتي. إنـها محاولة للمعرفة… إننا ندرك الحداثة داخل مجموعة من النصوص والوثائق تحمل بصمة عصرها، ولكنها مع ذلك، تتعدى الدعوة إلى الموضة والجديد".[4]

    ونحن، كعرب، نعيش العصرية Modernisme باعتبارنا أبناء لـهذا العصر، نتنفس هواءه ونساوق تياره وأنواءه. ونعيش الحداثة Modernité كمقولة ثقافية تطوف بالذهن وأشواق حرَّى تخالج الوجدان. أي نعيشها كمناخ للوقت L’air de temps حسب التعبير الفرنسي، ليس إلا.

    ومن ثم، فإن السؤال الأساس الذي يواجهنا ويبادهنا في تصوري، ليس هو سؤال (ما بعد الحداثة)، بل هو سؤال (الحداثة) ذاتـها.

    هل ثمة حداثة عربية فعلا، وسط طوفان الحداثة الغربية الكاسح؟!

    إن السؤال بصيغته هذه، يتضمن قلقه ومأزقه، كما يتضمن إحساسا ضاغطا بضرورة إعادة النظر في مقولة الحداثة، والتشريح النقدي لحقائقها وأوهامها، والرصد اليقظ لأسئلة ما بعد الحداثة، كما تتجلى أساسا عند الآخر، في الغرب، مع الإصغاء العميق لخوالج الذات ومواجعهـا، وذلك لأجل الخروج العربي من أفق ما قبل الحداثة، والدخول الفعلي في أفق الحداثة، بعد استكمال العدة والعتاد وتـهيئ التربة للغرس والحصاد، كيـلا تتحول الحداثة، كما قال جان بودريار، إلى مجرد بلاغة "تنتشر وسط التباس تام داخل مجتمعات العالم الثالث، لتعوض عن التأخر الحقيقي وعن غياب التنمية".[5]

    والحداثة، كما نعلم، هي قرينة وثمرة العلم الحديث في أعلى مستوياته وآخر ابتكاراته. وفي عرض بولين ماري روزيفو، الذي استنـد إليه الباحث لرصد ونقد حالة الانكسار المعرفي الذي تسبب في النقلة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، تشكل مقولة (العلم الحديث) اللازمة المتكررة في النقاط الخمس التي تعرضها الباحثة كمفاصل لنقد الحداثة ومداخل لما بعد الحداثة. والعلم الحديث بالضبط، في عالمنا العربي، هو ذلك المفقود المنشـود. هو ذلك الذي يأتي ولا يأتي.

    فكيف تُـرى، تكون حداثة بدون علم حديث ؟! لكن للسؤال، عند باحثنا الكريم الدكتور الغذامي، صيغة أخرى. يقول في ختام مداخلتـه: "والسؤال الآن :

    هل نستسلم للغرب في نقلاته السريعة… أم نتوقف عند الحداثة لنشبع نـهمنا منها أولا ثم ندخل ـ بعد ذلك ـ في حفلة الترف الفكـري الغربي ؟!".

    ويأتي الجواب من عنده، حاسما كالتالي :

    "إننا نحن اليوم في غمار عصر (ما بعد الحداثة). إننا فيه، في داخله وفي روحه وفي لغته، ولا معنى لطرح أسئلة زائفة لا تقوى على تقرير شـيء. والأجدر بنا هو أن نحث الخطى في مجاراة مخلصة للعصر وأن نزيـد من خطانا ونضاعف منها، فلعل ذلك يساعدنا على الوصول إلى الصفـوف الأولى في سباق الفكر والمعرفة".

    وأعتقد أن مسلكا كهذا، سيجعلنا دوما في الصفوف الخلفية، من حيث نريد الـهروب إلى الأمام. لأن "المجاراة" غير "المباراة". والمباراة هنا وإن تمت، غير متكافئة وغير عادلة. ولأننا ببساطة جارحة لنرجسيـة الذات، نعيش على هامش الحداثة، لا في غمارها وداخلها وروحها ولغتهـا. ولا يخفف من هذا الواقع المر قـول الباحث، بعدئذ، إننا "نستطيع أن نستغل ظروف التغيير لصالحنا"، فهو من قبيل الطموح النبيل والتمني الجميل.

    وما كل ما يتمنى المرء يدركه

    تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

    ونستطرد مع المتنبي العظيم، فنقول بلسانه الحكيم :

    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

    إن السفينة لا تجري على اليبس.

    والسؤال مرة أخرى وأخيرة، هو كيف ننقل سفينة حداثتنا من اليبس إلى الماء، وكيف نقيها خطر الأمواج والأنواء ؟!

    وتحية شكر وتقدير للباحث المقتدر الدكتور عبدالله محمد الغذامي، الذي استثار لدينا هذه الشجون الفكرية، وأغرانا بهذا الشغب النقدي، مستحضرين، كمسك ختام، تلك القولة المأثورة لابن تيمية في تعقيبه على ابن حزم "وأبو محمد كبير عندنا، ولكن الحق أكبر منه".



    * مداخلة ساهم بـها الغذامي في ملتقي خاص بالنقد الأدبي في الخليج.

    1 ـ عنوان كتاب للدكتور الغذامي.

    2 ـ عنوان كتاب آخر له.

    3 ـ عن، الأدب والغرابة، لعبدالفتاح كيليطو، ط. 1 ـ 1982، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. ص 19.

    4 ـ اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، لمحمد برادة، مجلة فصولـ المجلد الرابع ـ العدد الثالث، 1984. وملاحظة هنري لوفيقر، مستقاة من كتابه السجالي / مدخل إلى الحداثة.

    Introduction a la modernité, p. 169.

    5 ـ المصدر السابق، ص 16.
                  

10-14-2004, 06:45 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)


    التحولات الفكرية الكبرى للحداثة

    مساراتـها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية

    محمد سبيلا

    يشكو العديد من الدارسين من غموض معنى الحداثة، ومن تعدد وعدم تحدد مدلولاتـها. وإذا كان هذا الغموض والالتباس يرجع في جزء منه إما إلى غموض ذهني، أو إلى غياب العناء الفكري اللازم أحيانـا، أو إلى سوء نية مسبق ضد الحداثة، فإن أحد أسباب هذا الغموض هو كون هذا المفهوم حضاريا شموليا يطال كافة مستويات الوجود الإنساني حيث يشمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية، وأخرى سياسية، وإدارية واجتماعية، وثقافية، وفلسفية الخ...

    مفهوم الحداثة هذا أقرب ما يكون إلى مفهوم مجرد أو مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الأكبر بينها جميعا. وبمجرد انتهاج طريق هذا النموذج الفكري المثالي، فإن الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث. فالمفهوم الأول، يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين المستويات المذكـورة، منظورا إليها من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولا جدليا وتاريخيا منذ البداية من حيث إنه لا يشير إلى القسمات المشتركة بقدر مـا يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلى طابعها التحولي.

    وعندما يختار المرء الدخول إلى هذا الموضوع من الزاوية الأولى، زاوية الحداثة، فإنه يجد نفسه محكوما بضرورة الاهتمام بالثوابت والقواسم والسمات المشتركة، مهملا الخصوصيات ومظاهر التباين، كما يجد نفسـه مدفوعا إلى عدم التركيز على الوقائع والأحداث والتواريخ والفواصل، موليا الاهتمام الأكبر للمنحنيات العامة في كل مستوى.

    في هذه المحاولة سأحاول، قدر الإمكان، التركيز على التحولات الفكرية العامة للحداثة على كافة هذه المستويات، محاولا الجمع بين المنظـور البنيوي الذي يحاول تتبع السمات الأساسية للحداثة، والمنظور التاريخي الذي يحاول متابعة التحولات التدريجية والانفصالية أحيانا، التي تطال هذه السمات نفسها.

    كما سأحاول أيضا، من خلال تتبع التحولات الفكرية الكبرى المصاحبة للحداثة، التمييز قدر الإمكان بين مستويين في هذه التحولات الفكرية : المستوى الإبستيمولوجي والمستوى الفلسفي، وذلك على الرغم من تداخل هذين المستويين وتشابكهما إلى حدود كبيرة.


    1 ـ في المعرفة


    تتميز الحداثة بتطوير طرق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من "المعرفة" التأملية إلى المعرفة التقنية. فالمعرفة التقليدية تتسم بكونـها معرفة كيفية، ذاتية وانطباعية وقيمية ـ فهي أقرب أشكـال المعرفة إلى النمط الشعري ـ الأسطوري القائم على تملي جماليات الأشياء وتقابلاتـها ومظاهر التناسق الأزلي القائم فيها.

    أما المعرفة التقنية فهي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتكميم. النموذج الأمثل لـهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية التي أصبحت نموذج كل معرفة. هذا النمط من المعرفة تقني في أساسه، من حيث إن المعرفة العلمية استجابة للتقنية وخضوع لمتطلباتـها. فالتقنية كما أوضح هيدجر ذلك ليست مجرد تطبيق للعلم عبر إرادة الإنسان، بل هي ما يحدد للعلم نمط معرفته المطلوب. فالعلم الحديث علم تقني في جوهره أي خاضع لما تقتضيه التقنية بالدرجة الأولى، أي التكميم منهجا وطريقة والتحكم والسيطرة غاية. ضمن هذا المنظور للمعرفة تكتسب مسألة المنهـج أهمية قصوى. فالمنهج، من حيث هو تنظيم وتحقيب لعملية المعرفـة، وطريقة في التناول تؤدي إلى تحقيق التقدم في المعرفة، وتقود إلى اكتساب القدرة على تملك الأشياء، يقود بالضرورة إلى إضفاء طابع تقني على المعرفة العلمية1.

    إن المعرفة الحداثية معرفة علمية بمعنى أنـها معرفة تقنية، أي في خدمة التقنية، وبالتالي فهي معرفة حسابية وكمية وأداتية همها النجاعة والفعالية وغايتها السيطرة، الداخلية والخارجية، على الإنسان وعلى الطبيعـة، أو بعبارة أدق إنها سيطرة على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان. وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها، بل يطال الإنسان والعلوم الإنسانية ذاتـها حين يختلط هم المعـرفة والتحرر بـهمِّ السيطرة والتحكم.

    عقل الحداثة عقل أداتي والمعرفة الحداثية معرفة تقنية بمعنى أنـها إضفاء للطابع التقني على العلم، لكنها بنفس الوقت ومن حيث هي إضفاء للطابع العلمي على العلوم الإنسانية والاجتماعية على وجه الخصوص، فهـي إضفاء للطابع التقني على الثقافة ككل. في هذا السياق تصبح أشكال المعرفة غير المنطبعة بالطابع العلمي، أي بالطابع التقني، أشكالا دنيا من المعرفة، ومن ثمة الـهجومات المختلفة، ذات النفس الوضعي، التقني، على الفلسفة مثلا، باعتبارها معرفة متجاوزة. فالمعرفة الحقة هي المعرفة العملية الاختبارية لا النظرية التأملية إذ أن الممارسة تحوز الأولوية القيمية والإبستمولوجية على النظرية2.وهذه المعرفة العلمية ـ التقنية لا تكتفي بالحط من قيمة الأنماط المعرفية الأخرى، بل تطال الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وإيديولوجيا بل إلى ميتافيزيقا أيضا. يصبح العلم ـ التقني ثقافة تحل محل الثقافة التقليدية وتكيفها بالتدريج، مؤطرة المجتمع العصري، مزودة إياه بمشاعر الـهوية والانتماء وبمعرفة وأخلاق. كما يتخذ العلم التقني مصدرا للشرعية السياسية أي نواة لإيديولوجيا سياسية. ولعل الديموقراطية، كتكنولوجيا سياسية، هي في أحد أوجهها تعبير عن هذا النوع الجديد، الدنيوي، من المشروعية القائمة على العلم كتقنية. بل إن هذا المركب المعرفي الجديد ينتزع بالتدريج صورة ميتافيزيقا أي تبشيرا بالأمل, ووعدا بالخلاص، ومصدرا واهبا للمعنى.


    2 ـ في الطبيعة


    الحدث الفكري الأساسي في تاريخ الفكر الغربي الحديث، هو نشوء ما اصطلح على تسميته بالعصر العلمي ـ التقني ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي. ويشكل منشأ هذا العصر الجديد تحولا أساسيا في النظر إلى الطبيعة. وقد كانت هذه الأخيرة في العصور الوسطى نظاما متكاملا يتسم بنوع من التناسق الأزلي الذي يعكس الحكمة العلويـة المبثوثة في كافة أرجاء الكون والمحققة لمظاهر كمالاته الروحية.

    هذا التحول المفصلي في تاريخ علم الطبيعة تمثل في الانتقال من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس مفتتحا الانتقال الحديث من العالم المغلق إلى الكون اللانـهائي. لكن النقطة الجوهرية في هذا التحول هي النظـر إلى الطبيعة كامتداد كمي هندسي وحسابي، وهو التحول الذي حدث مع غاليلو.

    لقد أصبحت الطبيعة امتدادا Rex extensa متجانس العناصر لا فرق ولا تميز بين مكوناتها ولا تخضع لتراتب انطولوجي كما كان الأمر في الفكر القديم والفكر الوسطوي. فالمكان عبارة عن وحدات أو نقط متجانسة، والزمان بدوره آنات متجانسة، مما مهد لقبول التصور الرياضي الميكانيكي للطبيعة، وهو التصور الذي يفرغ الطبيعة من أسرارها لينظر إليها ككم هندسي ممتد قابل للحساب وخاضع لقوانين الرياضة. فنـزع الطابـع الإحيائي السحري عن الطبيعة هو الوجه الآخر في النظر إليها من خلال مفاهيم رياضية تعتبر الطبيعة ـ كما قال غاليلو ـ كتابا مفتوحا بلغة المثلثات والمربعات والأشكال الهندسية.

    والعلاقة القائمة بين عناصر الطبيعة هي علاقات ميكانيكية وديناميكية خاضعة لقانون العلية. ويشكل هذا القانون نقلة نوعية في فهم العلاقة بين الظواهر لأنه ينتقل بـها من مستوى التفاعلات العضوية المحملـة بالأسرار والألغاز إلى تفاعلات القوى والكميات القابلة للرصد والحساب، أي من التصور العضوي والغائي إلى التصور الميكانيكي والديناميكي العلّي. والطريف في الأمر هو أن ليبنتس الذي صاغ وطور مبـدأ العلة (مبدأ العقل Principe de raison)، قد طور في نفس الوقت تصورا ديناميا غائيا للمادة والكون حين اعتبر أن طبيعة الأجسام ليسـت هي الامتداد بل القوة أي النـزوع والقدرة على الفعل ورد الفعل، كما ساهم في إرساء التصور الرياضي للطبيعة عندما اعتبر أن الله، وهو يمارس الحساب، يخلق أفضل العوالم الممكنة.

    وهكذا حول العلم الحديث الطبيعة إلى معادلات رياضية وأشكال هندسية أي إلى هياكل عظيمة فارغة كما يقول برتراند راسل3،أو إلى مجـرد مخزن للطاقة منذور لأن يتحول إلى موضوعات قابلة للاستهلاك، كما يقـول هيدجر4.

    وقد أبدى العلم الحديث منذ البداية تواضعا معرفيا جما إذ رسم لنفسه حدودا في فهمه للطبيعة. فهو لم يدع أبدا أنه يسعى إلى فهم الجواهـر والأشياء في ذاتـها، بل قصر مسعاه منذ البداية على محاولة فهـم الظواهر مركزا على ما هو قابل منها للرصد وللتعبير الكمي. ومن ثمة طغت روح النسبية على أحكامه ونظرياته، بل إن البحث العلمي اتسم في الأغلب الأعم بنـزعة مواضعاتية (conventionnaliste) واضحة.

    فالخطوات والاحتياطات المنهجية التي يلجأ إليها العالم هي نوع من الاختيار القبلي للموضوع، اختيار للمجال الذي يجب أن يظهر فيه الموجود، ولزاوية النظر إليه. فالموجود هنا –بلغة هيدجر- لا يظهر من تلقاء ذاته بل يرغم على الظهور وفق الخطاطات والتصميمات المسبقة وشبكات التأويل التي تخضعه لـها وتدرجه في سياقها5.



    3 ـ في الزمن والتاريخ

    إذا كان المسار الطويل الذي تدرجت فيه الحداثة في تصورها للطبيعة هو تبين أن كينونة الطبيعة تتمثل في الدينامية والآلية بدل الغائية، فقد وازى هذا التطور، فيما يخص تصور الزمن والتاريخ، تحول فكري قاد إلى إظهار أن كينونة التاريخ تتمثل في الصيرورة، أو بعبارة أخرى فإن تحول الكينونة إلى فعل وصيرورة ابتدأ في الطبيعة ثم سرى إلى التاريخ. فقد أصبـح التاريخ سيرورة Processus وصيرورة Devenir أي مسارا حتميا تحكمه وتحدده وتفسره عوامل ملموسة كالمناخ والحاجات الاقتصادية للناس، أو حروبـهم وصراعاتـهم من أجل الكسب، وكالصراع العرقـي، أو القبلي، أو المذهبي أو غيره. وبعبارة أخرى فإن غائية التاريخ بدأت تختفي وتتضاءللصالح الميكانيزمات الداخلية والحتميات المختلفـة التي تتدخل في تحديده تحديدا لا تعرف وجهته إلا من خلال مقارنة العوامل الفاعلة فيه. وبعبارة ليوستروس فقد أصبح التاريخ توسطا بين الواقع6والمثال، عبر حركة تطورية مستقيمة الاتجاه. فمثلما نـزع العلم عن الطبيعة طابعها السحري والإحيائي، فقد نـزعت المعرفة والممارسة الطابع الأسطوري عن التاريخ بنفي طابعه الغائي والنظر إليه باعتباره مجرد حركة تطورية مستقيمة تتحكم فيها عوامل داخلية قد تكون هي المحددات الاقتصادية (ماركس) أو التقنية أو السيكولوجية (فرويد) أو غيرها.

    وقد قاد ربط تطور التاريخ بعوامل تاريخية محددة وملموسة إلى تطور نـزعة تاريخانية ترجع كل شيء للتاريخ وتشرطه به لدرجة أنه تم وسم الحداثة بكونـها عبادة للتاريخ 7(Idolatrie de l'histoire)الذي أصبح هو المصدر أو المنتج الأساسي للمعنى.

    وقد واكب التحول في مفهوم التاريخ تحول آخر طال مفهوم الزمن. فقد تمثلت الحداثة للوعي الفلسفي في القرن الثامن عشر مع هيجل كفترة جديدة جدة راديكالية بالقياس إلى ما سبقها من عصور، وخاصة ابتداء من القرن الخامس عشر والأحداث الثلاث الكبرى التي راوحت حواليه : اكتشاف العالم الجديد، النهضة الأوربية والإصلاح الديني. وقد كان هيجل هو أول من طرح قطيعة الحداثة مع الإلـهامات المعيارية للماضي، التي هي غريبة عنها، طرحا فلسفيا8.

    يتميز زمن الحداثة بأنه زمن كثيف، ضاغط، ومتسارع الأحداث، فهو يعاش كمادة فريدة 9 (denrée rare) تتمركز حول حاضر مشرئب إلى الآتي. فالحاضر هو اللحظة التي يتم فيها انتظار الانتقال المتسارع لمستقـبل مختلف كلي. وهذا الحاضر، الذي تمثله في نظر هيجل الأنوار والثورة الفرنسية، يمثل "البـزوغ الرائع للشمس" الذي يقطع مع العالم القديم وينشئ عاملا جديدا كليا.

    يبدو إذن أن زمن الحداثة زمن متجه نحو المستقبل الذي يكتسب بالتدريج دلالات يوتوبية عبر تجربة تتنامى فيها بالتدريج المسافة بين الحاضر والمنتظر ، وتطغى على قاموسها مصطلحات التطور، والتقدم والتحرر والأزمة10.

    عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، فهو العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل، وينفتح على الجديد الآتي، وبالتالي لم يعد يستمد قيمته ومعياريته من عصور ماضية، بل يستمد معياريته من ذاته11،وذلك عبر تحقيق قطيعة جذرية مع التراث والتقليد.

    إذا كان الزمن التقليدي متمحورا على الماضي فإنه حتى عندما يشرئب إلى المستقبل، فهو ينظر إليه باعتباره استعادة إسقاطية للماضي في المستقبل، إذ أن الزمن في المنظور التقليدي يتميز بالحضور الكثيف للماضـي وبقدرته على تكييف كل الآنات الأخرى. أما زمن الحداثة فيتسم بالفاصل المتزايد بين "فضاء التجربة" و"أفق الانتظار"، وهو الفاصل الذي لا يني يتزايد باستمرار لدرجة تجعل البعد اليوتوبي مطالبا للمفهوم الحداثي للزمن. لكن الانتظارات والآمال التي يحملها زمن الحداثة تحمل بشائر المستقبل المنتظر حدوثه داخل خط الزمان نفسه عبر نقلات كميـة أو نوعية لا تقع خارج أفقه، وبذلك يمارس الوعي التاريخي الحداثي استدماجا مستمرا للانتظارات الكبرى البعيدة المدى، إما عبر التقنية أو من خلال الإيديولوجيات المحملة بالطوبي. ومن ثمة مجاسدة مفهوم التقدم للمفهوم الحداثي للزمن مجاسدة كمية وكيفية في نفس الآن. مما يكسب مفهومي التاريخ والزمن من جديد بعدا غائيا وإن كان تاريخانيا هذه المرة.

    يمكن أن نطلق على التصور الجديد للتاريخ والزمن اسم النـزعة التاريخانية وهي النـزعة التي بدأت تطال ـ بموازاة تبلور وتغلغل روح الحداثة ـ كافة مجالات الحياة الإنسانية، وعلى رأسها المجال السياسي الـذي تنطلق داخله دينامية تمايز واستقلال تدريجي عن المجال الديني، وتتبلور فيه شرعية جديدة قوامها استمداد السلطة لشرعيتها من الشعب، وتتطور فيه آليات جديدة للحكم قائمة على فكرة التعاقد، والانتخاب، والمراقبة، وفصل السلط، والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن السياسي.


    4 ـ في الإنسان


    تميز فكر الحداثة، وثقافة الحداثة بإيلاء الإنسان قيمة مركزية نظرية وعملية. ففي مجال المعرفة أصبحت ذاتية العقل الإنساني هي المؤسسة لموضوعية الموضوعات12. وتم إرجاع كل معرفة إلى الذات المفكرة أو الشيء المفكر Res Cogitaus أو الكوجيتو13.

    المفارقة الكبرى في تصور فكر الحداثة للإنسان هي أنه عندما يجعل الإنسان مركزا مرجعيا للنظر والعمل، وينسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية، ومحدداته العضوية الغريزية والسيكولوجية ودوافعه الأولية (الجنس، العدوان، البحث عن الربح، التغذية…)14.

    وهكذا تلتقي النظرة الحداثية للإنسان، من حيث هي إضفاء صبغة طبيعة على الإنسان، بإضفاء صبغة تاريخية على الطبيعة، وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ. والفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية والاجتماعية تنخرط في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية إلى الأنتروبولوجيا الإحيائية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى العلوم السلوكية المعاصرة.

    غير أن هذا التصور العقلاني للإنسان الذي بلوره فكر الحداثة الأوربية سرعان ما تعرض للمراجعة والنقد. فمقابل هذا التصور العقلاني للإنسان كذات مركزية، عاقلة وعارفة، مريدة وفاعلة، بدأ يتبلور خط فكري معاكس قوامه أن الإنسان ذات مشروخة ومشروطة، غير عارفة بذاتـها، وخاضعة لحتمية البنيات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية واللسانية والرمزية التي تحددها معا، ذات يداهمها اللاعقل والوهم والمتخيل من كل جانب. لقد أدت الثورات المعرفية الكبرى التي حصلت منذ نهاية القرن الماضي في الفكر الغربي (الثورة اللغوية، الثورة الإبستمولوجية، الثورة البنيوية، الثورة التاريخية) إلى فصل المعنى عن الوعي، والمعرفة عن اليقين، والمعنى عن التمثل، مبينة أن المعاني لا تصدر عن ذات سيكولوجية أو ترسندنتالية، وإنما تتولد في اللغة ومنظومات القرابة ومختلف المنظومات الرمزية، وأن الذات ليست فاعلا بقدر ما هي حصيلة مفاعيل15.وقد أطلق ريكور على هذا التوجه اسم فلسفة الوجس16.

    غير أن هذه المراجعات لم تمس جوهر التصور الحداثي للإنسان بل سعت فقط إلى تلطيف وتنسيب عقلانيته ووعيه بذاته وحريته وفاعليته.


    الحداثة والفاعل


    يمكن أن نميز، فيما يخص فواعل الحداثة بين الفواعل السوسيولوجية، والفواعل الفكرية. الصنف التفسيري الأول نجده لدى ماكس فيبر وكارل ماركس، والصنف الثاني نجد نموذجه لدى بعض الفلاسفة كهيجل وهيدجر.

    التفسير السوسيولوجي يرجع نشأة الحداثة إلى الدور الفاعل للمنشأة الرأسمالية والإدارة البيروقراطية كمؤسستين عقلانيتين، عقلنت أولاهما العملية الاقتصادية، وعقلنت الثانية نظام تسيير المجتمع. يرى ماكس فيبر أن هناك علاقة داخلية حميمية بين العقلانية والحداثة. وإذا كانت العقلنة اتخذت طابعا مؤسسيا منظما في الاقتصاد والإدارة، فإنـها مع ذلك عملية شاملة اكتسحت المجتمع الغربي كله. وقد أدت عملية نزع الطابع السحـري عن العالم إلى تفكيك التصورات التقليدية وتولد ثقافة دهرية من طلب المسيحية نفسها. وفي سياق هذه العملية تطورت العلوم التجريبية، واستقلت الفنون، وتشكلت دوائر الثقافة خاضعة لمعايير داخلية خاصة مرتبطة بالممارسة17. وبعبارة أخرى، وأخذا بتأويلات هابرماس لنظرية الحداثة عند فيبر، فإن العقلنة لم تقتصر على إضفاء طابع دنيوي على الثقافة، بل دفعت أساسا إلى تطور المجتمعات الحديثة. لقد تمايزت البنيات الاجتماعية الجديدة، وتباينت المجالات الثقافية متمحورة حول مركزين ناظمين ومنظمين لنمط الحياة الجديدة وهما النشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة، اللذين هما مركزان متنافذان من الناحية الوظيفية. وقد اكتسحت الأنشطة العقلانية بالقياس إلى غاياتـها في مجالي الاقتصاد والإدارة الحياة اليومية، وأشكال الحياة التقليدية، تلك التي كانت متمحورة حول التنظيمات الحرفية، وفككتها بالتدريج كبنيات وكثقافة18.ومن ثمة الأهمية القصوى والحاسمة لكل من الاقتصاد والسياسة في المجتمع الحديث.

    يربط ماركس نشأة الحداثة بالرأسمالية كنظام اقتصادي، وبالبورجوازية كقوة بشرية تحديثية. ففي "البيان الشيوعي" يكيل ماركس أعظم المدائح للبورجوازية من حيث أنـها "عندما استولت على السلطة وضعت حدا للعلاقات الإقطاعية والبطركية والعاطفية"، وأدخلت تغيرات ثورية على أدوات وعلاقات الإنتاج، "فهذه الانقلابات الثورية المستمـرة في أساليب الإنتاج، وهذا التزعزع غير المنقطع في النظام الاجتماعي بأسـره، وهذا القلق والاضطراب الدائبان، كل ذلك يميز عصـر البورجوازية عن العصور السالفة كلها". إن سائر العلاقات الاجتماعية المتوارثة، الجامدة المتجلدة، وما تجره وراءها من مواكب الأوهام والأفكار القديمة المبجلة تكنس وتندثر، أما التي تـحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل أن يصلب عودها. فكل ما هو صلب يتبخر، وكل ما هو مقدس، يدنس". بل إن "البورجوازية تجتاح الكرة الأرضية بأسرها، تحثها الحاجة إلى الأسواق الجديدة دائما". لقد أخضعت البورجوازية الريف للمدينة، وخلقت مدنا عظيمة، وزادت بصورة مفرطة سكان المدن على حساب سكان الأرياف وبذلك انتـزعت قسما كبيرا من السكان من بلاهة حياة الحقول.

    وقد خلقت البورجوازية قوى منتجة أكثر عددا وأعظم جبروتـا كما خلقت سائر الأجيال مجتمعة. فقد قامت بإخضاع قوى الطبيعة والآلات وتطبيق الكيمياء على الصناعة والزراعة والملاحة بالبخار، والسكك الحديدية، والبرق الكهربائي وعمران قارات كاملة، وحفر القنوات للأنهار. وفي عهدها اتحدت مقاطعات بكاملها بمصالحها وقوانينها وحكوماتـها وتعريفاتـها الجمركية المختلفة واجتمعت في أمة واحدة وفي مصلحة وطنية وطبقية واحدة وراء حبل جمركي واحد19.

    وعلى وجه العموم فإن المادية التاريخية ترجع التحولات الاجتماعية إلى التناقض بين علاقات الإنتاج القائمة وقوى الإنتاج الجديدة، إلا أن ماركس في هذا النص من "البيان" يسند إلى البورجوازية، بروحها الثورية الإدارية المغامرة، كل التحولات الكبرى التي شهدتـها أوربا بالانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، مما يجعل موقف ماركس في هذه المسألة مراوحا بين إيلاء الأولوية في التغيير للعنصر الإرادي البشري أحيانا وللعوامل البنيوية التقنية والاقتصادية أحيانا أخرى.

    هناك نموذج آخر للتفسير مختلف كليا نجده لدى كبار الفلاسفة الذين يرجعون التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات، وفي التاريخ البشـري عامة إلى تحولات فكرية وفلسفية, فهيدجر يرى أن المصادر التاريخية لثقافة ما أو لمجتمع ما يحدده مسبقا فهم كل ما يمكن أن يحصل في العالم20،وهو الفهم الذي يلزم ويوجه كل مجموعة بشرية إلزاما وتوجيها ضمنيا أشبه ما يكون بحتيمية قدرية مضمرة. وهذا الفهم المسبق تتضمنه الميتافيزيقا. فهي التي "تؤسس عصرا وتمنحه من خلال تأويل محدد للموجود، ومفهوم معين عن الحقيقة مبدأ تشكله الأساسي"21.وهذا قانون فلسفي يشمل كل العصور " فكيفما كانت الطريقة التي يتم بـها تأويل الموجـود، سواء كروح بالمعنى الوارد لدى النـزعة الروحية، أو كمادة وقوة بالمعنى الوارد لدى الاتجاه المادي، أو كصيرورة وحياة، أو كتمثـل، أو كإرادة، أو كقوام جوهري (Substance)، أو كذات فاعلة، أو كطاقة، أو كعود أبدى لذات الشيء، فإن الموجود يظهر كموجود على ضوء الوجود"22.وهذه الفكرة نجدها متداولة في الفلسفة الألمانية منذ هيجل الذي كان قد اعتبر تاريخ الفلسفة مفتاحا لفلسفة التاريخ كما أن تاريخ الغرب الحديث حسب هيدجر يجسد أساسه في تاريخ الميتافيزيقا الغربية، التي تشكل "التاريخ المخفي للغرب"23.

    وحتى إذا كان من العسير، من خلال المنظور الهيدجري، أن نرجع نشأة الحداثة إلى "فاعل"، لأن الأمر عنده يتعلق بتحولات قدرية في معنى الموجود وتصور الحقيقة، أكثر مما يتعلق بفعل فاعل، فإن ممن الممكن، من باب المجاز، اعتبار ديكارت (وكذا ليبنتس) هو بطل الحداثة ورائدها. علـى الرغم من أن هيدجر يتتبع جذور نشأة العقلانية الحديثة إلى التحول الذي حدث مع أفلاطون، والذي تجسد في الانتقال من الفيزيس إلى الايدوس. ففلسفة ديكارت تجسد هذا التحول الكبير الذي دشن مطلع العصور الحديثة وجعل الذات "مركزا ومرجعا للموجود بما هو كذلك. وذلك لم يكن ممكنا إلا بشروط تحول معنى الوجود كليا (…) إذ أصبح ينظر إلى الموجود في كليته على أنه لا يوجد حقا، ولا يكون موجودا إلا إذا كان محط تمثل وإنتاج (…). وأصبح يُبحث عن وجود الموجود ويعبر عنه في الوجود ـ المتمثل للموجود"24.

    يربط هيدجر إذن نشأة الحداثة بالحدث الفلسفي المتمثل في جعل الذات مركزا ومرجعا. لكن مضمون هذه الذات المرجعية هو العقل والإرادة، وهو كونـها عقلا حاسبا وحسابيا بالمعنى اللاتيني لكلمة Ratio. هذا العقل الحسابي ـ الأداتي ـ حسب تسمية رواد مدرسة فرنكفورت، يجد تعبيره في العلم كمنظور حسابي وكمي للأشياء المدركة والقابلة للاستعمال25،وفي التقنية كتحريض للطبيعة وإرغام لـها على أن تسلم طاقتها وتكشف أسرارها.

    يبدو من خلال استعراض المواقف المختلفة من مسألة فواعل الحداثة أنه حتى وإن اختلفت الفئات ومن ثمة المؤسسات التي يكل إليها المفكرون دورا مولّدا أو محركا للحداثة (الرأسماليون، الإداريون، المثقفون، الساسة، العسكر…إلخ) فإنه يكاد يكون هناك نوع من الإجماع على تبلور ثقافة عقلانية شكلت الأرضية الفكرية والإيديولوجية الحافزة على انطلاق مخاض الحداثة.


    السمات الفلسفية


    يربط العديد من الدارسين نشأة الحداثة بمبدأ الذاتية. وهذا المفهوم متعدد الدلالات فهو يشكل مضمون ما سمي بالنـزعة الإنسانية. ومن ثمة فهو يعني مركزية مرجعية الذات الإنسانية وفاعليتها وحريتها وشفافيتها وعقلانيتها. كان هذا المفهوم يحيل لدى هيجل على دلالات أخرى يوجـزها هابرماس في أربع دلالات ملازمة :

    1 ـ الفردانية، وتعني أن الفرادة الخاصة جدا هي التي لـها الحق في إعطاء قيمة لادعاءاتـها.

    2 ـ الحق في النقد، ويعني أن مبدأ العالم الحديث يتطلب أن على كل فرد أن يتقبل فقط ما يبدو مبررا ومقنعا.

    3 ـ استقلالية الفعل، فمن خصائص العصور الحديثة تهيؤها لتقبل ما يفعله الأفراد والاستجابة له.

    4 ـ الفلسفة التأملية ذاتـها، فمن خصائص العصور الحديثة كذلك عند هيجل أن الفلسفة تدرك الفكرة التي تجتاز وعيا بذاتـها26.

    يرى هيجل أن مبدأ الذاتية هذا بدلالاته المختلفة قد فرضته الأحداث التاريخية الكبرى : الإصلاح الديني، والأنوار، والثورة الفرنسية. فمع الإصلاح البروتستاني لدى لوثر أصبح الإيمان الديني مرتبطا بالتفكير الشخصي، وكأن العالم القدسي قد أصبح واقعا مرتبطا بقرارنا الشخصي. فهذا الإصلاح قام على التأكيد على سيادة الذات، وأبراز قدرتها على التمييز والاختيار باعتباره حقا من حقوقها، في حين كان الإيمان التقليدي قائما على ضرورة الإتباع والخضوع للقوة الآمرة للتراث والتقليد. كما أن الثورة الفرنسية وإعلان مبادئ حقوق الإنسان قد فرضت مبدأ حرية الاختيار، بمقابل الحق التاريخي المفروض، كقاعدة أساسية للدولة27.

    هكذا أصبح مبدأ الذاتية محددا في كل مجالات الفعل، ومحددا في كل أشكال الثقافة الحديثة. فالحق والأخلاق أصبحا قائمين على الإرادة الحالية الحاضرة للإنسان في حين أنـها كانت من قبل مدونة ومملاة على الفرد. كما أصبحت الذاتية أساس المعرفة العلمية التي تكشف أسرار الطبيعة بقدر ما تحرر الذات العارفة، فالطبيعة تصبح جملة قوانين شفافة ومعروفة من طرف الذات. وعلى وجه العموم فإن الحياة الدينية، والدولة، والمجتمع، وكذا العلم والأخلاق والفن تبدو جميعا كتجسيد لمبدأ الذاتية. هذا المبدأ الذي يظهر كذاتية مجردة في الكوجيتو الديكارتي أو الوعي الذاتي المطلق لدى كنط28.

    ومن زاوية أخرى فإنه يمكن القول بأن الأنشطة المعرفية في مجال العلم والأخلاق والفن كانت قد تمايزت واستقلت معاييرها الداخلية، كما أن دائرة المعرفة كما يقول هيجل، قد تمايزت عن دائرة الإيمان، وكل هذه الدوائر ظلت بمثابة تعبير عن مبدأ الذاتية29.

    السمة الأساسية الملازمة للذاتية هي العقلانية بمعنى إخضاع كل شيء لقدرة العقل التي هي بحث دؤوب عن الأسباب والعلل، ومن ثمة الارتباط الحميم لمبدأ السبب أو العلة بمبدأ العقل (Principe de Raison). وهذا المبدأعبرعنه لأول مرة ليبنتس في الصيغة التي تقول لا شيء بدون علة، وبفضله يصبح كل من الواقع الطبيعي والواقع التاريخي معقولا أو عقلانيا (أو قابلا للتفسير) بالنسبة للذات30.هكذا يصبح كل شيء ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏مفحوصا ‎‎‎‎‎ومفهوما بل ومحكوما من طرف العقل. وعبره يتحقق الإنسان من سيادته النظرية على العالم الذي يغدو شفافا وخاليا من الأسرار31.

    هذه العقلانية الحسابية الصارمة أو الأداتية سواء في مجال المعرفة العلمية والتقنية أو في مجال الإدارة والتسيير هي شكل من أشكال السيطرة والقوة، ومن ثمة ارتباط العقلانية بالسيطرة سواء تعلق الأمر بالسيطرة الكوكبية للتقنية المنفلتة من عقالها أو بالنـزعة الكليانية السياسية. إن العقلانية الأداتية سيطرت على الطبيعة عبر السيطرة على الإنسان، وسيطرت على هذا الأخير عبر السيطرة على الطبيعة بواسطة التقنية، فالحداثة في عمقها مشروع تندغم فيه بصورة رفيعة إرادة الهيمنة بإدارة التحرر.

    ترتبط بالعقلانية الأداتية وما ينتج عنها من سيطرة، سمة فلسفية أخرى أساسية تسم العصور الحديثة وهي غياب المعنى32،وانتفاء المقاصد الغائية الكبرى التي كانت تشد وتزين العالم التقليدي. فنتيجة اكتساح ثقافة الحداثة لكل القطاعات الاجتماعية، وعقلنتها لكل مستويات الوجود الاجتماعي هي خسوف المعاني الكبرى، أوبتعبير ماكس فيبر افتقاد العالم لسحره (Ent zauberung). ورغم أن هيدجر يستعمل مصطلحا آخر (Ent Gotterung) للتعبير عن نفس الفكرة فإنه يجمل في النهاية هذه السمة في لفظ العدمية، ويعني بـها افتقاد القيم العليا لقيمتها، وغياب الأهداف الكبرى، وانعدام الجواب عن السؤال البسيط: لماذا؟33والعدم المعني هنا حركة تاريخية أصيلة وليست رأيا لهذا الفرد أو ذاك وليس حتى ظاهرة تاريخية بين ظواهر أخرى، بل هو بالأحرى، في جوهره، الحركة الأساسية في تاريخ الغرب الحديث34.وغياب المعنى، الملازم للعصور الحديثة، ليس سمة منعزلـة، بل هو الوجه الآخر لانتصاب الذاتية معيارا، ولظفر العقلانية الأداتية التي تشكل "عالما مروضا"، ولانفلات العلم التقني، وتحوله إلى أداة سيطرة على الطبيعة والإنسان، لدرجة يبدو معها أن "غياب المعنى ناتج عـن الطابع النهائي الحاسم لبداية الميتافيزيقا الحديثة"35.

    ولعل النعوت التي تطلق على عصرنا هذا عصر الموضة، عصر الفراغ، عصر التفاهة والهشاشة (la médiocrité, l'ephemère) تعكس صدى هذه السمات المتحدث عنها، والتي وازت في نشأتـها تبلور مفهوم الحداثـة نفسه كما نجد ذلك لدى الشاعر الفرنسي بودلير الذي يعرف "الحداثة بأنها ما هو عابر، وفرار fugitif وعارض contingent.." (بودلير: رسام الحياة الحديثة). إلا أن هذا الفراغ الناتج عن غياب المعـاني الكبرى غالبا ما " يتم ملؤه باستكشاف تاريخي وسيكولوجي للأساطير"36،وباستثمار أقانيم جديدة كالإيديولوجيات اليوتوبية الكبرى الواعدة بالسعادة والحرية والمساواة، والأبطال الجماهيريين لهذا العصر في مختلف المجالات كأبطال الرياضة والسياسة والسينما والغناء والموضة.


    الحداثة ومفعولاتـها


    تتميز الحداثة بأنها تحول جذري على كافة المستويات: في المعرفة، في فهم الإنسان، في تصور الطبيعة، وفي التاريخ. إنها بنية فكرية كلية. وهذه البنية عندما تلامس بنية اجتماعية تقليدية فإنـها تصدمها وتكتسحها بالتدريج ممارسة عليها ضربا من التفكيك ورفع القدسية.

    تستخدم الحداثة أساليب رهيبة في الانتشار والاكتساح. فهي تنتقل كالجائحة في الفضاءات الثقافية الأخرى إما بالإغراء والإغواء عبر النماذج، والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلـف أشكـاله إلى غير ذلك من القنوات والوسائل.

    وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنـها تولد تمزقات وتخلق تشوهات ذهنية ومعرفية وسلوكية ومؤسسية كبيرة، وتخلق حالة فصام وجداني ومعرفي ووجودي معمم. وذلك بسبب اختلاف وصلابة المنظومتين معا. فللتقليد صلابته، وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وطرائقه في التكيف معها ومحاولة احتوائها ؛ كما أن للحداثة قدراتـها الخاصة على اكتساح وتفكيك المنظومات التقليدية، وأساليبها في ترويض التقليد، ومحاولة احتوائه أو استدماجه أو إفراغه من محتواه. فالصراع بين المنظومتين صراع معقد وشرس بل قاتل. وقد سبـق لي أن تحدثت في مكان آخر عن العلاقة الاستعارية بين التقليد والحداثة. فكثيرا ما يتلبس التقليد لبوس الحداثة ليتمكن من التكيف والاستمرار بينمـا تتلبس الحداثة بالتقليد أحيانا لتتمكن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وهذا التزاوج نشهده في كافة مستويات الكل الاجتماعي، نشهده في التلاقح بين منظومتي القيم،وفي المستوى الإدراكي،والسلوك الفردي،في المعرفة،في الاقتصاد وفي السياسة. ففي المجال السياسي مثلا يحصل تمازج بين مصدرين للشرعية السياسية: الشرعية التقليدية المستمدة من الماضي،والتراث والأجداد، وشرعية المؤسسة العصرية القائمة على أن الشعب هـو مصدر السلط. وهذا التمازج والاختلاط يطال الخطاب السياسي والإيديولوجي، والسلوكات السياسية، ويطبع المؤسسات السياسية، والثقافـة السياسية برمتها. وهو على الرغم من كل مظاهر التعايـش تمازج صراعي في عمقه.

    هذه الحالة البينية هي حالة طويلة الأمد إذ أنها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية بل عبر تحولات بعيدة المدى. وانتقال منظومة ثقافية تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير مليء بالصدمات الكوسمولوجية، والجراح البيولوجية أو الخدوش السيكولوجية للإنسان، وكذا بالتمزقات العقدية لأنه يمر عبر "قناة النار"، أي عبر مطهر العقل الحديث والنقد الحديث.

    وكل ثقافة لم تتجشم مثل هذه المعاناة المرة تظل تراوح مكانها على عتبة الحداثة، وفي عدم قدرة على الحكم على نفسها بسبب عدم قدرتها على رؤية ذاتـها من الخارج، وهذه القدرة لا يمكن اكتسابـها إلا بموضعة الذات وإخضاع المسلمات لمحك العقل والنقد، والحد
                  

10-14-2004, 06:48 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    "الفكر الفرنسي" وأشكال الخلخلة *


    جاك دريدا

    تعريب : ع. ب


    أود الآن، استخلاص لما تقدم، أن أضم، تحت عناوين عامة، العلاقات التي يظهر أنها تحدد، وفق هاته الضرورة التي تـهمني هنا، تأثير الخلخلة الكلية على ما أطلقت عليه في البداية "الفكر الفرنسي".

    1 ـ اختزال المعنى

    إن الاهتمام بالمنظومة والبنية في دلالته القوية التي لم يسبق لـها مثيل، وأعني تلك التي لا تـنزل إلى مستوى الثرثرة الثقافية والصحافية، وفي أحسن الأحوال، إلى مستوى التقليد "البنيوي" للميتافيزيقا، إن هـذا الاهتمام النادر لا يتوخى :

    أ ـ لا إعادة المجد للمفهوم التقليدي للمنظومة، الذي في إمكاننا أن نبين أنه يرتبط دوما بالغاية والحقيقة والجوهر، أي بكل القيم التي يتضمنها مفهوما الماهية والمعنى.

    ب ـ كما لا يتوخى إلغاء المعنى والقضاء عليه.

    يتعلق الأمر، بالأولى، بتحديد إمكانية المعنى انطلاقا من تنظيم "صوري" لا معنى له في ذاته. لا ينبغي أن يفهم من هذا أنه هو نفسـه لا ـ معنى أو عبث يبعث على القلق أو كل ما يدور في فلك النـزعة الانسانية الميتافيزيقية. والحال أننا، إن اعتبرنا أن انتقاد النـزعة الإنسانية الذي قام به فلاسفة الميتافيزيقا الكبار المتأخرين (هيجل وهوسرل على الخصوص)، كان يتم باسم الحقيقة والمعنى ؛ وإذا اعتبرنا أن هاته "الفينومينولوجيات" ـ التي كانت فلسفات ميتافيزيقية ـ كانت تدور أساسا حول اختزال المعنى (والعبارة راجعة لهوسرل)، فإننا نفهـم إن اختزال المعنى ـ أي المدلول ـ قد اتخذ أولا شكل نقد للفينومينولوجيا. وإذا اعتبرنا من ناحية أخرى أن التقويض الهايدغري للنـزعة الإنسانية الميتافيزيقية كان يتم أولا انطلاقا من مساءلة تأويلية للمعنى أو لحقيقة الوجود، فإننا نفهم كون اختزال المعنى كان يتم عن طريق نوع من الانفصال عن فكر للوجود اتسم بجميع خصائص التجاوز الهيجلي للنـزعة الإنسانية.


    2 ـ الرهان الاستراتيحي

    لا يمكن للخلخلة الجذرية أن تأتي إلا من خارج. والخلخلة التي اتخذت عنها أنا لا تصدر إذن نتيجة قرار تلقائي للفكر الفلسفي جاء عقـب نضج ونمو داخلي لتاريخه. هاته الخلخلة تكمن في العلاقة العنيفة بين الغرب في كليته مع أخره، سواء أتعلق الأمر بالعلاقة "اللغوية" (حيث سرعان ما تطرح مسألة حدود كل ما يؤدي إلى قضية معنى الوجود) أو العلاقة العرقية والاقتصادية والسياسية والعسكرية الخ… الأمر الذي لا يعني أن العنف العسكري أو الاقتصادي غير مرتبطين بنيويا بالعنف "اللغوي". إلا أن "منطق" كل علاقة مع الخارج منطق معقد، وهو يثير كثيرا من المفاجآت. ذلك أن قوة المنظومة وفعاليتها تحولان بانتظام أشكال التجاوز الفعلي إلى "خروج كاذب". اعتبارا لما يتولد عن المنظومة، لن يكون لنا الاختيار انطلاقا من الداخل الذي "نوجد فيه" ألا بين استراتيجيتين :

    1 ـ أن نحاول الخروج وفك البناء دون أن نغير من موقعنا، مستبعدين ما تنطوي عليه المفاهيم الأساسية لإشكاليتنا الأصليـة، مستعملين ضد البناء الأدوات والأحجار التي نتوفر عليها داخل البيـت، أي داخل اللغة كذلك. عيب هـذا المنحى هو أن من شأنه أن يؤكد أو يدعـم أن ينقل إلى عمق أبعد ما يزعم تفكيكه. فمن شـأن السعي الدائب نحو الانفتاح أن يغرق في اجترار الانغلاق ؟

    2 ـ أن نغير من موقعنا، منفصلين عنه بغثة، مقيمين توّا في الخارج، مؤكدين الانفصال والاختلاف المطلقين. وإذا استثنينا جميـع الزلات والأوهام التي يمكن أن ينـزلق فيها هذا التحول ليظل متمسكا بالداخل الذي يود الابتعاد عنه، فإن مجرد استعمال اللغة يجعل الموقع "الجديد" ينجر إلى الأرض القديمة. وبإمكاننا أن نستدل على ذلك بأمثلة دقيقة وعديدة، وأن نبين وقع هذا الانجرار أو العماء.

    من الواضح أن هذه المفعولات ليست كافية للتخلي عن "تغيير الموقع". ومن البيّـن كذلك أن الاختيار بين هاتين بين الصيغتين من فك البناء لا يمكن أن يكون بسيطا ولا واحدا. إن كتابة جديدة ينبغي أن تلعـب اللعبتين معا. وهذا يعني أن عليها أن تتكلم عدة لغات، وأن تنتج نصوصا متعددة في الوقت ذاته. أود أن أشير في الأخير إلى أن الأسلوب الأول للتفكيك هو الذي تنهجه الأسئلة الهايدغرية، أما الثاني فهو الذي يهيمن حاليا في فرنسا.
                  

10-14-2004, 07:04 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محاضرة لهايدجر (Re: osama elkhawad)

    من المعروف ان دريدا قد تاثر بهيدجر .والمحاضرة المترجمة ادناه تكشف عن اهم افكار هيدجر كما يراها صاحبها.

    العالم والأشياء:



    قراءة لفلسفة مارتن هايدجر(*)



    كْلاوْس هيلْد Klaus Held

    ترجمه عن الألمانية: إسماعيل المصدق



    تقديم النص والكاتب


    المقال الذي قمنا بترجمته من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية هو نص لمحاضرة ألقاها الأستاذ Klaus Held سنة 1990 في عدة منتديات ونشر في إطار مؤلف جماعي أصدره Christoph Jamme و Karsten Harries تحت عنوان : "مارتن هايدجر، الفن ـ السياسية ـ التقنية" عن دار النشر Wilhelm Fink بميونيخ سنة 1992، ص 319 ـ 333 .

    تحاول هذه المحاضرة أن تقدم نظرة إجمالية عن فلسفة هايدجر. ورغم أنـها موجهة إلى جمهور واسع من المثقفين، فإنـها تتوفر على قيمـة علمية وفلسفية كبرى، خاصة وأنـها تعمل على وضع فلسفة هايدجر في سياق يبرز بوضوح أهميتها وارتباطها بقضايا العصر. ويمكن اعتبار هذا النص مدخلا مفيدا يساعد القارئ على أن يتوجه بكيفية سليمـة في قراءته لكتابات هايدجر، فهو ينطلق من تحليلات هايدجر في مؤلفه الأساسي "الكون والزمان" ويبرز العلاقات والخيوط الدقيقة التي تصل بينها والتي يصعب على القارئ العادي أن يتبينها ويمسك بـها. وفضلا عن ذلك، يعمل على إظهار الجسور العميقة والخفية التي تربط بين تحليـلات "الكون والزمان" وفلسفة هايدجر المتأخرة. ومع ذلك فإن هـذه النظرة تجتنب السقوط في عرض صوري يضحي بالمضمون الفينومينولوجي الذي يتشبث به Klaus Held بشدة.

    ولد Klaus Held سنة 1936. درس الفلسفة والفيلولوجيا الكلاسيكية في جامعات ميونيخ، فرايبورج، بون وكولونيا. قدم أطروحة الدكتوراه سنة 1962 تحت إشراف Ludwig Landgrebe، أحد تلامذة هوسرل ومساعديه البارزين. يشغل منذ سند 1974 منصب أستاذ للفلسفة في جامعـة Wuppertal، وتنصب أبحاثه على عدة ميادين أهمها الفلسفة اليونانية، الفلسفة السياسية والفينومينولوجيا. وهو من المساهمين في إصدار سلسلة الأعمال الكاملة لـهايدجر. يعمل حاليا على صياغة مشروع فينومينولوجيا للعالم السياسي تستلهم أسس التحليل الفينومينولوجي لدى كل من هوسرل وهايدجر. تقلد منصب رئيس الجمعية الألمانية للبحث الفينومينولوجي من 1987 إلى 1994. ترجمت أبحاثه ودراساته إلى عدة لغات. ونقدم فيما يلي لائحة كتاباته المترجمة إلى اللغة الفرنسية :

    * Rendez-vous chez Platon. Voyage au pays des philosophes, Paris 1996.

    * Heidegger et le principe de la phénoménologie, in: Heidegger et l’idée de la phénoménologie, Den Haaf 1988. (Phaenomenologica 10.

    * Husserl et les Grecs, in: E. Escoubas et M. Richir : Husserl, Grenoble 1989.

    * Le monde natale, le monde étranger, le monde un, in : S. Ijsseling: Husserl-Ausgabe und Husserl-Forschung, Den Haag 1990 (Phaenomenologica 115).

    * Humanité et monde politique, in: Cahier de philosophie : Le monde De la phénoménologie à la politique, n° 15/16, Paris 1992/93.

    * Disposition affective fondamentale et critique du temps chez Heidegger, in: R. Brisart et R. Célis: l'évidence du monde. Méthode et emprise de la phénoménologie, Bruxelles 1994.

    * L’intentionnalité et remplissement de l'existence, in : D. Janicaud :

    L’intentionnalité en question. Entre phénoménologie et recherches cognitives,Paris 1995.



    ترجمة النص:

    في السنة الماضية، تم في العالم كله إحياء الذكرى المئوية لميلاد مارتن هايدجر، الذي يعتبره الكثيرون أكبر مفكر في قرننا. ترك هايدجر أمام القارئ مجموعة ضخمة من الأعمال صدر منها، لحد الآن، خمسون كتابا. وعليه، فإن تقديم نظرة إجمالية عن الكل في ساعة واحدة سيكون محاولة غير مفيدة ومملة. لكن ربما أمكنني أن أحاول القيام باستحضار حي لشيء من روح التفلسف الهايدجري، وذلك بأن أنطلق من مشكل يقض مضجعنا اليوم بشكل خاص، أقصد مشكل إتلاف بيئتنا بواسطة التقنية والصناعة.

    في مناقشة هذا المشكل، هناك موقفان أساسيان يتعارضان جذريا. يصر الطرف الأول على أنه من حق الإنسان مبدئيا أن يغير عالمه بالكيفية التي يريد ؛ لكن عليه فقط أن يعمل، بكيفية أكثر يقظة مما هو عليه الأمر حتى الآن، على تجنب الآثار المضرة التي تنجم عن تدخله في البيئة. يبقى الإنسان، بالنسبة لهذا الموقف، هو مركز العالم الذي يستغله ومالكه. أما الرأي المعارض فيحارب بالضبط مركزية الإنسان هاته؛ إنه يدعو إلى أن يتخلى الإنسان عن الادعاء بأنه يمثل مركز العالم، وأن يتعلم، بدل ذلك، كيف يندرج في الدورات الإيكولوجية للطبيعة وكيف يخضع لها. ليس الإنسان هو الذي ينبغي أن يسود، بل الطبيعة. هكذا نجد أنفسنا أمام نزعة طبيعية تعارض نزعة مركزية الإنسان.

    توجد البشرية اليوم، حسب هايدجر، أمام خطر له مدى عالمي: إنـها في الطريق لأن تصبح، بسبب إتلاف كل ما يتولد عن الطبيعة في العالم، بدون موطن.[ii] لهذا أصبح الآن يطيب للمرء، في دائرة النزعة الطبيعية، أن يتخذ من هايدجر مرجعا. إلا أن الأمر يتعلق هنا بسوء فهم. فنـزعة مركزية الإنسان والنزعة الطبيعية في إطار مناقشة مشكل البيئة ليستا سوى طبعة جديدة لجدل يخترق فلسفة العصر الحديث وثقافته منذ مدة طويلة.

    تعود نشأة العصر الحديث إلى أشياء منها أن الإنسان، في أواخر العصر الوسيط، فقد الثقة في نظام الطبيعة كما خلقه الله، وأصبح يبحث، بسبب ذلك، عن نقطة أكيدة جديدة. وجدت الفلسفة هذه النقطة الأكيـدة في اليقين من أن الإنسان يمكن أن يشك في كل الأشياء إلا في وجود وعيه ذاته الذي يشك. بسبب الرجوع إلى داخلية الوعي، يصبح العالم، بالنسبة للإنسان، موضوعا يواجهه في البداية كشيء غريب. إلا أن الوعي يتوفر على القدرة على فهم الموضوع وتملكه. هكذا يحتل الإنسان منـزلة الذات، أي القطب المرجعي بالنسبة للعالم. من حيث المبدأ، يمكن فلسفيا تصور إمكانيتين لتخطي الهوة التي تفصل الذات عن العالم بصفته موضوعا. تتمثل الإمكانية الأولى في اعتبار العالم كحقل فاعلية أنشأتـه الذات لـها من أجل أن تثبت فيه قوتـها؛ هذا الموقف الأساسي تتخذه النزعة الذاتية، التي تعتبر نزعة مركزية الإنسان في إطار مناقشة مشكل البيـئة وليدها الأحدث. أما الإمكانية الأخرى فهي أن تعتبر الذات نفسها هي أيضا كقطعة من الطبيعة، من الموضوع؛ هذه النزعة الطبيعية تعود هـي أيضا للظهور من جديد في إطار مناقشة مشكل البيئة.

    هذان الموقفان يقعان معا داخل ثنائية الذات والموضوع التي تنتمي للعصر الحديث. لم يكن من الممكن أن يتبنى هايدجر أيا من الموقفين، وذلك بالضبط لأنه فكر فيما وراء هذه الثنائية. بذلك يبتدئ مؤلفه الأساسي "الكون والزمان"
      الذي نشره سنة 1927 واكتسب بفضله شهرة كبرى. إن ارتباط الوعي، الذات، بالطبيعة كموضوع ليس هو العلاقة الأصلية للإنسان بالعالم، فهذا الارتباط ليس سوى وليد متأخر لعلاقة أصلية أكثر. أين تكمن هذه العلاقة ؟ أود أن أعالج هذا السؤال في بضع خطوات انطلاقا من "الكون والزمان" إلى تفكير هايدجر في مرحلته المتأخرة. خلال ذلك سيتضح بأي معنى يمكن أن يتكلم هايدجر عن فقدان الإنسان الحديث في العالم لأي موطن، وهل يرى إمكانية لأن يسترجع العالم من جديد طابعه كموطن.

      غالبا ما نستعمل مفهوم "العالم" للدلالة على كلية الأشياء. يتكون العالم من الأشياء. إذا انطلقنا من التعارض الذي يقيمه الفكر الحديث بين قطب وعينا وقطب العالم، فإننا سنكون عن الأشياء الصورة الآتية : لدي أنا في البداية اليقين بأنني أنا نفسي موجود، ذلك أنه لا يمكن أن أشك في وعيي ذاته. إلا أن بحثي عن اليقين سيفضي بي خارج مجال وعيي. فهناك مثلا يوجد مقعد. إنني في العادة متيقن منه هو أيضا، فحواسي تنقل إلي الانطبـاع بأن المقعد موجود، حيث يمكنني رؤيته ولمسه. المقعد موجود، هذا يعني: إنه حاضر[iv] كموضوع لإدراكي.

      وإذا تأكد ذلك، فإنه يصبح بإمكاني إصدار أحكام عن الموضوع، كأن أقول مثلا: "المقعد قائم في الركن" أو "المقعد يهتز". إن أحكاما كهذه نجدها في الحياة اليومية، ولكن، على مستوى أعلى، في العلم أيضا، وذلك عندما يحدد عالم النباتات مثلا نوع زهرة تم اكتشافها أخيرا. إنه يرى الزهرة كموضوع قائم أمامه، حاضر، ثم يقول: "هذه النبتة تنتمي لفصيلة السحليات"، أو يسجل هذه الملاحظة: "يبلغ طول النوع الجيد من السحليات عشرة سنتمترات". يتعلق الأمر في المثال الأول بتصنيف الزهرة، وفي المثال الثاني بوصفها. ويظهر مبدئيا أن الإنسان في حياته اليومية لا يتعامل مع الأشياء بكيفية مخالفة. إنه يسجل كونها حاضرة ويصنفها، مثلا: "هناك يقوم مقعد"، وهو ما يعني: "تلك القطعة من الأثاث هناك تنتمي إلى صنف المقاعد"؛ أو إنه يصفها، مثلا: "المقعد يهتز".

      ولكن هل تقابلنا الأشياء حقيقة في حياتنا اليومية بـهذه الكيفية، أي كموضوعات حاضرة قابلة للتصنيف والوصف؟ هل صحيح أنه ليس هناك مبدئيا أي فرق بين عالم الحياة اليومية والعالم بصفته موضوعا للعلم، كما يجب أن نعتقد إذاانطلقنا من ثنائية الذات والموضوع؟ من هـنا يبتدئ التحليل النقدي الجيد الذي يقوم به هايدجر في "الكون والزمان". مـا هي العلاقة التي تربطنا بالأشياء في الحياة اليومية، إذا وصفناها دون أحكام مسبقة؟

      يبدو أن هذه العلاقة تتمثل عادة في أننا نستعمل الأشياء لغرض ما. إننا نستعمل المقعد مثلا للجلوس، وعندما نقول: "المقعد يهتز"، فإن ذلك ليس حكما وصفيا، بل إننا نريد أن نقول: "إن المقعد غير صالح للاستعمال"، وذلك لأن الاهتزاز يزعجنا عند الجلوس. وهكذا فنحن نفهـم المقعد في حياتنا اليومية لا كموضوع نريد أن نصدر حوله أحكامـا، كما يفعل عالم النباتات، بل إننا نفهمه انطلاقا من الاستعمال وحده. إنكم مثلا تحتاجون خلال هذه المحاضرة إلى شيء يمكن الجلوس عليه، في سياق الاستعمال هذا يبرز المقعد في مجال رؤيتكم. إن مجال الاستعمال هو الذي يقرر ماذا يكون المقعد بالنسبة لنا، إنه يحدد كون المقعد. إن هذا الكون ليس كون حضور للتصنيف أو الوصف، بل كونا من أجل الاستعمال. هكذا يمكن أن يظهر لنا المقعد صالحا كثيرا أو قليلا للاستعمال. إنه إذا عبرنا بصور حسية، أحسن أو أسوأ "لليد"، كمـا تكون أداة يدوية جيدة كثيرا أو قليلا بالنسبة ليدنا. لـهذا يقول هايدجر: إن كون الأشياء في حياتنا اليومية ليس كون حضور، بل هو كون ـ لليد.[v]

      إن ما هو العالم يتحدد انطلاقا من فهم الأشياء التي يتكون منها. فماذا يكون العالم إذن، علما بأن كون الأشياء له في البداية وفي العادة طابع الكون لليد ؟ إن سياق الاستعمال الذي يحدد كون الأشياء اليومية هو شبكة من غايات كثيرة لا يمكن الإحاطة بها ونحتاج لتحقيقها إلى أشياء جد متنوعة؛ كل شيء من هذه الأشياء محبوك في هذه الشبكة بكيفيات متعددة. كل إنسان يعيش في سياق للاستعمال، وهذا يطبع مجال ممارسته، أي أفقـه. إن أفق الموظف يختلف عن أفق الرياضي أو التلميذ أو غيرهما. ولـهذا نتحدث عن عالم الإدارة والرياضة والمدرسة، وغيرها كثير. تختلـف الأشياء التي نحتاج إليها والغايات التي لأجلها نستعملها باختلاف العالم الذي نعيش فيه. انطلاقا من العالم كأفق لسياق الاستعمال الخاص بنـا نفهم كيف تكون الأشياء لليد بالنسبة إلينا. إن الأفق هو إذن عالمنا اليومي.

      إن العالم حسب ثنائية الذات والموضوع هو كلية الموضوعات الحاضرة القابلة للتصنيف والوصف. وعلى غرار ذلك، قد يعتبر المرء أن العالم اليومي هو أيضا كلية، أي جملة الأشياء التي هي لليد من أجل الاستعمال. إلا أنه قد تبين بالضبط أن العالم اليومي ليس له طابع جملة من الأشياء، بل طابع الأفق، أي طابع سياق شامل داخله نعيش ونتوجه إلى الأشياء، وذلك لأننا نفهم كيفية استعمالـها انطلاقا من السياق. وهكذا فإن هذا السياق مألوف لدينا قبل التعرف على الشيء المفرد، إنه بالنسبة لنـا هو الأولي، أما الأشياء فتشكل ما هو ثانوي. لو كان العالم اليومي مجرد جملة من الأشياء، لكان الأمر على عكس ذلك ؛ فالجملة ليست سـوى شيء من الدرجة الثانية، شيء مشتق، لأنها تتوقف على الأجزاء التي تتكون منها.

      يمكن مقارنة العالم كأفق بالضوء. بدون ضوء لا نستطيع رؤية أي موضوع، وبدون أفق الاستعمال ستبقى الأشياء اليومية بدون دلالة بالنسبـة لنا. إنه فقط في ضوء الأفق تظهر لنا الأشياء على ما هي عليه في الحياة اليومية، أي كأشياء لليد. إن العالم كأفق يمنح الضوء لظهور ما هو لليد، إنه البعد المفتوح المشرق الذي يمكن فيه للأشياء أن تظهر ذاتـها لنـا. عندما نرى شيئا ما لا ننتبه عادة للضوء الذي يمكننا من الرؤية، بل للأشياء التي تصبح بفضله مرئية. وبالمثل، فإن انتباهنا في الحياة اليومية لا ينصب عادة على البعد الذي يسمح بالظهور، على أفق الاستعمال، بل على الأشياء لليد التي تظهر في ضوئه.

      وفوق ذلك، فإن هذا الانتباه للأشياء لليد يختلف عن كيفية اهتمام العالم بموضوعات حاضرة. فعالم النباتات يجفف الزهرة حتى يتمكن دائما من مشاهدتـها من جديد، أما الإنسان اليومي فليس له أي اهتمام بمثل هذه المشاهدة. إنه يود على العكس من ذلك، أن يتم استعمال الأشياء لليـد دون مشاكل حتى لا تلفت ما أمكن نظره بشكل خاص. إننا نصبح منتبهين لما هو لليد عندما يتعثر استعماله، مثلا عندما يزعجنا. إنه فقط عندما يهتز المقعد أو يضغط الحذاء على رجلي يثير لدي انتباها خاصا. آنذاك ربما أجـد نفسي مدعوا لأن أشاهده وأفحصه، بكيفية معبر عنها، كموضوع حاضر، وهكذا ينتهي بي الحال، إلى أحكام تصنيفية أو وصفية حول الموضوع. إن كونه يتحول من كون- لليد إلى كون-حضور. وهذا يمكن بدوره، عندما نزاوله بكيفية نسقية، أن يصل إلى حد أن تظهر لنـا كل الأشياء بصفتها أشياء حاضرة. وعلى هذا النهج يمكن إذن أن يصبح العالم أيضا بصفته كلا، أي بصفته جميع الموضوعات الحاضرة، محط انتباهنا. ولكن بذلك يظهر لنا هو ذاته كما لو كان موضوعا مفرطا في الكبر، أي بصفته الموضوع الذي يضم داخله كل الموضوعات.

      نظرا لأن الإنسان يستطيع على هذا النحو أن يموضع العالم، فقد أمكن للفلسفة الحديثة أن تجعل من العالم موضوعا يقابل الوعي البشري. إلا أن هذه الموضعة تشترط العلاقة الأولية للإنسان بالعالم. هذه العلاقـة الأولية ليست علاقة بما في الكلمة من معنى. إذا فهمنا "العلاقة" كارتباط بموضوع، بل إنها تكمن في أننا نكون عند فهمنا للأشياء في ألفة قبل-موضوعية[vi] مع الأفق وفي أننا بـهذا المعنى نقيم في البعد المشرق للظهور الذي هو العالم. لذلك ينعت هايدجر في "الكون والزمان" العلاقة الأصلية للإنسان بالعالم ك "كون-في-العالم".

      إن موضعة العالم في الفلسفة الحديثة هي اغتراب عن الألفة الأصلية مع البعد القبل -موضوعي للكون-في-العالم، فما هو الجذر العميق لـهذا الاغتراب ؟ لكي يكون العالم كموضوع أمرا ممكنا، يجب أن نتجاهل بأن العالم هو في الأصل ليس موضوعا، بل بعد قبل-موضوعي للظهور. لكن هذا التجاهل ليس أمرا مستعصيا علينا، وذلك نظرا لأن العالم كبعد للظهور لا يثير اهتمامنا في الحياة اليومية. إنه لا يخطر ببالنـا عادة أن نـهتم ببعد الظهور، لأننا نكون مشغولين بما فيه الكفاية بتدبير أمرنا في الوضعيات التي تواجهنا في حياتنا باستمرار.

      كل وضعية تتيح لنا إمكانيات كثيرة للتصرف وتضعنا بكيفية لامناص منها أمام مهمة اختيار إمكانيات ما في ضمنها. عندما نختار إمكانيات ما ونحققها، فإن هذا لا يعني أننا سنكون منذ ذلك الحين قد تحررنا من ضرورة الاختيار بين إمكانيات، ذلك أن كل تحقيق لإمكانيات يجلب وضعيات مع إمكانيات جديدة، وهكذا فإننا لا نخلد للسكينة، لأن حياتنا هي دائما وفي كل مكان مشدودة إلى إمكانيات. إن كوننا نحن البشر ليس أبدا كونا متحققا جاهزا، بل هو باستمرار كون-ممكن.[vii] بعد أن ميزنا سابقا بين كيفيتين لكون الأشياء، الكون-لليد، والكون-الحضور، نجد أنفسنا الآن أمام كيفية للكون خاصة بوجودنا البشري.. إن كيفية الكون الخاصة بوجودنا هي الكون الممكن. يتعلق الأمر في كل تحليلات "الكون والزمان" بكيفيات للكون، ولـهذا السبب يرد أيضا مفهوم "الكون" في العنوان.

      في الوضعيات وإمكانياتـها نعيش بكيفية مشخصة الكون-الممكن الذي يميز وجودنا. كل وضعية للحياة اليومية تطلعنا على سياق الاستعمال، أي الأفق الذي نفهم الأشياء انطلاقا منه. وهكذا يكون العالم بالنسبة لنا ماثلا في كل وضعية. يقدم لنا العالم في الوضعيات المختلفة إمكانيات لتصرفنا. إن الوضعيات هي منفذنا إلى العالم، ولكنها تحجبه عنا أيضا، وذلك لأنها تشدنا إلى الإمكانيات التي يكون علينا في كل مرة أن نتعامل معها. إن وجودنا يكون بسبب تعدد الوضعيات متشتتا في إمكانيات كثيرة، وبسبب هذا التشتت ينقصنا التركيز والسكينة اللازمين لكي نلاحظ أن وجودنا ليس مجرد حشد لإمكانيات منفصلة عن بعضها البعض وأن هذه الإمكانيات مترابطة داخليا فيما بينها، لأنـها ليست سوى أشكال متنوعة للكون-الممكن الواحد عموما الذي يحدث حسبه وجودنا.

      لو تأتى لنا أن نستجمع أنفسنا وأن نفهم وجودنا وننجزه ككل بصفته كونا-ممكنا متكاملا، لانفتح لنا بذلك أفق كوننا-الممكن هو أيضا ككل. هذا الأفق هو العالم. صحيح أن العالم مألوف لدينا في الكون-في-العالم بكيفية قبل-موضوعية، ولكن، مع ذلك يبقى في الحياة اليومية خفيا عنا أن وجودنا منفتح لبعد الظهور "العالم"، لأننا لا نستجمع أنفسنا حول وحدة كوننا-الممكن وكليته. ولكن هل يمكننا إطلاقا أن نستجمع أنفسنا بهذا المعنى ؟ هل يمكن أن نعيش تجربة تجعلنا نرى أن وجودنا هو في كليته كون-ممكن ؟

      إن ذلك ممكن بالفعل، لأن وجودنا في كليته، مهدد من قبل إمكانية العدم. فضمن الإمكانيات التي هي أمامنا، هناك دائما إمكانية قصوى أيضا : الموت ؛ وهي إمكانية قصوى، لأنـها تهدد بأن تجعل كل الإمكانيات الأخرى غير ممكنة، وبـهذه الكيفية تجعلنا تستشعر أن وجودنا في كليته هو كون-ممكن. إن الخطر الدائم الذي يـمثله الموت قـد يمكن أن ينبهنا إلى أن نستجمع أنفسنا من التشتت في الوضعيات الكثيرة لحياتنا، إلا أننا نتهرب من أن نواجه تعرضنا للموت[viii] بسكينة وثبات، ولـهذا فإننا نسقط في الوضعيات، أي نستسلم لـها كما يستسلم مدمـن على المخدرات أو الكحول للجرعة أو الزجاجة التالية التي يحتاج إليها فـي هذه اللحظة بالذات.

      في القلق نستشعر أن وجودنا مهدد من قبل الإمكانية القصوى للموت. والقلق هو حالة وجدانية، خلالها نجد أنفسنا، بكيفية قبل-موضوعية، أمام كوننا-في-العالم ككل. إن العالم اليومي الذي نشعر فيه بالألفة يصبح دفعة واحدة موحشا بالنسبة لنا. وهكذا ينتابنا الشعور بأن الأرض تميل تحت أقدامنا وأن العالم ينفلت منا. هذه الحالة الوجدانية تطبع خفية وجودنا في كل حين، إلا أننا لا نريد في العادة أن نتركها تصعد إلى السطح. يجب علينا أن نبدي الجرأة على أن نعرض أنفسنا للرجة التي يحدثها القلق، حتى نستجمع وجودنا من السقوط.[ix] وعندما نعزم على ذلك، نفتح أنفسنا، بكيفية معبر عنها، للعالم في كليته، دون أن نموضعه. إن العزم[x] مفهوما على هذا النحو يحررنا لأن نكون منفتحين للعالم.

      لا يمكن أن ينوب عني في موتي اي أحد، فهنا أكون أنا هو أنا ذاتي، بحيثلا يمكن أن يعوضني أحد. كل ما هو غريب يسقط عني لكي يبرز ما هو خاص بي، ما هو أصيل في ولا يمكن استبداله، وحين لا أهرب مما هو خاص بي، أي بما هو أصيل في، من كوني أنا ذاتي، يصبح وجودي "أصيلا".[xi] مع العزم، أي مع الجرأة على القلق تتحقق "أصالتي". إن ما يعوق الإنسان في حياته اليومية عن أن ينفتح، بكيفية معبر عنها، للعالم كبعد قبل-موضوعي للظهور هو انعدام الأصالة، الزيف[xii] أو السقوط.

      إن المفاهيم التي وجدنا أنفسنا أخيرا أمامها أثارت إلى اليوم لدى دراسي فكر هايدجر أخطر أشكال سوء الفهم. إننا نبلغ أصالة الوجود بفضل العزم، أي الاستعداد لأن نتحمل بكيفية واعية القلق إزاء موتنا، وهذا قد يحمل على الاعتقاد بأن هايدجر يدعو الإنسان إلى مواجهة عبث الموت بـأن يعض على النواجذ وبأن يتحمله ببطولة. لهذا فهم "الكون والزمان" لمدة عقود كنزعة وجودية بطولية، فالإنسان الذي يركز اهتمامه بكيفية بطولية على مهمة وحيدة هي أن يتحمل تعرضه للموت، سيكون غير مبـال بالشؤون التي يحرص عليها الناس في حياتـهم اليومية. إن الحياة اليومية ترتبط بالعالم لأنـها محبوكة في وضعيات . يظهر أن هذا الارتباط بالعالم يفقد كل أهمية بالنسبة للعزم البطولي. وعليه يظهر أن العزم هو، بعكس ادعاء هايدجر، لا يفتح الوجود على العالم، بل يفصله عنه.

      غير أن هذا التأويل يتجاهل ماذا يعني الموت بالنسبة للوجود الذي اختار العزم، إنه يحثه على أن يستجمع ذاته ككون-ممكن. مع هذا الاستجماع لا تفقد إمكانيات الوجود اليومي المرتبطة بوضعيات معينة أهميتها، بل، على العكس من ذلك، تكتسب دلالة مضاعفة، لأنها تفهم الآن، بكيفية معبر عنها، انطلاقا من الكل. بفضل العزم يشع على كل وضعية يومية ضوء جديد، إنه ضوء بعد الظهور: "العالم".

      إن الفهم الخاطئ "للكون والزمان" كتعبير عن وجودية بطولية أدى في الآونة الأخيرة إلى ظهور تأويل يعارض ذلك الفهم معارضة قصوى. وهكذا يدعو البعض إلى تقليص الاهتمام بنظرية العزم والوجود الأصيل، التي يزعم أنـها متناقضة، وإلى الاقتصار على تحليل الكون-في-العـالم اليومي. ويظهر أن هذا التحليل يتوفر على مزية كبرى تتجلى في أنه يصـف بالضبط علاقة الإنسان اليوم بالعالم، فقد صار العالم في القرن العشرين بمثابة سياق استعمال واحد، ولم تبق الأشياء تهم الإنسان إلا إذا كانت تؤدي وظيفة في تحقيق رفاهيته.

      يظهر هايدجر، حسب هذا الاتجاه في التأويل، كمفكر يبارك فلسفيا هذه الوظيفة ؛ فهو يبين أن الفهم الوظيفي يناسب كون الأشياء على أتم وجه، ذلك أن كونها هو في الأصل ليس أكثر من كون-لليد. وعليه فإن اعتبار العالم مجرد مخزون لموضوعات قابلة للاستعمال لن يكون تعبيرا عن سوء استعمال للأشياء ولا عن تطور تاريخي سلبي، بل هو ليس سوى نتيجة تلزم عن أن الكل يستمد معناه في الأصل انطلاقا من الاستعمال. بـهذه الرؤية لم يكن هايدجر، فضلا عن ذلك، في طريق مغاير لفلاسفة النزعة البراجماتية في الولايات المتحدة، الذين سبق أن تبينوا، في وقت مبكر، بأن دلالة الأشياء لا يمكن فهمها إلا براجماتيا، أي انطلاقا من الكيفية التي نستعملها بـها. وهكذا فعندما يتم تخليص هايدجر من عبء الوجودية البطولية للأصالة، ينكشف كما لو كان وظيفيا أو براجماتيا متأخرا.

      إلا أن هذه الكيفية لقراءة "الكون والزمان" هي أيضا مجانبة للصواب، فهايدجر لم يزعم أبدا أن للأشياء كيفية واحدة فقط للكون، هي كونـه-لليد في السياق الوظيفي للاستعمال، وأن العالم ليس شيئا آخر سوى هذا السياق الوظيفي. إن العالم والأشياء لا تبدو بـهذه الكيفية إلا بالنسبة للوجود الزائف للحياة اليومية، أما إذا بزغ بفضل العزم على الأصالة، انفتاح جديد للعالم، فإن كون العالم والأشياء سيظهر بذلك على نحو جديد تماما. وهكذا فإن نظرية الأصالة لا غنى عنها من أجل فهم سليـم "للكون والزمان".

      ترجع هذه الأخطاء في الفهم إلى أشياء منها أن هايدجر لم يقدم بعد في هذا المؤلف، على نحو إيجابي، كيفية ظهور العالم والأشياء بالنسبة للوجود الأصيل. وهو لم يتمكن من ذلك، إلا عندما وجه اهتمامه، خلال مسار تطوره بعد " الكون والزمان" وفي إطار محاولة جديدة، للسؤال : كيف تحولت علاقة الإنسان بالعالم في العصور المختلفة لتاريخنا. إن الفهم اليومي للعالم الذي يظهر فيه هذا الأخير كسياق لما هو لليد قد تضخم في وقتنا باتخاذه شكل تعامل وظيفي مع البيئة. وإذا أردنا أن نحدد بكيفية إيجابية كيف يفهم العالم بالنسبة للوجود الأصيل، فإننا نضع بذلك على عاتقنا مهمة البحث عن مخرج تاريخي من الوظيفية. إننا نعتبر العلاقة الوظيفية بالعالم وكأنـها زيف عصر بأكمله، أي الزمن الذي نعيش فيه. وبذلك يصير العزم تـهييئا لزمن يتحقق فيه عصر للأصالة.

      تنشأ عن ذلك ثلاثة أسئلة : أولا : أين يكمن زيف عصرنا إذا لاحظناه عن كثب؟ ماذا يعني بالنسبة للعالم والأشياء أن تصبح مجرد "مواد" للاستعمال الوظيفي ؟ ثانيا : أين يتجلى تخطي هذه العلاقة بالعالم في إطار أصالة جديدة ؟ ثالثا : إذا كان زمن مستقبل لعصر للأصالة مأمولا وممكنـا، فكيف سيظهر العالم وكيف ستظهر الأشياء إيجابيا في مثل هذا الزمن.

      سأبتدئ بالسؤال الأول : على أي نحو تظهر الأشياء عندما نفهم العالم فهما وظيفيا؟ لقد سبق أن قلت إن الكون-لليد يصبح الكيفية الوحيدة لكل ما يصادفنا في العالم. وهذا يعني : إننا لا نعترف في كون الأشياء بما يمكن أن يتخلص من استعمالنا وأن يترك لها أي نوع من الاستقلال إزاء قبضتنا المدبرة الموجهة. وهذا يصدق سواء على الأشياء التـي ننتجها نحن أنفسنا أو تلك التي تنمو في الطبيعة. تنتمي إلى هذا الصنف الأخير مثلا الأشجار التي لم تبق تعتبر في التعامل الوظيفي مـع العالم إلا كموضوعات لتحقيق غاية استعمالية ما، مثلا عندما تساهـم كغابة في راحة المتنزهين، أو عندما تهيئ لنا كنبات زينة في الحديقة متعة جمالية، أو عندما تستغل كخشب لصناعة الأثاث.

      على أن جمال شجرة أو متانة قطعة أثاث من الخشب يرتبطان بأن مثل هذه الأشياء تشمل "فائضا" يجعاها "أكثر" من مجرد شيء يوجد وظيفيـا تحت تصرفنا. هذا "الفائض" هو أن الشيء، الشجرة أو الخشب مثلا، مستقر في ذاته[xiii]، هذا الاستقرار في الذات هو أمر خاص ليس في متناول التعامل الوظيفي مع الأشياء. أكيد أن شجرة تصبح في متناولنا عندما تظهـر على مسرح العالم، أي في ضوء بعد الظهور. ولكن هذا لا يعني أنـها بظهورها تسلم لنا ذاتها على نحو تام. ينتمي إلى ظهور الشجرة أنـها خلال هذا الظهور تنطوي على ذاتـها بكيفية غامضة. وبفضل ذلك فإنـها تستقر في ذاتـها وتمتلك استقلالا وثباتا داخليا يسحب كونها من مجال نفوذنا الوظيفي. ولهذا السبب سيعز دائما لدرجة ما على شخص مرهف الحس أن يطيح بشجرة قديمة.

      كل ذلك يصدق أيضا على الأشياء التي ننتجها، إنـها في الحقيقة لا تثير ابتهاجنا إلا عندما لا يستنفذ الاستعمال كونها بشكل تام. يتجلى ذلك مثلا في الهيبة[xiv] التي تمنعنا من تقويض منزل قديم. إن هذه الهيبة إزاء قيام الشيء في ذاته تختفي عندما تصبح كل الأشياء التي نصنعها منتوجات موجهة "للاستهلاك الفوري". إن الفرق بين الاستعمال والاستهلاك يتقلص دائما أكثر فأكثر في المجتمع الحالي الذي يتم فيه بسرعة التخلص من الأشياء المستعملة ورميها.[xv] إن المحافظة الحنونة على الأشياء خلال الاستعمال تتحول إلى استهلاك محض يتلفها ويجعلها تتحول عاجلا أو آجلا إلى قمامـة. عندما يتم التصرف في الأشياء دون مشاكل يتلاشى ما لا يمكن إمساكه فيها وما بفضله تستقر في ذاتها، أي يضيع انطواؤها على ذاتـها الذي بفضله تنسحب من قبضتنا. هذا الانسحاب في كون الأشياء يوقظ هيبة تتلاشى في التعامل الوظيفي مع الأشياء.

      يتجلى ذلك بكيفية مشخصة في أننا خلال هذا التعامل لا نتوقف عند الأشياء. هذه الظاهرة سبق أن لاحظناها في الاستعمال اليومي لليد. إننا لا ننتبه إلى الأشياء التي هي لليد ما دامت جيدة في الاستعمال، وهذا يعني أن اهتمامنا بـها يبقى عابرا ولا يدوم. إن الشيء لا يشد الانتباه إليه إلا عندما يقع خلل في استعماله. هذه العلاقة بما هو لليد تمتد اليوم لتشمل كل ما يصادفنا عموما في العالم. الكل يظهر في ضوء وظيفة ما، ولكن هذا الظهـور لا يكمن في أن يظهر يتمتع هو ذاته وفي ذاته بكيان قار، بل في أنه يغيب في الاستعمال. إن استعمال الأشياء يعني أن لا نتيح لـها أية فرصة لكي تلفت نظرنا بصفتها أشياء قائمة ومستقلة بذاتـها يجد فيا التأمل المتروي سندا له. إن ما يلفت الانتباه خلال التعامل الوظيفي هو ما يجب إصلاحه أو تعويضه، ولكن معنى هذه الإجراءات يتمثل بالضبط في أن تجعـل الأشياء من جديد غير مثيرة للانتباه، أي أن تعيد إنتاج غيابـها خلال الاستعمال.

      إن الانسحاب الذي يسم كون الأشياء يجعلها تقيم في ثباتها الداخلي وبذلك تقاوم غيابها التام في الاستعمال. هذا الانسحاب كان دائما أمرا ممتنعا عن الإدراك والظهور، ولكنه ظل مع ذلك يمارس تأثيرا من خـلال شيء من الهيبة ينتاب الإنسان تجاه الأشياء، ولم يسقط في طي النسيان على نحو تام إلا في إطار التعامل الوظيفي مع الأشياء. إن ما يغيب في الحقيقة مع غياب كل الأشياء في الاستعمال الوظيفي الشامل هو الانسحاب ذاته. إن امتناعه عن الظهور يتزايد ويصير خفاء كليا. في امتناعه عن الظهور، ينزع الانسحاب منذ البدء إلى أن ينسحب إلى هذا الخفاء. إن انسحاب الانسحاب بذاته يبلغ حده الأقصى في التعامل الوظيفي مع الأشياء، بحيث إن الناس فقدوا أيضا أية فكرة عن أن هناك شيئا مثل الانسحاب. ولهذا فإن من يتكلم عن الانسحاب يكون عرضة لأن يتهم بأنه يرى أشباحا.

      إن الأشياء هي منفذنا إلى العالم. بسبب الخفاء الجذري للانسحاب خلال التعامل الوظيفي مع الأشياء، تفقد هذه الأخيرة ثباتها الداخلي الذي يمكن أن نتوقف عنده، وبذلك يفقد العالم أيضا ثباته الذي بفضله يمنح لوجودنا سندا. هكذا يصبح الأساس الراسخ للعالم هاوية[xvi]نشعر إزاءها بانقباض. إن الفزع من ذلك يبعث فينا القلق، إلا أنه قلق لا نستطيع أن نتبين مصدره، لأن جذره الحقيقي، الذي هو غياب الانسحاب في خفاء تام، يبقى، بسبب هذا الخفاء بالضبط، مجهولا لدينا.

      هذا القلق الذي يمتنع عن التفسير ويفوق الوصف أصبحت تتناقله الألسن في قرننا، وكثيرا ما تم التعبير عنه في الإنتاجات الأدبية لعصرنا. إنه القلق على فقدان ذلك الموطن الذي يرتبط بكون الإنسان عموما، أي العـالم كبعد للظهور منتم للكون –في- العالم. إلا أننا لا نفهم عادة علامات الضيق الذي وقعنا فيه بسبب هذا الفقدان للموطن بـهذا المعنى، لأن مما يميز العلاقة الوظيفية بالعالم أنها تؤول هذه العلامات أساسا كاختلالات. وهكذا فإننا نعتبر مثلا أعراض إتلاف البيئة فقط كأعطاب علينا إصلاحها وتجنبها في المستقبل عن طريق تحسين تنبؤاتنا. وهذا يعني أنـها تظهر لنا كاختلالات وظيفية ليست موجودة إلا لكي تتم إزالتها. وبذلك لا يتم مبدئيا الخروج من أفق الفهم الوظيفي للعالم.

      إن فقدان الموطن يحدث على نحو غير ملحوظ لدرجة أن صيحات الإنذار، التي تصدر عن أناس ينتابهم هلع شديد ، تبدو أمام العموم كنـزوات هستيرية. فكيف يمكن، في ظل هذه الظروف، أن يصبح الضيق الناشئ عـن الفقدان الجديد للموطن أمرا ملحوظا أولا، ومن ثم باعثـا على البحث عن مخرج من العلاقة الوظيفية بالأشياء ؟ بـهذا نصل إلى السؤال الثاني الذي طرحته قبل قليل : أين يتمثل التخلص من زيف هذه العلاقة في إطار أصالة جديدة.

      إننا نبلغ الأصالة بفضل العزم، أي الجرأة على القلق. في القلق نستشعر كيف ينفلت منا الكون ـ في ـ العالم إلى العدم. هذا الانفلات يسحب من وجودنا كل سند. إن العدم يجعلنا بـهذه الكيفية في حالة القلق لأننا لا نستطيع الإمساك به كما نمسك بموضوع. إنه مثل تيار غير مرئي في دوامة يجذب كل ما يظهر على سطح الماء نحو الهاوية. وكذلك فإن العدم يسحب منا الأشياء، وخلال ذلك يبقى كساحب، غير مرئي، خفيا. وهـذا ليس شيئا آخر سوى الانسحاب الذي يسحب ذاته إلى الخفـاء. إن العدم الذي يهز كل كوننا-في-العالم ليس سوى اسم آخر للانسحاب الذي يسحب ذاته. كما أن إبداء الجرأة على القلق إزاء العدم لا يعني شيئا آخر غير الاستعداد لتقبل الانسحاب.

      سبق أن رأينا أن تحمل القلق في إطار العزم يفتح وجودنا للعالم، والآن يتضح اين يتمثل إيجابيا هذا الفتح. إنه يجعلنا قادرين على أن نعير انتباهنا للأشياء بحيث نتوقف عندها. هذا الانتباه هو الهيبة إزاء استقرار الأشياء في ذاتـها، الذي يحميها من أن تختفي في الاستعمال الوظيفي. هـذه الـهيبة تصير ممكنة بفضل الاستعداد لتقبل الانسحاب، هذا الاستعداد يتطابق مع الجرأة على القلق. هكذا تتأكد الصلة بين العزم والانفتـاح للعالم، تلك الصلة التي ينكرها اتجاه تأويل "الكون والزمان" كوجودية بطولية.

      ولكن ما الذي يخول لنا الحق في أن نطابق بين الانسحاب الذي يضمن للأشياء صلابة استقرارها في ذاتـها والعدم الذي يسلب من وجودنا خلال القلق كل سند ثابت؟ كيف يمكن لتيار العدم هذا الذي يجعـل العالم والأشياء تنفلت منا على نحو رهيب أن يكون، كانسحاب، هو بالضبط ما يحمي الأشياء من الاندثار في العلاقة الوظيفية بالعالم ويجعلها تظهر بصفتها مستقرة في ذاتـها؟ ألا يتعلق الأمر هنا بتناقض؟

      إن هذا الوضع ليس غريبا هنا بالدرجة التي يمكن أن يبدو بـها للوهلة الأولى. لنتصور وداع زائر عزيز بالمحطة يستمر في التلويح لنا بيده من القطار المتحرك إلى أن يصير منسحبا عن نظراتنا. في هذا الانسحاب ذاته المرتبط بالوداع، في غيابه بعيدا عنا، يمكن أن يتجلى لنا هذا الشخص بكيفية أكثر وضوحا وثباتا مما كان عليه الأمر وهو يقربنا. وإنه غالبا ما يحـدث أن إنسانا لا يكتسب بالنسبة لنا في صورته الداخلية والخارجية طابعا راسخا إلا عندما يصبح ميتا، أي عندما ينسحب نـهائيا من قربنا. لقد عبر الإغـريق، خلال الزمن الكلاسيكي لأثينا، بكيفية واضحة عن هـذه العلاقة المتعارضة الاتجاه بين الانسحاب والظهور في شواهد قبـورهم التي لا تضاهى. إن العدم في الظهور، الانسحاب الذي يثير فينـا القلق ويهزنا في كل تجارب الوداع والفقدان، لا يكتفي بأن يسلبنا ما كان قريبا منـا، بل إنه يمكن أيضا أن يمنحنا شيئا ما : إنه يجعل ذلك المنسحب منا يظهر بكيفية زائدة. هذه الزيادة في الظهور هي أيضا منبع الجميل في الفن الرفيع.

      بـهذا يمكن أن ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الثالث : كيف سيظهر العالم والأشياء في زمن مقبل يحل فيه عصر للأصالة ؟ كيف ستقدم ذاتها عندما ستظهر بكيفية زائدة بفضل استعداد جديد لتقبل الانسحاب ؟ أود أن ابتدئ بظهور العالم لأنتقل بعد ذلك إلى الأشياء.

      العالم هو البعد المفتوح المشرق الذي يسمح بالظهور. إذا قارنا الانفتاح المشرق لهذا البعد بالضوء، فإن العدم سيكون هو الظلمة المغلقة التي تعتم وجودنا وتجعله موحشا خلال القلق. قد يمكن أن يعتبر المرء بأن الانسحاب، تيار العدم، يجب أن يمتص ضوء العالم، كما يبتلع ثقب أسود في الكون[xvii] كل ضوء. إلا أننا نصطدم هنا بـهذا الأمر العجيب المرتبط بالوجود البشري. إنه يكمن ككون ـ في ـ العالم في بزوغ ضوء بعد الظهور : "العالم". مع ولادة كل إنسان يحدث ذلك الأمر المثير للدهشة الذي يتمثل في أن الظلمة المنغلقة للانسحاب تفسح الطريق للبعد المفتوح المشرق الذي نسميه العالم. يتراجع الانسحاب إلى الخلف من أجـل أن يبزغ العالم. هذا مظهر آخر لخفاء الانسحاب. إن الانسحاب يسحب ذاته، يخفي ذاته في الظلمة الخاصة به لكي يسمح بظهـور الأشياء، أي ببزوغهـا في الإشراق المفتوح للعالم.

      هذه الوضعية هي قبل كل فلسفة مألوفة لدينا بكيفية تامة في نمو النباتات، وفوق ذلك في بروز كل حي في العالم، إنـها انبثاق الحي من الأرض. إن الأرض هي ذلك المنغلق الذي يفسح من مأمنه المظلم الطريق لظهور الحي ونموه ، بحيث يستطيع أن يتجه نحو الأعلى، أي إلى داخل الفضاء المفتوح لمجال الضوء الذي نسميه السماء.

      في علاقة السماء والأرض نعيش بكيفية مشخصة تجربة فسح الطريق لبعد الظهور : العالم انطلاقا من الانسحاب. لا ينبغي فهم هاتين الجهتين[xviii] كموضوعين كبيرين، بل باعتبارهما البعدين الأصليين المتقابلين للظهور. إن المجال، البعد، الذي يتكون بفضل هذا التقابل ليس شيئا آخر غير العالم. إن العالم كتفاعل بين السماء والأرض يتضمن هو ذاته في ذاته العلاقة المتعارضة بين الانسحاب الذي يصون وفسح الطريق لبعد الانفتاح انطلاقا من الانسحاب.

      في الوجود اليومي الزائف يبقى خفيا عنا أن العالم كتفاعل للسماء والأرض هو ظهور تلك العلاقة، إن ذلك لا ينكشف لنا إلا عندما نحمل، في إطار الأصالة، تعرضنا للموت على عاتقنا ونصبح بفضل الجرأة على القلق مستعدين لتقبل الانسحاب. إن العالم لا ينكشف كتقابل للسماء والأرض إلا بالنسبة للناس المعرضين للموت، الذين يفهمون ذاتـهم، بكيفية معبر عنها، كمعرضين للموت، والذين يكونون بذلك قادرين على أن يتوقفوا في الاستعمال الوظيفي العادي للأشياء، وأن يقيموا عندها مستجمعين لأنفسهم، أي، إلا بالنسبة للناس المعرضين للموت بهذا المعنى الكامل للكلمة. ولهذا فإن ما يميز الإغريق القدامى الذين كانوا يسمون الناس بالمعرضين للموت أنهم فهموا كل شيء انطلاقا من تفاعل السماء والأرض.

      بذلك يكون قد تبين بأنه لا ينتمي للتجربة الأصلية للعالم السماء والأرض فقط، بل كذلك الناس كمعرضين للموت الذين يحدث تفاعل السماء والأرض بالنسبة لـهم. عندما يأخذ المعرضون للموت تعرضهم للموت مأخذ الجد، يعلمون أن كونـهم -في-العالم هو أمر عجيـب. إن الانسحاب لا ينتمي لدائرة نفوذنا، لأنه هو الذي يسحب ذاته. لـهذا فإن المعرضين للموت يفهمون أعجوبة فسح الطريق لبعد الانفتاح العالم انطلاقا من الانسحاب كهدية، أي كهبة تلقائية [xix] ليست قابلة للحساب أو الإنتاج بواسطة شيء ما.

      تتميز الـهبة الحقة بأن مانح المنحة يعطي في إنكار للذات، إنه لا يريد هو ذاته أن يظهر، بل أن يغيب، وذلك حتى يمكن أن يتقبل الممنوح الـهبة دون حرج. كلما صدرت الـهبة عن تلقائية أكبر، أي كلما كانت أقل قابلية للحساب بكيفية ما، كلما ازداد تواري المانح وراء الـهبة. إن الـهبة الأكثر تلقائية هي فسح الطريق للعالم كبعد للظهور انطلاقا من الانسحاب. لذلك يمكن، في أحسن الأحوال، فقط أن نخمن من هو مانح الـهبة.

      ومن جهة أخرى فإن هذا التخمين يجب أن يسمى مانح الـهبة، ذلك أنه ينتمي للـهبة جواب مناسب عليها هو الشكر. لهذا تحدثت الثقافات المختلفة للبشرية عن الله أو الآلـهة. ولكن كل تسميات الله سـواء أكانت "زوس" أو "يهوى" أو "الأب" أو أي شيء آخر لا تنـادي، بوصفها تخمينات خاطرة، سوى شيء زائل تاريخيا. ورغم ذلك يمكن أن نقول: تنتمي الكائنات التي ينعتها المعرضون للموت بأنـها إلـهية، وباختصار الإلـهيون، هي أيضا للعالم، لأنـها هي من يتلقى شكر المعرضين للموت، وهكذا ينتمي للعالم أربعة: الإلـهيون والمعرضون للموت، السماء والأرض. هايدجر يسمي ذلك في كتاباته المتأخرة الرباعي. إذا تأتى لنا أن نعيش تجربة أصيلة للعالم، معارضة لاتجاه التعامل الوظيفي مع الأشياء، فإنه سيظهر كرباعي.

      لا يمكن الفصل بين الأشياء والعالم كما تم بيان ذلك عدة مرات، لهذا يبقى الآن السؤال مطروحا: كيف ترتبط الـهيبة إزاء الانسحاب في الأشياء مع تجربة الرباعي. إن الأشياء حتى عندما تؤخذ كأشياء لليد من أجل الاستعمال، فإنـها لا تكون موضوعات منعزلة، بل إنها تبدو في سياق الاستعمال وتستمد معناها وكونها من هذا السياق وحده. وبموازاة ذلك، فإن الأشياء، في تجربتها الأصيلة المرتبطة بالهيبة، إزاء الانسحاب، يجب أن تستمد معناها وكونـها من الرباعي.

      يمكن بيان ذلك بكيفية مشخصة. مثال هايدجر ذاته هو الجسر. يصادفنا الجسر في الحياة اليومية كشيء لليد، وذلك يعني أننا نستعملـه دون أن نفكر خلال ذلك كثيرا، وأنه عندما تختل حركة المرور يتم إصلاحه بأسرع ما يمكن. إلا أن نظرة إلى الـهاوية التي تكمن تحت الجسر قـد يمكن أن تثير فينا رعبا شديد الأثر وأن تجعلنا نتوقف لحظة خلال حركة استعمال الجسر. في الخطر أمام الهاوية يفصح العدم، الذي يطبع تعرضنا للموت، عن ذاته. إن الهاوية تجعل الجسر يظهر كشيء تلتقي فيه الأرض والسماء. فالجسر مشدود فوق الهاوية لأنه يستند في طرفيه إلى الأرض الصلبة، وهكذا يكون كله محمولا من قبل الأرض، وهو بدوره يحملهـا، لأن حمل الأرض يتواصل فيه. إن الأرض الحاضرة في حمل الجسر تحمينا من الهاوية. نظرا لأن الجسر يحلق فوق الـهاوية، فإنه يعلو ويرتفع إلى انفتاح السماء. إنه يثبتنا في السماء كما لو كنا راقصين على الحبل، وهكذا يجلب السماء إلى الأرض.

      إلا أن ذلك لا يصدق إلا بالنسبة لأولئك المعرضين للموت الذين يتحملون أن يكون وجودهم رقصا على الحبل فوق الهاوية، أي الذين لا يهربون من كونهم عرضة للموت. في المخاطرة التي صارت بناء، والتي تتمثل في أن كل جسر هو اجتياز للهاوية، يصادف أولئك المعرضون للموت تعرضهم هم أنفسهم للموت. إنهم يفهمون حياتهم المعرضة للموت كـهبة، ولهذا وضع الناس في الماضي على الجسور أشكالا تمثل قديسين أو ملائكة يذكرون للإلـهيين - لفظ Engel: الملاك يعني Bote: الرسول-بحضورهم. ليس الجسر فقط، بل كل الأشياء الموجهة للاستعمال يمكن أن تظهر، عندما نستكين ونفهمها في الأصالة ونحن مستجمعون لأنفسنا، كمحل يتجمع فيه الرباعي. إن اللفظ الألماني القديم الذي يدل على التجمـع هو، فوق ذلك، Thing، إذن Ding: الشيء.

      ولكن أليست هذه الكيفية لتجربة الأشياء مجرد حماس شعري ؟ وألا يصدق ذلك على الأمل كله في مستقبل يحل فيه عصر للأصالة ؟ كلمـا تقدم عصرنا أكثر، كلما ذكرنا عالمنا، بشكل أقل، بالرباعي، ولن يلبث أن يظهر لنا العالم كمجرد ترسانة من "الموارد" القابلة للتدبير والتوجيه المحكمين من أجل إعداد منتوجات قابلة للاستعمال. ومع ذلك، فإن هايدجر يحمل الأمل المؤسس في انكشـاف تاريخي لمخرج من هذه الوضعية، يتأسس هذا الأمل بالضبط على أن الانسحاب ذاته يسحب ذاته اليوم إلى خفاء كامل. فمن جهة، يبدو لغزا كيف يمكن أن نصبح مستعدين لتقبل انسحاب لا يمكن حتى أن نخمنه، لأنه هو ذاته يسحب ذاته جذريا. ولكن من جهة أخرى، إن هذا السحب للذات ليس سوى التصعيد الأقصى للانسحاب. وهنا تكمن حسب هايدجر فرصتنا: قد يمكن بالضبط أن نفهم لأول مرة في تقليدنا التاريخي بأن العالم والأشياء تعطانا انطلاقا من الانسحاب الذي يسحب ذاته. إلا أن حدوث ذلك ليس رهينا على أي حال بقدرتنا، ذلك أن ما يميز الانسحاب بالضبط هو أننا لا نتحكم فيه، لأنه يسحب ذاته. إننا تابعون للكيفية التي يفسح بـها الطريق لبعد الظهور. ولكن يمكننا من خلال التأمل الفلسفي أن نستعد لفهم أن الانسحاب، ببلوغه حدا أقصى، يجعل الإنسان من جديد مستعدا لقبول كونه معرضا للموت وبذلك منفتحا للرباعي.

      يختلف هذا التأمل والاستعداد الفلسفيان اختلافا أساسيا عن التصميم المنبثق من الذات والقاضي بأن نعمل بكيفية أفضل من الآن فصاعدا على تجنب الأضرار الناجمة عن تدخلنا في البيئة، فهذا ليس سوى تصحيح ذاتي للاستغلال الوظيفي للبيئة. لقد قابلت في البداية هذا الموقف الذي يدافع عن مركزية الإنسان بالنزعة الطبيعية الإيكولوجية. إلا أن هذه النزعة ليسـت هي أيضا طريق هايدجر، ذلك أن الحث على أن نخضع تماما لدورات الطبيعة يتجاهل منزلة الإنسان في العالم. ينتمي للعالم كرباعي المعرضون للموت. فلا يوجد الرباعي إلا بالنسبة للإنسان الذي يفتح ذاته له في وجوده الأصيل. إن العالم يحتاج لظهوره إلى الإنسان. ومن يريد أن يجعل من الإنسان مجرد عجلة صغيرة في النظام الكلي الإيكولوجي للطبيعة يدني جدا في من منـزلة الإنسان. إنه لا يقوم إلا بقلب النـزعة الوظيفية الذاتيـة على الرأس جاعلا منها نزعة وظيفية موضوعية للطبيعة. حقا يكمن في كلمـة السر "الطبيعة" تخمين يشير إلى ما وراء الوظيفية ذات الاتجاه الإيكولوجي. الطبيعة "Natur" هي الترجمة اللاتينية للفظ اليوناني "physis"، وعن الـ physis يقول هيراقليط، أحد أوائل عظماء تاريخ الفلسفة، بأنـها تنـزع إلى أن تختفي. في إنصاته لـهذه الكلمة سمع هايدجر تخمينا مبكرا للانسحاب ؛ وعلى الـهيبة إزاء الانسحاب يتوقف كل شيء.



      هوامش الترجمة:

      لا أظنني محتاجا إلى الحديث عن الصعوبات التي واجهتني عند ترجمة هذا النص. لقد كنت مضطرا في غالب الأحيان إلى أن أنحت بنفسي مقابلات عربية للمصطلحات والتعابير الألمانية. لاشك أن كثيرا من المصطلحات والتعابير المستعلمة في الترجمة غير قادرة على أداء المضمون الأصلي بما يكفي من الدقة، ولهذا وضعنا هوامش تحاول أن تقرب القارئ العربي ما أمكن من هذا المضمون، وآمل أن يرجع إليها القارئ خلال دراسة النص وأن يقرأها بعناية. وغير خاف عني أن الترجمة التي أقدمها تعاني من قلق في العبارة، وهو يرجع إلى أنني كنت موزعا بين مطلب تقديم مضامين النص الألماني بأمانة ومطلب احترام الإمكانيات التعبيرية للغة العربية، وقد صعب علي في كثير من الأحيان أن أوفق بين المطلبين. وأخيرا فإن بعض المصطلحات والتعابير المستعملة ثقيلة على اللسان العربي، إلا أن عذري أنني لم أجد، لحد الآن، ما هو أفضل منها لأداء المعنى.

      1 ـ Umwelt : تترجم عندما ترد في سياق إيكولوجي بلفظ "البيئة"، أما في الدراسات الفينومينولوجية فتعني "العالم المحيط". وقد فضلنا ترجمتها في النص كله بلفظ "البيئة"، إلا أنه ينبغي أن يستحضر القارئ باستمرار أن البيئة هي العالم المحيط، إذ بذلك فقط تتضح العلاقة بين مشكـل البيئة وبين سياق النص الذي يطرح مشكل العالم.

      2 ـ Heimat : وطن، بلد، جزء من بلد أو محل يحس معه الإنسان بألفة لأنه ولد ونشأ فيه أو أقام فيه مدة طويلة، ويتعلق به تعلقا له غالبا طابع عاطفي. ترجمناها ترجمة تقريبية باستعمال لفظ "الموطن".

      Heimatlosigkeit : تعني عادة حالة من شرد من وطنه، من هو بدون وطن أو جنسية ؛ وفي سياق هذا النص حالة من لا موطن له. يرى هايدجر أن الإنسان الحالي يتجه، بسبب إخضاعه لكـل ما هو كائن وتحويله لكل ما هو معطى في الطبيعة إلى مجال للسيطرة العلمية ـ التقنية، إلى أن يصبح بدون موطن أصلي.

      3 ـ فضلنا ترجمة Existenz / existence بلفظ "وجود"، واستعملنا لترجمة Sein / être لفظ "كون" كمصدر لفعل "كان". ويبدو وأنه أكثر ملاءمة، لأننا يمكن أن نسمع فيـه معنيين أساسيين : فالفعل كان يدل على الحال (مثلا : "كنتم خير أمة أخرجت للناس") وفي نفس الوقت على الوجـود (مثلا : "ما شاء الله كان").

      4 ـ là-devant / Vorhanden : نعت يستعمل عادة للدلالة على ما هو كائن، موجود، متوفر؛ ويستعمله هايدحر لوصف الكائن أو الشيء من حيث هو قائم أمامنا، حاضر ؛ وقد استعملنا في الترجمة اللفظ الأخير.

      L’étant là-devant / Das Vor handene : الشيء أو الكائن القائم أمامنا، الحاضر ؛ ما هو حاضر.

      L’être-là-devant / Das Vorhandensein : كيفية الكون الخاصة بما هو قائم أمامنا، بما هو حاضر. استعملنا لترجمتها : كون الشيء حاضرا، أو الكون ـ الحضور.

      5 ـ en utilisation, à utiliser / Zuhanden: نعت يستعمل لوصف ما هو لليد، في متناول اليد، من أجل الاستعمال. ويستعمله هايدجر لوصف الأشياء أو الكائنات من حيث إنـها تفهم في سياق الاستعمال، أي من حيث إنـها تؤخذ لا كموضوع للإدراك والنظر، بل كوسيلة لتحقيق أغراض عملية مرتبطة بالحياة اليومية.

      L’utilisable / Das Zuhandene ما هو لليد، الكائن أو الشيء الذي هو لليد، أي المعطى في سياق للاستعمال.

      L’utilisabilité / Das Zuhandensein : الكون ـ لليد، كيفية كون الأشياء المعطاة في سياق الاستعمال.

      ليس التمييز بين ما هو حاضر وما هو لليد تمييزا بين صنفين من الكائنات، بل هو تمييز أنطولوجي بين كيفيتين لكون الأشياء. يعتبر الشيء حاضرا عندما نتعامل معه كموضوع قائم أمامنا، معطى لنظرتنا الحسية أو العقلية، أي كموضوع نوجه نحوه اهتمامنا ونعمل على تحديد خصائصه. أما الشيء لليد فهو الشيء كما يتم التعامل معه في إطار سياق استعمالي، أي باعتباره وسيلة لبلوغ غرض ما. عندما نتعامل مع الشيء كشيء لليد، فإن اهتمامنا لا ينصب على الشيء، إنه لا يكون حاضرا أمامنا بما في الكلمة من معنى، بل بالعكس، إنه لكي يؤدي وظيفته بكيفية مرضية يجب أن لا يثير انتباهنا، بل أن يحيلنا إلى كائن آخر في سياق الاستعمال، وهكذا. في كتاب "الكون والزمان" يعمـل هايدجر على بيان أن الأنطولوجيا التقليدية كلها تقوم على تصور يطابق بين الكون والكون ـ الحضور، أي يعتبر أن الكون الحضور هو الكيفية الوحيدة للكون، ويحاول هايدجر في نفس الكـتاب أن يكشف عن جذور هذا التصور في بنية وجود الإنسان. والأنطولوجيا التقليدية تقع بذلك في خطأ أساسي، إذ أنـها من جهة تتجاهل أن الأشياء لا تعطانا في الأصل كأشياء حاضرة، بل كأشياء لليد، ومن جهة أخرى تعمل على تطبيق هذا المفهوم للكون حتى في فهم كون العـالم (فتعتبره كلية الأشياء الحاضرة أو طبيعة ممتدة مثلا) وكون الإنسان (فتعتبره جوهرا مفكرا مثلا).

      6 ـ vorgegenstand lich : قبل ـ موضوعي. إن علاقة الإنسان بالعالم ليست، حسب هايدجر، علاقة ذات متقوقعة ومنطوية بموضوع خارج عنها وقائم أمامها تقرر بين الفينة والأخرى أن تتعامل معه. إن الإنسان، حسب هايدجر، هو دائما وبكيفية مسبقة كائن ـ في ـ العالم، أي إنـه في علاقة ألفة مع العالم، وهذه العلاقة لا تنشأ بقرار منه، بل هي محدد أساسي لوجوده ؛ علاقة الألفة هاته هي التي تسمح لنا بأن نتوجه عادة في العالم دون وقبل أن نتخذه كموضوع.

      7 ـ l’être possible / Das Moglichsein : الكون ـ الممكن، هو كيفية الكون الخاصة بالإنسان.

      [1] ـ mortel / sterblich : فان، معرض للموت.

      Mortalité / sterblichkeit : فناء، تعرض للموت. فضلنا استعمال "معرض للموت: و "تعرض للموت"، وذلك لإبراز "الموت" الذي له دلالة أساسية في تحليلات هايدجر.

      9 ـ dévalement / verfallen : السقوط. لا ينبغي فهمه بالمعنى الديني أو الأخلاقي. السقوط هو حسب هايدجر شكل لكون الإنسان في العالم، إنه يعني الاستسلام للوضعيات الجزئية والإمكانيات القريبة، إنه نسيان الذات والهروب إلى ضجيج الحياة اليومية والغرق في مهامها المتلاحقة التي تقود كل منها إلى الأخرى، بحيث ينشأ عن ذلك تشتت وجود الإنسان وعجـزه عن استجماع ذاته وإدراك وجوده ككون ممكن واحد.

      10 ـ réso/ entschlossenhcit : العزم.

      11 ـ propre / eigentlich : أصيل.

      Propriété / eingentlichkcit : أصالة.

      12 ـ impropre / uneigentlich : زائف.

      Impropriété / uneigentlichkcit : زيف.

      لا يفهم هايدجر الأصالة والزيف بالمعنى الأخلاقي، بل بالمعنى الأنطولوجي، تتحقق الأصالة عندما ينجز الإنسان وجوده بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي بكيفية صريحة، أي عندما تنبثق مشاريعه واختياراته منه هو ذاته، مما يخصه، مما هو أصيل فيه، وعندما يفهم وجوده ككون ـ ممكن واحد ونـهائي. أما عندما يستسلم الإنسان للوضعيات الجزئية ويتشتت وجوده فيها ويقع ضحية لما تـمليه عليه الأشياء أو يقوم بما يقوم به "الناس"، فإنه لا ينجز وجوده بالمعنى الحقيقـي للكلمة، أي إن وجوده يكون زائفا.

      13 ـ in sich : في ذاته سيرد هذا التعبير عدة مرات في النص. ولا ينبغي خلطه بالمعنى الكانطي للشيء "في ذاته": an sich. إن كون الشيء قائما في ذاته أو مستقرا في ذاته يعني أنه قائم أو مستقر داخل ذاته، أي أن للشيء كيانا أو قواما يجعله غير قابل لأن يختزل ويذوب تماما في وظيفته الاستعمالية. وهذا لا يمنع من أنه يمكن فهم استقرار الشيء في ذاته أو قيامه في ذاته في إطار تجربة أصيلة كما سيتم بيان ذلك فيما بعد.

      14 ـ die schen : حالة وجدانية تعبر عن خشية مشوبة بالاحترام أو التوقير والخجل. يبدو أن لفظ "الهيبة" هو أقرب للتعبير عن هذه الحالة.

      15 ـ consommation / verbranch : الاستهلاك. استهلك الشيء بمعنى أنفذه وأفناه. لإدراك الظاهرة التي يقف عندها الكاتب بكيفية مشخصة يكفي أن نفارق بين مناديل الجيب المصنوعة من الثوب والتي نحرص على المحافظة عليها خـلال الاستعمال وبين تلك المصنوعة من الورق والموجهة للاستعمال مرة واحدة، أي للاستهلاك. وهناك في حياتنا اليومية أمثلة عديدة تؤكـد نفس الظاهرة.

      16 ـ grund : أساس. Abgrund : هاوية.

      17 ـ يرد لفظ "الكون" هنا بمعنى universum / univers

      18 ـ ليست الأرض والسماء جهتين بالمعنى المكاني، بل بمعنى أنـهما البعدان المتقابلان للظهور أو الكيفيتان اللتان يحدث بـهما العالم كنزاع بين الانغلاق والانفتاح ؛ إنـهما حدثان، فالأرض تعبر عن حدوث الانغلاق والسماء عن حدوث الانفتاح.

      [1][1] ـ Jrei: تعني عادة حر. فضلنا ترجمتها هنا بلفظ "تلقائي" لأنه أكثر اقترابا من المعنى المقصود. فالـهبة تلقائية، بمعنى أنه لا يمكن إنتاجها أو إحداثها حسب شروط معينة، ولا يمكن حسابـها والتنبؤ بـها، وبمعنى أنـها لا تتم لتحقيق غاية ترجى من ورائها.







      --------------------------------------------------------------------------------

      (*) نتقدم بشكرنا العميق إلى الأستاذ Klaus Held الذي تفضل وأذن لنا بنشر الترجمة العربية لمقاله هذا على صفحات هذه المجلة.



      --------------------------------------------------------------------------------





















      .













                  

10-14-2004, 08:10 AM

abdalla BABIKER

تاريخ التسجيل: 09-14-2003
مجموع المشاركات: 2260

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)
                  

10-14-2004, 12:00 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رمضان كريم يا عبدالله (Re: osama elkhawad)

    رمضان كريم يا عبدالله
    وربنا يتقبل الدعوة
    المش==================================================
    اء
                  

10-14-2004, 12:04 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مقالة كانط حول الانوار (Re: osama elkhawad)

    شكل التنوير او الانوار ثيمة اساسية في حوار هابرماس مع من سماهم بالمحافظين الجدد مثل ليتوار ودريدا وفوكو

    وهنا نورد مقالة الفيلسوف الالماني كانط حول تعريف الانوار
    وسنعقب ذلك بمقالة لفوكو حول التنوير

    إجابة عن السؤال: ماهو التنوير؟إيمانويل كنط

    ترجمه عن الألمانية : إسماعيل المصدق

    تقديـم:

    في عدد شهر دجنبر 1783 من "مجلة برلين الشهرية" نشر راهب من برلين اسمه تسولنر Johann Friedrich Zöllner (1753-1804) ردا على مقال سبق أن نشرته نفس المجلة في عدد شتنبر من نفس السنة يدافع فيه كاتب لم يفصح عن اسمه عن الزواج المدني. خصص تسولنر مقاله لانتقاد الزواج المدني والدفاع عن عقد الزواج في الكنيسة، معتبرا أن ذلك من مصلحة الدولة ذاتها؛ إلا أنه في نفس الوقت هاجم الخلط الذي نشأ في أذهان الناس وقلوبهم بصدد مفهوم التنوير. وقد ألحق بمقاله هامشا مستفزا كتب فيه : "ما هو التنوير؟ هذا السؤال الذي يعادل تقريبا في أهميته السؤال : ما هي الحقيقة، يجب الإجابة عنه قبل البدء في التنوير! ومع ذلك فإنني لم أعثر في أي موضع على جواب عنه!"

    هذا السؤال المندس في هامش مقال كتبه راهب بروتستانتي مجهول نسبيا عن قانون الزواج سيكون مثمرا بالنسبة لتاريخ الفلسفة. وهكذا سينشر أولا موسى مندلسزون Moses Mendelssohn (1729-1786) مقالا بعنوان: "حول السؤال: ما معنى التنوير؟" في عدد شتنبر 1784 من نفس المجلة. بعد ذلك سيظهر في عدد دجنبر من نفس السنة مقال كنط الذي يتضمن تعريفه المشهور للتنوير. يتبين من ملاحظة كنط في نهاية المقال أنه لم يكن حين كتابته على علم بمضمون مقال مندلسزون، وإن كان علم بصدور مقال له حول هذا الموضوع من خلال قراءته لجريدة أسبوعية نشرت إعلانا يتضمن محتويات عدد شتنبر 1784 من "مجلة برلين الشهرية".

    نقدم فيما يلي ترجمة لمقال كنط كما نشر في المجلد 11 من مجموعة مؤلفاته التي نشرتـها دار Surkamp تحت إشراف Wilhelm Weischedel، فرانكفورت، م 1966، ص 53-61.

    ويجب أن أشير إلى أنني اعتمدت في كتابة هذا التقديم وكذلك بعض هوامش الترجمة على الكتيب الذي أصدره Erhard Bahr تحت عنوان " ما هو التنوير؟"، دار النشر Reclam، شتوتجارت 1974، والذي يضم نصوصا لفلاسفة ألمان حول مفهوم التنوير وتعليقات عليها.



    التنوير(1) هو خروج الإنسان من القصور(2) الذي يرجع إليه هو ذاته. القصور هو عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير. يكون هذا القصور راجعا إلى الذات إذا كان سببه لا يكمن في غياب الفهم، بل في غياب العزم والجرأة على استخدامه دون قيادة الغير! Sapere aude (3)، تجرأ على استخدام فهمك الخاص!(4) هذا إذن هو شعار التنوير.

    إن الكسل والجبن هما السبب الذي يجعل طائفة كبيرة من الناس يظلون، عن طيب خاطر، قاصرين طوال حياتهم، حتى بعد أن تكون الطبيعة قد حررتهم، منذ مدة طويلة، من كل قيادة خارجية (naturaliter majorennes)(5)، والذي يجعل أخرين ينصبون أنفسهم بسهولة أوصياء عليهم. إنه من المريح جدا أن يكون المرء قاصرا. إذا كان لدي كتاب له فهم نيابة عني، وواعظ له ضمير نيابة عني، وطبيب يحدد لي نظام تغذيتي الخ، فإني لن أحتاج إلى أن أجتهد بنفسي. ليس من الضروري أن أفكر ما دمت قادرا على أداء الثمن؛ ذلك أن الآخرين سيتحملون هذا العمل المزعج نيابة عني. أما أن الأغلبية الساحقة من الناس (وضمنهم الجنس اللطيف بأكمله) يعتبرون أن الخطوة نحو الرشد، فضلا عن أنها شاقة، خطيرة جدا كذلك، فهذا ما سبق أن دبره أولئك الأوصياء الذين يتحملون الإشراف العام عليهم بطيبوبة تامة. فبعد أن يجعلوا أولا ماشيتهم مغفلة، وبعد أن يحرصوا بعناية على ألا يسمح لـهذه المخلوقات الهادئة بأن تتجرأ على القيام بخطوة واحدة خارج عربة المشي(6) التي حبسوها داخلها، بعد ذلك يبينون لهم الخطر الذي يتهددهم إذا ما حاولوا المشي بمفردهم.صحيح أن هذا الخطر ليس بالذات جد كبير، لأنهم سينتهون بتعلم المشي بعد أن يسقطوا بضع مرات؛ إلا أن مثالا واحدا من هذا النوع يثير الوجل لدى المرء ويردعه عموما عن القيام بمحاولات أخرى.

    إنه إذن لمن الصعب على أي إنسان بمفرده أن يتخلص من القصور الذي أصبح تقريبا بمثابة طبيعة له. بل أكثر من ذلك، إنه غدا يحبه، وهو في الوقت الحاضر عاجز بالفعل عن استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يسمح له أبدا بأن يحاول ذلك. إن النظم والقواعد، هذه الأدوات الميكانيكية لاستعمال المواهب الطبيعية، أو قل لسوء استعمالها، هي بمثابة قيود للقصور الدائم. وحتى من خلعها، لن يتمكن من القيام إلا بقفزة غير آمنة فوق أضيق الحفر، لأنه لم يتعود على مثل هذه الحركة الحرة. لـهذا السبب، لم يوفق إلا القليلون في أن ينتزعوا أنفسهم من حالة القصور بواسطة مجهودهم الخاص وأن يسيروا مع ذلك بأمان.

    أما أن ينور جمهور(7) ذاته، فهذا بالأحرى ممكن، بل إنه تقريبا أمر محتم إذا كان هذا الجمهور متمتعا بالحرية. ذلك أنه، في هذه الحالة، سيوجد دائما، حتى بين من نصبوا أنفسهم أوصياء على الأغلبية، بعض الذين يفكرون بأنفسهم ، والذين، بعد أن يتخلصوا هم أنفسهم من ربقة القصور، ينشرون حواليهم روح تقدير عقلي لقيمة كل إنسان واستعداده لأن يفكر اعتمادا على نفسه. والغريب هنا أن الجمهور الذي سبق أن وضع من قبلهم تحت ربقة هذا القصور، يجبرهم بعد ذلك، هو أيضا، على أن يظلوا تحتها، إذا حرضه على ذلك بعض أوصيائه العاجزين عن التنوير. إلى هذا الحد يكون ترسيخ الأحكام المسبقة مضرا، لأنها في الأخير تنتقم لنفسها من أولئك الذين كانوا هم أنفسهم أو أسلافهم واضعيها. لـهذا، لا يمكن لجمهور أن يبلغ التنوير إلا بتأن. فالثورة قد تطيح بالاستبداد الشخصي والاضطهاد المتعطش للمصلحة المادية أو السلطة، ولكن لا يمكن أن تؤدي أبدا إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير (، بل فقط إلى استخدام أحكام مسبقة جديدة، مثلما كانت تستخدم القديمة، كشريط موجه (9) للأغلبية التي لا تفكر.

    وإنه من أجل هذا التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير الحرية وبالضبط تلك الحرية الأقل ضررا بين كل ما يندرج تحت هذا اللفظ، أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين. إلا أنني أسمع من جميع الجهات صوتا ينادي : لا تفكروا !(10) فالضابط يقول : لا تفكروا، بل قوموا بالتمارين ! وموظف المالية : لا تفكروا، بل سددوا المبالغ! ورجل الدين : لا تفكروا، بل آمنوا ! (هناك سيد واحد في العالم (11) يقول : فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون، لكن أطيعوا.) وهكذا يتم هنا في كل مجال تقييد الحرية. ولكن أي تقييد للحرية يعوق التنوير؟ وأي تقييد لا يعوقه، بل بالأحرى يفيده؟ أجيب : إن استعمال الإنسان لعقله استعمالا عموميا يجب أن يكون دائما حرا، وهو وحده يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس؛ أما استعماله الخصوصي فيمكن غالبا تقييده بصرامة شديدة، دون أن يعوق ذلك بشكل خاص تقدم التنوير (12). أعني بالاستعمال العمومي لعقلنا الخاص ذلك الاستعمال الذي يقوم به شخص ما بصفته رجل فكر (13) أمام جمهور يتكون من عالم القراء بأكمله. أما الاستعمال الخصوصي فأعني به ذلك الذي يمكن أن يقوم به المرء بصفته يتقلد منصبا مدنيا أو وظيفة مدنية ما (14). ذلك أنه من الضروري لبعض الشئون التي تـهم مصلحة الجماعة (15) أن توجد آلية معينة يجب بواسطتها على بعض أعضاء الجماعة أن يتصرفوا فقط بسلبية (16)، حتى يمكن، بفضل توافق تصطنعه الحكومة، أن يتم توجيههم نحو المصالح العامة، أو، على الأقل، منعهم من إتلافها. فهنا بالطبع لا يسمح بالتفكير، بل يجب على المرء أن يطيع. ولكن من حيث إن هذا الجزء من الآلة يعتبر ذاته في نفس الوقت عضوا في جماعة بأكملها، بل وفي المجتمع العالمي، وتبعا لذلك يخاطب، من خلال كتاباته، جمهورا، معتمدا في ذلك على فهمه الخاص، فإنه يمكنه، بلا شك، أن يفكر دون أن تتأثر بذلك الشئون التي عين لتصريفها كعضو سلبي إلى حد ما. وهكذا سيكون من المفسد جدا أن يريد ضابط، خلال أداء عمله، المجادلة جهرا في صواب أو فائدة أمر تلقاه من رؤسائه، بل عليه أن يطيع. ولكن ليس من العدل أن نحرمه، بصفته رجل فكر، من إبداء ملاحظات حول عيوب الخدمة العسكرية وأن يعرض هذه الملاحظات على الجمهور ليحكم عليها. والمواطن لا يحق له أن يمتنع عن أداء الرسوم المفروضة عليه، بل إن طعنا وقحا في هذه المستحقات، إذا كان عليه أداؤها، أمر يجب أن يعاقب عليه بصفته فضيحة (قد يمكن أن تسبب عصيانا عاما). ومع ذلك، فإنه لن يخل بواجبه كمواطن، إذا عبر عموميا، بصفته رجل فكر، عن آرائه حول عيوب هذه المستحقات أو أيضا جورها. وكذلك فإن رجل الدين ملزم بأن يعلم تلامذته وجماعته حسب رمز (17) الكنيسة التي يخدمها، لأنه قد تم تعيينه في هذه المهمة على أساس هذا الشرط. ولكنه يتمتع، كرجل فكر، بكامل الحرية في أن يفضي للجمهور بكل أفكاره المدروسة بعناية والمنبثقة عن نية حسنة حول ما هو خاطئ في ذلك الرمز واقتراحاته الرامية إلى تدبير أفضل للنظام الديني والكنيسي؛ بل وإن هذا يعتبر جزءا من رسالته. وليس في ذلك أيضا ما يمكن أن يسبب له وخز الضمير. ذلك أن ما يلقنه، بناءا على وظيفته كقائم بأعمال الكنيسة، يقدمه لا كشيء يتمتع هو بحرية تقلينه وفق ما يحلو له، بل كشيء عين لتلقينه حسب تعليمات الغير وباسمه. إنه سيقول : تعتنق كنيستنا هذا الرأي أو ذاك؛ هذه هي الحجج التي تستند إليها. ثم إنه يجلب لجماعته كل المنفعة العملية من القواعد التي قد لا يقبلها هو ذاته باقتناع تام والتي تعهد مع ذلك بتدريسها، لأنه ليس من المستحيل تماما أن توجد بين طياتـها حقيقة كامنة، ولأنه على أي حال لا يوجد فيها على الأقل ما يتناقض مع الدين الداخلي. أما إذا كان يعتقد بوجود هذا التناقض، فإنه لن يستطيع القيام بوظيفته بكيفية ترضي ضميره؛ وفي هذه الحالة، سيكون عليه أن يتخلى عنها. إن استعمال المدرس الموظف لعقله أمام جماعته هو مجرد استعمال خصوصي، لأن هذه الجماعة تبقى مجرد تجمع عائلي حتى وإن كان كبيرا جدا؛ وهو كقسيس ليس حرا في هذا الاستعمال، ولا يحق أيضا أن يكون حرا فيه، لأنه ينفذ مأمورية كلفه بها الغير. وعلى العكس من ذلك، يتمتع رجل الدين في الاستعمال العمومي لعقله، أي بصفته رجل فكر يخاطب الجمهور الحقيقي، أي العالم، بحرية غير مقيدة في أن يستخدم عقله الخاص وأن يتلكم باسمه الشخصي. ذلك أنه من الحماقة التي تؤدي إلى تأبيد الحماقات أن يكون أوصياء الشعب (في الأمور الدينية) هم أنفسهم قاصرين أيضا.

    ولكن ألا ينبغي أن تتمتع هيئة من رجال الدين، مجمع كنسي مثلا، أو طبقة مبجلة (كما تسمى لدى الهولنديين (1 )بالحق في أن يلتزم أعضاؤها فيما بينهم قسما برمز معين غير قابل للتغيير، حتى يمارسوا، بل ويؤيدوا وصاية عليا دائمة على كل الأعضاء، وبواسطة هؤلاء على الشعب، أقول : إن ذلك غير ممكن تماما. إن مثل هذا التعاقد على منع كل استمرار في تنوير الجنس البشري هو باطل تماما، حتى وإن تم تأكيده من قبل السلطة العليا، من قبل برلمانات ومعاهدات السلم الأكثر رسمية. لا يمكن لعصر أن يتحد ويتفق على جعل العصر اللاحق في حالة تمنعه من توسيع معارفه (خاصة الملحة جدا) والتخلص من الأخطاء، وعموما التقدم في التنوير. فذلك سيكون جناية في حق الطبيعة البشرية التي تكمن غايتها الأصلية في هذا التقدم بالضبط. وإن للخلف الحق كل الحق في أن يرفض تلك القرارات وأن يعتبرها غير مشروعة وطائشة. إن محك كل ما يمكن إقراره على شعب كقانون يكمن في السؤال : هل يمكن لشعب أن يفرض على ذاته مثل هذا القانون؟ قد يكون هذا القانون ممكنا خلال زمن وجيز محدد لإرساء نظام معين، وذلك، إذا جاز التعبير، في انتظار قانون أفضل، على شرط أن تترك في نفس الوقت لكل واحد من المواطنين، وخاصة لرجل الدين، حرية أن يبدي عموميا، بصفته رجل فكر، أي من خلال كتابات، ملاحظاته على ما هو خاطئ في التنظيم الحالي؛ وفي أثناء ذلك يبقى النظام الذي تم إرساؤه قائما، إلى أن يبلغ فهم طبيعة الأشياء عموميا درجة متقدمة وأن تثبت صلاحيته إلى حد يسمح بأن يرفع للعرش بواسطة جمع الأصوات ( حتى وإن لم تكن كلها) اقتراح يرمي إلى حماية تلك الجماعات التي اتفقت مثلا انطلاقا من تصورها لفهم أفضل للأشياء، على تنظيم ديني مخالف، وذلك دون المساس بالجماعات التي تريد ترك الأمر على ما هو عليه. إنه من غير المشروع بتاتا الاتفاق، ولو خلال مدة حياة إنسان واحد فقط، على نظام ديني ثابت لا يمكن الشك فيه عموما، وبالتالي القضاء، إذا صح التعبير، على حقبة في مسيرة البشرية نحو التحسن، وجعلها غير مثمرة، بل وبسبب ذلك مضرة بالخلق. نعم، يمكن لإنسان أن يرجئ التنوير فيما ينبغي عليه معرفته، أما التخلي عنه، سواء بالنسبة لشخصه، أو أكثر من ذلك، بالنسبة للخلف، فهو خرق للحقوق المقدسة للإنسانية ودوس عليها بالأقدام. والحال أنه لا يحق للملك أن يقرر على شعبه ما لا يحق حتى لـهذا الأخير أن يقرره على ذاته، لأن نفوذه التشريعي يقوم بالضبط على أنه يوحد في إرادته الإرادة الشعبية بأكملها . وإنه إذا حرص فقط على أن يكون كل إصلاح حقيقي أو مفترض ملائما للنظام المدني، فيمكنه، فيما عدا ذلك، أن يترك رعاياه يقومون بما يرونه ضروريا من أجل خلاص نفوسهم؛ فإن ذلك ليس من مهامه، ولكن من مهامه بالفعل أن يحول دون أن يستعمل شخص العنف لمنع شخص آخر من العمل لغاية خلاص نفسه والتقدم في تحقيقه بكل ما يملك من مقدرة. إن تدخله في ذلك الأمر بممارسة المراقبة الحكومية على الكتابات التي يعمل رعاياه من خلالها على توضيح تصوراتهم، سينال من جلالته ذاتها، سواء أقام بذلك انطلاقا من تصوره الخاص الأسمى، فيعرض ذاته في هذه الحالة لمأخذ هو : Caesar non est supra Grammaticos (19)، أو وهو ما سينال من جلالته بكيفية أكبر بكثير، إذا ما أنزل سلطته العليا إلى حد دعم الاستبداد الديني الذي يمارسه بعض الطغاة في دولته ضد بقية رعاياه. والآن إذا تساءلنا والحالة هذه : هل نعيش حاليا في عصر متنور؟ فسيكون الجواب : لا، ولكن نعيش بالتأكيد في عصر للتنوير. ففي الوضعية الراهنة للأشياء لا زال ينقص الكثير عموما، لكي يكون الناس في حالة تسمح لهم بأن يستخدموا، في الأمور الدينية، فهمهم الخاص بكيفية آمنة وجيدة، دون قيادة الغير، بل لا زال ينقص الكثير حتى لكي يصبح من الممكن نقلهم إلى هذه الحالة. ولكن، في مقابل ذلك، هناك علامات واضحة على أن المجال مفتوح أمامهم الآن حتى يهيئوا أنفسهم بحرية لتحقيق ذلك، وعلى أن عوائق التنوير العام، أو الخروج من القصور الذي يرجع إليهم، تتناقص تدريجيا.

    إن الملك الذي لا يرى من المشين به أن يقول بأنه يعتبر من الواجب ألا تفرض على الناس تعليمات في الأمور الدينية، بل أن تترك لهم في تلك الأمور الحرية التامة، والذي يدفع عن نفسه إذن حتى الاسم المترفع للتسامح، هو ذاته متنور، ويستحق أن يمدح من قبل كل من يعترف بالجميل في العالم وفي الأجيال اللاحقة بصفته أول من حرر الجنس البشري، على الأقل من جانب الحكومة، من القصور، وترك لكل شخص حرية استخدام عقله في كل الأمور التي تعود إلى الضمير تحت إمرة هذا الملك، يحق لرجال دين محترمين، دون مساس بواجبات وظيفتهم، أن يعرضوا على أنظار العالم، بصفتهم رجال فكر، بكيفية حرة وعمومية، أحكامهم وآراءهم التي تختلف ، في هذه النقطة أو تلك، عن الرمز الذي ينتمون إليه؛ ويحق ذلك أيضا، وبالأخرى، لكل شخص غير مقيد بواجبات أية وظيفة. إن روح الحرية هذه تنتشر أيضا خارج هذا المجال، حتى حيث يكون عليها أن تواجه عوائق خارجية تفرضها حكومة تسيء فهم دورها. إن ذلك يصلح كمثل يدل على أنه ليس هناك ما يخشى على الأمن العام ووحدة الجماعة في ظل الحرية. إن الناس يخلصون أنفسهم من تلقاء أنفسهم أكثر فأكثر من الخشونة، ما لم يتم العمل عمدا على تركهم في هذه الحالة.

    لقد وضعت النقطة الرئيسية للتنوير، أي لخروج الإنسان من القصور الراجع إليه هو ذاته، في الأمور الدينية أساسا، لأن حكامنا ليس لهم أية مصلحة في أن يلعبوا دور الوصاية على رعاياهم في مجال الفنون والعلوم؛ وفوق هذا، فإن ذلك القصور، فضلا عن أنه الأكثر ضررا، فإنه أيضا الأكثر مساسا بالكرامة. ولكن نمط تفكير عاهل يشجع التنوير يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أنه حتى في مجال التشريع، ليست هناك خطورة في أن يسمح لرعاياه باستعمال عقلهم الخاص استعمالا عموميا، وأن يعرضوا على العالم علنا أفكارهم حول شكل أفضل لـهذا التشريع، حتى وإن تضمنت نقدا صريحا للتشريع القائم. ولدينا على ذلك مثال ساطع لم يسبق فيه أي ملك ذلك الملك الذي نجله.

    ولكن من جهة أخرى، يمكن فقط لمن هو متنور لا يخاف الظلال والذي يتوفر في نفس الوقت على جيش وافر العدد ومحكم التنظيم لضمان الأمن العام، أن يقول مالا يمكن أن تتجرأ جمهورية على قوله : فكروا بمقدار ما تريدون وفي كل ما تريدون؛ ولكن أطيعوا! هكذا يتجلى هنا، وكذلك في مجالات أخرى، مسار غريب وغير منتظر للأمور البشرية، إذا لاحظناه في عموميته، بدا لنا أن كل شيء فيه تقريبا يحمل طابع المفارقة. إن قدرا أكبر من الحرية المدنية يبدو أنه مفيد لحرية روح الشعب، ومع ذلك، فإنه يضع أمامها حواجز لا يمكن تخطيها؛ وعلى العكس من ذلك، فإن قدرا أقل منها يفسح المجال للشعب كلي يتفتح حسب كل مقدرته. إذا كانت الطبيعة قد أخرجت من تحت هذه القشرة السميكة البذرة التي ترعاها بالكيفية الأكثر حنوا، أي الميل والاستعداد للتفكير الحر، فإن هذا الأخير يؤثر بدوره تدريجيا على خلق الشعب (الذي يصبح بذلك شيئا فشيئا أهلا لحرية التصرف)، ويؤثر أخيرا حتى على مبادئ الحكومة التي تجد هي ذاتها من المفيد أن تعامل الإنسان، الذي هو الآن أكثر من مجرد آلة، بما يتلاءم مع كرامته.



    كوينجسبرج/بروسيا، في 30 شتنبر 1784

    إ. كنط

    أقرأ يومه 30 شتنبر في عدد 13 شتنبر من "الأخبار الأسبوعية البوشينجية" (20) إعلانا عن عدد هذا الشهر من "مجلة برلين الشهرية"، الذي يضم ضمن مواده جواب السيد مندلسزون علة نفس السؤال. هذا الجواب لم يقع بعد تحت يدي، وإلا لربما جعلني أستغني عن كتابة جوابي هذا، الذي يبقى هنا مجرد تعبير عن كيف يمكن أن تحدث الصدفة تواردا في الخواطر.



    الهوامش



    1 - Aufklärung : تحريا للدقة ينبغي ترجمة هذا المصطلح بلفظ "التنوير"، ليس فقط لأنه يوافق اللفظ الألماني من حيث الصيغة، بل لأنه، علاوة على ذلك، يشير إلى أن الأمر لا يتعلق بحالة أو وضعية تسود فيها الأنوار، بل بعملية أو سيرورة يتم في إطارها نشر العلم والمعرفة المستندة إلى العقل، والتحرر من الأحكام المسبقة والمعتقدات المستندة إلى مختلف أشكال السلطة.

    2 - mündig : majeur : راشد

    unmündig : mineur قاصر

    Mündigkcit : majorité : رشد

    Unmündigkcit : minorité : قصور

    3 - وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني :"تجرأ على المعرفة "، وقد اتخذت شعارا للتنوير قبل كنط.

    4 - يجب أن نلاحظ هنا أن كنط يورد شعار التنوير كدعوة أخلاقية تتخذ صيغة الأمر القطعي.

    5 - وردت هذه العبارة في النص باللغة اللاتينية، وهي تعني: "راشدون من حيث الطبيعة". يريد كنط أن يقول إن هؤلاء الناس بلغوا السن الطبيعي للرشد، في حين أنهم من الناحية الفكرية لا زالوا قاصرين.

    6 - Gängelwagen : إطار له عجلات يوضع فيه الأطفال على هيئة الوقوف ليساعدهم في تعلم المشي ويحميهم من خطر السقوط، ترجمت هذا اللفظ ب" عربة المشي".

    7 - Le public : das Publikum : الجمهور يشكل، في مقابل الفرد مجموع الناس المنتمين لمكان أو إقليم أو دولة ما. استعمل في القرن الثامن عشر للدلالة على مفهوم المجال العمومي die offentlichkcit وكان يحمل دلالات أهمها: أ) مجموعة الناس المتجمعين في مكان عمومي، ب) قراء كاتب ما، عالم القراء، ج)كل من يعيش معنا في نفس الوقت.

    8 - هذا الموقف من الثورة لم يمنع كنط من أن يعبر علنا عن تعاطفه، بل ومساندته لأفكار الثورة الفرنسية، في زمن لم يكن فيه ذلك مأمون العواقب.

    9 - Lisière : Leitband : شريط موجه، شريط يربط في ملابس الأطفال الصغار الذين يتعلمون المشي ليوجههم خلال المشي ويحميهم من السقوط.

    10 - räsonieren : لا يتطابق مدلول هذا اللفظ مع مدلول اللفظ الفرنسي raisonner، لأنه يختلف، كما يتبين من النص ذاته، حسب السياق الذي يستعمل فيه. فهو قد يحمل طابعا إيجابيا فيعني، أفكر عقليا، أصدر حكما بناء على أسس عقلية إلا أنه يتخذ في الغالب طابعا قدحيا فيعني : عارض، تكلم بعناء، جادل، جادل مجادلة صورية أو لفظية. ارتأينا ترجمة هذا اللفظ في النص بكامله ب"فكّر".

    11 - يشير كنط هنا إلى ملك بروسيا فريدريك الثاني (1740-1786).

    12 - الاستعمال العمومي للعقل هو ذلك الذي يقوم به الإنسان بصفته شخصا خصوصيا، أي كرجل فكر، أمام جمهور قرائه. أما الاستعمال الخصوصي فهو الذي يمارسه شخص بصفته يشغل منصبا عموميا.

    13 - Le savant : der Gelehrte : اسم يطلق على من له تكوين ثقافي واسع ويمتلك معارف أساسية وشاملة. تحاشيت ترجمة هذا اللفظ ب"عالم" بسبب المضامين التي أصبح يحملها هذا اللفظ في عصرنا. يستحسن ترجمته ب "رجل العلم" أو "رجل الفكر"، وقد فضلت استعمال العبارة الأخيرة.

    14 - bürgerlich : civil : ترجت هذا اللفظ في النص كله ب"مدني" ، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي لم يكن واضحا في زمن كنط، وأن لفظ"مدني" كان إلى حدود القرن الثامن عشر مرادفا للفظ " سياسي". وعلى عكس ذلك اكتسب التمييز بين ما هو مدني وما هو سياسي دلالة أساسية بفضل الفصل الواضح الذي أقامه هيجل في فلسفة الحق بين دائرة المجتمع المدني ودائرة الدولة.

    15 - Communauté : das gemeinwesen, das gemeine wesen : الجماعة

    16 - passivement : passiv : بسلبية، بكيفية سلبية.

    17 - symbole : symbol : رمز يعني في اللغة اللاهوتية لكل الكنائس مجموع التعاليم التي تعتنقها طائفة أو كنيسة، وتكون بمثابة صياغة للمعتقدات المشتركة بين أعضاء هذه الطائفة أو الكنيسة، وهي ملزمة لكل الأعضاء.

    18 - في هولندا : تجمع كنسي يتمتع بسلطة التشريع في المجال الديني.

    19 - وردت هذه العبارة باللغة اللاتينية في النص، وهي تعني : "ليس القيصر فوق النحاة".

    20 - " الأخبار الأسبوعية البوشيخية" نشرة أسبوعية كان يصدرها بوشينج Anton Friedrich Büsching من برلين من 1773 إلى 1786، وكانت تتضمن بالأساس أخبارا عن الكتب الجديدة والمجلات الثقافية.

                  

10-14-2004, 12:08 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فوكو يقارب سؤال "ما هي الأنوار" (Re: osama elkhawad)

    ما هي الأنوار؟
    م.فوكو

    ترجمة وتعليق: حميد طاس

    I -

    عندما تطرح جريدة ما، في أيامنا هذه، سؤالا على قرائها، فذلك لتطلب وجهة نظرهم في موضوع يكون لكل واحد منهم فيه رأي خاص، فلا تكون هناك إمكانية معرفة شيء جديد. أما في القرن 18م فكان يفضل أن تطرح على العامة مجموعة من القضايا لم يتوصل بعد إلى حلها، ولست أدري إن كانت هذه الطريقة ناجعة بقدر ما كانت مسلية. ودائما وبموجب هذه العادة نشرت دورية ألمانية هي Berlinische Monatschrift (شهرية برلين) في نوفمبر 1784م جوابا على السؤال: ما هي الأنوار؟ Was ist Aufklarung، وكان هذا الجواب لكانط.

    قد لا يكون نصا مهما، ولكن أظن أن معه قد دخل إلى تاريخ الفكر، وبشكل خفي، سؤال لم تكن الفلسفة الحديثة قادرة على الإجابة عنه، بل لم تستطيع قط التخلص منه، وها هي الآن، ومنذ قرنين من الزمان مازالت تعيده وتكرره بأشكال مختلفة، فمن Hegel إلى Horckheimer أو Habermas مرورا بـ Neitzsche أو Max Weber لا توجد فلسفة إلا وواجهت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نفس السؤال: ما هو هذا الحدث الذي يسمونه الأنوار والذي حدد، ولو جزئيا على الأقل، ما نحن عليه، وما نفكر فيه وما نفعله الآن. فإذا تخيلنا أن Berlinische Monatschrift (شهرية برلين) ما زالت موجودة في أيامنا هذه و أخذت تطرح على قرائها السؤال: "ما هي الفلسفة الحديثة؟" ، فربما نستطيع أن نجيب وبكل تلقائية: إن الفلسفة الحديثة هي تلك التي حاولت، وبكل حذر منذ قرنين الجواب على السؤال: ما هي الأنوار؟(1)

    لنتوقف قليلا عند هذا النص لكانط، فإنه يسترعي الانتباه لأسباب متعددة.

    1 - ففي نفس الجريدة، ومنذ شهرين من قبل، كان Moses Mendelssohn قد أجاب هو أيضا على نفس السؤال، ولكن كانط لم يكن يعلم بذلك النص حين حرر جوابه.

    صحيح أن هذه اللحظة لم تكن هي بداية الإلتقاء بين الحركة الفلسفية الألمانية والتطورات الجديدة للثقافة اليهودية، فقد كان Mendelssohn صحبة Lesing حاضرا في هذا التقاطع منذ 30 سنة، ولكن إلى ذلك الحين كان الأمر يتعلق فقط بالمطالبة بحق المواطنة للثقافة اليهودية داخل الفكر الألماني -وهذا ما حاول Lesing أن يفعله في die Juden (اليهود)-، أو بمحاولة إثارة المشاكل المشتركة بين الثقافة اليهودية والفلسفية الألمانية: وهذا ما فعله Mendelssohn في محاورات حول خلود الروح. ولكن بظهور النصين في Berlinische Monatschrift (شهرية برلين) عرفت الأنوار الألمانية والأسكالا Haskala اليهودية أنهما ينتميان إلى نفس التاريخ، فأخذا يبحثان في تحديد العامل المشترك الذي ظهرا على إثره، وربما كانت تلك طريقة للإعلان عن قبول مصير مشترك نعلم جيدا إلى أي كارثة سوف يؤدي إليها.

    2 - زيادة على ذلك يطرح هذا النص في حد ذاته وداخل التقليد المسيحي مشكلا جديدا. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يحاول الفكر الفلسفي أن يتأمل فيها حاضره الخاص، ولكن يمكن القول، وبطريقة مبسطة، أن هذا التفكير قد أخذ إلى ذلك الحين ثلاثة أشكال رئيسية:

    - فيمكن أن نتصور الحاضر كإنتماء لعصر من عصور العالم يختلف عن غيره ببعض الخصائص المميزة أو يبتعد عن غيره ببعض الحوادث الخطيرة(2). هكذا مثلا يعلم المحاورون في جمهورية أفلاطون أنهم ينتمون إلى واحدة من تلك الثورات العالمية حيث يرجع العالم متقهقرا إلى الوراء بكل ما يحمله هذا الرجوع من النتائج السلبية.

    - ويمكن أيضا أن نسائل الحاضر من أجل أن نعثر فيه على علامات تبشر بوقوع حدث في المستقبل، وهنا نكون أمام مبدأ افتراض تأويل تاريخي يمكن لـ Augustin أن يعطينا مثالا على ذلك.

    - كما يمكن تحليل الحاضر كنقطة تحول نحو فجر عالم جديد، وهذا ما يصفه Vico في آخر فصل من مبادئ فلسفة التاريخ. فما يراه في "الآن" هو "إنتشار أتم الحضارات عند الشعوب التي يخضع أغلبها لملوك كبار"، كما يرى في الآن "أوروبا زاهية لا تقابلها حضارة أخرى تنعم أخيرا بكل أنواع الخيرات التي تخلق سعادة وهناء الحياة البشرية".

    غير أن الطريقة التي يطرح بها كانط سؤال الأنوار هي مخالفة تماما: فليست هي عصرا للعالم ننتمي إليه، ولا حدثا ندرك علاماته، ولا حتى بداية لإنجاز. فكانط يعرف الأنوار بطريقة تكاد تكون سلبية تماما، يعرفه كـ Ausgang "كخروج"، "كمنفذ". فإذا كان كانط في كتاباته الأخرى حول التاريخ يطرح أسئلة حول الأصل أو يحدد الغاية الداخلية لصيرورة تاريخية ما(3)، فإن السؤال في هذا المقال حول الأنوار يهتم بالوضع الراهن الخالص، أنه لا يسعى إلى فهم الحاضر انطلاقا من كلية ما أو اكتمال مستقبلي، إنه يبحث عن الاختلاف: ما هو الشيء المختلف الذي يضيفه الوضع الراهن بالمقارنة مع ما أتى به الأمس؟(4)

    3 - لن أدخل في تفاصيل النص الذي يبقى غير واضح رغم اختصاره، وأريد فقط أن أثير الانتباه إلى ثلاث أو أربع نقط تبدو لي مهمة من أجل فهم الكيفية التي عالج بها كانط الحاضر معالجة فلسفية.

    يسارع كانط بالتصريح بأن هذا "الخروج" الذي يميز الأنوار هو صيرورة تخرجنا من حالة "القصور"، ويعني بالقصور حالة معينة لإرادتنا تسمح لنا بقبول وصاية شخص آخر من أجل توجيهنا في ميادين يكون من الأفضل أن نستعمل فيها العقل، ويعطي كانط ثلاثة أمثلة على ذلك، فنحن نكون في حالة من "القصور" عندما يقوم كتاب ما مقام فهمنا، أو عندما يقوم مرشد ديني مقام ضميرنا، أو عندما يقرر طبيب في مكاننا نظام أكلنا. (يمكن أن نسجل هنا بسهولة أنواع الانتقاد الثلاثة رغم أن النص لا يصرح بها علانية)، وبصفة عامة تتحدد الأنوار بتغير العلاقة الموجودة سلفا بين الإرادة والسلطات واستخدام العقل.

    وتجدر الإشارة إلى أن هذا "الخروج" قد قدم من طرف كانط بصورة مبهمة فهو يميزه مرة كحدث، كصيرورة سارية الحدوث، كما يقدمه مرة أخرى كمهمة يجب القيام بها وكضرورة، فمنذ الفقرة الأولى يشير كانط إلى أن الإنسان هو نفسه المسؤول عن حالة القصور التي يعيشها، لذا يجب أن نفهم أنه لا يمكن أن يخرج منها إلا بتغيير يحدثه هو بنفسه على نفسه أو بتعبير آخر فإن كانط يقول أن لهذه الأنوار شعارا Wahlspruch يعرف بها: غير أن الشعار هو سمة مميزة نعرف بها، كما أنه تعليمات نعطيها لأنفسها ونقترحها على الآخرين. فما هي هذه التعليمات؟ (إنها تتلخص في العبارة التالية): "فلتكن لديك الشجاعة والجرأة للمعرفة"(5). إذن يجب أن نعتبر الأنوار، في نفس الوقت، كحدث يشترك فيه جميع الأفراد وكفعل شجاع نقوم به بطريقة فردية حيث يكون هؤلاء الأفراد، في نفس الوقت عناصر وعوامل لنفس الحدث. فهم يمكن أن يكونوا الفاعلين فيه في الوقت الذي يكونون عناصر ينتمون إليه، وينتجونه في الوقت الذي يقررون أن يكونوا الفاعلين المتطوعين فيه.

    إضافة إلى ما سبق هناك أيضا صعوبة ثالثة تظهر في نص كانط والمتعلقة باستعمال كلمة Menschleit (الإنسانية)، ونحن نعلم أهمية هذه الكلمة في التصور الكنطي للتاريخ. فهل يجب الفهم أن مجموع النوع البشري هو المقصود في حدث الأنوار؟ وفي هذه الحالة يجب أن نتخيل أن الأنوار هي تغير تاريخي يمس الوجود السياسي والاجتماعي لجميع البشر على وجه الأرض. أم يجب الفهم أن الأمر يتعلق بتغيير يمس ما يكوّن إنسانية الكائن البشري؟ وبالتالي يطرح السؤال لمعرفة هذا التغيير؟ وهنا أيضا يبدو أن جواب كانط لا يخلو من غموض إذ يبدو، على كل حال، جوابا معقدا رغم ما يبدو عليه من بساطة.

    وهكذا يحدد كانط شرطين أساسيين لكي يخرج الإنسان من حالة قصوره. وهذه الشروط هي في نفس الوقت شروط روحية ومؤسساتية، أخلاقية وسياسية. وأول هذه الشروط هو أن يفصل جيدا بين ما يرجع إلى الطاعة والخضوع وبين ما يرجع إلى استعمال العقل. وكانط عندما يميز باقتضاب حالة القصور فإنه يذكر العبارة المألوفة: "لا تعملوا الفكر بل أطيعوا" وهذا هو الشكل الذي يمارسه عادة النظام العسكري، السلطة السياسية، والسلطة الدينية فالإنسانية يمكن أن تتقدم ليس لأنها لن تطيع أبدا ولكن عندما نقول لها: "أطيعي، وسوف تستطيعين التفكير كيفما تشائين"، وهنا يجب الإشارة إلى أن الكلمة الألمانية المستعملة هنا هي: "razonieren" (التفكر) هذه الكلمة التي نجدها أيضا في مؤلفات النقد(6) لا ترجع إلى أي استعمال كيفما كان للعقل ولكن إلى استعمال له هدف آخر غير ذاته، فـ"razonieren" هي التفكر من أجل التفكر. وكانط يعطي مجموعة من الأمثلة رغم أنها تبدو ركيكة في ظاهرها: فما يميز حالة التقدم حسب كانط، مثلا هو أن نؤدي الضرائب ولكن أيضا أن نستطيع التفكير كيفما نشاء في قضايا الضرائب أو نحافظ على خدمة الكنسية التي ننتمي إليها وفقا لمبادئها عندما نكون قساوسة ولكن أن نفكر كيفما نشاء في موضوع العقائد الدينية.

    قد نظن أن لا شيء يختلف عما كنا نسمعه منذ القرن 16م حول حرية الرأي بمعنى أن لدينا الحق في أن نفكر كما نشاء دون أن نطيع كما يجب. غير أن كانط هنا يدخل فرقا آخر بطريقة مفاجئة. يتعلق الأمر بالفرق بين الاستعمال الخاص والاستعمال العمومي للعقل. ويضيف مباشرة بأن العقل يجب أن يكون حرا في استعماله العمومي بينما يجب أن يكون خاضعا في استعماله الخاص، الشيء الذي يخالف حرفيا ما يسمى عادة بحرية الرأي. ولكن يجب أن ندقق بعض الشيء. فما هو هذا الاستعمال الخاص للعقل حسب كانط؟ وما هو المجال الذي يمارس فيه؟ يقول كانط إن الإنسان يستعمل عقله استعمالا خاصا عندما يكون "أداة في جهاز ما" أي عندما يكون له دور يلعبه في المجتمع ووظائف يمارسها: كان يكون جنديا، أو تكون له ضرائب يسددها، أو يكون مسؤولا عن كنيسة، أو يكون موظفا في إحدى الحكومات، كل هذا يجعل من الكائن البشري عضوا معينا داخل المجتمع، إنه يوجد بذلك في وضع محدد يملي عليه تطبيق جملة من القواعد ويسعى لغايات معينة. وكانط لا يطلب القيام بطاعة عمياء دون تفكير، ولكن يطلب استعمالا للعقل يكون متكيفا مع هذه الأوضاع المحددة وفي هذه الحالة نجد أن العقل يكون خاضعا لتلك الغايات المعينة، فلا يكون هناك إذن استعمال حر للعقل. وبخلاف ذلك عندما نفكر فقط من أجل استعمال فكرنا، عندما نفكر ككائنات مفكرة (وليس كأداة في جهاز)، عندما نفكر كجزء ينتمي للإنسانية المفكرة، فإن استعمال العقل يجب أن يكون حرا وعموميا. والأنوار ليست فقط حدثا يضمن من خلاله الأفراد حريتهم الخاصة في التفكير، بل تتحقق الأنوار عندما يكون هناك تطابق للاستعمال الكوني، والحر مع الاستعمال العمومي للعقل(7).

    وهذا يجرنا إلى سؤال رابع يجب طرحه على نص كانط: إننا نفهم جيدا أن الاستعمال الكوني للعقل (خارج كل غاية معينة) هي مسألة تخص الذات نفسها كفرد، كما نعلم أيضا أن حرية هذا الاستعمال يمكن أن تكون مضمونة بطريقة سلبية تماما نظرا لعدم وجود أية متابعة ضدها، ولكن كيف نضمن الاستعمال العمومي لهذا العقل؟ فكما نرى لا يجب أن نفهم ببساطة أن الأنوار هي حدث عام يمس البشرية جمعاء، أي أن نفهمها فقط كضرورة مفروضة على الأفراد، إنها تظهر الآن كمسألة سياسية(, وفي كل الحالات سيطرح السؤال حول معرفة كيف يمكن للاستعمال العمومي للعقل أن يأخذ شكلا عموميا خاصا به، كيف يمكن لجرأة المعرفة أن تشتغل في واضحة النهار رغم أن الأفراد يطيعون كما يجب.

    ولكي يختم كانط ويجيب على هذه التساؤلات يقترح على Frederic II نوعا من التعاقد الغير المصرح به، أو ما يمكن تسميته تعاقد الإستبداد العقلاني مع العقل الحر حيث سيكون الاستعمال العمومي والحر للعقل المستعمل هو أحسن ضمانة للطاعة، بشرط أن يكون المبدأ السياسي الذي سوف يتم الخضوع له مطابقا بالمقابل للعقل الكوني.

    لنترك الآن هذا النص، فأنا لا أسعى تماما إلى اعتباره يمثل وصفا وافيا للأنوار، وأظن أنه لن يستطيع إشفاء غليل أي رجل تاريخ لتحليل التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ظهرت في أواخر القرن 18م. ولكن رغم طابعه الظرفي، ودون السعي إلى إعطائه مكانة خاصة في عمل كانط، أظن أنه يجب أن نسجل العلاقة الموجودة بين هذا المقال القصير ومؤلفات النقد الثلاثة فهذا النص يصف الأنوار كلحظة تسعى فيها الإنسانية إلى استعمال فكرها الخاص دون الخضوع لأي سيطرة، وهذه اللحظة بالذات هي التي يكون فيها النقد ضروريا، ذلك أن دور النقد هو أن يحدد الشروط المشروعة لاستعمال العقل لكي يحدد ما يمكن معرفته وما يمكن فعله وما يمكن انتظار وقوعه. وهكذا فالوهم والاستعمال الغير المشروع للعقل هو الذي ولد لنا الدوغمائية والتبعية، وبمقابل ذلك عندما نحدد بشكل واضح الاستعمال المشروع للعقل وفقا لمبادئه فسيكون استقلاله مضمونا. فكأن النقد هو بمثابة مذكرات يومية مكتوبة لعقل اصبح خارج وضعية القصور في عصر الأنوار؛ وعكس ذلك أصبحت الأنوار هي عصر النقد.

    وأظن أنه يجب أن نسجل أيضا العلاقة بين هذا النص لكانط والنصوص الأخرى المخصصة للتاريخ، فإذا كانت هاته الأخيرة تبحث في أغلبها في تحديد الغاية الداخلية للزمن، والنقطة التي يسعى إليها تاريخ البشرية، فإن تحليل الأنوار واعتبارها مرور الإنسانية إلى حالة من التطور، يضع الآنية في مقابل حركة المجموع هاته واتجاهاتها الأساسية. ولكنها في نفس الوقت توضح في هذا الوضع الراهن كيف أن كل فرد يجد نفسه مسؤولا بطريقة ما عن هذا الحدث الجماعي.

    والفرضية التي أريد اقتراحها، هي أن هذا النص القصير يوجد بشكل ما في نقطة التقاء التفكير النقدي والتفكير حول التاريخ، هذا الالتقاء الذي ليس إلا تفكير كانط في آنية مشروعة. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يعطي فيها فيلسوف ما أسباب شروعه في عمله في هذه اللحظة أو تلك. ولكن يبدو لي أنها أول مرة يوجد فيلسوف يربط بشكل وثيق وعميق دلالة عمله مع المعرفة من جهة، والتفكير حول التاريخ من جهة ثانية وتحليله الخاص للحظة التي يكتب فيها ولماذا يكتب فيها من جهة ثالثة. يبدو لي أن التفكير في "الآن" كاختلاف داخل التاريخ وكدافع نحو مهمة فلسفية خاصة هو الجديد الذي يحمله هذا النص، كما يبدو لي أن التعامل معه بهذا الشكل يمكن أن نجد فيه نقطة انطلاق أو إرهاصا لما يمكن تسميته بموقف الحداثة(9).

    II -

    أعلم أنه يتم الحديث دائما عن الحداثة كحقبة تاريخية أو، في كل الحالات، كمجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية ما، حيث يتم إيجاد مكان لها داخل يومية تتقدمها حقبة "ما قبل الحداثة" التقليدية والقديمة، وتتبعها حقبة "ما بعد الحداثة" الغامضة والمخيفة. ويتم التساؤل بعد ذلك لمعرفة هل الحداثة هي ما يتبع عصر الأنوار وتطوراته أم هي تلك التي تحقق قطيعة أو نزوحا عن المبادئ الأساسية للقرن 18م.

    وبعودتي إلى نص كانط كنت أتساءل، لماذا لا يمكن أن نعتبر الحداثة كموقف عوض اعتبارها حقبة من حقب التاريخ، وأعني بالموقف شكلا من العلاقة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيارا واعيا يقوم به البعض، وأخيرا نمطا من التفكير والإحساس وطريقة في السلوك والاستجابة التي تدل على انتماء معين وتظهر كمهمة يجب فعلها. أو بعبارة أخرى ما كان الإغريق يطلقون عليه "Ethos" (الطابع). وهكذا عوض أن نعزل حقبة الحداثة عن الحقب التي تسبقها أو تليها، أظن أنه يجدر بنا أن نبحث كيف أن موقف الحداثة، منذ نشأته قد وجد نفسه في مواجهة المواقف "لمضادة للحداثة".

    ولكي أميز موقف الحداثة هذا باقتضاب سأعطي مثالا أرى أنه ضروري، وهو مثال Baudelaire ذلك لأننا عرفنا لديه أحد التصورات الأكثر صرامة للحداثة في القرن 19م.

    1 - هناك دائما محاولة للنظر إلى الحداثة كوعي بالحركة المتقطعة للزمن أي كقطيعة مع التقاليد وإحساس بالجدة والنشوة بما يمر الآن، ويبدو أن هذا فعلا هو ما يعنيه بودلير حين يعرف الحداثة بـ"المتنقل أو الهارب أو الطارئ"، ولكن لا يعني هذا بالنسبة له أنه يكفي أن تتعرف على هذه الحركة الدؤوبة وتقبلها لكي تكون إنسان الحداثة، ولكن بالعكس أن تتخذ موقفا منها.

    وهذا الموقف الإرادي والصعب يتمثل في إحكام القبض على شيء خالد لا يوجد لا خارج اللحظة الحاضرة، ولا وراءها ولكن فيها، فهو الذي يساعد على القبض على ما هو "عظيم" في الزمن الحاضر، لذا فالحداثة ليست هي الموضة التي لا تعمل إلا على تتبع جريان الزمن، إنها ليست مجرد إنفعال أمام حاضر يمضي بل إنها إرادة "تعظيم" الحاضر.

    وسأكتفي بعرض ما قاله بودلير بخصوص رسم الشخصيات المعاصرة، فهو يهزأ من أولئك الرسامين الذين حين يجدون نوعا من القبح في هندام رجال القرن 19م لا يرسمون إلا أثواب القضاة القديمة. فالحداثة في الرسم لا تمثل، بالنسبة له، في إدخال الألبسة السوداء في اللوحة، ولكن الرسام الحديث سيكون هو ذلك الذي يظهر المعطف الطويل الداكن كلباس أساسي في عصرنا"، إنه ذلك الذي يستطيع أن يرى في موضة اليوم هذه العلاقة الأساسية والدائمة والملازمة التي يربطها عصرنا مع الموت، وبذلك "فإن اللباس الأسود والمعطف الطويل ليس لهما فقط جمالهما الشاعري الذي هو تعبير عن المساواة الكونية، ولكن أيضا لهما شاعريتهما التي هي تعبير عن الروح الشعبية، وتتابع عظيم لمحامل موتى السياسيين والعاشقين والبورجوازيين، فكلنا محتفل ببعض مراسيم الدفن". ولكي يحدد بودلير موقف الحداثة هذا يستعين في بعض الأحيان بلطافة ذات دلالة كبيرة، ذلك أنها تظهر على شكل وصية تقول:"ليس لديكم الحق في احتقار الحاضر".

    2 - صحيح أن هذا التعظيم يبدو ساخرا، فلا يتعلق الأمر أبدا في موقف الحداثة بتقديس اللحظة التي تمر الآن لكي نبقيها أو نجعلها تدوم، كما لا يتعلق الأمر أبدا بأن "نستقبلها كفضول عابر ومهم، فهذا سيكون هو ما سماه بودلير بموقف "التجوال" لأن الجوال يكتفي فقط بفتح الأعين والانتباه وتزيين الذكريات. ويقابل بودلير رجل التجوال برجل الحداثة "الذي يمضي ويجري ويبحث، وأكيد أن هذا الرجل، هذا المتفرد الموهوب بخيال خصب، الدائم السفر عبر صحراء الرجال الكبرى، له هدف أسمى من هدف ذلك الجوّال المحض، هدف أسمى بكثير يخالف لذة المناسبات العابرة. إنه يبحث عن ذلك الشيء الذي يمكن أ، نسميه الحداثة. يتعلق الأمر بالنسبة له بأن يستخرج من الموضة ما يمكن أن تحمله من شاعرية في ما هو تاريخي"، وكمثال على الحداثة يذكر Baudelaire الرسام Constatin Guys، فقد يبدو في الظاهر بأنه جوّال في كل مكان، مغرم بتصنيف الأشياء الغريبة، تجده "آخر من يبقى في كل مكان يمكن للنور فيه أن يسطع، وللشعر أن يدوي، وللحياة أن تكثر، وللموسيقى أن تنغم، أو في كل مكان يمكن للإشتياق فيه أن يفتح أعينه، وفي كل مكان يتجلى فيه الإنسان الطبيعي وإنسان المدينة في روعة غريبة، وفي كل مكان تضيء فيه الشمس أفراح الحيوان الغير المهذب السريعة".

    ولكن لا يجب أن ننخدع في ذلك، فـ Constatin Guys ليس بالرجل الجوال لأن الرسام الحديث بامتياز في أعين بودلير هو ذلك الذي حين يغرق العالم في النوم يشمّر على ساعديه ويبدأ في العمل ليغير وجه العالم. هذا التغيير الذي ليس إقصاءً للواقع ولكن لعبة صعبة بين حقيقة الواقع وممارسة الحرية، وهكذا ستبدو الأشياء "الطبيعية" أكثر طبيعية، وستبدو الأشياء "الجميلة" أكثر جمالا، وتبدو الأشياء الفريدة وقد "نفخت فيها حياة أكثر حماسة كروح باعثها". فبالنسبة لموقف الحداثة فإن القيمة العليا للحاضر لا تنفصل عن المطالبة الملحة بتخيله في شكل آخر عما هو عليه وتحويله، ليس عن طريق هدمه بل بالقبض عليه كما هو، فالحداثة البودليرية مراس يصطدم فيه الاهتمام الكبير بالواقع بممارسة حرية تحترم هذا الواقع وتخترقه في نفس الوقت.

    3 - غير أن الحداثة عند بودلير ليست فقط شكلا من العلاقة مع الحاضر، ولكن أيضا نمط من العلاقة يجب ربطه مع الذات.فموقف الحداثة الإرادي مرتبط بالضرورة مع نوع من التصوّف، والإنتماء للحداثة ليس معناه تقبل الذات كما هي في تيار الأحداث التي تمر بل هي أخذ الذات كموضوع للكشف المعقد والمضني أو ما يسميه بودلير حسب مفردات ذلك العصر "Dandysme" التأنق". ولن أذكّر هنا بالصفحات المشهورة، تلك التي كتبت حول الطبيعة الخشنة -الترابية- القذرة"، أو حول الجهاد الضروري للإنسان مع نفسه أو تلك التي كتبت عن "مذهب الأناقة" الذي يفرض على "هؤلاء المتعصبين الطموحين والمتواضعين" عقيدة أكثر جوارا من أنظمة أفظع الأديان، وأخيرا الصفحات التي كتبت حول تصوف المتأنق الذي يجعل من جسده، وسلوكه وأحاسيسه وانفعالاته ووجوده عملا فنيا. إن إنسان الحداثة، حسب بودلير، ليس هو ذلك الذي يسعى إلى البحث عن ذاته، عن أسراره وحقيقته الغامضة المختبئة، بل هو ذلك الذي يسعى إلى خلق ذاته، فهذه الحداثة لا "تحرر الإنسان من وجوده الخاص" بل تفرض عليه مهمة صنع ذاته.

    4 - أريد أن أضيف كلمة واحدة في الأخير وهي أن هذا التعظيم السافر للحاضر، ولعبة الحرية هذه مع الواقع التي تسعى إلى تحويله، وهذه البلورة المتصوفة للذات لا يتصور بودلير إمكانية وجودها داخل المجتمع ذاته أو داخل الجسد السياسي، إنها لا يمكن أن تنتج إلا في مكان آخر هو الذي يسميه بودلير الفن(10).

    إنني لا أدعي أنني استطعت في هذه الملاحظات القليلة الإحاطة بذلك الحدث التاريخي المعقد الذي صنع الأنوار في أواخر القرن 18م، ولا أن أبيّن مختلف الأشكال التي اتخذها موقف الحداثة خلال هذين القرنين الأخيرين. لقد أردت من جهة أن ألح، داخل الأنوار على عمق نمط التساؤل الفلسفي الذي ربط في نفس الوقت وداخل علاقة إشكالية كلاًّّ من العلاقة مع الحاضر ونمط الوجود التاريخي، ثم بناء الذات ككائن مستقل، ومن جهة أخرى أردت أن أسجل أن الخيط الذي يمكن أن يجمعنا بهذا الشكل مع الأنوار ليس هو الوفاء لمبادئ المذاهب بل إعادة التنشيط المستمر لموقف ما، أي لطابع Ethos فلسفي يمكن اعتباره نقدا مستمرا لوجودنا التاريخي، فهذا الطابع هو الذي أردت باقتضاب أن أبرزه.

    A - سلبيا Négativement:

    1 - هذا الطابع Ethos يفترض أولا أن نرفض ما سأسميه بكل تلقائية "نوعا من الابتزاز" Chantage مع الأنوار، فأظن أن الأنوار كمجموعة من الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية والثقافية والتي ما زلنا نرتبط بها تكوّن ميدانا خصبا للتحليل، وأظن أيضا أنها كعمل نربط فيه بين تقدم الحقيقة وتاريخ الحرية بواسطة رباط علائقي مباشر فإنها قد أخرجت سؤالا فلسفيا ما زال مطروحا علينا، وأظن أخيرا -وقد حاولت إبراز ذلك في نص كانط- أن الأنوار قد حددت طريقة معينة للتفلسف. ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن نكون "مع" أو "ضد" الأنوار. وهذا يعني أيضا وبالتحديد أنه يجب رفض ما يظهر على شكل خيار سهل وسلطوي، أي إما أن نقبل الأنوار ونبقى في تقاليد عقلنته (الشيء الذي يراه البعض أمرا إيجابيا بينما يؤاخذ عليه البعض الآخر) أو أن ننتقذ الأنوار ونحاول التهرب من مبادئ عقلانيته (الشيء الذي قد يعجب البعض ويغضب البعض الآخر)، وليس الخروج من هذا الابتزاز Chantage هو إدخال الفروق "الجدلية" إليها للبحث عن تحديد ما هو حسن وما هو قبيح في الأنوار.

    وبدل ذلك يجب القيام بتحليل لذواتنا ككائنات تحددت تاريخيا في جزء منها بواسطة الأنوار، الشيء الذي يفرض علينا سلسلة من البحوث التاريخية الدقيقة ما أمكن. هذه البحوث التي لن تقفل راجعة إلى "النواة الأساسية للعقلانية" التي يمكن أن نجدها في الأنوار والتي يجب إنقاذها كيف ما كانت الأحوال، ولكن ستتجه نحو "حدود الضرورة الراهنة" أي نحو ما ليس ضروريا أو لم يبق ضروريا قط من أجل بناء أنفسنا كذوات مستقلة.

    2 - هذا النقد المستمر لأنفسنا يجب أن يتجنب ذلك الخلط الذي يكون دائما سهلا بين النزعة الإنسانية والأنوار.

    فلا يجب أن ننسى أبدا أن الأنوار هو حدث أو مجموعة من الأحداث والصيرورات التاريخية المعقدة التي وقعت في لحظة معينة من تطورات المجتمعات الأوروبية. هذه المجموعة التي تضم عناصر من التحولات الاجتماعية ونماذج من المؤسسات السياسية وأشكالا من المعرفة، ومشاريع لعقلنة المعارف والممارسات، وتحولات تكنولوجية يصعب جمعها في كلمة واحدة، رغم أن الكثير من هذه الظواهر ما زالت ضرورية في وقتنا الراهن. فما نبهت إليه وما يبدو لي أنه كان المؤسس لشكل كامل من التفكير الفلسفي لا يهم إلا نمطا من العلاقة المتبادلة مع الحاضر.

    أما النزعة الإنسانية فإنها شيء آخر، إنها موضوع أو بالأحرى مجموعة من المواضيع التي ما فتئت تظهر في مناسبات متعددة عبر الزمن في المجتمعات الأوروبية، هذه المواضيع التي ارتبطت دائما بأحكام قيمية قد عرفت تحولات متعددة في محتواها كما في القيم التي كانت تمتلكها، إضافة إلى ذلك فقد كانت هذه المواضيع تستعمل كمبدأ نقدي لخلق التمايز. فقد كان هناك مذهب إنساني قدم نفسه كنقد للمسيحية أو للدين بصفة عامة، وكان هناك مذهب إنساني مسيحي معارض لمذهب إنساني متصوف وأكثر تركيزا على اللاهوت (هذا في القرن 17م)، أما في القرن 19م فقد كان هناك مذهب إنساني يقظ ومعارض وناقد بخصوص العلم، ومذهب آخر يضع أمله (بخلاف الأول) في هذا العلم. والماركسية كانت مذهبا إنسانيا، والوجودية و الشخصانية كانتا أيضا مذهبا إنسانيا، حتى لقد كان هناك عصر حيث يتم الدفاع عن القيم الإنسانية ممثلة في الاشتراكية الوطنية وحيث يقول الستالينيون (أنفسهم) إنهم كانوا إنسانيين.

    لا يجب أن نستنتج من هذا أن كل من استطاع أن يدّعي النزعة الإنسانية يجب التخلص منه، بل يجب استنتاج أن الموضوع الإنساني هو نفسه شديد الليونة، شديد الاختلاف، قليل البرهنة، إلى درجة أنه لا يصلح أن يكون موضوعا للتفكير. وهذا واضح. فما نسميه النزعة الإنسانية ما فتئت، على الأقل منذ القرن 17م، تستند بالضرورة على بعض التصورات للإنسان المستقاة من الدين أو من العلم أو من السياسة. فالخاصية الإنسانية كانت تصلح لتزيين وتفسير تصورات الإنسان التي كان لا بد أن ترجع إليها.

    غير أنني أظن أننا يمكن أن نقابل هذه الأطروحة المتكررة دائما والملتصقة بالنزعة الإنسانية بمبدإ النقد والاكتشاف الدائم لأنفسنا داخل استقلاليتنا، أي بمبدإ يوجد في قلب الوعي التاريخي الذي اتخذته الأنوار لنفسها. ومن هنا فإني يمكن أن أرى بين الأنوار والنزعة الإنسانية وجود نوع من التوتر عوض وجود هوية تجمعهما، وعلى كل حال فأن نجمع بينهما فهذا أمر خطير وغير صحيح تاريخيا. فإذا كان مشكل الإنسان والنوع البشري والخاصية الإنسانية مشكلا مهما على امتداد القرن 18م، فإني أظن أن الأنوار قلما اعتبرت نفسها مذهبا إنسانيا. ويكون من المؤسف أن نسجل أنه إذا كان عمل المؤرخين على طول القرن 19م يهتم كثيرا بالنزعة الإنسانية للقرن 16م عند أشخاص أمثال Sainte-Beuve أو Burckhardt، فإنه كان دائما مخالفا، وفي بعض الأحيان معارضا لهما أقل من أن يوحد بينهما. وعلى كل حال أظن أنه كما يجب النفور من الابتزاز الفكري والسياسي أي "أن تكون مع أو ضد الأنوار" يجب النفور أيضا من الاضطراب التاريخي والأخلاقي الذي يخلط موضوع النزعة الإنسانية بمشكلة الأنوار. وهكذا سيكون القيام بتحليل لعلاقتهما المعقدة عملا مهما لا بد منه خلال القرنين الأخيرين من أجل أن يتضح شيء من الوعي الذي نملكه عن أنفسنا وعن ماضينا.

    B - إيجابيا Positivement:

    ولكن رغم أخذ هذه الاحتياطات بعين الاعتبار فلابد أن نعطي مضمونا إيجابيا عن ما يكونه الطابع الفلسفي المتمثل في نقد ما نقوله وما نفكر فيه وما نفعله من خلال أنطولوجيا تاريخية لأنفسنا.

    1 - يمكن نعت هذا الطابع الفلسفي بالموقف الحدودي. فلا يتعلق الأمر بسلوك رفضي. ولا يجب أن نسقط في ثنائية الداخل والخارج، بل يجب أن نتموقع على الحدود، أليس النقد هو بالأحرى تحليل الحدود والتفكير فيها؟ فإذا كان السؤال الكنطي هو أن يعرف أية حدود يجب على المعرفة أن تقف عندها وأن لا تتجاوزها، فأظن أن سؤال النقد الآن يجب أن يقلب إلى شكله الإيجابي أي أن نتساءل من داخل كل ما هو كوني وضروري وإجباري عما هو نصيب الشيء المتميز والعارض أو ما جاء نتيجة ضغوطات استبدادية، يتعلق الأمر إذن بتحويل النقد الممارس في شكل محدودية ضرورية إلى نقد يمارس في شكل تجاوز ممكن، الشيء الذي سيؤدي، كما نرى، إلى أن النقد سوف لا يمارس داخل البحث عن البنيات الصورية التي لها قيمة كونية، ولكن سوف يمارس كبحوث تاريخية من خلال الأحداث التي أدت إلى تكوننا والتعرف على أنفسنا كذوات لما نقوم به وما نفكر فيه وما نقوله، وبهذا المعنى لن يكون هذا النقد متعاليا Transcendantale ولن تكون غايته أن يجعل ميتافيزيقا ما ممكنة، بل إنه سيكون نقدا جينيالوجي الغاية وأركيولوجي المنهج.

    هذا النقد يكون أركيولوجيا -وليس متعاليا- بمعنى أنه لن يبحث في استخراج البنيات الكونية لكل معرفة أو لأي عمل أخلاقي ممكن، ولكن سيتعامل مع الخطابات التي تمزج ما نفكر فيه وما نقوله وما نفعله كأحداث تاريخية.

    ثم أن هذا النقد سيكون جينيالوجيا بمعنى أنه لن يستنبط من الشكل الذي نوجد عليه الشيء الذي يستحيل فعله أو معرفته، ولكن سيستخرج من الحالة العابرة التي جعلتنا نكون ما نحن عليه، إمكانية أن لا نكون ولا نفعل ولا نفكر ما نكونه وما نفعله وما نفكر فيه.

    إن هذا النقد لا يسعى إلى أن يجعل من الميتافيزيقا، التي أصبحت أخيرا علما، شيئا ممكنا، إنه يسعى إلى أن يلقي من جديد بعمل الحرية اللانهائي إلى أبعد مدى وأوسع نطاق.

    2 - وحتى لا يكون هذا مجرد ادعاء أو حلم فارغ للحرية يبدو لي أن هذا الموقف التاريخي النقدي يجب أن يكون أيضا موقفا تجريبيا، أي أن هذا العمل المنصب على حدود أنفسنا يجب أن يفتح من جهة مجالا لبحوث تاريخية، ومن جهة أخرى أن يوضع تحت محك الواقع وما يجري الآن من أجل ضبط النقط التي يكون فيها التحول، وبعبارة أخرى يجب على هذه الأنطولوجيا التاريخية لأنفسنا أن تحيد عن كل تلك المشاريع التي تدعي أنها عامة وراديكالية. ونحن نعلم بواسطة التجربة أن المطالبة بالتخلي عما يجري من أجل إعطاء برامج عامة من أجل مجتمع آخر وشكل آخر للتفكير وثقافة أخرى ونظرة أخرى للعالم لم تؤدّ في الحقيقة إلا إلى مسايرة أكثر التقاليد خطورة.

    وإني أفضل التحولات الدقيقة جدا التي حدثت منذ عشرين سنة في عدد من المجالات والتي تهم أشكال الوجود والتفكير والعلاقات السلطوية والعلاقات بين الجنسين والطريقة التي ندرك بها الجنون أو المرض، إني أفضل هذه التحولات، حتى ولو كانت جزئية، والتي حدثت أثناء ارتباط التحليل التاريخي بالموقف العملي عوض وعود الإنسان الجديد التي رددتها أقبح الأنظمة السياسية طيلة القرن 20م.

    سأصف إذن الطابع الفلسفي Ethos الخاص بالأنطولوجيا النقدية لأنفسنا كتجربة تاريخية عملية للحدود التي يمكننا تجاوزها وبالتالي كعمل نقوم به بأنفسنا على أنفسنا ككائنات حرة.

    3 - ولكن وبدون شك سيكون من المشروع أن يطرح الاعتراض التالي: ألا يؤدي اقتصارنا على هذا النوع من البحوث أو التجارب المجزأة والمحلية دائما إلى كوننا محددين من طرف أنظمة أكبر قد لا نملك الوعي بها والتحكم فيها؟ وعلى هذا الاعتراض هناك جوابان:

    فصحيح أنه يجب أن نستسلم أن لا أمل للوصول إلى وجهة نظر يمكن أن توصلنا إلى المعرفة الكاملة والنهائية لما يمكن أن تكونه حدودنا التاريخية، وبالتالي فإن التجربة النظرية والميدانية التي نقوم بها لحدودنا ولإمكان مجاوزتها هي نفسها دائما محدودة ومحددة؛ وإذن يمكن إعادتها دائما، ولكن هذا لا يعني أن كل عمل لا يمكن أن يتم إلا داخل الاختلال والافتراض، فإن لهذا العمل شموليته وتنظيمه كما أن له تجانسه ومداره.

    أ - فبالنسبة لمداره:

    فإنه يظهر من خلال ما يمكن أن نسميه "تعارض العلاقات بين القدرة والسلطة"، فنحن نعلم أن الأمل الكبير والوعد الأكبر للقرن 18م أو لجزء من القرن 18م كان هو التزايد المستمر والمتناسب بين القدرة التقنية التي تؤثر على الأشياء وبين حرية الأفراد بعضهم مع بعض وبالتالي يمكن أن نلاحظ أنه على طول تاريخ المجتمعات الغربية (وربما هنا يكمن أصل وجهتهم التاريخية الفريد -المتميز، والمختلف عن [الآخرين ] في مسارهم، والأكثر شمولية وهيمنة بالمقارنة مع الآخرين) أن اقتناء القدرات من أجل الحرية قد شكلا عناصر دائمة الحضور. غير أن العلاقات بين نمو القدرات ونمو الاستقلال الذاتي ليست بسيطة كما أعتقد القرن 18م. فلقد رأينا ما هي أشكال علاقات السلطة التي تم تمريرها عبر تكنولوجيات مختلفة (التي قد تكون إنتاجات ذات مرامي اقتصادية، أو مؤسسات تهدف إلى تنظيمات اجتماعية أو تقنيات للتواصل) والتي تجد أمثلة لها في التنظيمات الجماعية والفردية في نفس الوقت وإجراءات الضبط الممارسة باسم سلطة الدولة وإكراهات المجتمع أو المناطق السكنية فالسؤال الذي تدور حوله القضية هو: كيف نباعد تطور القدرات عن تقوية علاقات السلطة؟

    ب - خاصة التجانس:

    هذا سيؤدي إلى دراسة ما يمكن أن نسميه "المجموعات العملية" ويتعلق الأمر بألا نأخذ كمجال مرجعي متجانس التصورات التي يعطيها الأفراد لأنفسهم، ولا الشروط التي تحددهم دون وعي منهم، ولكن ما يفعلونه والطريقة التي يشتغلون بها، أي أشكال العقلنة التي تنظم طرق العمل (أو ما يمكن أن نسميه مظهرهم التكنولوجي)، والحرية التي بواسطتها يسلكون داخل تلك الأنظمة العملية مستجيبين لما يفعله الآخرون، ومحولين بقدر معين قواعد اللعبة (أو ما يمكن أن نسميه التدفق الاستراتيجي لتلك الممارسات). فتجانس تلك التحليلات التاريخية النقدية هي إذن مضمونة بمجال هذه الممارسات مع تدفقها التكنولوجي والاستراتيجي.

    ج - خاصية التنظيم:

    هذه الممارسات أو المجموعات العملية ترجع إلى ثلاثة مجالات كبرى هي مجالات علاقات السيطرة على الأشياء، ومجال علاقات التأثير على الآخرين وأخيرا مجال العلاقات مع الذات. وهذا لا يعني أن هذه المجالات الثلاثة غريبة عن بعضها البعض، فنحن نعلم جيدا أن السيطرة على الأشياء تمر عبر العلاقة مع الآخرين، وهذه الأخيرة تعني دائما علاقات مع الذات؟ والعكس أيضا صحيح. ولكن يتعلق الأمر بثلاثة اتجاهات ينبغي تحليل خصوصيتها وتعقدها وهي اتجاه المعرفة، ثم اتجاه السلطة فاتجاه الأخلاق. أو بعبارة أخرى فإن الأنطولوجيا التاريخية لأنفسنا يجب أن تجيب على لائحة مفتوحة من الأسئلة، عليها أن تقوم بعدد غير محدود من البحوث التي يمكن أن نعددها وندققها كيفما نشاء، ولكن رغم ذلك فإنها تجيب كلها على التشكيلة التالية:

    كيف تم تشكيلنا كذوات لمعارفنا؟

    كيف تم تشكيلنا كذوات تمارس أو تمارس عليها علاقات السلطة؟

    وكيف تم تشكيلنا كذوات أخلاقية لأفعالنا؟

    د - خاصية الشمولية:

    وأخيرا قد تظهر أن البحوث التاريخية النقدية لها خصوصيتها، بحيث أنها تشتغل دائما على مادة أو حقبة أو جسد من الممارسات والخطابات المحددة، وهذا صحيح ولكن هذه البحوث لها شموليتها على الأقل بالقياس إلى المجتمعات الغربية التي تنحدر منها، بمعنى أنها كانت حتى حدودنا هذه بحوثا ذات طبيعة متكررة مثل شكل العلاقات بين العقل والجنون أو المرض والصحة أو الجريمة والقانون أو مشكل المكانة التي تعطيها للعلاقات الجنسية…إلخ. ولكن إذا كنت أذكر هذه الشمولية فليس من أجل القول إننا يجب أن نعيد تتبعها في استمراريتها وراء التاريخ عبر الزمن، ولا أن نتتبع تغيراتها، فما يجب فهمه هو: إلى أي حد يمكن القول إن ما نعرفه عنها، وأشكال السلطة التي تمارس فيها والتجربة التي نقوم بها مع أنفسنا داخلها لا تشكل إلا صورا تاريخية محددة بنوع خاص من التساؤل الإشكالي الذي يحدد المواضيع، وقواعد العقل، وأشكال العلاقات مع الذات. فدراسة أنواع التساؤل الإشكالي (أي ما هو لا ثابت انتروبولوجي، ولا متغير اكرونولوجي) هي إذن الطريقة التي نحلل بها أسئلة ذات طابع عام في شكلها التاريخي المتفرد.

    وككلمة أخيرة للتلخيص والعودة إلى كانط أقول:

    لست أدري إن كنا سنصبح أسيادا، فكثير من الأشياء في تجربتنا تقنعنا بأن الحدث التاريخي للأنوار لم يجعل منا أسيادا، أو أننا لم نصبح بعد كذلك. غير أني أظن أنه يمكن أن نعطي معنى لهذا التساؤل حول الحاضر وحول أنفسنا والذي عبر عنه كانط حين فكر في الأنوار. فأظن أننا هنا أمام طريقة في التفلسف لم تكن تخلو من أهمية ونجاعة خلال القرنين الأخيرين(11).

    غير أننا لا يجب أن نعتبر الانطولوجيا النقدية لأنفسنا كنظرية أو مذهب ولا حتى كنظام معرفي دائم التراكم، بل يجب أن ننظر إليها كموقف، كطابع Ethos وكحياة فلسفة حيث يكون نقد ما نحن عليه، هو في نفس الوقت، تحليل تاريخي للحدود التي وضعت لنا وتجربة لإمكان مجاوزتها. وهذا الموقف الفلسفي يجب أن يترجم إلى بحوث متعددة لها تماسكها المنهجي، في نفس الوقت، في الدراسة الأركيولوجية والجينيالوجية للممارسات التي تظهر تباعا كنموذج تكنولوجي للعقلانية ومجموعة من اللعب الاستراتيجية للحرية. كما أن هذه البحوث لها تماسكها النظري في التعريف بالأشكال التاريخية الفريدة التي تمت فيها أشكلة شموليات علاقاتنا بالأشياء وبالآخرين وبأنفسنا. وهذه البحوث لها تماسكها التطبيقي أيضا في عنايتها بوضع التفكير التاريخي-النقدي تحت محك الممارسات الظاهرة. ولست أدري إن كان يجب القول حتى الآن إن العمل النقدي ما زال يعني الاعتقاد في الأنوار، فأظن أنه يفرض علينا دائما الاشتغال على حدودنا، أي حرث صبور يعطينا صورة عن حرية لا تطيق الصبر.

    الهوامش:

    1 - إن كانط قد أسس، حسب فوكو، التقليدين الكبيرين للنقد واللذين تقاسما الفلسفة الحديثة، فعن طريق عمله النقدي أسس كانط التقليد الأول للفلسفة الذي يضع سؤال الشروط الممكنة لإقامة معرفة حقيقية، وهنا يمكن رؤية انفتاح قناة فلسفة منذ القرن 19م وتطورها كعملية تحليلية للحقيقة. بينما أسس سؤال الأنوار التقليد النقدي الثاني داخل الفلسفة الحديثة وحتى المعاصرة حيث يضع السؤال: ما هي حالتنا الراهنة؟ وهو الحقل الحالي لتجاربنا الممكنة؟ فهنا لا يتعلق الأمر بعملية تحليل للحقيقة ولكن بما يمكن تسميته، حسب فوكو، بأنطولوجية الحاضر أو أنطولوجيتنا نحن.

    وهكذا يقول فوكو: "إن الاختيار الفلسفي الذي يواجهنا الآن هو إما إمكانية تبني فلسفة نقدية تقدم نفسها كفلسفة تحليلية للحقيقة بصفة عامة، أو إمكانية تبني فلسفة نقدية تأخذ شكل أنطولوجيتنا، أنطولوجية الحاضر وهذا الشكل هو الذي أسس من هيجل ومدرسة فرانكفورت بنيتشه وماكس فيبر شكلا من التفكيرحاولت أن اشتغل عليه".

    Magazune Littéraire, N° 207, Avril 1984, p.39.

    2 - يحاول فوكو في هذه العبارة الإشارة إلى الكيفية التي حلل بها كانط سؤال ما الثورة؟ (1798م). ذلك أن الثورة كفعل درامي بما يحمله من كوارث ودم وضجيج وانقلاب للأوضاع للذين يشاركون فيها، ليست هي ما يميز عصرا عن عصر آخر حسب كنط، بل الكيفية التي تظهر بها الثورة بالنسبة (لغير المشاركين فيها) للذين حضروها وشاهدوها وتأثروا بها. فالثورة غيرت، وتغير، و ستغير وجه الزمن لا كظاهرة وكارثة ولكن كمشهد عظيم Spectacle لمن يتابعها (ولا يشارك فيها) ويتأثر بها. يقول فوكو: فلنكن حذرين، يقول كانط لقرائه، فلا يجب أن نبحث عن علامات التقدم في الأحداث الكبرى بل في الأحداث التي تكون أقل إدراكا".

    Magazine Littéraire N° 207, Avril 1984, p.37.

    3 - نجد عند كانط أولا نصوصا تطرح على التاريخ سؤال الأصل، فهناك مثلا نص حول "بدايات التاريخ" نفسه وهناك نص حول تعريف مفهوم العرق. ثم هناك ثانيا نصوص أخرى تطرح على التاريخ السؤال حول شكله الاكتمالي فنجد مثلا في نفس سنة ظهور مقال "ما هي الأنوار؟" (أي 1784م) ظهور نص بعنوان: L’idée d'une histoire universelle du point de vue cosmopolite وهناك أخيرا نصوص أخرى تتساءل حول الغايات الداخلية التي تنظم الصيرورة التاريخية مثل النص المخصص لاستعمال المبادئ اللاهوتية.

    4 - أو بعبارة أخرى: ما ذا يجري الآن. ماذا يحدث حاليا؟ وما هو هذا الآن الذي نوجد بداخله، والذي يحدد الفترة التي أكتب فيها؟

    5 - يقول كانط في مقاله "ما هي الأنوار؟": ماذا تعني الأنوار؟ إنها خروج الإنسان عن حالة قصوره. ذلك القصور الذي يكون الإنسان ذاته مسؤولا عنه. وأنا أعني بالقصور عجز الإنسان عن استخدام فهمه دون توجيه الآخرين. كما أقول إن الإنسان هو ذاته المسؤول عن ذلك القصور لأن السبب فيه لا يعود إلى عيب في الفهم، وإنما يرجع إلى غياب القدرة على اتخاذ الموقف والشجاعة في استخدام الفهم دون قيادة الآخرين، إن شعار الأنوار يتلخص في العبارة التالية: اجرؤ على استخدام فهمك الخاص".

    الفلسفة الحديثة، نصوص مختارة، ترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي.

    6 - أي نقد العقل الخالص Critique de la raison pure

    نقد العقل العملي Critique de la raison pratique

    نقد ملكة الحكم Critique du jugement

    7 - يقول كانط في مقاله ما هي الأنوار.: "إن الاستعمال العمومي لعقلنا ينبغي دوما أن يكون حرا، وهو وحده الكفيل بأن يجلب الأنوار. لكن استعماله الخاص يمكن أن يكون مقيدا أشد التقيد دون أن يكون ذلك حاجزا ضد نمو الأنوار. وأنا أعني بالاستخدام العمومي لعقلنا ذلك الذي نقوم به كعارفين أمام الجمهور الذي يقرأ. كما أسمي استخداما خاصا ذلك الذي يكون من حقنا أن نقوم به في مصلحة مدنية أو في وظيفة معينة تناط بنا".

    الفلسفة الحديثة، المرجع السابق، ص 251.

    8 - يقول G. Le Blanc: إن راهنية الأنوار تكمن في الانتقال من درجة من القصور إلى درجة من التطور، والكائن البشري يصبح ذاتا سياسية عندما يخرج من حالة من القصور يكون هو المسؤول عنها وتشكل هذه المرحلة حسب Le Blanc الشكل السياسي Politique لتأسيس الذاتية إضافة إلى الشكل الأخلاقي Ethique والجمالي Esthetique.

    Magazine Littéraire, n° 309n Avril 1993, p60.

    9 - يظهر هذا الموقف الفلسفي (للحداثة) في محاولة الإجابة عن السؤال الرئيسي التالي: ما هو الحدث الذي يشتمل عليه الحاضر والذي يصلح مادة للتفكير الفلسفي؟ وإجابة كانط كانت لا تسعى للبحث عما يهم الفكر والمعرفة والفلسفة في ذلك الحدث، ولكن كانت كما يقول فوكو: تسعى إلى إظهار على أي شكل وكيف أن من يتكلم كمفكر أو عالم أو فيلسوف يشكل في حد ذاته جزءا لا يتجزأ من ذلك الحدث، بل أكثر من ذلك كيف أن له دورا يلعبه في ذلك الحدث وبالتالي يكون في نفس الوقت عنصرا وفاعلا".

    Magazine Littéraire, n° 204, Avril 1984, p.35.

    10 - يقول G. Le Blanc : يوضح فوكو كيف أن موقف بودلير يشكل امتدادا لموقف الحداثة الكانطي.

    Magazine Littéraire, n° 309, Avril 1993, p.60.

    11 - إن الأنوار هي مرحلة، مرحلة لها عملتها الخاصة ووصيتها الخاصة وهي التي تقرر ما يجب فعله إزاء التاريخ العام للفكر وإزاء الحاضر وأشكال المعرفة والجهل والأوهام التي طبعت الفترة التاريخية التي تواجدت فيها. وفي هذه الكلمة التي كان على الأنوار أن تلقيها رأى فوكو طريقة فلسفة جديدة قد تأسست وطبعت القرنين الأخيرين. وهكذا أصبحت ضرورة التساؤل الدائم حول الحاضر الخاص من مهمة الفلسفة التي يقال لها الفلسفة الحديثة.
                  

10-14-2004, 12:21 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هايدجر والاختلاف (Re: osama elkhawad)

    الاختلاف عند هايدغر

    ترجمة: عز الدين الخطابي

    وإدريس كثير

    "يبدو أن سوء الفهم الذي طال فلسفة هايدجر بعد مؤلف "الوجود والزمان" و"ما هي الميتافيزيقا؟" يتعلق بهذا Le Ne - Pas: أو "اللا" التي لا تشير إلى ما هو سلبي في الوجود بقدر ما تشير إلى الوجود كاختلاف، وإلى المسألة كسؤال. عندما حاول سارتر تحليل الاستفهام في بداية مؤلفه "الوجود والعدم" جعل منه مدخلا إلى اكتشاف ما هو سلبي وما هي السلبية. وهذا هو عكس ما ذهب إليه هايدجر. إلا أن سارتر لم يكن غرضه تفسير فلسفة هذا الأخير. لكن ميرلوبونتي كان متأثرا بهايدجر بشكل أكثر واقعية من سارتر خاصة عندما تحدث عن "الثني" أو "التثنية" في "فينومنولوجيا الإدراك" (معارضا في ذلك "الثقوب" أو بحيرات اللاوجود" عند سارتر) أو عندما أشار إلى أنطولوجيا الاختلاف والمسألة في كتابه "المرئي واللامرئي".

    1 - Le Ne -Pas: لا تشير إلى السلب، وإنما تشير إلى الاختلاف بين الوجود والموجود (انظر مقدمة Vom Wesen des Grundes ط.3، 1949): "الاختلاف الأنطولوجي هو ذلك الفصل الموجود فيها بين الموجود والوجود "انظر كذلك ذيل" ما هي الميتافيزيقا؟" ط.4 - 1943 "ما لا يوجد أبدا، ولا هو موجود في أي مكان. ألا ينكشف ككل ما هو مختلف عن كل موجود؟ (ص25).

    2 - هذا الاختلاف لا يوجد "فيما بين" بالمعنى المألوف للكلمة، إنما هو "ثني" (Zwiefalt). إنه مكون للوجود وللطريقة التي يكون بها الموجود، وذلك بحركة مزدوجة تفيد "الإظهار" و"الإضمار". فالوجود هو حقا ما يخلق الاختلاف، من هنا التعبير: "الاختلاف الأنطولوجي" (راجع "تجاوز الميتافيزيقا" الترجمة الفرنسية في "أبحاث ومحاضرات" ص ص89 وما يليها).

    3 - الاختلاف الأنطولوجي يتناسب والمسألة. إنه وجود المسألة التي تنمو كمشاكل داخل حقول محددة بالنسبة للموجود. (أنظر "Vom wesen des Grundes" الترجمة الفرنسية في "ما هي الميتافيزيقا" ص ص57/5.

    4 - بهذا المعنى فالاختلاف ليس موضوع تمثل. ذلك أن التمثل كعنصر للميتافيزيقا يخضع الاختلاف للهوية، أو على الأقل يربطه بعنصر ثالث كوسط للمقارنة بين حدين مختلفين (الوجود والموجود). يعترف هايدجر باستمرار وجود هذه الزاوية من النظر للتمثل الميتافيزيقي (نفس المرجع السابق ص 59) حيث نعثر على العنصر الثالث في "تعالي الوجود هاهنا" لكن الميتافيزيقا تبقى عاجزة عن التفكير في الاختلاف في حد ذاته وفي أهمية ما يفصل وما يوحد (أي المخالف Le differenciant). لا وجود للتركيب ولا للوسيط ولا للتصالح في الاختلاف، بل يوجد على العكس من ذلك عناد في التخالف (Different/ciation) ذلك هو "الانعطاف" فيما وراء الميتافيزيقا: "إذا كان في مقدور الوجود عينه أن يوضح اختلاف الوجود والموجود الذي يحمله في ذاته في كامل حقيقته، فإنه لا يستطيع ذلك إلا حينما يظهر الاختلاف ويبرز بذاته خصيصا…" (تجاوز الميتافيزيقا ص 89).

    (بصدد هذه النقطة يجب مراجعة Beda Alleman هولدرلين وهايدجر الترجمة الفرنسية P.U.F ص ص 45-55-69-72).

    5 - الاختلاف إذن لا يكون تابعا للمماثل (Identique) أو القرين (l’égal)، إنما يكون معالجا كالواحد عينه (le même) وضمنه عين الواحد. (أنظر "الهوية والاخلاف" Gunter NESKE 1957). وأيضا "الإنسان يقطن الشعر" الترجمة الفرنسية في "أبحاث ومحاضرات" ص 231: "الواحد عينه (Le même) والقرين (l’égal) لا يتطابقان، وكذا الواحد نفسه والوحدة الفارغة للمماثل المحض. ذلك أن القرين يرتبط دوما بارتفاع الاختلاف، حتى تتناغم فيه كل العناصر، أما الواحد عينه -على العكس من ذلك- فهو الانتماء المتبادل للمختلف انطلاقا من التجميع الممكن لما هو مختلف. لا يمكن الحديث عن "الواحد نفسه" إلا إذا فكرنا في الاختلاف… فعين الواحد يبعد كل معالجة مستعجلة للاختلافات داخل القرين: المقارنة دوما ولا شيء غير المقارنة. عين الواحد تجمع الاختلاف في وحدة أصلية، في حين أن القرين يشتت الاختلاف في وحدة الواحد البسيطة.

    وأخيرا نعتبر "تناسب" الاختلاف مع المسألة والاختلاف الأنطولوجي بوجود المسألة أمرا أساسيا، متسائلين عن مدى مساهمة هايدجر نفسه في إشاعة سوء فهم لفلسفته حين يعالج مفهوم "لاشيء" (Rien) أو يضع الوجود تحت شطب بدل أن يضع "اللا" الواردة في كلمة اللاوجود بين قوسين، وهل يكفي معارضة عين الواحد بالمماثل حتى نقدر على التفكير في الاختلاف الأصلي وتخليصه من الوسائط؟. إذا كان صحيحا أن لدلى هوسرل ميولات طوماوية (ط. الأكويني) فإن هايدجر يوجد بجوار دون سكوت والوجود الذي يقال بتقديم وتأخير (L’univocité de l'être)؟ وهل حدد الطريقة التي سيقال بها هذا الوجود (بتقديم وتأخير) على الاختلاف فقط؟ وما موقع الموجود من هوية التمثل؟ أسئلة لا بد منها لمقاربة الاختلاف خاصة إذا ما قارنا بين الاختلاف الأنطولوجي لدى هايدجر والعود الأبدي لدى نيتشه…

    G. Deleuze, Difference et répétition, PUF, 7ème ed. 1993, pp.90-92.
                  

10-14-2004, 12:26 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    هيدجر والشعر

    محمد طواع


    "فبدلا من أن يسخر الشاعر الكلمة، من أجل تفسير الكون وإعادة خلقه خلقا جديدا اكتفى بأن استولدها مولودا بشعا، أي جعل مهمة الكلمة هي مسخ العالم بدلا من تسويته خلقا آخر" المجاطي، ص 163.

    الدعوة إلى المشاركة من أجل التفكير في العلاقة التي ينبغي أن تكون ممكنة بين الفلسفة والشعر، لهي بمثابة استجابة لنداء العصر باعتباره عصر نهاية الفلسفة أو عصر التقنية، هذا من جهة، ولهي حدث أساسي بالنظر إلى ما أدركه "عقل الكرة الأرضية" من خطر آخذ في اكتساح مختلف الاصقاع وآخذ في تهديد إقامة الإنسان وسكنه على أقدم كوكب للحضارات الإنسانية الكبرى. وهو الخطر الذي تحددت معالمه مع التقنية والذي أخذت معه مجموعة من القيم تنسحب وتتوارى، من بينها قيمة التفلسف والإبداع الشعري نفسها.

    من بين المؤثرات على هذا الشعور بالخطر هو المؤتمرات التي أخذت تقام بصدد مستقبل الأرض، وكذلك المؤتمر الذي أقيم هذه السنة (16 يونيو 97) بصدد الفنان، وضعه وقيمته. هذا فضلا عن الحديث اليوم عن الحق في الرؤية الجيدة والحق في التربية الفنية وضرورة الدفاع عن الفلسفة.

    سؤال الفلسفة والشعر سؤال يتجاوز كونه يشير إلى قضية نمط الكتابة الشعرية ومسائلها المتعلقة بالتفعلة والوزن أو كونه سيعرض لمسائل الكتابة الفلسفية الأكاديمية. سؤال الفلسفة والشعر مرهون بحالة التيه والظلمة التي ما فتئ العصر يشهد تعاظمها، حالة فقدت معها مجموعة من القيم دلالتها وركائزها. حالة من هذه تدعو إلى الاستجابة لنداء العصر من خلال طرح أسئلة أساسية، أسئلة ذات أفق أنطلوجي لا تعنى بهذا الموجود الجزئي أو ذاك، وإنما تهتم بالموجود في كليته وبمسألة الإقامة على الأرض وعمارتها في عصر تقوم ماهيته على العقل الحسابي (الراسيو) الذي يجسده الفكر والتقنو-علمي بامتياز. بهذا فالسؤال الأساسي سؤال ميتافيزيقي بالمعنى القوي للكلمة، سؤال غير راهني-آني. بالضرورة، إنه سؤال يربط الحاضر بالماضي والمنحدر، ليلقي بواضعه في أفق خارج حاضره بعيدا إلى الأمام. السؤال الأساسي بهذا المعنى هو ما لا يفكر فيه العلم ولا التقنية عامة.

    وبالجملة، السؤال الأساسي يقيم نفسه على محاورة العصر من أجل تأمل منحدر القدر الميتافيزيقي الذي تحدد معه قدر تاريخ كوكب الأرض بوصفه أرض الحضارات الإنسانية الكبرى وتحدد معه الوضع الحالي للعصر بوصفه عصر التقنية.

    I -

    من خلال هذا الهامش يتبين أن التأمل الذي سأقوم به بصدد ما يطلبه عنوان هذه الدراسة، يستلهم أساسه من الحوار الذي عقده هيدجر مع الشعر. وبهذا ستكون علاقتي بهيدجر منذ البداية كتلك التي كانت "لهرمس مع كل تائه".

    أما الأسئلة التي ستكون مدار هذا التأمل هي الآتية:

    لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تقون بحوارات مع الشعر؟

    وماذا عسى الكلمة الشعرية أن تقدمه للفلسفة؟ وما معنى أن تكون شاعرا في هذا العصر بوصفه عصر التقنية؟

    غير أنه إذا ما استحضرنا الوضع الاعتباري الذي حددته الفلسفة للشعر، فكيف سيكون هذا الحوار ممكنا؟ هل يتعين أن يكون الحوار متخارجا مثل الحوار الذي أرادته الأفلاطونية حوارا بين الفيلسوف والشاعر؟ نتساءل بهذه الكيفية، لأننا نعرف أن الأفلاطونية قد صنفت الشعر ضمن الأقاويل المخيلة، ومن ثم تصورت الإقامة في المدينة ممكنة بدون شعر. وعلى هذا المنوال تحدد قدر الشعر طيلة تاريخ الميتافيزيقا إلى حد أنه قيل " خير الشعر أكذبه"، "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألا ترى أنهم في كل واد يهيمون".

    II -

    استجابة للأسئلة التي طرحناها يمكن أن نحدث تعديلا على عنوان هذه الورقة ليصبح على الشكل الآتي: "الميتافيزيقا والشعر"، كيف يكون الحوار بينهما ممكنا؟ ويمكن أن نلامس الدلالة والبعد اللذين نريدهما لهذا العنوان المعدل إذا ما نحن أخذنا اسم الميتافيزيقا كمرادف لاسم الفلسفة أو للأفلاطونية في معناها القوي طبقا لمذهب هيدجر الذي يرى أنه سواء قلنا فلسفة أو ميتافيزيقا أو أفلاطونية، فإننا نتحدث عما يشكل "بينة الوجود" وعما حدد قدر تاريخ الفكر والإقامة على الأرض.

    غير أن هذه الصيغة التي اتخذها العنوان تجعل الفلسفة تحس بنوع من الإحراج، ذلك لأن عليها أن تكون ضد نفسها باعتبار أن الفلسفة أقامت نفسها منذ نشأتها ضد ما كان أساس قول الشاعر المفكر أي ضد المقدس.

    لنتذكر أن القول الشعري، وهو الصورة الأولى للفكر، مع بارميند مثلا كان متجاورا مع المقدس، متعالقا معه، في حين أن الفلسفة أقامت نفسها منذ البداية على نبذ المقدس ومعه مجمل علوم الصورة القائمة على الفانطاسيا. ولقد كان ذلك من أجل التأسيس للقول في شكله الحجاجي القائم على المفهوم، وهي التي اعتبرت المخيل كلاما توهميا تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار. هذا مع الإشارة إلى أن المقدس هنا ليس كما يفهمه الفقيه في التيولوجيا أو كما يتحدث عنه الصوفي، وإنما يتعين أن نأخذه كما تحدث عنه الشعراء / شعراء فكر الوجود.

    III -

    هذا، ويمكن، إذا ما تأملنا الأسئلة التي طرحناها في البداية، أن نكثف مطالب تلك الأسئلة في مطلب السؤال الأول منها:

    لماذا يتعين الآن على الفلسفة أن تعقد حوارات مع الشعر؟ وهو السؤال الذي يطلب منا أولا أن نقول إن كلمة "الشعر" هنا لا ينبغي أن نأخذها كما يفهمها الشعراء اسما لكلامهم بوصفه قريضا، وذلك لأن قصدية الحوارات مع الشعر سوف لا تكون من أجل تقديم خدمة للشعر في معناه الضيق ككلام موزون، وإنما المقصود هو "ماهية الشعر".

    غير أنه يتعين أن نحترس من كلمة "الماهية" هنا لكي لا نأخذها في معناها الميتافيزيقي أي باختزالها إلى مجموع الخصائص الجوهرية الثابتة الفاصلة. إن ماهية الشعر المقصودة في السؤال هي تلك التربة أو الأرض التي يتعين على الفلسفة أن ترد الفكر إليها، كما يتعين على الشعر في معناه الضيق هو نفسه أن يوجه التفكير صوبها.

    المسألة هنا هي مسألة ماهية الشعر التي لا تنفك عن مسألة الإقامة والسكن الممكنين.

    كما أن السؤال نفسه يطلب منا ثانيا أن نوضح كلمة "الآن" الواردة فيه. فنقول: المقصود بـ"الآن" هو العصر بوصفه وضعا تاريخيا يحكمنا ميتافيزيقيا باعتباره عصر التقنية وقد أخذ يعلن عن تمام برنامجه ونهايته - بتحوله إلى فكر كوني- يعد أن استنفدت الميتافيزيقا إمكاناتها بعد أن كانت مجرد مبادئ مع نظرية المنطق التقليدية لتتحقق الآن في صورة وضع انطلوجي أو واقع فعلي تجاوزت مظاهره، في مجالات كثيرة، حدود المعقول.

    تأسيسا على ذلك، نقول مع هيدجر، إن فتح الحوار بين الفلسفة والشعر الآن سيكون حوارا للعصر من جهة، وحوارا من أجل رد الفكر الفلسفي إلى تربته الشعرية الأصيلة من جهة ثانية. ويكون ذلك جملة، من أجل أن يتجاوز الفكر مفهومه كما وضعت الميتافيزيقا شروط إمكانه كتقنية:

    لنتذكر مرة أخرى أن الهاجس الذي كان للميتافيزيقا طيلة تاريخها هو إضفاء مبادئ العقل بوصفه راسيو، على الموجود. ولنلاحظ الآن أن العصر الذي هيأت له هذه الميتافيزيقا شروط إمكانه متجسدا في التقنية، قد أصبح ينتج من أجل الإنتاج ويحول الأرض وموادها من أجل التحويل من دون ما استجابة لحاجات "واقعية"، وإلا ما حاجة الإنسان والأرض إلى ترسانة الأسلحة النووية اليوم؟

    لهذا نقول، التقنية وقد أصبحت فكرا كونيا ووضعا انطلوجيا، لم تعد تستجيب سوى لمنطقها الخاص متجاوزة بذلك إرادة الإنسان. على هذا الأساس لم يعد الهاجس هو إضفاء العقلنة على الواقع وحسب، وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى حد تحريض الإنسان ضد الطبيعة من أجل تفتيشها واستنزاف كل طاقاتها. والإنسان أمام هذا الوضع لم يعد ذاتا تتميز بالتفلسف بل أضحى محرضا من أجل التحريض ومعه تحولت العقلنة إلى مجرد عمليات إجرائية وظيفية يغيب معها السؤال.

    بعد هذه الإشارة بصدد كلمتي "الشعر" و"الآن" كما وردتا في سؤالنا، نعاود طرح أسئلتنا بكيفية أخرى من أجل الإنصات إليها ثانية:

    العصر الذي يحكمنا ميتافيزيقيا هو عصر التقنية، فماذا عسى الكلمة الشعرية أن تقدمه للفلسفة؟ وبأي معنى يتعين على أهل الفلسفة أن يعقدوا حوارات مع الشعر؟ ثم ما الحاجة إلى الشعر في زمن طغى فيه موظفو التقنية؟

    إن الأطروحة التي نبني عليها ضرورة عقد حوارات مع الشعر من طرف الفلسفة هي التالية: ضرورة حوار الفلسفة للشعر الآن هي من أجل مجاوزة التأويل التقني للفكر الذي تعود أصوله إلى اللحظة الأفلاطونية -الأرسطية، ومن أجل رده إلى تربته الشعرية الأصيلة، التربة الشعرية الأولى التي معها تم نحت الصورة الأولى للفكر باعتباره فكر الوجود.

    استنادا إلى ذلك سيكون التفكير قائما على نوع من الاستذكار. أما مجال اشتغاله فهو اللغة من حيث هي مقطن حقيقة الوجود، وباعتبارها تربة تمتد جذورها إلى ما سماه من اهتموا بالمعجمية باسم "المدونة" كطريقة لوضع "اللسان". هذه التربة الأم هي التي يمكن تلمسها إذا ما نقبنا بكيفية نشوئية في المادة التي منها وضعت المداخل المعجمية وأقيم عليها الاشتقاق وعلى أساسها توالدت ظلال الكلمات بشكل بلوري لتتفرع مع ذلك الحقول الدلالية.

    هذه المادة-التربة هي الينبوع الأصيل الذي ينبغي للفكر أن يستذكره باستمرار لينهل من معينه. وبهذا المعنى نعتبر مع هيدجر أن هذه التربة هي أساس إقامة الإنسان. ومن ثم فهذه التربة حقيقة موجودة قبل الكلام وقبل صوت النفس، وكلمات هذه التربة هي التي تلعب بنا عند الكلام فيضحى "اللسان لسانين"، لسان صوت الذات ولسان التربة الأم. وتجدر الإشارة إلى تجربة هيدجر مع الكلمات الأساسية في معجم الفلسفة من أجل الاستئناس بها.

    نصرح بهذه الأطروحة لأننا نعتقد مع هيدجر بأن العصر الراهن قد وضعت مبادؤه الأولى مع الفرضيات التي تأسس عليها مفهوم "الغرب" منذ لحظة ميلاد الفلسفة. كما نعتقد أن مجاوزة التأويل التقني للفكر من أجل جعل هذا الأخير يستذكر ماهيته الشعرية، تتطلب تأويلا متميزا لماهية التقنية. وهو تأويل ينهض على بيان المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الميتافيزيقا طيلة تاريخها.

    نقول ذلك لأننا نرى أن التقنية كوضع يحكم التاريخ والمجتمعات الآن هي امتداد لما "فكرت فيه الميتافيزيقا بشكل ملتبس" وإنجاز له، وأنه مشروع "موضعة" الطبيعة اليوم يفسر ليس بالراهن فقط وإنما أيضا بالرجوع إلى جذوره القديمة التاريخية حيث وضعت البذور المهيئة لهذا المشروع طيلة تاريخ الميتافيزيقا.

    من هنا يتبين لنا أن التقنية لا تعني المحركات والآلات الصناعية، كما لا تعني ميدان الصناعة والتطبيقات العلمية، ذلك لأن هذه الأشياء لا تمثل سوى الوجه المادي للتقنية. التقنية في الفهم الهيدجري هي أكثر من كونها كذلك، التقنية هي "وضع انطولوجي" يحكم مختلف ميادين الواقع، هذا الوضع يحكم الموجود في كليته بوصفه عقلا كليانيا أو فكرا كونيا. هذا الوضع له علاماته ومظاهره هي مظاهر العصر نفسها، نذكر منها العلم الحديث والدولة الكليانية وسيادة علم السبرنتيك.

    العلم بموجب هذا التحليل هو في خدمة المشروع العام الذي تمليه التقنية وسيجيب بضرورة ماهيتها. وبذلك، فالتقنية ليست هي التطبيق الفعلي للعلم، وإنما هي "التنفيذ" الواقعي لأساس الميتافيزيقا ولمبادئها:

    لنلاحظ مثلا أن مبادئ التحليل والتدليل والاحتراس من الوقوع في التناقض ومسألة المنهاج والعقلنة أصبحت فاعلة في جميع ميادين الواقع في شكل التخطيط والتوجيه والضبط والتحكم. ويكتشف مبدأ العقلنة اليوم بشكل صارخ مع مطالب السبرنتيك. إذ أننا نلاحظ أن لكل ميدان الآن -بما في ذلك الفن والشعر والثقافة عموما والسياسة الخ…- المدير ومصمم المشروع والموظف المنفذ.

    التقنية الآن تنفذ وترهن ما دعت إليه تجاوزا ميتافيزيقا الأزمنة الحديثة منذ اللحظة الديكارتية التي معها تحول الكائن إلى موضوع متعارض مع الذات، وكل موضوع معقلن قابل لأن يختزل إلى تصاميم تقدمها لنا لغة الحساب الرياضي.

    نلاحظ مع هيدجر أن التقنية بهذا المعنى تلقي بسلطانها على الموجود ككل. إنها توحد الموجود بقوتها التحكمية، توحد المفكر فيه كما توحد الممكن. بهذا فهي تشكل الخطر الذي يهدد علاقة الإنسان بالموجود، وتهدد إنسانية الإنسان في بعدها الشعري، كما تهدد في نفس الوقت شيئية الأشياء.

    بناء على ذلك نقول مرة أخرى، إن التقنية تفرض نفسها كشكل وحيد للتكشف. وهي بهذا تكون مخلعة لماهيتها الميتافيزيقية التي حولت ماهية الإنسان والفكر واللغة:

    اختزلت ماهية الإنسان إلى الحيوانية والنطقية. وتحول الفكر إلى مجرد راسيو أي فكر يعمل على عد عناصر الموجود وحسابها من أجل حصرها وتحديدها والتحكم فيها. ومع هذا النمط من التفكير سيغيب السؤال ليسيطر هاجس الحساب كنمط أساس لتكشف الحقيقة، سيغيب القلق والعناية بسؤال الوجود. أما ماهية اللغة فلقد اختزلت إلى مجرد أداة للنقل، نقل الفكرة ووصفها أو نقل المعلومة والتحكم فيها وفي متلقيها.

    هذا التحول الذي لحق ماهية الإنسان والفكر واللغة مع الميتافيزيقا هو ما كان وراء التخطيط بشكل ملتبس للوضع الأنطولوجي الحالي، الوضع الذي نشعر معه بحالة الضيق والضجر، أو بحالة من الظلمة والتيه. وهو ما يجعل إنسانية الإنسان وشيئية الأشياء وإقامة الإنسان على الأرض تشكل اليوم إشكالية تدعونا إلى التفكير في الحاضر من أجل الخلاص من قبضة التقنية.

    هذا الوضع الأنطولوجي العام الذي وضعت بذوره الأولى منذ اللحظة الأفلاطونية -الأرسطية يعلن عن نفسه كفكر كوني، هو ما ليس في مقدور جميع الناس إدراك سره: ليس في مقدور العالم نفسه. ذلك لأن العلم لا يفكر. وهو كذلك لأنه منشغل بمسائله الموغلة في الصورية. كما أن إدراك ما أصاب العصر ليس في متناول الحيوان والنبات إدراكه أيضا. وعليه، تبقى المهمة، إذن، للمفكر والشاعر. الرسالة رسالتهما. ذلك لأن لهما حساسية متميزة تجاه العصر وما أصابه من خطر مع حاله غياب السؤال/سؤال الملاذ أو الخلاص من قبضة التقنية.

    يرى هيدجر أن سؤال الخلاص من قبضة التقنية كوضع أنطلوجي عام هو ما يفرض على الفلسفة أن تعقد حوارات مع الكلمة الشعرية من أجل جعل الفكر يستذكر منحدره الشعري. ولأجل ذلك نقول معه أن الطريق إلى ذلك تكون من خلال افتراضين:

    الافتراض الأول: إن نفكر في ماهية الشعر في ارتباط بمحاورة العصر الذي يحكمنا ميتافيزيقيا من أجل أن نتمكن من مجاوزة الميتافيزيقا بوصفها بنية الوجود التي تحدد معها قدر التاريخ الذي انتهى بالإنسان إلى عصر التقنية الذي اختزل فيه مفهوم الفكر إلى مجرد راسيو واللغة إلى مجرد أداة للتحكم والضبط حتى مع أدنى أشكال التواصل الملاحظ في المجتمع.

    وقد ندرك مدى خطورة وضع اللغة ومسألة الفكر إذا ما استحضرنا ماهيتهما كما يفهمها علم السبرنتيك الذي أضحى اليوم أساس باقي العلوم. وهو الشيء الذي جعل الفلسفة تشعر بنوع من الانسداد لكل الآفاق التي تمكن من التفكير من "خارج" فضاء النزعة العلمية-التقنية. وهذا الخطر الذي تكشف صداه مع هيجل الذي ذهب إلى أن على الفلسفة أن تصبح علما/علم ظهور العقل أي منطقا، كما ظهر مع هوسرل حينما دعا الفلسفة لأن تصبح علما صارما أو مع الوضعية المنطقية لما دعا أحد أقطابها إلى حذف الميتافيزيقا. هذا من دون أن نشير إلى الوضع الاعتباري الذي أصبح للتكوين التقني إذا ما قورن بما تشعر به كليات الآداب والعلوم الإنسانية عندنا من خوف من المستقبل.

    في وجه هذا العصر نعلن أنه شتان بين الاعتبار الذي تتخذه اللغة مع السبرنتيك واعتبارها بوضعها هي المأوى الذي يمكن حقيقة الوجود من التكشف لكي يتمكن الإنسان من تأسيس التاريخ. ذلك لأن الكلمة وخاصة في شكلها الشعري ليست عبارة عن صوت أو علامة كما تختزل عند اللسانين، وإنما هي البعد الأساسي لإقامة الإنسان على الأرض. بهذا المعنى يعتبر هيدجر اللغة هي "الشعر الأصيل" الذي يمكن من تجميع للاختلاف بين العالم والأشياء، بين الانفتاح والأرض، بين التحجب واللاتحجب. اللغة بهذا المعنى تحمل الانفتاح، وتعلم الإنسان الإنصات إلى النداء كما تعلمه الكيفية التي يتعين عليه أن يكون بها في العالم أي يسكن. وبما أن اللغة بناء "وتأسيس" للوجود وللإنسان وللتاريخ، فهي نفسها "الشعر في معناه الجوهري".

    ونحن نتحدث عن اللغة بوصفها كذلك، لنتذكر خطورة "التسمية" باعتبارها تظهر الأشياء، تكشفها، تجعلها تأتي صوبنا ومعها العالم. اللغة بهذا المعنى تقيم عالما وتخلقه خلقا جديدا وتمنح الإنسان إنسانيته. من هنا فرادة الشاعر والمفكر اللذان هما أخطر من تكلم اللغة.

    قوة اللغة تكمن في قدرتها على حمل الإنسان على رؤية وضعه في العالم وإدراكه. من هنا يتعين أن نتحدث عن الكلمة ليس بوصفها علامة فقط وإنما بوصفها "عينا" تمكن من الإدراك. خاصة وأننا نعرف أن كل إدراك هو رؤية. هذا ما يسمح لنا بالقول إن الحيوان لا يبصر لأنه لا يتكلم، ومن ثم فليس له عالم.

    بهذا المعنى تتجلى قوة اللغة الإظهارية من خلال خطورة التسمية التي تجعل من اللغة لوغوسا، وليست مجرد أداة أو مجرد صوت للنفس. إنها حقيقة تحتاج إلى أن تتكلم، وبالتالي هي في حاجة إلى من ينصت إلى "كلامها الحي-الأصيل" لكي يتكشف من خلال لسانه، ليغدو لسان المتكلم لسانين. وإذا ما افتقدت اللغة قوتها هذه تصبح كالصهيل.

    هذا ما يخلص بنا إلى اعتبار كل شعب من حيث هو متكلم هو مجرد حاك، يحكي ويعيد الحكاية، يترك كلام اللغة يقال من دون أن يمسك بالينبوع أو المنحدر. والكلام بهذا المعنى هو مجرد صدى، والفكر إنصات لما تقوله اللغة، هو إظهار لأثر ملتبس حتى للغة نفسها، من هنا عدم شفافيتها.

    أما الافتراض الثاني فيكمن في محاورة الشعر والفن من حيث ماهيتهما. لكن ليس بالشكل الذي حصل مع الميتافيزيقا، وإنما سيكون الحوار من أجل أن نستذكر المنحدر الشعري الذي يشكل التربة التي يتعين أن يشيد عليها الإنسان إقامته وسكنه على الأرض بوصفها أقدم كوكب تمت عمارته مع الحضارات الإنسانية الكبرى.

    لأجل الاستذكار ينبغي أن نشق طريقنا صوب الشعراء من أجل محاورتهم لأن معهم تم نحت الصورة الأولى للفكر قبل أن يتحول إلى تقنية مع الفلسفة.

    مع هؤلاء، بارمينيد وهيراقليط مثلا، تكلم الفكر بشكل شعري وقدم نفسه بوصفه إنصاتا لمقال اللغة من حيث هي مقطن نداء الوجود وحقيقته. اللغة والتفكير مع هؤلاء لم يكونا مشروطين بقواعد الكتابة وشرائطها كما تم تقعيدها مع نظريتي النحو والمنطق. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، نتعلم الإنصات إلى الكلمة الشعرية من خلال ما يقوله الشعراء الذين تميزوا بمحاورتهم للعصر بكيفيتهم الخاصة كشعراء يفكرون في علامات اختفاء المقدس وتواريه.

    أما المقدس هنا هو منحدر القول فكرا كان أو شعرا، إنه ينبوع كل ما يؤسس للمسرح، إنه الإشراقة المنيرة للطريق وسط الغابة السوداء.

    على أساس هذين الافتراضين، يطرح السؤال المغامر: كيف يمكن أن تكون شاعرا في عصر تحول فيه الإنسان إلى موظف للتقنية؟

    أن تكون شاعرا في عصر الضجر وتواري المقدس معناه أن تنشد حالة العصر هذه بوصفها سر الألم -السر الذي لا تصونه سوى اللغة التي هي مقطنه. أن تكون شاعرا معناه أن تعمل على أن يأتي صوبنا كل ما يفيد تربة الإقامة من أجل جعلها تتجاوز حالة التيه والارتجاج الذي تجتازه. أن تكون شاعرا والحالة هذه، هو أن تفكر في ماهية الشعر وأنت تحاور العصر وقد بلغت معه مسألة نسيان الوجود تمامها. ولكن ما معنى محاورة العصر هنا؟ أن تكشف عن سر الألم الذي لا يمكن أن يدركه باقي الناس. وهذا ما يجعل من قولك قولا نبوئيا أي شعريا.

    هذا مع لإشارة مرة أخرى إلى أن الشعر هنا ليس كما تم تصنيفه مع الأفلاطونية وإحصاؤه ضمن "علوم التوهم"، وليس الشعر هنا كذلك كما يتحدث عنه الشعراء لما يتحدث هؤلاء عن مسائل التفعلة والوزن والصورة…الخ المقصود بالشعر هو المنحدر الأصيل للفكر وللشعر وللفن معا. أما الشاعر المطلوب محاورته فهو ذلك الذي يكون شاهدا على علامات انسحاب المقدس وتواريه ليترك الحقيقة تكشف عن نفسها. فيكون بموجب ذلك وسيطا بين الحاضر والمستقبل يكشف ما خبأه الزمان عن الناس ذلك لأن أية نظرة إنسانية لا تستطيع أن ترى، ولا أي أذن إنسانية أن تسمع بدون الكلمة الشعرية.

    رسالة مثل هذه غير ممكنة بدون مجاوزة الميتافيزيقا ونموذجها الأول في التفلسف. وكما هي غير ممكنة لأن الفيلسوف الميتافيزيقي لم يحصل له أن تعلم الإنصات إلى الكلمة الشعرية طيلة تاريخ الميتافيزيقا، فهي غير ممكنة أيضا بالنسبة للعالم، لأن هذا الأخير ليس بمقدوره أن يدرك خطورة ما أحدثه العصر من ارتجاج على مستوى ماهية الإنسان وشيئية الأشياء لأنه لا يفكر بحكم أنه المنفذ الفعلي لمطالب التقنية. هذا فضلا عن كون العالم لا يشتغل سوى باللغة التي تمكنه من تفتيش الموجود القابل للحد والحصر والملاحظة. على هذا الأساس يذهب هيدجر إلى أن العلم لا يفكر أي أنه ليس بمقدوره تعقب هذا الذي ما يفتأ يختفي ويتوارى ليترك العالم ظلمة والأرض كوكبا تائها. من هنا تتميز الكلمة الشعرية عن المفهوم الفلسفي أو اللغة السياسية. الكلام الشعري كلام رمزي يشوبه نوع من الغموض الذي يمنح الكلام قوته الفاتنة التي تدعو إلى التأمل والتساؤل والتأويل، أي إلى فتح الطريق للتفكير. ومن ثمة يتعالق القول الشعري بالفكر من أجل كشف الغموض والسر.

    IV - خلاصة:

    استنادا إلى ما سبق نقول بشكل مركز أن انحصار العصر داخل وضع أنطولوجي تسوده الظلمة والتيه مع نهاية الميتافيزيقا، هو ما يجعل مسألة حوار الفلسفة للشعر ضرورة من أجل استذكار المنحدر الشعري للفكر وللشعر وللفن، المنحدر من حيث هو التربة الأساس التي يتعين أن يشيد عليها الإنسان عمارة الأرض وإقامته. أو نقول إن التقنية بوصفها وضعا أنطلوجيا أخذ في تهديد إنسانية الإنسان وشيئية الأشياء بشكل كوني، هو ما يدعو إلى التفكير في التقنية من حيث ماهيتها الميتافيزيقية، والتفكير في ماهية الشعر من أجل جعل الفيلسوف الميتافيزيقي يستذكر المنحدر الأصيل للفكر أي المنحدر الشعري من حيث هو ينبوع متدفق كمد البحر ما فتئ ينسحب.

    هذا الوضع الأنطلوجي، حيث الضيق والضجر والتيه، هو ما يجعل مسألة الشعر مسألة جديرة بالسؤال اليوم، وهو ما سيمكن من وضع لبنات وتهييء التربة لممكن ترتسم معه معالم نمط جديد في الحياة وعلاقة لا ميتافيزيقية بالفكر وباللغة وبالشعر وبالفن بوصفها القوى الأساسية التي منها نمتح إلهامنا الروحي، كل هذا من أجل وضع لبنات جديدة للإبداعية والحرية؛ وبالجملة، من أجل إقامة شعرية بدل الضيق والضجر الذي نحس به مع العالم الذي شيدته التقنية من خلال القرارات التي نفذها موظفو التقنية والتي أصبحت شارطة لشروط إمكان الإقامة والسكن على الأرض وربما هم يفكرون في شروط إمكان الإقامة حتى خارج فضاء الأرض.

    حوار الفلسفة للشعر إذن، هو نوع من النداء من أجل دفع الميتافيزيقا إلى أن تفكر في ما تم نسيانه من طرف الميتافيزيقا ذاتها -أي التفكير في الحقيقة ليس بوصفها مسألة منهج وقواعد منطق، وإنما باعتبارها انكشافا كما تحدث عنها المفكرون الشعراء عند انشغالهم بالفيسوس. وشعر بارمنيد من بين الكتابات التي سبق لها قبل ميلاد الفلسفة كتقنية تعلم في الأكاديمية الأفلاطونية، أن تأملت مسألة الوجود وأنصتت إلى نداء حقيقته "بأذن" مختلفة عن تلك التي استمع بها الفكر الغربي منذ نشأته كفلسفة إلى اليوم وقد أصبح فكرا كونيا يريد أن يدمج جميع الهويات تحت معاييره وقيمه·


    بيبليوغرافيا:


    نشير إلى أن جل كتابات هيدجر أساسية بالنسبة لهذا الموضوع وخاصة المحاضرات التالية:

    - Heidegger (M), acheminement viens la parole, Tel, gallimard, 1976.

    - Heidegger (M), essais et conférences, Tel, gallimard, 1958.

    - Heidegger (M), chemins qui ne mènent nulle part, gallimard, 1962.

    أما بالنسبة للدراسات فأقتصر على ما يلي:

    -KELKEL (Arion L.), la légende de l’Etre, langage et poésies chez Heidegger, J-vrin, Paris, 1980.

    -Fromend-Henrice (Max), c’est à dire, poétique de Heidegger, Galilée, 1996.

    -Blanchot (M), le livre à venir, Gallimard, col. Folio/essais, 1959.

    - دراسة "هيدجر والميتافيزيقا" التي هي رسالة أنجزتها لنيل دبلوم الدراسات العليا 1995. لا زالت لم تطبع بعد
                  

10-14-2004, 12:38 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    موجات الحداثة الثلاث

    ليو ستــروس* ترجمة: مشروحي الذهبي

    في أواخر الحرب العالمية الأولى خرج إلى الوجود كتاب يحمل العنوان المشئوم التالي : أفول، أو غروب الغرب. لاشبنغلر (spengler) لا يفهم من الغرب ما تعودنا أن نطلق عليه الحضارة الغريبة، أي تلك الحضارة التي انبثقت من اليونان، بل يفهم منه الثقافة التي بزغت بأوربا الشمـالية حـوالي ق 1000م. وتشمل علاوة على ذلك، الثقافة الغربية الحديثة. لقد تنبأ، إذن بأفول الحداثة أو بغروبـها، ويعتبر كتابه وثيقة دامغة على أزمة الحداثة. وحقيقة وجود هذه الأزمة أصبح اليوم جليا حتى لذوي الأفهام الضعيفة. ولكي نفهم أزمة الحداثة يجب أن نفهم بادئ ذي بدء خاصية الحداثة.

    تتجلى أزمة الحداثة أو تكمن في واقع كون الإنسان الغربي الحديث لم يعد يفهم ما يريد ولم يعد يعتقد أن بإمكانه أن يعرف ما هو خير وما هو شر، ما هو صحيح وما هو خاطئ. وإلى بضعة أجيال خلت كان من المسلم به عادة أن بإمكان الإنسان أن يعرف ما هو صحيح وما هو خاطئ، ويعرف النظام الاجتماعي العادل أو الحسن أو الأحسن. وباختصـار يعرف أن الفلسفة السياسية ممكنة بل وضرورية. هذا الاعتقـاد فقد نفوذه في زماننا. ووفقا لرأي سائد فإن الفلسفة السياسية مستحيلة : لأنـها كانت حلما، قد يكون حلما رفيعا، لكنه يبقى حلما على أية حال. وفي الوقت الذي يوجد فيه اتفاق واسع حول هذه النقطة فقد اختلفت الآراء حول سبب قيام الفلسفة السياسية على خطأ أساسي. وفقا لرأي واسع الانتشار فكل المعارف التي تستحق اسم معارف هي معارف علمية. لكن المعارف العلمية لا تبرهن على أحكام القيمة بل تقتصر على الأحكام الواقعية. بيد أن الفلسفة السياسية تفترض مسبقا بأنه يمكن البرهنـة عقلانيا على أحكام القيمة. ووفقا لرأي آخر أقل انتشارا لكن أكثر دقة، فإن التفرقة السائدة بين الوقائع والقيم لا يمكن الدفاع عنها: لأن مقولات المعرفة النظرية تنطوي بداهة وبهذه الطريقة أو تلك، على مبادئ التقييم. لكن مبادئ التقييم تلك، إلى جانب مقولات الفهم، فهي كلها متغيرة تاريخيا ومن عصر لآخر. ولهذا السبب يستحيل الجواب بطريقة معترف بـها كونيا عن مسألة الصحيح والخاطئ أو مسألة النظام الاجتماعي الأحسن، وبطريقة صالحة لكل الفترات التاريخية، كما تستوجب الفلسفة السياسية.

    إن أزمة الحداثة، إذن، هي في المقام الأول أزمة الفلسفة السياسية الحديثة. يبدو هذا الأمر غريبا : لماذا يلزم أن تكون أزمة ثقافة ما، في المقام الأول، أزمة مبحث أكاديمي واحد من بين عدة ؟ لكن الفلسفة السياسية ليست أساسا مبحثا أكاديميا : لأن معظم فلاسفة السياسة العظام لم يكونـوا أساتذة جامعيين. أضف إلى ذلك، وكما هو معترف به عموما، فالثقافة الحديثة هي بالتأكيد ثقافة عقلانية تؤمن بسلطة العقل. وإذا ما فقدت ثقافة كهذه، إيمانـها بقدرة العقل على إقرار صحة غاياتـها القصوى فهي في أزمة بكل تأكيد.

    ما هي إذن خصوصية الحداثة ؟ تبعا لمفهوم شائع جدا فالحداثة إيمان ديني دنيوي. لقد أصبح الإيمان التوراتي بالعالم الآخر، جوهريا، إيمانا بـهذا العالم. وبطريقة أبسط: ليس المبتغى هو الحياة في الجنة، بل تحقيق الجنة فوق الأرض بوسائل إنسانية صرف. وهذا بالضبط ما كان أفلاطون يدعي عمله في "جمهوريته" : إحداث قطيعة مع كل شر فوق الأرض بوسائل إنسانية صرف. بكل تأكيد لا يمكن أن يقال عن أفلاطون إنه علمن الإيمان التوراتي. وإذا ما أراد شخص أن يتحدث عن علمنة هذا الإيمان وجب عليه أن يكون إلى حد ما أكثر تحديدا. من المؤكد، مثلا، أن روح الرأسمالية من أصل ديني طهري. أو لنعط مثالا آخر، فهوبز Hobbes يرى الإنسان من منظور القطبية الأصلية لغرور الشر والخوف النافع من الموت العنيف. يمكن لأي واحد أن يلاحظ بأن ذلك ما هو إلا رواية معلمنة للقطبية الدينية للغرور الآثم والخوف النافع من الرب. تعني العلمنة، إذن، الحفاظ على الأفكار والأحاسيس والعادات ذات الأصل التوراتي بعد انمحـاء أو اضمحلال هذا الإيمان. لكن هذا التعريف لا يبين لنا شيئا عمـا هو نوع المقومات المحتفظ بـها في العلمنات. زد على ذلك فهي لا تفيدنا شيئا عما هي العلمنة إلا بشكل سلبي: أي اضمحلال أو انمحاء الإيمان التوراتي. لكن الإنسان الحديث كان موجها في الأصل من طرف مشروع وضعي.

    ربما لم يكن بالإمكان تصور ذلك المشروع الوضعي بدون مساعدة المقومات المتبقية من الإيمان التوراتي. لكن إذا كانت هذه هي الحالة في واقع الأمر، فلا يمكن تحديد ذلك قبل أن يفهم المرء هذا المشروع. لكن هل بوسع المرء أن يتحدث عن مشروع أوحد؟ لا شيء يميز الحداثة أكثـر من هذا التنوع الهائل وتواتر التغير الجذري بـها. فالتنوع كبير جدا إلى حد يشك معه المرء فيما إذا كان بوسعه أن يتكلم عن الحداثة كشيء أوحد. إن مجرد تحقيب الزمن لا يقيم وحدة ذات معنى: فقد يوجد مفكرون في الأزمنة الحديثة لا يفكرون بطريقة حديثة. كيف يمكن للمرء، إذن أن يتحاشى الاعتباطية أو النـزعة الذاتية ؟ نفهم من الحداثة تعديلا للفلسفة السياسية ما قبل حديثة. وهو تعديل يبدو لأول وهلة كرفض للفلسفة السياسية ما قبل حديثة. وإذا كانت هذه الأخيرة تملك وحدتها الأساسية وملامحها الخاصة، فإن الفلسفة السياسية الحديثة، أي نقيضها ستمتلك بدورها وحدتـها الأساسية وملامحها الخاصة، ولو على مستوى النظر العقلي على الأقل. وهذا ما سيؤدي بنا لنرى بأن هذه هي الحالة في واقع الأمر بعدما حددنا بداية الحداثة من خلال معيار غير اعتباطي. وإذا كانت الحداثة قد انبثقت عبر قطيعة مع الفكر ما قبل الحديث، فإنه من المؤكد أن الأدمغة العظيمة التي حققت تلك القطيعة كانت على وعي بما كانت تقوم به. من يكون إذن ذلك الفيلسوف السياسي الأول الذي صدع برفضه لكل الفلسفات السياسية السابقة عليه على أساس أنها غير كافية بل وغير صائبة ؟ ففيما يتعلق بالجواب فليست هناك صعوبة: لأن الشخص المقصود هنا هـو هوبز. بل إن دراسة أكثر عمقا للموضوع تبين أن قطيعة هوبز الجذرية مع تقاليد الفلسفة السياسية لا تكمل، وإن بطريقة جد أصيلة، سوى ما كان قد أنجز من طرف ماكيافيلّي (Machiavelli) في المقام الأول.

    لقد شكك هذا الأخير في الواقع بطريقة جذرية، لا تقل عن طريقة هوبز، في قيم الفلسفة التقليدية : فادعى أساسا، وبوضوح لا يقل عن هوبز بأن الفلسفة السياسية الحقة تبتدئ معه على الرغم من كونه عبر عن دعـواه بلهجة أكثر اعتدالا إلى حد ما من لهجة هوبز.

    هناك قولان لماكيافيلي يبرزان كامل إرادته وبكل وضوح. يمثل الأول ما فحواه: إن ماكيافيلي على خلاف عميق مع آراء الآخرين بخصوص كيف يجب على الأمير أن يتصرف تجاه رعاياه وأصدقائه وسبب هذا الخلاف هو اهتمامه بالحقيقة العملية الواقعية وليس بالتخيلات. فكثيرون هم الذين تخيلوا جمهوريات وإمارات، لم يكن لـها وجود قط لأنـهم كانوا يتوجهون إلى كيف ينبغي للناس أن يعيشوا حياتهم عوض كيف يحيا النـاس حياتـهم فعلا. يعارض ماكيافيلي مثالية الفلسفة السياسية التقليدية بمقاربة واقعية للشؤون السياسية.

    لكن هذا ليس سوى نصف الحقيقة (أو بعبارة أخرى فواقعيته من نوع غير مألوف). أما النصف الآخر فيعرضه في هذه المفردات: الحظ (Fortuna) امرأة يمكن مراقبتها باستعمال القوة… ولفهم حمولة كلتا القولتين على المرء أن يتذكر أن شأن الفلسفة السياسية التقليدية كان بحثا عن أحسـن نظام سياسي أو احسن نظام حكم، أي كحكم يسعى جيدا إلى ممارسة الفضيلة أو يسعى إلى ما ينبغي للناس أن يعيشوا حياتـهم عليه. وتبعا للفلسفة السياسية الكلاسيكية فإن إقامة أحسن نظام حاكم يعتمد بالضرورة على الحظ المراوغ والغير مضبوط أو المصادفـة (Chance). وحسب جمهورية أفلاطون مثلا فميلاد أحسن نظام حكومي يعتمد على الصدفة (Coincidence) أي اللقاء البعيد الاحتمال بين كل من الفلسفة والسلطة السياسية. أما أرسطو الواقعي المزعوم فيتفق مع أفلاطون في هذين المنحيين الهامين جدا : إن أحسن نظام حكومي هو النظام الأكثر ملاءمة لممارسة الفضيلة. وإن تحقيق النظام الحكومي الأحسن يعتمد على المصادفة. لأنه بالنسبة لأرسطو لا يمكن تحقيق أحسن نظام حاكم إذا لم تكن المادة اللائقة متوفرة. وبعبارة أخرى، إذا كانت طبيعة الأرض الموجودة وطبيعة الناس الموجـودين لا تلائم النظام الحكومي الأحسن فوجود هذه المادة أو عدم وجودها لا تعتمد إطلاقا على مهارة المؤسس بل على المصادفة. يبدو أن ماكيافيلي يتفق مع أرسطو في القول بأن لا أحد يمكنه إقامة النظام السياسي المطلوب. إذا كانت المادة فاسدة أي إذا كان الناس فاسدين. لكن ما كان مستحيلا بالنسبة لأرسطو اكتسى عند ماكيافيلي صعوبة جمة فقط؛ ويمكن التغلب على هذه الصعوبة بواسطة إنسان سام يستعمل وسائل غير عادية لتحويل مادة فاسدة إلى مادة صالحة. هذه العقبة التي تقف في وجه إقامة النظام الحكومـي الأحسن والتي هي الإنسان كمادة أي المادة البشرية، هذه العقبة يمكن تذليلها لأنـها قابلة للتحويل.

    إن ما يسميه ماكيافيلي الجمهوريات المتخيلة للكُـتاب الأوائل، يقوم على فهم خصوصي للطبيعة، وهو يرفضه ضمنيا على الأقـل. وبحسب هذا الفهم فكل الكائنات الطبيعية، أو على الأقل كل الكائنات الحية، موجهة نحو غاية أي نحو كمال تتعطش إليه. هناك كمال خصوصي يخص كل طبيعة خصوصية وهناك على الخصوص كمال إنساني تحدده طبيعة الإنسان كحيوان اجتماعي وعاقل.

    فالطبيعة تعطي النموذج. وهو نموذج مستقل كلية عن إرادة الإنسان وهذا يعني أن الطبيعة خيرة. والإنسان يحتل مقاما محدودا وسط الكل أي مقاما رفيعا جدا. ويمكن للمرء أن يقول بأن ذلك الإنسان هو مقياس كل شيء ، أو أنه هو العالم المصغر لكنه يحتل هذا المقام بالطبيعة ،أي أنه يحتله داخل نظام لم ينشئه. فعبارة "الإنسان مقياس كل الأشياء" هي بالضبط على النقيض من "الإنسان سيد كل الأشياء". يحتل الإنسان مقاما داخل الكل : أي أن قدرة الإنسان محدودة وأنه لا يستطيع تجاوز قصور طبيعته. فطبيعتنا، كما يقول أرسطو، مستعدة بشتى الطرق، أو كما يقول أفلاطون، إننا دمى في يد الآلهة. يتجلى هذا القصور خاصة في القوة الحتمية للمصادفة. فالحياة الخيرة هي حياة تتماشى مع الطبيعة وهي تعني الوقوف عند حـدود معينة لأن الفضيلة أساسا هي الاعتدال. ولا يوجد ثمة فرق في هـذا الصدد بين الفلسفة السياسية الكلاسيكية وبين مذهب اللذة (Hedonism) الغير سياسي: ليس المرغوب فيه هو تحقيق القدر الأكبر من اللذات لأن السعادة تتوقف قطعا على تحديد رغباتنا.

    ومن أجل إصدار حكم صائب على مذهب ماكيافيلي، يتوجب علينا في نـهاية المطاف أن نأخذ بعين الاعتبار، من وجهة نظر صارمة، وجود توافق بين الفلسفة الكلاسيكية والتوراة، بين أثينا والقدس، على الرغم من الاختلاف العميق بل والتعارض الموجود بينهما. وحسب التـوراة فالإنسان خلق على صورة الله ومنحت له السيادة على جميع المخلوقات الأرضية : فهو لم يمنح السيادة على الكل بل وضع في الجنان ليخدمه ويحرسه. لقد أعطي مقاما لأن الاستقامة هي الرضا بالنظام الإلـهي القائم، كما هو الشأن تماما في الفكر التقليدي الذي يرى بأن العدالة هي الامتثال للنظام الطبيعي كما أن الاعتراف بالمصادفة المراوغة يطابق القرار بعناية إلـهية لا يكتنه سرها.

    كما يرفض ماكيافيلي التقاليد الفلسفية واللاهوتية جملة وتفصيلا. ويمكننا عرض طريقة تفكيره كما يلي : إن الآراء التقليدية إما أنها تقود إلى الاستنتاج بأن الشؤون السياسية لا ينظر إليها بجدية (الابيقورية)؛ وإما أنـها، بعبارة أخرى، تفهم على ضوء كمال متخيل أي جمهوريات وإمارات متخيلة. والأكثر شهرة من بينهما هي مملكة الرب. على المرء أن يبتدئ من كيف يعيش الناس بالفعل، أي يجب أن يوجه نظره إلى الأسفل. والخلاصة الطبيعية المباشرة هي إعادة تأويل الفضيلة : لا ينبغي أن تفهم الفضيلة كما لو أنـها الغاية التي وجدت من أجلها الجمهوريات، بل إن الفضيلة توجد أساسا من أجل الجمهوريات. فالحياة السياسية الصرف ليست موضوعا للأخلاق ،كما أن الأخلاق ليست ممكنة خارج المجتمع السياسي. إنـها تفترض مسبقا المجتمع السياسي ولا يمكن لـهذا الأخير أن يقام وأن يحافظ عليه بالبقاء داخل الحدود التي ترسمها الأخلاق، لسبب بسيط هو أن النتيجة أو المشروط لا يمكنه أن يتقدم السبب أو الشرط. وعلاوة على ذلك، فإن إقامة مجتمع سياسي، بل وحتى المجتمع السياسي المرغوب فيه جدا، لا تتوقف على المصادفة، لأن هذه الأخيرة يمكن أن تقهـر، أو لأن المادة الفاسدة يمكن تحويلها إلى مادة صالحة. هناك ضمانة للحل المتعلق بالمشكل السياسي لأن (أ) الـهدف أدنى وينسجم مع ما يرغب فيه معظم الناس بالضبط. ولأن (ب) المصادفة يمكن قهرها. يصبح المشكل السياسي مشكلا تقنيا. وكما يعرض ذلك هوبز "عندما تؤول الجمهوريات إلى الانحلال نتيجة للخلافات الداخلية فالخطأ لا يكمن في الناس باعتبارهم المادة بل لأنهم صانعو تلك الجمهوريات". فالمادة ليست فاسدة ولا شريرة ولا يوجد شر في الإنسان لا يمكن التحكم فيه. فليس المطلوب عفوا إلهيا ولا أخلاقا ولا تكوين شخصية، بل المطلوب هو إقامة مؤسسات مرهوبة الجانب. أو إذا استشهدنا بكانط، فإن قيام النظام الاجتماعي العادل لا يتطلب، كما دأب الناس على القول، أمة من الملائكة: "إن مشكل إقامة الدولة (الدولة العادلة) يبدو عويصا وهو قابل للحل حتى بالنسبة لأمة من الشياطين شريطة أن يمتلكوا ألبابا" أي شريطة أن تقوّم أنانيتهم.

    فالمشكل السياسي الأساس ببساطة هو ذلك المتعلق ب "التنظيم المحكم للدولة والذي هو في متناول الإنسان فعلا".

    ومن أجل إنصاف التغيير الذي أنجزه ماكيافيلي يجب الأخذ بعين الاعتبار تغيرين عظيمين حدثا بعد عصره لكن كانا في انسجام مع روح أفكاره. فالحدث الأول هو الثورة التي وقعت في العلوم الطبيعية، أي بزوغ العلوم الطبيعية الحديثة. فرفض العلل الغائية (وبعدها مباشرة تم رفض مفهوم المصادفة بدوره) قوض القاعدة النظرية للفلسفة السياسية الكلاسيكية.

    فالعلم الطبيعي الحديث يختلف عن مختلف أشكال العلم الطبيعي القديم، ليس فقط بسبب فهمه الجديد للطبيعة بل وخصوصا، بسبب فهمه الجيد للعلم؛ إذ لم تعد المعرفة تفهم، كما هو الشأن مع الإنسان ولا مع النظام الكوني، كسعي وراء معرفة تقبلية أساسا. فالمبادرة في الفهم هي استدعاء الإنسان للطبيعة قبل تحكيم عقله. إنه "يضع الطبيعة موضوع السؤال" (بيكون Bacon). فالمعرفة نوع من الصناعة والفهم الإنساني يفـرض على الطبيعة قوانينه. فسلطة الإنسان لا متناهية الكبر عكس ما كان يعتقد به حتى الآن. ليس بإمكان الإنسان فقط أن يحول مادة إنسانية فاسدة إلى أخرى صالحة، أو أن يقهر المصادفة، لأن كلا من الحقيقة والمعنى متأصلان في الإنسان، وليسا ملازمين لنظام كوني يوجد باستقلال عن النشاط الإنساني. وبالمقابل لم يعد الشعر يفهم بدوره كتقليد ملهم أو كإعادة إنتـاج بل كإبداع. لقد أعيد تأويل هدف العلم : كوسيلة للسيطرة (propter potentiam) من أجل تحسين وضع الإنسان والسيطرة على الطبيعة ومن أجل التحكم الأقصى أي التحكم المنهجي في الشروط الطبيعية للحيـاة البشرية. إن السيطرة على الطبيعة تعني أن الطبيعة عدو وفوضى يجب إخضاعها للنظام. فكل شيء حسن مرده إلى عمل الإنسان أكثر مما هو راجع إلى هبة الطبيعة. فالطبيعة لا تمنح سوى المواد التافهة تقريبا. وبناء عليه فالمجتمـع السياسي ليس طبيعيا بأية حال من الأحوال. والدولة ببساطة شيء اصطناعي ونتاج للاتفاقات . فليس الكمال الإنساني هو الغاية الطبيعية للإنسان بل إنـه المثل الأعلى الذي شكل بحرية من طرف الإنسان.

    أما التغيير الثاني المابعد ماكيافيلي والذي ينسجم مع روح فكره فيخص الفلسفة السياسية أو الأخلاقية فقط. فماكيافيلي فك فيه كلية الارتباط بين السياسة والقانون الطبيعي، أي مع عدالة تفهم كشيء مستقل عن اعتباطية الإنسان. فالثورة الماكيافيلية لم تحقق كامل قوتـها إلا عندمـا أعيد تحقيق ذلك الربط: أي عندما أعيد تأويل العدالة أو الحق الطبيعي بروح ماكيافيلية. هذا هو في المقام الأول العمل الذي قام به هوبز. ويمكن أن يوصف التغيير الذي أحدثه هوبز كما يلي: في الوقت الذي فهم فيه القانون الطبيعي سابقا على ضوء تراتبية غايات الإنسان، والتي تحتل فيها مسألة الحفاظ على الذات مرتبة أدنى، فهم هوبز القانون الطبيعي بصيغة الحفاظ على الذات. وبارتباط مع ذلك فالقانون الطبيعي أصبح مفهوما بالأساس في صيغة الحق في الحفاظ على الذات كشيء متميز عن أي ضرورة أو واجب، وهو تطور يبلغ ذروته مع حلول حقوق الإنسان محل القانون الطبيعي (عوضت الطبيعة بالإنسان وعوض القانون بالحقوق). وكما تقدم عند هوبز نفسه، فالحق الطبيعي في الحفاظ على الذات يتضمن الحق في "حرية جسدية"، وفي وضع لا يسأم فيه الإنسان. من الحياة فهذا الحق الطبيعي يقارب الحق في حفاظ على الذات بشكل مريح هو محور تعاليم لوك. لا يسعني هنا إلا أن أؤكد على أن التشديد المتزايد على الدراسات الاقتصاديـة ما هو إلا نتيجة لذلك. وفي نـهاية الأمر نصل إلى الرأي القائل بأن الفيض الكوني والسلام هما الشرطان الضروريان والكافيان للعدالة المكتملة.

    أما الموجة الثانية للحداثة فقد ابتدأت مع روسو. لقد غير هذا الأخير المناخ الأخلاقي بنفس العمق الذي أحدثه ماكيافيلي. وكما تعاملـت بالضبط مع حالة ماكيافيلي سوف أصف مميزات فكر روسو وذلك بالتعليق على جملتين أو ثلاث من جمله. فخاصيات الموجة الأولى للحداثة كانت اختزالا للمشكل السياسي والأخلاقي في المشكل التقني. وأصبح مفهوم الطبيعة كما لو كان في حاجة إلى تغليفه بالحضارة كمجرد شيء اصطناعي. كلتا الخاصيتين كانتا محط نقد روسو. ففيما يتعلق بالخاصية الأولى "يتحدث قدامى السياسيين بلا توقف عن العادات الحسنة وعن الفضيلة في حين لا يتحدث سياسيونا سوى عن التجارة والمال" يحتج روسو ـ باسم الفضيلة، أي الفضيلة الأصلية واللانفعية للجمهوريات الكلاسيكيـة ضد المذاهب الواهنة والمتلاشية لسابقيه. لقد عارض العقلنة الخانقة للملكيـة المطلقة والروح التجارية الأكثر أو الأقل قسوة للجمهوريات الحديثة. بيد أنه لم يعمل على إعادة الاعتبار للمفهوم الكلاسيكي للفضيلة باعتباره الغاية الطبيعية للإنسان وككمال لطبيعته. لقد أرغم على إعادة تأويل الفضيلة لأنه تبنى المفهوم الحديث للحالة الطبيعية كحالة يجد فيها الإنسان نفسه وقد عاد إلى البداية. لم يستعر روسو هذا المفهوم من هوبز وأتباعه فحسب، بل استقاه انطلاقا من النتائج المرتبة عليه : " كل الفلاسفة الذين فحصوا أسس المجتمع شعروا كلهم بضرورة العودة إلى حالة الطبيعـة لكـن لا أحد منهم بلغ هذا الـهدف".

    لكن روسو استطاع بلوغه لأنه رأى بأن ذلك الإنسان الذي يعيش على الحالة الطبيعية هو إنسان مجرد من كل ما اكتسبه بمجهوداته الخاصة.

    فالإنسان في حالة الطبيعية إما أنه أدنى من مرتبة الإنسان (Subhuman) أو ما قبل إنساني (prehuman). أما إنسانيته أو عقلانيته فقد اكتسبها عبر سيرورة طويلة. وفي كتابات ما بعد روسو، فإنسانية الإنسان لا ترجع إلى الطبيعة، وإنما إلى التاريخ أي إلى السيرورة التاريخية. وهـي سيرورة وحيدة أو فريدة ولا غائية : فنهاية السيرورة أو قمتها كانت غير متوقعة ولا يمكن توقعها، بل ظهرت للعيان فقط مع اقتراب إمكانية التحقيق الكلي لعقلانية الإنسان أو لإنسانيته. إن مفهوم التاريخ، أي السيرورة مفردة والتي يصبح الإنسان فيها إنسانا بدون رغبة منه، إنما هي نتيجة لتجذير روسو لمفهوم الحالة الطبيعية عند هوبز.

    لكن كيف يتسنى لنا معرفة أن حالة معينة من تطور الإنسان هي القمة ؟ أو بصيغة أعم، كيف يمكننا تمييز الحسن من القبيح إذا كان الإنسان بطبعه دون مرتبة البشر، أو إذا كانت حالة الطبيعة أدنى من منزلة البشر ؟ لنكرر القول : إن الإنسان الطبيعي عند روسو لا يفتقر، كما هو شأن الإنسان الطبيعي عند هوبز، إلى الاجتماعية وحسب، بل ويفتقر إلى العقلانية أيضا. فهو ليس حيوانا عاقلا ، بل إنه حيوان فاعل حر .أو بعبارة أوضح إنه حيوان يملك مرونة، أو كمالية لا محدودة تقريبا. لكن كيف يلزمه أن يتشكل أو يشكل نفسه ؟ فطبيعة الإنسان تبدو غير كافية على الإطلاق لإرشاده. وهي تزوده بإرشاد يتحدد فيما يلي : تحت شروط محددة، أي في طور محدد من تطوره ، يكون الإنسان عاجزا عن الحفاظ على ذاته ماعدا في حالة إقامة مجتمع مدن. بيد أنه سيعرض الحفاظ على ذاته للخطر إذا لم يتأكد من أن للمجتمع المدني بنية محددة أي بنية تفضي إلى الحفاظ على ذاته: أي يجب أن يحصل الإنسان في المجتمع على الرديف الكامل للحـرية التي كان يمتـلكها في حالة الطبيعة. ويجب أن يكون كل أفراد المجتمع خاضعين بالتساوي، وعلى وجه الإطلاق للقوانين، التي ينبغي لكل واحد منهم المساهمـة في تسطيرها. ويجب ألا تكون هناك إمكانية للاستئناف من القوانين أي القوانين الوضعية إلى قانون أعلى أي القانون الطبيعي. فمثل هذا الاستئناف سيعرض سيادة القوانين للخطر.

    إن مصدر القانون الوضعي، ولا شيء آخر غير القانون الوضعي، هو الإرادة العامة، أي إرادة ملازمة ومتأصلة في المجتمع المؤسّس بمعنى الكلمة، والتي تحل محل القانون الطبيعي المتعالي. وتبتدئ الحداثة مع الاستياء من الـهوة التي تفصل بين ما هو كائن (The is) وما ينبغي أن يكون (The ought) أي بين الواقعي والمثالي. أما الحل المقترح من طرف الموجة الأولى للحداثة فهو : تقريب ما ينبغي أن يكون مما هو كائن، وذلك بالتقليل من شأن ما ينبغي أن يكون عن طريق إدراك ما ينبغي أن يكون كأنه لا يتطلـب من الإنسان أشياء جد صعبة المنال، أو كأنه في انسجام مع أعم وأقوى نزوع لدى الإنسان. وعلى الرغم من هذا التقليل، فالاختلاف الجوهري بينهما يبقى قائما، ولو أنه لم يكن بإمكان هوبز أن ينكر ببساطـة، شرعية الاستئناف مما هو كائن، أي النظام القائم، إلى ما ينبغي أن يكون، أي القانون الطبيعي أو الأخلاقي.

    إن تصور روسو للإرادة العامة (general will)ـ والتي بما هي إرادة عامة لا يمكنها أن تضل. والتي هي ببساطة كينونة ما ينبغي أن يكون ـ ولـهذا تبين كيف يمكن التغلب على الهوة الفاصلة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وبصريح العبارة فإن روسو لم يبين هذا إلا شريطة أن مذهبـه في الإرادة العامة، أي مذهبه السياسي الصرف، مرتبط بمذهبه في السيرورة التاريخية. إلا أن هذا الربط كان أيضا عمل كل من لاحقيه العظيمين كانط وهيغل عوض أن يقتصر على روسو بالذات. وتبعا لهذا الرأي فالمجتمع العادل، أو المجتمع العقلاني المتميز بوجود إرادة عامة معروفة بكونـها هي الإرادة العامة أي المثل الأعلى، يتحقق بالضرورة في سياق السيرورة التاريخية بدون أن يهدف الإنسان إلى ذلك التحقيق .

    لماذا لا يمكن أن تضل الإرادة العامة؟ ولماذا تكون الإرادة العامة خيرة بالضرورة؟ والجواب هو : أنـها خيرة لأنـها عقلانية. وهي عقلانية لأنـها عامة. إنـها تنجم عن طريق تعميم الإرادة الخاصة، والتي بما هي إرادة خاصة فإنـها ليست خيرة. ما كان يشغل بال روسو هو حاجة كـل فرد إلى مجتمع جمهوري من أجل أن يصوغ رغباته وطموحاته تجاه أنداده في شكل قوانين. ولا يمكن أن يترك ذلك بالقول : "لا أريد أن ادفـع ضرائب "بل من الواجب أن يقترح قانونا يلغي الضرائب. وعندما يصوغ رغبته في قانون ممكن، عندها يدرك حماقة إرادته الأولية أو الخاصة. هذا هو إذن التعميم المجرد لإرادة تكفل خيرها. ولا حاجة إلى اللجوء إلى أي اعتبار فعلي لما تتطلبه طبيعة الإنسان أو كماله الطبيعي. لقد بلغ الفكر الناتج عن هذه الحقبة وضوحه الكامل في مذهب كانط الأخلاقي : إن الاختبار الكافي لمحاسن القواعد العامة للسلوك هو قابليتها أن تصبح مبادئ للتشريع الكوني، وهو الشكل المجرد للعقلانية، أي أن الكونية تكفل محاسن المحتـوى. وبناء عليه فالقوانين الأخلاقية، كقوانين للحرية، لم تعد تؤخذ كقوانين طبيعية. إن المثل العليا الأخلاقية والسياسية قد أنشئت بدون العـودة إلى طبيعة الإنسان: لقد تحرر الإنسان كلية من حجر الطبيعة. والحجج التي تعارض المثل الأعلى والمقتبسة من طبيعة الإنسان كمـا فهمت عبر تجارب لا يرقى إليها الشك، على مدى العصور، هذه الحجج لم تعد تكتسي أهمية تذكر. وما يزعم أنه طبيعة بشرية إن هو إلا نتيجة للتطور الإنساني حتى الوقت الحاضر. إنـه الماضي الإنساني فحسب، والـذي لا يستطيع منح أي إرشاد للمستقبل الممكن للإنسان . فالإرشاد الوحيد المتعلق بالمستقبل وبما يجب على الإنسان فعله أو ما يطمح إليه لا يمنح سوى من طرف العقل. فالعقل يعوض الطبيعة. وهذا هو معنى التوكيـد على أن ما ينبغي أن يكون ليس له أي أساس بتاتا فيما هو كائن.

    هذه الحصيلة هي التي ألهمت كانط والفلسفة المثالية الألمانية أي فلسفة الحرية. لكن هناك فكرا جوهريا لروسو لا يقل أهـمية عما أشير إليه، والذي تخلى عنه فعلا كانط وأتباعه، والذي أعطى ثمارا في مكان آخـر من العالم الحديث. لقد تقبلت الفلسفة الألمانية وجذرت فكرة الإرادة العامة وتضميناتـها وبذلك تخلت عن مؤهلات روسو في هذه الطريقـة من الاستدلال. "ولد الإنسان حرا، ولكنه مقيد في كل مكان. كيف حـدث هذا التغيير ؟ لست أدري. وما الذي يجعل هذا التغيير شرعيا ؟ أعتقد أنني أستطيع الجواب" أي أن المجتمع الحر المتحققة فيه إرادة عامة يتميز عن المجتمع المحكوم استبداديا. تميز الرابطة الشرعية من غير الشرعية؛ رغم أن هذه الأخيرة تبقى في حد ذاتـها رابطة. لن يجد الإنسان حريته في أي مجتمع كان. وهو لن يعثر عليها إلا بالعودة من المجتمع مهما كان خيرا أو شرعيا إلى الطبيعة. وبتعبير آخر فإن الحفاظ على الذات، وهو مضمون الحـق الطبيعي الأولي الذي انبثق عنه العقد الاجتماعي ليس هو الحقيقة الأساسية. فالحفاظ على الذات لن يكون حسنا إذا كانت الحياة الفعلية والوجود الفعلي غير خيرين. فخير الوجود الفعلي يتم اختياره من خلال الإحساس بالوجود. وهذا الإحساس هو الباعث على الاهتمام بالحفـاظ على الوجود وعلى كل نشاط إنساني. لكن هذا الاهتمام يحرم الإنسان من المتعـة الأساسية ويجعل الإنسان تعيسا. وبالرجوع فقط إلى التجربة الأوليـة يمكن للإنسان أن يصبح سعيدا. وقليل من الناس فقط يستطيع تحقيق هذا الأمر في وقت يستطيع فيه كل الناس تقريبا التصرف وفقا للحـق المشتق في الحفاظ على الذات، أي العيش كمواطنين. أما بالنسبة للمواطن فالمطلوب منه القيام بواجبه، كما يجب عليه التحلي بالفضيلة. لكن الفضيلة ليست هي الطيبوبة. فالطيبوبة (حساسية، إشفاق) بدون شعور بالواجب وبدون إلزام وبدون جهد ـ لا فضيلة بدون جهد ـ هي ما يحمي الإنسان الطبيعي. ذلك الإنسان الذي يعيش على هامش المجتمع بـدون أن يشكل جزءا منه. فمن جهة هناك هوة لا يمكن ردمهـا بين عالم الفضيلة والعقل والحرية الأخلاقية والتاريخ ومن جهة أخرى الطبيعة والحرية الطبيعية والطيبوبة.

    وفي هذا الصدد يبدو إعطاء ملاحظة عامة حول مفهوم الحداثة ملائما. منذ البداية فهمت الحداثة في تعارضها مع العصور القديمة وهكذا تتضمن الحداثة العالم القروسطوي. فالاختلاف بين الحديث والقروسطي من جهة، وبين العالم القديم من جهة ثانية، أعيد تأويله حوالي 1800 م كاخـتلاف بين الرومانسي والكلاسيكي. وبالمعنى الضيق كانت الرومانسية تعني حركة الفكر والشعور التي استهلها روسو. وبالطبع فالرومانسية تبدو حديثة أكثر من الكلاسيكية بمختلف تلاوينها.

    لعل الوثيقة الأعظم التي تعبر عن الصراع الخصب بين الحداثة والعالم القديم، مفهوما كصراع بين الرومانسي والكلاسيكي، هي ديوان الشاعر الألماني غوته (Goethe) : فاوست (Faust). لقد دعي فاوست من طرف الرب ذاته "رجلا طيبا" وهذا الرجل الطيب يقترف جرائم رهيبة خاصة أو عامة على السواء. لن أتحدث عن واقع كونه يكفر عن ذلك بإنجاز عمل ذي مصلحة عامة أي عمل يمكنه من مواصلة طريقـه على أرض حرة بمعية قوم أحرار. وان هذا العمل السياسي الصالح ليس إجراميا أو ثوريا بل شرعيا بمعنى الكلمة : لقد أصبح العمل ممكنا بواسطة حصوله على إقطاعية من الإمبراطور الألماني. وسأقتصر بالتأكيد على أن طيبوبة فاوست ليست فضيلة بدون شك. أي أن الأفق الأخلاقي لأشهر مؤلفات غوته قد تم فتحه من طرف روسو. صحيح أن طيبوبة فاوست لا تتطابق مع المعنى الذي يعطيه روسو لهذه الكلمة. ففي الوقت الذي تنسجـم فيه طيبوبة روسو مع الامتناع عن الفعل ومع نوع من الراحة ، فإن طيبوبة فاوست هي كفاح لا متناه، وعدم ارتياح وعدم اقتناع بكل ما هو متناه ومنته ومكتمل أي "كلاسيكي". ما يجسده فاوست بالنسبة للحداثـة ، أي الطريقة التي يدرك بـها الإنسان الحديث نفسه كإنسان حديث قد أعطيت اعتبارا خاصا من طرف اشبنغلر الذي دعا الإنسان الحديث بالإنسان الفاوستي. ويمكننا أن نقول أن اشبنغلر عوض كلمة "رومانسي" بكلمة "فاوستي" في معرض وصفه لخاصية الحداثة.

    وبما أن الموجة الثانية للحداثة تنتسب إلى روسو فالموجة الثالثة تنتسب إلى نيتشه. فروسو يجابهنا بتناقض الطبيعة من جهة، وبالمجتمع المدني والعقل والأخلاق والتاريخ من جهة أخرى. بحيث إن الظاهـرة الأساسية هي الإحساس بالوجود البهيج، أي الاتحاد والمشاركة في الطبيعة . وهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة بما هي متميزة عن العقل والمجتمع. ويمكن أن توصف الموجة الثالثة للحداثة بأنها تقوم على أساس فهم جديد للشعور بالوجود : وهذا الإحساس هو تجربة الرعب والمعاناة بدل الانسجام والسلام. وهو كذلك إحساس بالوجود التاريخي باعتباره مأساويا بالضرورة. وهكذا يبـدو المشكل الإنساني لا حل له بالفعل كمشكل اجتماعي كما قال روسو : إذ لا توجد ثمة إمكانية للهروب من الإنساني إلى الطبيعي ولا إمكانية تحقيق السعادة المثلى بل إن أقصى ما يستطيع الإنسان الوصول إليـه لا علاقة له بالسعادة أصلا.

    واستشهد بـهذه الفقرة لنيتشه : "كل الفلاسفة يشتركون في نفس الخلل حيث ينطلقون من إنسان الوقت الحاضر ويعتقدون أنـهم بالغو هدفهم عن طريق تحليل إنسان الوقت الحاضر. إن غياب الحس التاريخي هو الخلل الموروث عند كل الفلاسفة". فنقد نيتشه لكل من سبقـه من الفلاسفة ما هو إلا صياغة أخرى لنقد روسو لكل من سبقه كذلك. لكن ما يكتسي أهمية عند روسو يبدو غريبا جدا عند نيتشه . وذلك لأنه في المرحلة الفاصلة بين كل منهما قد تم اكتشاف التاريخ. فالقرن الذي يفصلهما هو عصر الحس التاريخي. ويلمح نيتشهإلى ما يلي : لقد أسيء لحد الآن فهم ماهية التاريخ. وهيجل هو أقوى فيلسوف للتاريخ. وبالنسبة لـهذا الأخير فالتطور التاريخي تطور عقلاني ومعقول. وهو تقدم سيبلغ ذروته مع الدولة العقلانية أي دولة ما بعد الثورة. والمسيحية هي الدين الحق، أي الدين المطلق. لكن المسيحية تشتمل في تصالحها مع العالم على روح العصر (Saeculum) في علمنته الكاملة، وهو صيرورة بدأت مع حركة الإصلاح، واستمرت مع الأنوار، واكتملت مع دولة ما بعد الثورة، وهي أول دولة تقوم بشكل واع على الاعتراف بحقوق الإنسان. وفيما يتعلق بـهيجل فنحن مجبرون فعلا على القول، إن ماهية الحداثة هي المسيحية المعلمنة على اعتبار أن العلمنة هي هدف هيغل الواعي والبين. وحسب هيغل فللتاريخ قمة ونـهاية. وهذا ما مكنه من مصالحة فكرة الحقيقة الفلسفية مع حقيقة أن أي فيلسوف هو ابن لعصره: فالفلسفة الحق والنهائية تنتسب إلى اللحظة المطلقة في التاريخ أي إلى قمة التاريخ. أما الفكر ما بعد الهيغلي فقـد رفض فكرة أن يكون للتاريخ قمة أو نهاية. إن ذلك الفكر فهم السيرورة التاريخية على أنـها غير مكتملة وغير ممكنة الاكتمال. بيد أنه حافظ على الاعتقاد المفتقر إلى الأسـاس حاليا في العقلانية، أي الميزة التقدمية للصيرورة التاريخية. وكان نيتشه أول من واجه هذه الوضعية. إن النظرة التي ترى بأن مبادئ الفكر والعمل هي مبادئ تاريخية لن ينقص منها التمني المفتقر إلى أساس. أي أن يكون التعاقب التاريخي بهذه المبادئ تعاقبا تقدميا أو أن يكون للسيرورة التاريخية معنى جوهري أي ذات استقامـة جوهرية. فكل المثل العليا هي حصيلة للأفعال الإنسانية المبدعـة، ونتاج مشاريع إنسانية حرة، تشكل ذلك الأفق الذي تصبح ضمنه الثقافـات الخصوصية ممكنة. وهذه المثل العليا لا تنتظم داخل نسق وليس هناك إمكانية لتركيبها تركيبا حقيقيا. ومع ذلك فإن كل المثل العليا المعروفة تدعي امتلاك سند موضوعي : أي تجد ذلك السند في الطبيعـة أو في الإلـه أو في العقل. إن النظرة التاريخية تقوض هذا الادعاء وفي نفس الوقت تقوض كل المثل العليا المعروفة. وبالتدقيق، فتحقيق الأصل الحقيقي لكل المثل العليا ـ سواء في المشاريع أو الابداعات الإنسانية ـ يسمح بنوع جديد من المشاريع جديد كل الجدة وبإعادة التقييم لكل القيم وهو مشروع يتناسق مع النظرة الجديدة التي لم تستنبط منه بعد (لأنه من منظور آخر لا يرجع إلى فعل خلاق).

    ألا يعني كل هذا أنه قد تم اكتشاف الحقيقة في نهاية المطاف، أي تلك الحقيقة المتعلقة بكل المبادئ الممكنة للفكر والعمل؟ يبدو أن نيتشه يتأرجح بين التسليم بـهذا الأمر وبين تقديم فهمه للحقيقة كمشروعه هو أو تأويله هو، بيد أنه في حقيقة الأمر يعتقد أنه اكتشف الوحدة الجوهرية بين إبداع الإنسان وباقي الكائنات الحية : "أينما وجدت الحياة فثمّة إرادة القوة" . إن إعادة التقييم لكل القيم التي حاول نيتشه تحقيقها تجد تبريرها، في آخر المطاف، في حقيقة أن أصلها هو الإرادة الأسمى للقوة، أي إرادة أعلى للقوة التي كانت هي السبب في بروز كل تلك القيم الأولى. ليس الإنسان كما كان آنذاك ولا حتى في أحسن تقويمه بل الإنسان الأعلى هو وحده من سيكون بمقدوره العيش في انسجام مع إعادة التقييم لكل القيم. إن النظرة الغائية في الموجود تقود إلى المثل الأعلى النهائي. لم يدع نيتشه ،كهيغل ،بأن النظرة الغائية تعقب تحليل المثل الأعلى النهائي . وبدلا من ذلك تفتح النظرة الغائية الطريق لتحقيق المثل الأعلى النهائي. وفي هذا المضمار، فوجهة نظر نيتشه تشبه وجهة نظر ماركس. لكن يوجد ثمة هذا الاختلاف الجوهري بين كل منهما : فمجيء المجتمع اللاطبقي يعتبر بالنسبة لماركس ضـرورة، في حين أن مجيء الإنسان الأعلى عند نيتشه يتوقف على الاختيار الحر للإنسان. بالنسبة لنيتشه هناك شيء واحد فقط لاشك فيه يتعلق بالمستقبل : لقد انتهى الإنسان كما عرف حتى اليوم وما سوف يأتي سوف يكون إما الإنسان الأعلى أو الإنسان الأخير . والإنسان الأخير هو الأحط والأوضع. هو إنسان القطيع بلا مثل عليا ولا طموحات، لكنه جيد التغدية حسن المسكن والملبس، مطبب جيدا من طرف أطباء عاديين كما من طرف أطبـاء نفسانيين. وهذا الإنسان هو إنسان ماركس المستقبلي منظورا إليه من وجهة نظر لا ماركسية. بيد أنه رغم التعارض الجذري بين كل من ماركس ونيتشه، فدولة القمة النهائية تتميز في نظر كل منهما بحقيقة كونـها تسجل نهاية سيادة المصادفة : سوف يصبح الإنسان لأول مرة سيد مصيره.

    هناك صعوبة واحدة خاصة جدا بنيتشه. فكل حياة إنسانية حقيقية وكل ثقافة عالية بالنسبة له تملك بالضرورة خاصية تراتبية أو ارستقراطية. وأما الثقافة الأسمى للمستقبل فيجب أن تكون منسجمة مع النظام الطبيعي للترتيب ضمن البشر والذي يفهمه مبدئيا وفق الخطوط العريضة للأفلاطونية. لكن كيف يمكن أن يوجد هناك نظام طبيعـي للترتيب إذا كانت هناك قوة لا متناهية للإنسان الأعلى إذا صح القول ؟ فبالنسبة لنيتشه كذلك، فحقيقة أن كل الناس تقريبا ناقصون ومشتتون لا ترجع إلى طبيعة سلطوية لكنها لن تكون سوى موروث من الماضي أو من التاريخ كما جرى حتى يومنا هذا. ومن أجل تلافي هـذه الصعوبة، أي تلافي التوق إلى المساواة بين جميع الناس عندما يكون الإنسان في أوج قوته ،فإن نيتشه يحتاج إلى الطبيعة، أو إلى الماضي كماض ذي طابع سلطوي، أو ماض لا مفر منه على الأقل. وبما أنه لم يعد بالنسبة إليه حقيقة لا يمكن إنكارها فعليه أن يشاءه أو يسلم به. هذا هو معنى مذهبه في العود الأبدي. يجب أن تُـشاء عودة الماضي في كليته إذا كان الإنسان الأعلى ممكن الوجود.

    وبدون شك فإن طبيعة الإنسان هي إرادة القوة .وهذا يعني في المستوى الأول، إرادة السيطرة الشاملة على الآخرين : فالإنسان لا يشاء بالتساوي. ويستمد الإنسان متعته من خلال السيطرة الشاملة على الآخـرين وعلى نفسه أيضا. فإذا كان الإنسان الطبيعي عند روسو شفـوقا، فإن الإنسان الطبيعي عند نيتشه فظ.

    وما يقول به نيتشه حول العمل السياسي أكثر عمومية وغموضا مما يقول به ماركس. وبمعنى آخر فكل استخدام سياسي لنيتشه يعد تحريفا لتعاليمه. ومع ذلك فقد قرأه رجال السياسة واستلهموا ما قاله. وهذا يعني إذن أن مسئولية نيتشه عن الفاشية كمسئولية روسو عن اليعقوبية.

    هنا استنتج خلاصة سياسية من الملاحظات السابقة. فنظرية الديمقراطية الليبرالية، مثلها مثل الشيوعية ،كانت ناتجة عن الموجة الأولى والثانية للحداثة. في حين أن التجسيد السياسي للموجة الثالثة تبين أنه الفاشية. ومع ذلك فهذه الحقيقة، التي لا يمكن دحضها، لا تسمح لنا بالعـودة إلى الأشكال المبكرة للفكر الحديث: فنقد العقلانية الحديثة، أو نقد الإيمان الحديث بالعقل، والذي قام به نيتشه، لا يمكن نكرانه أو نسيانه. وهذا هو السبب العميق في أزمة الديمقراطية الليبرالية.

    واضح جدا تفوق الديمقراطية الليبرالية على الشيوعية الستالينية أو ما بعد الستالينية. وفوق كل ذلك فالديمقراطية الليبرالية في مغايرتـها للشيوعية والفاشية تستمد سندها القوي من طريقة في التفكير لا يمكن اعتبارها حديثة على الإطلاق : أي الفكر ما قبل حديث لتقاليدنا الغربية.

    (عدل بواسطة osama elkhawad on 10-14-2004, 12:41 PM)

                  

10-14-2004, 12:51 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
هابرماس يجيب عن سؤال "ما هو الارهاب؟" (Re: osama elkhawad)

    الارهاب والعنف والتواصل

    مقتطفات من مقابلة اجراها جيوفاني بورادوري مع الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس


    ج. ب. ـ ماذا تعني بالضبط بالارهاب؟ هل يعقل التمييز بين ارهاب وطني وارهاب شمولي؟

    ي. هـ ـ ان ارهاب الفلسطينيين ما زال الى حد ما ارهاب من الطراز القديم. فالمطلوب هنا القتل، الاغتيال، والهدف هو القضاء بشكل اعمى على الاعداء بمن فيهم النساء والاطفال. حياة مقابل حياة. انه يختلف في هذا الخصوص عن الارهاب الذي يمارس في سياق حرب الغوار على يد قوة شبه عسكرية والذي حدد طبيعة العديد من حركات التحرر في القسم الثاني من القرن العشرين والذي ما زال يطبع بطابعه حتى اليوم مثلا نضال الشيشان من اجل الاستقلال. في مواجهة ذلك فان الارهاب الشمولي الذي بلغ ذروته في اعتداءات الحادي عشر من ايلول/سبتمبر يحمل في طياته السمات الفوضوية لتمرد عاجز، بمعنى انه موجه ضد عدو لا يمكن ان يهزم اذا ما نظرنا اليه كعمل واقعي يسعى وراء هدف يحققه. فالنتيجة الوحيدة الممكنة تكون اثارة مشاعر الصدمة والقلق لدى المواطنين والحكومات. فمن وجهة نظر تقنية، ان مجتمعاتنا المعقدة بما هي قابلة للعطب الى حد كبير ازاء اعمال التدمير توفر فرصا نموذجية امام محاولات تخريب محدد للنشاطات اليومية مما يلحق اضرارا كبيرة باقل كلفة ممكنة. فالارهاب الشمولي يدفع قدما بمظهرين: غياب الاهداف الواقعية والقدرة على الاستفادة من قابلية الانظمة المعقدة للعطب.

    ج. ب. ـ هل نميز بين ارهاب الجرائم العادية وغيره من اشكال اللجؤ الى العنف؟

    ي. هـ ـ نعم وكلا. فمن الوجهة الاخلاقية لا يمكن في اي حال تبرير العمل الارهابي مهما كانت دوافعه ومهما كانت ظروف القيام به. فلا شيء يسمح لنا ان نأخذ في الاعتبار الاهداف التي حددها شخص لنفسه اذا كان يسعى اليها على حساب موت الآخرين وعذاباتهم. فكل تسبب بالموت هو افراط بالموت. لكن من الوجهة التاريخية يندرج الارهاب ضمن أطر تختلف عن الجرائم العائدة الى الجزاء العادي. فخلافا للجريمة "الخاصة"، يتطلب الارهاب اهتماما عاما وتحليلا يختلف عن النظرة الى جرائم الغيرة المرضية مثلا. لو لم يكن الامر على هذا النحو لما اجرينا هذا الحوار.

    والفارق بين الارهاب السياسي والجريمة العادية يبدو واضحا بصورة خاصة ابان تغير الانظمة التي توصل الى السلطة ارهابيي الامس وتجعل منهم الممثلين المحترمين لبلدانهم. يبقى ان تحولا سياسيا من هذا القبيل لا يمكن توقعه الا اذا اعتمد هؤلاء الارهابيون تحقيق اهداف سياسية واقعية ومفهومة واكتسبوا بالرغم من افعالهم الاجرامية مشروعية نابعة من اوضاع الظلم التي ثاروا عليها. لكني اليوم لا اتخيل كيف يمكن تحويل الاعتداء الوحشي في 11 ايلول/سبتمبر الى عمل سياسي يمكن تبنيه في اي شكل من الاشكال.

    ج. ب. ـ هل تعتقد بجدوى اعتبار هذه الاعتداءات بمثابة اعلان حرب؟

    ي. هـ ـ مع ان كلمة "حرب" لا تثير الالتباس او حتى الاستنكار الاخلاقي الذي يلقاه الكلام عن "حملة صليبية"، فان قرار بوش بالدعوة الى "حرب ضد الارهاب" تبدو لي خطأ جسيما سواء للجانب المعياري او للجانب الواقعي. فهو يرفع على صعيد القيمة هؤلاء المجرمين الى رتبة المحاربين الاعداء ومن الناحية الواقعية من المستحيل شن الحرب ـ اذا كان ما يزال لهذه الكلمة من معنى محدد ـ على "شبكة" من الصعوبة بمكان تحديد تشعباتها والتعرف عليها.

    ج. ب. ـ اذا كان صحيحا ان على الغرب تطوير علاقته من خلال تفهم اكبر لسائر الحضارات وممارسة النقد الذاتي، فكيف عليه سلوك هذا السبيل؟ تتحدث في هذا السياق عن "ترجمة" وبحث عن "لغة مشتركة". ماذا تعني بذلك؟

    ي. هـ ـ منذ الحادي عشر من ايلول/سبتمبر وانا اتساءل اذا ما كانت كامل نظريتي حول النشاط الموجه الى التفاهم ـ كما ابلورها منذ "نظرية الفعل التواصلي" ـ تغرق في السخافة مقابل احداث على هذه الدرجة من العنف. بالطبع اننا حتى داخل مجتمعات غنية وهانئة نسبيا كتلك المنتمية الى منظمة التجارة والتنمية الاقتصادية نواجه نوعا من العنف البنيوي الذي اعتدنا عليه والقائم على تفاوت اجتماعي مذل وتمييز مهين وافقار وتهميش. لكن تحديدا وبقدر ما تنطبع علاقاتنا الاجتماعية بالعنف والنشاط الاستراتيجي والتلاعب، فان علينا عدم تغييب ظاهرتين.

    فهناك من جهة الممارسات التي تمثل حياتنا مع الآخرين، على المستوى اليومي، والتي ترتكز على قاعدة مشتركة من القناعات والعناصر التي نعتبرها بديهيات ثقافية وانتظارات متبادلة. وضمن هذا الاطار نقوم بتنسيق افعالنا باللجؤ في الوقت نفسه الى العاب الكلام العادية وبمطالبة بعضنا البعض بشرعية نعترف بها ولو بصورة ضمنية ـ هذا ما يشكل الحيز العام لاسباب صحيحة او أقل صحة. وهذا ما يفسر من جهة اخرى ظاهرة ثانية وهي انه عند اضطراب التواصل وعدم تحقق المفاهمة بشكل مرض او عندما تختلط الامور بالازدواجية او الخداع، تبرز النزاعات التي قد تودي نتائجها المؤلمة الى حد رفع الامر امام الطبيب او امام المحكمة.

    فحلقة العنف تبدأ بحلقة التواصل المضطربة التي تقود، عبر حلقة الارتياب المتبادل والمتفلت من السيطرة، الى انقطاع التواصل. فاذا بدأ العنف مع اضطراب التواصل يمكن ان ندرك عند انفجاره ما تخرب وما يجب اصلاحه.

    انها وجهة نظر ركيكة لكن يمكن مطابقتها مع النزاعات المعنية. بالطبع ان الامور اكثر تعقيدا لان الامم واشكال الحياة والحضارة تبقى من البداية متباعدة وتنزع للغربة عن بعضها. فهي لا تلتقي كما يلتقي الاعضاء في ناد او جماعة او حزب او عائلة والذين لا يتحولوا غرباء الا اذا فسد التواصل بصورة منتظمة.

    ضف اليه ان وساطة القانون في العلاقات الدولية والهادفة الى احتواء العنف، لا تلعب بالمقارنة سوى دورا ثانويا.

    اما في العلاقات الثقافية المتبادلة فان الافضل هو انشاء اطر مؤسساتية تهدف الى المواكبة الرسمية لاشكال الوفاق ـ امثال مؤتمر فيينا حول حقوق الانسان من تنظيم الامم المتحدة. لكن هذه اللقاءت الرسمية ـ ومهما بلغت اهمية الحوار الثقافي المتبادل على مختلف المستويات حول التفسير المختلف عليه لحقوق الانسان ـ لا يمكنها لوحدها وقف آلية انتاج الافكار المنمطة.

    لا يمكن الوصول الى انفتاح العقليات الا غبر تحرير العلاقات والرفع الموضوعي للقلق والضغوط. وفي الممارسة اليومية للتواصل يجب مراكمة رأسمال من الثقة. وهذا ضروري كمقدمة من اجل ان تترجم هذه الشروحات العقلانية على قياس كبير في وسائل الاعلام والمدارس وضمن العائلة. كما عليها تضمن مقدمات الثقافة السياسية المعنية.

    فيما يتعلق بنا، فان التصور المعياري الذي نملكه عن انفسنا تجاه الثقافات الاخرى هو ايضا عنصر مهم في هذا الاطار. اذا سعى الغرب الى اعادة النظر في صورته عن نفسه، يمكنه مثلا ان يتعلم ماذا عليه تعديله في سياسته كي ينظر اليها على انها تجسد مقاربة حضارية. اذا لم تتم السيطرة السياسية على الرأسمالية التي ماعاد لها حدا ولا حدودا فسيكون من المستحيل التمكن من وقف المسيرة الهدامة للاقتصاد العالمي.

    فالمطلوب على الاقل تعويض النتائج الاكثر تدميرا ـ الاذلال والافقار التي تغرق فيها مناطق وقارات باكملها ـ للفروقات المتأتية من دينامية التنمية الاقتصادية. فخلف ذلك كله لا نجد فقط تمييزا واذلالا وحطا من قدر سائر الثقافات بل ان ما يخبئه موضوع "صدام الحضارات" هي مصالح بارزة للغرب (كاستمرار التمون بالموارد النفطية وتأمين مصادر الطاقة).
                  

10-14-2004, 12:56 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    وفاة نجم الفلسفة المعاصرة جاك ديريدا

    علاينة عارف GMT 22:30:00 2004 السبت 9 أكتوبر


    إيلاف مكتب باريس: توفي الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا عن عمر 74 عاما ليل الجمعة السبت في مستشفى باريسي بعد صراع مع سرطان في البنكرياس. ولد ديريدا في 15 تموز 1930 في الجزائر. التحق عام 1950 بدار المعلمين العليا في باريس قبل ان يصبح مساعدا في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة ثم في جامعة السوربون في باريس. وقد بدأ بنشر مقالات ذات أهمية وتعريفية بفكر هوسرل وأخرين في مجلة "تل كيل". كما أن ظهوره الفلسفي رافق صعود تحليلات لغوية جديدة لأعمال أدبية كبيرة لعبت دورا كبيرا في تاريخ الطليعة الفرنسية بالأخص. وعين عام 1965 استاذ فلسفة في دار المعلمين العليا حيث شغل منصب مدير دراسات. وزاول ديريدا نشاطه التعليمي لفترة طويلة بين باريس وعدد من ابرز الجامعات الاميركية منها جامعتا يال وجون هوبكنز. انشأ عام 1983 معهد الفلسفة الدولي الذي تولى ادارته حتى العام 1985. وقام فيما بعد بالتدريس في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. من مؤلفاته الكثيرة "الكتابة والاختلاف" و"الانتشار" و"هوامش الفلسفة" و"الحقيقة بالرسم" و"من اجل بول سيلان"، وغيرها. غير أن الكتاب الحقيقي والأصيل والذي تكمن فيه كل إضافات ديريدا للفسلسفة الغربية تكمن في عمله الهوسرلي الأول: "في الغراموتولوجيا".
    تميز ديريدا في حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر بادانته المتواصلة لسياسة فرنسا الاستعمارية في هذا البلد، وظل يأمل حتى اللحظة الاخيرة قبل ان يغادر الجزائر مع عائلته عام 1962، في شكل من الاستقلال يتيح التعايش بين الجزائريين والفرنسيين المولودين في الجزائر.

    لقد نال ديريدا جوائز عديدة، غير أن الجائزة الحقيقية التي كان يعتز بها هي جائزة الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو وذلك عام 2001. فأدورنو هو الفيلسوف المثال لانتهاك كل ما يقف أمام التشكيك الفلسفي وأمام الغموض اللازم للعمل الفني.

    تكمن أهمية ديريدا في قدرته اللغوية على التشكيك بمصطلحات الفلسفة دون الانفصال عن حوار مع ميتافيزيقتها. ترتكز فلسفة ديريدا أساسا على اللغة. فكان يعتبر ان القراءات الميتافيزيقية والتقليدية ترتكب اخطاء شاسعة حول طبيعة النصوص. فالقارئ التقليدي يظن ان اللغة قادرة على التعبير عن أفكار دون أن تغيرها، إذ في هرمية اللغة، تمثل الكتابة دوراثانويا بالنسبة للكلام، ومؤلف النص هو مصدر معناه. غير أن أسلوب القراءة التفكيكي الذي قام به ديريدا يهدم هذه الافتراضات ويتحدى فكرة ان النص له معنى موحد غير متغير. ذلك ان الفكر الفلسفي الغربي يميل إلى الافتراض بان الكلام هو المسلك الواضح والمباشر للتواصل. غير أن دريدا، معتمدا على اللسانيات والتحليل النفسي، وضع كل هذه الافتراضات موضع تساؤل. موضحا أن نوايا المؤلف في الكلام لا يمكن قبوله بلا شرط. ومن هنا جاءت إضافة دريدا للفكر الفلسفي الغربي: فتح إمكانات تأويلية جديدة للنصوص، وقد بين بمصطلحات تفكيكية ان هناك شرائح عديدة للمعنى لها دور عملي في اللغة. وبتفكيك اعمال كبار الأكاديميين والباحثين السابقين، حاول ديريدا تبيان اللغة بأنها دوما في حالة انزياح.

    اعتبر عدد من النقاد فكر ديريدا تدميريا للفلسفة. وأن هناك مشكلة مع تفكير ديريدا وهي أنه يأخذنا برحلة تأويلية مذهلة داخل صحارى الميتافيزيقيا، لكنه يتركنا عند حدود المفاهيم... وعيوننا شاخصة تحننا الى ما وراء هذه الحدود التي لم يستطع دريدا أخذنا اليها. كما أن إشكاليات اللاهوت المتجذرة داخل التفكير الفلسفي، لم يستطع ديريدا تجاوز عتبتها.. فأن أية قراءة قام بها للفكر أو للأدب ما إن أفضت به إلى غيمة اللاهوت حتى فقد دريدا مصطلحاته وتعثر خالطا بين ما للفسلفة للفلسفة وما للأدب للأدب.

    يجب أن لاننسى أن ديريدا رغم كل نخبويته الفلسفية، كان دائما يحاول انزال الفلسفة الى ساحة العام، ومن هنا يعتبره بعض النقاد بانه الفيلسوف الحركي الناشط: ذلك أن ديريدا كان دائما حاضر الذهن في معمعان الصراع الاجتماعي: التمييز العنصري، الحرب الجزائرية، حقوق المهاجرين، حركات المنشقين في المعسكر الاشتراكي، التربية الخ.

    كشف عن قدرة تخيلية ولغوية في طرق مواضيع قد لايستطيع فيلسوف آخر طرقها. وكان دائما واعيا على نحو نقدي وذكي، باية لعبة لغوية مثلى يجب تناول هذا الموضوع أو ذاك. كان الفيلسوف الذي لم يتخل عن حاسة الشاعر السادسة.

    مات ديريدا تاركا إرثا مُفكَّكا؛ سيغرف منه حواريون وقراء ونقاد، لكن ستقع عليهم مهمة جد ضخمة وهي: تحضير إجابات مقنعة على شتى الأسئلة التي انبثقت من الانهمام اللغوي البلاغي الذي لم يستطع ديريدا نفسه التخلص منه وبالتالي الإجابة على الأسئلة المكتوبة على جبين رحلته الفكرية.
                  

10-14-2004, 01:02 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اكاديمي عربي يحكي عن علاقته بأفكار دريدا (Re: osama elkhawad)

    ديريدا رائد الفلسفة التفكيكية المعاصرة

    سّيار الجميل GMT 7:15:00 2004 الأحد 10 أكتوبر
    لمناسبة رحيل فيلسوف النقد الادبي جاك دريدا

    لا يحس بقيمة التفكيك.. الا المبدعون في اعادة البناء!!

    "اذا كان التفكيك مدمر حقا.. فليدمر ما شاء من الابنية القديمة المشوهة.. من اجل ان نعيد البناء من جديد.. " جاك دريدا

    كما هو حال هذا العصر الذي ازدادت فيه التناقضات كثيرا، فان منتجاته التي تفيض بجملة تناقضاتها المريعة التي تبدو واضحة اشد الوضوح لكل من يحاول السعي ذهنيا وتجريبيا وبنيويا ان يفككها تفكيكا نقديا ماهرا بحيث لا يمكنه الابتعاد ابدا عن المنهج النقدي الذي كرسه جاك دريدا عند نهايات القرن العشرين. لقد طارت شهرة دريدا في الافاق ليس لكونه فيلسوفا او ولا مؤرخا ولا مفكرا.. بل لأنه ناقدا غدت له مهاراته الذكية جدا قبل افكاره النقدية النظرية التي نجح في تسويقها تطبيقيا بنفسه من خلال مقارباته ومدلولاته المتنوعة والتي جعلها منسجمة مع طبيعة هذا العصر الذي نعايشه بكل الوانه وتعقيداته السريالية التي استفاد منها كثيرا في جميع مخلوقاته النقدية، وهي منتجات المشروع الذي تبنى نشره في الاوساط العالمية التي اعجبت بعض نخبها الادبية والفكرية ليس بافكار دريدا أو خطابه حسب، بل بتطبيقاته التي تحتشد فيها ركامات من الدلالات القوية التي وصفت بكونها عذراء بكر لم يتلمسها احد من قبل!!

    لقد ارسى دريدا في الحقيقة فلسفة راسخة في الفكر العالمي الحديث، فضلا عن الاليات المنهجية التي نجح في استخدامها نجاحا باهرا، والتي شكلت قراءاتها تفاعلات عديدة في الذاكرة النقدية وتسمت بأسمه. ويبدو واضحا، كم كان تأثير عدة مناهج أساسية معاصرة في تفكير دريدا وآلياته الحيوية، ومنها : البنيوية والفيلولوجيا والاركيولوجيا والتواريخ الكلاسيكية والكتابات السياسية والابداعات الادبية.. كما واستلهم الرجل من الادبيات اللاهوتية جملة من العناصر التي فتحت عيونه على ما يمكن تهشيمه وليس تفكيكه فقط! وبالرغم من فلسفته التي لم يتأثر بها الا القلة من الدارسين والمختصين في العالم، كان هناك من وقف ضدها وضد صاحبها.. واذكر ان جامعة كيمبردج رشحت اسم جاك دريدا للدكتوراه في الفلسفة، فاعترض مختصون وعلماء على ذلك ووصفوا دريدا بأن لا علاقة له بالفلسفة مطلقا، وانه مجرد عبثي لا يفهم ما يقول!!

    لقد استفدت حقا من نظريته في التفكيك
    اعترف بأنني استفدت جدا، ولكن مؤخرا جدا من منهج دريدا في التفكيك النقدي للنصوص وكنت قد تأثرت جدا بمحاضرته التي القاها في قسم فلسفة اللغة بجامعة ريدنك عندما حضر استاذا زائرا اليها من فرنسا وقد زار كلية سانت انتوني في جامعة اكسفورد العام 1977 ولكنه لم يلق اية محاضرات فيها.. لم يكن مشهورا وقت ذاك وكان شابا كثيف الشعر له نظرات حادة بطيىء الكلام، يفكر طويلا قبل ان يتكلم.. يتأمل طويلا في نوعية الاسئلة التي تلقى عليه، ولكنه كان يعتني بمجموعة من الافكار التي طور فيها مشروعه.. كان يلقي محاضرته التي حضرها عدد لا بأس به من الاساتذة والطلبة في الدراسات العليا.. يلقيها بالانكليزية الملحونة ولكن استخدم جملة من المصطلحات اللاتينية التي يشترك فيها الانكليز مع الفرنسيين في استخدامهم اياها. كان اكثر شبابا وهو متأثر جدا بفلسفة ميشال فوكو برغم نقداته التفكيكية للعديد من نصوص فوكو، ولقد جعل بعض دور النشر البريطانية تتراكض لترجمة اعمال ميشال فوكو.. ولعل اهم ما اكد عليه دريدا موضوع اللسانيات والمصطلحات. واذكر ان مشاحنة دارت ضد افكار دريدا ومنها تقداته المريرة في تفكيكه للمنهج الامبريقي والمؤسسة الجامعية ( وكان يعني بها الاكاديمية البريطانية التقليدية القديمة ) التي لم تؤسس على حد علم جاك دريدا بوصفه اياها «جامعة مناوئة للعقل»، مستنتجا بأن هذا ما جعل مثل هذه المؤسسة وكل مؤسسة اكاديمية عقيمة، لا غاية لها إلا نزعتها الامبريقية EMPIRIQUE التي يسمها خطابها المتعالي الذي لا ينتهي الا الى نتائج عابرة! وهذا ما جعلنا ننتقده جدا، وبرغم ما علق في تفكيرنا من الادوات التي استخدمها، الا انني بالذات كان تفكيري منشغلا في نظريات من نوع آخر!

    حوار بيننا نحن الطلبة وبينه حول ما بعد الحداثة

    كان كلامه اشبه بالطلاسم التي لا يفهمها الا المختصون بعلم اللغة وعلم الصوت.. وكنا نحن الثلاثة طالبان وطالبة يحضران في فلسفة التاريخ الحديث.. لم تكن امكانيتي اللغوية قادرة على استيعاب مصطلحات غاية في التعقيد.. ولم تعد قدرتي صالحة على الاستيعاب من لغو ما يقول به خصوصا وان اغلبه يتناقض مع ما كنا نتدارس من مناهج، اللهم باستثناء مقوم اساسي اكد عليه دريدا كثيرا هو التمركز والتموضع.. سأله زميلي ب كيمب الذي كان استاذنا المؤرخ الشهير البرت حوراني قد انهى اشرافه على اطروحته في سانت انتوني باكسفورد.. سأل دريدا عما يمكن ان ينفعنا تفكيك النص التاريخي.. ولقد سجلت في محفظتي الدراسية بعض النقاط التي اراها مهمة جدا بالنسبة لمنهج التفكيك التاريخي الذي قمت باتباعه في كتابي " تفكيك هيكل " الذي اصدرته العام 2000، واذكر ايضا انه اجاب على اسئلة طرحناها عليه وكنت برفقة كل من زميلي الالمانيين توماس لنك وسابينا دودنباخ عن مفاهيم لم يأخذها احد بنظر الاعتبار وقت ذاك.. ولكنها ستغدو ذات اهمية لا تبارى في عمليات النقد في اللغة والادب خصوصا.. وهي نفسها التي يمكن ان تساعد جدا في تحقيق النص التاريخي بعد اخضاعه للتفكيك الذي يريده دريدا اساسا! لقد شعرت بأهمية ما سجلناه عنه ولكن في السنوات الاخيرة وبعد ان مررنا بتجارب منهاجية ومعرفية وفلسفية عديدة. ولكن لابد لي ان اقول بأن من لم يمتلك القدرة على قراءة النص قراءة داخلية في اعماقه واستكشاف تمركزاته لتبيان حقيقة قائله، فلا يغامر ابدا في قراءة دريدا ويضيّع وقته!

    جاك دريدا، ونظرية التفكيك لما بعد الحداثة..

    تعد منهاجية التفكيك deconstruction أهم حركة مابعد بنيوية في كتابة النقد الأدبي فضلاً عن كونها اكبر حركة أثارت جدلا حتى اليوم. ولقد شهدنا ونخبة من الزملاء الذين جايلوا الربع الاخير من القرن العشرين اكبر حالة من التناقض بين موجات الاعجاب واضدادها من النفور ، ازاء هذا المنهج الذي كان ولم يزل في عداد نظرية في النقد الأدبي وخصوصا في السنوات الأخيرة، فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد مثل ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون تحت خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم من التفكيك الذي يعدوه سخيفاً وشريراً ومدمراً. ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد.‏

    ويمكن القول أن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وأن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تمتنع عن التعريف. وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك... وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا، وسأنوي بعد وصف وتحليل المصطلحات التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال عن الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي، وأقول من باب حيادي بأن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وأن للتفكيك مضامين روحية.‏

    لقد خدمتني افكار وكتابات جاك دريدا في السنوات الاخيرة، وعدت الى منهجه اتدارسه واتوقف عند ابرز محطاته التي تسعفني حقا في قراءة النص مع متابعتي لما يكتب ضد منهجه اذ اشاع بعض خصومه انه مدمر للنص! فهل أن التفكيك مدمر حقاً؟ ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا في الاجابة هو كتابه "في علم الكتابة" الذي يعد لسان التفكيك... العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا، الفيلسوف والناقد الفرنسي. وأنني أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الثانية فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations ، محتملة على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا، وسوف أعمل أنا على توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بتقديم وصفي وتقويمي لمفاهيم التفكيك.‏

    ومن الجدير بالذكر أن "الكتابة" و"الكلام" كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا. وتتمع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول العقل إلى التمركز حول الكتابة، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولابد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس.‏ وقد أطلق دريدا تسمية "المفهوم السوقي للكتابة" على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة، وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها.. ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى، وسوف تتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية.

    من هو جاك دريدا؟

    انه رائد المدرسة التفكيكية في النقد ويقال انه يهودي فرنسي من اصل جزائري، اشتهر في السنوات العشر الاخيرة شهرة عالمية بعد ان كان له وزنه العلمي في الاوساط العلمية والفلسفية الاوربية. وتعتبر مدرسته واحدة من اهم المدارس عند بعض النقاد والباحثين. ان الفيلسوف جاك دريدا يبدو وكأنه فيلسوف من نوع خاص، فهو مراوغ في لغته ولكن تحكمه الدقة المتناهية في فهم المصطلحات والوعي بالمفاهيم، وهو يهيم بمنهج اسماه بالتفكيك الذي يشبه الى حد كبير البعثرة ومحاولة اعادة التركيب من جديد. ويرى العديد من دارسيه انه يجد لذته بنسف الوحدة التي تجمع الادب والفلسفة والسياسة، كاقانيم ثلاثة والتي لا تنفصل عنده إلا بالوهم، ولقد شبه الحالة بما يحكيه مجنون من لغة متمردة يؤسسها ليقوض عالم اخر بكل عماراته التي تأسست على مركزية «العقل» في كافة ميادين الكتابة. وهذا ما دفع بجاك دريدا لأن يكتب من عمق جنونه، هوية لا تشبه الثوابت، وكتابة لا تشبه العهود. لقد نعت جاك دريدا منذ سنوات خلت بشتى التهم الخطيرة التي تجعله على هامش الاخلاق ويسعده ذلك جدا لأنه يفهم بأن منهجه هو الوحيد الذي يفكك ولكن مناهج غيره لا يمكنها ان تفككه هو ذاته!

    لقد كان مؤلفه: «علم الكتابة» انطلاقة مهمتها إزاحة الطبقات المتراكمة الواحدة بعد الاخرى دون توقف، ودون وضع حد لعملية التفكيك لكثافة ما يعلق بالنص من ترسبات لأرض بكر. فدريدا لا يثبت معنى إلا لينقضه، ولا يهتدي الى مركز او مسار إلا ليحوله من مكانه وليحيد به عن خطه وينقله من قطبه، في عملية لا تني عن الانحراف، وتبعيد الشيء عن ذاته وتشظيته حتى تضيع هويته خلف تراكمات من التحولات والتحويلات لا حد لها، بحيث تصبح غاية دريدا المسماة منهجية «قوة تخريبية» لا تلمس شيئاً إلا لتنسف مسلماته وتفجره شظايا.‏ من هنا تنبع صعوبة تتبع فكر دريدا وتنظيم محاوره في وحدة جامعة.

    ما الذي استفدته حقا من محاضرة دريدا القديمة؟

    يبدو لي ان محاضرته التي القاها العام 1977 في جامعة اكسفورد وهي نفسها التي القاها في جامعة ردنك بانكلترا وقد كنت في الاثنتين معا.. كانت نواة كتابه " علم الكتابة "، وخصوصا عندما قارنت الركائز والمنطلقات التي احتواها هذا الكتاب القيم الذي يضم جملة من الاليات والاشياء والمعاني.. انه صقل حقيقي لموهبة النقد المتقدمة التي لابد ان تعالج فيها كل النصوص، وخصوصا التاريخية منها ثم السياسية.. ان مجرد تطبيق آليات دريدا على نصوصنا التي ننتجها منذ مئات السنين، فسوف تثمر هذه العملية المعقدة والصعبة عن نتائج خطيرة جدا.. خصوصا وان العرب مغرمون اليوم بالتأويل والشعوذة والاسطرة والانشائيات والمفبركات والاكاذيب وشحن الخطابات بالعواطف وترديد الشعارات غير الواقعية والجنونية..!! ويمكنني تلخيص اهم الركائز التي اعتنى بها دريدا في منهج التفكيك :

    اولا : كشف التفكيك عن الكتابة التي تقوم على الاسطورة والكذب لا على العلم والحقيقة. فالكتابة هي نتاج الصدفة الاعتباطية، «والمعرفة المدونة تعني ترديد المدونات دون معرفتها، ودون معرفة اصولها» لأنها نشأت من الاسطورة كما يقول سقراط وفيدروس وأفلاطون..

    ثانيا : وعملية تفكيك النص في الكتابة عند دريدا «ضرورية ولكن كاذبة» كما «تصبح التفكيكية مأزقاً منطقياً لأن الفاعل الكاتب هو ذات متعددة ومتناقضة كما هو النص متعدد ومتناقض، وهنا تستوجب الاحالة الدائمة لحضور المعنى مما يفتت الهوية الدلالية.‏

    ثالثا : يؤكد التفكيك ليس على كشف أوهام فحسب، بل استكشاف " الفبركة" التي يمارسها فنانون في فن الكتابة.. ومن خلالها يوهمون الناس بكينونة الحقائق الكاذبة، وخصوصا في المسائل الخطيرة التي يتعطش لمعرفتها الناس ليس إلا. انها تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل الاخلاقي المريع.. ( وهذا ما تعاني منه ادبياتنا العربية المعاصرة مع الاسف ).

    ان السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يستمر الباحثون في السير على خطا مثل هذه الدراسات النقدية الجادة ام ستبقى النمطية المكرورة هي المسيطرة على الخطاب النقدي العربي؟‏

    واخيرا، ها قد رحل اليوم فيلسوف النقد الادبي المعاصر جاك دريدا مخلفا من ورائه ثراء متميزا في النظرية التفكيكية وتطبيقها.. رحل عن هذه الحياة ولكن سيبقى ذكره مستمرا لآجال طوال وسيستفيد منه طلبة العلم والبحث والمناهج والنقد استفادة قصوى.. وستشغل نظريته التفكيكية حيزا كبيرا في تاريخ الثقافة البشرية مخلدة باسمه فالى ذكراه ازجى كلماتي الطيبة فلقد كان محاضرا بارعا ومنظرا عالي المستوى وناقدا متميزا شغل التفكير الادبي والنقدي على ربع قرن وهو عصارة عظمة الثقافة الحية في القرن العشرين
                  

10-14-2004, 01:14 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دريدا ونقد الميتافيزيقا الغربية (Re: osama elkhawad)


    د. عبدالله إبراهيم GMT 5:00:00 2004 الإثنين 11 أكتوبر

    1. التفكيك وفاعلية الاختلاف

    تحيل الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك-Deconstruction»على فضاء دلالي واسع، يقترن بتفكيك الخطابات الفلسفية، والنُظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها المكوِّنة والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها، وهو ما يفترض الحاجة إلى إجراء حفريات في تلك النظم، كما تجلّت خطابياً، وكما تشكّلت تاريخياً ومعرفياً، ويترتب على هذا، أن الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك»تختلف عن دلالته اللغوية التي تحيل على التخريب والتهديم والتقويض، وينهض التفكيك على منهجية التعارض بين المكونات التي تشكل كيان الخطاب، وتركها تعمّق اختلافاتها، وتكشف تناقضاتها الداخلية، ويحذّر دريدا من تبسيط موضوع البحث، ويرى أن عدو المنهجيات الحديثة، ومنها التفكيك هو: التبسيط والاختزال، وهذا على أية حال، ما يوحي بغموض الحفريات التي يجريها دريدا، ويعبّر عن الأمر، مؤكداً، إنه من أجل تلمّس فعل المخيّلة الخلاقة، بأكثر ما يمكن، ينبغي العناية بما هو غير مرئي من الحرية الشعرية، ويفترض هذا الأمر؛ الانفصال وصولاً للاتصال الخفي بالأثر في عتمته الحالكة.

    إن تجربة مثل هذه، تهدف إلى تنظيم الفعالية الأدبية، على مستوى الكتابة والقراءة، مشكّلة على نحو خاص، لا تستطيع فيها مفردات الانفصال والنفي - وهي ما يفترض أنها دالة على الانقطاع، وعدم التواصل ضمن العالم - أن توضّحها بصورة كافية، ما تستطيعه هو الإشارة إليها حسب، بوساطة الاستعارة التي ينتظم حولها نظام التفكير، لأن الأمر ما هو إلا مغادرة العالم، تجاه مكان لا يشكل موضعاً ولا عالماً آخر، ولا يوتوبياً، إنه، في حقيقة الأمر، تخليق كون، يضاف إلى هذا الكون(1). يكشف هذا، أن التفكيك، لا يحاول الاقتراب إلى الخطاب، إلا بوصفه نظاماً غير منجز، إلا في مستوى كونه ملفوظاً، هو بعبارة أخرى، تمظهر خطّي قوامه سيل من الدوال. وهو ينتج باستمرار، ولا يتوقف أبداً، حتى لو اختفى كاتبه، وهذا ما يفسّر عناية التفكيك بالكتابة دون الكلام، لانطوائها على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول، وهو ما يتعذّر بالنسبة للكلام. لقد أفضى ذلك، إلى اشتغال التفكيك على ثنائية الحضور والغياب، استناداً إلى فهم جدلي للعلاقة بين هذين المستويين في الخطاب، إن الحضور رهينة مرئية وما الغياب إلا ظلالها الكثيفة الغائرة في محيط مضطرب واسع لا قاع له ولا شواطئ، وهذا المحيط، هو المدلول المنفتح أبداً بفعل القراءة. على وفق هذه الرؤية، يؤسس التفكيك موقفه تجاه الخطاب، هادفاً إلى تحرير عمل المخيلة من ناحية، وافتضاض آفاق جديدة للعملية الإبداعية من ناحية أخرى. إنها سلطة من نوع خاص، كونها تولي القراءة النقدية كثيراً من اهتمامها(2). وهي بذلك تقف على الجانب الآخر المواجه للمنهجيات التاريخية والاجتماعية والنفسية والبنيوية الوصفية التي جعلت النموذج اللغوي موجهاً لعملها في الوصف والتحليل.

    وجَّه دريدا، نقداً جوهرياً إلى المقولات الفكرية التقليدية، وسعى جاهداً لقهر التقسيم التقليدي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الجمالي، وتستند رؤيته في هذا الأمر إلى كشفه: إن الحضارة الغربية نهضت حول العقل والمنطق، وكانا معياراً حاسماً لتقويم أهمية كل شيء وأصالته، ويجترح دريدا إحدى مقولاته الأساسية للتعبير عن ذلك. وهي «التمركِّز حول العقل - Logocentrism»، وتتحدد استراتيجية هذه المقولة في البرنامج التفكيكي الهادف إلى نقد سلطة العقل والمنطق في الفلسفة الغربية، إلى فحص الميتافيزيقيا التي تبطل جميع المعاني التي لا تتطابق والنماذج العقلية المتصورة، وعلى الضد مما تذهب إليه الميتافيزيقا الغربية في تجلياتها الفكرية والمعرفية، يدعو دريدا إلى دور حر للغة، بوصفها متوالية لانهائية من اختلافات المعنى، ولا يمكنه تقرير أرجحية أمر، إلا استناداً إلى قرائن تعوّمها القراءة الحفرية. إذ لا معنى يظل حبيس دوالّه، ويُفسر على أنه ذو مغزى محدد بصورة نهائية. المعاني تنتجها القراءة، قادته توصلاته هذه، إلى توجيه نقد قاسٍ إلى نظام الفكر الغربي، كما تشكّل معرفياً، ابتداءاً من سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومروراً بديكارت وكانت، ووصولاً إلى معلميه المباشرين، هيدغر وهوسرل، رغم أنه يقرر، بأنهما، كانا مؤثرين في مشروعه النقدي، ويؤكد أن علاقته بهيدغر خاصة، لا تتمثل في الجانب المنهجي، إنما في المفهوم المشترك للوجود، وبالذات مقولة هيدغر في أنطولوجيا الحضور ونقد الأفلاطونية، وقضية العلاقة بين اللغة والوجود(3).

    تعد مقولة«الاختلاف-Differance»إحدى المرتكزات الأساسية لمنهجية التفكيك، والوقوف عليها، إنما يكشف عن جزء مهم من استراتيجية التفكيك في مقارباته المنهجية والتأويلية. حدد دريدا مفهومه لـ«الاختلاف» في كتابه «الكلام والظاهرة». وقبل الاقتراب إلى فعالية هذه المقولة في منهجية التفكيك، يلزم تقصّي دلالاتها، وكشف جذورها المهجنة من عدد من المفردات، فذلك، إنما يكشف عن جزء من عناية التفكيك بما هو غير يقيني، والدعوة الملحّة للدخول في شباك الاحتمالات الكثيرة. يمكن تأشير الدلالة المعجمية لـ«الاختلاف» كما وردت في كتابات دريدا، بأنها نسيج دلالي متعدد، هضم فيه دلالات مجموعة من المفردات فثمة todiffer ويدل على المغايرة والاختلاف وعدم التشابه في الشكل، وto defer وهي مفردة لاتينية توحي بالتشتت والتفرق وTo defer ويدل على التأجيل والتأخير والإرجاء والتعويق. واضح أن المغايرة والانتشار والتمدد والتفرق خواص لأشياء مكانية ترتبط بالفضاء والحيز. بينما يكون الإرجاء والتأجيل والتأخير مرتبطاً بالزمان. مقولة «الاختلاف» هي نسيج متشابك من جميع الدلالات التي ذكرت، وإذا كان «الاختلاف» متعدداً في مستوياته الدلالية، تتنازعه خصائص مكانية وزمانية وصوتية، فإنه في التفكيك بوصفه مصطلحاً إجرائياً، إنما يحيل على الاختلاف المرجأ أبداً، هو الاختلاف الذي يحرر المتلقي من استحضار المرجع المحدد، ويترك له حرية استحضار أو تعويم مرجع خاص به، وذلك لوجود اختلاف بين الدال والمدلول، والمدلول والمرجع. وإذا كانت العلامة، التي هي صوت في الكلام، تشير فقط إلى فكرة الشيء، بينما يبقى حضور المرجع مستحيلاً، بسبب من غيابه في اللحظة الآنية. فكيف بإحضار موضوع المرجع؟

    ومن هنا يبدأ إرجاء المرجع في النظام اللغوي وتأجيله مع استمرار الكلام، كما هو الأمر في الدلالات التي تحتشد تحت مصطلح «الاختلاف». فهل دلالته هي عدم التشابه أم التفرّق والتبدد، أم التأخير والأرجاء والتواني، وكيف يمكن التيقن أن differance هي difference بغير الكتابة. والحرف a في الكلمة الأولى لا يلفظ في الفرنسية. من هنا تنشأ مشكلة الحضور والغياب، حضور الدال. وتعدد مدلولاته، وغياب بعضها.

    نخلص إلى أن «الاختلاف»، يحيل على تعارض دلالات مكونات الكلام ليس بناء على خصائصها الذاتية، إنما بناء على الاختلافات فيما بينها. إن المكوّن الكلامي يُعرّف، بأنه يختلف عن غيره، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هنالك المتوالية المؤجلة من سلسلة العلاقات اللانهائية. وكل هذا يفسر لم يرفض دريدا نفسه أن يحدد الدلالة الاصطلاحية الدقيقة، للاختلاف، فهو يؤكد انه ليس كلمة ولا مفهوماً، إنّه: الإزاحة التي تصبح بواسطتها اللغة أو الشفرة، أو أي نظام مرجعي عام، ينطوي على ميزة تاريخية؛ عبارة عن بنية من الاختلافات ويحاول "لتش"أن ينغمر في موحيات «الاختلاف» فيؤكد، انه عندما نستخدم العلامات، فإن حضور المرجع والمدلول، يرتبط بالحضور الذاتي للدال، الذي يحضر لنا حال الوهم والمخادعة والضلال على نحو مفاجئ، ليس ثمة حضور مادي للعلامة، ما يوجد هو لعبة الاختلاف حسب. فالاختلاف ينتهك العلامة، ويجتاحها محولاً عملياتها إلى أثر. وليس حضوراً ذاتياً لها(4).

    وإذا كانت اللغة سلسلة لا متناهية من المفردات التي ليس لها أصول بمعزل عن سياق اللغة، فإن الكلمات تتميز باختلاف كل منها عن الأخرى. وهذا يُفضي إلى نتيجة، غاية في الأهمية، في استراتيجية عمل التفكيك، الذي يستميت من أجل المغيب، وطرائق تعويمه. إذ طبقاً لذلك، يكون كل معنى مؤجلاً بشكل لانهائي، وكل كلمة تقود إلى غيرها في النظام الدلالي اللغوي. دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد واضح الآن. إن ما دفع دريدا إلى ذلك، هو الحد من فكرة الحضور، فالمتلقي يبحث عن مدلول محدد، لأنه واقع تحت سطوة فكرة الحضور، بل خاضع لها، ولهذا، فإن ما يهدف إلى تحقيقه دريدا، هو أن يكون الخطاب، والخطاب الأدبي خاصة، تياراً غير متناهٍ من الدوال، وبوساطة الكلمات فقط، يمكن الإشارة إلى كلمة ما دون أخرى. وهذا يفضي إلى توالد مستمرٍ للمعاني، لا بسبب من تقرير دلالاتها، بل من اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى، ولما كانت هذه المعاني لا تعرف الثبات والاستقرار، فإنها تبقى مؤجّلة ضمن نظام الاختلاف، وتظل محكومة، بحركة حرة أفقية وعمودية، دونما توقع نهاية محددة لها. دلالة «الاختلاف»، تنتظم حول قطبين دلاليين أساسيين، هما: «الاختلاف» و«التأجيل»، فضلاً عن أقطاب ثانوية تجاورهما، لكن هذين القطبين لا يؤسسان لفكرة التوازي في منهج التفكيك، كونه يهدف إلى تقويض الثنائيات التي أرستها الميتافيزيقيا. ولهذا، فإن دريدا يصرّ على ضم جميع المحاور الدلالية التي تتنازع مقولة «الاختلاف»، جاعلاً منها مركز استقطاب دلالي يرشحُ بدلالات قارة وحافة في آن واحد.

    يؤسس دريدا، بوساطة «الاختلاف» رؤيته لمعضلة الحضور والغياب، ويدير نقاشاً ذا مستويات متعددة في اللغة والفلسفة، فالمعاني كما يرى تتحقق من اختلافها المتواصل في عملية الكتابة والقراءة من غيرها، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاختلاف، بحيث يصبح الاختلاف هدفاً بذاته، فالأمر يتطلب حضور العلاقة المرئية التي توفرها الكتابة التي تمدّ العلامات بقوة تكرارية ضمن الزمان، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لانهائية من المدلولات. مما يثبت أن هدف الكلام وغايته، بوصفه حضوراً ذاتياً ينتج بوساطة أثر الزمان في الكتابة. وهو يقوم من ناحية ثانية بتقويض الحضور الذاتي، وهذا يكشف، أن ثمة بناءً وهدماً متواصلين، من أجل بلوغ تخوم المعنى. يذهب دريدا إلى أن الاختلاف هو عمل الكلام الداخلي، فالكلام المنطوق يتشكل من الاختلاف المستمر بين الكلمة المنطوقة التي تتجزأ عادة إلى دال صوتي ومدلول، وبين سلسلة المفردات التي ينتظمها الحديث. وذلك إلى ما لا نهاية، تبعاً لما كان قرره سوسير من أن النظام الذاتي الكلام، ينهض على الاختلاف بين العلامات، أكثر مما ينهض على حشد وحدات المعنى. فالعلامة لا تدل على شيء بذاتها، إنما باختلافها عن العلامات الأخرى. وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا بوساطة الكلام، بوصفه حضوراً ذاتياً مباشراً يلعب دوراً رئيساً في الحقل الدلالي.

    هذه الوظيفة للاختلاف في برنامج التفكيك، هي التي قادت دريدا إلى تقديم تصوره لـ«الكتابة البدئية - Archi-writing وهي نمط من الكتابة سابق للكتابة نفسها. أي ذات ميزة قبلية، تكون أنموذجاً متصوراً للكتابة نفسها، فهي قائمة على المعرفة بالحاجة إليها، قبل حصول المواضعة حولها. الكتابة البدئية، لا يمكن تعريفها موضوعياً، لأنها غير قابلة للاستقراء والوصف، لكنها حسب دريدا كل شيء، إنها الوسيلة التي لا تدع لنفسها، أن تنتج غير شكل الحضور. وغالباً ما تكون أنظمتها موضوعية بالنسبة لموضوعها، وبالنسبة لكل أشكال المعرفة الأخرى(5).ويمكن أن يصطلح عليها بـ«اللسانيات غير المتمركزة عقلياً-anon Logocentric Linguistics».وهكذا يتكشف أن التشدد في التركيز على أهمية الاختلاف، قاد إلى تعميم استراتيجية هذه المقولة الفعالة بوصفها وسيلة حفر في بنية الخطابات الفلسفية والأدبية. وحققت منجزها الأكبر في محاولتها تقويض المرتكز الفكرية للثنائيات المعروفة، مثل: الروح والجسد، الخير والشر، الشكل والمعنى، الاستعاري والواقعي، الإيجابي والسلبي… إلخ. وذلك لقلب التصور الذهني الذي أرسته الميتافيزيقيا الغربية. واستبدال ذلك بمقولات تحتمل التعدد الدلالي مثل" Pharmakon" الذي يعني السم والدواء معاً و"marge" الذي يحيل على الهامش والعلامة والمسيرة صوتياً، وغير ذلك، مما يحتمل ولا يقرر أمراً محدداً. ولما كان الاختلاف خصيصة لغوية، فهو حسب دريدا نفسه لا يعود لا إلى التاريخ ولا إلى البنية(6).

    لا يمكن عدّ دريدا فيلسوفاً، بالمعنى المتعارف عليه، كما لا يعد ناقداً، ما تنطبق عليه حقاً، هي كلمة «قارئ» ولكنه قارئ مسلَّح برؤية جديدة، وتتميز كتاباته بخصوصيتها بين جيله مثل ريكور وكرستيفا وسولير وهارتمن ودي مان وغيرهم، ويستحيل موضوعياً تصنيف نصوصه على وفق الأسس التي تعتمد عليها نظرية الأجناس الأدبية. فهي في الوقت الذي تستظل في فيء الفلسفة، لا تبرح تلقي أسئلة عميقة عن اللغة والإبداع والمعنى والهوية، وتتناص مع خطابات قديمة، تمتد من أفلاطون إلى هوسر وهيدغر، وتبدو من هذه الناحية، أنها معنية بالتاريخ المعرفي للفكر الفلسفي(7). عنايته بالفكر الفلسفي، وأبرز كشوفاته المعرفية، جعلت هذا الفكر، أحد أبرز مصادر ثقافته، فضلاً عن الكشوفات اللسانية والبنيوية، وهو ما جعله يخطو باتجاهات ما بعد البنيوية خطوة متقدمة، ولكنها لن تكون الأخيرة، بسبب من جدل المنهجيات. ويمكن التأكيد أن دريدا قد وظّف منهجياً كثيراً من الجهود المنهجية للمعنيين بالمنهجيات اللسانية، وأضاف إليها، جهده وحفرياته وتصوره للهرم الفلسفي الغربي. الذي ربما لم يُعن به إلا قلة قليلة من جيله، مثل ريكور وهابرماز، تلك العناية المباشرة التي ميزته عن غيره. وجعلته ينهض بمهمة تدشين مشروعه في تفكيك بنية الفكر الغربي، مستعيناً بالوسائل المنهجية القادرة على كشف تناقضات تلك البنية، وتركها تكشف عن تناقضاتها بنفسها، معتمداً على شبكة مقولاته الأساسية، ومنها «الاختلاف» الذي يمارس من خلاله نقداً لمطابقات الفكر الغربي ونزعته التمركزية.

    2. نقد التمركز حول العقل

    يتجه نقد دريدا للمركزية الغربية ناحية الأسس والركائز العقلية التي أفضت إليها، ولما كانت تلك الأسس تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما: التمركز حول العقل وفكرة الحضور، فإن برنامج دريدا النقدي يتمحور حول هاتين الفكرتين الفاعلتين في خارطة الميتافيزيقيا الغربية، فهو يطمح إلى تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكلت حولهما، فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً صلباً جداً أقصى كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً من التفكير. أما فكرة الحضور فإنها تستأثر باهتمام دريدا النقدي لأنها تواكب اللوغوس، وتمثل مبدأً راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً، أي أن الوجود(= الكائن) يتمظهر حضوره في الأشياء. وفي هذا الصدد يؤكد هيدغر على إن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن على أن كينونة الكائن تتجلى بوصفها حضوراً. وهذا التجلي للكينونة على أنها حضور هو بذاته تاريخ الغرب. ذلك أن مسار تاريخ الغرب ترادف في معناه ودلالته مع فكرة الحضور، باعتبار أن ما يأتي لذاته يتجلى وينتشر بالقرب من ذاته(.

    وكثيراً ما استوقفت هيدغر هذه الظاهرة فدرس جوانبها اعتماداً على نصوص الفلسفة، وخلص من ذلك إلى أن الفلسفة الغربية تدفع إلى الأمام باستمرار فكرة أن الوجود هو الأكثر حضوراً من تلقاء نفسه، فأرسطو كان يؤكد على أن «الوجود هو ما يكون بذاته أظهر الأشياء» أي أكثر الأشياء حضوراً، على أن هذا الأمر يولد فعلاً آخر ينبغي ملاحظته لأنه يتصل هذه المرة بإدراك الإنسان، فما اعتبر بذاته أظهر الأشياء، هو الأقل ظهوراً، فالأشد ظهوراً هو الموجود الذي ندركه في كل لحظة، أي الوجود بذاته الذي يكون جلياً ظاهراً، والذي في الوقت ذاته يكون بالنسبة لنا غير ذلك. فإذا كان الأمر هكذا أي ثمة ظهور باهر للموجود من جهة واحتجاب بالغ له من جهة ثانية، فإن مردّ ذلك التناقض يكمن في قصور وعي الإنسان بوصفه وسيلة إدراك، فإبهام الوجود وانحجابه ليسا صفة كامنة فيه، إنما في عجزنا عن إدراك ذلك الحضور، وما يثير الاهتمام هو هذه المفارقة، كيف يكون أشد الأشياء حضوراً هو في الوقت نفسه أكثر الأشياء غموضاً واستغلاقاً؟ هذا التفاوت بين حقيقة الموجود وكيفية إدراكه لازم الفكر الفلسفي الغربي، وينتهي هيدغر إلى تقرير فكرته حول هذه الإشكالية: إن انتشار الوجود يشكل بذاته تاريخ الإنسان الغربي من حيث جوهره، باعتبار أن هذا الإنسان يظل في لحاظ التاريخ مأخوذاً بيده ومثبتاً في موضعه بوصفه قاطناً في إشراقة الوجود، ومساهماً في هذه الإشراقة، والوجود من حيث هو انحجاب لا ينفك عن الظهور، يدل بذاته على الماهية الإنسانية، غير أنه، على الرغم من ذلك لا يتأنسن، بل إن ماهية الإنسان تستوطن بفعل هذه الدلالة - الرابطة في نواحي الوجود وأصقاعه(9).

    أثبت دريدا أن التراث الفلسفي الغربي ظل مشبعاً بفكرتي «التمركز حول العقل» و«ميتافيزيقا الحضور» وأن مذاهب الفلسفة ونظرياتها المختلفة ما هي إلا صيغ من نظام واحد هو نظام التمركز حول هذين المحورين، ومع أن دريدا يؤكد صعوبة التخلص من هذا التمركز، ألا يمكن معرفة الظروف التي فرضت هذه الظاهرة. ومع أنه لا يمكن تخيل «نهاية» للميتافيزيقا أو وضع حدٍ لها. فمن الممكن نقدها من الداخل بالتعرف إلى النظام الهرمي الذي أقامته، وربما في مرحلة لاحقة يصار إلى قلب هذه الظاهرة رأساً على عقب، فغاية النقد هنا هزّ قواعد الميتافيزيقيا التي أُنتجت ضمن أفق محدد، وربضت خلف الفكر كله، توجهه وتحدد منظوره(10). إن النظام المتماسك الذي نتج عن ممارسات التمركز المذكورة، من الصلابة بحيث يصعب تدميره مباشرة، أنه يحتاج إلى خلخلة لنظام جذوره، وتفكيك ذلك النظام الذي قد يؤدي إلى تفجيره من الداخل(11). وعلى هذا، واستناداً إلى هدف تقويض نظم الميتافيزيقيا الغربية بتعرية ركائزها، وكشف تناقضاتها، وُصِف دريدا بأنه مناهض مرير لنظم الفكر المتعالية التي يقصد منها أن تعطي لاتباعها مواقف هيمنة يطلون منها على من هم دونهم، ويحكمون عليهم طبقاً لها(12).

    اتخذ نقد دريدا للميتافيزيقيا الغربية من مصطلح «التمركز حول العقل Logocentrism» وسيلة وموضوعاً له. وتتمثل كفاءة هذا المفهوم المزدوجة، أولاً في سياق فلسفة دريدا النقدية، وثانياً في التراث الفلسفي الغربي في أنه يدمج معاً مقولة «اللوغوس» بممارسة «التمركز»، وعليه فالحقل الدلالي لهذا المفهوم متشعب، ويتحدر من أصلين: مقولة فلسفية تجريدية أخذت معنى المفهوم ووظيفته، وممارسة عملية غايتها الانغلاق على نوع من التصور، وكل هذه المكونات التي دخلت في بناء Logocentrism تفيد في أن يمنح هذا المفهوم وظائف نظرية وعملية، فمن الجهة الأولى يقتضي الأمر الاقتراب إلى المفهوم وأصوله وتشكلاته في الفلسفة الغربية، ومن الجهة الثانية يقتضي الأمر كشف طبيعة التمركز بوصفه ممارسة فلسفية. وهذا الغنى الذي ينطوي عليه المفهوم يخدم غرض دريدا في نقده الهادف إلى هدم فكرة اليقين المطلق في الميتافيزيقيا، والانتقال إلى إعلان حالة تمرد على إثبات أُطرها وسكون مضمونها. لقد شخص دريدا أصول هذه الظاهرة المتمكِّنة من التفكير، فالفلسفة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو دفعت العقل، إلى واجهة الاهتمام، وأعطته سلطة فعالة في مسار الفكر، بحيث آل في نهاية المطاف إلى مفهوم مجرد ذي قوة لا متناهية، وفي ظل هذه النزعة العقلية، أصبح القياس العقلي - المنطقي نموذجاً معيارياً تقاس في ضوئه كل النماذج الفكرية، ففرض بسبب ذلك هيمنته القصوى في مجال الفكر الفلسفي، وكان هذا كافياً بالنسبة لدريدا لأن ينصرف إلى تفكيك هذا التمركز، وذلك من خلال نقد الأصل الثابت والمتفرد بالقوة لمفهوم العقل. سعياً وراء ظهور نمط من التفكير الذي يتجاوز نسق التمركز المذكور.

    لاحظ دريدا أن الميتافيزيقيا الغربية تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازاً خاصاً للكلمة المنطوقة، لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقياً، فليس ثمة فاصل زماني أو مكاني بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يتكلم فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته. إن سمة المباشرة في فعل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم تحقق فعلاً أم لم يتحقق. فصورة الحضور الذاتي المباشر للحقيقة التي يفرض الكلام وجودها في الممارسة الفكرية، تتصل مباشرة بالحقيقة التداولية للألفاظ ودلالاتها لحظة النطق في ممارسة حية ومباشرة وآنية. وهذه الخاصة ظلت إحدى الشواغل المحورية في الميتافيزيقيا الغربية، ومن ورائها الثقافة الغربية، وعلى النقيض من ذلك، فإن الكتابة لم تستأثر بالاهتمام، لأنها بوسائلها وآلياتها، لا يمكن أن تتداول الحقيقة الحية المباشرة، ولهذا عُدّت نشاطاً من الدرجة الثانية، فالكاتب يضع أفكاره على الورق، فاصلاً إياها عن نفسه المتضمنة للحقيقة، وجاعلاً منها شيئاً جامداً يمكن أن يقرأ من شخص آخر بعيد، لا تربطه به صلة زمانية أو مكانية، ولا يربطها سياق مشترك، وهذا قد يفتح الباب لمزيد من سوء الفهم، بسبب الاحتمالات المترتبة على مسارات التلقي الخاصة بالقراءة، وفي ضوء هذا المنظور، وتبعاً لفروضه، أعلت الميتافيزيقيا الغربية من شأن الكلام على حساب الكتابة، ومن هنا ظهرت المفاضلة بينها، والاختلاف المتأصل في الكفر الغربي بشأنها(13).
    وقد دُعم هذا الاتجاه دينياً، فحضور «اللوغوس» في «العهد الجديد» على أنه «كلمة» منح المفهوم قدراً كثيفاً من الحضور «في البدء كانت الكلمة»، فلكون «الكلمة» أصل الأشياء جميعاً، فإنها توقع وتذيل على حضور العالم، فكل شيء هو معلول هذه العلة، مع أن «الكتاب المقدس» مكتوب، فإن كلمة الله منطوقة في الأساس. وتبدو الكلمة المنطوقة، الصادرة من الجسد الحي أقرب إلى الفكر المولد من الكلمة المكتوبة. ويرى دريدا أن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما يصطلحُ عليه يسميه: التمركز حول الصوت phonocentrism، إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التـمركز حـول العقل(14).

    وعلى هذا، فإن الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة كان أكثر العوامل التي دفعت فكرة التمركز حول العقل إلى البروز والاستبداد والهيمنة في تاريخ الفكر الغربي. ويتقصى دريدا هذه الظاهرة، فيرجعها إلى أفلاطون الذي يرى أن الحقيقة ما هي إلا حوار الروح الصامت مع نفسها، وهذا التصور يدعم، كما هو واضح، أمر حضور الكلام النفسي، فالحقيقة هنا هي المباشرة الصريحة للنفس، وأكثر تجليات هذه الفكرة حضوراً هو: الحوار بين متحدثين يجمعهما زمان ومكان، وعن هذا الأصل الذي يمثله الحوار الداخلي، نشأت فكرة الحوار الصائت بين متحاورين خاضعين للشروط الزمانية المكانية(= وجدت هذه الفكرة أفضل تجل فعلي لها في المحاورات الأفلاطونية). فأفلاطون حاول في محاوراته محاكاة هذا الضرب من نظام الإرسال والتلقي، مفترضاً ثنائية(المرسل والمتلقي) التي تنظم الفعل الاتصالي، وهي في الغالب سقراط بوصفه مرسلاً، ومجموعة من المتلقين/المحاورين الذين يتغيرون حسب المقام والحاجة التي يريدها أفلاطون. وتمسك أفلاطون بأسلوب المباشرة الحوارية، واعتقاده بأنه الأسلوب الأمثل في التعبير عن الحقيقة أدّى إلى معالجة موضوع الكتابة بشبهة كبيرة.

    يسعى دريدا إلى استبدال ذلك التصور، مؤكداً أن الكتابة تكشف عن تغريب المعنى، ذلك أن نقش المعنى بواسطة العلامة يهبه استقلالاً وحرية عن صاحبه الأصلي، وهذا يمنحه إمكانات كبيرة في التفسير والتأويل. هذا التغريب أو الإبعاد في المعنى يتوضح حينما تستمر العلامة المكتوبة في توليد أبعادها الدلالية المتجددة في غياب مؤلفها الأصلي. إن ما يطالب به دريدا، ليس فقط حل هذا الإشكال المستعصي فيما يخص قضية الكلام والكتابة في الخطاب الفلسفي الغربي، إنما يطالب أيضاً بضرورة قلب ذلك النظام، لتفريغ شحنة التمركز حول العقل في الفلسفة، فهذا القلب، وإعطاء أولوية للكتابة على الكلام سيفتح الأفق أمام الخطاب الفلسفي المتموّج بدلالاته بعيداً عن الاصطدام ببؤر التمركز، فإذا ما نجح مشروع تفكيك التمركز، القائم على تمركز الصوت، وثم الكلام، فإن ذلك معناه انهيار نظم الميتافيزيقيا التقليدية وكل تمركزاتها، وظهور خطاب فلسفي لا تمركز فيه، ولا تفاضل، ولا مصادرة، موجَّه إلى الجميع في كل زمان وفي كل مكان. إن الخلخلة التي يحاول دريدا أن يبثها في قلب الخطاب الفلسفي الغربي، تمس قواعده الأساسية، وآلياته المحورية التي يقوم عليها، وذلك بقدر ما يقوم أي خطاب عقلاني - مثالي على نوع من المركزية حول الصوت من جهة، وعلى نموذج عقلي - لغوي ضمني أو قبلي يوجهه، ويرسم له أطره وحدوده التي لا يستطيع تجاوزها من جهة أخرى.

    ولا شك في أنه يربط بين التمركز الصوتي والتمركز العقلي في الفكر الغربي، لأن ذلك الفكر، وأبرز ما فيه الخطاب الفلسفي لم ينشأ ولم يتبلور عند اليونانيين القدماء إلا بقيام اللغة الصوتية التي تعتمد على النظام الأبجدي في الكتابة، ولأن الفكر الميتافيزيقي المجرد لم يستطع أن يتألف إلا بالقدر الذي أتاحته له اللغة الصوتية من تجاوز للصور المادية المباشرة التي كانت تتم بواسطتها أنماط الكتابات السابقة على النظام الأبجدي. وعلى هذا فإن نقد الأسس الصوتية للخطاب الفلسفي الغربي، وإبراز وظائفه الأيديولوجية الكامنة، عملية لا تتم عند دريدا من غير إضفاء أهمية على المكونات الكتابية للفكر، وهو الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تأسيس نوع من الكتابية(= الغـراماتولوجيا) الجـذرية(15).

    وظّف دريدا معرفته بنظم الفلسفة الغربية، مستعيناً بمفهوم «التمركز حول العقل»(16) للتقدم في نقده الشامل لتلك النظم، ولجأ أولاً إلى تجزئة موضوعاته. بدأ من الألفاظ والفرضيات الأساسية، ثم انتقل إلى تعرية الأنساق، وكشف الحجج التناقضية التي تنطوي عليها الألفاظ والفرضيات، ثم في مرحلة أخرى توغل إلى صلب موضوعه، إلا وهو تفكيك النظم الكبرى للفكر الفلسفي منطلقاً من أفلاطون وأرسطو، ماراً بديكارت وروسو وفرويد، ثم منتهياً بالفلاسفة المعاصرين مثل هوسرل وهيدغر. ولقد قاده استقراؤه إلى هدم الزعم القائل بوجود معنى موحد له هوية متطابقة مع ذاتها، فعمله الذي هدف منذ البداية إلى كشف التعارض في الأنساق الفلسفية أظهر له وجود تضادٍ جوهري في صميم النظم التي تدَّعي التطابق الذاتي والهوية الموحدة، ودفعه هذا الكشف إلى إجراء منهجي، هو ما صار يعرف بـ«التفكيك» وهو التموضع داخل الظاهرة الفكرية المدروسة، ثم توجيه ضربات متعاقبة لها من الداخل، ويمكن التعبير عن هذه الممارسة المنهجية بالصيغة الإجرائية الآتية: أولاً: ضرورة معرفة النظم الداخلية للميتافيزيقيا، والاندماج في مقولاتها، ومعرفة الأبعاد والغايات والمقاصد التي تستخدم فيها، وثانياً: الانفصال الرمزي عنها ومواجهتها بأسئلة مشتقة من سياقها الفكري، بما يظهر عجز تلك الميتافيزيقيا عن تقديم أجوبة حقيقية عن الأسئلة المثارة، الأمر الذي يفضح قصورها، ويكشف تناقضاتها الداخلية. إن ما يصطلح عليه دريدا بـ«التفكيك» بوصفه منهجاً تتكشف فعاليته، إذا مورس كما ينبغي أن يمارس، في قوة تماهيه مع موضوعه، بما يمنحه إمكانية أن يكون منفصلاً ومتصلاً في آن واحد. إمكانية الانفصال تضع الموضوع في دائرة السؤال النقدي، ومعالجته نقدياً عبر المسافة المطلوبة في كل ممارسة نقدية حقيقية بين الباحث وموضوع البحث، وإمكانية الاتصال تجعل ذلك المنهج يقارب موضوعه وقد تشبع بالشبكة الداخلية للمفاهيم والمقولات الخاصة بذلك الموضوع، بما يعوّم كل التعارضات الخادعة التي تنتظم في الإطار العام الذي يتكون فيه الموضوع. كانت الميتافيزيقيا تصرُّ على اعتبار الوجود حضوراً متعالياً، وبمواجهة قلعة الميتافيزيقيا الحصينة ومقولاتها الراسخة استعان دريدا بمقولات القراءة والاختلاف والأثر، واستخدمها من أجل تبديد التمركز الدلالي حول العقل، وفيما كان الموروث الفلسفي ينتج الحقائق على أنها مستودع للحضور، ذهب دريدا، إلى أن التفسير ليس غايته تثبيت أوضاع قارة، إنما فتح الأفق أمام مزيد من الاحتمالات، وهذا يعني توسيع فضاءات التفسير والوصول به إلى مناطق لم تستكشف بعد(17).

    بحث دريدا في الحقول المعرفية التي رتبت أوضاعها في ضوء سلطة التمركز، وجعلها موضوعات للبحث، وفي الوقت الذي كشف فيه عن بؤر التمركز في تلك الحقول، عمل على نقد مظاهر التمركز فيها، وهنا اقتضاه الأمر مزيداً من الحفر في البنيات الداخلية لتلك الحقول من أجل حصر مظاهر التمركز أولاً، والعمل على هزّ البؤر المتمركزة ثانياً. ومن أبرز الحقول التي كانت ميداناً لتطبيقاته فكرة الوجود والمعرفة والجنس والتاريخ وغير ذلك. وقد عالجها مشخصاً في تضاعيفها كل ما يتصل بالتمركز الذي يمنح فكرة ما أولية وأسبقية على غيرها، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء جزء كبير من الفكرة التي ينبغي أن تتصف بالشمول. وأهم ما شخَّصه دريدا في هذا المضمار:

    1 الأولية الإبستمولوجية Epistemological primacy

    ويقصد بها دريدا عدّ العقل والإدراك الحسي مركزاً للحضور، وهذا وهم أشاعته فكرة التمركز. ذلك أن العقل والحس ليسا معطيين قارين قديمين إنما هما يتشكلان من خلال ارتباطهما بالحقيقة، فليس ثمة وعي قبلي، إنما هو نتاج يتولد من مقاربة الفكر للموضوع.

    2. الأولية التاريخية Chronological primacy.

    وفي هذه الأولية يعثر دريدا على أساس التمركز حول الصوت، فالتمركز هنا يعبر عن نفسه بواسطة النظم الميتافيزيقية استناداً إلى أن الزمن مطّرد في تقدمه من الماضي إلى المستقبل، وحينما نقّب دريدا في هذا الحقل الشامل المتصل بالزمن وجد أن التمركز يتجلى في ظواهر كثيرة يمكن هنا حصر ثلاث حالات هي: التمركز الذي أشاعته الميتافيزيقيا على اعتبار أن الروح ذات بعد مثالي، وأن تجسيداتها تتم من خلال زمنية الجسد وليس من بعدها المجرد وإن الأشكال المتعالية التي تفرزها الظواهر ثابتة وأبدية، وأخيراً أن كل مقولات المطلق بوصفه خالقاً ذات حضور دائم.

    3. الأولية الجنسية Sexual primacy

    وهنا يشخِّص دريدا موضوعاً غاية في الأهمية، وذلك بكشفه ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التمركز حول القضيب phallogocentric»، فقد رصد هيمنة الشخصية الذكورية وإقصاء الشخصية الأنثوية، وكان المعيار في الإقصاء أو التكريس من خلال منح «القضيب» قوة رمزية تمنح صاحبه الأفضلية، وعلى هذا دفعت الميتافيزيقيا الرجل/الذكر إلى واجهة الاهتمام بسبب امتلاكه هذا العضو، فيما أقصيت المرأة وجرى تغييب لدورها لافتقادها إلى ذلك العضو تحديداً. وهذه التمايزات المبنية على فكرة التفاوت والمفاضلة، أدت إلى إقصاء قطاع بشري كبير، طمست إمكانية ظهور العقل والثقافة فيه، وهذا فتح الأفق على دراسة النوع الاجتماعي Gender.

    4. الأولية الوجودية Antological primacy

    الفكرة التي تشكل لبّ هذه الأولية هي من أكثر الموضوعات التي أثارت اهتمام دريدا، وفي هذا الحقل تحديداً تميز نقده وتفكيكه. فالميتافيزيقيا الغربية ربطت بين الوجود والحضور، فالوجود ينطوي على إمكانية حضور متحققة في كل الظواهر والأشياء، ومع أنه يتعسر إدراك ذلك الحضور إلا أن وجوده وتجلياته جعل العالم مرهوناً بذلك الحضور. ولما كان فلاسفة الاغريق، وبخاصة أفلاطون الذي منح شرعية لمثل هذه الفكرة، حينما وصف الحقيقة بأنها حوار مع النفس، وأرسطو الذي اعتبرها تفكيراً ذاتياً، فإن الميتافيزيقيا اللاحقة لم تدقق في هذه المصادرة، فأصبحت هوية الوجود هي الحضور، ومن المعروف أن هذه القضية كانت من أبرز ما انصرف دريدا إلى نقده(1.

    احتل «العقل» في الميتافيزيقيا الغربية مكانة سامية، ولم يقف عند الحد المباشر لهذا المفهوم باعتباره آلة التفكير، إنما جاوزه إلى المدى الذي تحذّر منه المعرفة، وتحديداً إلى الارتفاع به إلى مفهوم تجريدي ينطوي على خبرة قبلية، وأنه القوة المنظمة للعالم، سواء كانت مفارقة له أو منبثّة فيه، وهكذا تنوعت المنظورات إليه، فقد نظر إليه بوصفه مبدأ، ثم بوصفه نظاماً متغلغلاً في الظواهر الكونية، ثم بوصفه خالقاً، وفي كل ذلك نظر إليه على أنه مفهوم يحكم العالم، وينبغي صوغ العالم على غرار معطياته الخالصة. وبهذا جعلت الممارسة الفكرية العقل هو المركز، وما العالم إلا تجليات من تجلياته اللانهائية، ودعمت الميتافيزيقيا الدينية هذا المفهوم، بإعطاء العقل بعده الإلهي، فدمجتْ فكرة «اللوغوس» و«الله». أو أنها طوَّرت ذاك إلى هذا. وتمركز التفكير كله حول قضية العقل، بحيث انحسر الاهتمام بالبعد الواقعي والفعلي للأشياء، وظل الفكر الغربي منذ بداياته الإغريقية يدفع إلى واجهة الاهتمام بهذا الموضوع، الأمر الذي أفضى إلى تمركز حول مفهوم العقل، جعل كثيراً من الفروض والإجراءات والنتائج المتصلة به على أنها حقائق ثابتة. وهذا الميدان المشبع بفكرة التمركز كان مثار اهتمام نقدي بدأه نتشه ومضى به هوسرل وهيدغر إلى مرحلة أخرى، ثم بلغ الاهتمام ذروته على يد دريدا الذي اشتق مفهوم «التمركز حول العقل» ليمارس به وفيه نقده القائم على قاعدة تفكيك النظم الداخلية للظواهر الفكرية الأمر الذي يفضي إلى انهيارها.

    3. الغراماتولوجيا ونقد التمركز حول الصوت

    اقتضت ممارسة دريدا النقدية أن يتوسع في نقده ليشمل ظاهرة التمركز في أكثر من ميدان، وإن كانت جميعها ترتبت في ضوء سلطة الميتافيزيقيا، وإذا كان التمركز حول العقل كان نتيجة للتمركز حول الصوت. فإنّ هذا إنما هو جانب من جوانب التمركز، فجانبه الآخر المتصل بموضوع التمركز هو الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة. وفي هذين الموضوعين المتداخلين نجد أنّ «الصوت» أو «الكلام» هو المرجّح وحوله يتمركز الفكر أو بسببه ينشأ. وإذا كان دريدا ركّب مصطلح Logocentrism لمعالجة موضوع التمركز حول العقل فإنه يستخدم مصطلح Grammatology ليستكشف به أبعاد التمركز حول الكلام. وهذا المصطلح الذي يمكن ترجمته بـ«علم الكتابة» ذو أصول إغريقية، وهو مهجَّن من اللفظ الذي يحيل على الحرف الذي هو نقش كتابي، والممارسة الكتابية بوصفها علماً، ومع أنّ هدف دريدا هو كشف جملة الممارسات الإقصائية التي تعرضت لها الكتابة في الفكر الغربي والإعلاء من شأن الكلام. فإنّ الوجه الآخر لذلك الهدف هو التفكير جدياً بضرورة قلب ذلك التصور الذي منح أفضلية للكلام على حساب الكتابة، ومنح الأخيرة دوراً فاعلاً في خارطة التعبير الفكري، منطلقاً من وجهة نظر ترى أنّ جميع خصائص الكتابة، مثل غياب المتكلّم وغياب وعيه، تغني المعنى، ويتقدم بفكرته المناقضة للموروث الميتافيزيقي وهي بدل تصوّر الكتابة على أنها مشتق طفيلي من الكلام، فإنّ الأمر الأكثر صواباً هو اعتبار الكلام مشتق من الكتابة، هنا يفترض دريدا وجود نموذج بدئي للكتابة تفرضه الضرورة. فالكتابة تقليد قديم يعبر عنه بصور حسية مرئية وصورية، ولا يمكن أن تخلو الطبيعة من ممارسة كتابة من نوع ما.

    ظهر اهتمام دريدا بهذا الموضوع في خضمّ العناية الحديثة بموضوع الكتابة وأصولها ووظائفها. وكان تودروف ذهب إلى أنّ لمصطلح الكتابة معنيين. فالمعنى المباشر، والضيّق يقصد منه «النظام المنقوش للغة المدوَّنة». أما الدلالة العامة فهي تحيل على «كل نظام مكاني ودلالي مرئي»(19). وهنا يتضح أنّ الدلالة العامة لا تقرن الكتابة أبداً بموضوع نقش اللغة أو تدوينها. إنها توسع الأفق الدلالي للمصطلح، فيشمل نظم التعبير المرئية باعتبار أنّ الكلام متصل بحاسة السمع، فيما الكتابة متصلة بحاسة البصر. فإذا أخذ هذا المعنى، فإن كل «أثر» مادي غير لفظي يندرج ضمن مفهوم الكتابة، ولا يخفى أنّ مفهوم «الأثر» له أهمية كبيرة في فكر دريدا. ولم يتردد في فهم موضوع الكتابة طبقاً لدلالته العامة، فدمج بسبب ذلك كثيراً من المعطيات المرئية والصورية الملازمة للإنسان في الطبيعة فجعل منها كتابة أولية تسبق الكلام لأنها تنتج نظاماً تعبيرياً لا يقوم في أسسه على الصوت. وينبغي التفريق بين الكلام واللغة والكتابة، وأن لا تصادر اللغة من أيٍّ من الكلام أو الكتابة، بوصفها نظاماً تعبيرياً دالاً بغضّ النظر عما إذا كانت تستعين بالكلام أو الكتابة. كان جوناثان كلر عرّف الكتابة بأنها الوسيلة التي تقدّم اللغة بوصفها سلسلة من العلامات المرئية التي تعمل في غياب المتكلّم(20). فهي على نقيض الكلام تتجسد عبر نظام مادي - مرئي من العلامات، فالكتابة لا تفترض حضوراً مباشراً للمتكلم، لأنّ العلامات المرئية المشكّلة على الورق أو غيره تختلف عن الأصوات المتناثرة في الهواء في أثناء التكلّم، فالأخيرة تختفي بانتهاء الحديث، ولا تمتلك خاصية البقاء إن لم تسجّل، وكل خصائص الديمومة والبقاء لصيقة الكتابة.

    عبّر الفلاسفة عن كرههم للكتابة بسبب خشيتهم من قوتها في تدمير الحقيقة الفلسفية التي يرون أنها حقيقة نفسية خالصة وشفافة، ولا يعبر عنها إلاّ بالحديث الذاتي أو الحديث المباشر مع الآخرين، ولما كانت الكتابة لا تذعن لهذا التصور. فهي تجسد الحقيقة بصورة مرئية، فقد ظهر وكأنها تختزلها إلى مرتبة أقل سموّاً مما هي عليه في النفس، ذهب تصوّر الفلسفة إلى أنّ تدوين «الحقيقة» بالكتابة هو تدنيس لها. وكان سقراط يرفض رفضاً باتاً - كما يروى عنه - أن تدوّن فلسفته، لأن الحقيقة فيها لا يمكن أن يحتويها جلد أو حجر بدل النفس الزكية الطاهرة، وجاراه أفلاطون في اعتبارها بمثابة دواء له من الضرر على الذاكرة أكثر مما له من الفائدة لأنه يقود إلى النسيان، وهو موضوع عالجناه بكثير من التفصيل في الكتاب الأول، ومن المفيد الوقوف على العلاقة الملتبسة بين الكلام والكتابة لدى نخبة من المفكرين الغربييّن، قبل المضي في نقد دريدا، لأنه على أساس تفكيك نظم التمركز حول الكلام لديهم تقدم هو بمشروعه المضاد، ولما كان دريدا نفسه قد اختار أفلاطون وروسو ودي سوسير بوصفهم نماذج تجلّت لديهم تلك الإشكالية، فمن اللازم الوقوف عليهم هم. لأنهم مدار البحث والنقد معاً.

    يرى أفلاطون في محاورة «فايدروس»(21) أنّ الكتابة تمارس خطراً على الذاكرة، فهي آفة لا يطمئن إليها، شأنها في ذلك شأن كل الآفات التي ينبغي الحذر منها، فإذا كان ثمة خطر يداهم الذاكرة فمصدره الكتابة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كان ثمة سبب ينشط الذاكرة ويقوّيها ويجعلها أكثر اتّقاداً في الاحتفاظ بالحقيقة فهو الكلام، ويُرجع ذلك التناقض بين وظيفة كل من الكتابة والكلام إلى كون الأولى غريبة عن النفس، فهي شيء طارئ وخارجي ومجرد اصطلاح تقني، فيما الكلام صادر عن النفس ذاتها باعتبارها مستوطنته الأصلية، فقدرته على التعبير عن الحقيقة، مبنية على قربه من مصدر الحقيقة. وبذلك فهو يحمل طابع الحيوية الذي تتصف به النفس، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة وميتة، ولاتصافهما بصفتي الحياة والموت، فإنّ الكلام له القدرة على التواصل مع الآخرين، والتعبير عما في النفس من حقائق لأن الحياة حاضرة فيه ومنبثة في تضاعيفه، فيما الكتابة آلة ميتة ومنقطعة عن النفس. الكلام وحده القادر على تداول الحقيقة والتفاعل معها، أما الكتابة فعاجزة عن كل هذا لأسباب كامنة فيها، أنها شيء لا حياة فيه. وبهذا فهي عاجزة عن الإفصاح عمّا تدّعي حمله، وتنطوي عليه، في حين أنّ الكلام هو وسيلة الإفصاح عمّا يريد الإفصاح عنه، إلى ذلك، فإنّ الكتابة تثبّت وضعاً جامداً للمعنى لأنها تقوم بذلك بمعزل عن النسق الحيوي الذي يفترضه الكلام المعبّر عن الحقيقة والذي يلزم حضور المتكلمين: المتحدّث والمتلقي، فضلاً عن ذلك فالكتابة بسبب قصورها أشبه بكائن أعمى، غير قادرة على التعرُّف إلى من توجه الحقيقة التي ينبغي أساساً أن تصدر عن نفس طاهرة، وتتجه إلى نفس مثيلة. أنّ الكتابة لا تراعي المقام ولا تؤكد على المقاصد، وتفتقر إلى البراهين الآنية والمتجددة التي يقتضيها سياق تداول الحقائق، إنها بالإجمال شيء ميت وجامد «غير إنساني» وهي تقارب ما تهدف إليه بطريقة خاطئة، لأنها تريد أن تظهر بطريقة متعسفة وقاصرة ما يوجد داخل العقل والنفس إلى الخارج دون الأخذ بالاعتبار أن ما تريد إخراجه لا يمكن يكون إلاّ في داخل العقل والنفس.

    النتيجة التي يرتبها أفلاطون على عجز الكتابة الدائم، هو أنها تتطفل على ميدان هو من اختصاص الكلام. وبذلك فمهما ادعت من قوة، فهي في المطاف الأخير محاكاة ميتة للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة. حيوية النفس المنطوية على الحقيقة السامية. والخلاصة التي يخلص إليها أفلاطون بصدد المقارنة/المفاضلة بين الكلام والكتابة هي: أنه إذا أمكن أن تقوم مقارنة بين الاثنين، فإنّ نتيجتها لا تختلف عن كل النتائج التي تقوم حينما تقارن بين شيء حي وشيء ميت. وفي ضوء هذه الخلاصة يقيم دريدا نقده للتصور الأفلاطوني، فيظهر أنّ أفلاطون أوجد تعارضاً لا مصالحة فيه بين الكتابة و«اللوغوس». تعارض دائم يماثل التعارض بين الشيء الظاهري والحقيقة الباطنية، وينبغي الحذر من الكتابة لأنها تخرّب النفوس، كما يخرّبها السفسطائيون. وهنا يقيم أفلاطون مقابلة بين ذاكرتين متصلتين بالكلام والكتابة. ذاكرة حسنة وذاكرة قبيحة، الذاكرة الأولى هي الذاكرة الحيّة لأنها تستمد نسغها من الداخل، من «اللوغوس» وشرعيتها متأتية من أنها تندرج في علاقة حضور مباشر مع الذات، وهذه الذاكرة تقع في تعارض مع ذاكرة خارجية ميتة، تحاكي المعرفة المطلقة، وتأخذ اسم الكتابة، ومن الأفضل الاستغناء عن هذه الذاكرة/الكتابة وعدم اللجوء إلى هذا(الفارماكون) الذي هو دواء في الظاهر، لكنه داء في الحقيقة، خطره يأتي من أنه سيؤدي إلى تعطيل فاعلية الكلام، وبذلك يقضي على الذاكرة الحسنة، ذاكرة الذات نفسها، لأنه يحجر على الذاكرة، ويسبب النسيان، فالكتابة إذن لا تحرك إلاّ الشر ولا تثير غيره(22). ويفهم تمييز دريدا بين الذاكرتين اللتين استخلصهما من خطاب أفلاطون استناداً إلى تصور أفلاطون أنّ «اللوغوس» باعتباره موطن الحقيقة ومصدرها وجامعها ما هو إلاّ «التعبير الشفهي الواضح عن الفكر بالأصوات المركبة من أفعال وأسماء بحيث يعكس هذا الإرسال الصوتي الفكر كما لو كان صورة منعكسة له في مرآة أو على صفحة الماء»(23).

    اطّرد التصور الأفلاطوني في ثنايا الفكر الغربي، ووجد له تعبيراً واضحاً في منظور روسو الذي ميّز بين نوعين من الكتابة: الكتابة الحسنة والكتابة القبيحة، فالأولى تتصل بعلم النفس الإلهي وتتصل بالروح والعقل، وهي كتابة بالمعنى المجازي، لأنها «القانون الطبيعي الذي ما زال منقوشاً على قلب الإنسان بأحرف لا تمّحى فمن هنا يقوم بالنداء عليه» هذه الكتابة عند روسو مقدسة. أما الثانية فهي الكتابة التمثيلية، وهي كتابة ساقطة وثانوية ومدانة حـسب منظور روسو(24). تترتب رؤية روسو الموضوع الكلام والكتابة ضمن تصوره الطبيعي القائل بأنّ أفضل شيء هو ما يساير نظام الطبيعة ويوافقه. وفيما يخص هذا الموضوع، يميّز روسو بين ثلاث درجات من التعبير هي على التعاقب: التعبير بالإشارة والتعبير بالكلام والتعبير بالكتابة، ويذهب إلى أنّ «أبلغ اللغات هي تلك التي الإشارة فيها قد قالت كل شيء قبل الكلام»(25). فالإشارة تزيد من دقة المحاكاة، أما الصوت فيقتصر دوره على إثارة الإهتمام، والحاجة هي أملتْ أول إشارة، أما الأهواء والعواطف فهي التي انتزعت أول صوت، ولهذا كانت اللغة المجازية أول ما تولّد، أما الدلالة الحقيقية فكانت آخر ما اهتُدي إليه، ومن ثمّ فإنّ الأشياء لم تُسمَّ باسمها الحقيقي إلاّ عندما تمت رؤيتها في شكلها الحقيقي، لم يتكلّم الناس إلاّ شعراً، ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلاّ بعد زمن طويل(26).

    يهتدي روسو في هذه النقطة بأرسطو في تأكيده الشائع: إنّ الأولين كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخيّل الشعري(27). ويمضي روسو في تفصيل هذه الفكرة مؤكداً أنه بقدر ما تنمو الحاجات، وتتعقّد الأعمال، بقدر ما تغيّر اللغة من طابعها، فتصبح أشد معقولية، وأقل عاطفية، وتعوّض المشاعر الأفكار، وتكف عن مخاطبة العقل، ومن ثمّ بالذات تنطفئ النبرة وتتعدد المقاطع، فتصير اللغة أشد ضبطاً ووضوحاً، ولكنَّها تصير أيضاً أفتر، وأصم وأبرد، ومع أنّ روسو يقول: «لا يتبع من الكتابة فن الكلام» إلاّ أنّ الكتابة وظيفياً تقوم بمهمة تتصل بالكلام، وهنا يفصح روسو عن وجهة نظره بالصورة الآتية: «إنّ الكتابة التي يبدو من مهامها تثبيت اللغة، هي عينها التي تغيّرها، فهي لا تغيّر الكلمات بل عبقريتها، أنها تعوّض التعبير بالدقة، فالمرء يؤدي مشاعره عندما يتكلّم وأفكاره عندما يكتب، فهو ملزم عند الكتابة بأن يحمل كل الألفاظ على معناها العام، ولكن الذي يتكلّم ينوّع من الدلالات بواسطة النبرات، ويعيّنها مثلما يحلو له، فما هو بمكتفٍ من تقلّص ما كان يعوقه عن وضوح العبارة، بل زاد ما يعطي متانتها، ولا يمكن للغة نكتبها قط أن تحتفظ طويلاً بحيوية تلك التي نتكلمها فقط، وإنما يكتب المرء التصويتات لا النغم غير أنّ النغم والنبرات ومختلف انعطافات الصوت في اللغة ذات النبر، هي التي تمنح التعبير أقصى ما له من الطاقة. وهي التي تقدر على تحويل الجملة من جملة شائعة الاستعمال إلى جملة لا تستقيم في غير الموضوع الذي هي فيه، أما الأسباب التي تتخذ للتعويض عن ذلك، فما هي إلاّ توسيع من مجال اللغة المكتوبة، وتمديد لها، وهي بانتقالها من الكتب إلى الخطاب تُشنّج الكلام عينه، إذا المرء أضحى كل شيء يقوله كما لو كان يكتبه، لم يغدُ إلاّ قارئاً يتكلم»(2 تؤدي اللغة عند روسو وظيفة «الرسم»، وبسبب الاختلافات تظهر ثلاثة

    أساليب للكتابة:

    الأسلوب الأول: يكون رسم الأشياء نفسها رسماً مباشراً مثلما يفعل المكسيكيون، أو رسماً غير مباشر كان يفعل المصريون قديماً، وتوافق هذه الحالة زمن اللغة العاطفية، وهي تفترض أنّ المجتمع وُجد بعدُ، كما تفترض أنّ الأهواء ولدت بعد بعض الحاجات.

    الأسلوب الثاني: يكون بتمثيل القضايا بأحرف اصطلاحية، وهو ما لا يمكن إنجازه إلاّ عندما يبلغ تكوين اللغة كماله، وعندما يتحدّث شعب برمته في ظل قوانين مشتركة: فقد توفّر بعدها هنا اصطلاح مضاعف: ذلك شأن الكتابة الصينيّة، وذلك هو بحق رسم الأصوات ومخاطبة العيون.

    الأسلوب الثالث: ويكون بتقطيع الصوت المتكلّم إلى عدد معين من الأجزاء الأساسية التصويتية أو التمفصلية، بحيث يمكن استخدامها في تركيب كل ما يمكن تخيّله من الكلمات والمقاطع. إنّ هذا الأسلوب هو أسلوبنا(الأسلوب الأوربي)، لا بد أنه قد تخيلته شعوب تشتغل بالتجارة، اضطرها كونها تسافر إلى عديد البلدان، وكونها ملزمة بالتكلّم بعدة لغات، إلى اختراع أحرف تكون مشتركة بين كل اللغات، ليس هذا رسماً للكلام، بل تقطيع له. وينتهي روسو إلى إقرار فكرة التمركز التي أشاعها منهج الوحدة والاستمرارية القائلة بأنّ اللغات تعبر عن طبائع الشعوب وأبنيتها الفكرية وهي «إنّ هذه الأساليب الثلاثة في الكتابة، توافق بمقدار من الدقة مختلف الحالات الثلاثة التي يمكن أن نعتبر عليها الأفراد المجتمعين ضمن أمة، فرسم الأشياء يناسب الشعوب المتوحشة، وعلامات الألفاظ والقضايا تناسب الشعوب الهمجية، والأبجدية تناسب الشعوب المدنية»(29).

    يقدّم روسو معطيات شاملة لدريدا، معطيات يشكّل وجهها الأول تأكيداً لما يريد دريدا إثباته، وهو وجود كتابة بدئية، ويشكّل وجهها الآخر مُستنداً حول المفاضلة بين الكلام والكتابة، والميل إلى الإعلاء من شأن الكلام، فمن الجهة الأولى يفضي بحث روسو إلى تأكيد «رسم» الأشياء نفسها. ورسم الأشياء هنا معناه إدراج الأشياء في سلسلة من الأشكال المرئية التي تحاكي تلك الأشكال لأنها تقوم على محاولة نسخها، وذلك قبل أن يكتشف الإنسان أمر التعبير عن تلك الأشياء بالألفاظ. ومن جهة أخرى، فإنّ المسخ الذي تمارسه الكتابة بحق الكلام، بوصفها مقيدة للألفاظ، يفقد الكلام الدفء والحرارة والمباشرة، لأنها تخضعه لنظام صارم دقيق يقصي احتمالات التنوع الدلالي الذي يفرضه سياق الكلام وحال المتكلّم، وكل هذه السمات الحيوية ستقوم الكتابة بطمسها وإقصائها، ولا يظلّ من الكلام إلاّ جانبه الأقل أهمية ذلك الذي يقرر الأشياء مباشرة بعيداً عن تموجات المقاصد الاحتمالية، إنّ الكتابة هنا تمارس قهراً بحق غزارة الكلام وتدفقاته الذاتية ونبراته المعبرة.

    هذا الأمر يستخدمه دريدا دليلاً على أنّ روسو ما زال ممتثلاً للتصور الأفلاطوني باعتبار أنّ الكتابة سياق غريب يقتحم، ويسبب ضرراً بالغاً لسياق وجد أصلاً للتعبير عن الحقيقة، وهو الكلام. ولكنّ «بول دي مان» يرى أنّ قراءة دريدا لروسو ملتبسة، لأنها قراءة احتجبت وراء شرّاح روسو، ولم تفلح في الوصول إلى روسو الحقيقي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ إدارج روسو، بوصفه أحد تجليات الفهم الشائع في الفكر الغربي لأفضلية الكلام على الكتابة، لا يخلو من نوع من التعسف، وحجة «دي مان» إنّ دريدا كان أنشأ هيكل فكرته حول التمركز سواء كان عقلياً أو صوتياً مع الأخذ بالاعتبار العلاقة بينهما، ثم أخذ روسو، فأدخله ضمن خلايا ذلك الهيكل، بنوع من عدم التبصّر، إنما بإيحاءات الشرّاح، وقراءة دريدا لروسو تختلف اختلافاً جذرياً عن التأويل التقليدي، كما يقرر دي مان، فإيمان روسو الرديء باللغة الأدبية، وهو سلوك يعتمده لشجب الكتابة على أنها إدمان خاطئ، هو عند دريدا ترجمة شخصيّة لمشكلة أكبر بكثير، بحيث لا يمكن ردّها إلى أسباب نفسيّة، ففي علاقة روسو بالكتابة، لم يكن محكوماً بحاجاته ورغباته، بل بتقليد يسيطر على الفكر الغربي كله، وهو مفهوم السلبيّة(اللاوجود)بوصفه غياباً، وبالتالي إمكان تملك أو إعادة تملّك الوجود(بصورة حقيقية أو مصداقية أو طبيعية...الخ) بوصفه حضوراً، وهذا الافتراض الوجودي يشترط ويعتمد أيضاً على مفهوم معين للغة يفضّل اللغة الشفاهية أو الصوت، على اللغة المكتوبة أو الكتابة، من خلال مفهومي الحضور والمسافة: حضور الذات البديهي المباشر أمام صوتها الخاص، في مقابل المسافة التأملية التي تفصل الذات عن الكلمة المكتوبة، روسو إذن، حلقة في سلسلة تختتم الحقبة التاريخية للميتافيزيقيا الغربية، لذلك فإنّ موقفه من اللغة لا يتميز بخصوصية نفسية، بل يمثل مقدمة فلسفية جذرية ونموذجية في هذا الفكر، ويتناول دريدا روسو جذرياً بوصفه مفكراً، ولا يستبعد أياً من تعبيراته، فإذا تعرّض روسو لتهمة، أو بدا إنه تعرض لها، فذلك لأن كامل الفلسفة الغربية تتسم بإمكان اتهام ذاتها من خلال أنطولوجيا الحضور، ويكفي هذا لاستبعاد أية فكرة عن التفوّق من جانب دريدا، في الأقل بالمعنى الشخصي للكلمة. إنّ تأكيد روسو أسبقية الصوت على الكلمة المكتوبة، وتمسكه بأسطورة البراءة الأصلية، وتفضيله الحضور المباشر على التأمل، كل هذه الحقائق تمكِّن دريدا أن يستمدها بصورة مشروعة من تراث طويل لمؤوّلي روسو(30).

    يقوم دي مان بتفكيك خطاب دريدا حول روسو، متوصلاً إلى أنّ مصطلحاته التي استعملها في تفكيك قضية الحضور الصوتي عند روسو، وعلاقتها بالمعنى الضمني، لم تستطع أن تتقدم خطوة إلى الأمام في إضاءة هذا الموضوع، لأن بناء نص روسو من خلال نظام الحضور ـ الغياب يترك النظام الإداركي للمعرفة المقصودة في مقابل المعرفة السلبية بلا حلّ، ويقسمه بينهما بالتساوي، فجهاز دريدا الاصطلاحي المستعمل في نقده لروسو، بما يشوبه من ارتباك، لا يفلح في تجاوز تناقضاته، إن لم يستترْ بها، الأمر الذي أدى إلى أنّ دريدا في نظرته للكتابة، يماثل روسو في مفهومه عن الطبيعة المجازية للغة الانفعال، فكلاهما يقول الشيء ذاته، ويعزو دي مان ذلك الخطأ الذي وقع فيه دريدا إلى واحد من سببين: فأمّا إساءة قراءة روسو فعلاً، لأنه قاربه عبر مؤوّليه، الأمر الذي يعني أن تلك القراءة كانت تنصبّ على أولئك المؤوّلين أكثر مما تتجه إلى روسو، أو لأنه وقع في إساءة قراءة من نوع أخر، هي إساءة قراءة متعمّدة غايتها بيان بلاغته هو(31).

    فيما يخص دي سوسير فإنّ دريدا يعتقد أنه جارى أفلاطون وروسو في فهمه للكتابة وفي الحكم عليها، فقد اعتبرها قاصرة ومشتقة، فاللغة والكتابة هما نسقان لعلامات متباينة، والمبرر الوحيد لوجود الثانية هو تمثيل الأولى(32). والحقيقة فإن سوسير يذهب فعلاً إلى التمييز بين نظامين متباينين من أنظمة الدلائل وهما اللغة والكتابة، «وانه لا مبرر لوجود الكتابة سوى تمثيل اللغة، ذلك أنّ موضوع الألسنية لا يتحدد في كونه نتيجة الجمع بين صورة الكلمة مكتوبة وصورتها منطوقة، بل ينحصر هذا الموضوع في الكلمة المنطوقة فقط، لأن الكلمة المكتوبة ما هي إلاّ صورة الكلمة المنطوقة، تمتزج وإياها امتزاجاً عميقاً ينتهي بها إلى اغتصاب الدور الأساسي حتى أنّ الأمر يؤول بالناس إلى أن يعيروا صورة الدليل الصوتي في الخط أهمية تساوي، بل تفوق، أهمية الدليل نفسه. ومثلهم في ذلك كمثل المرء يريد معرفة أحد الأشخاص فيتصوّر أن أفضل طريقة هي أن ينظر إلى صورته الفوتغرافية بدل النظر إلى وجهه»(33). وينتهي إلى تثبيت النتيجة الآتية: «إنّ الكتابة تقيم بيننا وبين اللغة حجاباً يمنعنا من رؤيتها كما هي، وذلك أنّ الكتابة ليست ثوباً عادياً تلبسه اللغة بل قناع/خدّاع تتنـكّر فيه»(34).

    تبدو حالة دي سوسير قريبة الشبه من حالة روسو في بعض الوجوه، فكما أنّ دريدا عثر في خطاب روسو على تأصيل لفكرته بصدد الكتابة البدئية وعلى ممارسة متمركزة حول الكلام، فإنه في حالة سوسير يجد شيئاً يمكن الإفادة منه على مستويين، فمن جهة أولى وجد دريدا في سوسير ناقداً قوياً لميتافيزيقيا الحضور التي عبرت عن نفسها من خلال قضية التمركز حول العقل، ولكنه، من جهة ثانية وجد أن سوسير يؤكد هذه النزعة في خطابه، بل انه يرتب رؤيته ضمن أطرها العامة. فسوسير - فيما يخص الوجه الأول - يعرف اللغة بأنها نظام رمزي، والأصوات لا تعدّ لغة إلاّ إذا نقلت الأفكار أو عبرت عنها، ومعنى هذا أنّ المسألة الجوهرية عنده هي طبيعية الرمز اللغوي، ما الذي يعطي الرمز هويته؟ وهنا يبرهن سوسير أنّ الرموز تعسفية العُرف، فالرمز لا تحدده صفة جوهرية فيه بل الاختلافات التي تميِّزه عن سواه من الرموز، وعلى هذا فالرمز وحدة علائقية خالصة، واللغة ليس فيها صفات قائمة بذاتها بل اختلافات فقط، وهذا مبدأ يختلف تمام الاختلاف عن التصور الذي تقول به الميتافيزيقيا سواء في أمر التمركز حول العقل أو الحضور. لأنه ليس ثمة من كلمات في النظام لها حضور بسيط مكتمل، بسبب أن الاختلافات لا يمكن أن تكون حاضرة، كما أنّ ظهور الهوية يتحدد من خلال الغياب وليس الحضور، وهذا يعني أنّ الهوية هي حجر الزاوية في أية ميتافيزيقيا خالصة. لكنّ فكرة سوسير هذه، كما يستنتج دريدا، هي – وهذا ما يخص الوجه الثاني – في الوقت نفسه تأكيد قوي لنزعة التمركز حول العقل، ويتجلى ذلك من معالجة سوسير لموضوع الكتابة التي يعطيها مكانة ثانوية بالمقارنة مع الكلام، ويجعلها تستمد هذه المكانة من غيرها، فهدف التحليل اللغوي عنده ليس الأشكال المكتوبة والمنطوقة من الكلمات، بل الأشكال المنطوقة فقط، فما الكتابة إلاّ وسيلة لتمثيل الكلام، وسيلة تقنية، واسطة خارجية، ولهذا فلا حاجة لأخذها بنظر الاعتبار عند دراسة اللغة، وقد تبدو هذه واسطة غير مباشرة لتمثيل المعاني في أصوات، فالمتكلم والمستمع حاضران كل منهما للآخر، وتنطلق الكلمات من المتكلِّم باعتبارها رموزاً عفوية وشفافة في التعبير عن الفكرة التي يمكن للمستمع أن يفهمها. أما الكتابة فتتكون من علامات مادية منفصلة عن الفكر الذي أنتجها، وهي في العادة تؤدي وظيفتها في غياب المتكلم أوالمستمع، الكتابة حسب التصور الموروث ليس لها القدرة المؤكدة على استكشاف أفكار الكاتب، وهي يمكن أن تظهر غفلاً من اسم مؤلفها، أو غفلاً من أي علاقة أخرى، ولذا فإنها لا تبدو مجرد وسيلة من وسائل تمثيل الكلام، بل تبدو تشويهاً أو تحريفاً للكلام. يظهر أن سوسير لم يخف انزعاجه من الخطر الذي تمارسه الكتابة بحقِّ الكلام، أشار إلى أنّ الكتابة تخفي اللغة، أو تحجبها، وأحياناً تغتصب دور الكلام، و«طغيان الكتابة» قوي ومدّمر فهو يؤدي إلى أخطاء في التلفظ يمكن وصفها بالمرضية، وهذا يعني أنها تمارس إفساداً في الأشكال المحكية الطبيعية. الكتابة التي يفترض أن تكون وسيلة لخدمة الكلام، تهدد بتلويث صفاء النظام الذي تخدمه(35).

    توصل دريدا إلى استخلاص هذه النتائج، وتبيّن له أن الفكر الغربي عموماً أسس علاقة غير متكافئة بين الكلام والكتابة، علاقة محكومة بالعنف، ففيما يتقدم الكلام، ويمنح شرعية مطلقة في التعبير عن الحقيقة، تقصى الكتابة إلى الخلف، وتعتبر نوعاً من «الترياق» الذي لا يؤتمن جانبه تماماً، وفيما أكَّد موروث الميتافيزيقيا على جعل الكتابة تابعة للكلام، ومكملة له، ذهب دريدا إلى أنها موازية له؛ بل وسابقة عليه. فالكتابة تتجاوز النطق لأنها تتولد عن النص، وإذا أخذ بالاعتبار واقع العلاقة الحقيقية بين الكتابة واللغة، تظهر أسبقية الأولى، لأنها تستوعب اللغة فتظهر بوصفها خلفية لها بدلاً من كونها إفصاحاً ثانوياً متأخراً، وطبقاً لهذه العلاقة، لا تعد الكتابة وعاء لشحن وحدات معدة سلفاً، إنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات وابتكارها. وهنا يظهر نوعان من الكتابة: كتابة تتكئ على الـ "Logocentrism" وهي تستخدم الكلمة بوصفها أداة صوتية أبجدية خطية، وهدفها توصيل الكلمة المنطوقة. وكتابة تعتمد على الـ "Grammatology" وهي الكتابة التي تعد بمثابة النظام الذي يؤسس العملية الأولية التي تنتج اللغة، الكتابة بهذا المعنى ضد النطق، وفيها تتجلى عدمية الصوت، وليس للوجود أن يتولد عندئذٍ من الكتابة، هذا الضرب من الكتابة هو ولوج إلى لغة «الاختلاف»، وانبثاق من الصمت، ونوع من انفجار السكون(36).

    يوظف دريدا امكاناته لتنظيم عمل «الغراماتولوجيا - علم الكتابة» سعياً وراء منح الكتابة دوراً جديداً وخلاقاً، فهو يرى أنّ الكتابة هي أصل كل الأنشطة الثقافية(37) وعلى هذا فإنّ فعل الكتابة غير مرتبط بغائية قبلية، إنما هو يوقظ معنى تلك الغائية، أنه انقطاع عن وسط التاريخ التجريبي وصولاً إلى تحقيق وفاق مع الجوهر المغيّب للتجريبية والتاريخية المجردة. أنه ليس رغبة محض، فذلك الفعل لا يتحدد بعاطفة بل بحرية وواجب. فعالية الكتابة في علاقتها بالوجود تطمح إلى أن تكون الممر الوحيد لإقصاء العاطفة، على الرغم من المخاطر المحتملة بسبب عملية الإقصاء هذه التي قد يكون لها تأثير مباشر في الإنسان. الكتابة ستكون وسيلة يحقق بها الإنسان تناهيه وغايته حين يريد الانفصال عما هو موجود(3. دريدا يؤكد أنه لا يمكن الاستغناء عن الكتابة تحت أي ظرف، ذلك أنه لا يمكن تصور وجود مجتمع دون كتابة.

    يظهر «علم الكتابة» الذي يدعو إليه دريدا، على خلفية من نشاط البحث اللساني - السيمائي. وهو يطمح إلى أن تحل «الغراماتولوجيا» محل «السيميولوجيا» التي طرحها سوسير، لأن الأخيرة تتضمن شحنة من التمركز الموروث. فيما هو يريد من «علم الكتابة» أن يتجاوز هذه النزعة، ويتحرر من استراتيجية الأحكام الاقصائية التي تغلغلت في السيميولوجيا، وذلك باستخدام مفهوم «الأثر» بدل مفهوم «العلامة». ومن هنا فهو لا يريد أن يسبغ على «علم الكتابة» أية مسحة علمية موضوعية وصفية، ومع أنّ هذا المفهوم سيوظف في تفكيك المفاهيم المعيارية للغة المنطق، لكن دريدا يطمح في أن يوظفه في تقيد المفاهيم المعيارية للحقيقة، وفي تجريد المتيافيزيقيا من وسائلها، وفي مقدمة ذلك المقولات الشائعة والموروثة عن الحقيقة الكامنة في الخطاب الفلسفي الذي يشرحها، وبما أنّ المرجع مقرر سلفاً بالنسبة للحقيقة فإنه ينبغي أن يظهر في هذا المفهوم على أنه اختلاف متواصل للدوال. وهنا يقدم «علم الكتابة» أولى فروضه الجديدة وهي عدم وجود شيء قبل اللغة أو بعدها، فالمفاهيم الميتافيزيقية مثل الحقيقة والعقل إنما هي من نتاج المجاز والاستعارة، وهذه الخلاصة توافق ما كان نتشه قد قرره من أن الحقيقة وهم(39). وعلى هذا فإنّ الكتابة بالنسبة لدريدا تقود إلى مزيد من الكتابة إلى ما لا نهاية(40).
    يطمح مفهوم «علم الكتابة» كما يمارس في منهجية التفكيك، أن ينجز مهمة استئناف النظر مجدداً في دور الكتابة طبقاً لنظرة جديدة مغايرة لما كان شائعاً من قبل، ذلك أنّ الميتافيزيقيا الغربية طمست أهمية الكتابة، وأعادت بناء التصور حولها بما يجعلها غطاء للكلام المنطوق فحسب، فيما يريد دريدا لها أن تكون كياناً خاصاً ومتميزاً، فلا يمكن لها أن تظل حبيسة علاقة تبعية قررتها الميتافيزيقيا. فهي في مفهومها الجديد لا تعيد إنتاج واقع خارج عنها، ولا تختزله، وفي ضوء هذا يمكن التعامل معها بوصفها علة في ظهور واقع جديد إلى الوجود(41). يعطي دريدا للكتابة الخصائص الثلاث الآتية:

    1. الإشارة المكتوبة هي علامة يمكن تكرارها ليس فقط بغياب الذات التي تطلقها في سياق معين، بل أيضاً لمتلق معين.

    2. الإشارة المكتوبة يمكن أن تخترق «سياقها الواقعي» وأن تُقرأ في سياق مختلف بغض النظر عمّا نواه كاتبها منها. ويمكن لخطاب في سياق آخر أن «يطعّم» بسلسلة من الإشارات. كما هو الأمر في حالة التضمين.

    3. الإشارة المكتوبة عرضة للانزواء بمعنيين: الأول أنها منفصلة عن بقية الإشارات في سلسلة معينة، والثاني، أنها منفصلة عن «الإحالة الحاضرة» أي أنها تشير إلى شيء لا يمكن أن يكون حاضراً فيها واقعياً(42).

    بدأ مشروع دريدا النقدي ضد المركزية من دعوة الاختلاف لأنه وجد أنّ الفكر الغربي يقول دائماً بالمماثلة، ثم كشف أنّ المماثلة، إنما هي من نتاج الميتافيزيقيا التي أقصت كل شيء إلاّ ما يتصل بالعقل، فتمركزت الرؤى والتصورات حول هذه الركيزة - المفهوم، وحينما حفر في ظروف نشأة التمركز العقلي وطبيعته، وجد أنّ الأمر تم بناء على تمركز آخر هو التمركز حول الصوت أو الكلام. وهكذا بدت هذه الظواهر متشابكة ومتداخلة، وكل واحدة منها تغذِّي غيرها بالقوة والصلابة. وجاء طرح مفهوم «علم الكتابة» ليمتص شحنة التمركز من بين ثنايا تلك الظواهر. والدعوة إلى خطاب لا تمركز فيه، يكون سبباً أو نتيجة لممارسة خالية من نزعة التمركز.


    [ ملاحظة: هذا هو نص الفصل السادس من كتاب الدكتور عبدالله إبراهيم" المركزية الغربية" الذي صدرت طبعته الأولى عن المركز الثقافي في بيروت عام 1997 وطبعته الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 2003]

    الهوامش
    (1) Jacques derrida, writing and difference,(U. S. A: The university of chicago press, 197 , p. 8.
    (2) Vincent Leitch, Deconstructive Criticism(New York: Columbia university Press, 1983) , p. 26.
    Derrida, p. 6.(3)
    (4) Leitch, p. 42.
    (5) Richard Kearny, Modern Movments in European philosophy(Grent Britain, Manchester university press, 1986) p. 121.
    Derrida, p. 28.(6)
    (7) Chrestopher Norris, deconstruction: Theory and practice,(London, New York, Methuen. 1982) p. 18.
    ( مارتن هيدجر، التقنية-الحقيقة -الوجود، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح(بيروت:المركز الثقافي العربي،
    1995)، ص 204 و 89.
    (9) مارتن هيدغر، مبدأ العلّة، ترجمة نظير جاهل(بيروت:المؤسسة الجامعية، 1991) ص72 و77 و102.
    (10) جون ستروك(=محرر) البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا، ترجمة محمد عصفور(الكويت: عالم
    المعرفة، 1996)، ص 207 و215.
    (11) سارة كوفمان وروجي لابورت، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي(الدار
    البيضاء: دار إفريقيا الشرق، 1991)، ص 14.
    (12) ستروك ص 11.
    (13) Kearny, p. 120.
    (14) رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد الغانمي(بيروت:المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
    1996) ص 130.
    (15) محمد علي الكردي، مفهوم الكتابة عند جاك دريدا:الكتابة والتفكيك، مجلة فصول(القاهرة:الهيئة المصرية العامة
    للكتاب، ع 2 لسنة 1995)، ص 231.
    (16) وليم راي، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية، ترجمة يوئيل عزيز يوسف(بغداد:دار المأمون، 198، ص 162.
    Leitch, p. 44.(17)
    (Kearny, p. 122.(1
    (19) Oswald, Todorov, Encyclopedic Dictionary of Sciences of Language(London, Jhon Hopkins university, 1979) p. 193.
    (20) Jonathan Culler, on Deconstruction New York; cornell university press, 1986) p. 19.
    (21) أفلاطون، فايدروس، ترجمة أميرة حلمي مطر(القاهرة: دار الثقافة، 1980)، ص 123 - 128.
    (22) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 18.
    (23) أفلاطون، ثياتيتوس، ترجمة أميرة حلمي مطر(القاهرة:الهيئة المصرية للكتاب، 1973) ص 157.
    (24) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 19.
    (25) جان جاك روسو، محاولة في أصل اللغات، ترجمة محمد محجوب(بغداد:دار الشؤون الثقافية، 1986) ص 29.
    (26) م. ن. ص 35.
    (27) أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي(بيروت:دار الثقافة، 1973) ص 179.
    (2 روسو ص 44 - 45.
    (29) م. ن. ص 41.
    (30) بول دي مان، العمى والبصيرة، ترجمة سعيد الغانمي(أبو ظبي، المجمع الثقافي، 1995) ص 186.
    (31) م. ن. ص 215.
    (32) سارة كوفمان وروجي لابورت، ص 19.
    (33) فردينان دي سوسير، دروس في الألسنية العامة، تعريب صالح القرمادي، محمد الشاوش، محمد عجينة(طرابلس:
    الدار العربية للكتاب، 1995)، ص 49.
    (34) م. ن. ص 56.
    (35) ستروك ص 221 - 222.
    (36) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير:من البنيوية إلى التشريحية(جدة:النادي الثقافي، 1985)، ص 53.
    (37) Norris. p. 32.
    (3 عبد الله إبراهيم، التفكيك:الأصول والمقولات(الدار البيضاء:دار عيون، 1990) ص 79.
    (39) Kearny, p. 120.
    (40) Culler, p. 90.
    (41) ترنس هوكز، البنيوية وعلم الإشارة، ترجمة مجيد الماشطة(بغداد:دارالشؤون الثقافية العامة، 1986) ص138.
    (42) رامان سلدن ص 133.
                  

10-14-2004, 03:16 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)



    القراءة: البنيوية في طورها الفرنسي
    اسم الكاتب : ليونارد جاكسون التاريخ: 1422

    --------------------------------------------------------------------------------
    البنيوية في طورها الفرنسي: الانهيار ليفي شتراوس، لاكان، ألتوسر، فوكو، ديريدا:كيف عدّلت المثالية الفرنسية كلاً من سوسور وفرويد وماركس - تأليف ليونارد جاكسون

    ت : الدكتور ثائر ديب

    يبدأ الطور الفرنسي للبنيوية في الأربعينيات مع تكييف ليفي شتراوس أعمال جاكوبسون بحيث تتوافق مع الأنثروبولوجيا، وربما مع تكييف لاكان بعض المصطلحات السوسورية في الخمسينيات بحيث تتوافق مع طبعته الخاصة من التحليل النفسي. وقد بلغ هذا الطور ذروته في أوائل الستينيات وكان آنئذ ضرباً من الجنون الفكري طغى على كلّ المباحث التي أمكنه أن يطالها من التاريخ حتى الرياضيات؛ جنونٌ يصعب إيجازه هنا (أو ربما في أيّ مكان آخر). أمّا العناصر الألسنية في هذا الطور فلم تكن في الغالب أكثر من نثار متفرّق من الرطانة (انظر بياجيه 196. في حين تمثّل الحدث اللافت بالنسبة للنظرية الأدبية في محاولة التوليف بين النموذج الألسني وفلسفة الذات الإنسانية التي عُرِفَت في فرنسا، حيث تمّ تفسير العقل والمجتمع بوصفهما أثرين لبنىً، ألسنيةٍ في الغالب. كما شهدت هذه الفترة إعادة تصوّر سوسور بوصفه فيلسوفاً. وحوالي عام 1967، كان انهيار المشروع البنيوي، بتأثير لاكان، وديريدا، وغيرهما، وبتأثير الأحداث السياسية، ليعقب هذا المشروع تشكيلة متنوعة من ما بعد البنيويات التي انتشرت في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا.‏

    1-البنيوي الفرنسي الأول: كلود ليفي شتراوس‏

    1-1إلهام الأ لسنية البنيوية‏

    كان كلود ليفي شتراوس واحداً من أعضاء الهيئة التعليمية الذين تابعوا محاضرات جاكوبسون في نيويورك. وكان ليفي شتراوس فيلسوفاً في السابق، أمّا في حينها فكان أنثروبولوجياً، وسوف يعود نوعاً من الفيلسوف مرّة أخرى (كما سنرى). والحقيقة أنّ ليفي شتراوس كان يرتجي من حضوره تلك المحاضرات غايةً عمليةً إلى حدٍّ بعيد، غير أنّ ما تلقّاه لم يكن سوى ضربٍ من الرؤيا الفكرية:‏

    لم أزل مدركاً بشدّة تلك الصعوبة التي واجهتني، نظراً لعدم خبرتي،طوال ثلاث سنين أو أربع لدى محاولتي إيجاد ترميز مرضٍ أسجّل به لغات وسط البرازيل فمنّيت نفسي بأن أحصل من جاكوبسون على الأوّليات التي أفتقر إليها. غير أنّ ما تلقيته من دروسه كان في الواقع شيئاً مختلفاً تماماً، وأكاد لا أحتاج أن أقول إنه كان شيئاً أكثر أهمية بكثير، ألا وهو إلهام الألسنية البنيوية، الذي مكّنني لاحقاً من أن أبلور في مجموعة من الأفكار المتماسكة رؤىً ألهمني إيّاها تأمّل الزهور البرّية في مكان قرب حدود اللوكسمبورغ في أوائل أيار عام 1940...‏

    وكذلك بعض المسائل التقنية التي أثارتها معالجة مارسيل غرانيه لإثنوغرافيا الصين القديمة ممّا كان يشغله في ذلك الوقت (يضيف ليفي شتراوس في عودةٍ محسوبةٍ إلى التجريبي)، (انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى، 1976؛ ص ص ii-xi).‏

    إنّ ما يتمّ التشديد عليه هنا هو تلك القوة الملهمة التي تنطوي عليها رؤيا الترتيب والنظام الفكريين التي توفرّها الألسنية. والحقيقة أنّ هذا الإلهام، وليس أيّ تطبيق فعلي للنموذج الألسني أو أيّة نتائج كبرى ناجمة عنه، هو ما شكّل القوة الدافعة الأساسية للبنيوية القائمة على الألسنية في طورها الثالث؛ طور الطموح الفكري الشامل، وطور الطريقة الدينية في الستينيات. ومع أنّ هذه الرؤيا كانت في البداية علميّةً، مهما يكن من أمرها، إلا أنّ ما بقي لاحقاً، كما سنرى، هو الرؤيا وحدها، في حين راح العلم ينكمش، ويتضاءل مفسحاً المجال للشعرية الأسطورية كي تتغلّب وتسيطر.‏

    لقد كان ليفي شتراوس في هذه المرحلة شديد التأثّر بالألسنية التي تعلّمها من محاضرات جاكوبسون ثمّ أتبعها بقراءة مكثّفة. وهو يبيّن في تقديمه لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى ما أخذه من هذه المحاضرات. كما أنّ الفصول الأربعة الأولى من المجلد الأول لكتاب ليفي شتراوس الأنثروبولوجيا البنيوية هي مقالات تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات (وكانت إحداها، "التحليل البنيويّ في الألسنية والأنثروبولوجيا"، قد نشرت من قبل في المجلة الألسنية، word، عام 1945). وتقوم هذه المقالات بعملية سبر لاستخدام النماذج الألسنية في الأنثروبولوجيا، وتنطوي على تحليل رفيع ومتكلّف يتطلّع إلى ماهو أبعد من مجرد استيراد التقنيات الألسنية لتحليل مكوّنات مصطلحات القرابة، كما يبحث عن نمط من التأثّر أعمق بكثير.‏

    وما أثار اهتمام ليفي شتراوس في الأربعينيات وخلّف لديه أثراً عميقاً هو الصرامة العلمية التي اتّسمت بها الألسنية ونجاحاتها التفسيرية. يقول:‏

    إننا نجد أنفسنا نحن الأنثروبولوجيين في وضعٍ حرجٍ بإزاء الألسنيين. فقد اشتغلنا معهم طوال سنوات عديدة، جنباً إلى جنب، ثم بدا لنا فجأةً أن الألسنيين أخذوا يتملّصون منا، فرأيناهم يتنقلّون إلى الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصل العلوم الدقيقة والطبيعية عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي اعتقدنا زماناً طويلاً أن عبوره أمر متعذّر. وكما لو أنهم أرادوا نكايتنا، فقد راحوا ينكبّون على العمل بتلك الصورة الصارمة الحازمة التي كنّا قد استسلمنا لأمر اعتقادنا بأنها من شيم العلوم الطبيعية وحدها. فكان أن ألمّ بنا من جهتنا شيء من الحزن، كما انتابنا - ولنعترف بذلك- كثير من الحسد. إننا نريد أن نتعلّم من الألسنيين سرّ نجاحهم. ألا يسعنا نحن أيضاً أن نطبّق على هذا الحقل المعقّد الذي تدور فيه أبحاثنا -القرابة، التنظيم الاجتماعي، الدين، الفولكلور، الفن - تلك المناهج الصارمة التي تبرهن الألسنية كلّ يوم عن فعاليتها؟‏

    (من مقالة مكتوبة1952 وتشكّل الفصل الرابع من الأنثروبولوجيا البنيوية، انظر ص 69).‏

    ثمّة مقاطع كثيرة من هذا النمط في أعمال ليفي شتراوس الباكرة، وهي تكشف عن الباعث الأساسي الذي يقف خلف الحركة البنيوية الفرنسية الأصلية. وهذا الباعث هو الأمل بجعل العلوم الإنسانية علميةً، في عصر كان لا يزال ينظر إلى التقدّم العلمي كواحد من الأشياء القليلة المرغوبة على نحوٍ لا يطاله الشكّ. ولقد دام هذا الأمل، وما صاحبه من تفاؤل شديد، حتى الستينيات، لتعقبه بعد ذلك موجة من الشعور المناهض للعلم؛ شعورٌ لا يقتصر على استحالة إضفاء الطابع العلمي على العلوم الإنسانية، بل يتعدّاه إلى عدم الرغبة بأن تكون هذه العلوم علميةً. والحقّ أنّ اسم "ما بعد البنيوية" الذي أطلقته الصحافة، لا ينطبق على شيء بقدر ما ينطبق على النتاج الفكري الذي قدّمته هذه الموجة من الشعور المناهض للعلم، بل المناهض للعقلانية باعتقادي، والتي لا تزال مستمرةً إلى اليوم.‏

    ومع أنّ ليفي شتراوس لم يكن أبداً ما بعد بنيويّ، إلاّ أنه انتهى هو أيضاً إلى التخفّف من مزاعمه العلمية بصورة تكاد أن تكون خفيّة بعض الشيء. ففي السبعينيات صار يعتبر أنّ الدراسة الوصفيّة للأسطورة هي ضربٌ من بناء أسطورة عن الأسطورة؛ تماماً كما تعتبر ما بعد البنيوية أنّ "النظرية الأدبية" هي بمثابة شكل أدبيّ عن الأدب لا مجموعة من التفسيرات التي يكمن إخضاعها للاختبار التجريبيّ. والحقيقة أننا نجد في مقدمة المجلد الثاني من الأنثروبولوجيا البنيوية، والذي نشر بعد خمسة عشر عاماً على نشر المجلد الأول وبعد واحد وعشرين عاماً على نشر المقالة التي اقتطفنا منها منذ قليل، نبرةً مختلفةً تماماً عمّا وجدناه من قبل:‏

    بل ويمكن أن نتساءل ما إذا كان يمكن لمعيار "قابلية النقض" هذا أن ينطبق حقّاً على العلوم الإنسانية. فالمكانة الإبستمولوجية لهذه العلوم ليست أبداً كتلك التي يمكن للعلوم الفيزيقية والطبيعية أنّ تدّعيها لنفسها. فهذه الأخيرة تتّصف بنوع من الانسجام أو التناغم لطالما فرض سلطانه في كلّ وقت بين أولئك الذين يمارسونها على مستوى يُعَدَّ ذا صلة بحالة البحث المعاصرة، في حين أن حال العلوم الإنسانية ليس كهذا الحال أبداً. فهنا لا نجد إلا القليل من النقاش، إن وجدنا، بخصوص شرعيّة هذه الفرضيات أو تلك. فالنقاش متركّز بدلاً من ذلك على اختيار مستوىً معين للمرجع الذي تحيل إليه هذه الفرضية، وليس مستوىً آخر قد يحبّذه الخصم.‏

    إنه لمن الاستثنائي بالنسبة للأنثروبولوجيين البنيويين أن يُقَال لهم: "إنّ تأويلكم لهذه الظاهرة أو هذه المجموعة من الظواهر ليس بالتأويل الذي يحسب حساب الوقائع على أفضل وجه". وإنّما يُقال لهم بدلاً من ذلك "إنّ الطريقة التي تفككون بها الظواهر ليست بالطريقة التي تثير اهتمامنا؛ وإننا لنختار أن نفككها بطريقة أخرى". إنّ موضوع العلوم الإنسانية هو الإنسان، إلاّ أنّ الإنسان الذي يدرس نفسه وهو يمارس العلوم الإنسانية لابدّ أن يترك لأفضلياته وتحيّزاته أن تتدخّل في الطريقة التي يعرّف بها نفسه لنفسه. وما يثير في الإنسان ويلفت الانتباه لا يخضع لقرار علميّ بل ينتج وسيظل ينتج من خيار له ترتيبه الفلسفي في جوهر الأمر.‏

    ولذا فإنّ علينا أن ندرك أنّ فرضيات العلوم الإنسانية لا يمكن نقضها، لا الآن ولا في أي حين آخر.‏

    (الأنثروبولوجيا البنيوية، المجلد الثاني، 1973، ص ص ix-viii).‏

    لقد تخلّى ليفي شتراوس عن الغاية العلمية التي وضعها لنفسه في البداية؛ وهو يسلّم بأنّ المشتغلين في العلوم الإنسانية متّفقون على ذلك إلى حدّ بعيد. وهو بقولـه هذا يلقي ضوءاً ساطعاً على الشروط والأوضاع الثقافية الفرنسية، التي لا تزال مختلفةً كثيراً عن مثيلتها الأنجلو - أميركية. والحقيقة أنّ ليفي شتراوس قد تعرّض لعدد من الانتقادات اللاذعة وجّهها إليه أنثروبولوجيون إنجليز وأمريكيون لما رأوه لديه من قصور تجريبي وتأويل قائم على بنات الخيال. وبعض هذه الانتقادات موثّقة في مقالة كتبها نيفين دايسن - هدسن وقدّمها في مؤتمر عام 1966 وكان لها بعيد الأثر في إدخال ما بعد البنيوية إلى الولايات المتحدة (انظر ماكزي ودوناتو 1970).‏

    وحتى اليوم، لا يزال هناك عدد وافر من علماء الاجتماع الغربيين الذين يعتبرون أنهم يمارسون علماً بالمعنى التقليديّ الكامل لهذه الكلمة، وأنّ عليهم أن يقتصروا على فرضيات قابلة للنقض وإثبات الزيف في ضوء المعطيات التجريبية. وثمّة نقد رصين لعمل كلود ليفي شتراوس، من وجهة النظر هذه، في كتاب مارفن هاريس الضخم "نشوء النظرية الأنثروبولوجية" (196، الذي تناول فيه تاريخ الأنثروبولوجيا. وهاريس هو واحد من أتباع ما يمكن أن ندعوه بالماديّة الثقافية، وهذه الأخيرة موقف نظري في الأنثروبولوجيا (وينبغي ألاّ تُخلط مع المادية الثقافية لدى ناقد أدبيّ مثل ريموند وليامز)؛ حيث يتّفق هاريس مع الماركسيين التقليديين على أنّ من الممكن تفسير كلّ منّوعات الثقافات البشرية على أساس الضغوط الاقتصادية؛ إلا أنه يضيف إلى ذلك ضغط السكان والمتغيّرات البيئية، ويرفض الديالكتيك الماركسي. وهذا ما يوفّر لهاريس أساساً مادياً علمياً شاملاً وكاملاً لنقد المثالية التي تتّسم بها مقاربة ليفي شتراوس لموضوعه، واقتصار هذا الموضوع على الاهتمام بالتمثيلات الذهنية وحدها. وبالطبع، فإنّ هاريس ليس الناقد الوحيد الذي نحا هذا المنحى.‏

    1-2-ليفي شتراوس والفونيم‏

    يمكن لنا أن نلقي الضوء على موضوع الخلاف من خلال النظر إلى تعامل ليفي شتراوس مع مفهوم الفونيم والتمييز الأساسي الذي يجريه الألسنيون بين المستوى الصوتي أو الماديّ للّغة ومستواها الفونيميّ أو النظامي. فكما سبق لنا القول، لقد سمع ليفي شتراوس بهذا لأول مرّة من جاكوبسون، الذي عُني بردّ الفونيمات إلى سمات مميّزة مادية وصلبة نسبياً. ومن الطبيعي أن يتوقّع المرء من أنثروبولوجي يقيس الأنثروبولوجيا على الألسنية ويعمل على أساس هذا القياس أن يبدي اهتماماً شديداً بالشروط المادية للحياة الاجتماعية وبالبيولوجيا؛ وخاصةً حين يزعم هذا الانثروبولوجي أنه معنيّ بكلّ من الماركسية والعلوم الطبيعية، وبالجيولوجيا على الأخصّ. بل إنّ المرء قد يتوقّع منه أيضاً أن يقدّم فكرةً ما عن المستويات "الـ...... تيّة" و "الـ.. يميّة" للمجتمع (أي عن المستويات المادية بإزاء المستويات ذات المعنى الاجتماعي)، قياساً بالصوتيات والفونيميات. وهذا ما قدّمه الألسني الأميركي كينيث بيك، حين حاول القيام بتعميم أنثروبولوجي للألسنية (اللغة في علاقتها بنظرية موحّدة في السلوك البشري، 1964). أما المصطلحان "...تيّة" و "..يميّة" فهما لمارفن هاريس.‏

    غير أنّ ليفي شتراوس لم يسرْ، للأسف، في هذا الاتجاه. وما استوقفه هو مبدأ الفونيم؛ مبدأ التقابل المحض بين دواليل* لا حصر لها، وإمكانية تحليل هذه الدواليل المتقابلة إلى تقابلات ثنائية تشكّل أساساً لها وتكون خارج وعي الذات تماماً. وقد قام ليفي شتراوس لاحقاً بتطبيق هذا المبدأ على الأسطورة، مقترحاً تحليل الأساطير إلى وحدات أساسية خالية من المعنى أطلق عليها اسم الأسطوريمات (انظر تقديم ليفي شتراوس لكتاب جاكوبسون الصوت والمعنى 1976). وسوف نصادف هذه اللاحقة (..يمات) مرّات كثيرة. وهي تشير على الدوام إلى استعارة قائمة على الفونيم، وتحتاج على الدوام إلى تفحّص حذر محترس.‏

    ونحن لا نغالي في أهمية النقلة التي قام بها ليفي شتراوس؛ إلا أنها تستحق أن نذكرها بوصفها اللحظة التأسيسية في البنيوية الفرنسية (المثالية). فما يعتقد ليفي شتراوس أنه وجده، في الفونيم، هو أن هذا الأخير وحدة لا معنى لها بحدّ ذاتها. لكنها ما إن تدخل في علاقة مع وحدة أخرى من النوع ذاته حتى تشكّل بنىً ذات معنى. وتقوم هذه البنى في حقيقة الأمر على تقابلات ثنائية نجدها في اللاوعي البشريّ. وقد تبنّى لاكان في الخمسينيات موقفاً قريباً من هذا الموقف فيما يخصّ اللاوعي الفرويدي، على الرغم من اختلاف التفاصيل.‏

    ومن الواضح تماماً أنّ كليهما كانا مخطئين، سواء في نظريتيهما أو في تأويلهما للمصادر. فسوسور لم تكن لديه قناعة راسخة بتلك النظرية التي نُسِبت إليه؛ أما جاكوبسون فكان قد انتقدها صراحةً؛ وهي مستحيلة منطقياً على كلّ حال. والحقّ أنّ هذا الخطأ الذي ارتُكب آنئذٍ راح يتكرر مرّة بعد أخرى على يد أُناس أقلّ أهمية. وهو خطأ لا نزال نجده في أدبيات الثمانينيات والتسعينيات.‏

    1-3 البنى الأولية للقرابة‏

    غالباً ما يعتبر الأنثروبولوجيون أنّ أنظمة القرابة هي المؤسسات الأساسية في تلك المجتمعات التي يدرسونها. وكتاب ليفي شتراوس الأوّل، البنى الأولية للقرابة‏

    (1949)، كان كتاباً في هذا الموضوع. والتّبصر الذي يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو أنّ المجتمع مبنيٌّ على تابو الزنا بالمحارم، أي على تحظير الجنس ضمن العائلة، مما يدفع الرجال لتبادل النساء، من عائلة إلى أخرى، بغية الزواج. وهذا ما يخلق بنيةً اجتماعية إجماليةً أكبر من العائلة النووية (المؤلّفة من أب وأم وأولادهما).‏

    وتشتمل هذه المجتمعات على ثلاثة أشكال أساسية للتبادل، هي التي تجمع المجتمع معاً وتؤمّن تماسكه؛ الشكل الأول هو تبادل الهبات، الذي يناظر البنية الاقتصادية في مجتمع أشدّ تعقيداً؛ والثاني هو تبادل النساء، تبعاً لقواعد بالغة التعقيد والتكلّف تخلق بنيةً قرابية؛ والثالث هو تبادل الرسائل الكلامية عبر اللغة، الذي يخلق معظم ثقافة المجتمع، التي هي في أعمال ليفي شتراوس اللاحقة عبارة عن بنية رمزية، أو نظام دواليل.‏

    ويتمثّل مفعول القواعد التي تدفع الزواج لأن يكون من خارج العائلة النووية وضمن مجموعات مفروضة في أنّ البنية الأولية للقرابة ليست العائلة النووية المؤلّفة من زوج، وزوجة، وأولاد، بل العائلة التي تضمّ الزوج، والزوجة، والأولاد، وأخا الزوجة (الخال) أو شخصاً ذكراً موافقاً له من طرف المرأة، يمارس في الأصل سيطرته على هذه المرأة ويقوم بالتخلّي عنها. وتأخذ هذه البنية أشكالاً متنّوعة وتترافق مع مواقف متنوعة يتّخذها عضو بنية قرابية تجاه عضو آخر (وهي مواقف مستقلة عن الطابع الشخصيّ للأفراد المعنيين، ولا تتوقف إلا على موقعهم في بنية العائلة). وهكذا فإن الطفل الذكر في بعض المجتمعات يكون له أب شديد، محترم، يصعب الدنوّ منه، في حين تربطه بخاله علاقة حميمية، ناكتة؛ بينما تكون الأمور معكوسة في مجتمعات أخرى.‏

    ولقد حاول الأنثروبولوجيون تفسير قواعد القرابة ومواقفها هذه؛ ومن بين هذه التفاسير ثمّة التفسير الاقتصادي، من النوع الذي يفضلّه ماركس وهاريس، حيث يُرى أنّ لهذه القواعد وظيفة اقتصادية جوهرية تمكّن المجتمعات التي تتبنّاها من البقاء. وهو تفسير لا يرضي ليفي شتراوس بالطبع. والتفسير الآخر هو التفسير التاريخي الذي يرى أن وجود ظواهر معينة يعود إلى تطورها التاريخي. وهو تفسير يصطدم بإشكاليات كثيرة، ويؤدي في بعض الأحيان إلى تاريخ قائم على التأمل، لدى تبنّيه من قبل الأنثروبولوجيا التي تُعنى أساساً بمجتمعات أميّة لا تعرف الكتابة ويصعب إزاحة النقاب عن تاريخها. أمّا التفسير البنيوي فيركّز على ما يمكن تفسيره بالانطلاق من العلاقات بين أجزاء البنية القائمة، دون تأمّل تاريخي. والقياس على الدراسة الألسنية التزامنية واضحٌ هنا.‏

    والحقيقة أنه ليس من شأن اختصاصيّ في الأدب والألسنية أن يحكم على نجاح فرضيات ليفي شتراوس في تفسير أنظمة القرابة، أو حتى أن يقدّر مدى منطقيتها. فهذا واحد من الميادين التقنية في الأنثروبولوجيا، لا يجرؤ على أن يطأه سوى الاختصاصيين وحدهم. كما أنّ مصاعب التأويل هنا مخيفة. وقد نشب خلاف علنيّ بين ليفي شتراوس ومترجمه، الأنثروبولوجي المعروف روني نيدهام، حول ما يعنيه كتابه فعلياً، وهو خلاف موثّق في تصدير ثانٍ لليفي شتراوس وفي تعليق مرتبك ومذهول لنيدهام على ترجمته. إلا أنّ شيئاً واحداً يظلّ واضحاً، من وجهة نظري كقواعديّ توليديّ على الأقلّ، وهو أنّ ليفي شتراوس لا يبدو مهتمّاً بالوقائع كما يراها المراقبون من الخارج بقدر ما هو مهتمّ بتمثيلاتٍ ذهنيةٍ معينة للواقع في عقول المساهمين فيه. وهو يحمل وجهة النظر الخاصة هذه إلى عمله الثاني الذي يتناول فيه مشكلة الطوطمية (1962) القديمة في الأنثروبولوجيا، وكذلك إلى كتابه عن الفكر البرّيّ (1962)، الذي وُصِفَ بأنه توسيع لذلك العمل بحيث يطال مجالاً جديداً.‏

    1-4- استقصاء البنى الذهنية:‏

    إنّ الاهتمام الأساسي لكلّ من الطوطمية اليوم، والفكر البريّ هو الطريقة التي ينظّم بها العقل المعطيات. فالأنثروبولوجيون الأوائل كانوا قد أشاروا، مثلاً، إلى أنّ اتّخاذ حيوانات طوطمية لتمثيل مجموعات اجتماعية هو إحدى البقايا التاريخية من تلك الأيام التي كانت فيها هذه الجماعات تأكل ذلك الحيوان (الذي أصبح الآن مُحرّماً عليهم)؛ وذلك إلى جانب الكثير الكثير من التفسيرات الأخرى. أمّا ليفي شتراوس فيعتبر مشكلة الطوطمية برّمتها، كما وُصِفَت إلى الآن، ضرباً من الوهم والانخداع. ويرى بدلاً من ذلك أن ننظر إلى نظام علاقات؛ نظام تقابلات بين الحيوانات الطوطمية هو بمثابة طريقة لتنظيم العالم ثقافياً. فما يتمّ استقصاؤه هنا هو طريقة في التفكير بواسطة نظام من الأصناف، تجسّدها الحيوانات الطوطمية. وهذه طريقة في المقاربة تبدي كثيراً من نقاط التشابه مع تلك الطريقة التي يستخدمها علماء المعرفة المهتّمين بالآثار التي تتركها الأنماط البدئية في التفكير.‏

    والحقيقة أنّ أعمال ليفي شتراوس جميعاً تبدي هذا التوجّه إلى دراسة تمثيلات لبنىً موجودة في العقل، شأنها في ذلك شأن أعمال القواعديّ التوليديّ. ولكي ندفع هذا التشابه قُدُمَاً إلى الأمام، نقول: إنّ كلود ليفي شتراوس كان يطمح دوماً إلى السير بهذا الأمر إلى حدٍّ يتمكّن عنده من إزاحة النقاب عن خصائص العقل الكونية اللاواعية. وبخلاف ما قد يبدو لأولئك الذين لديهم ألفة بالأسلوبين المختلفين تماماً لدى شومسكي وليفي شتراوس، فإنّ هذين المفكّرين يبدوان، كلٌّ في فرعه وفي قارّته، منهمكين في البحث ذاته عن الكليّات الذهنية، على الرغم من أن مسألة تأثّر واحدهما بالآخر لم تُطرَح أبداً، وعلى الرغم من اعتقاد شومسكي بأن عمل ليفي شتراوس هو عمل فارغ.‏

    بيد أن أحد الفروق الكبرى بين الاثنين هو الهوّة الواسعة التي تفصل بين التقاليد الفكرية التي بدأ كلّ منهما العمل فيها. فقد اصطدم شومسكي في أميركا أوائل الخمسينيات بمدرسة سلوكيّة ظافرة - تشكّل أعمال عالم النفس السلوكي العظيم ب.ف. سكينر مثالاً لها - حاولت أن تردّ حتى اللغة البشرية إلى "سلوك كلاميّ" وأنكرت أية إمكانية لوضع الظواهر الذهنية موضع بحث علميّ. أمّا الفلسفة المسيطرة فكانت فلسفة تجريبية، وإن تكن أشدّ تكلّفاً من السلوكيّة؛ ولعل كوين، نصير راسل، أن يكون أهم فيلسوف للتجريبية الفجّة يمكن أن نصادفه؛ غير أنّ الفلسفة كانت أقلّ أهمية بالنسبة للألسنية من سلوكيّة معمّمة قامت باستقصاء كل شيء حتى الدلالات التي يبدو للألسنيين أنّ الانهماك فيها هو نشاط بعيد عن العلم ولا يرمي إلى شيء.‏

    وبالمقابل، فقد اصطدم ليفي شتراوس بوجودية سارتر. وبالنسبة لهذه الفلسفة، لم يكن لوجهات النظر العلمية والموضوعية عن الإنسان أية أهمية على الإطلاق؛ فهي تهمّ "علم الحشرات". أما الوعي -أو "الوجود لذاته"- فهو نوع من العدم أو الافتقار إلى الكينونة الذي يخلق على الرغم من ذلك عالماً من الأشياء أو الموضوعات انطلاقاً من ركام غير متمايز من الوجود في ذاته. وإذا ما كان هذا الوعي مرتبطاً بالعالم وبماضيه الخاص بالضرورة، إلاّ أنّه يظلّ حرّاً في اتّخاذ خياراته الراهنة. أمّا إنكار ذلك فليس سوى ضرب من الإيمان الفاسد. فالإنسان في المذهب الإنسانويّ الوجودي يجعل من نفسه ماهو عليه ويجعل نفسه جديداً في كلّ لحظة، وذلك في حرّيةٍ لا تقيّدها أغلال البنية الاجتماعية، أو الظروف المادية، أو البواعث اللاواعية أو بيولوجيا الشخص. وهذه هي الفلسفة التي حاول سارتر لاحقاً أن يوفّق بينها وبين الماركسية.‏

    ربما كان هذه العرض جائراً. فهو يظلم حذق سارتر ودقّته؛ كما أنّ من الخطأ بلا شكّ أن نطابق فكر سارتر مع الفلسفة الفرنسية ككلّ. غير أنّه من الخطأ القول إنّ الفلسفة الفرنسية قد نظرت نظرةً متغطرسة وفوقية في علاقتها بعلوم الإنسان التجريبية وغالباً ما حاولت أن تخنقها آن ولادتها. وهو أمر موثّق بإسهاب لدى واحد من بين قلّة من علماء الاجتماع الفرنكوفونيين الذين تضاهى منزلتهم الدولية منزلة ليفي شتراوس، ألا وهو جان بياجيه، في كتابه تبصّرات الفلسفة وأوهامها (1965). وهذا الكتاب سِجِلّ معركة خاضها بياجيه طوال حياته للاعتراف بشرعيّة الاستقصاءات التجريبية التي تناولت تطور المقولات المنطقية في عقل الطفل، في مواجهة مؤسسة تعتبر أي استقصاء من هذا النوع مجرد دليل على خطأ فلسفيّ واضح تماماً. وتجربة بياجيه تسير في خطٍ موازٍ لتجربة ليفي شتراوس؛ إلا أن بياجيه لم يتخلّ عن دعاويه التجريبية.‏

    1-5 فلسفة جديدة عن الإنسان:‏

    ربما كان من المحتوم أن يتمّ تأويل الأنثروبولوجيا البنيوية بوصفها فلسفةً بديلة عن الإنسان. ولعلّ من الأصحّ القول إنه كان ثمّة خيار بين أن تصبح الأنثروبولوجيا البنيوية فلسفةً جديدةً عن الإنسان، أو أن يتمّ بناء فلسفة جديدة عن الإنسان تعمل على تكييف هذه الأنثروبولوجيا واحتوائها؛ ذلك أن فلسفة سارتر أو غيرها من الفلسفات المنضوية في إطار التقاليد الظاهراتية والوجودية لم يكن بوسعها أن تقوم بذلك. ولقد عمل ضغط المعركة الفلسفية على تغيير طبيعة تصوّر ليفي شتراوس للأنثروبولوجيا، الأمر الذي يشير إليه المقتطف الذي أوردناه من قبل من الأنثروبولوجيا البنيوية، المجلد الثاني (1976). فحين تقتصر على طرح الأسئلة الفلسفية وحدها، تكون مدفوعاً بقوة لأن تصبح فيلسوفاً، لدرجة أنه كان على ليفي شتراوس في بعض الأحيان أن يذكّر جمهوره بأنّه معنيّ بالمعطيات الإثنوغرافية أساساً وبأنه قام ذات مرةً ببعض العمل الميداني. وبالطبع، فإنّ الفلسفة قد كانت المبحث الذي انطلق منه ليفي شتراوس في الأصل.‏

    والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمكن للبنيوية أن تقدّمه بوصفها موقفاً فلسفياً؟ إنه تلك النظرة التي ترى المجتمع محدّداً بمجموعة من التمثيلات الذهنية اللاواعية التي يتقاسمها أفراده. وهذا يعني في جانبٍ هام من جوانبه أن لنظام التمثيلات الذهنية أولوية منطقية على كلّ من المجتمع والأفراد. فالذوات الفردية متشكّلة من إدراج الفرد في مثل هذا النظام؛ والمجتمع متشكّل من خلال الطريقة التي يدير بها مثل هذه النظام الذهني السلوك الاجتماعي الذي لولا ذلك لكان بلا معنى. فليس ثمة عالم اجتماعي موضوعي خارج تمثيلاته الذهنية؛ وليس ثمة ذات حرّة إلا وهي مُشكّلة من خلال هذه التمثيلات. وما هذه في جوهرها سوى مثالية كانطية جديدة. وقد شكّلت أيضاً نقطة الانطلاق في تفكير لاكان، وألتوسر، وفوكو.‏

    1-6- أسطورة عن الأسطورة:‏

    لقد كرّس ليفي شتراوس كثيراً من أعماله اللاحقة لتحليل الأسطورة؛ حيث نجد تأثير النموذج الألسني لا يزال حاضراً وعميقاً، إلا أنّ ليفي شتراوس يعمل هنا مستخدماً ضروباً من القياس والمماثلة مهلهلة ورخوة إلى حدّ بعيد. فهو ينظر إلى الأساطير المختلفة، التي تحكيها شعوب مختلفة في القارّة الواحدة، بوصفها جزءاً من اللسان الواحد، ودليلاً على أصناف أو مقولات كونية. وبمعنىً ما فإنّ هذه الرؤية مهلهلة ورخوة شأن عمليات السبر التي قام بها يونغ للوعي الجمعيّ، وإن تكن أقلٍّ مقروئية منها. ووصف ليفي شتراوس عمله بأنه أسطورة عن الأسطورة يبدو صائباً إلى حدٍّ بعيد.‏

    وعلى الرغم من ضخامة واتّساع أعمال ليفي شتراوس في ميدان الأسطورة، إلا أنّها تتّبع بصورة أساسية مبادئ التحليل التي وردت في مقالته المكتوبة عام 1955 "الدراسة البنيوية للأسطورة". فقد اهتمّ ليفي شتراوس طوال حياته بالأدب والأساطير. وتعاون مع جاكوبسون في تحليل بنيويّ للأدب، وأشهر مثال على ذلك هو تحليلهما قصيدة بودلير "القطط"، حيث يبدو جاكوبسون شريكاً مسيطراً، ذلك أنّ التقنية التحليلية المستخدمة شديدة الشبه بتقنيته الخاصة التي استخدمها في تقطيع أوصال سونيتة لشكسبير ليكشف ما فيها من تقابلات قواعدية وصوتية فضلاً عن دلالتها المفترضة.‏

    أمّا تقنية ليفي شتراوس الخاصة وشُغل يده فيظهران في تحليله لأسطورة أوديب؛ هذا العمل الذي ينتمي إلى أعماله الأولى، لكنه يبدي نقاط القوة والضعف في مقاربته عموماً. فهو يقوم بتقطيع الأسطورة إلى أحداث (إبّيسودات) ويرتّبها في شبكة ذات بعدين، ليستخرج التقابلات الهامة ذات الدلالة التي يفترض بالأسطورة أن تدور حولها. فأسطورة أوديب من دون هذه الشبكة تجري على النحو التالي:‏

    قدموس يبحث عن أخته أوروبا التي اختطفها زيوس. قدموس يقتل التنين. السبارتوي، المولودون من أسنان التنّين يبيدون بعضهم بعضاً. لابداكوس، والد لايوس، أعرج (؟). أدويب يقتل أباه لايوس. لايوس يعني أعسر (؟). أوديب يقضي على الهولة. أوديب يعني ذا القدم المتوّرمة(؟). أوديب يتزوج أمّه جوكاست. إيتيوكليس يقتل أخاه بولينيس. أنتيجون تدفن أخاها بولينيس. منتهكةً بذلك أحد المحرّمات.‏

    إنّ هذا التقسيم إلى أحداث هو تقسيم اعتباطيّ إلى حدّ بعيد، ويستثني كثيراً من الأحداث الأخرى الواردة في المصادر الأصلية ممّا يراه القرّاء مهماً. ومن ثمّ فإنّ ليفي شتراوس يضع هذه الأحداث في أعمدة أربعة، تبعاً للمعايير التالية:‏

    الإفراط في تقدير صلات القرابة: (قدموس يبحث عن أوروبا؛ أوديب يتزوج جوكاست؛ أنتيجون تدفن بولينيس)؛ الحطّ من قَدر صلات القرابة: (السبارتوي يبيدون بعضهم بعضاً؛ أوديب يقتل أباه؛ إيتيوكليس يقتل أخاه)؛ قتل الوحوش: (قدموس يقتل التنين؛ أوديب يقتل الهولة)؛ صعوبة الوقوف بانتصاب: (لابداكوس أعرج؛ لايوس أعسر؛ أوديب ذو قدم متوّرمة).‏

    وهذه المعايير أيضاً اعتباطيّة إلى حدٍّ بعيد.‏

    وبعد ذلك يقوم ليفي شتراوس بتأويل فئتيه الأخيرتين -قتل الوحوش وعدم القدرة على الوقوف بانتصاب - فيرى أنهما تعنيان على التوالي نفي التولّد الذاتي للإنسان واستمرار التولّد الذاتي للإنسان. وهكذا يصبح للأسطورة معنىً علائقي؛ "فالإفراط في تقدير صلات الرحم يكون من التفريط أو الاستهانة في تقديرها على نحو ما يكون الجهد المبذول في سبيل التخلّي عن عقيدة التولّد الذاتي من استحالة تحقيق هذا التخلّي". وتعبّر هذه الأسطورة، كما يقول ليفي شتراوس، "عن الاستحالة التي يقع فيها مجتمع ينادي بتولّد الإنسان ذاتياً... حين يريد الانتقال من هذه النظرية إلى الاعتراف بأنّ كلاًّ منا قد وُلِدَ في حقيقة الأمر من اقتران رجل بامرأة".‏

    ولابدّ من القول إنني لست أصدّق كلمة واحدة من هذه القصة الطويلة. وما لستُ أصدّقه على وجه الخصوص هو أن يكون هذا المنهج منهجاً علمياً في الاستقصاء. فالأمور أو النقاط التي يمكن للباحث أن يتخّذ بشأنها قرارات اعتباطية تتعلق بمحتوى الأسطورة أو تصنيف وحداتها، بحيث تثبت النتائج ما يريده لها أن تثبته كائناً ما كان، هي أمورٌ ونقاطٌ كثيرة جداً. كما يمكن للباحث أن يطبخ الكتب بقدر ما يريد. والحقيقة أنّ ما كتبه ليفي شتراوس عن الأسطورة ربما كان شيئاً مطبوخاً من هذا القبيل.‏

    1-7- البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم الإنسانية:‏

    لابدّ لردّة فعلي هنا من أن تصدم المنظّر الأدبيّ الحديث -وربما القارئ أيضاً- لشدّة فجاجتها. فالدافع المناهض للمنهج العلمي، الذي نجده لدى ليفي شتراوس، قد تطور إلى حدّ بات فيه النقّاد الموغلون في ذلك يتكلمون لغة أخرى تماماً. وقد جاء التحول الحاسم في عام 1967، مع مقالة ديريدا "البنية والدالول واللعب في خطاب العلوم الإنسانية"، التي ألقاها في المؤتمر ذاته الذي ألقى فيه نيفين دايسن -هدسن نقده التجريبيّ الذي أشرنا إليه من قبل، إلاّ أنّ هاتين المقالتين تنتميان إلى عالمين فكريين مختلفين. فدايسن -هدسن يعتبر أنّ ليفي شتراوس ليس تجريبياً بما فيه الكفاية ويرى أنّ النكهة التخييلية، والأدبية، والفلسفية التي تنبعث من المداخل والمقدّمات التي يكتبها لأعمال شتراوس أشخاصٌ أمّيون في الأنثروبولوجيا مثل جورج شتاينر وسوزان سونتاج هي نكهة مريبة تثير الشكوك، كما يرى الرأي ذاته في السلالة الفلسفية الطويلة التي يدّعيها شتراوس نفسه.‏

    أمّا ديريدا فيرى أنّ ليفي شتراوس عالقٌ في مشكلة هي مشكلة فلسفية في جوهرها، إلا أنّه، بمعنى ما، ليس فيلسوفاً بما يكفي لأن يحلّها. فالإثنولوجيا (والأنثروبولوجيا) علم أوروبيّ يستخدم مفاهيم أوروبية تقليدية (بما في ذلك، بالطبع، كلّ المفاهيم التي يستخدمها دايسن - هدسن وجميع الأنثروبولوجيين التجريبيين). ولأن هذا العلم يدرس مجتمعات غير أوروبية، فإنّ عليه أن يقدّم نقداً لكلّ مقولات المركزية الإثنية، بما في ذلك مفاهيم العلْميّة التي قام عليها هذا العلم ذاته. وإلاّ فإنّ هذا العلم سوف يقوّض علميّته الخاصة حتى لو كان بين يديّ ممارس بارع ورفيع مثل ليفي شتراوس (فما بالك لو كان بين يديّ تلك التجريبية الفجّة التي يمثّلها دايسن - هدسن).‏

    ومن هنا فإن ليفي شتراوس محقٌ في محاكمته التقابل الميتافيزيقي التقليدي بين المحسوس والمفهوم وفي تعاليه عليه، هذا التقابل الذي أربك العلوم الإنسانية بأسئلة تتعلق بما إذا كانت هذه العلوم تدرس أشياءً مادية، وسلوكاً فيزيقياً، الخ، أم أنها تدرس المعنى؟ إلا أنّ ليفي شتراوس يجري هذه المحاكمة ويتعالى هذا التعالي عن طريق وضع نفسه، منذ البداية على مستوى الدالول، في حين أن مفهوم الدالول ذاته، بوصفه اقتراناً لدالّ ومدلول، مشروط بالتقابل بين المحسوس والمفهوم، ويتعذّر فهمه من غير هذا التقابل. وهكذا فإن الإثنولوجيا، بوصفها نقداً للتفكير الغربيّ، لا تستطيع أن تقوم بوظيفتها إلا عبر مفهوم أساسي من مفاهيم الميتافيزيقا الغربية.‏

    وبالمثل، فإن ليفي شتراوس يميّز تمييزه الشهير بين نمطين من التفكير. أولهما هو الذي تُصاغُ فيه مفاهيم جديدة بغية تفسير العالم، على النحو الذي يقوم فيه مهندس بصنع آلة من أجزاء جديدة، حسنة التصميم، (ويُفهَم ضمناً من ليفي شتراوس أن هذا التفكير هو تفكير المنظّر الحديث). أما الثاني فهو الذي تُستخدم فيه تصنيفات مُعَدّة مسبقاً، كتلك التي تفرّق بين نوع حيواني وآخر، لأغراض معرفية مختلفة تماماً كالتصنيف الاجتماعي للبشر، كما هو الحال فيما جرت العادة قبل ليفي شتراوس على تسميته بالطوطمية، (ويُفهم أنّ هذا التفكير هو تفكير المجتمعات البدائية التي تفكّر بمصطلحات وحدود أسطورية). ويشبه هذه المنهج الفكري عمل المُحَرتِق (Bricoleur) الذي يصنع أشياءه مما تيسرّ له من قطع قديمة تبقّت عن عمل آخر. غير أن ديريدا يشير إلى أن جميع مفاهيمنا متبقيّة عن عمل آخر. وأننا نبدأ جميعاً بمفاهيم جاهزة، أُنتجت في الأصل لأغراض أخرى، ونعدّلها لتوافق ما نفعله الآن. فليس هناك إذاً نوع خاص وبدائي من التفكير شبيه بالحرتقة (bricolage)، إنّما كلّ تفكير هو حرتقة.‏

    وديريدا في غاية السرور لأن الأمر كذلك. وما يروقه في الحرتقة ليس علميتها، بل قوتها الأسطورية -الشعرية. وما يروقه في معالجة ليفي شتراوس لأسطورة من أساطير شعب البورورو، في عمل له متأخر ويحمل عنواناً ملائماً تماماً، "النيئّ والمطبوخ"، هو غياب أية أسطورة مرجعية ذات امتياز، وإمكانية مباشرة التحليل من أيّ مكان، نظراً لغياب أي "مركز"، أو مبدأ مؤسّس يؤخذ كمسلّمة أو بداهة. إلاّ أنّ ذلك يقتضي أن تضرب صفحاً عن الخطاب العلميّ أو الفلسفيّ؛ فالخطاب البنيوي في الأساطير هو خطاب أسطوري الشكل، إنتاج أسطورة عن الأسطورة.‏

    ستكون لنا عودة لاحقاً إلى هذه المناهضة الميتافيزيقية للميتافيزيقا والتي تشكّل أساس موقف ديريدا. أمّا الآن فيهمنّي تأثيرها. فما إن أصبحت صيغة التأويل المناهضة للعلم هذه ذات نفوذ في بعض الأنحاء، خاصةً الأدبية، حتى اختفت تماماً طروحات ليفي شتراوس الأصلية. ومن الأمثلة على ذلك هذا التعليق في عام 1982 على معالجة ليفي شتراوس أسطورة أوديب:‏

    غير أنّ هذا الإزاحة وهذا البحث عن محتوى كامن، أو عن "بنية عميقة"، لا يمكنهما أن يفترضا مسبقاً وجود معنى جوهري إلا بقدر ما يمكنهما أن يفترضا وجود معنى حرفيّ. وإذا ما كان ليفي شتراوس قد اكتشف أن أسطورة أوديب تعبّر في النهاية عن التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس، فإنّ ذلك لا يعني أنّ من الممكن اختزال الأسطورة إلى هذه الدلالة المحددة. فقيمة التحليل تكمن بالدرجة الأولى في تفكيك علاقات النصّ السيميائية على جميع المستويات، تماماً كما تكمن أهمية التقابل بين التولّد الذاتي والتكاثر ثنائي الجنس في الدور الذي يلعبه هذا التقابل في نظام الشيفرات الثقافية أو السنن الثقافية بأكملها -الاتصالية، والقانونية، والاقتصادية - حيث يصبح مجرد دالّ آخر.‏

    (ألوين باوم: سبانوس وآخرون 1982، ص91).‏

    ربّ قائل يقول إنّ باوم، كاتب هذا المقطع، ليس تفكيكياً "جامحاً" بأيّ حال من الأحوال، وهو يزعم أنّه "يشارك في السعي وراء شعريّة بنيوية، أو نظرية سيميائية بوجهٍ عام". ولكن لاحظوا كم هي مهلهلة واستعارية هذه النظرية التي يسعى وراءها. فهو يستعير مصطلح "البنية العميقة" من القواعد التوليدية 1965، التي تستخدمه كمصطلح تقني، إلا أنّه يضعه بين أقواس ليشير أنه لا يستخدمه بمعناه التقنيّ. وما يقلقه أساساً ليس تفسير الأشياء، بل تفادي أن يكون اختزالياً إزاءها. وفي سياق خطابٍ كهذا سوف يبدو عتيقاً ومن غير اللائق أن نطالب بأنّ نظريةً في علمٍ من علوم المجتمع ينبغي أن تقوم على أسس تجريبية، وأن تكون لديها القدرة الكافية على التفسير، وأن تكون اختزالية؛ بمعنى أن تكون أبسط من الوقائع التي تزعم تفسيرها؛ وسيبدو سوقياً أن نطالب بألاّ نسمّي شيئاً "اكتشافاً" إلا إذا كنّا نعتقد بأنّه حقيقي.‏

    1-8-الأنثروبولوجيا والقواعد التوليدية:‏

    إذاً، لقد حجبت عنّا الافتراضات والمزاعم الحديثة كلاً من الطابع الحقيقي للعمل الذي جرى في الأربعينيات والخمسينيات والإمكانيات الحقيقية التي ينطوي عليها. فقد كان هذا العمل علمياً إلى حدّ بعيد في طابعه وفي غاياته، على الرغم من الطبيعة الإنسانوية التقليدية لكثير من مادته. وكان النجاح بالنسبة له يقوم بالدرجة الأولى على تقديم توصيفات بنيوية نظامية لعلاقات القرابة، والأسطورة، والفولكلور، والشعر، الخ. أمّا على مستوى أعلى، فكان النجاح يقوم على اكتشاف مجموعة من المقولات الكونيّة في اشتغال العقل البشري، وهذا ضربٌ من كانطية بيولوجية أكثر منه كانطية فلسفية. (وقد قبل ليفي شتراوس توصيف موقفه بأنه "كانطية دون ذات متعالية").‏

    وثمة تماثل دقيق هنا مع قواعد شومسكي التوليدية، التي بدأ تطورها بعد أكثر من عشر سنوات على أنثروبولوجيا ليفي شتراوس. وها نحن من جديد أمام وقفة علمية واعية لذاتها حقاً؛ ولا تمكن مقارنة تفحّصها لعلميتها بما يقوم به أي علم اجتماعي آخر على هذا الصعيد. كما أننا أمام ازدهار هائل للتوصيف الألسنيّ، على نحوٍ أنجح بكثير من كلّ ما قدّمته الأنثروبولوجيا، الأمر الذي يعود من جهة أولى إلى ما قام به شومسكي من اكتشافات تقنية تتعلّق بالبنى الرياضية التي تبديها اللغة، كما يعود من جهة أخرى إلى حقيقة أنّ وصف اللغة أبسط من وصف المجتمعات. وها نحن من جديد أمام سعيٍ وراء كليّاتٍ ألسنية هي خصائص للعقل البشري؛ حيث يمكن القول هذه المرّة إن بعضاً من هذه الخصائص قد أضحى معروفاً؛ كحقيقة أنّ اللغات لا يمكن أن تنبني على نموذج بسيط من "التسلسل والاختيار" (قواعد الحالة المتناهية).‏

    أمّا ما يميّز القواعد التوليدية عن الأنثروبولوجيا البنيوية فهو علاقتها بالتجريبي، فكلٌ من هذين الفرعين كان قد رفض الفكرة التجريبية القائلة بأنّ موضوع البحث في العلوم الاجتماعية هو السلوك الفعليّ، واعتبر أنّ هذا الموضوع هو التمثيلات الذهنية. وهذا ما عرّضهما كليهما إلى هجوم عنيف شنّته المدارس التجريبية القديمة. غير أنّ القواعد التوليدية أثبتت أنها أقدر بما لا يقاس على تقديم توصيفات للواقع التجريبي شاملة وقابلة للاختبار. وعدد القواعديين التوليديين الذين قاموا بما يكافئ العمل الميداني الواسع (كوصف اللغات المختلفة وصفاً مفصّلاً، على سبيل المثال) هو أكبر بكثير من عدد الأنثروبولوجيين البنيويين الذين تصدّوا للعمل الميداني. والأنثروبولوجيا البنيوية، على هَدْيٍ من زعيمها، لم تتجه صوب شرط الألسنية العلمية، بل بقيت أو عادت من جديد موقفاً فلسفياً. ولذا فقد كانت عرضةٌ لانتقادات ديريدا الفلسفية المحضة، بخلاف القواعد التوليدية.‏

    والحقيقة أنه كان ينبغي أن أقول إن انتقادات ديريدا تنطبق على القواعد التوليدية كما تنطبق على الألسنية البنيوية، بل وتنطبق كما يبدو لي على كلّ بحث عقلاني في الوقائع. إلا أنّ قوة النقد الفلسفي المحض لعلم من العلوم تختلف تماماً تبعاً لما إذا كان لدى هذا العلم نتائج واسعة يقدّمها أم لا.‏

    والسؤال المطروح هو إلى أين يؤدّي علم يعمل بمثل هذا التوجّه المعرفيّ؟ ليس مدهشاً أن نجد مثل هذا العلم مترافقاً مع ثلاثة أنماط مزدهرة من البحث العلمي الحديث، هي الدراسات المعرفيّة في علم النفس، والأبحاث الفيزيولوجية العصبية، والمحاكاة الحاسوبية للسلوك البشري في أبحاث الذكاء الاصطناعي. (نظريات شومسكي الباكرة عن اللغة هي أجزاء أساسية من النصوص العلمية الحاسوبية). ويبدو لي أن مثل هذا البحث هو من بين أشدّ الأبحاث أهمية في العالم كلّه اليوم؛ وما يثير حيرتي هو انصراف منظّري الأدب عن أيّ اهتمام به في العادة. (هل هناك أيّ منظّر أدبيّ اهتمّ بعلم النفس الخشن منذ أيام إ.أ.ريتشاردز؟) واعتقادي، على أي حال، أنّ العلوم المعرفيّة هي الوريث الحقيقي لأهداف البنيوية الأولى.‏

    غير أنّ السيميائيين المحدثين غالباً ما تقلقهم مثل هذه الأهداف التي يرونها أهدافاً وضعيّةً ساذجة أو رجعية سياسياً وربما متنكّرة للحرية الإنسانية؛ وتراهم يقدّمون أسباباً لاعتقادهم بأن من المستحيل تحقيقها تتّصف بأنها أسباب ميتافيزيقية وغير مقنعة على الإطلاق. ولقد أضحت أعمال ديريدا كتاب هذه المدرسة المقدّس. غير أنّه ما من مجال لإنكار أن البنيويين الأوائل قد أرادوا أن يأتوا إلى العلوم الإنسانية بمنهج علمي صلب واعتقدوا أن لديهم نموذجاً مناسباً لهذا المنهج هو النموذج الذي قدّمته الألسنية البنيوية.‏

    ومقالات ليفي شتراوس الباكرة حاسمة تماماً بهذا الشأن. إلا أن مقالاته اللاحقة تمثّل نقلة حاسمةً أيضاً بعيداً عن هذه المقاربة العلمية الصارمة باتجاه ما أصبح في النهاية ضرباً من المقاربة الأسطورية، كما يعترف هو نفسه. وربما كان من العسير أن نحدد ما إذا كان الخلاف مع سارتر- بعدائه الشديد لمقاربة الإنسان مقاربةً أنثروبولوجية موضوعية- هو الذي أدّى إلى إعادة طبع المشروع بأكمله بالطابع الفلسفي؛ أو ما إذا كان عمل ليفي شتراوس الباكر في القرابة لم يصمد أمام التجريب فكان لابدّ من إعادة تأويله تأويلاً مثالياً بمفعول ارتجاعيّ؛ أو ما إذا كانت هناك قوى عميقة الجذور في الثقافة الفرنسية، أو ربما في الموقع الاجتماعي المهمّش للمثقفين الأدبيين في أي بلد حديث، هي التي تعادي الدراسات التجريبية التي تدور حول الإنسان.‏

    فبصرف النظر عن السبب، كانت النتيجة أنّ البنيوية، في هذه المرحلة الثالثة التي شهدت محاولات طموحة لتنظيم جميع حقول البحث تبعاً لمبادئ مستمدةً في جوهرها من الألسنية، قد انقلبت وتحولت من استراتيجية للبحث في العلوم الاجتماعية إلى موقف فلسفي مناهض للإنسانوية عموماً وللوجودية السارترية على وجه الخصوص، موقف قاصر، ومستهتر، بل مترفّع وازدرائي، في تعامله مع التجريبيّ. ولهذا الغرض بالذات فإنّ دو سوسور، الذي ينظر إليه الآن على أنّه السلف الوحيد للألسنية البنيوية (ربما لأنه كتب بالفرنسية)، قد خضع لنوعٍ من إعادة التأويل جعلت منه فيلسوفاً، معنياً أساساً بطبيعة التجربة الذاتية، أو حتى بمكانة العقل اللاواعي. وهو دور كان كفيلاً بأن يثير دهشته واستغرابه إلى أبعد حدّ، كما يحتاج إلى مقطع آخر كي نصفه.‏

    2-البنيوية الرفيعة: نظرية الذات وسوسور الجديد المُحَسّن‏

    2-1-المواجهة مع الفلسفة:‏

    كانت المغامرة الكبرى التي خاضتها البنيوية في فرنسا هي مواجهتها مع الفلسفة الفرنسية، التي أعني بها بصورة أساسية الفلسفة الظاهراتية والوجودية إضافةً إلى جانب هيغليّ يتحدّر من المحاضرات التي ألقاها كوجيف قبل الحرب وطبعات فلسفية متكلّفة من كلّ من ماركس وفرويد. ولست أريد هنا أن أضفي طابعاً ملحمياً، أو تاريخياً عالمياً، على هذه المعركة الفكرية. فالقول إنّ الفلسفة الفرنسية في أواخر الخمسينيات قد أنجبت بنيوية رولان بارت هو بلا ريب كالقول إنّ السفوح قد تمخضت فأنجبت فأراً. ذلك أنّ الجبلين الراسيين في خلفية هذا القياس أو التشبيه هما هوسرل وهيدغر. وهما يبدوان لي فيلسوفين عظيمين أصيلين، أفلحا في طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة المعرفة والوجود على التوالي، وبالتالي حول طبيعة الفلسفة ذاتها. وليس استخفافاً بسارتر أو حتى بميرلوبونتي أن نقول إن عملهما، على الرغم من أهميته وأصالته، لم يتعدَّ توطين فلسفة الوجود وعلم الظاهرات في البيئة الفرنسية وفي إهابٍ فرنسي.‏

    ولقد بدت البنيوية لهذه الطبعة الوطنية من الوجودية وعلم الظاهرات بمثابة منافس محليّ. وبقدر ما يتعلق الأمر بالنظرية الأدبية، فإنّ رولان بارت هو البنيوي والسيميولوجي الفرنسي الأكثر شهرة. أمّا حين يتعلقّ الأمر أساساً بمثالٍ للحوار بين الفلسفة والبنيوية، فربما يكون على المرء ألا يختار بارت كممثّل لهذه الأخيرة. وقد يكون من الأفضل أن نختار ليفي شتراوس، الذي أهدى كتابه "الفكر البرّي لميرلوبونتي، وضمّنه فصلاً ختامياً كرّسه لفلسفة سارتر. كما يمكن أن نختار لاكان، الذي تأثّر تأثّراً عميقاً بهيغل وهيدغر وتأثّراً طفيفاً بليفي شتراوس، وقدّم طبعة بنيوية مزعومة من اللاوعي الفرويدي وضعها في وجه تنكّر سارتر للوعي ورفضه له. أو قد يكون الخيار هو لوي ألتوسر، الذي قدّم "ماركسيةً بنيوية" هي، من بين أشياء أخرى، ثقلٌ يقابل تنويع سارتر الوجوديّ على الماركسية.‏

    أمّا بارت، كما أرى، فليس من هذه العصبة. فهو كمنظّر، ربما كان الأقلّ اهتماماً بالفلسفة بين البنيويين الكبار. ومن بين عمليه النظريين الرئيسين، "مبادئ السيميولوجيا" و"س/زد"، نجد أنّ الأول، الذي كان له الأثر الكبير بين السيميائيين، لم يكن من الناحية الفلسفية أكثر من تكييف باهتٍ لسوسور، في حين كان "س/زد"، في العديد من النواحي، وكما سأحاول أن أبيّن، أقرب إلى عمل أدبيّ حداثيّ منه إلى الفلسفة أو العلم. كما أنّ تعامل بارت مع النظرية هو إلى حدّ كبير تعامل ناقد أدبيّ يتوق إلى نيل الاحترام الأكاديميّ. لقد كانت هذه هي اهتماماته الأساسية في وقت من الأوقات، غير أنّ من الخطأ أن نرى أنها منجزاتها الكبرى.‏

    بيد أنّ البيئة الثقافية الفرنسية في أواخر الخمسينيات وفي الستينيات، كانت تفرض حتى على عمل رجل مثل بارت أن يقدّم إطاراً فلسفياً يُظهر ما كان من الواجب الارتكاس ضدّه وإظهار ردّة الفعل عليه. وبارت لم يكن أبداً غير مبالٍ (كعادة النقّاد الإنجليز) بالأزياء الفلسفية في أيامه، أو بما كان الاختصاصيون في الأنثروبولوجيا، أو التحليل النفسي، أو الفلسفة الماركسية يفعلونه بها. فقد ألقى ليفي شتراوس، ولاكان، وألتوسر ظلالاً متعددة الألوان على السيميولوجيا والنظرية الأدبية بتقديمهم نظريات في الثقافة، والذات، والأيديولوجيا. وفي هذه البيئة الفكرية بالذات كان أن أمُسِكَ بسوسور وأعيدت قراءته، لا كألسنيّ علميّ، بل كفيلسوف سيميولوجيّ لديه ما يقوله عن الذات بل وعن اللاوعي.‏

    وما أقصده بـ "الفلسفة الفرنسية" هو شيء أوسع من أعمال ميرلوبونتي وسارتر، وإن كان يشمل هذه الأعمال. ولعلّ محاضرات ألكسندر كوجيف التي كرّسها في الثلاثينيات لكتاب هيغل "علم ظاهرات الروح" وتركت أثراً منقطع النظير هي التي أذّنت بمبادئ هذا التقليد على نحوٍ شديد الوضوح. وإليكم هذا المقطع من ترجمة الفصل الرابع في كتاب هيغل والتعليق عليه، وهو فصل يدور حول جدلية السيد والعبد:‏

    الإنسان وعي للذات. فهو واعٍ لذاته، واعٍ لواقعه الإنساني وكرامته الإنسانية؛ وهو بهذا يختلف اختلافاً جوهرياً عن الحيوان، الذي لا يمضي إلى أبعد من مستوى عاطفة الذات البسيطة. ويصبح الإنسان واعياً لذاته في اللحظة التي يقول فيها -للمرة الأولى- "أنا".‏

    وما يؤدي إلى ذلك ليس مجرّد المعرفة المنفعلة أو السلبية، معرفةُ ذاتٍ محض تواجه موضوعاً ما. فهذه لا تؤدّي إلى وعي الذات؛ ولا يمكن أن تؤدي إلاّ إلى ترك الذّات سابحةً خارج نفسها، لا تعرف سوى الموضوع. ما يؤدّي إلى وعي الذات هو نوع من الرغبة الإنسانية التي تستردّ الذات إلى نفسها وتدعوها إليها (ولو اقتصرت هذه الرغبة على الرغبة بالأكل).‏

    الرغبة هي ما يحوّل الوجود، المتكّشف لذاته بذاته في معرفةٍ حقّة، إلى "موضوع" متكشّف لـ "ذات" بذاتٍ تختلف عن الموضوع و"تقف قبالته". إنّ الإنسان ليتشكّل ويتكشّف -لنفسه وللآخرين- في رغبته وبرغبته - والأصحّ القول، بوصفه رغبته - على أنّه "أنا"، على أنه الأنا التي تختلف جوهرياً عمّا هو ليس أنا وتقف قبالته جذرياً. فالأنا "الإنسانية" هي أنا رغبة أو أنا الرغبة.‏

    2-2-لاكان وإعادة قراءة فرويد قراءة فلسفية‏

    كان للهيدغرية والهيغلية نصف الماركسية التي قدّمها كوجيف (سواء أُخذَت منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة) تأثيرها الهائل في الفكر الفرنسي في الأربعينيات والخمسينيات. وكان جاك لاكان، الذي التحق بمحاضرات كوجيف، قد أعاد قراءة كامل أعمال فرويد وأعاد التفكير بها على نحوٍ شديد التدقيق، في ضوء مواقف فلسفية مثل هذه، منذ عام 1936. وقد انطوت إعادة القراءة التي قام بها لاكان على الإطاحة بالجوانب الميكانيكية في مذهب فرويد، وعلى وضع مبدأ الواقع الفرويدي تحت طائلة الشك، وأصبح موضوع هذا العلم هو الواقع النفسي وليس الموضوع، وقُصِرَ موضوع البحث في علم النفس على وقائع تتعلق بالرغبة.‏

    والتمييز الذي أقامه لاكان بين الذات الإنسانية والأنا الفرويدية هو، باعتقادي، ثمرة لهذا النمط من التحليل. ومن المعروف أن لاكان قد اتخذ موقفاً متطرفاً من الأنا الفرويدي. ففي حين كان فرويد قد أعطى للأنا وظيفة هامة تتمثّل في التفاوض مع الواقع الخارجي، فإنّ لاكان نظر إلى الأنا بوصفه نتاجاً لسوء التعرف ولإضفاء طابع موضوعي زائف في مرحلة الطفولة الأولى. فالطفل، تبعاً للاكان، يمرّ أثناء نموه في طور أطلق عليه اسم "طور المرآة"(وهو طور لم تُشر إليه آنا فرويد أو ميلاني كلاين، أو أي طبيب من أطباء الأطفال خارج مدرسة لاكان). وفي هذا الطور يتعلّم الطفل أن يتعرف ذاته، أو أن يتخيلّها على الأقل، عبر انعكاسها، بوصفها كينونة موحدة. وعندئذ ينشأ الأنا بوصفه ذلك الكيان الخياليّ (الموجود في الاستيهام) الذي يلعب بعد ذلك دور عامل سوء التعرف وإضفاء الطابع الموضوعي الزائف. ومن الواضح أن لاكان يعارض معارضة مباشرة تلك المدارس التحليلية التي ترى أن غاية التحليل هي تعزيز الأنا وتحسين حالة التكّيف مع الواقع الاجتماعي الخارجي وكلّ هذا قبل أن يدخل لاكان مرحلته "البنيوية".‏

    لقد طرأ على البنيوية تغير جديد تماماً مع دخولها البيئة الفلسفية الفرنسية، حيث تحولت من نظرية عن اللغة، والأدب، والمجتمع وما شابه إلى نظرية في بنية "الذات" التي تختبر تلك الموضوعات من لغة، وأدب، ومجتمع وما شابه. ولقد أشرنا من قبل إلى ما كان لدى ليفي شتراوس من نزعات وميول كانطية، أو دافع إلى اكتشاف بنىً كونية للعقل البشري. وقد تبنّى لاكان بعض أفكار ليفي شتراوس، بطريقة غائمة بعض الشيء، وجعلها فرويدية. فقد بدا معقولاً أن يتمّ ربط المرور عبر المرحلة الأوديبية من النمو (مرحلة الرغبة بقتل الأب والزواج من الأم)، التي هي في النظرية الفرويدية بوابة البلوغ الإنساني، مع تابو الزنا بالمحارم عند ليفي شتراوس، الذي يمثّل مصدر الثقافة الإنسانية. فكلاهما يفيد في تفريق الإنسان عن الحيوان. كما أصبح عالم الثقافة الليفي شتراوسي، الذي يقابل الطبيعة، عالم "الرمزي" اللاكاني، الذي يبدو للاكان متمادياً كلياً أو جزئياً مع عالم اللغة. فالدخول إلى هذا العالم هو ما ينقل العضوية أبعد من المرحلة الحيوانية وينتج الذات الإنسانية.‏

    والحقّ أن ثمة فجوة مفاهيمية هنا، لعلّها لم تكن واضحة للاكان، وهي فجوة أجدها واسعة وعسيرة. فاهتمام لاكان بوصفه محللاً نفسانياً هو بالكلام. وقد أقام في البداية تمييزاً بين كلام ممتلئ ينتمي إلى الذات وكلام فارغ يصدر عن الأنا وينتمي إلى مجال الخياليّ. وهو تمييز يشبه ما أقامه هيدغر بين خطاب يفصح عن "فهم الكينونة- في - العالم" و"كلام تافه" لا يعدو أن يكون ثرثرة اجتماعية. والكلام الفارغ هو شيء يقوم المحلّل بتأويله وليس بالاستجابة لمحتواه، وظهور الكلام الممتلئ هو أول ما يشير للاّكاني في بدايات اللاكانية بأنّ المريض قد شُفي. وفي حين يحظى هذان التمييزان بأهمية بالغة عند لاكان، فإنهما بالنسبة لألسني -كسوسور أو جاكوبسون- ليسا سوى طريقتين في استخدام اللغة ذاتها. وهكذا فإنّ مفهوم اللغة لدى الألسني لا يقدّم للاكان أية فائدة في الواقع. إلاّ أنّ هذا المفهوم هو ما نحتاجه لبناء مجال الرمزي بكلّ ما له من أهمية، إذ تتشكّل الذات فيه.‏

    والحقيقة أنّ مناقشة مسائل كهذه هي أمر بالغ الصعوبة. فكتابات لاكان المنشورة هي كتابات برقية، مبرمجة، فضلاً عن كونها عقائدية جامدة، وتترك انطباعاً في بعض الأحيان بأنها ضروب من المحاكاة لعمليات التفكير اللاواعية (كانت للاكان صلاته بالسرياليين، وظلّ على تعاطفه معهم). وما يلاحظه المرء هو أن هذه الصفات التي ميّزت كتابات لاكان قد لازمتها منذ الخمسينيات وكانت تشتد وتتعمق كلما تقدّم الزمن. أمّا حلقات البحث التي أدارها لاكان في الخمسينيات فكانت أكثر وضوحاً، غير أن من الصعب أن نجد فيها أيضاً أيّ قول واضح عن هذه الفرضيات المذكورة منذ قليل أو عن غيرها، فما بالك بأي اعتبار يتعلّق بإثبات هذه الفرضيات أو بدحضها. وأنا شخصياً لا أملك أي دليل أو إثبات على أنّ لاكتساب اللغة (مثلاً) أية علاقة بالمرور في عقدة أوديب، على الرغم من دراستي المكثفة لكليهما. ويضاف إلى كل ذلك أنّ الصيغ التي يقدمها لاكان غامضة جداً، ولذا لم يتضح لي إلى الآن ما إذا كان لهذا الافتقار إلى الأدلة والبراهين أيّ تأثير على دعاويه ومزاعمه. ويبدو أنّ من المستحيل أن نعلم ما إذا كان لدعاوي لاكان المتعلقة بما يدعوه اسم الأب وباللغة أية علاقة بالدراسات التي يقوم بها نفساني ألسني في موضوع اكتساب اللغة، مع أن من المفترض أن تكون هنالك صلة ما إذا ما كان لاكان منكباً حقاً على عمل علمي يتعلّق بنمو الطفل وتطوره. وغياب هذه الصلة مع علم ألسنيّ خشن هو شيء لا يزال يقلق كل من يلتحق في التسعينيات بحلقات بحث تتناول لاكان (لقد التقى شومسكي لاكان في أواخر حياته ووصفه بأنّه دجّال متعمد يقوم بألاعيبه في الأوساط الثقافية الباريسية ليرى إلى أيّ حدّ من السخف يمكنه أن يصل بها) (شومسكي 1989).‏

    2-3-النظرية البنيوية في الذات الإنسانية‏

    على الرغم من كلّ ما سبق، فإنّه لم يكن من غير العقلانيّ، في الخمسينيات، أن يُنظر إلى ليفي شتراوس ولاكان على أنهما يضعان أساساً لعلم جديد عن الإنسان، علم يُفترض به أن يجمع في وقت واحد كلاً من الموضوعية وتناول الذاتية الإنسانية تناولاً بنيوياً. بل كان من الممكن أيضاً أن يُنظر إليهما بوصفهما تجسيداً للتناول "العلمي" للطبيعة الإنسانية، بعكس أتباع الوجودية البعيدين عن العلم، على الرغم من أنّ سلوكياً أميركياً ربما كان سيرى أنّ كلا طرفي هذه المناظرة الفرنسية مجرد مجانين .‏

    والحقيقة أننا لو بنينا، بأنفسنا وعلى أساس فجّ، نوعاً من وجهة النظر الوجودية والظاهراتية النمطية البدئية، فإن ذلك سيكون أكثر فائدة من الدراسة المدرسية لسارتر وميرلوبونتي في تبيان ما كانت البنيوية تعارضه وتقف في وجهه. ويشكّل مفهوم الذات الإنسانية، المتطابق أيضاً مع الوعي ومع النفس، نقطة ارتكاز أساسية في هذا الموقف الفجّ الذي يرى أنّ "الذات" ليست مجرد وجهة النظر المنفعلة أو السلبية التي تُعاش منها التجربة الذاتية، بل هي المكان الذي تُتخذ منه الخيارات العملية وتصدر عنه أحكام القيمة. كما أنها موحدة وحرّة أيضاً. فهي تجد نفسها مقذوفة في عالم لم تبنه؛ غير أنها حرّة في الفعل في ذلك العالم وهي تبني نفسها في سياق هذا الفعل. وما من تحديد أو تقييد لا واعٍ لخيارات الذات، فمثل هذه المزاعم لا تعدو أن تكون ضرباً من الإيمان الفاسد.‏

    بيد أنّ هذا الموقف الفلسفي (الذي أكرر أنني لا أنسبه إلى أيّ فيلسوف محدّد، وإنّما أعتبره بمثابة تمثيل معقول لمناخ فلسفيّ عام) ليس موقفاً متماسكاً. فمفهوم الذات، الذي يمكن القول إنه يبرز بوصفه القطب المقابل للقطب الموضوعي في تحليل تجربة ما إلى علاقات ذات - موضوع، لا يمكن أن يكون متطابقاً مع مفهوم الوعي، الذي ينطوي على درجة ما من إدراك السيرورات الفكرية، أو مع مفهوم النفس، الذي يشتمل تبعاً للمحللين النفسانيين على مكوّن لا واعٍ عريض. وإذا ما كان من المقبول القول إنّ واحداً من هذه البناءات -الذات- هو بناء موحد أو أحادي، فإنّ البنائين الآخرين- الوعي والنفس- هما بناءان معقدان.‏

    لكنّ البنيوية تواصل في العادة هذا الردّ فترى أن الدليل على تعقيد الوعي، أو النفس، هو بمثابة دليل على انعدام وحدة ذلك الشيء الذي يدعى "الذات الإنسانية"، أو على بنائيته، بل وعلى موته. فما هو هذا الدليل؟ لقد سبق لسقراط أن أشار في الجمهورية إلى أنّه يكفي القيام باستبطان بسيط لكي يظهر لنا أن ثمّة صراعات ضمن الوعي، كما أنّ المدارس النفسانية جميعها متفقة على أنّ النفس بناء معقد تستغرق إقامته كامل حياة المرء. فما الجديد الذي قدّمته البنيوية؟‏

    لقد قدّمت البنيوية اعتبارين اثنين، يمكن لكلّ منهما أن يُصاغ صياغة عامةً تماماً، ولكن ربما كان أفضل وجه للتعرف عليهما هو من خلال النظر في اوجه استخدام اللغة. ويتعلق أوّل هذين الاعتبارين بعملية بناء كلّ من الإدراك الحسيّ والفعل. فلنأخذ النحو الذي يتعامل به المرء مع دفق من الكلام. إنّ من لا يعرفون لغة محددة أيّة معرفة (أي لا يعرفونها ولا يعرفون أية لغة قريبة منها) يسمعون ذلك التيار من الأصوات الصادرة عن ناطق بهذه اللغة على نحو يختلف تماماً عن أولئك الذين يعرفونها. فالفريق الأول لا يسعهم سماع الأصوات المفردة في هذه اللغة، لا يسعهم سماع الوقفات أو التقطعات ضمن الكلمات. وإدراكاتهم الحسيّة للأصوات تكون محكومة ببنية اللغة التي يعرفونها.‏

    ولا بدّ لكلّ نظرية نفسانية في الإدراك الحسيّ أن تأخذ هذا الأمر بحسبانها، وهو أمر وثيق الصلة بالفلسفة الفرنسية دون أن يكون سبب ذلك مقتصراً على أنّ فلسفة ميرلوبونتي غالباً ما تُعتبر نظرية رصينة وموسعة في الإدراك الحسيّ. فالإدراك الحسي يتحول عند ميرلوبونتي إلى شيء يعمل بمثابة قاعدة للمعرفة دون أي توسط في حين يشير مثال اللغة إلى أنّ مثل هذا الإدراك الحسيّ الذي لا يتوسطه أيّ شيء ليس موجوداً. الأمر الذي يشكّل نقداً جذرياً لفكرة الإدراك الحسي بأكملها. (ولقد سبق لديريدا أن علّق في مؤتمر بالتيمور عام 1966 قائلاً: ".. لا أعلم ما هو الإدراك الحسيّ ولا أعتقد بوجود شيء كهذا").‏

    وإذا ما عدنا إلى اللغة لبدا لنا، في هذه الحالة الخاصة، أنّ قدراً كبيراً من معرفتنا الوثيقة بلغة ما يمكن ردّه أو اختزاله إلى مجموعة من الأنساق البنيوية، وتكون هذه المعرفة، في حالة اللغة الأولى، معرفة لا واعية في العادة، وتُكتسب في مرحلة باكرة جداً من مراحل نمو النفس. والحقيقة أنّ من المستحيل تصوّر نفس إنسانية لا تمتلك هذا القدر من المعرفة بلغة واحدة على الأقل. ويمكن القول إنّ النفس في جزء منها مبنية من هذه القطعة أو الجزء من شيفرة؛ أي أنّ العقل ينظّم إدراكاته الحسيّة الأساسية بالعلاقة مع هذه القطعة أو الجزء من شيفرة.‏

    وإذا ما كان هذا يصحّ على اللغة، فما الذي يمنع من أن يصحّ عموماً؟ ماذا لو كانت جميع إدراكاتنا الحسيّة يتمّ التعامل معها بالعلاقة مع تشفيرات بنيوية، تُبنى فينا عند الولادة، أو نتعلمها من خلال التشريط الاجتماعي؟ (إذْ يمكن لنا أن نضيف أنّ قدراً كبيراً من الأدلة التي ظهرت مؤخراً يشير إلى أن الأمر على هذا النحو). ألا يصحّ أن نقول إن النفس التي تدرك حسياً ليست سوى المحلّ الذي تتموقع فيه جميع هذه الشيفرات؟ فحين ندرك أيّ شيء حسياً، فإنّ الأنساق المُشفّرة التي تشكّل جزءاً من تكويننا تتعامل مع التنبيهات التي يتمّ تلقيها من الخارج وتحولها إلى إدراكات حسية لموضوع ما.‏

    وما يصحّ على الإدراك الحسيّ يصحّ أيضاً على الفعل. فنحن حين نتكلّم، نتكلّم كلمات، مؤلّفة من أصوات نتعرفها لكونها جزءاً من لغتنا. إلا أنّ الأنساق البنيوية التي بُنيت في أنفسنا أوّل تعلّم اللغة هي ما يترجم ذلك إلى أفعال عضلية فعلية تنتج أصواتاً فيزيقية يمكن لمكبر الصوت أن يتلقاها. فإذا ما قمنا بتعميم هاتين الحالتين، قد يمكن لنا أن نفترض أنّ جميع إدراكاتنا الحسية، وجميع أفعالنا، تتوسطها بنىّ لا نعيها، ولكنها شروط مسبقة للوعي.‏

    وأنا لم أشر حتى الآن إلى الترميز. فقد عُنيت باللغة كمثال وحسب على الطبيعة البنيوية للإدراك الحسيّ والفعل الإنسانيين، أي أننا في عالم البنيوية ولسنا بعد في عالم السيميولوجيا. ونحن نصادف حتى على هذا المستوى أدلة تشير إلى أنّ النفس مبنيّة من بنى، وأنّ هذه البنى موجودة في شيفرات اجتماعية قائمة قبل وجود النفس. غير أنّ اللغة ليست مجرد شكل بنيوي للسلوك والتجربة. فهي أيضاً وسيلة للترميز. وأفكارنا يتمّ تمثيلها في اللغة كما لو كانت هذه اللغة واسطة لذلك، ولا يبدو أنّ ثمة وسيطاً آخر يمكن عن طريقه تمثيل معظم هذه الأفكار. إذْ كيف يمكن لنا أن نمثّل مفهوماً كمفهوم "الاقتصاد البريطاني" أو "الشعراء الميتافيزيقيين" بغير اللغة؟ وحتى لو وُجدت هذه الواسطة، فإنها لا بد أن تقوم بوظيفتها مثل لغة، فضلاً عن أنها قد تكون مبنية من بعض النواحي مثل لغة. وقد يحصل أن نجد مفهوماً ليس له تمثيل في اللغة، ولكن هل نجد مفهوماً ليس له أي تمثيل بواسطة هذا الدالول أو ذاك؟ ألا يبدو وكأن من الممكن أن ندرس كلّ المفاهيم عن طريقة دراسة أنظمة الدواليل التي تُمثّل فيها هذه المفاهيم؟ إنّ هذا ما تقوم به السيميولوجيا.‏

    لكن المفاهيم جزء جوهري من المحتوى الفعلي للوعي. ومصطلح الوعي هذا يغطي كلّ ما في العقل ما عدا الإدراكات الحسيّة، ودوافع الفعل وما إلى ذلك. وفي هذه الحالة ستكون السيميولوجيا، التي هي دراسة أنظمة الدواليل، دراسة للمفاهيم الموجودة في العقل، وبذا دراسة لتشكل النفس. فبقدر ما تمكن رؤية أنظمة الدواليل بوصفها شيفرات مستدخلة أو مُذوتّة، تمكن رؤية العقل بوصفه مشكّلاً في جزء منه من خلال هذه الشيفرات.‏

    وقد يرى القارئ أن من السهل استيعاب طبعة حديثة، وضعية، من هذه النظرية في العلوم الطبيعية، لا في العلوم الإنسانية، وهذا ما يراه علماء الحاسوب الذين يعملون على ما يُدعى بـ الذكاء الاصطناعي. فالشيفرات، بالنسبة لهم، هي عملياً برامج حاسوبية جارية في الدماغ، الذي يُنظر إليه هنا بوصفه حاسوباً. والحقيقة أنّ هذه النظرية تروق لي، وتبدو اختزالية على نحوٍ يثير الإعجاب. غير أنّ أحداً من بنيويي المرحلة الكلاسيكية ما كان ليفكر على هذا النحو، مع أن نظرياتهم تفضي إلى ذلك. فقبضة الفلسفة كانت قوية إلى أبعد حدّ. والحقيقة أنها لا تزال قوية إلى أبعد حدّ، وبما أنّ تلك البنيوية قد ماتت الآن، فإنّ معظم ما بعد البنيويين سيجدونني ساذجاً على نحوٍ لا شفاء منه إذْ أقبل مثل هذه النظرة الحاسوبية إلى العقل.‏

    ما كان واضحاً في تلك المرحلة هو الصلة الوثيقة التي تصل أنظمة الدواليل بدراسة الاتصال في المجتمع. وهذا في الحقيقة هو التصوّر السوسوري الأصلي القديم للسيميولوجيا. والشيء الأساسي هنا هو أنّ الشيفرات التي تحمل معنى تُكتسب من المجتمع. ولذا يمكن القول إن من الممكن أن نُحلّ دراسة الشيفرات التي يوفرها المجتمع محلّ دراسة الوعي الفردي.‏

    وهكذا فإنّ الذات الإنسانية، ذلك الشبح الموحّد، قد ماتت مرتين بين يدي البنيوية. فقد كانت من قبل محلّ مجموعة من شيفرات الإدراك الحسيّ، التي هي ما يمكّنها من إدراك العالم حسيّاً. وها هي تصبح الآن محلّ مجموعة من الشيفرات الرمزية، التي تعطيها معرفتها وأنظمتها القيمية. ولم يعد المجتمع - هذا إن كان في أي يوم من الأيام- ذلك الترتيب الملائم الذي يقيمه جمعٌ من الأنفس البشرية المستقلة بذاتها. بل على العكس، فإنّ كل ّنفس يُزعمُ أنها مستقلة بذاتها هي مشكّلة من شيفرات اجتماعية موجودة مسبقاً. وحده الجسد البشري الخالي من الطابع الاجتماعي يوجد قبل التحديد أو التشريط الاجتماعي، أما الشخص فلا . (وهذا ما قد يفسّر سبب إقامة بارت كتابته على الجسد ورغباته حين بدأ بالابتعاد عن البنيوية).‏

    ويكتسي هذا التحليل للذات دلالة سياسية في عيون البعض. فألتوسر، مثلاً، يستخدم هذه المقاربة (متكئاً إلى لاكان في صياغة نظريته البنيوية عن الذات) في بناء نظرية عن الطريقة التي تتشكل بها الذات الإنسانية الفردية في الأيديولوجيا، فتقبل طواعية ما يقدّمه لها المجتمع من خيارات، كما لو كانت هذه الأخيرة خياراتها الخاصة، مع أنها خيارات قمعية كما يعتقد ألتوسر. ولقد تحدّر من هذه النظرية الألتوسرية في الأيديولوجيا بعض النقد المعاصر بالغ الأهمية مع أن هذا النقد غالباً ما يتنكر لأصوله متطلعاً بدلاً من ذلك إلى شخص مثل فوكو.‏

    ولا بدّ أن أقول إنني لم أستطيع أبداً أن أفهم لماذا تمّ النظر إلى التحليل البنيوي وكأنه هجوم على وحدة الذات أو فرديتها. فالقول بأنّ شيئاً ما هو بنية مشكّلة من أجزاء موجودة مسبقاً لا يكافئ القول إن هذا الشيء غير موجود، أو أنه ليس وحدة. وهذا ما يظلّ صحيحاً حين تكون الأجزاء شيفرات اجتماعية أو بنى رمزية موجودة مسبقاً. ويمكن أن يكون هناك مئات الملايين من الأنفس الفردية الفريدة مُشكّلة من الأجزاء الأساسية التي يوفّرها مجتمع معقد. وفي النهاية، فإنّ لكلّ من على هذه الأرض، باستثناء بضعة توائم حقيقية، نسقه الوراثي الفريد، مع أن هذه الأنساق جميعاً مُركبّة من أربع وحدات كيميائية مختلفة ليس إلا، فلماذا لا ينطبق على العقول ما ينطبق على الأجساد؟‏

    2-4-إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفاً‏

    إنّ سياق هذه المناظرة الفلسفية، بين تصور بنيويّ وتصور ظاهراتيّ أو وجوديّ للإنسان، هو السياق الذي تمتّ فيه تلك العملية الكبرى، عملية إعادة كتابة سوسور بوصفه فيلسوفاً.‏

    إنّ سوسور الذي صادفناه إلى الآن ينتمي بقوة إلى ما يُدعى أحياناً -وبنيّة سيئة على الدوام- بمدرسة المفكّرين "الوضعيين". إنه سوسور أقسام الألسنية في إنجلترا وأميركا، واحدٌ من أعظم فقهاء اللغة (الفيلولوجيين) التاريخيين تمثّل إنجازه في إيجاد ألسنية تزامنية جديدة، وعالمٌ حقق تطوراً حاسماً في علمه. وهذا السوسور لم يفقد أبداً اهتمامه ببراغي دراسة اللغة وصواميلها، ولذا نجد أنّ جزءاً أساسياً من "محاضرات في الألسنية العامة" قد طُبع بأحرف مائلة تشير إلى أمثلة ألسنية، توضح نقاطاً قواعدية، أو صوتية، أو دلالية تاريخية في بعض الأحيان. وكانت السيميولوجيا بالنسبة لهذا السوسور ضرباً من الإضافة، وهُدباً ملحقاً، وإمكانية مأمولة، واقتراحاً على هامش تطورات من المفترض حدوثها.‏

    وهذا السوسور يختلف تماماً عن سوسور التقليد البنيوي، سوسور رولان بارت والدمية التي شنّ عليها ديريدا هجومه. فسوسور هذا التقليد هو سيميولوجي في المقام الأول، منظّر في العلوم الاجتماعية، وفيلسوف تستمد منه نظريات بديلة لنظريات سارتر وشركاه حول تشكّل النفس. ولا بدّ من الاعتراف بأن أعمال هذا السوسور الجديد تُقرأ وتُقرأ بكثافة واهتمام استثنائيين، بوصفها نموذجاً لتطوير فروع جديدة من السيميولوجيا غير الألسنية ومن ثم من أجل المشاكل الميتافيزيقية التي يُفترض أنها تتكشّف عنها من خلال تناقضاتها الداخلية، كما يرى جاك ديريدا أو أمثاله من المعلّقين. ولقد تمّ في هذا السياق أخذ كل تمييز نظري أقامه سوسور، والنفخ فيه، وتحليله ونقله إلى سياقات أخرى غالباً ما يعني فيها شيئاً مختلفاً تماماً عمّا كان يعنيه. أما الأمثلة الألسنية التي تثبّت هذه التمييزات النظرية إلى الأرض فقد تمّ تجاهلها. وهكذا فإن "محاضرات" سوسور تُقرأ، لكن المكتوب بحروف مائلة يغفل ويتمّ القفز عنه.‏

    كان من الصعب أن يحظى سوسور بمثل هذا النفوذ والتأثير لو لم يكن في عمله عناصر تسند مثل هذه القراءات الجذرية. غير أنه ليس من السهل على القارئ غير الملتزم أن يضع يده على هذه العناصر من خلال قراءة بسيطة للـ "محاضرات". أمّا في العروض الجذرية لعمل سوسور، فهذه العناصر مطمورة في عمق ما تشتمل عليه هذه العروض من افتراضات وسجالات لاحقة من نوع سياسي أو مناهض للميتافيزيقا، ولذا يصعب أيضاً وضع اليد عليها أو التقاطها. ولعل أوضح عرض لهذه العناصر هو ما نجده في الأقسام الأخيرة من كتاب صغير جداً كتبه جوناثان كوللر (1976)، حيث نرى سوسور واحداً من الأعلام في "سلسلة فونتانا للأعلام المعاصرين". ويقدّم هذا الكتاب، على الرغم من اقتضابه، عرضاً وافياً لبعض ألسنية سوسور ولا يغفل الأمثلة الألسنية. إلا أنه يتبنّى النظرة الفرنسية اللاحقة في تناوله لأهمية سوسور العامة، الأمر الذي نجده في الصفحات 70-117 من هذا الكتاب والتي سأستند إليها فيما يلي.‏

    يبدأ كوللر، شأنه شأن كلّ العروض التي تناولت جذرية سوسور، بنظرية هذا الأخير في المعنى. ولقد سبق لكثير من المفكّرين، ومن بينهم مفكرون بارزون مثل هيدغر، أن عزوا أهمية خاصة لدراسة أصل الكلمات وتاريخها باعتبارها مرشداً إلى معنى ما أصليّ وجوهري للكلمات التي نستخدمها. واعتبروا التغيرات اللاحقة التي اعترت هذا المعنى نوعاً من الإضافات الخارجية التي يمكن نزعها وإزالتها إذا ما دعت الضرورة. وبالطبع، فإنّ من الصعب على ألسنّي تاريخي أنْ يرى مثل هذا الرأي، ذلك أنّ كلاً من شكل الكلمة ومعناها يتغيران بمرور الوقت، بحيث تصبح كياناً جديداً في حقيقة الأمر.‏

    ولقد رفض سوسور ذلك الرأي الذي يقول إنّ سلسلة تاريخية كاملة معينة من الأشكال [أشكال الكلمة] يكون لها معنى جوهري مشترك معين بحيث يمكن القول إنّ هذه الأشكال هي طبعات متعاقبة مختلفة من "الكلمة ذاتها". وأدرك سوسور أنّ كلاً من الصوت والمعنى يتغيران، وأنّ العلاقة بين الصوت والمعنى هي علاقة اعتباطية، وأن كلاً من الصوت المُدرَك والمعنى المُدرك تشكّلهما أنساق من التقابل بين الأصوات في الحالة الأولى وبين الأفكار في الحالة الثانية. ونحن لا نملك مفردة فردية واحدة تقف بحدّ ذاتها، لا في حالة الدالّ، أي الكلمة التي نتلفّظ بها، ولا في حالة المدلول، أي المفهوم الذي نربطه بهذه الكلمة. فكلّ مفردة تستمدّ هويتها من موقعها ضمن نظام كليّ.‏

    وهذا أمر لـه أهميته العظيمة من الناحية المنهجية، لكنّه أمر ينتمي إلى الألسنية الصرفة بوصفها حقل دراسة مستقلاً بذاته. فما الذي يحدث حين يتمّ النظر إليه من طرف فلسفة الذات البنيوية الجديدة؟ يمكن لنا أن نقارب ذلك باستخدام إحدى استعارتين. فحين ننظر إلى العقل بوصفه نوعاً من الوعاء، يمكن أن نقول إنّ بنى اللغة التي قال بها سوسور متوضّعة داخل العقل، إلى جانب الشيفرات البنيوية التي تحدد المجتمع أو تعرّفه. وحين ننظر إلى العقل بوصفه وجهة نظر تجاه العالم، فسوف نقول إنه يدخل في عالم رمزيّ مبنيّ من هذه الشيفرات. وهذه الاستعارة الثانية هي التي يميل كلّ من ليفي شتراوس ولاكان إلى استخدامها.‏

    والملاحظ في كلا الحالين أنّ الشيفرات ليست نتاجاً لخبرة الذات المعنية إلا إلى حدّ قليل. أمّا في جزئها الأكبر فهي موجودة من قبل أن تكتسبها الذات، فليس سوسور من ابتدع اللغة الفرنسية، ولا دوركهايم من ابتدع المجتمع الفرنسي. وهذه الشيفرات تبني التجربة التي تتمكّن الذات من خوضها. فلكي أدرك أنني أمام تعليقات معينة باللغة الفرنسية لا بدّ لي من أنْ أكون على ألفة ببنية اللغة الفرنسية، كما يتوجب عليّ أن أكون على ألفة ببنية المؤسسات الاجتماعية، كالزواج مثلاً، لكي أدرك أنني أمام زواج معين حين أصادف واحداً.‏

    وتبعاً لكوللر، فإن من الممكن مقارنة أهمية سوسور بالنسبة للعلوم الإنسانية بأهمية معاصِرَيْه، فرويد ودوركهايم، الأبوين المؤسسين لعلم النفس الحديث وعلم الاجتماع الحديث على التوالي. وما يجده كوللر محورياً في مقاربة هؤلاء المفكرين الثلاثة معاً هو شيء كان من الممكن لكثير منا أن يقرنوه بفيلسوف مثل هوسرل، حيث يرى كوللر أنهم جميعاً يضعون "الذات" -النفس، الـ "أنا"، مَنْ يدرك حسياً، ويفكّر، ويتكّلم- في المركز من ميدان تحليلهم. ومن ثم يرى كوللر، مُقتبساً ديريدا خارج السياق الزمني المناسب ومبدلاً قصد هذا الأخير قليلاً، باعتقادي، يرى أن هؤلاء المفكرين "يفككون" الذات. أي أنهم يفسّرون المعاني تبعاً لأنظمة العُرف والتقليد التي لا تسيطر عليها الذات سيطرة واعية. وهكذا تتحلّل الذات، أو النفس، إلى مكوناتها التي تصبح أنظمة عرفيّة قائمة بين الأشخاص. كم تنحلَ النفس إذ تُعزَى وظائفها إلى مُنَوّعٍ من الأنظمة التي تفعل فعلها عبر هذه النفس.‏

    باختصار، فإنّ من غير الممكن قيام علم الاجتماع، أو الألسنية، أو علم النفس التحليلي إلاّ حين يتمّ أخذ المعاني المنسوبة إلى الموضوعات والأفعال في المجتمع، والتي تفرق هذه الموضوعات والأفعال، بوصفها واقعاً بدئياً، وبوصفها وقائع ينبغي تفسيرها.‏

    ولأنّ المعاني نتاج اجتماعي، فإنّ التفسير يجب أن يجري بمصطلحات اجتماعية. ويبدو الأمر وكأنّ سوسور، وفرويد، ودوركهايم قد تساءلوا: "ما الذي يجعل التجربة الفردية ممكنة؟ ما الذي يمكّن البشر من أن يضطلعوا بموضوعات وأفعال ذات معنى؟ ما الذي يمكّنّهم من الاتصال والفعل على نحو له معنى؟" وجوابهم الذي طرحوه هو المؤسسات الاجتماعية التي هي شرط التجربة مع أن النشاطات والفعاليات البشرية هي التي تشكّلها. فلكي نفهم التجربة الإنسانية لا بدّ من دراسة المعايير الاجتماعية التي تجعلها ممكنة.‏

    (كوللر 1976، ص72).‏

    يضع كوللر مقاربته هذه مقابل الوضعيّة التجريبية التي تتحدّر من هيوم، والتي تميّز بين ضربين من الواقع: واقع الموضوعات والأحداث الفيزيقي الموضوعي، والإدراك الحسيّ الفردي الذاتي للواقع. والمجتمع عند هيوم ليس من النوع الأول، ولذا لا بدّ أن يكون مجرد نتيجة للنوع الثاني، وربما مجرد قصة خيالية جمعية. كما يضع كوللر مقاربته مقابل المثالية الهيغلية التي ترى في كل شيء تعبيراً عن العقل في سيرورة تطوره.‏

    وهكذا تمّ جمع كلّ من سوسور وفرويد ودوركهايم معاً بوصفهم فلاسفة، أو ربما فيلسوفاً واحداً، يحلّل طبيعة التجربة الإنسانية، وليس بوصفهم علماء، يقدّمون معلومات وقائعية وتفسيرات نظرية لها. كما ينظر كوللر بعين الازدراء إلى الفكرة التي ترى أنّ كلاً من هؤلاء الثلاثة قد كان منشغلاً بالتفسير السببيّ، على الرغم من قول فرويد ودوركهايم إنهما كانا كذلك (فرويد 1915-1917، دوركهايم 1895). وهكذا يتمكن كوللر بعملية قياس وتشبيه واضحة - وهي عملية فرنسية مميزة تعود إلى أواخر الخمسينيات - من أن يتدبّر أمر الجمع بين ثلاثة مفاهيم متباينة إلى حدّ بعيد: فكرة البنية، وفكرة التمثيلات أو المعايير الجمعيّة، وفكرة اللاوعي.‏

    يربط التفسير البنيويّ الأفعال بنظام من المعايير- قواعد لغة معينة، التمثيلات الجمعية الخاصة بمجتمع معين، آليات اقتصاد نفسي معين- ومفهوم اللاوعي هو طريقة لتفسير الكيفية التي تمتلك بها هذه الأنظمة قوة تفسيرية. فهو طريقة لتفسير الكيفية التي يمكن بها لهذه الأنظمة أن تكون مجهولةً إنّما حاضرةً على نحوٍ فاعلٍ ومؤثّر في الوقت ذاته. وإذا ما كنّا نعتبر توصيف النظام الألسنيّ بمثابة تحليل للغّة فذلك لأن النظام ليس شيئاً "معطى" للوعي مباشرة ولكنه يُرى مع ذلك على أنه حاضر دوماً، وفاعل دوماً، في السلوك الذي يبنيه ويجعله ممكناً. (المصدر السابق، ص76).‏

    وهنا يطلق كوللر زعماً صاعقاً تماماً، زعماً يُظهر مدى الجذرية التي تسمُ إعادة قراءة سوسور هذه. فسوسور، كما يقول كوللر، يقدّم أدلة على وجود اللاوعي أفضل من تلك التي يقدّمها فرويد!‏

    على الرغم من أنّ مفهوم اللاوعي قد ظهر في أعمال فرويد، إلا أنه مفهوم أساسي بالنسبة لنمط من التفسير يسعى وراءه صف كامل من الفروع الحديثة، ولا بدّ أنه كان سيوجد ولو لم تكن مساهمة فرويد موجودةً. ويمكن القول إن هذا المفهوم يظهر في الألسنية بشكله الأوضح والأصعب نقضاً. فاللاوعي هو المفهوم الذي يمكّن المرء من تفسير واقعة لا ريب فيها، ألا وهي أنه يعرف لغةً (بمعنى أنه يستطيع أن يُطلق منطوقات جديدة مفهومة، وأن يقول ما إذا كانت جملة ما من لغته أم لا، إلخ) مع أنه لا يعرف ما يعرفه. فهو يعرف لغة معينة لكنه يحتاج إلى ألسنيّ لكي يشرح لـه بدقة ما الذي يعرفه. ومفهوم اللاوعي يصل بين هاتين الواقعتين ويضفي عليهما معنى ويفسح مجالاً للشرح والتفسير. ولسوف تفسر الألسنية أفعالي، شأنها شأن علم النفس وعلم اجتماع التمثيلات الجمعية، عن طريق إظهارها المُفَصّل للمعرفة الضمنية التي لا أعيها أنا نفسي(المصدر السابق، ص76).‏

    يبدو أن ثمّة شيئاً من السحر اللغوي يتمّ من خلاله توحيد نظرياتٍ متباينة جداً عن طريق إلصاق لصاقة واحدة وحسب عليها جميعاً. غير أنّ قواعد لغة ما، ومعايير مجتمع ما، وآليات اقتصاد نفسي معيّن، لا تصبح متماثلة بمجرد أن نسميّها "أنظمة معايير". فمفهوم اللاوعي الفرويدي بوصفه المكبوت- والذي يجب تفريقه عمّا هو قبل الوعي أو غير الملحوظ - يختلف تماماً عن فكرة الألسني الخاصة بامتلاك معرفة ضمنية بالقواعد أو فكرته الخاصة بـ "المفردة الأخرى التي لا نستخدمها في هذه اللحظة من مفردات مجموعة استبدالية معينة". كما يختلف كلّ هذا عن لا وعي دوركهايم الجمعيّ. ومن العسير أن نجمع معاً هؤلاء الآباء المؤسسين دون أن نتجاهل كلّ ما هو مميّز ولافت للانتباه في مباحثهم الخاصة. حيث لا بدّ عندئذ من ترك التفاصيل الألسنية، والإحصاءات الاجتماعية -من بين أشياء أخرى- خارج علم الاجتماع، ولا بد من ترك الوضع والإجراء التحليليين خارج التحليل النفسي.‏

    إن جمع كلّ من سوسور، وفرويد، ودوركهايم على هذا النحو قد يبدو غريباً، غير أنّه يصبح مفهوماً حين نأخذ في الحسبان تلك التقاليد الفكرية الكبرى التي نبعت من كلّ من هؤلاء المفكرين الثلاثة. مع أنّ كلاً من هذه التقاليد يحتّل موقع "الأقلية" ضمن فرعه، على الرغم من الأهمية التي قد تكون له.‏

    فالتقليد الأساسي المتحدّر من سوسور هو، كما رأينا، علم الألسنية الحديث، أمّا التقليد الأقلويّ، الذي يثير دهشة معظم الألسنيين، فهو ذلك الذي يرى سوسور بوصفه فيلسوفاً عُنيَ، ضمن إطار السيميولوجيا الواسع، بطبيعة التجربة الذاتية، ووضع الخطوط الكبرى لمفاهيمنا ولأسس الوعي اللاواعية.‏

    والتقليد الأساسي المتحدّر من فرويد هو تقليد التحليل النفسي الأرثوذكسي، على الرغم من وجود تباينات انشقاقية لا تُعدّ ولا تُحصى. أمّا التقليد الأقلويّ فهو تقليد جاك لاكان، الذي سخر من العلمية الموضوعية لدى الفرويديين الأرثوذكس وزعم أنّ اللاوعي مبنيّ مثل لغة، لأنه، في حقيقة الأمر، أثر للغة. ومع أنّ ما يعنيه لاكان باللغة يبدو مختلفاً تماماً عمّا يمكن أن يكون قد عناه ألسني مثل سوسور، إلا أنه غالباً ما يشير إلى سوسور وكأنه هو المسؤول عن تصوراته، وذلك بتلك الطريقة التلميحية وغير المفهومة التي تتعمدّ الإثارة والإزعاج. وكما قال لي دكتور أميركي في الفلسفة بكثير من الوقار والرزانة: "كلّ ذلك موجود لدى سوسور كما تعلم".‏

    والتقليد الفكري الأساسي المتحدّر من دوركهايم هو تقليد علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. ويمثل ليفي شتراوس شخصية كبرى في هذا المجال، شخصية قد لا يمكن لأيّ انثروبولوجي أن يتجاهلها مع أن قلّة قليلة هم الذين يقبلونه ككلّ. وكان ليفي شتراوس في الأربعينيات قد اتّخذ الألسنية مثالاً للمنهج وانتهى في الستينيات إلى تعريف الأنثروبولوجيا بأنها فرع من السيميولوجيا. ومن الصعب على المرء أن يرى أن ليفي شتراوس يشغل مكان الأقلية ضمن الأنثروبولوجيا الفرنسية، إلا أنه أقلية ضمن الأنثروبولوجيا ككلّ.‏

    أمّا حين نعتبر أنّ السيميولوجيا (التي أُعيد تعميدها اليوم باسم السيميائية) والتحليل النفسي اللاكاني والأنثروبولوجيا الليفي شتراوسية هي التقاليد الأساسية المتحدرة من هؤلاء المفكّرين الثلاثة (وهذا ما كانت تتوق إليه الطليعة الفرنسية في أوائل الستينيات وما نجد سجالات فيه إلى الآن) فلا عجب أن نجمع سوسور وفرويد ودوركهايم، لأن هذا الجمع سيكون طبيعياً على أساس هذا التأويل. بل إنّ هنالك اليوم من يرى إمكانية القيام بنوع من التوليف الفكري بين هذه الحقول، كالتوليف الذي قام به الكاتبان البريطانيان كوارد وإليس، والذي سنعرض له لاحقاً، على الرغم من أنهما، شأن معظم الجذريين، يستبدلان ماركس بدوركهايم في قراءة ألتوسرية للأول. ولقد بدا مثل هذا التوليف وارداً جداً في آخر أيام البنيوية، وقد ختم كلّ ما دارت حوله تلك الضوضاء السائرة على الموضة. وليس ثمة سبب من حيث المبدأ لأن نهزأ حتى بالموضة، فمن المحقّ أن تكون هنالك إثارة فكرية عندما يبدو توحيدٌ على مثل هذا المستوى قريباً بحيث تمكن رؤيته، حتى لو لم يكن لدينا سوى فكرة ضبابية عما يدور حوله أو يعنيه. وها هو سوسور لا يزال ينال كثيراً من الحظوة بسبب هذا التوحيد الضخم والذي لم يتحقق تماماً قط.‏

    ومجمل القول إنّ المشكلة الفلسفية الأساسية التي يُزعم أنّ جميع هؤلاء المفكّرين قد أسهموا بها هي مشكلة طبيعة النفس، والعقل أو الذات العارفة. والإسهام الذي يقدّمه تقليد البنيوية السيميولوجية في هذا الصدد هو تمثيله العقل، أو الذات، بوصفه مجموعة من الشيفرات المتشابكة المتواشجة لا بوصفه كياناً موحداً. وتشكّل هذه الشيفرات الأساس اللاواعي للوعي. ومن وجهة النظر هذه لا يعود من الصائب القول إنني أعرف لغتي. ففي الوقت الذي بدأت فيه تعلّمها لم أكن أمتلك نفساً متطورة تماماً، أما "الأنا" القائمة الآن فقد أسهمت في تشكّلها اللغة التي أعرفها وأفكّر بها، في حين شكّلت بقيتي شيفرات أخرى وبعبارة أكثر تأنقاً فإنّ "ما لا أعيه هو الذي يشكّلني، ولست أنا من يتكّلم، بل اللغة والشيفرات الأخرى هي التي تتكلّم عبري، إنني أتكلّم من حيث لا أكون".‏

    ومن وجهة النظر هذه، فإنّ "الذات" لم تعد تشغل الموقع المركزي الذي بوّأها إيّاه التقليد الفلسفي الذاتويّ، وإنما أضحت "غير متمركزة". وتجربتي المباشرة لم تعد الأساس الذي لا يُناقش للحقيقة العلمية، كما اعتقد هوسرل وكما يعتقد نقّاد الأدب، وإنّما تُعالج عبر الشيفرات التي تشكّل جزءاً مني عن طريق ثقافتي. ويمكن أيضاً ربط ذلك بمفهوم الإيديولوجيا الماركسي على نحو يوضحه ويلقي الضوء عليه. فالإيديولوجيا، عند ألتوسر، هي أكثر بكثير من كونها نظاماً زائفاً من الأفكار التي يصنّعها المجتمع الرأسمالي لكي يشوّش إدراك البروليتاريا مصالحها الطبقية. إنّ الإيديولوجيا بالأحرى هي العنصر الذي نختبر فيه العالم، والعنصر الذي نحيا فيه. ويمكن أن نساوي بين الإيديولوجيا وبين مجال الرمزيّ اللاكانيّ، أو الثقافة الليفي شتراوسية، أو الوعي الجمعيّ الدوركهايميّ، وما من مجتمع -حتى بعد الثورة- يمكن أن يوجد من دونها.‏

    قد لا تبدو هذه النظرة ماركسية على وجه الدقة، إلا أنها تمكّن المرء من تقديم بعض الحلول المثيرة لبعض الإشكاليات التاريخية في المصطلحات النظرية الماركسية، فالمجتمع الرأسمالي، على سبيل المثال، يحتاج لديمومته إلى مصدر لا ينضب يواظب على تزويده بالذوات الإنسانية الحرّة في الظاهر، لكي تقوم باتخاذ قرارات حرّة وتلقائية في الظاهر، أثناء اضطلاعها بأدوارها في الأسواق الحرّة الرأسمالية. غير أنّ هذه "الذوات" لم توجد بصورة تلقائية، بل شكّلتها الشيفرات الرمزية السائدة (أو "الممارسات" كما يفضّل ألتوسر أن يقول بوصفه مادياً ماركسياً) من خلال سيرورة هي تقريباً تلك التي وصفها لاكان. وهكذا يلتحق ألتوسر بذلك الصفّ الطويل من أولئك الذين حاولوا التوليف بين ماركس وفرويد. لكن هذه الممارسات هي أيديولوجيا المجتمع، وتبعاً لألتوسر فيما بعد، فإنّ الدول الرأسمالية لديها عملياً أجهزة الدولة الإيديولوجية، كالمدارس، التي تنتج هذه الممارسات، وتنتج بالتالي هذه "الذوات".‏

    وليس معروفاً على وجه اليقين ما إذا كان هذا صحيحاً أم لا، أو حتى ماركسياً أم لا، وهو يشكّل حجة لافتةً ومثيرة للماركسيين في تركيز جهودهم الثورية على تبديل المناهج في المدارس والجامعات. ولقد وجد ريتشارد هارلاند‏

    (1987) اسماً موحياً لما بعد البنيوية هذه ولجميع ما بعد البنيويات اللاحقة، بنزوعاتها المثالية المتأصلة. لقد دعاها بـ "السوبر بنيوية".‏

    * الدواليل (جمع دالول sign) وهو ماجرت العادة على ترجمته بعلامة أو إشارة. غير أنني أعتقد أنها ترجمة غير دقيقة على الرغم من شيوعها(م).‏


    ماخوذه عن مجلة الآداب الاجنبيةالعدد 106 - 17ربيع و صيف 2001

    --------------------------------------------------------------------------------
                  

10-14-2004, 03:20 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حقل فوكو "الجزء الاول" (Re: osama elkhawad)


    حقل فوكو *
    بقلم : تشارلز ليمرت
    ترجمة : خالدة حامد

    ما ميشيل فوكو ؟ هل هو ماركسي ؟ بنيوي ؟ سيميائيsemiotician ؟ فهو يستعمل مصطلحات ماركس : الطبقة ، الاقتصاد السياسي ، الإنتاج ، رأس المال ، سلطة العمل ، الصراع . لكنه وإن كان ماركسيا ، تبدو صلته بالماركسية غير واضحة . إذ نلمس اهتماما بنيويا بالأشكال الشمولية من الثقافة في حديث فوكو عن " النظام في حالته الأولية " وفي محاولته " كشف أعمق طبقات الثقافة الغربية (1) " .

    إلا إنه ينكر اتجاهه البنيوي ، على الرغم من ذلك ، ويبدو دوره السيميائي واضحا في دراساته للنحو العام في " الكلمات والأشياء " Les mots et les choses وللعلاقة بين العلامات signs والأعراض symptoms في " مولد العيادة " (2) Naissannce cliniqne . لكنه يبدو على الرغم من ذلك أكثر من محض سيميائي .

    إن الماركسي ، البنيوي ، السيميائي صفات يلصقها به قراؤه وليست صفاته شخصيا . فنحن حينما نقرأ له نراه يواجهنا في كتاباته بالجديد والغريب ، ونفعل ما يفعله بقية القراء أي نقرأ من المألوف إلى الغريب . ونظرا إلى أنه مفكر فرنسي يكتب بعد الحقبة الوجودية existentialist period ، نفترض أنه لابد أن يكون ماركسياً أو بنيوياً أو سيميائياً . فما الذي يمكن أن تجده في فرنسا هذه الحقبة عدا ما ذكرناه ؟ إن افتراضا من هذا النوع يثير مشكلات كثيرة . وقد تفيدنا مثل هذه الستراتيجية في القراءة فائدة كبرى في حالات معينة لكنها تخذلنا في حالة فوكو . فبعض المؤلفين يميل إلى ملاءمة المقولات بينما لا يفعل فوكو ذلك .

    تدفعنا كتابات فوكو بعيدا عن المألوف باتجاه الغريب ، ويكون القارئ عارفا بالسور المتين الذي يحيط بما لدينا من خزين المعرفة المألوفة ، والذي لا تنحل أواصره حينما نقرأ . فنحن لا نستطيع استغلال معرفتنا بالماركسية والبنيوية والسيمياء بل نحن مجبرون على الانتهاك وتجاوز حدود معرفتنا وفسح المجال أمام أنفسنا للسقوط في غياهب لغته وفكره الغريبين والتساؤل عما إذا كان لما نقرأه أية قيمة أصلاً ، إذ تبدو القواعد اللازمة لقراءة فوكو على النحو الآتي : لا تجعل منه شخصا آخر ، تعلّم أن تعيش معه كما هو ، توصلّ إلى أحكامك بعد قراءة الكثير . ومما لا شك فيه إنك ستتعلم الكثيرعن سوسيولوجيا العقاب في " المراقبة والمعاقبة" Discipline and punish ، وأبستمولوجيا العلوم الإنسانية في "الكلمات والأشياء" ، والتفكيك الفلسفي لنظرية السلطة في " تاريخ الجنس " The History of sexuality الجزء الأول ، والفلسفة الشارحة للمعرفة التاريخية في"حفريات المعرفة"Archaeology of Knowledge ، ونظرية الفكر السياسي في" الحقيقة والسلطة" Truth and power (3) ، والدراسات الأدبية لباتاي وبلانشو وفلوبير وروسيل ونيتشه في " اللغة والذاكرة المضادة والممارسة (4) " Language , counter –memory , and practice ونجد الكثير من هذه الموضوعات قائمة بذاتها ويمكن أن تذوب في موضوعات هي خارجية بالنسبة لفوكو إلا أن كل من لديه رغبة بفهم فوكو عليه أن لا يحوله إلى شيء آخر ، بل ينبغي له رؤيته من منظور مصطلحاته الصعبة الخاصة به .

    يبدو أن أحد الأسباب التي تدفع فوكو إلى إقصائنا خارج حدود المألوف هو أنه باريسي . فالمفكرون الباريسيون يعملون في حقل القوى الفكرية المعقد والمتغير بسرعة . (5) فالأفكار تغدو وتروح ، والنجوم الفكرية تبزغ وتأفل ، وقد يحدث ذلك في غضون أسابيع . ولا يوجد أي مكان فكري آخر في العالم الحديث يماثل باريس تماما ، فهي البؤرة التي تتمركز فيها معظم قوة ثقافة العالم وبالتالي صار لزاما على المؤلفين ، وعلى أفكارهم ، التنافس لاحتلال موقع في هذا الحقل ، وقلة هم الذين يحتفظون بمكانتهم لفترة طويلة . وينبغي للكتاب تلبية حاجات الجمهور الأدبي الملح والمتقلب . كما يكون المفكرون تحت أنظار صفحات جريدتي " اللوموند " أو " النوفيل أوبزيرفاتور" ، وعلى شاشات التلفزيون الفرنسية ، وعلى منصات الكوليج دي فرانس . وقلما نجد مخبأ من باريس كلها لأن القبول الأدبي علامة على القيمة الفكرية . فحالما يعرض الكاتب نفسه لهذا الجمهور تعصف به عندئذ قوة ذلك الجمهور . ولكي يتفادى المفكرون الباريسيون الإحراج يكونون تحت طائلة الضغط للبحث عن ملاذ لهم في ما هو غريب وجديد وهذا هو السبب وراء قلة شروحات الأدب الفرنسي والعلم الإنساني وغزارة شفراته (6) codes . وتعمل الابتكارية الأسلوبية والفكرية على حماية موقع المؤلف الثمين في مناخ ثقافي متأجج . ويشعر القراء الأجانب ، لا سيما الأميركان ، بهذا الأمر أولا . فنحن نكتشف ميرلو ـ بونتي ، سارتر ، ليفي شتراوس ، التوسير ، غورفتش، بارت ، دريدا ، كرستيفا ، هنري ـ ليفي ثم نندفع إلى باريس لزيارة هذه النُصُب لكننا لا نجد سوى الحجارة . فقد اكتسحتنا العاصفة نحن أيضاً ، والنجوم أفلتْ أو انتقلت إلى مجرة معجمية lexical أشد غرابة ، ولا أحد في باريس يرغب بالحديث عنها ، فقد وجد الفرنسيون أن اهتمامنا بالنصب التذكارية غريب تماما .

    يعد فوكو جزءا من هذا الحقل . وعلى الرغم من أنه لم يفقد مكانته الأدبية في باريس حتى الآن ، يبدو أن مؤلفاته تحمل علامات ضغوطها . وربما كان هذا الأمر غريبا إلى الحد الذي جعل فوكو يحتفظ بهذه المكانة عشرين عاما ، أي منذ نشر كتابه " تاريخ الجنون "(7) Histoire de la Folie في 1961 . ومع ذلك ، يوجد تفسير جوهري لغرابة فوكو . فهو قد حول شروط الفكر الباريسي المعقدة إلى منهج وضعي . لكن ينبغي لنا القول أن فوكو ليس ذا مزاج عابث . ومهما يكن حكمنا النهائي على عمله ، لابد من التشديد على أن فوكو يقصد الكتابة والعمل على النحو الذي يمارسه هو . وتؤكد نظريته الاجتماعية انتهاك الحدود المألوفة على نحو واضح .

    فوكو ـ الحدث : إن إطلاق اسم " الحدث "event على فوكو لا يعني الاحتفاء به أو جعله أكثر مما هو عليه ، بل يعني دراسته بمصطلحاته الخاصة ، فهو يرفض التاريخ التقليدي للأحداث الكبرى (الحروب والمعاهدات والاتفاقيات الدبلوماسية ، وما إلى ذلك ) ويقترح بدلا منه تاريخا يضفي صفة الحياة على الفهم الاعتيادي للأحداث التاريخية . فنجده يهتم بالأحداث القليلة الشأن في التاريخ أكثر من اهتمامه بالأحداث الكبرى : إذ يعنى بالراويات المنسية ، بتقرير عن جريمة ما ، بقصة خنثوية ، بمشهد واحد من الأعمال الكاملة لماغريب ( . فالحدث لا يقاس بما يحمله من معنى أو أهمية ، بل بمكانته في مجال القوة الاجتماعية . فهو بؤرة لقلب المصادفة Chance reversal : " علينا أن نتقبل إدخال المصادفة بوصفها مقولة category في إنتاج الأحداث(9) " . فحدث فوكو لا يشكل المصدر الآني للتغير ، بل هو اللحظة المنفصلة المحدودة حينما يتضح التحول . ولهذا السبب فإننا حينما نتحدث عن فوكو ، فإن الحدث لا يعني السؤال عن المعاني المهمة أو المقاصد الخاصة أو الكليات totalities الاجتماعية التي يمثلها الحدث ، بل ينبغي لنا أن نضع جانبا الأسئلة الاعتيادية المتعلقة بخلفية فوكو وتراثه ومصادره وتأثيراته ، وخط اتصاله وأهميته ومعناه الأعمق . بل لا يتطلب الأمر سوى وضع كتاباته في محل تكون فيها مختلفة ومحددة بخصوص " شروط وجودها الخارجية (10) " .

    يعد فوكو حدثا يمكن فيه رؤية الانقلابين اللذين حلاّ في الفكر الفرنسي مؤخرا ، وإن لم يكن هو السبب وراءهما ، ولا ممثل لهما تماما ، بل كان بمثابة المركز البؤري لهما . ومع ذلك يمكن أن نلحظ من اختلافه عن الحقول التي كان جزءا منها مدى تجسيد [عينية] concreteness موقفه والسمات العامة للحقل الذي اشترط هذا الموقف .

    وقد مثلت الحركة البنيوية أول التحولين . إذ ظهر كتاب فوكو " تاريخ الجنون " 1961 في خضم الجدل البنيوي ، وكان عنفوان البنيوية واضحا في المدة المحصورة بين 1955 ( " المدارات الحزينة " Tristes Tropigues لليفي شتراوس) ومنتصف الستينيات ( من أجل ماركس " For Marx لألتوسير 1966 ، و"علم الدلالة البنيوي "Structural Semantics لغريماس 1966 و"السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية " Political Power and Social Classes لبولانترة 196(11) . وعلى الرغم من أن البنيوية شكلت حركة متعددة الجوانب ، ولا شك أنها كانت النشاط الفكري الوحيد المتميز آنذاك ، نجدها طرحت أسئلة فصلتها عن وجودية وظاهراتية phenomenology ما بعد الحرب العالمية الثانية تماما : هل أن التاريخ يقبل التحول إلى أفعال actions تقوم بها الذات التاريخية ؟ ألا تفسر اللغة العقل الإنساني أفضل من الوعي ؟ كيف تكون دراسة الإنسان علمية ؟ يبدو جليا تداخل الأسئلة وإجاباتها . واستطاعت البنيوية تحويل الفكر الفرنسي ضمن الأنشطة المتراوحة بين استخدام ليفي شتراوس للسانيات linguistics ياكوبسن في نقد النزعة التاريخية historicism الماركسية . لكن على حين غرة ، اكتنف الشك الذات التاريخية وميتافيزيقيا الوعي ، ومسألة إعلاء شأن الهرمنيوطيقا hermeneutics (12) في العلوم الإنسانية . وحلت محلها أسئلة مختلفة تماما : ألا تعد الذات نتاج القوى الاجتماعية ؟ ألا يمكن قراءة الوعي من اللغة ؟ ألا يمكن وجود علم شكلي ، شامل في الأقل ، للإنسان من دون التأويل interpretation أو اللغة ؟ ما معرفة الإنسان ؟ وهكذا نجد أنها نشرت تعاقبية synchrony سوسير بإزاء النزعة التاريخية ، وأعلت شأن اللغة على الذات المتكلمة بإزاء الظاهراتية ، وعادت إلى تحليل الشكل والعام بإزاء الهرمنيوطيقا .

    كان فوكو حدثا ضمن هذا الجدل ، وطرح الأسئلة ذاتها إلا أنه رفض البنيوية قبل انصرام العقد(13) ، لأنه عمل في كتب تلك الحقبة ـ " تاريخ الجنون " و " الكلمات والأشياء" و " حفريات المعرفة " ـ في المجال الفكري ذاته الذي عملت فيه البنيوية ، وإن لم يكن يحمل صفة البنيوي . وحدث التحول الثاني في الفكر الفرنسي الحديث داخل البنيوية ذاتها . فقد ظهرت البنيوية كتكيف من الداخل ، إلا أن الأمر تحول على نحو أنذر بنهايتها ، وما بين كتب دريدا الثلاث في 1967 ( " الصوت والظاهرة "Speech and Phenomena و" الكتابة والاختلاف " writing and Difference " و " في الغراماتولوجيا (14) " Of Grammatology ) وكتاب دولوز وغواتاري " نقيض أوديب : الرأسمالية والشيزوفرينيا " Anti – Oedipus : Capitalism and Schizophrenia في 1072 ، وكتاب بورديو "نظرة في نظرية الممارسة "Outline of a Theory of Practice في 1973(15) ، جوبهت البنيوية في أضعف مواضعها : حيث تكمن آثار النزعة الإنسانية والتمركز حول الصوت phoncentrism عند سوسير وليفي شتراوس ، وعجز البنيوية عن تقديم تفسير سياسي للثقافات التاريخية ، ونزعتها الوضعية ، ولاسيما تغاضيها عن الذات الراغبة ، الممارسة . ولم يكن الانقطاع هنا واضحا على النحو الذي توضح فيه مع الوجودية . وأن ما يسمى بما بعد البنيوية قد سلَّم برفض البنيوية للميتافيزيقا واهتمامها باللغة والأدب ورفضها تحويل الإنسان إلى ذات مثالية . إلا أن هذه الحركة ما بعد البنيوية أفادت من الانبعاث اللاكاني(16) ، إلى حد ما ، ومن القراءات المستقلة لفرويد ونيتشه وماركس (وغيرهم) ، وتمكنت من إحياء قضايا الذاتية subjectivity والفعل التاريخي والممارسة . ولم تعد الذات تمثل ذاتية الوعي القديمة المتعالية ، بل أصبحت ذاتية الرغبة المتوسطة بين اللغة والأدب . وما عاد الفعل التاريخي يمثل مشاركة إنسانية بل صار سياسة الكتابة والجنون . وما عادت الممارسة تعبيراً عن المقاصد ، بل أصبحت استراتيجيات يحددها اتحاد القوى الاجتماعية والرغبة الإنسانية(17). وينبغي ألاّ نندهش إذا علمنا أن التحول الأخير أكدته سنة الثورة 1968 . ومن هذه اللحظة ، ما عاد بالإمكان التفكير ، على نحو تجريدي ، بالتعاقبات الجامدة ، بالإنسان التاريخي ، بالبنى الاجتماعية (بضمنها البنى اللسانية) بوصفها محددات ، أحادية الجانب ، للفعل الاجتماعي أو للذوات التي بلا رغبات أو التي لا تخشى تهديد الموت ، فإذا وضعت البنيوية حدا للبرالية الوجودية السرية فستمد الحركة ما بعد البنيوية حبالها إلى النزعة التجريدية abstractionism وإلغاء النزعة السياسية الكامنتين في البنيوية .

    ولا شك في أن فوكو يُعد حدثاً في هذا التحول الثاني وقد وضح في كلمته الافتتاحية التي ألقاها في الكوليج دي فرانس ، دور النقد في الدراسات التاريخية (1 . إلا إنه كان بعد ذلك ، أي في " المراقبة والمعاقبة " 1975 و " تاريخ الجنس " 1976 ، حذرا في محو آثار نظرية السلطة التحديدية غير المباشرة كلها . إذ ما عادت السلطة تأتي من الأعلى ، أي ما عادت تمثل فعل البنى الإقصائي على الأفراد ، بل صارت سيرورة محايثة immanent process مرتبطة بالمعرفة والخطاب بإحكام ، وتعمل بصفة تقنية على مستويات المجتمع كافة(19). وكان الفرد الراغب نتاجا للجنس ومنتجا له . ولم يكن الفكر السياسي الحَكَم الذي يتحدث إلى الجماهير وينوب عنهم ، بل أصبح الفكر العيني الذي يشترك في دراسات إقليمية (20) . لكن علينا توخي الحذر من احتمال إثارة جدل يشترك به فوكو مع نفسه . إذ لا يوجد فوكو مبكر وفوكو متأخر بالمعنى الذي اكتشف فيه فوكو ، بعد 1970 ، كلية وجود السلطة وسياسة الحقيقة [ أي أنها موجودة في كل زمان ومكان ]. فمنذ البداية كان ثمة نيتشه وباتيل وآرتو وفرويد(21). فلو لم يتغير فوكو ، لكان قد تميز بأحداث 1968 ، في الأقل . وهذا لا يعني أن فوكو ، الحدث ، بنيوي وما بعد بنيوي ، وإن كان لا يمثلهما معاً . فهو حادث في هذه التحولات إلا إنه يحتفظ بخصوصيته على الرغم من ذلك ومثلما إن هذين الانقلابين كانا أعظم من فوكو ، كان هو ، بالمقابل ، يزيد من وقعهما . وقد أفرزت هذه التحولات قضايا التاريخ واللغة والمعرفة ، وأخيراً ، السياسة . وكاد فوكو أن يكون حدثاً في عصره إلا إنه يشكل ، إلى جانب تلك القوى ، أعضاء في سلسلة الأحداث ، أي السلسلة التي سبقت البنيوية والتي لا شك في أنها سوف تدوم بعد زوال ما بعد البنيوية .

    وهكذا ، لا نستطيع التحدث عن خلفية فوكو ، بل عن مكانه ، بوصفه حدثا في السلسلة التي تظهر كقوى فكرية . ويرى فوكو أن قضية التاريخ من وضع ماركس ونيتشه ومؤرخي " الحوليات " Annals . كما يرى أن قضية المعرفة طرحها ، إلى حد كبير ، باشلار وكانغيلم ، وغيرهم بينما طرح قضية اللغة باتاي وبلانشو وآرتو ونيتشه وفرويد ، فحينما تقرأ فوكو تصل إلى سلسلة أسماء ، كتلك المذكورة آنفا . وتتباين هذه السلسلة وتتداخل عناصرها ، ولا تمثل هذه الأسماء مصادر فوكو ، بل هي طبقات متنوعة من الأحداث التي يعد فوكو عضوا ملائما فيها .

    فنحن إذا بدأنا بتسميات مألوفة ـ ماركسية ، بنيوية ، سيميائية ـ ثم ننبذها ، فإن هذا يعني الدخول في غرابة عينية فوكو ، فالأحداث العينية المتجسدة ، ضمن خصوصيتها ، تكون مألوفة أقل من الرموز التي نحاول تنظيم الأحداث من خلالها . ولا شك في أن فوكو يتميز بالماركسية والبنيوية والسيمياء إلا أن خصوصيته تبرز في تداخل هذا الاتجاهات معا والإسراف فيها ، أي في طريقته التي يستجيب فيها إلى قضايا التاريخ والمعرفة واللغة .

    التاريخ : إذا اعتمدنا على المألوف ، يبدو فوكو ماركسيا عندئذ . فهو يُعرف ماركس بأنه نقطة التحول الحاسمة في المنهج التاريخي (22) . فماركس هو قائد المنهج التفسيري الوضعي ومحرره من الإطار الأخلاقي (23) . ويشير فوكو في " المراقبة والعاقبة " بتحليل ماركس لرأس المال الثابت والمتغير في كتابه " رأس المال " Capital الجزء الأول لغرض توضيح السجن الحديث بوصفه أداة السلطة الانضباطية " . والحقيقة أن من غير الممكن الفصل بين عمليتي تراكم البشر وتراكم رأس المال ، ولعله كان من المتعذر حل مشكلة تراكم البشر من دون تطور أدوات الإنتاج القادرة على الإبقاء على هاتين العمليتين واستخدامهما . وعلى العكس من ذلك ، أدت التقنيات ، التي جعلت من كثرة البشر التراكمية مفيدة ، إلى تصعيد رأس المال "(24). وهذه واحدة من أبرز إشاراته إلى منهج ماركس ولا توجد أية إشارة غيرها . كما أن سجن المجانين في المصحات asylums ، في كتابه " تاريخ الجنون " ، والفقراء في العيادة التعليمية ، في كتابه " مولد العيادة " ، كلاهما مرتبط بنظرية العلامات الإنتاجية وإيجاد العمالة الفائضة واقتصاد الفقر السياسي . وقد اختلفت المصحة عن أشكال السجن الأخرى عند النقطة التي " أصبح فيها الفقر ظاهرة اقتصادية"(25) ولهذا السبب ، مع حلول القرن التاسع عشر تم فصل المجانين عن الفقراء والعاطلين غير المنتجين ، واحتاج الفقراء إلى معامله خاصة لأنهم كانوا يمثلون الفئات السكانية غير المنتجة على نحو يتعذر تغييره . وهنا ظهرت المصحة الحديثة ، وظهرت معها بداية علم النفس الإصلاحي الحديث . وعلى هذا الغرار ولد المستشفى التعليمي مع ظهور العصر اللبرالي من أجل الإفادة من أجساد الفقراء .

    " لقد مثلت هذه الأحداث بنود العقد الذي اشترك فيه الأغنياء والفقراء لتنظيم التجربة العياداتية [الإكلينيكية] . ومع نظام الحرية الاقتصادية وجدت المستشفى طريقة لفائدة الأغنياء ، إذ أن العيادة تشكل الانقلاب التقدمي للطرف الآخر في العقد . فهي تمثل الفائدة التي يدفعها الفقراء على رأس المال الذي وافق الأغنياء على استثماره في المستشفى ... فتحديقة gaze الطبيب تعد ادخاراً saving صغيراً جدا في تبادلات العالم اللبرالي المحسوبة(26).

    وفي " تاريخ الجنس" ارتبطت الميكانزمات الاجتماعية الخاصة بالانضباط وتنظيم الجنس بالاقتصاد السياسي الذي يحتاج الأجساد من أجل قوة العمل . " إذ أن مسألة تكييف تراكم البشر مع تراكم رأس المال ، ربط نمو الجماعات البشرية بتوسع الإنتاجية والتخصيص المتفاوت للربح ، أصبحت ممكنة إلى حد ما ، من خلال ممارسة نهج القوة الحياتية بمختلف أشكاله وأنماطه التطبيقية(27) ". لكن الأعم من ذلك هو أن المرء كثيرا ما يشعر بوجود صلة حميمة مع ماركس في نقد فوكو المتواصل للقرن التاسع عشر ، ذلك النقد الذي قدمه على نحو مدمر في إعلانه الشهير في " الكلمات والأشياء " عن موت اللبرالي . ويبدو تاريخ فوكو ماركسيا جدا ـ في مفرداته كما في منهجه ، لكننا نجده يحافظ ، على الرغم من ذلك ، على المسافة التي تفصله عن ماركس .

    " أنا أرى أن ثمة لعبة من نوع ما تخص بما أقوم به . فأنا كثيراً ما اقتبس من ماركس مفاهيم ونصوصا وعبارات من دون أن أشعر بأني مضطر إلى إضافة هامش محقق أو عبارة إطراء تصاحب اقتباسي . لأنك إذا فعلت ذلك سيشار إليك بوصفك شخصا يعرف ماركس ويعكسه وستكون موضع تبجيل ما يسمى الماركسية . إلا أني اقتبس من ماركس من دون أن أقول أني اقتبس منه ، ومن دون أن أضع علامات الاقتباس . ونظرا إلى عجز الناس عن التعرف إلى نصوص ماركس ، تراهم يعدونني شخصا لا يقتبس من ماركس . فهل يشعر الفيزيائي بضرورة الاقتباس من نيوتن وانينشتاين حينما يكتب بحثا في الفيزياء ؟ يستحيل ، في الوقت الراهن ، كتابة التاريخ من دون استخدام سلسلة كاملة من المفاهيم التي ترتبط بفكر ماركس ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، والتحليق في أفق الفكر الذي عرفه ماركس ووصفه . وقد يتساءل المرء عن الاختلاف الذي قد يظهر بين كون المرء مؤرخا وكونه ماركسيا(2" .

    ولم يتمكن فوكو من تعيين هويته بوصفه ماركسيا مثلما إنه لم يتمكن من الانفصال عن الماركسية الفرنسية بوضوح أكبر وانحراف أكثر . وهذا أمر معتاد بالنسبة لمنهج فوكو ، فهو ليس ماركسيا وليس لا ماركسيا بل كليهما معا . وهكذا تجده يهاجم الشيوعية والنزعة الاقتصادية (29) . فقد تمثل التحول الأساس في فكره ، أي ظهور مفهوم سلطة المعرفة في كتابه " المراقبة والمعاقبة "، بنقد النزعة الاقتصادية الماركسية والتحليل الطبقي التقليدي . فالسلطة ، بوصفها سلطة معرفة ، لا تمثل هيمنة الطبقات الحاكمة .

    " إن السلطة تصدر من الأسفل ، أي ليس ثمة تعارض ثنائي وشمولي بين الحكام والمحكومين من جهة ، وأصل علاقات السلطة من جهة أخرى … بل ينبغي لنا أن نفترض أن علاقات القوة المتعددة التي تتخذ شكلها وتبدي فعلها في آلية الإنتاج والعائلات والجماعات المحدودة والمؤسسات تشكل الأساس الذي تقف عليه آثار الانقسام الواسع المدى الذي يظهر على الهيكل الاجتماعي كله (30) ".

    لاشك أن مرد هذا الاكتشاف قناعة راسخة تتخلل عمله كله ." لنوضح القضية على النحو الآتي : يتمتع السجن النفسي ، والتطبيق السايكولوجي للأفراد ، والمؤسسات الجزائية بأهمية محدودة إذا ما نظرنا إلى دلالتها الاقتصادية ، إلا أنها تكون أساسية ولا ريب ضمن السياق العام لآلية السلطة (31) ".

    ويعد فوكو ماركسيا واكثر من ماركسي . وهذا هو السبب وراء لا جدوى الحديث عن مصادر . فهو لا ينتمي للتراث بل يعمل بالمادة الخام الخاصة بالحاضر ، بالأحداث الخطابية الحاسمة . إذ إنه لا يكتب ضمن تراث ماركس بل أرجأ التفكير فيه بعد ماركس . ولهذا فهو يرى أن مواجهة التاريخ تتأتى من مفهوم اللامفكر فيه unthought (32) والمستحيل التفكير فيه unthinkable في الماركسية ، ومن مفهوم اللامفكر فيه في تراثين تاريخيين فرنسيين : " حوليات " التاريخ الاجتماعي وتاريخ العلم الباشلاري . وهو يرى أن النهج التاريخي محصور في الفضاء الواقع بين فكرتين : التاريخ الطويل الأمد والانفصال discontinuity . الأولى معروفة جيدا في الفكر الفرنسي المعاصر وفي كتاب فرناند برودل " المدة الطويلة " La longue duree ، والأخرى معروفة في كتاب لويس التوسير " القطيعة الابستمولوجية " coupure epistemologique (33) وكلا الفكرتين لهما سوابق : مارك بلوش ولويس فيفر في قضية برودل وغاستو باشلار وجورج كانغيلم في قضية التوسير . وتلتقي البنى المستقرة والانفصالات والتاريخ الطويل الأمد وتاريخ القطائع raptures عند فوكو . ويُقصَد بالالتقاء هنا أنها تشكل مجموعة جديدة من القضايا للتاريخ (34) . ويتحدى فوكو مفهومي السببية والاتصال في التاريخ التقليدي بصورة خاصة . ويكمن خلف هذين المفهومين بديهة مثالية تخص التاريخ المعنوي . وباختصار نقول إن فوكو يعمل بين " الحوليات " وباشلار ويقدم نقدا ماديا للتاريخ الميتافيزيقي وللتواريخ التي تفترض قوة سببية بين عظماء الناس أو الحضارات أو الأحداث ، أو تفترض ، بدلا من ذلك ، اتصالا ذا معنى يرتكز على اللوغوس المتعالي . لهذا السبب ينظر فوكو إلى التاريخ بوصفه " يحول الوثائق إلى نُصُب تذكارية "(35). ولا ينبغي تأويل وثيقة المؤرخ لكشف أسرار المقاصد الإنسانية ، بل أنها تتحول إلى نصب تذكاري جامد ينبغي ربطه بالنصوص بصورة مادية .

    وبناءً على ما سبق ، يعد منهج فوكو مدينا بالكثير لنقد " الحوليات " لموضوع " التاريخ التوثيقي". ولا تدرس الأحداث الإنسانية الكبرى إلا ضمن السياق الأوسع للبنى المادية والاقتصادية الطويلة الأمد . فكتاب برودل "البحر المتوسط " (36) ، مثلاً ، يقع في ثلاثة أجزاء : "دور البيئة " ، وهو يمثل دراسة للجبال والسهول والأنهار والمسالك البحرية والمناخ ، و"المصائر الجماعية " وهو يمثل تاريخ اقتصادي لمنطقة البحر المتوسط ، و " الأحداث والسياسية والناس " . وتوضح الأحداث الاجتماعية والسياسية إلى جانب البنى المادية والاقتصادية والطويلة الأمد . ولا يسير التاريخ على طول المسار الخطي للفعل الإنساني لأن الإنسان مشروط بالعالم المادي . ولذلك يعد منهج برودل وثيق الصلة بالموضوع إلا أن كتاب " البحر المتوسط " دراسة تذكارية في أرشيفات أوربا كلها . وقد تم أخذ الحسابات الإحصائية والبيانات الملاحية والخرائط القديمة والتقارير الزراعية ، وغيرها من الوثائق ( الرئيسة والثانوية ) ، وقسمت إلى أجزاء ثم رتبت في سلسلة . فالخارطة تكون ضمن سلسلة إلى جانب البيانات الإحصائية وتقارير الرعي وحقائق المناخ . كما لا تمثل الهجرة طريقة حياة حسب ، بل هي أحداث تقع ضمن بنى طويلة الأمد يُعاد بناؤها من الوثائق . ولا تتشكل السببية في التاريخ من حدث إنساني معين لتتحول إلى حدث آخر ، بل من الحدس بالقوى المادية الاقتصادية والاجتماعية . ولا يسير التاريخ عبر الزمن بل يكون في زمن الديمومة . وفي النهاية يكون الزمن متماكنا .

    لقد ترك منهج " الحوليات " بصماته على فوكو ، إذ ترتبط الحوليات الاستطرادية بحقولها الاستطرادية في " حفريات المعرفة " ويرتبط النحو العام ، وهو حدث في معرفة المنطق واللغة ، بالاستيمية [الوحدة المعرفية] المسطحة للعصر الكلاسي في " الكلمات والأشياء " . وتم تفسير السجن في " تاريخ الجنون " و " المراقبة والمعاقبة " بأنه راجع إلى الدوافع الاقتصادية للرأسمالية المبكرة ، أما في "مولد العيادة " فقد ارتبطت مراقبة الجسد بالتحولات الحاصلة في بنى العصر اللبرالي في مطلع القرن التاسع عشر ، إذ أصبحت البنية تفسر الأحداث الإنسانية . إلا أن بنى فوكو ليست ستاتيكية ، فهو لا يضع التحليل الزماني موضع التحليل المكاني ، كما أن الحفريات "لا تحاول تجميد الزمن واستبدال تدفق أحداثه بالارتباطات التي تحدد الشكل الساكن "(37) ، وتجده ، بدلا من ذلك ، يرفض ميتافيزيقا الزمن الإنساني السرية ويسمح لطبقات التشكل الاجتماعي كلها بتكوين أزمنتها الخاصة . وبذا ، يمكن أن يحصل تكرار وعودة وانفصال تماما مثل امكانية وجود اتصال . ولهذا السبب لا يتحدث فوكو عن التغيير الاجتماعي ، بل عن التحول(3 . وما عاد التاريخ يمثل قضية تقدم ، بل إعادة ترتيب للعلاقات بين قوى عدة ـ مادية ، اقتصادية اجتماعية ـ تتوسط عملية التشكل الاجتماعي .

    ص2

    هوامش :
    * هذا الفصل مترجم عن كتاب "ميشيل فوكو : النظرية الاجتماعية بوصفها انتهاكاً" Social Theory as Transgression تأليف : تشارلز ليمرت و غارت غيلان Charles Lemert and Gart Gillan . ( المترجمة )
    1- فوكو ، " الكلمات والأشياء " ، ص 21 ـ 26 .
    2- ينظر دراسة فوكو السميولوجية للوحة مارغيت ( 1973 أ ) وعرضه لكتاب ج . ب بريزة " علم النحو المنطقي " ( 1970 ) … الخ .
    3- فوكو ، " الحقيقة والسلطة " (1977أ ) ، وهناك الكثير من المناقشات لفوكو عن السياسة في " عن اتيكا" (1974 أ) ، " السلطة والجنس " ( 197 غ ) ومختلف المقالات والترجمات التي جمعها دونالد بوشار في تحريره لكتاب " اللغة والذاكرة المضادة والممارسة " .
    4- ينظر :عن بلانشو " اللغة إلى التناهي " ( 1963غ) ، وعن فلوبير ( فنطازيا المكتبة " ( 1967 ج ) .. الخ.
    5- لمعرفة اثر باريس على المفكرين الفرنسيين ينظر : تشارلز ليمرت " قراءة في علم الاجتماع الفرنسي " (نيويورك : مطبعة جامعة كولومبيا ، 1981 ) .
    6- ان كتابات فوكو مثال واضح على ذلك ، وتحديدا : " حفريات المعرفة " ( 1969 أ ) .
    7- في الحقيقة ، كان أول كتاب لفوكو يحمل عنوان " المرض العقلي والشخصية " ( باريس : مطبعة جامعة فرنسا ، 1954 ) الذي تم تنقيحه وأعيد صياغة عنوانه في 1962 وتُرجم إلى المرض العقلي والسايكولوجيا ( نيويورك : هاربر ورو ، 1976 ) . أما اعظم أعماله الأولى فهو " تاريخ الجنون في العصر الكلاسي " ( 1961 أ ) .
    8- ينظر مناقشة فوكو للأحداث المهملة في : حديث السجن ( 1975 ج ) وتاريخ الجنس الجزء الأول (1976أ) ، (1980ء ) ، " أنا بيير ريفيير قتلت أمي وأختي وأخي " ( 1973 ب) (1973أ)
    9- فوكو ، " خطاب في اللغة " (1971)، في " حفريات المعرفة " ص 231 .
    10- فوكو ، " حفريات المعرفة "ص 229 .
    11- كلود ليفي شتراوس ، " المدارات الحزينة " ، لويس التوسير " من اجل ماركس ، أ . ج . غريماس "علم الدلالة البنيوي " ، بولانتزة ، نيكولاس " السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية " .
    12- الهرمنيوطيقا Hermeneutics اسم لفلسفة ألمانية عريقة فرضت نفسها في أوساط الفكر الفلسفي العالمي . ويشير أصل هذه الكلمة إلى صلتها الواضحة بهرمس Hermes رسول الآلهة عند الإغريق الذي أنيطت به مهمة فهم وتأويل ما تريد الآلهة نقله للبشر . ومن دلالة هرمس الأصلية صار هرمس نفسه مفهوماً يرمز إلى الوسيط بين الآلهة والبشر، فقد كان يوضح أفكار الآلهة ، ويترجم اللامتناهي إلى المتناهي؛ ولهذا السبب كان لوجوده دلالة لأنه يشير إلى التحليل والقياس والتخصيص ويُعزى له اكتشاف كل ما أصبح مفهوماً ، ولا سيما اللغة والأدب . وقد استعمل المصطلح في البدء في " محاورات أفلاطون " ، إذ أطلق على الشعراء تسمية hermenes ton theon أي مفسريّ الآلهة . ثم استعمله أرسطو في كتابه Per Hermeneias (أي الهرمنيوطيقا ) الذي ترجم إلى الإنكليزية On Interpretation ( في التأويل ) . وكان هدف التأويل يتمثل باكتشاف حقائق وقيم العهدين القديم والجديد من خلال اللجوء إلى مختلف الوسائل والمبادئ ، بمعنى أن الهدف هو الوصول إلى الحقائق القيم الإنجيلية بواسطة التفسير النزيه . وهكذا يتمثل حقل الهرمنيوطيقا بالكشف عن عدد من التأويلات المختلفة لنص معين ، تبعاً للافتراضات التفسيرية والتقنيات التي تم تطبيقها عليه . وقد أصبحت الهرمنيوطيقا حقلاً مهماً مارس تأثيراً كبيراً في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة لدورها الفاعل في نظريات مختلف الحقول النقدية ومنهجياتها. وتنامى الاهتمام بالهرمنيوطيقا في العقود الأخيرة ، كما أخذ استعمال هذا المصطلح وتفرعاته يتزايد يوما بعد يوم على يد ممثلي العلوم الاجتماعية والإنسانية . واليوم يشير مصطلح " هرمنيوطيقا " إلى الاهتمام الذي تشترك به حقول واسعة النطاق ، مثل الفلسفة ، السوسيولوجيا ، التاريخ ، اللاهوت ، السايكولوجيا ، الفقه ، النقد الأدبي ، والإنسانيات عموماً . كما يمكن تعريفها بأنها نظرية تأويل أو فلسفة تأويل المعنى . وقد ظهرت بصفة موضوع مركزي في فلسفة العلوم الاجتماعية وفلسفة الفن وفلسفة اللغة وفي النقد الأدبي بصورة خاصة . ( المترجمة )
    13- فوكو ، " حفريات المعرفة " 15 .
    14- يُعرف جاك دريدا هذا المصطلح في كتابه " في الغراماتولوجيا " [في علم الكتابة] بأنه دراسة للأدب ولحروف الهجاء ولمقاطع الكلمات والقراءة والكتابة " قائلاً إنه يستند في ذلك إلى تعريف ليتريه Littre ، وأنه لم يعثر على هذا المصطلح في هذا القرن إلا في كتاب غيلب Gelb الذي يحمل عنوان " درس في الكتابة : أسس الغراماتولوجيا " A Study of Writing: The Foundations of Grammatology (1952) /د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة / وسيرمز له المؤلف بالرمز OG (المترجمة).
    15- جاك دريدا " الصوت والظاهرة " ، وكتب أخرى ، دولوز وغواتاري " نقيض أوديب : الرأسمالية والشيزوفرينيا " ، بورديو " نظرة في نظرية الممارسة " .
    16- ينظر : توركل " علم السياسة السايكوتحليلي " .
    17- لمناقشة هذه الأحداث وعلاقتها بالتغيرات الطارئة على علم الاجتماع ، ينظر : ليمرت " علم الاجتماع الفرنسي " ، المقالة الأولى .
    18- فوكو ،" خطاب في اللغة "، ص 232 ـ 233 .
    19- فوكو،" تاريخ الجنس "، ص 92 ـ 102 ، وسنشير من الآن إلى الجزء الأول من هذا الكتاب .
    20- وكو ،" الحقيقة والسلطة " ( 1977أ) ص 301 ـ307 ، اما بخصوص المكانة النظرية للفرد بوصفه ذات السلطة والتحول التاريخي ، ينظر " اعترافات جسد" ( 1977) ص 23 .
    21- فوكو ، " المرض العقلي والسايكولوجيا " ( 1954 أ ) ، ص 86 ـ 88 .
    22- فوكو ،" في تاريخ الكتابة " ( 1967 )
    23- فوكو ، " السلطة والجنس " ( 1977غ) ص 153 .
    24- فوكو ، " المراقبة والمعاقبة : مولد السجن " ( 1975 أ ) ص 221 ، قارنها مع ص 218 ـ 224 .
    25- فوكو ، " تاريخ الجنون " ص 229 .
    26- فوكو ، " مولد العيادة " ( 1963 ب) ص 85 .
    27- فوكو ،" تاريخ الجنس " ( 1976 أ ) ص 141 .
    28- فوكو ، " حديث السجن " ( 1975 ج) ص 15 ، أما المادة التي أوردناها في هذه المقالة فهي ترجمة المؤلف لطبعة 1975 ج .
    29- المصدر نفسه ص 15 ، و" الحقيقة والسلطة " ( 1977 أ ) ص 294 ـ 295 .
    30- فوكو ، " تاريخ الجنس" ( 1976 أ ) ص 94 .
    31- فوكو ، " الحقيقة والسلطة " ( 1977 ء ) ص 298 .
    32- للاطلاع على مناقشة فوكو لمفهوم " اللامفكر فيه " ، ينظر : " الكلمات والأشياء " ص 322 ـ 328 و الجزء الأول .
    33- فرناند برودل ، " البحر المتوسط " ( جزأين ، نيويورك : هاربر ورو ، 1972 ) ص 11 ـ 24 ، وينبغي على القارئ ان يلاحظ هنا اننا لا نتحدث عن تأثيرات شخصية مباشرة على فوكو لانه شخصيا مدين كثيرا لثلاثة معلمين ـ جان هيبوليت وجورج دوميزي وجورج كانغيلم ( ينظر : خطاب في اللغة ( 1971 ) ص235 ـ237 ).
    34- فوكو ، " حفريات المعرفة " ( 1969 ) ص 3ـ 10 .
    35- المصدر نفسه ص 7 .
    36- برودل " البحر المتوسط " الجزأين الأول والثاني .
    37- فوكو ، " حفريات المعرفة " ص 169 .
    38- المصدر نفسه 166 ـ 167 .
                  

10-14-2004, 03:49 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حقل فوكو "الجزء الثاني" (Re: osama elkhawad)

    تابع حقل فوكو ... بقلم : تشارلز ليمرت ... ترجمة : خالدة حامد

    ويبدو جليا أن منهج " الحوليات " يعمل على مفهوم اللامفكر فيه الماركسي . وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا المنهج مشاركاً للماركسية في نقد التاريخ اللبرالي التقدمي ، تجده دفع دراسة البنى الاقتصادية إلى حد أوصلها إلى بنى الجغرافية والمناخ المادية الطويلة الأمد . كما تمكن فوكو، ضمن المدى نفسه ، من الدخول في حلقة الصمت الأعظم الذي اكتنف التاريخ الواصف historiography [التاريخوغرافيا] للحوليات . فبعد أن بدأ مؤرخو الحوليات عملهم بصفة نقاد لتاريخ الأحداث الكبرى الوضعي نجد أن المتأخرين اتخذوا لأنفسهم فلسفة وضعية خاصة بهم . فقد أصبح لادوري ، مثلا ، يمجد التاريخ الكمي المحوسب computerized quantitative من دون أن ينتقده ، مدفوعا بالإحراج لا الاضطرار . وقد قام بذلك في مقالة نشرت له إلى جانب اعتراف بنقطة تاريخ " الحوليات " ، أي الحدث(39). وبعد أن رفض تراث الحوليات وضعية الأحداث الكبرى ، لم يقدم إلا نظرية أو تحليلاً صغيراً جدا لأحداث محددة جرى فيها التحول " بسبب تفضيل التاريخ الواصف لما هو كمي وإحصائي وبنيوي ، اضطر في الوقت الراهن إلى الخضوع لكي يحافظ على بقائه ، وهذا أمر يبعث على الآسي . فقد أصدر حكمه ، في العقود القليلة الماضية ، بالموت على تاريخ الأحداث السردي الذاتية الفردية "(40) .

    ويعد مفهوم اللامفكر فيه في " الحوليات " الحدث المنفصل المحدد ، وقد تخطى فوكو هذا الحد المحرج . وأصبح التناقض بين البنى المستقرة والقطائع واضحا فقد وثّق باشلار وكانغيلم وسير وغيرول والتوسير مكانة الحدث المنفصل ." ربما تتمثل واحدة من أهم سمات التاريخ الجديد بإزاحة المنفصل : أي انتقاله من العائق إلى العمل ذاته واندماجه مع خطاب المؤرخ على نحو ما عاد بامكانه فيه لعب دور الشرط الخارجي المراد تحويله ، بل أصبح يلعب دور المفهوم الفاعل"(41) . وهكذا ، ينتظم تاريخ فوكو حول الأحداث التي تتحول فيها قوى التاريخ وتتقلب : أول رواية حديثة ، أو مراقبة لأجساد المرضى ، اليوم الذي تم فيه تحرير المجانين من بيستر ، اختفاء " سفينة المجانين " ، تغير منظر التعذيب بالمشنقة . فإذا تمكنت البنى الطويلة الأمد من تحويل الامتياز غير المسوغ للإنسان في التاريخ ، يستطيع الحدث ، بوصفه واحدا من القطائع ، منع البنى من الظهور بصفة محددات غير مباشرة للفعل الإنساني .

    إن علاقة فوكو الساخرة بالتوسير تفسر كلا من استخدامه للفكرة الباشلارية وانتهاكه لها . فإذا تخطينا مبدأي الانفصال والقطائع ، نجد أن كلا من فوكو والتوسير يربط التاريخ بنظرية الخطاب ، ويشترك في إعادة بناء الآثار البنيوية ، ويعمل عند الحدود الواقعة بين المرئي واللامرئي ، وبين البراءة والشعور بالذنب . إلا أنهما يختلفان بشأن الانقطاع الأبستمولوجي عند ماركس . ويضع التوسير ماركس في المركز ، ويرى أن الانقطاع الابستمولوجي في الاقتصاد السياسي والمنهج التاريخي في القرن التاسع عشر يحدث في منتصف ماركس ، أي في 1845 . بينما يرى فوكو أن ماركس يشترك بأبستمولوجيا ريكاردو الاقتصادية(42). ويقتصر انقطاع ماركس على نظرية التاريخ والسياسة . ويقطع فوكو ماركس إلى أجزاء إلا أن من غير الممكن ترتيب هذه الأجزاء زمنيا على نحو خطي linearly لأنه يرى أن ماركس لا يمثل المنشأ ، أي المصدر الأصلي لحدث ما في تاريخ المعرفة ، بل تقسمه قوى أبستيمية معينة إلى أجزاء : إذ بقي علم الاقتصاد الذي جاء به ذا طابع سياسي لبرالي . بمعنى أنه في الوقت الذي يعمل فيه التوسير على تحقيب periodizes التاريخ وجعل ماركس شموليا ، فإن فوكو يقرأ ماركس بوصفه حدثا في وسط طبقات المعرفة المستقلة ، وللمعرفة الاقتصادية زمنها ، مثلما أن للتاريخ والسياسة زمنهما أيضاً ، وهذا يتوافق مع نظرية التحول العامة عند فوكو ، فالانفصال ليس مفهوما عاما بل أداة عمل ، ولا يمكن تحليل الانفصالات تحليلا صحيحا إلا ضمن علاقتها بحقل الأحداث التي تنتمي لها هذه الانفصالات التي تعكسها أحيانا . ويدحض فوكو كل شكلنة formalization في التاريخ : الكليات ، التحقيب ، البنى غير التاريخية . وهكذا نرى فوكو قريباً جداً من برودل الذي يرى أن المناخ والأرض والبحر والأنساق الإقتصادية وعلم السياسة جميعها تتمتع بزمنها الخاص ، وبهذا المعنى لا يعد فوكو مؤرخا للانفصالات بل للأحداث العينية المتجسدة في مجالات متجسدة .

    فما تاريخ فوكو ؟ فمع ماركس وبرودل وباشلار يرفض فوكو مثالية التاريخ التقليدي ووضعيته وخطيته . إلا أن فوكو ليس ماركسيا وعضوا في مدرسة "الحوليات" وتلميذا لألتوسير حسب ، بل يعمل في فضاء نسجه هؤلاء الثلاثة . فتراه يتحدث حينما يصمتون ، ويصمت حالما يتحدثون إلى بعضهم ، ويجتاز الحد الفاصل بين الما قيل the said وما لم يقال the unsaid لغرض إعادة توطيد حدود أخرى لا بد من انتهاكها .

    المعرفة : يعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، قبل كل شيء ، ويتضح ذلك في الكلمات والأشياء " و "حفريات المعرفة " . ويعد " مولد العيادة " تاريخا لنهضة المعرفة الطبية أيضاً . أما " تاريخ الجنس " فيعد مقدمة لدراسة من أجزاء عدة بعنوان " إرادة المعرفة " . وحتى بالنسبة للدراسات التي تبدو معنية قليلاً بالمعرفة ، يعد " تاريخ الجنون " و " المراقبة والمعاقبة " تحليلان لعلاقة المعرفة بالسيطرة الاجتماعية . ويعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، لكن مع ذلك تبدو المقولة محدودة جدا لأنها لا توضح سوى اختلافه عن بقية المؤرخين ، فهو يهمل البنى المادية على الرغم من أنه يعمل مع ، وضد ، تاريخ " الحوليات " . إذ أنه يضفي صفة المادية على دراسات المثالي . وضمن هذه الرؤية لا يعد فوكو مؤرخا للعلم على الرغم من أنه يعمل في ضوء تاريخ العلم الباشلاري . فهو لا يقول إلا القيل عن العلوم الفيزيائية التي كان باشلار منهمكا فيها ، أما حينما يتعامل مع العلوم البايولوجية ، مثلما فعل كانغيلم ، تجده يفعل ذلك بخصوص قضية المعرفة العامة . وتراه لا يبدي سوى اهتماما بسيطا باستخدام باشلار في إحياء المادية التاريخية بوصفها علما ، على العكس من شدة الاهتمام الذي كان يظهره التوسير . أما بخصوص التاريخ ، يقع تاريخ المعرفة عند فوكو في فضاء لا يشغله الذين تعلَّم هو منهم . " وهكذا فإن ما تحاول "الحفريات " وصفه ليس بنية العلوم المحددة ، بل حقل المعرفة المختلف جدا "(43).

    ومع ذلك يعد اهتمام فوكو بالمعرفة اهتماما باشلاريا في جوانبه الجوهرية ؛ فالانفصال ، والانقطاع ، الإنزياح displacement ، التشتت dispersion ، الإشكالية ، العائق الأبستمولوجي ، التعددية الأبستمولوجية ، تاريخ الخطأ ، نقد التاريخ المتصل ـ جميعها تشكل مفاهيم أساسية عند باشلار ، وتابعه كانغيلم (44) ومما لا شك فيه أنها أساسية عند فوكو أيضاً . إلا أن الأهم من ذلك أن فوكو ، مثل باشلار ، يتخطى التاريخ المتصل من خلال كتابة تاريخ الحقيقة من منظور الأخطاء . ويرى فوكو أن المزاوجات الشهيرة ـ الفلسفة / العلم ، الواقعية / العقلانية ، الحقيقة / الخطأ ـ ليست ثنائيات بل أقطاب . فهي ليست خيارات بل مُسلّمات . وللعلم أبعاده الفلسفية ، والفلسفة تنهل من العلم ، وببساطة نقول أن الواقعية والعقلانية ليسا منظورين فلسفيين شموليين متبادلين ، بل هما بعدين ضروريين لجانب أبستمولوجي(45). لذا ينبغي ألا يحصر التاريخ نفسه في نسق الحقائق ، بل ينبغي أن ينفتح على لحظات الخطأ التي يقال فيها " لا " للماضي ، والبدء من جديد . ونلاحظ في " الفكر العلمي الجديد " ( 1934 ) و " تكوين العقل العلمي " ( 193 ، وهما من أوائل الدراسات التي قام بها باشلار عن العلم ، وصولا إلى بيانه الأبستمولوجي الواضح في " فلسفة الرفض " The Philosophy of No (1940) ، وتطويره لهذا الموقف في أعماله اللاحقة مثل " العقلانية التطبيقية " (1949 ) و " المادية العقلانية " (1953) ، أن باشلار عمل ، أو أعاد العمل ، على الفلسفة التعددية للمعرفة العلمية . ويصر تاريخ باشلار المنفصل ، خلافا لتطورية توماس كون Thomas Khun الخفية (46) ، على التباري المستمر بين القديم والجديد . وينبغي حتى على نسبية الفيزياء الحديثة العقلانية راديكاليا ، التي تشكل نموذج باشلار ومصدر اهتمامه الأعظم ، أن تقنع بمخلفات الواقعية الوضعية والأساسية . " إن الذي يثير الدهشة هو إن وحدة العلم المزعومة لا تقابل الحالة الثانية أبدا (47) " . فالأبستمولوجيا هي تاريخ الأبستمولوجيات .التي تكون كل واحدة منها حاضرة دائما ، بصورة ما ، وبدرجة ما ، لكن لكل واحدة منها تاريخها الخاص بالعالم العيني المتجسد الذي يؤكد الجديد برفض الماضي ، لكن باشلار يرى أن المفهوم المرفوض يبقى في جانب خاص . " إن رسم الذرة الذي اقترحه بوهر قبل ربع قرن من الزمان كان بمثابة صورة جيدة لم يتبق منها شيء لكنها كثيرا ما توحي بالرفض بما يكفي لتحويل دورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلى بيداغولوجيا استهلالية . ويتم تنسيق هذه المرفوضات بسعادة لأنها تمثل مكونات الفيزياء المعاصرة المصغرة(4" .

    وعلى هذا الغرار ، يرى فوكو أن المعرفة تعددية ، وأن الانفصالات في تاريخ المعرفة لا تعزل الماضي عن الحاضر . فالمعارف المتجسدة لها أزمنتها التي تتداخل فيها ، والعلم لا يكون صرفاً أبدا ، فهو يكون أيدلوجياً دائما ولهذا تراه مليئا بالأخطاء . إلا أن تصحيح الأخطاء لا يحرره من الأيدلوجية (49) . كما أن المعرفة التاريخية ليست صراعا بسيطا بين الواقعية والعقلانية ، بين ما هو تجريبي وما هو مفهومي ، بل أنها تتولد من التوتر tension بين هذين القطبين . وينتقد فوكو تاريخ الأفكار بالطريقة ذاتها التي ينتقد بها تاريخ الأحداث ، لكنه يفعل ذلك بأسلوبه الخاص . إلا أن الأوضح من ذلك أن فوكو يكتب تواريخ المعرفة خاصته من خلال الإشارة إلى الخطأ والفشل باستمرار : إنهيار الفرق بين العقل واللاعقل في " تاريخ الجنون " ، وخطأ المراقبات الجسدية من دون نظرية وافية للأنساق الرابطة في " مولد العيادة " ، والخطأ في أسطورة الإصلاح التكفيري في " المراقبة والمعاقبة " ، وخطأ فرضية الكبت في " تاريخ الجنس "، و … إلخ .

    وفي الوقت ذاته يشكل تاريخ العلم الباشلاري حدا تخطاه فوكو في عمله . ففي " حفريات المعرفة " يوضح فوكو مشروع دراسته لما تجاهله مؤرخو العلم (50)… بدءا بالفكرة الباشلارية ومؤداها أن العلوم ، المُعرَّفة عموما ، أزمنة غير منتظمة ومتغايرة الخواص ومشتتة (51). ويصف فوكو العتبات thresholds بأنها أربع عتبات منفصلة يمر بها العلم : حيث يلتقي أولاً بعتبة الوضعية حينما يتخذ نوع الخطاب فرديته الخاصة ، وإن كان مفتقرا إلى معايير الصلاحية validity أو المعايير الشكلية للحقيقة أو البديهيات ، ثم يصل إلى عتبة الأبستمولوجية epistemologization حينما تتم المحاولات ، غير الناجحة أحيانا ، الرامية إلى ترسيخ مادة معروفة متساوقة وصالحة وأصلية ، ثم عتبة العلم scientificity حينما تقوم مادة المعرفة بتحديد المعايير الشكلية التي يتم توظيفها في القوانين لبناء الفرضيات . وأخيراً نصل إلى عتبة الشكلنة حينما تعد البديهات الشكلية في العلم نقاط انطلاق مشروعة للمعرفة .

    يحدد فوكو عند العتبات المعرفية المتداخلة الثلاث ، ثلاثة أنواع من تاريخ العلم : 1ـ تاريخ الرياضيات عند عتبة الشكلنة 2ـ تاريخ العلوم الطبيعية والفيزيائية بين عتبتي الأبستمولوجية والعلمنة ، وهو المجال الذي عمل فيه كانغيلم وباشلار 3ـ تاريخ فوكو الحفرياتي عند عتبة الأبستمولوجية ، ويمثل الموضع الذي تبدأ فيه مادة المعرفة باستخدام خطاب متساوق مستقل ، ولا تعد هذه المجالات ذات طابع كلي [شمولي] ، بل تحتفظ بعض العلوم باستعارات metaphors بدائية إلى جانب البديهيات الشكلية (52) . إلا أن فوكو يتخطى الحدود التي وصلها باشلار حينما درس العلوم عند عتبات أكثر بدائية ، أي عند النقطة التي يصبح فيها خطابها أبستمولوجيا ، بمعنى حينما تصبح معارف . وهكذا فهو يهتم بالعلوم الإنسانية الأولى ، بدايات الطب العياداتي ، بعلم الأمراض النفسية ، بعلم الجريمة الذي يبحث في إدارة السجون ومعاملة المجرمين . وخلاصة القول أن فوكو يدرس العلوم التي يكون فيها الحد بين الخطأ والحقيقية ضعيفا جدا ولاسيما تلك التي يطغى عليها حضور الأيديولوجيا .

    يرى فوكو أن ذلك لا يمثل مغامرة مبرمجة قام بها معلموه لأن علمه ينفتح على مجال صمت عنه باشلار إلى حد كبير . وتراه يجعل من اللا مفكر فيه في العلم موضوعه الرئيس حينما يجعل تاريخ الخطأ راديكاليا . ويحاول تاريخ العلم " استعادة ما غفل عنه الوعي (العلمي) : التأثيرات التي أثرت فيه ، الفلسفات الضمنية التي كانت كامنة تحته ، الثيمات غير المصاغة ، العقبات غير المرئية ... أي إنه يصف لاوعي العلم . ويعد هذا الوعي الجانب السلبي من العلم ـ أي ما يقاومه ، يحرفه ، يزعجه . إلا أن الذي أرغب به أنا هو كشف لاوعي المعرفة الوضعي : المستوى الذي يفوت على وعي العالِم لكنه يشكل جزءا من الخطاب العلمي "(53) وهذا القول يجعل منه " باشلاراً " بل أكثر من باشلار .

    أما من الناحية النظرية ، تعد دراسة فوكو للعلوم الإنسانية بحثا في تلك العلوم التي يتفحص فيها الإنسان نفسه ، فمعرفة الإنسان ، من خلال الإنسان ، هي معرفة تفوق ما ملأه الخطأ ، فهي متناقضة في جوهرها لكنها تشكل في الوقت ذاته المعرفة الأكثر قربا واستحالة . أما في السوسيولوجيا فيتم التعرف على هذه المشكلة على نحو مبهم في الجدالات المتعلقة بموضوعية الدراسات الاجتماعية . ويرى فوكو أن هذه قضية فلسفية عامة يناقشها بإسهاب في نهاية " الكلمات والأشياء " . فقد برزت العلوم الإنسانية إلى دائرة الضوء في القرن التاسع من خلال ابتكار " الإنسان " الذي أصبح موضوع الفكر من خلال جعله ذات التاريخ الرئيسة . وعلى النقيض من ذلك ، تطلبت معرفة الإنسان تعالي الإنسان ؛ فالإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا حينما يتعرف عليها وهي تتخطاه ، وثمة حدود مشتركة بين الفكر النقدي ومعرفة الإنسان الذاتية . فمنذ كانتْ Kant اشتملت قضية الإنسان على نقد معرفة الإنسان والاعتراف بحدوده . ومن غير الممكن أن تعتمد المعرفة على التطابق الديكارتي بين فكر الإنسان وكينونته being بل إن علوم القرن التاسع عشر الإنسانية استخدمت الإنسان المتعالي ، أي الذات الكلية [الشمولية] التي في ضوئها يستطيع الفكر الإنساني التفكير بالإنسان .

    ومن المعروف تماما أن فوكو ينتقد هذا الحل . فتمركز القرن التاسع عشر حول الإنسان هو في أفضل أحواله ميتافيزيقا غير معترف بها . فقد تم وضع الإنسان في مركز الفكر ، وفي مركز الكينونة التاريخية . وبذا فإنه شاطر الميتافيزيقا اهتمامها بالمعرفة الخاضعة للسيطرة . ولم يتحرر الإنسان إلا على نحو مصطنع . إذ سيطر فكر القرن التاسع عشر ، تحت ستار النزعة الإنسانية ، على الفكر سيطرة سرية من خلال تحويله إلى نموذج متعال . وهنا يردد فوكو الإعلان النيتشوي الشهير عن موت الإنسان . إذ يرى فوكو أن الإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا من خلال البحث من دون إلغاء حدود الإنسان . فمعرفة الإنسان متجردة عن التمركز في الهامش الذي يفصل بين الحقيقة والخطأ ، البراءة والشعور بالذنب ، مفهومي اللا مفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.

    " لم يكن بمقدور الإنسان وصف نفسه بأنه كائن في الأبستيمة من دون أن يكتشف الفكر في الوقت ذاته ، في ذاته وخارجها ، عنصر الظلام ، الكثافة التي ينطمر فيها هو ، أي مفهوم اللا مفكر فيه الذي يحتويه تماما ، لكنه مأسور فيه أيضاً . إن اللا مفكر فيه (بغض النظر عن الاسم الذي قد نطلقه عليه) لا يستقر في الإنسان مثل الطبيعة المتغضنة أو التاريخ الموزع إلى طبقات ، بل إنه يرتبط بالإنسان ، بالآخر the other ... أي الآخر الذي لا يكون شقيقا فقط بل توأما لا يولد من الإنسان ، ولا في الإنسان بل بجانبه ويشترك معه في الوقت ذاته بثنائية متعذر تفاديها " (54) .

    ويبدو جليا الآن أن اهتمام فوكو بمعرفة الإنسان هو بالدرجة الأساس اهتمام بالمعرفة والسلطة . ويعد عمله نظرية اجتماعية نقدية بالمعنى ما بعد الكانتي . فهو يدرس ، قبل كل شيء ، مولد تلك المعارف التي كانت تمثل في النزعة الإنسانية اللبرالية تكنولوجيات في الإقتصاد السياسي للعمل الخاضع للسيطرة . وهو يبحث في تلك الحقول المعرفية ، التي ولدت بصفة تصنيع لاوربا ، والتي عملت على السيطرة على السلوك الإنساني من وراء انماطها الاصلاحية المتنورة : علم الجريمة ، علم النفس ، الطب العياداتي ، علوم الحياة ، تعد المراقبة ممارسة ذات حدين (55) : السيطرة على المعرفة والحقيقة (مثل الطب العياداتي بوصفه مراقبة) والسيطرة على الأجساد والأشخاص لأغراض خاصة (مثل استخدام النظرية الطبية والاقتصادية في ضبط حجم العينات وسلوكهم).

    " إن ما استجد على القرن الثامن عشر هو أن المراقبات ، من خلال كونها ارتبطت معا وتعممت ، استطاعت الوصول إلى مستوى يقوم فيه تكوّن المعرفة وزيادة السلطة بتعزيز أحدهما الآخر في عملية نقدية . وعند هذا الموضع تحديدا تعبر المراقبات العتبة " التكنولوجية " . أولا المستشفى ، ثم المدرسة ثم لم تكن الورشة خاضعة لتنظيم المراقبات فأصبحت بفضل المراقبات أدوات خاصة بحيث صار بالإمكان استخدام أية ميكانزمة موضوعية فيها كأداة للإخضاع ، كما أن أي تنامي في السلطة قد يوصلها إلى فروع المعرفة الممكنة ضمن العنصر الانضباطي لتشكيل الطب العياداتي ، الطب النفسي ، علم نفس الطفل ، علم النفس التربوي ، عقلنة rationalization العمل . وبذا فإنها عملية مزدوجة : " الذوبان " الأبستمولوجي عبر تصفية علاقات السلطة ومضاعفة تأثيرات السلطة عبر تشكل وتراكم الأنماط الجديدة من المعرفة " (56) .

    باختصار ، تصبح طبقة فوكو الباشلارية حدا يستدعي العودة إلى ماركس عن طريق نيتشه . وتؤدي المعرفة إلى السلطة عن طريق اللغة .

    اللغة : إن اللغة هي الموضع الذي يفسر فوكو عنده وظيفة الحدود في فكره ، كما أنها في الوقت نفسه الموضع الذي لا يصبح فكره مفهوما عنده على نحو واضح . فالتاريخ ، المعرفة ثم اللغة .... ماركس ، باشلار ثم نيتشه وباتاي .

    فنحن الذين نقرأ فوكو من خارج حقله الفكري نكون عرضة لأن نجد مناقشاته للتاريخ والمعرفة مفهومة نسبيا . كما أننا تتلمذنا أيضاً على يد ماركس ، وفي الآونة الأخيرة على يد مؤرخي " الحوليات ". فإذا كنا أقل ألفة مع باشلار ، فعندئذ يمكن تخطي هذا النقص من خلال أُلفتنا بتاريخ العلم واطلاعنا الوثيق على توماس كون ، بغض النظر عن اختلافاته عن باشلار إلا أن اللغة بحث آخر . إذ نادراً ما وصل المنظِّرون الاجتماعيون خارج فرنسا وإيطاليا إلى حدود أبعد من سوسير وليفي شتراوس . وبالنتيجة صار من المحير أن نواجه الأسماء غير المألوفة في نظرية اللغة عند فوكو : باتاي ، بلانشو ، روسيل ، ساد ، حتى نيتشه يبقى اسما غريبا في الآفاق الأمريكية الشمالية .

    إن المشكلة لا تتعلق بقرائه الذين لا تتوفر لديهم معلومات جيدة . فاللغة عند فوكو قريبة من المفهوم . ويرى فوكو أن المفهومية حد ضروري . فهي المشروع المركزي في المثالية ، أما الوضعية ، الظاهراتية ، النزعة التاريخية ـ وهي المناهج التي يثور فوكو عليها (57) ـ فجميعها تخفق في إدراك تجسّد الأحداث لأنها أفرطت في تقويم المفهومية وأبخست قيمة الخطأ والحد . ولا تقف المعرفة عند المركز ، بل في هوامش الحياة ، أي ليست داخل الإنسان وعالمه بل عند حدهما ، وبالنهاية فإنها تقف عند موضع الموت . اللغة والموت ـ اقتران محير . إنها العلاقة التي ضمنها يطور فوكو نظريته الكاملة في التاريخ والمعرفة والخطاب والسلطة .

    وقد عمدت السيمياء البنيوية structuralist semiotics إلى عزل اللغة عن التعبير والمعنى . إذ رفضت فكرة أن اللغة نتاج الذات المتكلمة . أما البنيوية فقد أخرجت اللغة من الوعي ، وهي بعملها هذا طرحت قضية أشكال اللغة بذاتها . وقد اشترك فوكو بهذه القناعات من دون أن يؤمن بها . فقد تجاوز نطاق اللغة ذاتها منذ البداية . وحينما طُلب منه تحديد موقع نظرية اللغة خاصته تحديدا تاريخيا وأيدلوجيا قال :

    " أنا مختلف عن أولئك الذين يطلق عليهم اسم " البنيويون " لأنني غير مهتم بالإمكانات الشكلية التي يقدمها نسق ما مثل نسق اللغة . فأنا شخصيا مفتون جدا بوجود الخطابات ، بحقيقة أن المتكلم حَدَثٌ يحدث مثلما تحدث الأحداث ضمن علاقتها بموقعها الأصلي ، وأنها قد خلّفت وراءها آثارا موجودة وتمارس عدد معين من الوظائف المتجلية أو السردية (5 "

    وهو حينما يسأل : ما اللغة (59) ؟ فإنه لا يسأل عن معنى اللغة أو ماهيتها أو شكلها بل عن وجودها ووظيفتها وممارستها . وباستثناء دراساته التاريخية في " الكلمات والأشياء " تنطق سيميائه على الأدب على نحو واف تقريبا . فالأدب هو ما أشير له في نهاية العصر الكلاسيكي (60) بوصفه الممارسة الغريبة للغة التي جلبت اللغة إلى الخواء void على أيدي ساد ونيتشه وباتاي وروسيل وآرتو ومالارميه (61) . " نحن ندرس العبارات عند الحد الذي يفصلها عن ما لم يقال ..(62) " ويرى فوكو أن وضعية الأدب ليست شكله ، بل هي قدرته على دفعنا إلى مواجهة العلاقة بين اللغة والحياة الإنسانية ؛ إذ بمقدور الأدب أن يقودنا إلى الصمت الذي يجعل الخطاب ممكنا ، وهذا أمر يبعث على السخرية . " ما هذه اللغة التي لا تقول شيئا ، وليست صامتة أبدا ، ويطلق عليها اسم " أدب ؟ "(63) لكن إذا عرضنا الأمر ببساطة أكثر نقول أن الأدب هو اللغة التي لا تستطيع تمثيل الواقع أبدا على الرغم من تظاهرها أحيانا بعكس ذلك . ولذلك نقول أنها لغة لها الحرية بالتفوه بأي شيء وكل شيء . وهي حينما تحاول فعل ذلك ، تدرك أن من غير الممكن قول كل شيء . وينبغي للغة في الأدب مواجهة الصمت الذي توجد هي بواسطته . ولهذا ينبغي للأدب أن يكتشف عقم الواقعية في اللحظة ذاتها التي يكتشف فيها حقيقة أن الإنسان ، مثل " الله " ميت .

    فاللغة .... ملغّزة ؟ مشوشة ؟ سخيفة ؟ نعم ، لكنها ليست هراء . ونظرا إلى أن فوكو يريد تفسير حدود اللغة ، لا يستطيع الاعتماد على اللغة الاعتيادية للتعبير عن ذاته اعتمادا كليا ، بسيطا . ولهذا السبب ، من غير المعقول أن نطلب من فوكو أن يكون " واضحا " ، بأن نقول له : " اخبرني بكلماتي عما تعنيه أنتَ " ، ولعل مثل هذا الطلب سيشابه الطلب الذي نوجهه إلى نيتشه سائلين إياه عن ما عناه زرادشت . إن مثل هذا الطلب موجود في اللغة التي يتجنبها فوكو ، متبعا بذلك خطى نيتشه .

    ومن المفيد أن نلاحظ أن مناقشات فوكو للغة والحد والموت دائما ما تتميز بسلسلتين من الأسماء تقريبا (64) . الأولى ، وهي المألوفة أكثر من الأخرى ، هي سلسلة نيتشه وماركس وفرويد ، أما الأخرى فهي سلسلة ساد ونيتشه ومالارميه وآرتو وباتاي وروسيل وبلانشو وكلوسوسكي ودولوز . ويعد نيتشه محور السلسلتين ، من دون أن يكون مركزا تنظيميا(65). ربما يمكن البدء بنيتشه ، مع علمنا أن فوكو لن يستقر معه .

    " هذه الأيام ، أُفضل التزام الصمت حيال نيتشه … فإذا رغبت في أن أكون مدّع ، لعلي سأطلق على ما أقوم به اسم " جينالوجيا الأخلاق ". فنيتشه هو الذي حدد علاقة السلطة بوصفها البؤرة العامة ، إن جاز لنا القول ، للخطاب الفلسفي ـ في حين يرى ماركس أن علاقة الإنتاج هي التي تلعب هذا الدور . ويعد نيتشه فيلسوفا استطاع ، فضلا عن ذلك ، التفكير بالسلطة من دون أن يقصر نفسه ضمن حدود النظرية السياسية لفعل ذلك … ويعد حضور نيتشه المعاصر متزايد الأهمية . لكني سئمت من دراسة الناس له لا لشيء سوى توليد ذلك النوع من التعليقات المكتوبة عن مالارميه وهيغل . أما أنا ، فأفضل الإفادة من الكتاب الذين أحبهم . إن الثناء المشروع الوحيد الذي يمكن أن نمنحه لفكر مثل فكر نيتشه ، والإفادة منه ، تجريده عن شكله ، جعله يتأوه ويتشكى . وإذا قال المعلقون عندها أني أمين إلى نيتشه أو غير أمين إليه ، فإن هذا الأمر لا يعنيني بالمرة "(66).

    ويتخذ فوكو الموقف نفسه تماما مع ماركس . فهو قريب من نيتشه من دون أن يكون نيتشوياً . أما بخصوص ماركس وفرويد ، كان نيتشه مستهل initiator الخطاب الحديث (67) . فقد أدى كل واحد من هؤلاء وظيفة واضحة ، وهاجم جميعهم مفهوم الأصل Origin ، ووظف جميعهم منهج حرر الفكر من المبدأ التنظيمي ، التأصيلي . ووضح الثلاثة تأويل العمل على سلسلة لا متناهية من العلاقات :

    علاقات الإنتاج ونظرية القيم عند ماركس ، علاقات الرغبة ولغة الأحلام عند فرويد ، علاقات القيم والرجوع الأبدي Eternal Return عند نيتشه .كما إن مناهج هؤلاء الثلاثة رفضت العلامة Sign المطلقة ، المسيطرة . ونجد لدى الثلاثة كلهم الإطاحة بالعقلانية والوعي والقيم ووضعها في سلسلة علاقات . وفتح الثلاثة قضية اللا تناهي . ولهذا السبب تحديدا خضع الثلاثة كلهم لرفض حراس الأيدلوجية اللبرالية ، أي أولئك الذين دافعوا عن الرأي القائل أن التاريخ " حي ومستمر ، بمعنى أنه مكان الراحة ، اليقين ، التسوية ، مكان النوم المهدّئ ، رفضاً مباشرا وحادا " (6 . وبإزاء النوم الأنثروبولوجي ، وجد ماركس وفرويد ونيتشه أن الإنسان نتاج العلاقات التي تتخطاه . فقد كانت تتم رؤية الإنسان بازاء الموت : الاغتراب alienation عند ماركس ، الرغبة عند فرويد ، التجوال عند نيتشه . إن الحياة هي " ما ينبغي أن تتخطى ذاتها إلى الأبد "(69).

    ونجد عند نيتشه أن زرادشت هو الذي يتكلم ـ ضد إرادة الحقيقة ـ لصالح إرادة السلطة. وتحل السلطة محل الحقيقة والأخلاق بوصفها العلامة الأساسية . ويرى نيتشه أن هذا الاكتشاف كان مرتكزاً على تحول اللغة .

    " إن الدليل المرشد الذي وضعني على المسار الصحيح لأول مرة كان هذا السؤال ـ ما هي الدلالة الإبستمولوجية الحقيقية لمختلف رموز فكرة " الخير " التي صاغتها مختلف اللغات ؟ ثم وجدت أن جميعها تؤدي إلى التطورية ذاتها ، للفكرة ذاتها ـ بمعنى أن " الأرستقراطي " ، " النبيل " (بالمعنى الاجتماعي) هو الفكرة الجذر التي تطورت منها فكرة " الخير " أي " بروح أرستقراطية " ، " نبيلة " ، وأعني " بروح ذات منزلة رفيعة " ، " بروح متمتعة بالامتياز " ـ وهذا تطور يتوازى حتما مع التطورية التي شهدها مفهوم " السوقي" ، " المبتذل " ، " الواطئ " التي تغيرت في النهاية لتصبح " شر "(70).

    وبعبارة أخرى نجد أن فيلولوجيا نيتشه أدت إلى السوسيولوجيا . وتعد جينالوجيا نيتشه دراسة في اللغة المستخدمة لتعريف الخير . كما أن دراسته للممارسات الاستطرادية للأخلاق هي التي وضعت الكلمات " الخير " ، " الشر " ، " السوء " ، " الحقيقة " ، " الله " موضعا سوسيولوجيا . " دعونا نتحدث عن هذا المطلب الجديد : نحن بحاجة إلى نقد القيم ، إذ أن قيمة تلك القيم صارت موضع تساؤل لأول مرة ـ ولهذا السبب تعد المعرفة ضرورية للشروط والظروف التي تتولد منها هذه القيم …"(71). وما عادت فكرة " الخير " تتعالى على الإنسان وتسيطر على فكره وكينونته . فـ " الخير" مصطلح اجتماعي وسياسي تم توظيفه لغرض المحافظة على النظام الاجتماعي . ومع ذلك لا يمكن أن نرى مصطلح " الخير " إلا حينما تتحرر اللغة من وظيفتها الكلاسيكية : التعبير عن حقيقة الكينونة . ولهذا السبب ثمة حدود مشتركة بين تحرير اللغة وموت " الله " حيث يرمز " الله " ، في المنظور الحديث ، إلى مبادئ النظام المطلق الميتافيزيقية كلها . وكذلك فإن ثمة حدود مشتركة بين موت " الله " وموت الإنسان . فلعبة اللغة اللا متناهية ، تفكيك الأخلاق ، نقد الميتافيزيقا ، الإنسان الذي يتجول على شفا حفرة بين إرادة السلطة وخواء الموت ، هي جوهر فلسفة السلطة عند نيتشه (72) . وهنا ، ببساطة ، يكمن اقتران اللغة بالموت .

    لكن مع ذلك ، نجد فوكو يضع نيتشه في سلسلة ثانية " إن التركيز يكون على الكينونة عند بلانشو من دون شك ، على الرغبة عند ساد ، على السلطة عند نيتشه ، وعلى مادية الفكر عند آرتو ، وعلى الانتهاك عند باتاي : أي تحديدا خبرة التخريجexterioity المحضة وتعرية الخبرات(73)". ونجد أن إرادة السلطة النيتشوية تحتل موقعا واضحا في هذه العلاقات ، وتتجلى على نحو أوضح في سياق الموت والجنس . " ربما كان ظهور الجنس في ثقافتنا حدث مضاعف القيم : إنه مرتبط بموت " الله " وبالخواء الأونطولوجي الذي ثبته موته عند حدود فكرنا(74). ثمة ثلاثة أحداث تطغى عند ساد ، على سبيل المثال : قص الحكايات ، الجنس العنيف ، والموت من دون معنى(75). ومما لاشك فيه أننا إذا حررنا الخطاب من قيد الأخلاق فإنه سيؤدي حتما إلى انتهاك عنيف للأخلاق ، ويترك الإنسان في مواجهة الموت ـ الخواء الذي بلا معنى . فالتعذيب والقتل عند ساد لا يغيران عن حقائق مليئة بالمعنى . إنهما يوضحان حدود الإنسان ، على نحو محض وبسيط .

    وبالطريقة ذاتها يرى باتاي أن الجنس في صميم الإنسان . فالكائنات الجنسية ، إذا ما قورنت بالكائنات اللا جنسية ، تتكاثر من خلال خلق الانفصال discontinuity من أحشاء الاتصال continuity . فالحيمن والبيضة ، وهما كيانان منفصلان يصبحان كيان واحد عند التصور . " يظهر الاتصال بينهما إلى حيز الوجود ليشكلا كيانا جديدا من موت الكينونتان المنفصلتان واختفاءهما(76)" . لكن مع ذلك يكون المولود الجديد الذي يولد منفصلا ، في النهاية ، عن والديه . " توجد عند المستوى الأساسي جدا تحولات من المتصل إلى المنفصل ومن المنفصل إلى المتصل .فنحن كينونات منفصلة ، أفراد يموتون بمعزل عن غيرهم في خضم مغامرة يتعذر فهمها ، لكننا نتوق إلى اتصالنا المفقود(77) ". ولذلك فإننا نرى في باتاي ما كنا نراه في نيتشه وما نجده في فوكو في كل موضع منه . إذ يحدث التحليل بين ثنائيات . إن حقيقة الإنسانية الجوهرية هي تعذر التوفيق بين الاتصال والانفصال(7 ، التي يربطها باتاي باعتماد شهوة الجنس على التكاثر ، على نحو يثير للسخرية . إن الشهوة ، بطبيعتها المحددة جدا ، هي الجنس من دون مراعاة لأداتية instrumentality التكاثر . فالشهوة ، العاطفية ، المادية ، الدينية ـ يتم التنبؤ بها على أساس الانفصال الذي تخلقه حقيقة تكاثرنا . وتعد الشهوة شكلا من التوصيل communication الذي يبحث فيه الإنسان اتصاله المفقود . وبالنهاية تعد الشهوة اتصالا مقدسا ، وبذا دينية . إنها البحث عن حقيقة الاتصال الأزلية ، لكن ، في الحقيقة ، يعتمد البحث عن " الله " على موت " الله " ، وهذه حقيقة الاختلاف الجوهرية . وحينما نحاول التغلب على الانفصال شهواتيا لا نكتشف سوى الحدود . وبالنتيجة ، صارت الشهوة الفعل الأساس الأكثر جوهرية . ويتم انتهاك الحدود الاجتماعية بسبب حالتنا الطبيعية " تشتمل الشهوة ، دائما ، على تعطيل الأنماط الراسخة ، وأكرر قائلا : أنماط النظام الاجتماعي الأساسي لطابع وجودنا المنفصل …(79) .

    وبذا ، لا يعد الانتهاك ترخيصا جنسيا ، بل يخص المعرفة والسلطة اللتين يتم التعبير عنهما في شروط الجنس . ويعد الحظر وسيلة السلطة الاجتماعية لغرض السيطرة على المعرفة والفعل الاجتماعي (80) ، ولهذا السبب يجد الانتهاك أن المعرفة وإرادة السلطة يمثلان علاقة مزدوجة وضرورية ، فالانتهاك يكون عند وضد حدود الاجتماعي التي تتكشف عندها معرفة الإنسان وسلطته . " إن الانتهاك يوقف التابو taboo من دون تشتيته(81)". ويبقى الإنسان حيوانا اجتماعيا ، في حين تضطره حقائق حيوانيته إلى البحث عن حده . فلا نجد " الله " عندئذ ، بل الموت . ويحتوي موت " الله " وموت الإنسان أحدهما الآخر حينما يجعلان المعرفة والسلطة ممكنتين .

    إن هذين الموتين يفصلان اللغة عن المعنى . إذ ما عاد بمقدور الإنسان من دون " الله " أو الذات المتعالية التعبير عن معنى العالم المتلازم . كما إن هذين الموتين يجعلان من اللغة كم غير متناهٍ من العلاقات التي يعيش فيها الإنسان الذي يواجه الخواء عند حدوده . وتتعرض معرفته ، التي تشتمل معرفته بذاته ، لعلاقات السلطة ، بالضرورة . وتحل السياسة محل الأخلاق .

    إن هذه السلسلة من الأفكار ، من نيتشه وساد مرورا ببنتاي وبلانشو ، تسلط الضوء الكثير على منهج فوكو ، ومعنى الغرابة الذي نجده في كتاباته . فهو يحاول تقديم تاريخ للمعرفة في ضوء نظرية اللغة التي تكون ، في النهاية ، سياسية . إذ أن مناقشاته المبكرة لباتاي ونيتشه وبلانشو(82) ليست مشابهة لما نعتقده عن دراساته المتأخرة للسلطة والمعرفة . فمناقشته للحياة ، الموت ، الجنس ، المعرفة والسلطة في نهاية " تاريخ الجنس " تعد سياسية على نحو جلي . إلا أن هذه السياسات يمكن التنبؤ بها بناءً على قناعة ترتكز على تلك الدراسات الأدبية والفلسفية المبكرة جدا التي تبدو متجردة من الطابع الأساسي . إذ تكمن قيمتها السياسية في الدقة التي تفحص بها تعقيد السلطة . ولا يمكن القول أن سياسة فوكو هي سياسة منظِّر نقدي يهاجم عالم علاقات السلطة المرئي . فالسلطة ضمن نطاق المعرفة مثلما أن المعرفة ضمن نطاق السلطة . ولن يكون للحقيقة الاقتصادية أي فعل يتعدى قول الفلسفة المثالية من أن العلم متحرر من الخطأ والأيدلوجية ، أو الافتراض التاريخاني القائل بالاتصال الواضح بمعزل عن الحقيقة المادية . فحينما يتم الفصل بين المعرفة والسلطة ، نقع ضحية الوهم اللبرالي المنادي باللبرالية والحرية . فنحن غير قادرين على أن نرى ، من خلف المظاهر ، حقيقة أن الإنسان المتحرر واقع تحت قبضة سلطة يديمها هو شخصيا . إذ اللبرالية أسطورة الإنسان الذي يكون ، ضمن تناهيه ، عارفا بنفسه لأنه قادر على تخيلها . وتظهر الذات المتعالية بأشكال مختلقة : إرادة الحقيقة ، الواقعية الوضعية ، الراديكالية الظاهراتية لنظرية الهوية identity ، نظرية سلطة النخبة ، الأخلاق الإنسانية . ويسيطر كل من هؤلاء ، بدوره ، على نحو لا يقل عمّا تقوم به الميتافيزيقا الكلاسيكية لأن كل واحد من هؤلاء يتجاهل حقيقة السلطة أو ينكرها . فالسلطة ليست مركزا ، منبعا ، مصدرا ، حقيقة ، قوة طاغية ... أنها علائقية ، أنها ما نواجهه حينما نقبل حقيقة أن الإنسان اختلاف لا ائتلاف . إن الإنسان المسيطر ، بأصالة ، هو الإنسان الذي يتعرف إلى حده ويعترف به لكنه يرفض تجاوزه على نحو متعال من خلال إسقاط الإنسان في المكان الذي كان يحتله " الله " سابقاً . فإرادة السلطة هي إرادة التخطي ، الانتهاك لتلك الحدود التي لا يمكن تخطيها .

    ويحدد التاريخ والمعرفة واللغة المجالات الواضحة للموضوعات التي يعمل عليها فوكو . فهو يرى أن التاريخ ليس اتصالا هادئا بل صراع ومصادفة ، والمعرفة ليست هوية وحقيقة بل خطأ وخبرة الـ " لا " ، واللغة ليست تفسير وتعبير بل لا تناهي من العلامات التي توصل الإنسان إلى حدّه . وتلتقي جميعها ، في النهاية ، في السلطة : سلطة المعرفة ، التكلم ، الانتهاك للتابو الذي يفرضه الإنسان على نفسه . فالتابو هو المجتمع . ولا تمثل النظرية الاجتماعية النقدية تعالي الجانب الاجتماعي بل هي الانتهاك . فزرادشت كان متخطياً لا مفكرا . والحقيقة تكمن في السلطة ، والنظرية هي السياسة .

    هوامش :
    39
    - ايما نويل ليروي لادوري " إقليم المؤرخ " الفصول 1ـ5و7 .
    40- المصدر نفسه ص 111.
    41- فوكو ، " حفريات المعرفة " ص 4ـ5 و 9 .
    42- " في تاريخ الكتابة " ( 1967 ) ص6 و " الكلمات والأشياء " الجزء الثاني .
    43- فوكو ،" حفريات المعرفة " ص 195 .
    44- لغرض الاطلاع على باشلار ، ينظر " كانغيلم الجديدة " و "( تشكيل الروح العملية ، و " فلسفة الرفض" .. الخ ، اما لغرض الاطلاع على الاثنين معا ، ينظر ، دومينيك ليكور " الماركسية والابستمولوجية " .
    45- باشلار ، " فلسفة الرفض " الفصل الثالث ، قارنه بكتاب " العقلانية تطبيقا " الفصل الأول .
    46- قارن : ليكور ، " الماركسية والابستمولوجية " ص 8 ـ 19 .
    47- باشلار ، " الفكر العلمي الجديد " .
    48- باشلار " فلسفة الرفض " ص 119 .
    49- فوكو ، " حفريات المعرفة " ص 184 ـ 195 .
    50- المصدر نفسه ص 187 ـ 192 .
    51- المصدر نفسه ص 187 .
    52- قارن : فوكو ،" ما المؤلف ؟ " ، ص 131 ـ 136 .
    53- فوكو ،" مقدمة الطبعة الجديدة " ( 1970 ) ، " الكلمات والأشياء " ص 11.
    54- فوكو ،" الكلمات والأشياء " ص 326 .
    55- فوكو ،" خطاب في اللغة " ص 222 ـ 224 .
    56- فوكو ،" المراقبة والمعاقبة " ص 224 .
    57- على سبيل المثال ، ينظر ( 1970 ) ص 174 ـ 176 .
    58- فوكو ، " في تاريخ الكتابة " ( 1967 )
    59- فوكو ، " الكلمات والأشياء " ص 306 .
    60- المصدر نفسه ص 303 .
    61- على سبيل المثال ، فوكو في " ريموند روسيل " ( 1963) ص 208 ـ 210 . قارنه بمقالات فوكو : عن باتاي ، " مقدمة الانتهاك " ، ( 1963 ) ص92ـ52 . في ، وعن بلانشو ، " اللغة إلى اللاتناهي " (1963) ص53ـ67 ، وعن هولدرلين "لاء الاب " ( 1962 ) ص68ـ86 ، وعن فلوبير " " فنطازيا المكتبة " ( 1967 ) ص87ـ109 … الخ .
    62- فوكو ،"، " حفريات المعرفة " ( 1969 ) ص 119 .
    63- فوكو ،" الكلمات والأشياء " ص 306 .
    64- المصدر نفسه ص 328 .
    65- لغرض الاطلاع على أهمية نيتشه في الفكر الفرنسي المعاصر ، ينظر : ديفيد اليسون " نيتشه الجديد " . وتضم هذه المجموعة من المقالات نصوصا بقلم هيدغر ودولوز وكلوسكي وبلانشو ودريدا .
    66- فوكو ،" حديث السجن " ( 1975 ) ص 15 .
    67- فوكو ،" ما المؤلف ؟ : ( 1969 )ص 131 ـ 136 .
    68- فوكو ،" حفريات المعرفة " ( 1969 ) ص 14 ، قارنه بـ : ص 12 ـ 14 .
    69- نيتشه ، " هكذا تكلم زرادشت "، ( 34 :2 ) .
    70- نيتشه ، " جينيالوجيا الأخلاق " ( 1:4 )
    71- المصدر نفسه ص 6 ( الاستهلال ) .
    72- لغرض الاطلاع على مناقشات أخرى لنيتشه واللغة واللاتناهي ، ينظر : موريس بلانشو " أدب المكان " (باريس : غاليمار ، 1955 ) ، بيير كلوسكي" نيتشه والحلقة المفرغة " ، دولوز ، " نيتشه والفلسفة "، جاك دريدا " أساليب نيتشه " .
    73- فوكو ،" ( 1966 ) ص 530 .
    74- فوكو ،" مقدمة للانتهاك " ( 1963) ص 50 .
    75- ينظر : رولان بارت ،" سادر ، فورييه ، لويولا " ، ولا سيما الرسم الموجود في ص 147 في القسم الذي يحمل عنوان " مكان اللغة " .
    76- جورج باتاي " الموت والحسية " ( 1962 ) ص 8 .
    77- المصدر نفسه ص 9 .
    78- قارن المناقضات الأخرى في " الاختلاف ":دولوز ،" الاختلاف والتكرار "و دريدا ، " الكتابة والاختلاف" .
    79- باتاي ، " الموت والحسية " ص 30 .
    80- قارن : فوكو ، " خطاب في اللغة " ( 1971 ) .
    81- باتاي ، " الموت والحسية " ص 30 .
    82- لقد عرضت النصوص الأولى بصورة ممتازة في الجزأين الأول والثاني ، وقد طبع معظمها ما بين 1962 و1971
                  

10-14-2004, 03:58 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض للكتاب الذي سرق منه "الفيا" (Re: osama elkhawad)

    أدناه عرض لكتاب المرايا المحدبة الذي سرق الفيا افكاره كلها دون الاشارة الى ذلك في رده على مقالتنا "مشهد النسيان" عن البنيوية وما بعدها في السودان. وسنفصل ذلك في مكان غير هذا البوست
    مرايا «حمودة» المحدبة تقرأ فشل الحداثيين العرب

    د‚ جمال شحيد

    اصدرت سلسلة عالم المعرفة في ابريل 1998 كتابا آثار كثيرا من الجدل في اوساط النقاد العرب الحداثيين وحمل العنوان التالي «المرايا المحدبة من البنيوية الى التفكيك» (421 صفحة)‚ وصاحب الكتاب استاذ للادب الانجليزي في كلية الآداب «جامعة القاهرة» ورئيس قسم وعميد كلية الآداب سابقا‚

    يبدأ الدكتور حمودة كتابه بشرح تحديب المرايا وباختيار عنوانه يقول‚ بعد تمييزه اشكالا اربعة للمرايا: ولكن المرايا المحدبة تقوم بتكبير كل ما يوجد امامها وتزيفه حسب زاوية انعكاسه فوق سطح المرآة وقد تقوم المرآة بتضخيم الرأس او الساقين او منطقة الوسط والقلب‚ ولكنها وبصرف النظر عن زاوية الانعكاس تبالغ في حقيقة الشيء وتزييف حجمه الطبيعي «ص 8» فالعنوان كما نرى غير بريء ويعبر عن المبالغة فالحداثيون اعتبروا التشويه والتزييف حقيقة وصدقوا الصورة الشائهة مع الايام ومنذ الصفحات الاولى من هذا الكتاب يطلق الدكتور حمودة الرصاص على الحداثيين والبنيويين لا سيما العرب منهم‚

    ويرى ان البنيوية التي ارادت اساسا تحقيق علمية النقد بتبنيها الدراسات اللغوية التي لا شك في علميتها ومنطقها الرياضي «ص9» قد فشلت في تحقيق هدفها لانها رأت العالم من خلال حبة فاصولياء ونسيت دلالة النص ومعناه فغرقت في متاهات الانساق والانظمة والشيفرات وزجت نفسها في سجون اللغة وزنازينها‚

    بعد هذه المقدمة السجالية‚ يقسم الدكتور حمودة كتابه الى اربعة فصول‚ هي: «الحداثة ‚‚ النسخة العربية»‚ و«الحداثة ‚‚ النسخة الاصلية»‚ و«البنيوية وسجن اللغة»‚ و«التفكيك والرقص على الاجناب»‚

    ولأن الدكتور حمودة مولع بالسجال فقد فضل فتح فوهات النار في الفصل الاول من كتابه‚ دون ان يتركه للأخير‚ فبدأ بالنسخة العربية من الحداثة ثم عاد الى النسخة الاصلية التي سبقتها بعقود‚ وكأنه بذلك يريد ان يفرغ جعبته بسرعة ثم يهدأ في الفصول الثلاثة الاخرى من الكتاب‚ اي انه يريد اولا ان يُصفّي حسابا مع البنيوية العربية‚ ثم يخوض بهدوء في تاريخ البنيوية الغربية واشكالاتها‚

    وهذا الفصل هو بالذات الذي اثار ثائرة عدد من البنيويين العرب الذين تصدوا للكتاب وصبوا جام غضبهم على الدكتور حمودة معتبرين مراياه المحدبة «مرايا الاخطاء والمغالطات والافتراءات»‚ (انظر مقالة الدكتورة يمنى العيد‚ الحياة 25/12/9

    ويتوقف صاحب «المرايا المحدبة» عند مقولتين ركز عليهما البنيويون العرب‚ وهما الحداثة والميتا نقد‚

    ويبدأ مقولة الحداثة بالاستشهاد بثلاثة نصوص للناقد المعروف جابر عصفور اقتطعت من مراحل ثلاث من مسيرته النقدية‚ ويستخلص ان عصفور لم يقدم عن الحداثة سوى كلمات باهرة وتعميمات غريبة‚ ويتساءل عما اذا كان العرب قد عرفوا حداثة خاصة بهم‚ ويجيب دون تردد ان «النسخة الاولى من الحداثة وما بعد الحداثة نسخة غربية في المقام الاول»‚ (ص 26)‚ ويذكر ان بعض المفكرين العرب حاولوا بعد حرب 1967 ان يقدموا تصورا خاصا عن الحداثة في نسختها العربية فربطوها بالواقع السياسي والثقافي والاجتماعي العربي الذي يجب تجاوزه‚ ومنهم الياس خوري وشكري عياد وعز الدين اسماعيل‚ ولكن هذه المحاولة بقيت ضعيفة اذ طغت عليها الحداثة الاجترارية‚ فيرى حمودة ان الحداثيين العرب يضعون قدما في المشرق العربي وقدما في الغرب الاوروبي والاميركي (ص33)‚ ويعانون من ازدواجية حادة «فالكاتب منتم بفكره او الأنا الاعلى الى العالم الغربي» الحديث‚ بينما هو منتم بعلاقاته الاجتماعية اي بالأنا‚ الى المجتمع العربي»‚ (شكري عياد: المذاهب الادبية والنقدية عند العرب‚ ص 13)‚ وحول الميتانقد‚ يتوقف صاحب المرايا المحدبة عند ناقد عربي معروف وهو الدكتور كمال ابو ديب‚ وتحديدا عند كتابه «الرؤى المقنعة: نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي»‚ ويسخر من قوله: «ان هذه التنمية (يقصد تنميته لمنهج بنيوي خاص به)‚ وصلت لمرحلة تجاوزت بدرجات كثيرة جدا ما انجزه الفرنسيون أو ما أنجزه الدارسون الأوروبيون» (ص16)‚

    ويرى حمودة ان تحليل كمال أبو ديب مستوحى من المدارس البنيوية الغربية‚ ومن فلاديمير بروب تحديدا‚ وان طلاسم الرسوم التوضيحية التي قدمها أبوديب لمعلقة امريء القيس تستدعي من القارىء ان يسلح نفسه بدراسة الجبر وان هذه الطلاسم هي لذر الرماد في العيون ويقدم نموذجا آخر من تحليل حكمة الخطيب (وهي الدكتورة يمنى العيد) لقصيدة تحت جدارية فائق حسن «لسعدي يوسف‚ ونموذجا ثالثا لتحليل هدى وصفي لرواية «الشحاذ»‚ لنجيب محفوظ ويختم قوله بالتعليق التالي: «إن ما يحققه البنيويون في حقيقة الأمر ليس «إضاءة النص»‚ بل حجب النص بتركيز النقد على لغته وأدواته قبل الاهتمام بالنص المبدع»‚ (ص55)‚

    ويختتم هذا القسم بتصريح خطير وهو ان الحداثيين العرب قد فشلوا في إنشاء حداثة عربية حقيقية كما فشلوا في «نحت مصطلح نقدي جديد خاص بهم تمتد جذوره في واقعنا الثقافي العربي‚ كما انهم فشلوا في تنقية المصطلح الوافد من عوالقه الثقافية الغربية» (ص63)‚

    وخلاصة القول ان الصورة التي يقدمها الدكتور حمودة عن الحداثة العربية هي صورة معتكرة وشائهة فلقد اختار نماذج حديثة معينة ليثبت ان الحداثة العربية ما هي إلا نسخة طبق الاصل عن الحداثة الغربية‚ وبسط هذه النماذج وفصلها عن سياقها‚ للوصول إلى الاستنتاج الذي خطه لنفسه مسبقا‚ اضيف الى الحداثيين العرب الذين ذكرهم مجموعة من الاسماء التي طورت الثقافة الوطنية ونادت بالتنوير الاصيل وربطت بين الحداثة المعاصرة‚ والاصالة الفكرية‚ وأسوق بعض الاسماء تمثيلا لا حصرا: ادونيس‚ ادوار الخراط‚ فيصل دراج‚ عبدالرحمن منيف‚ سعد الله ونوس‚ عبدالفتاح كليطو‚ جمال باروت‚ الياس خوري‚ وجابر عصفور‚ وكمال ابو ديب المفترى عليهم‚ فقد استطاع هؤلاء وغيرهم ان ينفتحوا على الآخر وعلى الذات في آن‚

    اما الفصول الثلاثة الاخرى من الكتاب‚ فيغلب عليها التحليل الهادئ‚ ويبدأ الدكتور حمودة فصله الثاني عن «الحداثة: النسخة الاصلية (الجذور الفلسفية)‚ فيرى ان التحولات المعرفية في الغرب ظهرت في غضون القرن السابع عشر وترافقت مع تطور العلوم والتكنولوجيا ومع تحرك الفكر الفلسفي الديكارتي والكانطي بخاصة‚

    ويعتقد ان تطور الألسنية الحديثة منذ نهاية القرن التاسع عشر قد فتح الطريق للمشاريع النقدية الحديثة‚ ويلاحظ ان المحطة الاولى من هذه الرحلة بدأت بالفيلسوف الانجليزي لوك وانتهت بنيتشه وركزت على الجدلية القائمة بين داخل النص وخارجه‚ اما المحطة الثانية فظهرت في اوائل هذا القرن وتمثلت بالشكلية الروسية باختين وميدفيويف فولوسينوف وياكوبسون وشلوفسكي وايخنبوم وتوما ينسكي وبالنقد الماركسي الذي شق طريقه جورج لوكاش وطوره بعده لوسيان غولدمان وتيري ايغلتون‚ وظهرت المحطة الثالثة ما بين الثلاثينيات والخمسينيات وتمثلت بـ : ت‚س‚ اليوت وكلينث بروكسوي‚ أ‚ ريتشاردس وآثرت العودة الى الداخل‚ والملاحظ هنا ان الدكتور حمودة يستقي معلوماته من اللغة الانجليزية وينسى ان بول فاليري واندريه جيد ومارسيل بروست كانوا من هذا الاتجاه‚ وهكذا يصل قطاره الى محطة البنيوية والتفكيك فيستعرض المناخ الثقافي الذي نشأت فيه البنيوية: هوسرل وهيديغر وسارتر بخاصة ويرى ان المزاج الثقافي الفرنسي هو الذي افرز التفكيك ثم لفظه (ص165) كما يرى ان المناخ الثقافي الاميركي طور التفكيك (166)‚


    وفي الفصل الثالث يكلمنا الدكتور حمودة عن علاقة البنيوية بسجن اللغة ويرى ان الشكلايين الروس هم الذين بدأوا التحرك في اتجاه التعامل مع اللغة كنظام ص(184)‚

    ويتوقف عند الالسني الفرنسي اميل بنغينيست الذي ميز بين الانساق الصغرى والانساق الكبرى في اللغة ويرى ان البنيويين الذين ركزوا كثيرا على علم اللغة انشغلوا بالكيف دون المعنى ويرى ان البنيويين الماركسيين ومن الواضح انه يناصب الماركسية العداء - حائرون في امرهم لهذا السبب ويعتقد ان الدلالة او مشكلة المعنى هي اخطر مشاكل البنيوية وصارت مقتلا لها لانها اتسمت بالغموض والابهام والمراوغة ولذا انتقد عدد من المفكرين الشباب هذه البنيوية ومنهم الناقدة الانجليزية اديث كروزويل والناقد الفرنسي ميشيل ريفاتير الذي يعيب على البنيوية غموضها لا بالنسبة للقارئ العادي فحسب بل للمتخصص العارف ويستخلص الدكتور حمودة ان من بين اوجه القصور في البنيوية عدم صلاحية المشروع البنيوي للتطبيق على كل الانواع الادبية (ص286) فالبنيوية كما يرى تتلاءم اكثر مع الحكاية والقصة والرواية اكثر من تلاؤمها مع الشعر‚

    ويكرس الدكتور حمودة فصله الاخير للتفكيك ويستشهد منذ البداية برأي لغانسان ليتش يقول فيه: ان التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيء في التقاليد تقريبا وتشكك في الافكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير واشكال الكتابة النقدية وفي هذا المشروع فان المادي ينهار ليخرج شيء فظيع (ص291)‚

    ويعتبر ان جاك ديريدا هو مؤسس التفكيك وعنه اخذ النقاد الاميركيون فانتشر في الجامعات وعمت شعبيته بعد زيارة ديريدا لجامعة «جونز هوبكنز عام 1966 بمناسبة احد المؤتمرات‚ والتفكيك ممارسة أكثر منه نظرية‚ مع انه ركز على عدد من المقولات التي سأذكر اهمها بايجاز‚

    اللقارى دور أساسي في النص يقارب دور الكاتب‚ ويسخر حمودة من هذا الدور المعطى له فيقول هناك راقصان في حالة حركة دائمة إلى الجانبين لا تتوافر لهما لحظة ثبات تجمعهما في نقطة ما‚ (ص320) فهناك استراتيجية للقراءة ونظرية للتلقي‚ حللهما الناقد الالماني هانز روبرت يوس في كتابه الشهير من اجل جمالية للتلقي‚ (1982)‚ اذ يرى ان تاريخ الادب يجب الا يتجاهل القارئ وأهمية التلقي الذي يعتمد على آفاق التوقعات لدى القارى‚ فكما ان هناك تجربة في الكتابة‚ هناك ايضا تجربة في القراءة‚ الا انها ليست تجربة فوضوية‚ فلكل نص قارؤه المسلح بوسائل فهمه‚ اي ان الكاتب خلق مناطق فارغة في نصه ليملأها القارئ‚ وبسبب الأهمية التي اعطيت للقارئ‚ تكلم بعضهم‚ ولاسيما رولان بارت عام 1968‚ عن موت المؤلف‚

    2ـ يحتمل النص‚ وكل نص‚ قراءات متعددة Polysemie ولكن لكل قراءة مسوغاتها‚ ولا ضير ان اختلفت القراءات والمسوغات‚

    3ـ التناص: لكل نص علاقات بين وحداته وبين آثار ومخلفات واضاءات مقتبسة من نصوص سابقة‚ فالكرنفال عند باختين مثلا (في دراسته الرائعة عن رابليه) يشمل الثقافة العليا والثقافة الدنيا والثقافة الرسمية والثقافة الشعبية‚ فالنص ليس مغلقا لانه يجتاح حدوده ويتسق مع نصوص أخرى‚ فله ارشيف مرتبط بثقافة الكاتب وإحالاته‚

    وينهي د‚ حمودة كتابه بشهادة للناقد الأميركي جيفري هارتمان الذي يخشى التفكيك بقدر اعجابه به‚ ويقول فيها‚ ان أهم انجازات النقد القديم انه يحيي فينا شعورا بالنظام‚ وان المجهود الضخم الذي يبذله ذلك النقد لفرض النظام والطاعة‚ حتى ولو ادى ذلك الجهد (الذي نسميه حضارة)‚ إلى الكبت أو إلى سعادة قلقة بدلا من السعادة المستقرة‚ فانه يبقى جهدا بطوليا (ص403)‚

    ويصل الدكتور حمودة في آخر مقطع من كتابه إلى ان اتباع المنظورين النقديين يشتركون في انجاز واحد‚ وهو حجب النص (ص404)‚

    يحتاج نقد هذا الكتاب إلى كثير من التأني‚ لانه يصر على التوثيق‚ بالرغم من انه يتعامل معه بانحياز ومراوغة في كثير من الاحيان‚ انه كتاب سجالي‚ لاسيما في فصله الأول إذ يظهر كأنه تصفية حسابات أحيانا‚ ولن أدخل في تفاصيلها‚ ولكنه بعامة استقرأ النصوص البنيوية والتفكيكية الغربية بشيء من الموضوعية‚

    ولكنه يقع أحيانا في مطبات التسرع‚ فعندما يقول ان «الكتاب من وجهة نظر رولان بارت هم أناس لا يستخدمون الكتابة للتعبير عن أنفسهم أو ذواتهم‚ بل للاستفادة من قاموس اللغة (ص 163) فإنه يحجم الكتابة إلى حدودها الدنيا ولم يقصد بارت ذلك‚ كذلك عندما يقول «ان المزاج الثقافي الفرنسي هو الذي أفرز التفكيك ثم لفظه» (ص 165) وان المناخ الثقافي الأميركي هو الذي طور التفكيك (ص 166) أجد في ذلك تبسيطا شديدا لا بل رأيا تعميميا مزاجيا‚ وأرى حكما ممجوجا عندما يقول ان «ديريدا هو كاهن التفكيك الأكبر» (ص 663)‚ كأننا في معبد تمارس فيه الشعائر الوثنية‚

    إلى جانب ذلك ألاحظ باستغراب بعض ترجمات حمودة كأن يترجم الـ grotesque بالجسم الغريب (ص 363)‚ والـ irony بالمعارضة (ص 667)‚ والـ Citation بالاقتطاف الخ‚‚

    وهناك مطبات جوهرية سقط فيها حمودة‚ فهو لا يميز بين النقد الشكلاني والنقد الماركسي إذ وضعهما في سلة واحدة‚ فباختين مثلا لم يكن ماركسيا وعانى ما عانى بسبب رفضه الايديولوجية الماركسية‚ كذلك يضع شلوفسكي (وكان ضد الثورة البولشفية) ومايا كوفسكي (الذي اعتبر بوقا لهذه الثورة)‚ في سلة واحدة وإذا كانت تعريفات الحداثيين العرب للحداثة لا تعجبه فلماذا لم يقدم تعريفه للحداثة؟!

    ولكن الثغرة الكبرى في الكتاب على ما أرى هي انه نسي أو تناسى نقد البنيوية غربا وشرقا وقد صدرت باللغة العربية عشرات من الكتب تضع النقاط على الحروف بالنسبة للنقد البنيوي ومنها تمثيلا لا حصرا:

    عبدالسلام المسدي: قضية البنيوية دراسة ونماذج (1995)‚ زكريا ابراهيم: مشكلة البنية د‚ ت صلاح فضل: مواقع الأشياء (197‚ مقدمة الترجمة التي قام بها د‚ جابر عصفور لكتاب اديث كيرزويل: عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو (1985)‚ محمد طرشونة: في مناهج دراسة الحكاية (1979)‚

    عبدالفتاح كليطو: النص والأدب (1982)‚ جمال شحيد: في البنيوية التكوينية (1982)‚ محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري (1985)‚ كمال أبوديب: جدلية الخفاء والتجلي (1979)‚ موريس أبوناضر: الألسنية والنقد الأدبي (1979)‚ محمد سويرتي: النقد البنيوي والنص الروائي (1991)‚ سعيد يقطين: القراءة والتجربة حول التجريب (1985)‚ يمنى العيد: فن الرواية العربية‚ بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب (199 الخ‚‚

    وخلاصة القول اننا نستشف من كتاب الدكتور حمودة انه في المحصلة ينادي بشكل لا مباشر إلى العودة إلى النقد الكلاسيكي بعد ان دارت السنون دورتها‚ فهذه النكوصية لا تبشر بالخير بل هي مؤشر من مؤشرات التراجع بدل التصحيح والتجاوز‚

    عن موقع اتحاد الكتاب العرب
                  

10-14-2004, 10:55 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    we are waiting for Bola and Abdulatif

    I will be back

    almashaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaa
                  

10-15-2004, 08:36 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المسرح العربي بين الحداثة وما بعدها (Re: osama elkhawad)

    في هذه الدراسة عن موقع المسرح العربي في زمن الحداثة وما بعدها يطرح بول شاوول مسالة العلاقة بين الحداثة الغربية والحداثة العربية ويقترح مفهوما جديدا لما بعد الحداثة الا وهو مفهوم الحداثة المضادة


    موقع المسرح العربي في زمن الحداثة وما بعدها

    بول شاوول
    (لبنان)

    هل يمكن اعتبار أن نشوء المسرح العربي، مع أول مسرحية بالمواصفات الغربية مع مارون النقاش "البخيل" (1847) و"أبي الحسن البصري"، تم قبل زمن الحداثة، أم كان فاتِحة له، أم، جزءاً من الحيوية الملوحة بالتغيير مع كبار المفكرين النهضويين؟ هل أثرت بداية غربلة التراث، ومقاربة الواقع الاجتماعي (والسياسي)، في منتصف القرن التاسع، إشارة مهمة، أدركت بنية العقل العربي الخارج من عصور الانحطاط الألفية، إدراكها هاجس البحث عن أنماط تفكير جديدة، وأنماط فنون، وتالياً أنماط مشاعر وطرق عيش وحياة؟

    نقول هذا استناداً إلى أن المفارقة اللافتة في الظاهرة المسرحية المبكرة، تكمن في أن المسرح كان من الإشارات التجديدية الأولى قبل الشعر والرواية والفن التشكيلي، علماً بأن المسرح كنوع مستقل بلا تراث عندنا وهذه الأنواع تكاد تكون راسخة في التراث العربي. فكيف يمكن أن تبدأ الحداثة أو تباشيرها باجتراح معجزة تتمثل في تأخر الشعر نحو نصف قرن ليبدأ بتململه، وخروجه من المتحف التراثي إلى فضاء التجديد، برغم أن الشعر "ديوان العرب"، سبق كل الفنون والأنواع منذ الجاهلية وحتى نهايات العصور العباسية؟ السؤال: لماذا كان يُتوقع أن يُبادر الشعر إلى الريادة، ففوجئنا بالمسرح. الأول موصول بكل المتن العربي. والثاني بلا متن. الأول تاريخ طويل يمتد قرابة 2000 عام، والثاني بلا تاريخ، اللهم من طقوس وتقاليد وعادات دينية واجتماعية مناسبية رأى بعضهم فيها مواد للمسرح أو للمسرحة، وهي أصلاً معممة وتلازم كل الشعوب والأقوام، بحيث إذا قبلنا هذا المنطق، علينا أن نقبل أن المسرح وُجد عند كل الشعوب (لا سيما البدائية) منذ عشرات ألوف السنين وهذا لا يعني أن المسرح غائب كمادة عن هذه الظواهر، أو أنه على نقيضها. والواقع أن قوة المسرح في أنه يمسرح كل شيء. من هذه الطقوس والأساطير والخرافات إلى أي مظهر من مظاهر الحياة القديمة والحديثة، بنقلها من هشاشتها وأمكنتها وأزمنتها ومفرداتها إلى الصوغ المسرحي. إضافة إلى أن هذه "المواد" هي أولية، وعمومية، يمكن أن تستخدم عبر عمليات تحويلها، في أي متن من متون الأدب والفن: من الرواية، إلى الشعر، إلى الفولكلور، أقصد أن هذه المادة سديمية تنتظر دائماً، أن تشكل بصوغ ما، لتنتقل من نصوص عمومية إلى نصوص خاصة. والواقع، أن هذا حدث فعلاً، عندما انخرطت هذه المواد في المرويات العربية: السير، وأنواع الوصف، وألف ليلة وليلة، لتشكل بذلك، عبر تلك المتون، عناصر أساسية في ما يسمى السرد العربي الذي اتخذ بنية مفتوحة لا سيما في "ألف ليلة وليلة". من هنا السؤال: إذا كانت المرويات العربية وقد تضمنت، في ما تضمنت، أشكال الطقوس والخرافات والحكايات، أدركت أشكالاً متقدمة في بنيانها الروائي، وأثرت بشكل لافت، على الرواية الغربية الحديثة، فلماذا لم تسبق "المسرح" في السباق إلى الحداثة، على الرغم من تراكماتها الفنية والتاريخية؟
    المسرح عندنا هو أول الحداثة، وأقصد الحداثة الغربية، أو فلنقل، اصطلاحاً، إن المسرح هو حداثة ما قبل الحداثة، ويعني ذلك، أنه من الصعب جداً، أن يخرج جديد أو مبتكر من دون أن يكون فيه تماس ما مع المجتمع. صحيح أن المجتمعات العربية، كانت في منتصف القرن التاسع متصلة بالأنماط التقليدية، الماضوية، وشبه غائبة عن مستحدثات العصر، وإنجازاته، وعن تطوّر البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية في حداثة التنوير الأوروبية، لكن الصحيح أيضاً أن المجتمعات العربية كانت بدأت أيضاً، ومن خلال انتشار كتابات بعض الرواد النهضويين، تشعر بضرورة الخروج من عصر الثبات، والاسترجاع، والتجمّد، والانحطاط، والتحرّك في مستنقع الذات. صار ثمة شعور وملامح إدراك، بأن البقاء في دائرة الذات المتقوقعة على قيم الحاضر والماضي، إنما هو استمرار لموت الذات هذه، وتعميق لغيابها، وأن أي محاولة خروج لا يمكن أن تتم إلا عبر مَنْ يسمى "الآخر"، أي الظواهر المختزلة أو المتجسدة في إنجازات الغرب (أوروبا آنئذ).
    فالتململ على الصعد النفسية والفكرية والفنية، كان علامة قبول هذه الحداثة الوافدة من بلاد الإفرنج. على هذا الأساس، (ولو استثنينا بعض الجهات الدينية المتشددة والمحدودة) أبدى المجتمع استعداداً لمبدأ الخروج إلى العالم، وتبني ما يمكن تبنيه من أفكاره وآدابه وفنونه وأنماط عيشه، وإن بطرق مقننة، فكأنه كان في حالة "افتتاح" عام جديد. وهذا ما يفسّر سرعة تقدُّم المجتمع العربي أو شرائح منه، نحو المسرح، كأحد التعابير القوية عن هذه الحداثة، تماماً كما تقوم بوتائر متفاوتة نحو الأفكار الجديدة، الإصلاحية والترميمية، وحتى التغييرية، التي طرحها كبار الرواد من أمثال الكواكبي والطهطاوي وعلي عبد الرازق ومحمد عبده والأفغاني والشدياق وفرح أنطون... وجبران ونعيمة.

    فالخطوة نحو الآخر واحدة. هي خطوة نحو حداثة اصطفائية، وأكاد أقول جزئية، لأنه كان يستحيل آنئذ التحرّك تحركاً شمولياً، لأسباب ذاتية وموضوعية، تتصل بالقدرات المتاحة، والامكانات المتوفرة في تلك المرحلة لا سيما في مجالات العلوم والتقنيات...
    زمن حداثة ما قبل الحداثة كان زمن التأسيس الخاص على الأسس العمومية، أي زمن تأسيس النهضة العربية (الذاتية) على معطيات النهضة الأوروبية، كان تأسيس "الأنا" الجديدة على "الأنا" الأخرى.

    ولكن هذا التأسيس، وإن بدا لدى بعضهم خروجاً مطلقاً إلى أوروبا كنموذج مكتمل، قد تحرّك في اتجاه ثنائي: واحد نحو الآخر، وآخر نحو الموروث. واحد يحاور الحضارة الغربية وآخر متصل بالماضي. وهذا ما تمثل تحديداً في المسرح (وفي مجال الفكر والسياسة)، عندما برز اتجاهان لدى مارون النقاش: واحد "معاصر" متماهٍ مع حداثة غربية شكلاً ومضموناً عبر مسرحيته "البخيل"، كأوبريت متأثر بكتابتها بالغرب (وهي ليست مترجمة عن "بخيل" موليير كما يزعم بعضهم خطأ)، مزجت الحوار بالموسيقى والأغاني ذات النسيج العربي (الآلات الموسيقية حددها النقاش ارتباطاً بالأناشيد والمقاطع وهي عربية)، والثاني تراثي في مسرحية "أبي حسن المغفل"، والمأخوذة من مناخات "ألف ليلة وليلة".

    إذاً حداثة تتطلع بعين الحاضر، وأخرى تتطلع نحو الماضي. وهاتان الوجهتان سترافقان مسار ما أسميناه حداثة ما قبل الحداثة نحو مئة عام أي حتى الخمسينات عندما انتقل المسرح من الزمن الاجتماعي والتاريخي إلى الزمن المُسيَّس وصولاً إلى الزمن الأيديولوجي أي إلى الزمن الحداثي بامتياز في السبعينات حتى نهاية الثمانينات.
    فالقرن التاسع عشر كسر الحواجز الأولى التي على النفحات الجديدة، والإطلالات الأولى أن تعبرها، إدركاً إلى وعي المجتمع والشرائح المختلفة. صحيح أن مارون النقاش ويعقوب صنوع وأبا خليل القباني افتتحوا الريادات المسرحية المختلفة، واقتحموا واقعاً جديداً، وجمهوراً، إلا أن الصحيح أيضاً أن مئات الفرق والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والتربوية والدينية والسياسية والمدرسية انخرطت على امتداد القرن التاسع عشر، في مصر ولبنان خصوصاً، لتشارك في هذا البناء الحداثي، ولتخرج "إنجازه" من الحيز النخبوي الخاص إلى الحيز العمومي. وهذا يعني أن المجتمعات العربية، في أقسام متسعة منها، سجلت خروجاً من عالم قديم إلى آخر جديد. مفتتح جماعي، كان ضرورياً لتأمين تراكم لهذا الفن، أو الأحرى لتأمين تراكم حداثي فني، يشكل التأسيس المتين للقرن العشرين. ويعني ذلك أيضاً أن مئات المسرحيات المترجمة والمقتبسة والموضوعة من تاريخية ودينية واجتماعية، قد قدّمت على خشبات المدارس والجمعيات والفرق. كل ذلك يفضي إلى أن الحداثة (أو حداثة ما قبل الحداثة) المسرحية لم تعد مسألة استثنائية أو فردية بقدر ما كانت تقترب من أن تكون "حركة"، على الأقل من حيث تقبلها تقبلاً متواصلاً ومتعدداً ومتفاعلاً. وقد تكون المناسبة طاغية في التعاطي مع المسرح، إلا أن تجمع هذه المناسبية واتخاذها منحى الاتصال، وبداية تكرّسها كحالة أو كعادة... جعلت منها ظاهرة مطردة نفذت إلى عمق الوجدان العمومي وإلى قرار إدراكاته الثقافية. فالمعنى الثقافي لهذه الحداثية المسرحية الجديدة يتضمن أبعاداً مهمة، عبر اكتسابه عنصراً جوهرياً في بناء الذائقة الفردية والجماعية.

    فلنقل أن حالة مسرحية ما قد بدأت تتكوَّن وتتراكم وتشمل أهل المسرح من "محترفين" وهواة وطلبة. إنها الحالة ـ الحركة التي تتفشى وتنتشر لتكون مقومات للحداثة المسرحية العربية التي ستتخذ في القرن العشرين طابعاً مؤسساتياً يتجاوز المناسبة، والفِرق الطارئة.

    إذا كان المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمنحاه التكويني، بدا من دون اتجاهات واضحة، وهذا شيء طبيعي، فلأن مرحلة حداثة ما قبل الحداثة هذه، تنوّعت بمصادرها، ومراجعها، على أن هذا التنويع (ولو محدوداً) الذي خطا في اتجاهات التاريخي، الاجتماعي والغنائي، استخدم "قديم" الآخر ليؤلف عناصر حداثته. وهذا أمر مألوف في تاريخ الشعوب. كل حضارة تنهض تأخذ من "قديم" الآخر، أو ما تكرّس في تراثه. هذا ما فعله الرومان عندما تأثروا بالإغريق وهذا ما فعله أيضاً الفرنسيون في مسرحهم الكلاسيكي عندما أخذوا النموذج الأرسطي للمسرح (ككورنيل راسين)، وهذا ما فعلته الرومانطيقية الفرنسية عندما تفتحت على المسرح الانكليزي في القرن التاسع عشر لا سيما النزعة الشكسبيرية، ومن رموز تلك المرحلة الشاعر هيغو الذي كسر النظام الأرسطي وقوانينه على الطريقة الشكسبيرية (التراجيدية). هذا التأثر سيرافق المسرح العربي حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين.
    هذه المرحلة الممتدة من بداية القرن حتى نصفه هي امتداد ما للاتجاهات التي تبلورت مع رواد المسرح في القرن التاسع عشر من حيث استغراقها التوجيهين الأساسيين: الغربي والتراثي (التاريخي والشعبي)، والاجتماعي سواء في الاعتماد على الكوميديا أم على التراجيديا أو الدراما أو حتى الميلودراما من دون إغفال العنصر الغنائي (الأوبريت، المسرح الغنائي). على أن الاستعانة بقديم الآخر لبناء التحديث تحول إلى نوعٍ من التأثر ببعض المعاصرة وتحديداً الكتّاب الأوروبيين اقتباساً وترجمة. هذا ما شهدته مصر على امتداد الجزء الأول من القرن العشرين، وكذلك تونس والجزائر والمغرب وبيروت ودمشق وبعض دول الخليج وبغداد. وهذا يعني أن بؤر الحداثة التأسيسية قد بدأت تتوزع، وإن على غير تفاوت، على امتداد العالم العربي، لكن بكثير من العناصر المشتركة. لكن إذا شئنا قياس الحركة المسرحية العربية بموازاة الحركة الأوروبية، فنجد أن عامل "التأخير" بدا واضحاً. ففي حين قامت الثورة المسرحية في أوروبا على سلطة المخرج ومن الممثل والتقنيات السينوغرافية المرتبطة بدرامية النص ومن ضمن رؤيا المخرج بقيت هذه الثورة خامدة عندنا طيلة أكثر من نصف قرن. أي أن المسرح العربي في القسم الأول من القرن العشرين مسرح القرن التاسع عشر وما قبل، من حيث بقاء السلطة الأساسية محصورة في النص. من دون رؤيا إخراجية أو أدائية أو تقنية. مسرح النص. ومسرح غياب المخرج. إنه مسرح اجتماعي (كلاسيكي) تقليدي متأثر بزمن ما قبل الثورة الاخراجية، والتكنولوجية (اختراع الكهرباء) والإيديولوجية. صحيح أن كثيراً من الأعمال حملت مضامين فكرية (كمسرحيات فرح أنطون)، وتضمنت أفكاراً جديدة كالاشتراكية، والقومية، وحتى الليبرالية، إلا أن كل ذلك لم يتموضع في اتجاه مسرحي، أو رسالة مسرحية. كأنما بقيت حدود المسارح الاجتماعية في حدود النقد المباشر، والسخرية المباشرة، وإن متأثرين بإرث التنويريين الأوروبيين وكذلك بالقيم الدينية والإنسانية العربية الموروثة.

    هل هذا يعني أن الفجوة القائمة بين المسرح العربي وأشكال تطوّر المسرح الغربي في القرن العشرين تعود إلى طبيعة المجتمع وأحواله ومستويات تقبّله وانخراطه في الجديد، من أفكار وآداب وفنون؟ وهل يعني أن المسرح العربي الذي سبق (إلى حد) كثيراً من الأفكار والفنون في القرن التاسع عشر بمجرّد وجوده الريادي، قد تأخر عن مواكبة الأفكار النهضوية التي خطت باتجاه اقتباس عناصرها وبنياتها والإبداع عليها، ليدوم هذا التأخر مطرداً حول نصف القرن؟ وعلينا هنا أن نقارن بهدوء بين هذه الظواهر، لنجد أن هذا التسابق إذا جاز التعبير، كان أحياناً كثيرة تماهياً ولو مبسطاً بالقيم الفكرية العربية المتأثرة أوروبياً. وهذا نتلمسه بالقضايا والمسائل الاجتماعية والسياسية (والتاريخية) التي تنكبها المسرح، بحيث كان، أحياناً، وإلى حد ما، مرآة لهذه الأفكار "التنويرية" والنهضوية من قضايا المرأة والحجاب والطلاق ومفهوم الدولة، والسياسة، والزواج والعائلة، والغنى والفقر، والإقطاع، وسيرورة المجتمع من ضمن هذه العوامل. بمعنى أن الحداثة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي رفع لواءها كبار الرواد وجدت في لحظات تجسّدها على الخشبة، بحيث باتت هذه الأخيرة، وإن بحدود متواضعة، تعبيراً عن هذه الحداثة نفسها والإشكاليات المنبثقة عنها، والأسئلة المرافقة لها. أوليس هذا ما نجده في أعمال نجيب الريحاني وجورج أبيض ويوسف وهبي ومن ثم سيد درويش وعلي الكسار وعلي باكثير (ومسرح فاطمة رشدي)؟ أي الجانب الانتقادي المشفوع بنظرة مستحدثة وإن مترددة إزاء "العادات" والتقاليد الغربية التي تجتاح المجتمع المصري. (هذا ما نلقاه إلى حد كبير أيضاً في السينما منذ العشرينات وحتى الخمسينات أيضاً). هذه المرحلة الاجتماعية، التاريخية في الحداثة المسرحية مشت بخطوات حثيثة إلى الأمام، وبخطوات مدروسة إلى الوراء. فلا المسرح تجدد بما تجدد به في الغرب، ولا تسيّس بالمعنى الانتقادي، ولا راهن على تغيير المجتمع تغييراً يمكن أن يصيب بعض الفكر التنويري. وهكذا ظل مسرح النصف الأول من القرن العشرين استمراراً مطرداً ومتنوّعاً لمسرح القرن التاسع عشر، مع إشارة إلى كثافة الإنتاج، وتطوّر الحرفية، وبروز شبه تآزر بين مختلف الظواهر المسرحية: تراثية، شعبية، اجتماعية وموسيقية وغنائية. وشبه التآزر هذا يُعبّر عن أن الذين كانوا ينتجون هذا المسرح اضطروا أحياناً إلى نقض ذواتهم بالتصدي عبر المسرح لبعض الاقتراحات التنويرية والحداثية. حداثة بقديم هنا. وقديم بحداثة هناك. وعلينا أن ننتظر فترة الخمسينات لنشهد تحوّل الاجتماعي إلى سياسي، والتراثي إلى مادة إسقاطيه على الحاضر، والشعبي إلى التزام بقضايا ومسائل أبعد من مسائل الزواج والطلاق، والغنى والفقر، ولقاء الطبقات...
    فمع نعمان عاشور وسعد الدين وهبي انتقل المسرح إلى حالة شحن فكرية، وسياسية وحتى أيديولوجية، تطال عمق علاقة السلطة بالمجتمع. وهي فاتحة سترافق المسرح العربي لاحقاً مرافقة عضوية.

    على أن هذا المنحى السياسي (المسيس) بالأفكار الحداثية الجديدة، والمُطل على ما آلت إليه طروحات النهضة العربية على صُعد كثيرة كالاشتراكية والشيوعية والالتزام، لم يتم عبر تغيير في بنية العمل المسرحي، أو في رسائله، بحيث ظل الشكل خاضعاً للأنماط التقليدية التي عرفت لدينا في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

    بمعنى آخر بدأت ملامح تحوّل في دور المسرح كمكان احتجاجي ـ فكري (لا انتقادي ـ اجتماعي) ـ سياسي، تحت تأثير الانفتاح على الغرب لا سيما الاشتراكي منه، عزز ذلك أيضاً التزام بالتعبير عن القضايا العربية، والصراع مع إسرائيل (والامبرياليات)، لا سيما بعد نكبة 48، والعدوان الثلاثي على مصر، ونكسة الـ67,.

    على أن التحوّل الجذري الذي أصاب مضمون المسرح لم يرافقه تحوّل يذكر في مجال لغة المسرح. وفي هذه الفترة التي عرف فيها الغرب ثورة نصبت المخرج سيداً للعمل يلعب بكل أدوات المسرح، وغيّرت دور الديكور (التزيين الجامد) إلى سينوغرافيا تشكل جزءاً من درامية العمل، إلى سينوغرافيا تشكل جزءاً من درامية العمل، إلى دور الممثل... كل هذا كان بعيداً عن متناول حداثة (ما قبل الحداثة) المسرحية.
    فثورة الأفكار والقضايا الكبرى وانخراط الدراما حتى في الأيديولوجيات "المكتملة" (قومية، شيوعية، اشتراكية...) لم تُؤد في تلك المرحلة إلى ثورة في الخشبة، ولا في لغة المسرح، ولا في أدواته. على أن هذا التردد بين الجديد الفكري والقديم الشكلي في المسرح، والذي رسم المرحلة المئوية الممتدة من 1947 إلى الخمسينات من القرن الماضي، وجعلت هذه المرحلة مشتركة في مواصفات كثيرة: قانعة وطموحة، متجزئة ومحافظة، رافضة وقابلة، هذا التردد كان يجبل بالثورة الحداثية المسرحية التي بدأت تتفجر منذ قرابة 50 عاماً، مستندة استناداً شبه تام على المدارس والاتجاهات الغربية. وإذا اعتبرنا أن القرن العشرين هو قرن الأيديولوجيات، عرفنا أن هذا المنحى الأيديولوجي الذي أصاب كل شيء: الفلسفة (الوجودية، العبثية) النفسية (الفرويدية)، السياسية (الرأسمالية والشيوعية الليبرالية)، الشعرية (الدادائية، السوريالية...)، الروائية (الرواية الفرنسية الجديدة)، الاجتماعية (الأنتربولوجية) المسرحية (البرشتية (قبلها الأرسطية والستنسلافكية) ومسرح القسوة (أنطونان أرطو)، والمسرح الفقير (غروتوفسكي...)، و"مسرح داخل المسرح" (البيراندولية). فكأن كل القرن العشرين الغربي الموسوم بالمدارس والاتجاهات (المغلقة) أي الأيديولوجية بمعنى من المعاني، تدفق في فترة قصيرة تمتد نحو ثلاثة عقود (من الخمسينات حتى الثمانينات)، ولتشكل فيها الحداثة الغربية شبه اكتمال في المسرح العربي وسواه. وبهذا تم الانتقال من زمن حداثة ما قبل الحداثة (استمرت مئة عام)، أي سيادة النص، إلى زمن الحداثة ("سيادة المخرج" استمرت ربع قرن!).

    وإذا كانت الفترة السابقة شكلت مشكلة بطولها (وترددها)، فإن الفترة الحداثية شكلت أيضاً مشكلة:

    أولاً ـ مشكلة وقت. إذ تدفقت كل المدارس المسرحية الغربية علينا دفعة واحدة وفي مدة أبعد من أن تكون كافية لتبلور اتجاهات ناضجة، وأقل من أن تكون وافية لتحول مفردات تلك الحداثيات الغربية العمومية إلى حداثيات بمفردات ورؤى عربية. وهذا شكل نوعاً من القطيعة مع تراكمات المرحلة السابقة، بحيث بدا وكأن كل شيء طالع من توّه. من حاضره. ولعل هذا تحديداً ما أضعف "تأصيل" الإبداع المسرحي العربي، بحيث يصبح التوقيع الإخراجي، والأدائي، والسينوغرافي، وحتى الكوريغرافي، دافعاً. والمفارقة أن ما أسميناه "حداثة ما قبل الحداثة" المسرحية دامت نحو قرن، فيما الثورة الحداثية العربية لم تصمد أكثر من ربع قرن، وهذا يعني أن التراكم الذي لاحظناه في المرحلة السابقة وأدى، كما قلنا إلى "المسرح المسيس" (عاشور، وهبة)، لم نلحظه في الموجات المتداخلة من المدارس المسرحية الغربية، والتي أفضت إلى ردود فعل عليها.
    فالمرحلة السابقة، على أهميتها، لم تصدم المجتمع، ولا ذائقته المتفتحة، ولا مشاعره، برغم المضمون التغييري الكبير الذي حوته، في حين أن ثورة المسرح الحديث، والتي تزامنت إلى حد كبير، في مختلف المدن العربية (القاهرة، العراق، بيروت، دمشق، تونس، المغرب، الجزائر، الكويت، البحرين...)، شكلت صدمة ما. بل صدمة كبيرة، لأنها افترضت، عبر تغيير موقع المسرح، تغيير موقع الجمهور منه. إضافة إلى أنها احتضنت التناقضات المتعاقبة في المسرح الغربي، في حاضنة زمنية واحدة. مما أدى إلى تبلبل، وارتباك، في الحالة المسرحية العمومية: عند أهل المسرح وعند الجمهور.

    هذه الظاهرة الصدامية هي مهمة. وضرورية. لهز الضمير وخلخلة الذائقة. والعبور إلى دور جديد للمسرح: دور سياسي وجمالي وأيديولوجي ومجاني ونضالي... وعدمي. مهمة في هذه الراديكالية في مفهوم المسرح. وبنيته. بمعنى آخر في التبني الواضح لاقتراحات المسرح الغربي نفسه. ولعل استمرار المسرح الحداثي في الاعتماد على الصيغ والمنظورات والمفاهيم الغربية (كما كان شأن المرحلة السابقة) عنى في ما عنى، أن لا تجديد ممكناً، أو تنوير للخشبة خارج المفهوم الغربي. فالحداثة المسرحية تعني حداثة غربية: من استانسلافسكي، إلى مايرخولد، إلى برشت، وبكيت ويونسكو، وبيتر فايس، وأنطونان أرطو، وغروتوفسكي... وبيراندلو يعني أن هذه الاتجاهات المتضاربة كلها على امتداد نصف قرن في العالم، اختزلت في عقد أو عقدين عندنا.

    ثانياً ـ إن هذا الطغيان الغربي على مسرحنا، أدى إلى ردود فعل أرادت التمرد على تلك النماذج، وطرح إشكاليات "الهوية"... الخاصة، سواء كانت شعبية، محلية، دينية، تراثية، أدبية، تاريخية. وهذا ما يفسّر آراء توفيق الحكيم ويوسف ادريس، وبعدهما أصحاب اتجاه الاحتفالية (برشيد، الصديقي، الزروالي)... والتي تدعو إلى تأسيس مسرح عربي، بأدوات عربية، وبأفكار عربية... وبرؤيا عربية، كنقيض لهوية الآخر، أي الغرب.
    على أن هذه "الاحتفالية" أو هذه الدعوة إلى تأصيل المسرح العربي، تمت عموماً ضمن البنية المسرحية الغربية، وحتى ضمن المرجعيات "المفهومية" والنقدية الغربية. والأخطر أنها وقعت في نوع من الايدولوجيا المطلقة في رؤيتها إلى المسرح الغربي، وفي دعوتها إلى مسرح عربي، قادتها إلى البحث عما ينسجم مع هذه المفاهيم، في التراث، لتكتشف جذوراً وهمية للمسرح ـ العربي في خيال الظل (وهو ليس عربياً) وفي الطقوس والعادات والتقاليد والمناسبات الدينية. (وهي معطيات يمكن أن نجدها عند كل الشعوب). بل لتقع في نوع من "الأصولية" المسرحية، التي تهدد في بعض نواحيها، بالانغلاق والانطواء وبالسقوط في نرجسيات ذاتية مرضية.

    ثالثاً ـ صحيح أن المسرح العربي الحداثي تأثر بكل ما في الغرب... حتى التقليد في بعض الأحيان. بل حتى اكتشاف أن وراء كل مسرحي عربي مسرحياً أجنبياً، ولكن الصحيح أيضاً، أن المرحلة الممتدة من منتصف الخمسينات ومن منتصف الثمانينات، هي المرحلة الذهبية الكبيرة التي ثوّرت فيها الخشبة تثويراً لم نعهده من قبل، على صعيد الكتابة المسرحية، وعلى صعيد الإخراج، وعلى صعيد المدارس والرؤى الدرامية. إنها الصدمة الايجابية للحداثة المسرحية، قدمت كباراً في الإخراج وفي الكتابة والسينوغرافيا والكوريغرافيا، وفرقاً جماعية أسست لاتجاهات تجريبية جديدة. ونظن أن الفضاء الذي يلف مجمل الحالات المسرحية، يمكن تلخيصه بظهور "التجريبية" و"الاختيارية" والورش المسرحية عندنا. وهذه التجريبية التي جعلت اللغة المسرحية إشكالية وقضية، ومجالات التجديد والتجاوز من المقاييس الأساسية للحرفة المسرحية. إذ لم يعد مهماً إنجاز عمل بمواصفات التوصيل التقليدية المبسطة، بل بات مهماً كيف علينا أن نجدد بنية المسرح الجديدة، ونثور العلاقة بين الخشبة والجمهور، وبين الخشبة وعناصرها، وبين المخرج والخشبة والتقنيات والممثل. ودخول "الكيف" يعني دخول اللغة المسرحية بعناصرها كافة، في هاجس التغيير والتجريب، باعتبار أن الفن ليس منجزاً كاملاً، وإنما معطى خاضع باستمرار لاختبار مواده، وكيميائية عناصره. وبات السؤال: أين يقف المخرج أهم من السؤال ماذا يفعل المخرج. هذا الأخير الذي كان لا بد من أن يؤسس لورشة دائمة في مختبراته وتقنياته، سواء كان يحمل رسالة سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، أم كان يتقدّم إلى إنجاز فني متجرّد من الرسائل والخطب. إنها الحداثة في أصفى صورها تحرّكها الأفكار والبنى والنظريات لكن أيضاً تحرّكها رغبة في اجتراح ما هو جديد. ومتجاوز. ومبتكر. ومتحرّك. أي جعل كل شيء قضية على المسرح. أو الأحرى جعل المسرح مكاناً لتفجير القضايا الفنية، والأيديولوجية، والاجتماعية، والتراثية، كأنه صار مساحة حية، أو من المساحات الحية الأخيرة للصدام وللحوار، للتغيير وللاحتجاج، للاختبار والاعتراض على الاختبار، هذه المساحة الحية بدت وكأنها مساحة للحرية. الحرية المفقودة في هذا العالم العربي الشاسع بقمعه، الرحب باستبداده. وقد استدعت هذه الساحة ممتزجات عديدة من الأفكار الأيديولوجية والسياسية والقضايا: من الماركسية، إلى الشيوعية، إلى القومية، إلى الليبرالية إلى اليمينية والعبثية واللامعقول والالتزام... كل ذلك مرفود بالمذاهب والاتجاهات المسرحية العالمية: البرشتية، الغروتوفسكية، الأرطوية، التسجيلية، الواقعية، الرمزية... حتى بدت الخشبة المسرحية العربية، في حدود زمنية لا تتعدى الربع قرن، مكاناً لتصادم هذه الحداثات المسرحية، ولحوارها، ولاختبارها، وجنونها وفنونها، برغم النكسات الكبرى التي "حققها" النظام العربي في هزائمه المبيَّنة بإذنه تعالى.

    رابعاً ـ إن هذه الفورة المسرحية الكبيرة، أكدت أن الحداثة المسرحية العربية، كفرع من فروع النهضة والتنوير، هي جزء أساسي من الحداثة الثقافية العربية. بل جزء تمكن من مضاهاة وموازاة إنجازات الشعر والرواية والنقد والسينما والفكر. بل كأن ما تم من إنجازات على الخشبة المسرحية من المغرب الكبير إلى المشرق، كان أخطر مما كانت عليه بعض الفنون الأخرى، لأنه فن المواجهة المباشرة، الحيّة، اليومية بينه وبين الجمهور، بدون وسيط.

    إذا كانت الحداثة تحمل بذور نقيضها وضدها، وما قبل الحداثة، تحمل بذور الحداثة، وحتى الانحطاط يحمل بذور النهضة، فإن المسرح العربي، في صعوده القصير، كان يتضمن ما يمكن تسميته "اللاحداثة"، أو "الحداثة المضادة". فحتى في عز التجريبيات الصعبة كان بدأ يتسرب إلى المسرح "النهضوي" الجدي ملامح طاغية من الفنون والأنواع الأخرى، بطريقة تصيب الجوهر الدرامي. بعضهم يُسمي ذلك "ما بعد الحداثة"، ونحن نسميها "الحداثة المضادة"، لاعتبارنا أن ما بعد الحداثة مهما تشعبت، وانعطفت، وانقلبت هي فرع من فروع الحداثة، بل ورافقتها منذ نشوئها "الرسمي" أو "الاصطلاحي".

    من هذه الملامح:

    1 ـ اختراق اللغة التلفزيونية (حواراً وديكوراً وإخراجاً وأداء) العديد من الأعمال، مما جعل الالتباس كبيراً بين اللغتين، والتداخل علنياً.

    2 ـ هجرة بعض أهل المسرح إلى التلفزيوني مما أفقده كثيراً من قوته.
    3 ـ وقوع المسرح أحياناً كثيرة في البعد الواحد للصورة التلفزيونية. أي طمس الدلالات المتعددة المفترضة في الصورة المسرحية. (وهذا يفضي إلى ما يدعو إليه "ما بعد الحداثيين".

    4 ـ اختزال مفهوم المتفرّج أحياناً كثيرة إلى علاقة تبسيطية قائمة على اعتباره متفرّجاً موقتاً للمسرح، أو متفرّجاً استهلاكياً، وعلينا تقديم وجبات سريعة له كزبون ثابت، أو كزبون ثابت في أعمال غير ثابتة.

    5 ـ استخدام الشاشة التلفزيونية في بعض الأعمال الجدية استخداماً غير مبرر. أو بالأحرى لا يخدم لا فكرة العمل ولا متنه. وفي هذا تسريب ما لطغيان هذا الفن على اللغة الدرامية.

    ومن هذه الملامح:

    1 ـ استعمال السينوغرافيا كأدوات وتجهيزات وملابس ومؤثرات وإضاءة وماكياج، استعمالاً شكلانياً مضخماً ليفترس العمق الدرامي بما في ذلك دور المخرج والممثل والنص. مما يعني أن هذه الشكلانية تسطح العمل، وتوقعه في الأفقية، والتخبط، والإغراءات البصرية والسمعية الهشة. أي تصيب جوهر التجربة والمحاولات التجريبية عليها. ولعل هذا ينقل المسرح من زمن حداثي مكثف، مبطن، كاسح، إلى زمن استهلاكي، (افتراضي) (يسمونه ما بعد الحداثة).

    2 ـ تسييس العناصر الدرامية (الممثل، المخرج) عبر غلبة الشكلانية السينوغرافية (المجانية)، يعني انتفاء حيويته الانسانية، بحيث يُلغى الممثل كبؤرة أولى للدراما، والمخرج كمنظم وراسم للرؤية، وللنص كحقل دلالي خصب لاستنباط وسائل الإخراج والتقنيات.

    3 ـ هذا التشييء لم يسقط المسرح في اللامسرح، وإنما عزز المنحى الشكلاني الذي يذيب المسرح في أنواع أخرى؛ أي يطمس خصوصيته، وبنيته، وآلياته وحالاته المميزة. مما يجعله فناً مائعاً لا هوية له، ولا دور، ولا فكرة، ولا بنية. ولا سيرورة. فنا يشبه التلفزيون. وفناً يشبه عرض الأزياء. وفناً يشبه مكاناً للإضاءة أو للإنارة. بمعنى آخر، انفصاله عن حيوياته ومكوّناته.

    4 ـ هذا الكلام على السينوغرافيا يستدعي الكلام على الكوريغرافيا، (المسرح الراقص أو مسرح الإيقاع أو الحركة، أو استخدام الرقص) التي بدت في العقدين الأخيرين وكأنها حلت محل المسرح. فكأن مصمم الرقص أخذ مكان المخرج والممثل والنص. أي تماماً ما حدث مع السينوغرافيا. ولعل الانخراط في هذه الموجة "الراقصة" غالباً ما أفرغت العمل من قوته، ومن زخمه، ومن قراره أو مقاصده المنشودة، بحيث وقع العمل في الاستعراض بعيداً عن العرض. وبحيث تحوّل الجسد أداة تزويقية ترفيهية، برانية، بعد أن كان بؤرة الدراما (أرطو، غروتوفسكي).

    إن هذه الانتقالات في المسرح بدأت تتسرّب وتتأكد وتجتاح لأنها، عن وعي أو لاوعي، ارتبطت بالتحوّلات التي أصابت الفكر الحداثي (التنويري) في صميمه.
    فنحن نعرف أنه من منتصف السبعينات بدأت تتراجع الأفكار الكلية والشمولية والأيديولوجية، بل وبدأت تتراجع اقتراحات النهضة والتنوير، سبقها استنفاد لكل المدارس المسرحية والفلسفية من ملحمية (بيسكاتور وبرشت)، وتسجيلية (بيترقايس)، وعبثية (بيكيت، يونسكو)، وقبلها الواقعية الاشتراكية (الستالينية، الشيوعية)، ومن ثم مسرح القسوة (أرطو)، والمسرح الفقير (غروتوفسكي). هذه المدارس (عمقها أيديولوجي) تلازم أفولها، إلى حد كبير مع أفول الزمن الأيديولوجي وزمن الأفكار والحقائق والقضايا الكبرى، من دون أن ننسى تراجع الفكر القومي والاشتراكي والعروبي أي فكر التنوير. فكأنه لم يعد من مكان للأفكار. بل كما هو نقيضها، وقد برزت، بعد ذلك، طفرات ما زالت تطفر، من الغرائز الطائفية والظواهر المذهبية، والدينية والاثنية في ما يسمى صراع الحضارات.

    مرحلة كاملة تراجعت، ليحل مكانها فراغ وأنواع من الارتداد إلى قيم ما قبل الحداثة، وقيم الاستهلاك، والهشاشة، والتقلبات والتبدلات السريعة. (وهي كلها من مفردات ما بعد الحداثة، وإن كانت موجودة في تضاعيف الحداثة). زمن اللاأفكار. واللامشاريع. واللاتجريب. واللادلالات. واللااستبطانات. ولا القرارات المتعددة. زمن القراءة الواحدة المرتجلة. زمن الإغراء اللحظوي. زمن العابر، كل هذا أثر في عمق الحداثة المسرحية، وأضعف هاجس المغامرة، والمجازفة، والخصوصية، والتميّز. فإذا كان كل شيء يتم سريعاً، فليسرع المسرح معه. وفي سرعته هذه بدا، على الأقل في المرحلة الراهنة، وكأنه يصطدم بنفسه، يرتطم بدوره وتاريخه. وينقلب على تراكماته التي امتدت عندنا قرناً ونصف القرن.

    فهل هذا ما نسميه مسرح ما بعد الحداثة، بهذه المواصفات "الفرجوية" العابرة كالنيزك، المتقلبة كالموضة، المفرغة كالاعلانات، المغرية كعارضات الأزياء...

    شخصياً لا أطلق عليه تسمية ما بعد الحداثة لاقتناعي بأن الحداثة لا تنتهي، وبأن ما نراه في المسرح والفنون الأخرى، هو الجزء الآخر من الحداثة. فلنقل أنها حداثة ما بعد الحداثة أو الحداثة ذات السمة الاستهلاكية، وهي حداثة بدأت مع أول عمل مسرحي مع مارون النقاش ورافقت كل المراحل المسرحية.

    في ذلك الوقت كنّا نسميها الحداثة. أما اليوم فنسميها "ما بعد الحداثة".

    (*) تقدم هذه الورقة في الندوة الفكرية التي تعقد على هامش مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة تحت عنوان "المسرح في زمن الحداثة وما بعدها".

    المستقبل - الأربعاء 22 أيلول 2004







                  

10-15-2004, 08:39 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة المنقوصة لهشام جعيط (Re: osama elkhawad)


    الحداثة المنقوصة.. ما توصيفها؟ - التقنية لا تجبر علي الحروب والنمو الاقتصادي لا يجبر علي انتهاك حرمة الارض - هشام جعيط
    ما الحداثة؟ انها بنية جديدة دخلت فيها المجتمعات الانسانية منذ خمسة قرون او اربعة في رقعة معينة واخذت منذ قرن ونصف في الانبساط علي كل المعمورة. وهذه النقلة النوعية التي هي من عمل التاريخ، شهدت بالطبع الهزات والنكسات وصعوبات كثيرة سواء في موطنها الاصلي أم خارجه لان التراكيب القديمة كانت تدافع عن وجودها وبقائها. فلم تأت الحداثة بمفعول قرار إلهي او قضائي، بل دخلت في زمنية متراكبة متراكمة. من وجهة اخري لا يوجد بالنسبة للمجتمعات ولبنتها الاساسية، ــ الانسان ــ خيرٌ مطلق او شر مطلق كمصير عام، انماهي طوباويات أجلتها مثلا الاديان الكبري الي حياة اخري. والخير والشر يتغير محتواهما حسب سلم القيم المتعارف عليها.
    واذا كان للحداثة معني فلأنها مشدودة الي قيم نعتبرها وجهية وافضل مما كان عليه الامر في الماضي، لكن هناك بونا شاسعا بين تطلعات الحداثة وبين الواقع المعيش، كما كان يوجد بون شاسع بين ما تنشده الانسانية الدينية والواقع المجتمعي، واكثر من ذلك بين ما يصبو اليه الانسان الفرد وبين الوجود جملة وليس فقط للمجتمع. واذا كان صحيحا ان ما يجري ويسري تحت الحداثة هي قيم مهمة وفي بعض الاحيان ضمنية وان الحداثة لا تقاس بإنجازاتها المادية او المعنوية، فالتساؤل حول انسيابها في العالم يبقي إشكالا ميتافيزيقيا مادامت الانسانية منذ وجودها تقلد بعضها بعضاً في ما هو اساسي وتجري في اخر المطاف وراء شكل ما من التوحد او هي تسير في التاريخ علي وتيرة واحدة مع فروق في الزمان والمكان هي المحرك كالاساسي للفعالية التاريخية. ان يكون مجتمع اضعف من آخر او متأخرا عنه في التطور قد يأتي بالغزو والتسلط او التقليد او التمنع، اي بالديناميت التي تهز الشعوب.

    لكن ما الحداثة كرة اخري؟ او ماهي اسسها؟ من الواضح ان تخير عنصر رئيس عن غيره مرتبط بواقع الزمان وبالتالي بتطورات الحداثة الفعلية. وهل الحداثة كل وبنيان مرصوص ام هي شذرات وبؤر؟: علم، اقتصاد رأسمالي، صناعة، تنظيم سياسي فيما ان الواقع الانساني في الحقيقة بحر لا ساحل له يضم ألف عنصر من العناصر وفيما ان الزمان متراكب.
    لكن لابد من تحليل مكونات الحداثة وهنا تختلف اوجه النظر. اعتبر شخصيا ان ما اسس الحداثة في الاول هو العلم الطبيعي الذي هو امر جديد وذو اهمية قصوي.
    هو جديد في هويته وفي جمعه بين الملاحظة والتجربة والتعبير الرياضي بدءا من غليليو ثم نيوتن . فالعلم استبعد التخمينيات الفلسفية علي انه اقتبس مفاهيم كثيرة من اليونان، ــ افلاطون وارسطو ــ واخذ فكرة معرفة الطبيعة عن فيزيائيين ما قبل سقراط في ايونيا وصقلية، لكنه جدد المنهج تماما. وبالتالي اتجه بالمعرفة البطيئة والمجزأة للظواهر الي فهم الواقع فهما دقيقا مبرهنا عليه. فالعلم جد وليس بالهزل، وهو الطريقة المثلي التي اوصلت الانسانية الي معرفة كل شيء في العالم تقريبا بعد قرون من المجهودات التي لا تني. يتساءل افلاطون في (التيماوس) عن ماهية العالم وكيف خلق وما الفرق بين الكينونة والصيرورة واين موقع الشمس والقمر والكواكب وما هي العناصر الاساسية المركبة للعالم من نار وماء وهواء وارض؟ وطرح الامور يقع هنا بصفة عقلانية ولعل ارسطو أخذ عنه كثيراً، ولعل العلم الحديث اقتبس بعض المفاهيم من فضاء وزمان وحركة وغير ذلك. والاديان الكبري طرحت من قبل ومن بعد هذه المشاكل التي تسائل كل انسان فيجيب بالخلق الالهي وبالقدرة الالهية في الاديان التوحيدية. ومن قبل كل ذلك اجابت الميتولوجيات بطريقتها الخاصة التي حصل تجاوزها بالفلسفة اليونانية.

    ويأتي العلم ليفسر كل شيء تدريجيا عبر اربعة قرون، سواء عن الكوسموس وعن بنية المادة وهو صحيح لان تطبيقاته والتقنية قبل كل سحاب ابرزت ذلك. ولئن كانت التقنية في القرن الثامن عشر متقدمة نسبيا لكن غير مقامة علي العلم، ففيما بعد صارت بنت العلم وتابعة لاكتشافاته. وبكلمة معارفنا العلمية تظهر انسانية ما قبل الحداثة بمظهر الصبيان الذين لم يفقهوا شيئا من هذا العالم الذي هم فيه، ولا حتي عن جسمهم الذي يلبسونه. حقا لقد وصلت الانسانية في هذا المجال الي درجة كبري من النضج حتي ان العلم بات أمرا روتينيا لا نعبأ به كثيرا الآن لان تعودنا عليه وقد صار أمراً حاصلاً. لكنه في الحقيقة معجزة وانجاز عظيم، ولو استفاق اجدادنا، لا نبهروا وبهتوا برغم بأنهم كانوا أهل مقدرة وشجاعة وفكر وعمل جاد في اطارهم الخاص. العلم اسس الحداثة واضحي اليوم امرا مشاعا واختصاصا في الواقع المجتمعي وغاب العلماء كأبطال للانسانية.

    أهم الانجازات
    وهناك من يعتبر ان الاقتصاد ونموه هو اهم انجازات العصور الحديثة: الرأسمالية والثورة الزراعية، فالثورة الصناعية. وصحيح ان المجتمعات الاوروبية شهدت نموا واسعا من منتصف القرن التاسع عشر حيث تكونت المصانع الكبري وازدهرت المدن وكثر السكان وانتظم العمل فسيطرت اوروبا علي العالم كله بل اعتبرت نفسها هي سرة العالم وقلب الحضارة، لكن العدالة الاجتماعية لم تكن عندئذ همها الاكبر.
    وسواء بسبب تقدم العلم ومن ورائه التقنية أم بسبب نمو النتاج الاقتصادي، فإن الثمن المدفوع كان باهظا، فالحروب التي اندلعت في النصف الاول من القرن العشرين كانت ضاربة الي درجة كبيرة باختراع الاسلحة الفتاكة التي لم يسبق لها مثيل، وهذا في الحربين الاولي والثانية وتدمير الصناعة الصغيرة واستعباد الشغالين والطبقية المستفحلة صاحب النمو الاقتصادي كما ان الاخطار المسلطة علي البيئة وعلي مستقبل الكوكب بدت الآن كبيرة.

    الحروب
    التقنية في حد ذاتها لا تجبر علي الحروب والنمو الاقتصادي لا يجبر علي انتهاك حرمة الارض في حد ذاته، الحروب مرتبطة بالدول اي بتنظيم بشري، والاقتصاد بالدول والمؤسسات الخاصة معا اي ايضا تنظيمات بشرية . فلو نظرنا الي الحرب العالمية الاولي لرأينا ان الانسانية الاوروبية كان يقودها اناس ليسوا في مستوي الاندفاعة التقنية والاقتصادية، بل لعهلهم لم يكونوا واعين كفاية بما قد يحدثه التقدم من دمار.

    هم استعملوا التقنية الحربية لاغراض عتيقة بالية من مثل الكبرياء القومية وتزاحم الدول علي التسلط دون اي احساس بقيمة الحياة الانسانية بالنسبة اليهم والي الآخر ودون أي وعي بأنهم انما يدمرون حضارة لامعة عندئذ وذات تاريخ مشترك، ما الذي كان يقودهم؟ تقاليد عتيقة ووجود تركيبة هي الدولة ــ الامة تطاع حتي الي درجة الانتحار. فالحداثة مكنت الدولة من تعبئة هائلة للإمكانات ، كل الامكانات في فضاء معين. ولئن أتت الحرب الاولي ببعض النتائج الايجابية في اوروبا من مثل انهيار الامبراطوريات العتيقة وتحرير القوميات المكبوتة فقد تسببت في الحرب التي تلتها بل الثانية خرجت من الاولي. والثانية كانت مؤلمة ومدمرة الي درجة قصوي لم يشهدها التاريخ. وفيما بين هذه وتلك شهدت اوروبا عصر الدكتاتوريات في المانيا وروسيا وايطاليا، وتمادت التوتاليتارية السوفييتية الي فترة قريبة منا. حربان، نظامان قاسيان، وما يكلل ذلك اختراع القنبلة الذرية وضرب اليابان بها.

    ماذا يعني هذا؟ يعني ان العنصر السياسي في القرن العشرين وعند استفحال قدرات الحداثة، كان عنصرا باليا عتيقا فاسدا ليس في مستوي انجازات هذه الحداثة من علم وفلسفة وفن واقتصاد ونمو ديمغرافي وتطور في الطب. لا أقول فقط بضرورة ان علي الدولة ان تسير حسب الاخلاق والقيم الانسانية بل اتمني ان تضمحل يوما ما هذه التركيبة تماما، وان يقال لنا اليوم ان الدولة العظمي تتحكم فيها اللا عقلانية كما كان شأن روما، فهذا غير مقبول ابدا وهو نفي كامل للقيم الانسانية ولقيم الحداثة ذاتها.

    جريدة (الزمان) العدد 1407 التاريخ 2003 - 1 - 17
                  

10-15-2004, 08:42 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة والأزمنة العربية الحديثة (Re: osama elkhawad)

    ياسر اسكيف
    الحوار المتمدن - العدد: 929 - 2004 / 8 / 18

    لا خلاف على أن الحداثة مصطلح أوربي الولادة والنشأة . وهو شأن المصطلحات الأخرى الناتجة عن وضعية ( اجتماعية – ثقافية – تاريخية ) متحركة , يبقى محتفظا على الدوام بخصوصيّة المنشأ وسمتي التحوّل والتناقض , بحيث يغدو تكرار الوضعيّة التي أنتجته أمرا مستحيلا , فكيف بانتقال الوضعية ذاتها!
    لقد استخدم مصطلح الحداثة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتجسيد حقيقي للفصام , حيث عاش , وما زال , بشخصيتيه الأدبية والاجتماعية دون ارتباطهما للحظة واحدة
    فالحداثة كوجه أدبي أنجزت نصّها , غير أنّها أنجزته بمفردات سياق معرفي واجتماعي آخر هو السياق الأوربي , في الوقت الذي يحيا فيه الاجتماعي ما قبل تاريخيته أو ما قبل مدنيته . ولقد حاول أدونيس معالجة الفصام السابق بفرضية تقول بالتطور اللامتكافيء أو اللامتوازن ومفادها أنّه يمكن للأدبي أن يكون في قمة تقدمه وتطوّره ضمن مجتمع غارق في تخلّفه وجهله , وهذه الفرضيّة التلفيقية لا يستقيم لها عكس لأنها لا تتمتع برصانة الفرضيات وتماسك النظريات , وهي إضافة إلى ذلك محاولة يائسة لاكتساب شرعيّة من مشرّع لا تعترف هي ذاتها ( أي الفرضيّة ) بأهليّته للتشريع . كما أنّ حكم القيمة على هذا الأدبي المتطوّر والمتقدم الذي تعنيه تلك الفرضيّة يأتي هو الآخر من المنتج النقدي لوضعية اجتماعيّة ثقافية أخرى ويتحدّد بالترجمة والاحتفاء .
    ومن المهم القول , أن الحداثة الأوربية قد عانت الكثير وخاضت جدلاً مريراً وصراعا داميا لإستيلاد ضماناتها الخاصة من ذاتها , ولقد أدرك الفكر الأوربي نقاط الضعف في حداثته فدأب , منذ( هيجل) مرورا ب (ماركس) و (نيتشه) و(هيدغر) وصولا إلى (هوركيمر) و( أد ورنو) حتى( فوكو) و(دريدا) , إلى إيجاد نوع من المصالحة بين العقلانيّة المتمركزة على الذات والدين الذي يمثّل كليّة شمولية .
    إن الأمر السابق يظهر مدى الوعي الذي امتلكه الفلاسفة والمفكرين الأوربيين بالإنزياح الذي حصل لضرورة الحداثة( العقلانيّة) وتحوّل هذه الضرورة إلى غائيّة وأداتيّة . فالعقل الغائي أو الأداتي كان على الدوام الهاجس الذي وَجَدت فيه فلسفة الحداثة الأوربيّة عنصر دمار هذه الحداثة . وأظنّه عنصر دمار أيّة حداثة أو حتى طليعية أينما وجدت .
    إن التركيز على الفكرة السابقة يستمد أهميّته من مدى الدمار والإرتكاس الذي أحدثه العقل الغائي في الإرهاصات الطليعيّة ( وليس الحداثية ) التي عاشها المجتمع العربي بين أربعينيات وستينيات القرن الماضي , تلك الإرهاصات التي شكّلت, وبجدارة ,محاولة إحياء للهاجس النهضوي العربي . وهنا برزت الحداثة الأدبية كعزاء وبديل لتلك الإرهاصات , الأمر الذي جعلها تلعب , وبالطريقة التي مورست بها , دورا مضلّلا وانتقاميّا جعلها أسيرة الخصومة وقالباً للبديل . كما أنّها صاغت جوهرها , وعلى الدوام ,كسلّم قيَم مقلوب , شأنها شأن المعارضات السياسية المزامنة , وبالتالي أضحت( الأزمنة الحديثة) للحداثة الأدبية العربية محض تصوّر غيبي وافتراض لا يستند إلا على الحلم والتخيّل , وكانت صورة الأزمنة الغربيّة الحديثة هي الأيقونة والمثال المأمول , وتحوّلت الحداثة الأدبية العربية إلى طليعيّة مقاتلة من أجل تحقّق ذلك المثال مضحيّة من أجل ذلك ببدئها الفني والجمالي .
    لقد تكرّس العقل الغائي الأداتي في الثقافة الحداثوية العربية عبر التفكير بإمكانيّة إعادة إنتاج( الأزمنة الحديثة )الأوربيّة , هذا التفكير الذي يمثّل نوعا من العماء التاريخي , والسحر الأيديولوجي , وذلك للسببين التاليين :
    1- إن المخطط التطوري للحداثة الأوربيّة , الذي إعتمد القفز فوق المرحلة المسيحيّة أو العالم المسيحي الأوربي , بتبني العقل كمصدر أول للقرار والفعل وإنشاء عقلانيّة تتبنى العود الفلسفي إلى النابع اليونانيّة الأولى , لا يمكنه أن يحدث في مناطق أخرى لا تمتلك ذات المنبع .
    2- كما أنّ تلك الأزمنة , حتى لو أعيد إنتاجها , فسيتمّ ذلك بكل تأكيد في إطار ( الأزمنة ما بعد الحديثة ) الغربيّة . وهذا ما يجعل من الأمر استحالة , لأن أدوات هذه الأزمنة هي التي ستقوم بإعادة الإنتاج في أيّة بقعة جغرافية أو شرط إجتماعي في هذا الكون وهي النقطة التي لم تأخذها بعين الاعتبار أيّ من الحركات الاجتماعية أو الأدبية في العالم اللاغربي .
    إن ( الأزمنة الحديثة ) المقلوبة , التي تخيّل الجميع إمكانية إحداثها , أي تأسيس بنيّة فوقيّة ( حديثة ) وتغيير الزمن الاجتماعي على هديها , تبيّنَ أنها أكذوبة فاقعة . ومثلها دمج أو حرق المراحل الذي لم يكن سوى شكل من الاحتيال على ( الإشباع الزمني ) وأظهر أنه إلغاء أو تحييد للفاعل الاجتماعي في الوقت الذي كان الحديث يدور فيه عن هذا الدمج أو الحرق كمسرّع للعمليات التاريخية . ومن ناحيتي أرى أن الوهم يقبع هنا , ذلك أنّ الفاعل الاجتماعي لم يوجد إلا في النص , كمصطلح أو رمز , إنّه وجود بالنيابة , في النص السياسي أو الأدبي , ذلك أنّ كلا النّصين أو الخطابين انتميا إلى الفاعل الاجتماعي كمبرر وجود وشرعيّة ممارسة , غير أنّ أياً منهما لم يقبله كوجود حقيقي .
    وفي العودة إلى خصوصيّة المنشأ بالنسبة لمفهوم أو مصطلح , عودة إلى تتبع المراحل والعمليات التاريخية التي راكمت تغيّرا نوعيّا فرض بدوره تعبيره النوعي والخاص حينما اكتشف ذاته كإضافة وتميّز . واكتشاف النوعي لذاته يأتي , على الأغلب , في اللحظة التاريخيّة التي تصبح فيها هذه الذات مهدّدة بالإقصاء أو الإلغاء , أي حينما يبدأ النوعي والخاص بالتحوّل إلى أداة أو مجموعة أدوات تلغي السبب أو الدافع , وتحرف الصيرورة إلى ناتج ضدّي .
    بهذه الطريقة تعرّفت الحداثة الأوربيّة , عبر أقوالها الأدبية والفلسفية وحتى الاقتصادية – السياسية – الاجتماعية . واللافت أن الحداثة الأوربية تعرّفت إلى نفسها كحداثة في الوقت الذي كانت تطأ فيه عتبات ما بعد الحداثة . فالحديث لا يتعرّف ذاتيا على صفته إلا مقارنة بقديم أو تقليدي . وبالتالي فالبعد التعريفي له هو بعد تراكمي بالدرجة الأولى , أي تاريخي . وتلك المقارنة لا تأتي كمصادرة يكتنفها درس تعليمي في العصور التاريخية وخصائصها بل تأتي من ( الشعور التاريخاني بأننا نعيش في أزمنة جديدة بالكامل , بأن التاريخ المعاصر هو مصدر أهميتنا , بأننا مشتقون ليس من الماضي بل من المحيط أو السيناريو الذي يحيط بنا ويكتنفنا ) كما يرى ( مالكوم براديري )
    و( جيمس مكفارلين ) في كتابهما ( حركة الحداثة ) وهنا يتخلّص قول( رامبو)
    عن ضرورة ( أن نكون محدثين قطعاً ) من شوائبه الوعظية والتحريضية بالمعنى الرؤيوي النبوي ليتحول إلى دعوة للتشبّع في الكون ( حاضرين ) مقارنة مع ( مضينا ) والتأكيد على أننا نعيش عصرا جديدا في الحياة وليس في النص . كما أن هذه الدعوة جاءت في سياقها الزمني , لذا فهي تختلف عنها جذريا في مواقع أخرى يمكن أن توصف أزمنتها بالتقليدية أو القديمة. والوصف السابق لا يأتي من المقارنة بأزمنة الغير , بل من السكونية وإعادة إنتاج الذات بعيدا عن أي انعطافات أو إنكسارات في الخط البياني للسيرورة التاريخية .
    أخيرا هل من علاقة حقيقيّة بيننا , نحن العرب , وبين الحداثة والأزمنة الحديثة . أم أنها حكاية وهم نجترّه مع أوهام أخرى كثيرة , وثمن باهظ دأبنا على دفعه حتى أدمنّاه ؟!!!!!!!!
                  

10-15-2004, 08:46 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الخلط بين الحداثة و التجدد (Re: osama elkhawad)

    في المقال التالي يخلط الكاتب الاردني غرايبة بين الحداثة والتجدد
    الغربية .. مطلب أم تحد؟
    * بقلم/ إبراهيم غرايبة

    لم تكن الحداثة أو التحديث بمفهومه الفلسفي وتطبيقه العملي والحضاري أمرا جديدا طارئا على الحضارة العربية الإسلامية بعد الاتصال بالغرب، فالإسلام بحد ذاته مشروع حداثي غير القيم والمفاهيم والثقافة السائدة، وحرك أتباعه نحو التحرير والنهضة والتغيير ورفض التقليد والاتباع غير الواعي للموروث والتقاليد.

    وشهد الفكر والعمل الإسلامي حالات من الحداثة والتجديد المهمة والمتتابعة بلا توقف، وأهمها في العصر الحديث حركات وجهود الإصلاح التي بدأت في القرن التاسع عشر الميلادي، وكان لبعضها صلات وتفاعلات مع الحضارة الغربية الزاحفة عسكريا واحتلاليا إلى الشرق.


    عندما أفاقت الولايات المتحدة لتجد نفسها بعد الحرب العالمية الثانية قوة عالمية غير واثقة من دورها القومي والدولي أغرقت نفسها والعالم في صدمات تجريبية

    فالحداثة الغربية بالمفهوم المتداول اليوم والذي ينصرف إليه الذهن عند ذكر هذا المصطلح تعنى حالة ثقافية وفكرية بدأت في أوائل القرن العشرين، ويعتبرها المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي بدأت عام 1875، وقد شهدت الفترة بين عام 1910 وعام 1950 ذروة نشاط الحداثة، لتبدأ بعد ذلك حقبة حداثية أخرى اصطلح على تسميتها "ما بعد الحداثة" وإن كان البعض يعتبر ما بعد الحداثة ظاهرة ثمانينية ارتبطت بالمعلوماتية والاتصال، وما كان قبل ذلك فهو من امتدادات الحداثة المرتبطة بالصناعة.

    وقد شهدت اتجاهات الأدب والنقد والثقافة والفلسفة والاجتماع والفكر في موجة الحداثة وما بعدها تحولات كبيرة تجلت في تطبيقاتها العملية في الأدب والفن الحديث الذي أوقف الاتجاهات الكلاسيكية، وفي الليبرالية السياسية والاقتصادية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

    وعندما أفاقت الولايات المتحدة لتجد نفسها بعد الحرب العالمية الثانية قوة عالمية غير واثقة من دورها القومي والدولي أغرقت نفسها والعالم في صدمات تجريبية، وفي الحرب الباردة، والنزعة الاستهلاكية، والمعاداة الهستيرية للشيوعية، والثورة الإباحية في الحياة والسينما، والحقوق المدنية، وحقوق النساء، وحرية الشذوذ، والأصولية المسيحية.

    وانعكست هذه التفاعلات الغربية المنشأ في الشرق العربي والإسلامي على نحو ظهرت معه الحداثة العربية والإسلامية رد فعل على الحداثة الغربية، فتحولت الحركة الإصلاحية التي بدأت إسلامية موحدة في القرن التاسع عشر إلى اتجاهات ليبرالية وإسلامية، فكان لطفي السيد ورشيد رضا على سبيل المثال من تلاميذ محمد عبده، وظهرت الاتجاهات الحديثة في الشعر والفن والموسيقى والغناء، وتكونت المدن الحديثة العملاقة على حساب الريف المستنزف المهجور الملوث، وتكون اقتصاد خدماتي تضاءلت فيه الزراعة إلى درجة الفناء أو الاقتراب منه.

    واليوم تبدو الخريطة السياسية والفكرية والفلسفية بعد التحول من الصناعة إلى المعلوماتية (ما بعد الصناعة) وانهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة كما لو أن العالم كان قصورا من الرمل يعصف بها المد، كما يصف الحالة الجديدة آلن تورين مؤلف كتاب "نقد الحداثة".

    يقول تورين "لم نعد نؤمن بثقافة حضارة التقنية واستغلال موارد طبيعية لا تنفد، ولم يعد لصورة الإنسانية التي تنهض من البؤس بفضل العمل، وتتقدم في تطور صاعد نحو الوفرة أي تأثير فينا، (...) أخلاقنا لم يعد يمليها احترام الأب والتعارض بين اللذة المدمرة والطموح أو التوفير كمصدر للربح والفرح، ولم يعد الدين العلماني الرأسمالي أو الاشتراكي يبدو إلا كأيدولوجية تستخدمها الطبقة السائدة كي تفرض تراكم رأس المال".

    لقد بدأ تأثير الحداثة الغربية في الشرق العربي والإسلامي عبر مركزين هما: القاهرة بعد الحملة الفرنسية عام 1798 ثم مجيء محمد علي باشا للحكم في مصر عام 1805 وبدء اتصاله الثقافي والتعاوني مع فرنسا، وفي الآستانة عاصمة الدولة العثمانية عندما بدأ السلطان محمود في منتصف القرن التاسع عشر عملية تحديث للدولة العثمانية.


    التحديث الغربي لم يتوقف عند حركة ثقافية وعلمية وسلوكية، واتجاهات جديدة, بل تعدى ذلك إلى إعادة صياغة وتاطير الشرق


    بدأ التحديث الغربي في مصر وتركيا في الجيش والتعليم، وامتد بمقتضى ذلك وبسرعة إلى الفن والموسيقى واللباس، حتى المساجد بدأت تبنى على الطراز المعماري الإيطالي بخاصة والأوروبي بعامة.

    وأظهر اللباس الغربي الذي بدأ ينتشر في أوساط المتعلمين تأثير المفاهيم البصرية الغربية على الشرق، ومدى اهتراء ثقة العرب والمسلمين بأنفسهم وهوياتهم، "فالملابس تعبر عن الهوية والانتماء، فكأن الناس حين يغيرون ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خيارا ثقافيا معينا، وكان قبول اللباس ومقاومته يستندان إلى هذه الدلالة" (برنارد لويس/ أين الخطأ: التأثير الغربي واستجابة المسلمين).

    وشهد الشرق بداية الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية والتركية والفارسية، واختفت اللغات التركية والفارسية من الوسط الثقافي والإداري العربي بعدما كانت سائدة، وتراجعت العربية في إيران وتركيا لتحل محلها اللغة الإنجليزية والفرنسية.

    وبدأت تترجم أعمال في مجالات لم يكن يعرفها أو يهتم بها الشرق العربي والمسلم كالمسرح والروايات والأعمال الأدبية، ثم بدأت محاكاة الحركات والمذاهب والتيارات السياسية الغربية كالقومية والليبرالية، حتى كان القرن العشرون في الشرق قرنا أوروبيا وغربيا، ولكن العالم كله بشرقه وغربه بدأ يشهد مع قدوم السبعينات موجة عودة إلى الدين والأصولية، فظهرت الأصوليات الدينية والقومية والبيئية على نحو يشجع على الاستنتاج أن العلمانية والليبرالية الغربية في الغرب والشرق على السواء تشهد هزيمة وانحسارا، وواجهت الحداثة الجديدة أكبر أزماتها.

    ولكن التحديث الغربي لم يتوقف عند حركة ثقافية وعلمية وسلوكية، واتجاهات جديدة بين الناس وفي الإدارة والتعليم، فيكشف كتاب تيموثي ميتشيل: "استعمار مصر" تحليلات مدهشة عن عمليات إعادة صياغة وتأطير الشرق التي أجراها الاستعمار الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد أعيد بناء المجتمعات والدول على نحو يضمن السيطرة عليها تماما ويضبطها، فكانت أنظمة الجيش والمدارس والإدارة تضبط السكان والناس في عمليات نمطية محددة تصاحب عمليات التحول الرأسمالي والإنتاجي.

    فقد بدأ المصريون منذ عام 1823 يؤخذون بعشرات الآلاف ويحولون من فلاحين إلى جنود يلتزمون بلباس غربي موحد ومحدد، ويتحركون على إيقاع موسيقى غربية موحدة ومحددة، وبنيت معسكرات وثكنات ومساكن للضباط والجنود وعائلاتهم، وألحق بها مدراس شبه عسكرية لأبنائهم، وأقيمت مؤسسات وكليات لتدريب الجنود والضباط وتأهيلهم، وكانت النتائج المتأتية في ثقافة الناس وتقاليدهم وانضباطهم أبعد بكثير من فكرة الدفاع عن الدولة وعن حدودها وأرضها.

    ونظمت القرى في الإنتاج الزراعي وإدارته بنظام من المأمورين والكتبة والعمد والخفراء والمراكز (البندر) والتفتيش والجباية، والإحصاء، وتنظيم إرسال الفتيان للخدمة العسكرية والأولاد للمدارس والتعليم، وأعيد تنظيم وتخطيط المدن والأحياء والقرى تحت إشراف مهندسين فرنسيين، ونقل السكان إلى بيوت جديدة مصممة لأغراض محددة مسبقا في نمط الحياة والإنتاج، وحولت القرى عمليا إلى معسكرات وثكنات تصوغ حياة الناس وتنظمها وفق رؤية ثقافية وتنظيمية واحتلالية غربية.


    التطبيقات الجديدة في التقنية ستنتقل بحياة الناس, إلى آفاق جديدة، وستطرأ عليها تغيرات جوهرية فينقرض جزء منها وتزداد أهمية أجزاء أخرى


    وتبدو الدول العربية والإسلامية اليوم قد امتلكت كل أدوات الغرب التحديثية من جيوش ومدارس وجامعات وأنظمة إدارة وعمارة ولباس، وحتى ثقافة وفن، ولكنها بعد قرنين من التحديث مازالت تبدو وكأنها في التنمية والإصلاح والاستقلال تسير في الاتجاه المعاكس لما يفترض أن تسير فيه، وتزداد الفجوة بينها وبين الغرب بدلا من تجسيرها.

    فالدول العربية والإسلامية وفق معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية البشرية، والإنتاج الاقتصادي والتقني، والإبداع العلمي والفكري، والمشاركة الحضارية والثقافية في ذيل قائمة دول العالم ولا تفضل سوى بعض دول أفريقيا، وتفوقت عليها دول ناشئة خرجت حديثا من الاحتلال والهزائم مثل اليابان والصين وكوريا وشرق آسيا والكاريبي.

    والعالم اليوم يخرج من المجتمع الصناعي ليدخل مجتمع المعرفة والمعلوماتية، والشرق مازال يراوح في صدمة لم تعد موجودة.

    لقد كونت هذه التحولات تحديات جديدة يجب الالتفات إليها، وقد لقيت الدراسات التي تبشر بهذا التحول إقبالاً واهتماماً كبيراً وكان أشهرها "الموجة الثالثة" (لألفن توفلر)، إذ بيع من الطبعة الأولى من الكتاب عشرة ملايين نسخة، ويعتقد (توفلر) أن البشرية تدخل المرحلة الثالثة أو الموجة الثالثة في مسارها بعد موجتي الزراعة والصناعة وهي مرحلة تنطوي على أنماط جديدة من الحياة والمجتمعات تختلف جذرياً عما سبقها.

    وأصدر عالم الاجتماع الياباني "يونيجي موسودا" كتاباً بعنوان: "مجتمع المعلومات القادم" يتنبأ بمجتمع جديد في أشكاله وتنظيماته ومؤسساته وأدوار أفراده وحكامه ونسق القيم والمعايير التي تولد الغايات وتحكم العلاقات بين الأفراد والمجتمع والمؤسسات.

    ومن قادة إسرائيل المهتمين بطبيعة المرحلة الجديدة شمعون بيريزرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق والذي أصدر مجموعة دراسات منها "مرحلة جديدة لا مكان فيها للمتخلفين ولا عذر للجهلة"، و"إسرائيل على عتبة القرن الحادي والعشرين" وقد سئل بيريز إثر إعلان واشنطن "الاتفاق الأردني -الإسرائيلي" هل تخلت إسرائيل عن مشروع إسرائيل الكبرى" فقال إسرائيل الكبرى تقنياً واقتصادياً وليس جغرافيا.

    لقد انتشرت تطبيقات صناعة المعلومات في كل اتجاه ومجال للحياة في المصانع والحقول والمنازل ومكاتب الإدارة وسفن الفضاء وفصول الدراسة وغرف العمليات، وبمستويات من التطبيق تراوح بين المهارات الدنيا وتصل إلى أدقها وأعلاها، كالترجمة ومعالجة المعلومات وتشخيص الأمراض وقراءة الخرائط والتدريب، والتعليم الذاتي، والتسلية.

    إن هذه التطبيقات الجديدة في التقنية ستنتقل بحياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والعلمية إلى آفاق جديدة، وستطرأ عليها تغيرات جوهرية فينقرض جزء منها وتزداد أهمية أجزاء أخرى، وتتغير صيغ الإدارة والعلاقات والقيم والهياكل والبنى التنظيمية والاجتماعية والتشريعات والأنظمة.

    فالعمل تغيرت طبيعته وأهميته، فبعدما كانت الأهمية الأولى للزراعة انتقلت إلى الصناعة، وهي اليوم في المعلوماتية وهو تحول سيؤثر بالطبع على اتجاهات التعليم والتدريب لتلائم تحولات سوق العمل واحتياجاته، فمثلاً لم يعد بإمكان 30% من المديرين في أوروبا وأميركا إحراز ترقيات بسبب عجزهم عن استخدام الكمبيوتر.

    وأتاحت تقنية المعلومات تدفقاً هائلاً في المعلومات "انفجار المعلومات" وإمكانية تحصيلها، حتى أنه ينشر في العام الواحد أكثر من مائة مليون صفحة، وهو تدفق يشكل تراكماً في العلم والمعرفة واستدراكاً ونقضاً، ويغير العلوم والمعارف والمعلومات بسرعة تجعل نصف ما تعلمه المهندس عفى عليه الزمن خلال خمس سنوات، وتجعل التعليم المستمر وإعادة التأهيل جزءاً مستمراً وضرورياً من برامج المؤسسات والأفراد.

    وبانتشار المعلومات وسهولة الحصول عليها بالأقمار الصناعية، وشبكات الاتصال والإنترنت فإنه تصعب وقد تستحيل أعمال الرقابة وضبط تدفق المعلومات وتبادلها، وربما يفسر هذا التحولات نحو الديمقراطية والانفتاح الذي جرى في الاتحاد السوفياتي سابقاً وأوروبا الشرقية.

    لقد أصبحت المعلومات مصدر القوة الأساسية، وستكون معياراً اجتماعياً ووسيلة ارتقاء ومورداً اقتصادياً، وتتأكد قيمة احترام الملكية الفكرية، والحرص على البيانات والأمانة العلمية.
    ــــــــــــــــــ
    كاتب أردني


                  

10-15-2004, 08:53 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رأي اسلامي:الحداثة باعتبارها فتنة وباطلا (Re: osama elkhawad)


    وقفة مع الحداثة العربية
    لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الكتاب المسلمين في مواقع مختلفة من العالم الإسلامي عن "الآخر"، بحيث أصبح من الحق أن نتساءل: لماذا هذا الحرص على الآخر، والآخر ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا؟! ولماذا تثار هذه القضية والآخر يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟!

    فمن قائل يجب أن نقسط مع الآخر، ومن قائل يجب أن نعترف به. ونتساءل: ولم لم يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط الآخر معنا ويعدل معنا، فهو الظالم المعتدي المنكر لحقوقنا؟! ومن قائل يجب أن ننفتح عليه! وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه، فتحت له القلوب والديار! إن الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
    نحن - المسلمين -اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كل ناحية. وإن أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عملياً يعين الأمة على الخروج مما يُكاد لها ويمكر بها، و"الحداثة" لا تقدم لنا النهج والخطة، لا لفظاً ولا معنيً.

    إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنة، وفيه كل ما يعين وينير الدرب والطريق.
    يجب ألاّ يدفعنا الإحباط و "الهوان" إلى أن نتلمس النجاة عند "الآخر"، إن سبيل النجاة بينه الله لنا وفصله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغير ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.
    إن الإسلام، الإسلام وحده، مصطلحاً ومعنى ونهجاً، هو الذي يعلمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلغهم إياها ونتعهدهم عليها، بها نخاصم وبها نرضى وبها نتعاون.

    مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإن لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي سيحاسَب عليها بين يدي الله.
    ولقد كثر الحديث عن "الحداثة" في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين من يحاول استحداث حداثة راشدة لتقاوم "الحداثة الهجينة" الزاحفة.
    خلال ذلك كله، والمسلمون في جدل وحوار، استطاعت "الحداثة الهجينة" اقتحام أسوار الأمة والنفاذ إلى مواقع شتى والتسلل إلى قلوب كثير من الناس في أقطار شتى من العالم الإسلامي، وتثبيت أقدامها في المواقع: في الإعلام والأدب والفكر. وهذا هو العالم الإسلامي أمامكم!
    ولم تكن "الحداثة" وحدها تصارع، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها، والجيوش الزاحفة كذلك، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة.

    ولقد نهجت هذه القوى "الحداثية العلمانية" خطة مكر أصابت نجاحاً، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم، وكثرة تنازلاتهم، وميلهم إلى المهادنة، أو الاستسلام. فسارت على خطة شيطانية حذرنا القرآن الكريم منها بقوله سبحانه وتعالى:
    (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم) (النور: 21).
    سياسة الخطوة خطوة! سياسة ماكرة كان قد صرح بها كسينجر وزير الخارجية الأمريكي حتى أصبحت خصيصة من خصائص سياسته. وهي سياسة يعتمدها المعتدي في فرض أفكاره وآرائه، وسياسة يعتمدها المعتدى عليه في تنازله. فالمعتدي الغازي يطرح بعض أفكاره ومصطلحاته، فتُرفض أولاً بضجيج عال وغضبة هائلة. ثم يصر المعتدي ويضاعف جهده ولا يتراجع، حتى يرى بعض الرافضين بدؤوا يستحسنون بعض فكره ومصطلحه، ثم ينتقلون إلى التأييد والبحث عن المسوّغات، فيطرح المعتدي فكره بصورة أوسع مع ما يملكه من زخارف وزينة، أو تهديد وتحذير... حتى نجد من أصبح داعية لفكره لا يقف عند حد التأييد.

    هذه الصورة واقعية نشهدها جلية في الكثير من ديار المسلمين، حتى أصبحت العلمانية والحداثة الهجينة نهجاً مطبقاً في دار ودار ودار. والصورة تتكرر: رفض، استحسان، تأييد، دعوة ودعم، فحشدوا لذلك جنوداً كثيرين ظاهرين ومستترين، خطوة خطوة في التنازل أيضاً.
    عندما ظهرت الاشتراكية وقعت هذه الخُطا الشيطانية حتى صرنا ننادي "بالاشتراكية الإسلامية". وكذلك مع الديمقراطية! ألفت كتب تقول إنها إسلامية، ودعوا إلى "الديمقراطية الإسلامية"، دون أن يجدوا شعاراتها المزخرفة مطبقة في ديار أصحابها ولا في ديار تابعهيم. أين الديمقراطية؟! لقد تكشفت في أحداث واقعية وتبين أنها أشد أنواع الديكتاتوريات: إما أن تقبل ما أفرضه عليك، وإما أنت عدو ستقتل وتستباح ديارك وأموالك وأعراضك! إنك إرهابي!

    وجاءت العَلْمانية Secularism، والعِلْمانية Scientism، فنشط بعض المسلمين ليجعلوا منها "علمانية إسلامية". وكأننا كلما جاء من الغرب فكر ومصطلح هرعنا إليه لنضع على المصطلح طلاء إسلامياً يخفي سوءاته. ولكن السوءات تظل تتكشف مهما وضعت من طلاء!
    وجاءت "الحداثة" كذلك، فمرت بنفس مراحل خطوات الشيطان، حتى أصبح من بين المسلمين دعاة صريحون يدعون إلى حداثة الغرب. كنت في أحد البلاد العربية أتحاور مع داعية مسلم يقول: ما رأيك، حتى نحارب الحداثة نأخذ بعض أفكارها ومصطلحها ونتألفهم بذلك على الإسلام! فقلت له: أخشى أن تصبحوا أنتم حداثيين، والحداثيون يصرون على حداثتهم ويرفضون إسلامكم، لتبنّيكم شعاراتهم وأفكارهم ومصطلحاتهم!
    وفي لقاء مع دعاة إسلاميين أخذوا يهاجمون شعر الأستاذ عمر بهاء الأميري وآخرين، ولما سألتهم: من الشاعر الذي يعجبهم؟ قالوا: محمود درويش! فقلت أهذا الذي يقول: "... وفي سنة 1961م دخلت الحزب الشيوعي، فتحددت معالم طريقي" وينسى الذين يتغنون بشعره قوله: "نامي فعين الله نائمة وأسرار الشحارير"!

    في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استدرجوا خطوة خطوة حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. ولقد وصل الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع.
    وبين يدي مقالة أخي د. وليد قصاب في مجلة الحرس الوطني العدد (262) السنة الخامسة والعشرون، صفر 1425ه- نيسان-أبريل 2004م، بعنوان: "الحداثة المنشودة: قضية للحوار".
    آخذ على الموضوع عنوانه: "الحداثة العربية"، فهل القضية قضية قومية وهل الميزان ميزان قومي؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة؟! وحتى نجابه هذه "الحداثة الهجينة" الموجهة للناس كافة، علينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميا لكل إنسان وشعب وأرض، ولا يوجد غير الإسلام لهذا التوجه الإنساني العام، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان. لقد منّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها. وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدة وديناً وشعاراً، مهما وقع من تفلت في بعض المبادئ. لقد ظل الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم.
    ولفظة "الحداثة" نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها، وقد طلع بها "الحداثيون" أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم.

    وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يعد يناسب النهج الإسلامي بعد أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، واستقر الإسلام دينا للأمة كلها.
    فكلمات (حدث وأحدث وحديث وحداثة) لها معان متعددة في المعاجم. ولكن من الناحية الفكرية، وحسبما أتت به الآيات والأحاديث، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس. فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدث تدل على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتد، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا كانوا عنه معرضين) (الشعراء:5).
    وكذلك قوله سبحانه وتعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) (الأنبياء: 2).
    ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدث ضد القديم الذي هم عليه. والقديم الذي هم عليه باطل، والذكر المحدث هو من عند الله، وهو الحق.
    أما عندما استقر الإسلام وأصبح دين الأمة، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة.
    وفي الحديث الذي يرويه أبو داوود والترمذي وابن ماجه يرد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (... إياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)(1).
    وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة، يأتي قوله:
    (... وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما جاء في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثا أو يؤويه، وأن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة. ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل).(2)
    ولذلك أصبحت كلمة "أحدث" و"محدث" تدل على أمر مرفوض شرعاً، غير مقبول، ولا مجال لتزيينه وزخرفته، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم. والقديم الثابت الممتد بعد أن استقر الإسلام هو الإسلام. فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام، والمحدَث: الأمر المنكَر الذي يرفضه الإسلام.
    وفي لسان العرب:
    الحديث: نقيض القديم.
    محدَثات الأمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.
    المحدثة: ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع.
    يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة. وما أتى به أهل الأهواء، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة.

    وإني أخشى أن يكون في مصطلح "الحداثة الراشدة" بعض التناقض على ضوء ما أسلفنا. فأنى تكون الحداثة راشدة بعد أن استقر الإسلام، وحملت من المعاني ما يخالف الإسلام؟! وقد استخدمت الأمة المسلمة كلمة (الراشدة) مقترنة بالخلافة الإسلامية والخلفاء الراشدين. فلا يليق بنا أن نلصق هذه اللفظة الكريمة بلفظة عليها الخلاف وقد التصقت بها الفتنة والانحراف.
    وإن استخدام هذا المصطلح في أحسن حالاته هو شعار خال من النهج لدينا، وأما شعار "الحداثة الهجينة" فقد ملأ الدنيا ممارسة وتطبيقاً وإعلاماً. وهو يحمل النهج الخبيث. ولكنه نهج ظهر في الواقع. فكيف نقابل النهج بشعار، ونهجنا هو الإسلام؟!

    ولقد أورد الكاتب في كلمته أقوال عدد من الكتاب، وقد استخدمت لفظة "الحداثة" عندهم بصورة متباينة بين هذا وذاك. فمن قائل: "إن الحداثة ضد التكلس والجمود"، فمن أين أتى هذا المعنى ومن أي معجم؟! إلا إذا أردنا أن نطرح المعاجم واستخدامات الكتاب والسنة لها. ومن قائل: "إن الحداثة تعني المعاصرة". ومن قائل: "إنها لا تطال الثوابت في هذه الأمة" وقد طالتها من أول هذه الكلمة فتجاوزت ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم من معان لكلمات "الحداثة، وأحدث، ومحدَث" على صورة رسالة ربانية محددة المفهوم والمصطلح.
    ويقول الدكتور وليد -حفظه الله: "الحداثة في هذا الخطاب لا تلغي الآخر، ولا تتنكر له.." الخ وأقول: من هو الآخر الذي يجب ألاّ نلغيه؟! لعله الغرب العلماني؟! إن هذا الآخر هو الذي ألغانا وتنكر واعتدى وأفسد.
    ويقول د. قصاب: "بل هي منفتحة عليه مقتبسة منه.."! وكنت أتمنى أن يحصر ذلك في العلوم والصناعة وما شابهها. ففي الفكر والأدب نحن الأغنى، ونحن الذين يجب أن نقدم لهم رسالتنا. من الخطأ أن يكون موقفنا موقف الآخذ المقتبس الحذر فقط، الذي ليس لديه شيء يعطيه. نحن أُمِرْنا بالكتاب والسنة أن نبلغ رسالة الله، وبذلك فقط نكون خير أمة أخرجت للناس، قبل أن نفكر ماذا نأخذ، علينا أن نفكر ماذا يجب أن نعطي!
    وكلام أحمد عبدالمعطي حجازي يدور وينطلق من نظرة إقليمية قومية، لم يخطر بباله أن الإسلام له موقف ورأي. وأما الإقليمية فما هو مستندها لتحدد موقفاً عالمياً يصغي له الآخرون؟ مضت قرون ونحن نصرخ من منطلق إقليمي وقومي، فما أصغوا لنا إلا أن يزيدوا تفتت الأمة المسلمة التي كادت تَنْسى رسالتها.

    والقول بأن هذه الحداثة لا تتنافى مع الأصالة، قول يحتاج إلى مراجعة، فحسب ما أوضحت قبل قليل فإن الحداثة، بعد أن استقر الإسلام، أصبحت بنص حديث رسول الله عليه وسلم مخالفة للإسلام. ومن يقول: "إن الحداثة كما تأكد عبر التاريخ لا تقوم إلا على الأصالة"، كلام يحتاج إلى مراجعة. فمنذ متى عرفت الحداثة في التاريخ حتى نستشهد به على الأصالة؟ ومن الذي استخدمها؟ وما هو رأي الإسلام فيها مصطلحاً وفكراً؟ وما هو تاريخها؟! الذين استخدموا الحداثة في التاريخ تنكروا لكل أصالة كانت عند قومهم.
    ومن قائل: "في تراثنا أشياء إيجابية يجب أن نحافظ عليها... الخ". الموقف لا يقف عند كلمة "التراث"، والذي لدينا أعظم من لفظة تراث! إنه دين وذكر من عند الله، أعظم من كل شيء، إليه يجب أن ترد قضايانا كلها صغيرها وكبيرها. إن تراثنا قائم على الدين لا تستطيع "الحداثة" بأي مفهوم لها أن تتعرض له. فالمؤمنون الذين عرفوا دينهم والتزموه هم وحدهم يدرسون التراث برده إلى منهاج الله، وليس إلى الحداثة.
    إننا نفهم من كلمة "تراثنا" ما يرتبط بالدين، ولا ننظر فيما كان خارجاً عن الدين في وقته. تراثنا ديننا الكتاب والسنة واللغة العربية وما يرتبط بذلك من نشاط حق. فالقول بأن في تراثنا أشياء إيجابية هو تهوين لشأن هذا الكنز العظيم الذي منّ الله به علينا.

    والقول: "إن تراثنا الأدبي وتراث الأمم الأخرى عرف مجددين عظاماً، أحدثوا وطوروا"..! إن الربط بين تراثنا وتراث الأمم الأخرى خطوة "حداثية" فتراثنا هو كما بينت أعلاه، أما تراث غيرنا فكله نابع من الوثنية اليونانية والرومانية وما أسموه علم اللاهوت ثم المذاهب التي لا تكاد تحصر في الفكر والأدب، من هيجل وكانت وماركس وأنجلز والعشرات من أمثالهم. وكذلك استخدام كلمة (أحدثوا) خطوة حداثية أخرى، مخالفة لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرضناه قبل قليل. فكلمة "أحدث" أصبح معناها في نص الأحاديث، وفي جميع المعاجم: جاء بما يخالف الإسلام والكتاب والسنة.

    لقد اختلطت الاصطلاحات اختلاطاً عجيباً بين الحداثة والأصالة والنافع والضار، بأسلوب عائم لا يحدد ميزاناً ولا منهجاً، ومهما حاولنا أن نضع "للحداثة الراشدة" منهجاً أو ميزاناً فلن نفلح، وسنجد أنفسنا عدنا إلى الإسلام كله. فالإسلام وحده يغنينا عن هذه المصطلحات، فهو الذي يرسم الفكر والأدب والكلمة كلها.

    يقول الدكتور اليافي: "أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر المدى، شريطة أن يتم ذلك ضمن خصوصيتي القومية وتراثي الثقافي ولغتي العربية".
    أشعر بذلك اختلاط المصطلحات وتناقض التعبير. فالدكتور اليافي حصر القضية كلها في خصوصيته القومية، حيث لا نجد أي ذكر للإسلام، مجرد ذكر! إصرار على القومية والخصوصية بصورة متكررة. ثم يطرح ألفاظاً عائمة: تراثي الثقافي! ما هو وما حدوده؟ وما علاقته بالأمة؟! التطور والتجديد، والحداثة الشعرية، إلى آخر المدى! انفلات لم يعد يجد له ضابطاً! إنها خطوة حداثية من خطوات الحداثة الهجينة، ولا يمكن أن تمثل بهذا التناقض والانفلات أي خطوة راشدة.

    وهل (الحداثة الراشدة)، التي يدور حولها المقال، خاصة بالأدب، أم بالفكر، أم الدين كله، أم العلوم، أم الصناعة؟! ما هو مداها ودائرتها؟! فإن كانت في مجال الأدب، فحسَبَ ما ورد في المقال، فقد فتحنا الباب كله للحداثة الهجينة بعد أن قبلنا حداثة الشعر إلى أبعد مدى! وفتحنا الباب لنأخذ عن الغرب ونقتبس من أدب له تاريخ وتطور ونظرية وارتباط مختلف كل الاختلاف عن أدبنا وتاريخه ونظريته. إن الأدب الغربي كان منطلقه الوثنية، مشتتاً بين لغات متعددة، ومصالح متضاربة، وأدبنا نشأ في حضن الإيمان والتوحيد واللغة العربية، ومضى أكثر من ألف وخمسمئة من السنين محافظاً على لغة واحدة لم تمسها الحداثة، وعلى رابطة ربانية إيمانية، ظلت في أسوأ الظروف تطلق دفقتها الغنية!
    اختلطت مصطلحات: الحداثة، والقومية، والإنسانية، والأصالة، والنمو، والتطور، والتجديد، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأي منها مفهوم محدد قابل للتطبيق، ولا منهج جليٌّ يُحْكَم له أو عليه. إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها.

    نحن لسنا بحاجة إلى مصطلح الحداثة، ففيه شبهة واضطراب واختلاط. ولغتنا غنية بالمصطلحات، لنجد المصطلح المناسب بعد أن نضع نهجاً نريد أن نتبعه دون تصورات عائمة. نضع النهج ثم نضع له المصطلح، وليس العكس. فبالنسبة للأدب ظهر مصطلح (الأدب الإسلامي) الذي يشق طريقاً منهجياً، يغنينا عن مصطلح الحداثة في الأدب، وإلا فليلغ مصطلح الأدب الإسلامي، أو الأدب الملتزم بالإسلام! ولتتوقف رابطة الأدب الإسلامي عن عملها، وتتولى الحداثة لتضع لها نهجاً وتتولى الأمر.

    لفظة الحداثة، لم تعد تعني التطور والنمو، ولا الرشاد والوعي، ولا التجديد. ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنّ علينا بخير منها.
    والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة:
    إذا كنا بحاجة إلى حداثة راشدة تنطلق من أصالتنا، من ذاتنا، من حاجتنا، فلماذا لم نفكر بها إلا بعدما ظهرت الحداثة الهجينة، كما سبق أن ظهرت الاشتراكية الهجينة، والديمقراطية الهجينة، فما أفلح الطلاء الإسلامي، وظلت سوءاتها غير مستورة. وكذلك الحداثة، لا أظن أن الأصباغ ستفلح معها.
    الإسلام هو الذي يعطي الآخر حقوقه ويعدل معه، وليست الحداثة. الإسلام هو الذي يبين لنا ما نأخذ وما ندع، وكيف نتعامل مع الآخر، وهو الذي يدفعنا إلى أن نعطي له لا أن نقف عند الأخذ، أن ندعوه إلى الإسلام. الإسلام هو الذي يرسم لنا نهجاً ويضع مصطلحاً.

    الإسلام، والكتاب والسنة، كل ذلك ليس مجرد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه. الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان.
    ا
    لخلاف حول ما طرحته الحداثة الهجينة وإقبال بعضهم عليه، وإدبار آخرين، وملاينة آخرين، أشغل وقتنا، وما كان إلا لأننا لم نردَّ أمورها كلها إلى الكتاب والسنة رداً أمينا صادقاً، فكان الاختلاف والتمزق والحيرة.
    و"الحداثة" بلفظها وفكرها باب فتنة وابتلاء، يتكرر مثله في حياة المسلمين ابتلاءً منه -سبحانه وتعالى- وتمحيصاً منه لعباده، لتقوم الحجة يوم القيامة لهذا أو ذاك، أو على هذا وذاك. إنها فتنة لفظة وفتنة فكر. فلنجتنب الفتن كلها. عسى الله أن يهدينا سواء السبيل.
                  

10-15-2004, 08:58 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حوار مع المغربي بلقريز يتحدث فيه عن الحداثة والتحديث (Re: osama elkhawad)

    كونية الحداثة ونسبيتها في حوار مع د. عبد الإله بلقزيز (*)

    في الوقت الذي نجد فيه أمماً كثيرة مرتبكة في الوقت الراهن، من اقتحام طرق العمل للإمبريالية الغربية لثقافتها، فإنها تطرح المشكلة على نفسها بمصطلحات فاصلة: تقدم/ تخلُّف. حداثة/ تقليد.

    في حين أننا نجد الأمم الغربية غارقة منذ عدة عقود في خطاب انحطاطها ذاتها وخيبة الأمل من مُثُل الحداثة. بينما ما زالت كلمة حداثة تشكل بالنسبة إلى شعوب كثيرة سطوة سراب جميل.

    + قبل أن نتحدث عن الحداثة، أعتقد أن الحديث عن نشوئها يشكل مدخلاً تاريخياً إلى معانيها وأغراضها.

    ++ إن الحديث عنها من وجهة النظر الفلسفية، هو الكلام عن الثورة التي افترضتها العقلانية العلمية عند غاليليو، وتطبيق هذه المبادئ على منهج البحث الفلسفي عند ديكارت.

    ومن وجهة النظر الاجتماعية ـ التاريخية، نستطيع أن نحدد بداية الحداثة في لحظة انبثاق الرأسمالية. وبالتالي الكلام عن عقلانية اقتصادية منذ القرن السادس عشر.

    ومن وجهة نظر علم الجمال، نستطيع أن نتحدث عن الحداثة كحركة ناتجة عن اكتشاف ذاتية الجميل وعن الفنان كمبدع منذ عصر النهضة، أو أن نركز على إشكالية تغيير القياس (المثال) عند الطليعيين: الفن كموضوع للعمل الفني بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر.

    من الواضح أنه يوجد بين كل هذه الحداثات شيء مشترك: ولادة الذاتية والاستقلال المضطرد للفرد، وحرية التفكير، والقدرة على النقد والنقد الذاتي، والدفاع عن حقوق الإنسان.

    أما حين نفهم الحداثة بمعنى التقدم، فإننا ندخل في المجال الاقتصادي، فإنها تعني تحرير الصناعة وما ينتج عنها، وهذا ما نقصده بمصطلح (العولمة). ومع ذلك هناك اختلافات كبيرة بين (العولمة) و(الحداثة).

    + انتقل مفهوم الحداثة إلى المجال التداولي العربي حديثاً. ثم حدثت محاولات لتوطينه في نسيج الثقافة والفكر. كيف دخلت إلينا (الحداثة) من هذا الباب؟

    ++ طرقت الحداثة أبوابنا من مدخل أدبي وفني. يشهد على ذلك مسرح توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وشعر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وموسيقا الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، وسينما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين.. إلخ.

    لم يكن ذلك ليعني أن ولادتها كانت من رحم الأدب والفن حصراً، وأنها أنتجت معها جمهورها العريض الذي انتصر لها وأخرجها من إسار النخبوية.

    + كيف دخلت أيضاً إلى مجالات الفكر؟

    ++ خارج حومة الأدب والفن، وفي رحاب الفكر والإنتاج النظري، وُلدت الحداثة أيضاً، ربما قبل الحداثة الأدبية والفنية، وبعدها.

    من يمكنه أن ينسى ديكارتيه طه حسين الذاهبة في اشتباكها مع (حنبلية) الفكر العربي إلى حد الصدام على نصاب (القدسية) في الموروث الشعري العربي؟

    ومن يقوى على تجاهل صرخة عبد الرحمن بدوي (الوجودية)، وصرخة فؤاد زكريا (الوضعية)، و(علموية) سلامة موسى المبكرة؟

    ومن يملك أن يشطب من سجل مغامرات الحداثة أنثروبولوجية علي الوردي، وجينينالوجية جمال حمدان، وشخصانية محمد عزيز الحبابي. وتاريخانية عبد الله العروي. وجدلية حسين مروة وطيب تيزيني ومهدي عامل وسمير أمين وصادق جلال العظم، وفوكوية محمد عابد الجابري، وسيميائية محمد أركون، ونقدية حسن حنفي التاريخية، وصولات هشام جعيط بين التاريخ السياسي والاجتماعي وتاريخ الفكر وعلم الاجتماعي السياسي، وحذاقة التحقيق المقارن لدى رضوان السيد، وسياحة جورج قرم الفكرية، بين الاقتصاد والتاريخ والأنثروبولوجيا السياسية.

    + قد يفهم القارئ من سردك لأعمال هؤلاء المفكرين والعلماء، أن الحداثة دخلت إلى الثقافة العربية منذ أربعة عقود تقريباً!

    ++ للحداثة تاريخ في ثقافتنا وفكرنا العربيين، لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن. لقد شقت الحداثة مجراها في الأدب والفن، وتدفق سيلها في النصوص وفي النفوس. لكن حظها في حقل الفكر والإنتاج والنظري ما انفك يعلن عن تواضع متزايد.

    + هل تقصد أن الحداثة انتصرت في ميدان الإبداع، وأخفقت في ميدان الفكر، ولا سيما في مجال العلوم الاجتماعية؟

    ++ من المبكر التسليم بوجاهة المعادلة التي يتألف منها هذا السؤال. إن الحداثة تعاني ـ كرؤية ـ من نقص حاد في القدرة على منافسة نقائضها، في حقل التأليف والثقافة السياسية العمومية. وهذا صحيح بغير شك، وآية ذلك أن الأغلب من رموز الحداثة في الفكر، بات لا يملك مكنة الدفاع عن الحداثة. وعلينا أن نقول استطراداً إن تلك المعاناة هي ما يعيد إنتاج سؤال الحداثة في الوعي العربي المعاصر بالحدة التي يفرض بها نفسه اليوم.

    + إن (مفهوم) الحداثة على ما يبدو يعاني التباساً مع مفهوم (التحديث).

    ++ إن مفهوم (الحداثة) كما دخل في المجال التداولي العربي، لا يعني مفهومه في الفكر الغربي. إن الفوارق بين المفهومين وسيعة. فالحداثة moedermite هي الرؤية الثقافية والفلسفية الجديدة للعالم.

    أما (التحديث) modernisation، فهو فاعلية سياسية واجتماعية، تروم تطوير بنى المجتمع والسياسة والاقتصاد. بحيث توائم مستوى التحولات الطارئة على صعيد الزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية والحاجات. وهنا يتعلق الأمر بسياسات وإجراءات مخطط لها تحقها الدولة.

    لقد تنبه عبد الله العروي منذ ثلث قرن، إلى مثل هذا الخلط بين مفهومي الحداثة والتحديث، دون أن ينصرف إلى العناية بالمفهومين، حين لاحظ أن برنامج الدولة العصري في التحديث المادي: الاقتصادي والاجتماعي، برنامج السلطة الناصرية، لم يرافقه ويرادفه مشروع ثقافي حديث.

    وقد يستفاد من ذلك، أن الوطن العربي عاش تجربة التحديث (المادي)، دون أن يعيش تجربة الحداثة (الفكرية والثقافية).

    + لنعد إلى بداية الحداثة في موطنها الأصلي، ولمفهومها الذي ينبغي تبينه من خلال حركتها الداخلية، وأدوارها في حقول المعرفة.

    ++ خرجت الحداثة بوصفها رؤية جديدة للعالم، من رحم التحولات الكبرى التي شهدتها أوربا العصر الحديث. وكانت طرفاً في صناعة بعض وقائع تلك التحولات. وقد نشأت فلسفة الحداثة في بيئة تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية، في مسلسل من العلاقات الصراعية بغيرها من منظومات الثقافة والفكر السائدة.

    والحق أن الحداثة آذنت بميلاد نظام معرفي جديد، في أوربا الحديثة. لا يمكن البحث له عن جراثيم ومقدمات سابقة لذلك الميلاد.

    ثمة ملمحان رئيسان ومفصليان للحداثة يؤسسان تلك البراديغمات هما: تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية الوحيدة في إدراك العالم: الطبيعي والاجتماعي، وتكريس الإنسان هدفاً نهائياً للتحرر والتقدم. وإذا شئنا استخدام المفاهيم الدارجة في تعيين (جوهر) ومضمون هذه الحركة الفكرية ـ التاريخية التي مثلتها الحداثة. نقول إن منحييها الرئيسين كانا العقلانية والإنسانوية: أو النزعة الإنسانية.

    ويمكن تلخيص القول بأن العقلانية نشأت كحركة فلسفية شاملة حديثة، عن مبدأ بسيط يرد إمكان المعرفة إلى أداة رئيسة ووحيدة هي العقل.

    وهذا يضرب بجذوره إلى العصر الإغريقي القديم حين انعقدت المرجعية للعقلانية الأرسطية والسكولاستيكية. حتى إن أوربا الحديثة نفسها لم تشأ أن تعرف نهضتها ـ والعبارة عربية ـ إلا بوصفه renaissance: أي ميلاداً متجدداً بعد ميلاد أول في أثينا.

    وقد تكون المساهمة الفلسفية الرشدية حاسمة في إعادة وصل بذلك الماضي. ومن ناحية أخرى أن العقلانية الأوربية الحديثة: عقلانية ديكارت وسبينوزا وكانط وهيغل، غير قابلة لأن تقرأ بوصفها محض إعادة إنتاج للعقلانية الأرسطية. لأنها تخطت فعلاً حدود العقل الصوري الأرسطي، سواء بنزعتها الجدلية أو بإقامتها بعض أنساقها النظرية على معطيات المعرفة العلمية التجريبية، التي بدأت (متواضعة) في حسية بيركلي وتجريبية بيكون وهيوم، لتبلغ مداها الأعلى مع فيزياء نيوتن وتطورية البيولوجيا الداروينية. مما كان له الأثر الحاسم في تأسيس عقلانية جدلية لدى فريدريك هيغل وكارل ماركس.

    الأهم في كل هذا العقلانية نشأت في علاقة صراعية مريرة بنقيضها الفكري والتاريخ: اللاعقلانية القروسطية التي مثلتها الكنيسة والفكر اللاهوتي الذي احتضنته. ومع أنه كان من حسن حظ العقلانية الغربية الحديثة، أنها نشأت وتطورت في الوقت نفسه الذي أحرزت فيه حركة الإصلاح الديني نجاحات هائلة، على صعيد تحجيم سلطان الكنيسة (الكاثوليكية) وواحدية الفكر اللاهوتي المرتبط بها. ثم شقت لنفسها مساراً مختلفاً، ولم تتوقف عند حدود مكتسبات ذلك الإصلاح.

    كان ذلك فصلاً حاسماً من فصول المعركة ضد القرون الوسطى ومواريثها. انتهى بانتصار العقل على اللاهوت و(الرعية) على طبقة رجال الدين. وانتصار علاقات الإنتاج الرأسمالية الوليدة والصاعدة، على نمط الإنتاج الإقطاعي في حلبة الاقتصاد. وانتصار الثورة البرجوازية على الإنتاج الملكية المطلقة والمستبدة، في حلبة السياسة. فإن ائتلاف العقلانية والرأسمالية والثورة في حلف مشترك، كان الرد التاريخي الطبيعي والموضوعي الذي قاد إليه تحالف الثالوث القروسطي المزمن: الكنيسة والإقطاع والملكية. وفي الحالات جميعاً آذنت تلك الانتصارات، بانتقال حاسم إلى عصر جديد هو عصر الإنسان بميلاد الإنسان. نشأت في الفكر الغربي الحديث أيديولوجيا جديدة متكاملة البناء هي الإنسانوية. وهي كناية عن نظرة جديدة إلى الإنسان بوصفه (جوهر العالم) ومركزه وصانع مصيره فيه.

    هكذا فُتح الباب أمام الحداثة: رؤيةً فلسفية ونظاماً اجتماعياً سياسياً، تمثل الديمقراطية اليوم تعبيره المادي والمؤسسي، ذلك كان تاريخ ميلاد الحداثة وملابسات ذلك الميلاد. ولكن، علينا أن نضع تعريف ذلك الميلاد في سياقه التاريخي حتى لا نخطئ قراءته.

    + لكن الحداثة بدأت تنشر خارج بيئتها منذ القرن التاسع عشر، كيف حدث ذلك؟ وكيف أثرت على البلدان التي وصلت إليها؟

    ++ لم تقتحم حداثة أوربا العوالم الجديدة في القارات الثلاث (آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية)، اقتحاماً ثقافياً صرفاً. أعني من خلال جدلية الحوار والتبادل الثقافي، التي كانت معبراً تاريخياً مألوفاً إلى إقامة الصلات بين الثقافات والحضارات. وإنما أطلت على تلك العوالم، بوسائط غير ثقافية وبغير قليل من العنف.

    أتت الحداثة في ركاب الحملات الاستعمارية الأوربية، التي غزت بلدان العالم ما قبل ـ الصناعي ومجتمعاته. تعرف إليها مثقفو هذه المجتمعات وأدباؤه، كثقافة لأوربا الغازية الظافرة، وليس كمنظومة أفكار مستقلة عن الغالب الأوربي.

    لقد زرعت الحداثة الثقافية زرعاً في نسيج هذه المجتمعات، تماماً مثلما زرعت العلاقات الرأسمالية الجديدة.

    + إذن لم تقدم الحداثة نفسها بطريقة حضارية (إقناعية) على المجتمعات والثقافات! بل حملها العنف إليها.

    ++ لقد دخلت الحداثة على تلك المجتمعات بالغزوة الاستعمارية، ومع أن عنف الحداثة هذا كان يكفي لرفضها ولفظها، من قبل من وقع عليهم فعل العنف ذاك. إلا أن ذلك لم يحصل دائماً بالقدر المتوقع. إذ وجد هناك من تراءى له أن الأخذ بالحداثة هو في جملة الأخذ بالأسباب، التي صنعت لأوربا شوكتها وهيبتها.

    وفي سائر المجتمعات التي اقتحمتها الحداثة، لم يكن ممكناً أن تتم عملية الاستقبال بتهليل أو رحابة صدر، خاصة أنها قد أتت في ركاب الغزو الاستعماري، الأمر الذي عنى القبول بها تسليماً بالهزيمة.

    + كيف تجلت مقاومة الشعوب لعنف الحداثة؟

    ++ أما مواجهة عنف الحداثة فقد تجلى أولاً، بما تجوز تسميته بالممانعة الحادة والشاملة. حِدَّتها كانت في إنكارها الحداثة وإبدائها الشدة عليها. أما شمولها فلأنها طالت سائر تجليات الحداثة. ولم تكن ممانعة جزئية، كما سيصبح في ما بعد بأكثر من قرن.

    لم يكن العرب وحدهم ولا المسلمون معهم، الوحيدين الذين انفردت ثقافتهم بإبداء ذلك الفعل من الممانعة الحادة والشاملة للحداثة. شاركهم في ذلك كثيرون: الصينيون، والهنود، وحتى اليابانيون. أما هنود أمريكا فأحرزوا سبقاً قبل هؤلاء جميعاً.

    أما الجامع بين تلك الممانعات الثقافية، فهو الرجوع الحاد إلى الماضي والتمسك به.

    أما ثاني تلك الأشكال فهو مما يمكن تعريفه بالممانعة المتكيفة مع إكراهات الحداثة. ينتمي إلى المقاومة الثقافية من حيث ماهيته. غير أنها مقاومة لا تركب تيار الرفض الحاد والشامل لكل معطيات الحداثة الثقافية. بل تتكيف مع كثير من تلك المعطيات بهدف تقوية نفسها من جديد. أو قل بهدف إعادة إنتاج نفسها كممانعة قادرة على مجابهة ضغوط الحداثة.

    مرة أخرى، لم تكن الثقافة العربية ـ في حقبتها الحديثة ـ وحدها التي جنحت لهذا النوع من الممانعة الثقافية المتكيفة مع إكراهات الحداثة. بل شاركتها في المنحى والنهج ثقافات مجتمعات أخرى، مثل مجتمعات الثقافات الكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية والوثنية.

    أما ثالث شكل لتلك الممانعة، فهو ما يصحّ تعيينه باسم الممانعة الثقافية البَعدية. وهي كناية عن ممانعة متأخرة في الزمان. ويعود زمن عودة هذه الممانعة إلى الربع الأخير من القرن العشرين. ولو أخذنا مجتمعات العالمين العربي والإسلامي مثالاً، لأمكن القول إن أكثرها انفتاحاً على الحداثة. ثم إن هناك أمثلة أقرب في الزمان لتلك الممانعة البعدية، تعود بداياتها إلى عقد الثمانينيات الماضي. من أهمها تركيا وتونس وباكستان وإندونيسيا، التي ولجت حداثاتها الثقافية طور انكفاء وتراجع أمام مد متزايد لنقائضها المستمسكة بالماضي والهوية والميراث الحضاري الإسلامي.

    لنترجم المعطيات السابقة عن الممانعات الثقافية الثلاث. الممانعة الأولى هي تلك التي أبدتها مراكز إسلامية عريقة. أما الممانعة الثانية (المتكيفة). فمختلفة، إذ اتخذت شكل رد فكري متكامل وبالغ الإيجابية، هو الفكر الإصلاحي الإسلامي للقرن التاسع عشر وفواتيح القرن العشرين. انصرف هذا الرد إلى إعادة بناء خطاب إسلامي منفتح على معطيات العصر ومتطلع إلى تأهيل مجتمعات الإسلام، للمشاركة الفعالة في بناء الحضارة الإنسانية وصناعة التاريخ. ومع أنه غرف من الحداثة الفكرية الغربية، خاصة في جوانبها السياسية.

    ولقد أتت الممانعة (البعدية) الثالثة، في أعقاب إخفاقات مشروع (الحداثة السياسية) العربية وما جاورها في ميادين الاقتصاد والاجتماع: المشروع الذي حملته الحركات الوطنية والقومية، ودافعت عنه نخب ثقافية حديثة باسم التقدم والنهضة والثورة. وتبددت أيضاً في سائر الكتابات الإسلامية، التي خرجت من رحم (معالم في الطريق) لسيد قطب. ومنها كتابات شكري مصطفى وعبود الزمر وعبد السلام فرج وأيمن الظواهري وعمر بن الرحمن في مصر، وسعيد حوّى في سورية. ومحمد الفيزازي ومحمد الزمزمي في المغرب، وأسامة بن لادن في السعودية.. إلخ.

    تدور حول ثنائيات الكفر والإيمان و(الصليبية) والإسلام والجهاد، منذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى الشيخ أسامة بن لادن.

    + حديثك عن علاقة الحداثة بالهوية والأصالة يجعلنا نطرح سؤالاً: يفكر في معنى الحداثة نفسها، وفي صلتنا بها: هل الحداثة الكونية تسري أحكامها على سائر المجتمعات والثقافات، أم نسبية يتوقف النظر إليها على النظر إلى شروطها المعينة والمتغايرة بتحولات الزمان وتغاير المكان؟

    ++ تأسيساً على المعطيات السابقة، إن الحداثة ليست بالبساطة التي يفترضها الخائضون فيها. وإنما من التعقُّد والتركيب بحث تستوعب أكثر من قراءة.

    إن الحداثة كونية ونسبية في الآن نفسه. وهذا ليس جواباً توفيقياً أو تلفيقياً، يروم المصالحة بين المقالات المتعارضة، وإنما هو حاصل نظرة تركيبية تستعيد السمتين معاً في تضافرهما.

    نعم إن الحداثة الفكرية كونية، وذلك لأن الجوامع والمشتركات بين تيارات الوعي العربي، وبين جميع ثقافات المجتمعات والأمم، كبيرة بحيث يمكنها أن تنتج خطاباً جديداً (موضوعياً): خطاب رتق لا خطاب فتق، ينصرف عن البحث في الفواصل إلى البحث في الأواصر. في جعبة تلك الأواصر ما يشهد لها: العقلانية، والعلم، والنزعة الإنسانية. وهذه مما ليس يجوز الحكم فيها بأنها قيم خاصة بمجتمع بعينه دون آخر.

    لكن الحداثة نفسها نسبية في الوقت نفسه، ومأتى نسبيتها من ظروف تاريخية وسياسية وثقافية مختلفة الطبائع والمحددات. فهي في أوجه منها ليست تقبل التعميم إلا من منطلق نظرة مركزية إلحاقية، تفترض نفسها معياراً تقاس به الأشياء والأفكار، وتفترض العالم هوامش قابلة للإلحاق بمركز. وقد يقال إن نسبية الحداثة في حالات جزئية وفي مجالات (ضيقة)، مثل الإنتاج الرمزي والجماليات (كالموسيقا والرقص والغناء والعمارة) أو اللغة.

    *- أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثانية ـ الدار البيضاء
                  

10-15-2004, 09:05 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اعلان موت الحداثة؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ (Re: osama elkhawad)

    إذ تمسي 'الحداثة' جهلا وتزويرا واستعلاء على خلق الله
    محمود سلطان

    15/08/2004

    وفيما كانت النخبة داخل الحركة الإسلامية تمارس هذه العمليات النقدية الواسعة و المؤثرة أيضا في انطباعات الرأي العام العربي، كان "الفشل" و"التدهور" هو العنوان الوحيد ، لـ"التنوير السياسي"، بعد أن فشلت النخبة العلمانية التي حكمت العالم العربي


    ظلت الحداثة وعلى مدى عدة عقود، في العالم العربي، محض كلمة تتردد على ألسنة من شاء أن يتجمل بـ"العقلانية" و"الاستنارة" وما شابه، فيما ظلت على المستوى الإجرائي "حركة غامضة" ذا طقوس سرية لا يعلمها حتى من ادعى انتمائه إليها. وغير أنه كان من الواضح أنها عادة ما تطرح نفسها كحركة نقدية للتقاليد السائدة، وعلى رأسها ما تطلق عليه "الثقافة الغيبية" التي تستقى قوامها وحيويتها من الدين عامة والدين الإسلامي خاصة، فيما أغفلت نقد السلطة وتجنبت بشكل لافت أي مساس بها، رغم أن النظام السياسي العربي الرسمي، يعتبر امتدادا للتقاليد السياسية القديمة، بل والموغلة في القدم، يعلي من قيمة شخصانية السلطة، وانفرادها في صوغ حاضر الأمة ومستقبلها، مع التهميش القسري للإرادة الحرة للجماهير العربية. ما جعل الحداثة بنسختها العربية، مشروعا مناهضا للدين من جهة، ومتواطئا مع الأنظمة السياسية القائمة من جهة أخرى. وحسبنا في هذا الإطار أن نشير على عجالة إلى تجربة كتاب "الإسلام و أصول الحكم" للشيخ على عبد الرازق (1925)، إذ يعتبر الحداثيون الكتاب ومؤلفه "مشروعا حداثيا" مناهضا لـ"الملكية" في مصر، و لاسيما الملك فؤاد الأول، الذي قيل أنه كان طامعا ، في أن يسند إليه المسلمون "منصب الخليفة"، بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ، و مع ذلك يقبل عبد الرازق "الحداثي" الثوري ، أن يعين وزيرا للأوقاف بين عامي 1948 و1949، في عهد الملك فاروق الأول ابن الملك أحمد فؤاد بينما تولى شقيقه مصطفى عبد الرازق مشيخة الأزهر!

    والجدير بالإشارة إليه هو أن "الحداثة " في عالمنا العربي، هي سليلة عائلة "التنوير"، التي شغلت النخب الثقافية العربية، حتى منتصف القرن الماضي "العشرين"، وليس ثمة تمايز بينهما. فالتأمل في تسلسل سيرتيهما التاريخية، لا يوحي بان أحدهما كان تطورا طبيعيا للآخر، والذي حدث هو إدخال عملية إحلال وحسب، على أن تحل "الحداثة" محل «التنوير"، بعد أن بات الأخير في الوعي الجمعي العربي "مصطلحا سيئ السمعة". وجاءت عملية الإحلال على سبيل المراوغة، إذ لم يعد التنوير - كمصطلح ونشاط- قادرا على إنجاز مشروعه المناهض للدين، بعد أن أصبح الأخير في حضانة الحركة الإسلامية، التي تنامى حضورها الثقافي والفكري والسياسي، في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث أدرجت نقد التنوير العربي بكامل مكوناته الأساسية، على أجندتها كواجب شرعي، يرقى إلى مرتبة "الجهاد الثقافي". وفيما كانت النخبة داخل الحركة الإسلامية تمارس هذه العمليات النقدية الواسعة و المؤثرة أيضا في انطباعات الرأي العام العربي، كان "الفشل" و"التدهور" هو العنوان الوحيد ، لـ"التنوير السياسي"، بعد أن فشلت النخبة العلمانية التي حكمت العالم العربي، باسم التنوير، منذ منتصف القرن الماضي وإلى الآن ابتداء من هزيمة المشروع الناصري في مصر "هزيمة 67 "، وانتهاء بفضيحة النظام البعثي في العراق " سقوط بغداد 2003" ، فضلا عن فشل كافة الأنظمة العربية الأخرى التي استقت شرعيتها من شعارات هذين المشروعين ، في تحقيق ولو الحد الأدنى من الطموحات التنويرية والتحديثية.

    فيما أدى هذا التزامن بين نقد الإسلاميين المؤثر لفلسفة التنوير العربي من جهة، والفشل والهزائم العسكرية للنظم العلمانية التي اعتلت العروش في العالم العربي، تحت لافتات "التنوير" من جهة أخرى، أدى ذلك إلى أن فقد التنويريون ثقتهم في العمل خلف مصطلح يستدعي استخدامه مخاوف الرأي العام من جهة، ومرارة الفشل والهزائم العسكرية من جهة أخرى.
    لقد استشعر العلمانيون العرب - بعد ما أصاب مصطلح "حركة التنوير العربي" ما أصابه من تشكيك في نواياه الحقيقية- بأن ثمة ما يتهدد "شرعية" حضورهم كـ"نخبة" تتصدر النشاط الثقافي العام، فنظموا في مطلع التسعينيات، عددا من الاحتفاليات المتباينة في آليات و طريقة التعبير عن أهدافها، لإعادة الهيبة والاعتبار لمصطلح "التنوير": ففي عام 1990 نظم "معرض القاهرة الدولي للكتاب" وعقدت ندواته ومؤتمراته، تحت شعار "مائة عام على التنوير". و في عام 1992 احتفلت دار الهلال كذلك بمرور مائة عام على ظهور مجلة الهلال، وتم الاحتفال تحت شعار: "مائة عام على التنوير"، وفي عام 1993 كثر الكلام في وسائل الإعلام المصري وبشكل لافت وغير مسبوق عن قضية التنوير، ولأول مرة في تاريخ دور النشر في العالم، بادرت الهيئة العامة للكتاب بإصدار سلسلة من الكتب ـ كل يوم كان يصدر منها كتاب ـ و بثمن زهيد جدا (25 قرشا مصريا!) كانت جميعها تحمل عنوانا واحدا :"التنوير" .
    وتحدثت في جلها عما أطلقوا عليه "محنة التنوير"، وأجمعوا جميعا على "أن مشروع التنوير تحول على يد المد الإسلامي واليقظة الإسلامية إلى "محنة للتنوير!!"، واللافت أيضا أن غلاف الكتب كان يحمل ـ بجانب كلمة "التنوير التي كانت ترد في مربع أسفل الغلاف وعلى يمينه ـ لافتة كبيرة تمتد بعرض الغلاف كله من يمينه إلى يساره، مكتوب عليها كلمة "المواجهة"، في إشارة منها إلى مواجهة التيار الإسلامي الذي اتخذته "عدواً" لـ"التنوير". ما حمل العلمانيين العرب على تجريب مصطلح "الحداثة" لتعويض خسارتهم الكبيرة فيما اعتبروه "محنة التنوير"، بيد أن الأول أصيب هو الآخر بمحنة أشد قسوة من تلك التي أصابت الثاني، مع أول صدام مباشر له مع الرأي العام، عام 1992، عندما اخضع د.نصر حامد أبو زيد، القرآن الكريم، لمناهج النقد الأدبي الحداثية (البنيوية والتفكيك)، في بعض دراساته التي تقدم بها لجامعة القاهرة، لنيل درجة "الأستاذية".

    والمحنة لم تأت فقط من هذه الجرأة، التي جعلت محكمة النقض المصرية، وهي أعلى هيئة قضائية في مصر، تقر حكما سابقا بردته والتفريق بينه وبين زوجته، و إنما جاءت أيضا من حجم "الجهالات" التي تضمنتها دراساته والتي اعتبرت - في حينها- أكبر فضيحة علمية تعرفها الجامعات المصرية منذ نشأتها عام 1924.
    لقد أحصى له، على سبيل المثال، د. محمد عمارة، ما يزيد عن ثلاثين خطئا تاريخيا وعلميا، أدرجها تحت عنوان "قلة علم" ووصفها "بأنها لا تليق بأستاذ متخصص في دراسة و تدريس الإسلاميات"، وكان لافتا أن بعضها لا يقع فيها طالب علم مبتدئ - كان أكثرها إثارة للسخرية أنه، أي أبو زيد، استو لد الإمام الشافعي في العصر الأموي، رغم أنه، رحمه الله، ولد بعد نهاية الدولة الأموية بـ 18 عاما!!-، فضلا عن قيامه بعمليات تزوير فاضحة لنصوص اقتبسها، من دراسة سابقة للشيخ محمد أبو زهرة، صدرت عام 1948 عن "أبي حنيفة"

    كانت الحركة الحداثية العربية، حتى ذلك الحين، تنأى بنفسها بعيدا عن أي صدام (أو تواصل) مع محيطها السياسي أو الاجتماعي، كانت محض فعل نخبوي استعلائي ، كانت تتعمد بناء قطيعة جذرية مع الجماهير و الرأي العام.
    بيد أن ما عرف بـ"أزمة نصر حامد أبو زيد"، أنزلت "الحداثة" من عليائها، واشتبكت ولأول مرة، مع الرأي العام من جهة، ومع مؤسسات الدولة (الرسمية والأهلية) من جهة أخرى، وشكلت في محصلتها النهائية أولى بدايات "محنة الحداثة" بالعالم العربي، إذ أنارت هذه الأزمة، ثلاث مساحات كانت تمثل - بالنسبة للرأي العام- مناطق مظلمة (أو غامضة)، في التعريف بأهداف وغايات الاتجاهات الحداثية العربية: موقف الحداثة من الدين، الوزن العلمي لروادها والداعين لها وتخليهم عما تواضع عليه البحث العلمي من أخلاقيات.
    كان من أبرز النتائج المترتبة على هذه الأزمة، أن فقد مصطلح الحداثة صدقيته، بعد أن اتهم أبو زيد أكاديميا بـ "الجهل وتزوير النصوص" وقضائيا بـ"الردة"، وأكدت ما ذكره "أدونيس" وهو واحد من أكثر الحداثيين العرب تطرفا، عندما قال "إن الحركة الحداثية، تمتلئ بالهواة والمهرجين".

    بيد أن اكتمال المحنة التي أجهزت على "الحداثة"، في عالمنا العربي تقريبا، جاءت بعد إسدال الستار على قضية "أبو زيد"، بخمس سنوات، عندما أصدرت وزارة الثقافة المصرية، رواية "وليمة لأعشاب البحر" للسوري "حيدر حيدر"، وهي من النوع الذي ينتمي فنيا إلى ما يسمى بـ"أدب الجسد". ويعتبر صدور الرواية - وبسعر زهيد وفي أكبر سوق عربي (مصر) وتتولى السلطات الرسمية (وزارة الثقافة) طبعها ونشرها- منعطفا فاصلا، في مسيرة الحداثة في العالم العربي.

    حتى قبيل هذا الحدث، لم يكد أحد من العامة يعرف شيئا عن الحداثة، في تجلياتها الفكرية والثقافية والسياسية، كانت هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر، ونعني بها بعض الاشتباكات "العارضة" التي وقعت في الظل، انحسرت بالمصادرة السريعة (مثل الخبز الحافي، وبيضة نعامة في مصر)، و("الرحيل" و"في ليل تأتي العيون" ليلى العثمان و"عناكب ترثي جرحا" لعالية شعيب بالكويت)، وبعضها خرج إلى العلن وانتظمت مؤسسات أهلية ورسمية وإعلامية، في الجدل الواسع والعنيف الذي احتدم بشأنها. بيد أنها شكلت وعيا "أوسع" بالبعد الأكاديمي والمنهجي للحداثة، وكان أبرزها أزمة "نصر حامد أبو زيد"، حيث شكلت محطة متقدمة، في مشوار الحداثة نحو "مواتها"، المهين والمذل في العالم العربي. غير أنه من المؤكد، أن أزمة "وليمة لأعشاب البحر" كانت هي المحطة اللاحقة و الأخيرة في هذا المشوار.

    فإذا كانت الأولى بما خلفته من أدبيات -حتى في أشكالها القانونية التي صيغت في صورة مذكرات ادعاء أمام المحاكم أو حيثيات ما أصدرته الأخيرة من أحكام بشأن الأزمة- قد مثلت موات الحداثة العربية أكاديميا، لا سيما بعد ظهور كتابي د. عبد العزيز حمودة : "المرايا المحدبة" و"المرايا المقعرة"، رغم صدورهما في مرحلة متأخرة من الأزمة. فإن الأخيرة (أي رواية وليمة) أشعلت الحرائق، فيما تبقى من "مصداقية" أو "نجومية" لرموز حداثية كبيرة، ظلت ولعدة عقود تمثل "المخزون اللوجستي"، الذي تعهد النشاط الحداثي العربي (السري منه والعلني) بالحماية والدعم (بنوعية المادي والإعلامي).
    ويكتسب ظهور رواية "وليمة"، بعد أزمة أبحاث نصر حامد أبو زيد، أهميته من دورها في استكمال النصف الآخر من صورة "الحداثة". فإذا كانت أزمة أبو زيد، قد انتهت بتوثيق تهافت الحداثة "أكاديميا"، فإن "وليمة" أماطت الستار، عن وجهها "السوقي" والمبتذل، وشاءت الأقدار أن تأتي هذه "السوقية"، في المشهد الأخير من مشوار الحداثة العربية نحو نهايتها المخذية بعد أزمة "وليمة" بدأت ملامح وتضاريس جديدة تتبلور، تشير في تدافعها وتلاحقها، إلى ما يمكن تسميته مرحلة "نهاية الحداثة" في عالمنا العربي، وهي مرحلة يمكن الاستدلال على تشكلها بعدة علامات ذكرناها تفصيلا في هذا الكتاب. وهي علامات في تواترها وتشابهها كانت بالغة الدلالة على أن أزمة "وليمة" كانت حدثا كبيرا، ومنعطفا يجيز لنا الوقوف عنده، لكتابة تاريخ "الحداثة العربية"، إذ أن الفارق بين "ما قبل" الأزمة و"ما بعدها"، كان مدهشا ولافتا على نحو لا يمكن تجاهله، أو التعامل معه وكأنه حدث عادي، بل إن أية قراءة متعجلة وربما بقليل من التأمل، من شأنه أن يضئ لنا المساحات الواسعة من "الجسد الحداثي" العربي الذي أصابته أزمة وليمة بأضرار جسيمة، جعلته كسيحا قعيدا، وربما يظل على حاله هذا، الذي آل إليه عقودا عديدة مقبلة
                  

10-15-2004, 09:10 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية..(1) (Re: osama elkhawad)


    [6/6/2004]
    الحديث عن الأسرة هو حديث عن شبكة من العلاقات والمفاهيم تشكل النواة الأساسية للمجتمع، كما تشكل المنظومة القيمية، والحاضنَ التربوي للفرد. وعقد المقارنة بين سياقين حضاريين: النموذج الحضاري الغربي والنموذج الحضاري الإسلامي، لمصطلح "الأسرة" وتَشكله وما يتصل به، من شأنه أن يثير عددًا من المفارقات بين النموذجين، ويلقي بثقله على حقول معرفية مختلفة كالفلسفة والاجتماع والدين.

    ولست أبالغ إذ أقول: إن حجم المفارقة بين المفهومين تصل حالة من التناقض، ويمكن مقاربة أزمة الغرب الاجتماعية والأخلاقية من هذه المفارقة نفسها، ويمكن إدراك "أوهام" الحداثة من خلال الآثار التي ألقت بظلالها على التغيرات التي عصفت بالمجتمع الغربي والأسرة الغربية والقيم العائلية الغربية، ذلك أن للمعتقدات الدينية والفلسفية أثرها على نمط العلاقات السائد، وذلك مرتبط أيضًا بالمتغيرات الديمغرافية (السكانية) والثقافية والفيزيولوجية، كما أكدت دراسة عن الأسرة الأوربية.

    ونحن سنحاول هنا إيضاح تحولات مفهوم "الأسرة" بناء على الفلسفة التي تتحكم فيه، مع عدم إغفال الأشكال المتولدة عنها، والآثار المترتبة عليها.

    الأسرة في المفهوم الإسلامي

    في المفهوم الإسلامي يعتبر "الزواج الشرعي" بين ذكر وأنثى هو الأساس المكين الذي تقوم عليه الأسرة، ومن هنا نلحظ قصور التعريف الفقهي للزواج الذي يكاد يقصره على مجرد "عقد استمتاع" وكأن ذلك كل غايته وأهدافه!

    والأسرة في المفهوم الإسلامي ليست تلك العلاقة المحدودة بالزوجين والأبناء (الأسرة النووية)، بل تمتد بامتداد العلاقات الناشئة عن رباط المصاهرة والنسب والرَّضاع، والذي يترتب عليه مزيد من الحقوق والواجبات الشرعية، مادية كانت كالميراث، أم معنوية كالبر والصلة والصدقات.. (الأسرة الممتدة).

    وتقوم في إطار الأسرة كوحدة اجتماعية علاقات بالكيان الاجتماعي العام من خلال علاقات الجوار (حقوق الجار)، والعلاقة بالفئات الاجتماعية الأدنى (الخدم) الذين أمر الإسلام بمعاملتهم على قدم المساواة مع أهل المنزل بناء على القيمة الإنسانية لا الطبقة الاجتماعية.

    وتتيح الأسرة الممتدة لأطفالها فرصاً ومصادر من الاقتداء والتفاعل ومصادر العطف والحنان، فتتعاظم الموارد الوجدانية والتعليمية للطفل.

    والأسرة في الإسلام تقوم على أساس ديني / إيماني، "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (رواه أبو داود). ولذلك وجدنا كثيراً من الأحكام المتعلقة بالأسرة مقرونة بنداء {يا أيها الذين آمنوا} كالميراث (النساء: 19)، والعِدّة (الأحزاب: 4،9)، وحرمة البيوت (النور: 27)، والتربية (التحريم: 6)، وغيرها.

    ويقرن الله تعالى بين توحيده وبين بر الوالدين (النساء: 36)، كما بين القرآن أن الالتزام بالتشريعات المنظِّمة للأسرة مبعثه الإيمان بالله تعالى (البقرة: 232)، وأن الغرض من استمرار بناء الأسرة هو إقامة "حدود الله" (البقرة: 230)، وهذا كفيل بأن يجعل الأسرة من العبادات.

    والأسّ المكين في بناء الأسرة في الإسلام هو التراحم، حيث يقول تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21). فالعلاقة ليست محض علاقة تعاقدية قائمة على أسس قانونية كما يريد لها دعاة "تحرير المرأة"، وكما هي في الغرب، {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} (النساء: 19)، و "لا يَفرك (أي يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (رواه مسلم).

    وأيضاً فإن الأسرة تقوم على المسؤولية الأخلاقية "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته... الرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" (رواه البخاري).

    وهذه المسؤوليات تتحدد (شرعًا) بتفصيلاتها، واستوعبتها كتب الفقه، كما أن لها ضمانات قضائية.

    وإذا كنا أشرنا إلى قصور المفهوم الفقهي للزواج فلم يكن غريبًا أن جمهور الفقهاء لا يرون من واجبات الزوجة خدمة الزوج والقيام بشؤون البيت.

    تحولات في الأسرة المسلمة

    وفي ظل المؤثرات الثقافية والتعقيدات الاقتصادية ظهرت أنماط جديدة وتحولات في الأسرة المسلمة؛ فشهدنا بعض الاختراقات للمفهوم الإسلامي للأسرة، فضلاً عن الممارسات الخاطئة.

    ومن الأنماط التي ظهرت مثلاً زواج المسيار، والزواج العرفي، والزواج المؤقت، ونحو ذلك.

    كما أننا لا ننكر أن ثمة اختراقات أخلاقية تمثلت في النزوع لإشباع الرغبة مع التحلل من مسؤوليات الأسرة والزواج، فكان أن انتشرت "الدعارة" في بعض الدول، فضلاً عن الإباحية التقنية وغير ذلك.

    لكن من المهم ملاحظة أن هذه الأنماط والممارسات تبقى على الدوام في إطار "الاختراقات" ولم تشمل المجتمع، وهي ظواهر محدودة بالنسبة للمجتمع العام. والأهم من ذلك هو أن المجتمع لا يزال ينظر إلى هذه الاختراقات على أنها "لا شرعية"؛ مما يفسر كونها ممارسات سرية، ومن ثم فإن منظومة القيم لم تتبدل مع وجود هذه الانحرافات، بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.

    وإذا كنا شرحنا أن الأسرة في المفهوم الإسلامي أسرة ممتدة فهل تعتبر غلبة الأسرة النووية على مجتمعاتنا اختراقاً آخر أو خروجاً من المفهوم الإسلامي؟

    صحيح أن المنزل هو القاعدة المادية التي تحدد – إلى درجة ما – نمط العلاقات بين الأفراد الذين يقطنونه، ولذلك وجدنا بعض تعاريف الأسرة تنص على "المنزل الواحد". والأسرة النووية ذات صلة بتعدد المنازل ونشأةِ فكرة "الاستقلالية" التي تأخذ في السياق الغربي قيمة ذاتية فردية.

    لكن لسنا نقول هنا: إن الأسرة الممتدة هي الأسرة الإسلامية حتى تخرج منها الأسرة النووية؛ فالعبرة كما قلنا بالروابط والعلاقات القائمة، لا بشكل الأسرة، وبهذا الاعتبار فإن التغير الذي أصاب الأسرة في مجتمعاتنا المعاصرة لم يتجاوز في كثير من الأحوال الناحية الشكلية؛ فلا تزال الروابط والعلاقات قائمة، بالرغم من أن الأبناء أصبحوا آباء، وذلك بناء على أساس ديني / إيماني (صلة الأرحام، وبر الوالدين).
                  

10-15-2004, 09:13 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية...(2 (Re: osama elkhawad)


    [6/11/2004]

    الأسرة في المفهوم الغربي

    أما الأسرة في المفهوم الغربي الحداثي فقد شهدت تحولات مختلفة، وربما يشكل عام 1500م وعام 1789م نقطتين بارزتين في تاريخ التحول. ففي عام 1500م وبداية القرن السادس عشر كانت الملامح الأولى للثورة الصناعية الكبرى، وفي سنة 1789م قامت الثورة الفرنسية وكانت تتويجاً لما ذهب في التاريخ باسم "عصر التنوير" (القرن الثامن عشر، وخاصة النصف الأول منه) الذي اتسم بشيوع الدعوة إلى استعمال العقل والانطلاق منه لمحاكمة الأوضاع القائمة.

    ودعا فلاسفة عصر التنوير ومفكروه إلى نبذ المجتمع القديم (الإقطاعي) وإرساء مجتمع جديد بدلاً منه تسود فيه حرية الإنسان وحقوقه. والحداثة ارتبطت بعصر التنوير وفكرته عن العقلانية الكلية، أي البحث عن المعرفة اليقينية وعن وسيلة للسيطرة على قوى الطبيعة والمجتمع.

    هذه المحطات التاريخية والتحولات الفكرية كان لها أثر كبير في التحولات الاجتماعية؛ ومن ثم نمط الحياة الأسرية في أوربا. ومن هنا وجدنا إحدى الدراسات عن "الأسرة في العصور الحديثة" في جامعة "يال" ركزت على المساحة التاريخية (1500-1789).

    لكن التغيرات التي شهدها المجتمع الغربي (الأمريكي والأوربي) فيما يتعلق بالمسائل الجنسية والهيكلية العائلية واستعمال المخدرات، تكمن في ظلال الستينيات من القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه ثورة الستينيات (أو الثورة الثقافية).

    لكن ثمة فروقا بين المجتمعين، فبينما تم إدماج التحولات الاجتماعية في أوربا مع التقاليد والعادات، أحدثت انقسامات اجتماعية عميقة في أمريكا، لكن دايفيد بروكس يؤكد في كتابه (البرجوازيون البوهيميون في الجنة) أن ثمة مؤشرات على أن أمريكا سرعان ما ستلحق بأوربا فتستوعب ثورة الستينيات الثقافية وتدمجها في العادات والتقاليد الأمريكية.

    والآن يمكن الحديث في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص، عن تحول في النسيج القيمي للأسرة، من تلك الأسرة الصغيرة بمعناها التقليدي إلى الأسر التي تنشأ بالاختيار الحر، والإرادة الحرة (اجتماع مجموعة من الناس حول عادات معينة، أو اشتراكهم في الانتماء لقيم معينة)، وصار يمكن الحديث الآن عن تشكيلات عائلية متنوعة، كالأسرة التي تشمل الأبناء بالتبني، والعائلات المختلطة والأسرة المثلية (أنثى/ أنثى، ذكر/ذكر)، والأسرة المتشكلة بالتقنيات الحديثة.

    وهذه التنويعات تعتبر مجموعة من الخيارات المتاحة والمتعددة، وخصوصاً بالنسبة للشواذ؛ حيث تحول الشذوذ من "الانحراف" إلى "خيار" أو "توجه" مقبول، وحصل الشواذ على الاعتراف الرسمي "بحقهم" في الزواج ومساواتهم في الحقوق مع الزوجين الطبيعيين (ذكر/أنثى) في بعض الدول كهولندا مثلاً، بل وإقرار بعض المؤسسات أو التجمعات الدينية في أمريكا!

    هذه التحولات/التنويعات في مفهوم الأسرة وأنماطها تأسست على اعتبار أن الأسرة "التقليدية" نمط اجتماعي تاريخي؛ مما يعني أنه يمكن تجاوزه وتشكيل بديل أو بدائل عنه، واستنادًا إلى الإرادة الحرة، والحق الفردي الطبيعي بمعزل عن فكرة الدين؛ الأمر الذي نتج عنه عدد من الظواهر كالأطفال غير الشرعيين، والإيدز، والممارسات الجنسية الحرة، وغير ذلك.

    ففي فرنسا مثلاً بلغت نسبة الولادة دون زواج 40% من مجمل نسبة مواليد سنة 1997م، وأكثر من نصف النساء 53% يضعن أطفالهن دون زواج شرعي، وتضاعفت ظاهرة المعاشرة دون زواج شرعي سنة 1999م مما يهدد بانقراض الأسرة الفرنسية "التقليدية" بحسب التقرير السنوي للدراسات الديمغرافية في باريس، الذي أكد أن الزواج أصبح عادة "روتينية" أقلع عنها الكثيرون.

    والمهم هنا أن الموقف حيال هذه الظاهرة يعكس الفلسفة التي تحكمها، ومن ثم فهي لا تعتبر في الحداثة الغربية "انحرافاً"، وإنما أشبه بالآثار الجانبية، ومن ثم يكون الحديث عن ممارسة "الجنس الآمن" وابتكار الواقي، ويأتي التبني، أو بيع وتأجير الأرحام، أو التلقيح الصناعي ليحل مشكلة "الإنجاب" للأسرة المثلية، ويأتي تقنين "الإجهاض" ليحل مشكلة الأطفال غير الشرعيين إلى غير ذلك.

    والحلول لا تقتصر على التقنية، وإنما تطاول قضية المفاهيم، وقد رأينا كيف تحول الشذوذ من "انحراف" إلى "خيار"، وكيف أن الدعارة تحولت من ظاهرة لا أخلاقية إلى حالة قانونية، فصار البغاء شرعيًّا في الولايات المتحدة وعموم أوروبا.

    إذن.. هذه التحولات -في نظرنا- محكومة برؤية فلسفية للإنسان والمجتمع قامت على أنقاض الدين وفكرة الإله، وكان مراد هوفمان قال: "إن المجتمع الغربي أول مجتمع يعيش الإلحاد عملياً".

    المفارقة بين المفهومين

    لكن السؤال المحوري هنا في سياق الحديث عن مفهوم "الأسرة" في السياق الغربي هو: ما الفلسفة التي تقوم عليها الأسرة؟

    يرى البعض أن مفهوم "الدولة" في الغرب حلّ محل "الأسرة" فأصبحت الدولة هي أم الشعب، ونظراً لأن الدولة لم تقم عندنا بالمعنى الدقيق بأدوارها ووظائفها (باستثناء السلطة التي عرفناها جيدًا)؛ فإن الأسرة المسلمة بقيت متحصنة، ومحتفظة بممانعتها ضد التحديث.

    لكن هذه النظرة غير دقيقة، فلا يمكن – من وجهة نظرنا – الكلام عن "إحلال" مؤسسة مكان أخرى واستبدالها، فالقضية تنبع من التحولات التي طرأت على المفاهيم التي أسستها الحداثة الغربية؛ فقامت الأسرة على المفهوم الغربي "للحق" الفردي، ومن هنا كانت اتفاقيات (حقوق الإنسان، وحقوق المرأة واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدها، وحقوق الطفل) التي سعت الأمم المتحدة باستمرار لتعميمها وفرضها على العالم باعتبارها النموذج المثال.

    ومن المهم أن نشير هنا إلى أن التحولات في الأسرة الغربية -والأوربية تحديداً- كان لقضية "تحرير المرأة" دور بارز فيها عن طريق خلق "موازين قوى" جديدة داخل الأسرة تم بناء عليها -مع الاستعانة بالآراء اللوثرية (نسبة لمارتن لوثر) في هذا الميدان- إعادة أهم جزء من الخارطة الاجتماعية.

    وكمثال، فإن المرأة الإيطالية بدأت "العزوف عن كثرة الإنجاب أو عن الإنجاب كلية أو حتى الزواج، وتطالب بتحول العلاقة بينها وبين الرجل إلى مفهوم المتعة التي يجب أن تتساوى فرصة الرجل والمرأة في الحصول عليها، وبالتالي تفضيل الوظيفة البيولوجية على الوظيفة الاجتماعية" (الحياة: 25/5/2002).

    بل إن فكرة "المساواة" باتت في نظر "النسوية" (حركة التمركز حول الأنثى) مطلبا متخلفاً، فالأنثى هي الأصل، ويمكنها الاستغناء عن الرجل تماماً، ويمكنها وتحصيل لذتها وإنجاب طفلها من دونه أيضًا!

    وبناء على مفهوم "الحق الطبيعي" في المنظومة الغربية الذي لا دخل للدين فيه، تم إعادة صياغة منظومة قيمية جديدة، كاللذة، والفردية، والاستقلالية، والحرية الجنسية، وحرية تكوين الاختيار الجنسي (الشذوذ)، وأن المرأة مالكة لجسدها ولها حرية التصرف فيه... والدولة هنا هي ضامن / مستند قانوني لحماية هذه الحقوق.

    وفكرة الحق والمساواة هذه أعادت صياغة مفهوم "السلطة" فتحولت من الأسرة كمؤسسة.. إلى الدولة، ومن هنا يمكن اللجوء إليها لصون حقوق الابن أو الأب أو الأم كل منهم ضد الآخر بالتوازي، وبالتالي تقلص دور الأسرة مع وجود مؤسسات أخرى تقوم بدورها كالمدرسة والإعلام والمجتمع التعاقدي.

    بل إن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م) اعتبرت "الأمومة" وظيفة اجتماعية يمكن أن يقوم بها أي إنسان.

    وهنا نفهم جيداً معنى "الفراغ العاطفي" الذي تعيشه الناشئة في الغرب. وكان الأديب الفرنسي ميشال هواليبيك تحدث عن الصورة المريعة للفراغ العاطفي في أوربا في كتابه (الجزئيات الأساسية) الذي حقق أعلى نسبة مبيعات في أوربا.

    فالأسرة في السياق الغربي الحداثي تقوم على أساس تعاقدي، ومن هنا تقلصت مفاهيم وقيم التماسك بين الأفراد والتضامن والتراحم، ومسؤولية الأبوين، ومن ثم تنتهي تماماً المسؤولية العاطفية والأخلاقية عند بلوغ الطفل السادسة عشرة، وتنتهي المسؤولية الاقتصادية بعد ذلك ببضع سنين.

    وفي شرح لنتيجة انهيار الأسرة، والفراغ الوجداني الذي خلفها، يذكر ألين بيور وإيميل بيريز في كتابهما (أمريكا: العنف والجريمة) أن معدل الجريمة الأمريكية - مثلاً - طبقاً لسنة 1998م بلغ ما يلي:

    وقوع جريمة سرقة عادية كل 3 ثوان.

    وجريمة سطو كل 14 ثانية.

    وجريمة سرقة سيارة كل 25 ثانية.

    وجريمة سرقة مقرونة بالعنف كل 60 ثانية.

    وجريمة اغتصاب كل 6 دقائق.

    وجريمة قتل كل 31 دقيقة.

    ويقدر إجمالي كلفة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة (عدا المخدرات) بأكثر من 700 بليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يجاوز إجمالي الدخل السنوي الفردي في نحو 120 دولة في العالم.

    ويقدر عدد المتعاطين للمخدرات بنحو أكثر من 12 مليون شخص في أمريكا وحدها، هذا مع الانخفاض الملحوظ في المعدلات التي بدأت سنة 1991م.

    أما الأسرة في المفهوم الإسلامي فتقوم على أساس تراحم مبني على الإيمان الديني، وعن هذا الإيمان ينبثق الالتزام بتشريعات وقوانين الأسرة، وفي مقابل الحق الفردي في المفهوم الغربي يأتي الواجب الديني، وفي مقابل الحرية المنفلتة من أي ضابط، تأتي المسؤولية الأخلاقية، وبينما يتم إشباع اللذة بالممارسة الحرة بوصفها حقاً مدعوماً بالحرية، في الرؤية الغربية، يكون إشباع اللذة في الرؤية الإسلامية بالزواج فقط، وبتحمل مسؤولية المساهمة في بناء المجتمع الصالح، والفرد الصالح، وفي حين تشكل اللذة الجنسية نمط حياة الغربي، يتم دمج النشاط الجنسي في حياة المسلم باعتباره شكلاً من أشكال العبادة، "وفي بُضع أحدكم صدقة" (رواه مسلم).

    لهذه الاعتبارات كلها وغيرها، وجدنا تفاوتاً كبيراً بين الانحرافات الاجتماعية في الغرب وبين الانحرافات في المجتمعات الإسلامية بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.

    عولمة المفهوم الغربي

    ومع هذه المفارقة البالغة حدَّ التناقض بين المفهومين نرى أن ثمة محاولات عديدة لفرض النموذج الغربي وعولمته، عبر الإعلام بوسائله المختلفة، والنخبة المتغربة، باعتباره يندرج في عملية "التحديث"، ويتصل بمفهوم "حقوق الإنسان" (بالمفهوم الغربي)، ومن هنا لم يكن غريباً أن يدافع الحداثيون العرب عن الشواذ المصريين، وأيضًا عبر مؤتمرات الأمم المتحدة، وتسخير سلطتها لشَرْعنة النموذج الغربي قانونيا وسياسيًّا من خلال اتفاقيات تتعهد الدول الأعضاء بالإذعان لها، وتنفيذها عبر لجان ومؤسسات تراقب عملية التنفيذ.

    ولعل أبرز تلك المؤتمرات والاتفاقيات: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م)، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994م)، ومؤتمر بكين (1994م)، والتي ركزت على قضايا مركزية في المفهوم الغربي هي: الحرية الجنسية، والإجهاض، ومصطلح الجندر (بدل لفظ الجنس، ليشمل "التوجهات" الجنسية: اللواط، والسحاق)، وحقوق المرأة الفرد وليس العضو في الأسرة، والمساواة / المماثلة التامة بين الذكر والأنثى، وإلغاء مفهوم "تمايز" الأدوار، وازدراء "الأمومة"، واعتبار العمل المنزلي "بطالة"؛ لأنه من دون مقابل مادي.

    والأمر لا يقتصر على مقررات الأمم المتحدة، فثمة جماعات تتمتع بسلطة التأثير في القرار السياسي، وتشكل قوة ضغط، من أبرزها "جماعة الشواذ" التي لها دورها في الضغط على إدارة مؤتمرات الأمم المتحدة، واستطاعت جذب جماعات مسيحية ومسلمة إليها، وهناك "جماعات الحق في الاختيار" و"حق المرأة في الإجهاض" واستطاعت ترجيح كفة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في انتخابات (1992 - 1996م) واستمالت قوى دينية وقساوسة إليها.

    تعميم النموذج الإسلامي

    فإذا كان هذا حال الأسرة في الرؤية الغربية، وهذه أدوات عولمتها دوليًّا، ومحليًّا من خلال التنظيمات النسوية، فماذا فعلنا نحن تجاه المفهوم الإسلامي للأسرة؟ وإلى متى سنبقى في مرحلة الدفاع عن "الأسرة" المسلمة ونحن "أصحاب رسالة يجب أن يصغي لها الجميع"، بحسب قول مراد هوفمان؟

    إن عودة "الله" للمجتمعات الغربية تغدو الحل الحاسم باعتباره القيِّم على القيم، ويمكن لتعاليم الإسلام الكثيفة، والتي تشكل "نظرية اجتماعية" أن تقدم "دواء شافيًا" في المجال الاجتماعي، وتعيد لشبكة العلاقات الاجتماعية تماسكها ووحدتها، وتسد الفراغ العاطفي؛ فالعلاقة الروحية بين الله والإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية في صورة القيمة الأخلاقية كما شرحه مالك بن نبي، وكلما ضعف الدين ازداد الفراغ الاجتماعي بين الأفراد وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". فكيف إذا غاب؟!

    لكن يواجهنا سؤال جوهري هو كيف يمكن لنا أن نقدم خطاب الأسرة الإسلامية إلى الآخر بوصفه "دواء" ليحقق الفاعلية الاجتماعية في الغرب؟ هذا يحتاج لمعالجة مستقلة مع بحث السبل والوسائل اللازمة لذلك.


                  

10-15-2004, 02:11 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة والتباين والغربنة (Re: osama elkhawad)


    يسيطر على مفهوم الحداثة التباين. فالحداثة تأخذ معناها من الذي تنكره والذي تؤكده ولهذا يظهر هذا المفهوم في معانٍ مختلفة تعتمد في اختلافها على ما الذي يُنكر وبالمقارنة ما الذي يُؤكد. فبالنسبة للقديس أغسطين في القرن الخامس الميلادي، عبرت الكلمة اللاتينية (modernus) عن رفض الوثنية وإقامة عصر جديد من المسيحية. أما مفكرو عصر النهضة فأعادوا إحياء أو استدركوا الإنسانوية الكلاسيكية، وميزوا ما بين الدول والمجتمعات القديمة والحديثة. عصر الاستنارة في القرن الثامن عشر، لم يكن فقط "الوسيط" ما بين "القديم" و"الحديث" ولكنه أيضاً ربط الحديث بـ "هنا والآن"[1]. وقد زاد هذا بعدا جديدا لمفهوم الحداثة. المجتمع الغربي، الذي عبر عن التباين مع المجتمعات السابقة، أصبح شعار الحداثة، وحدد ذلك الخطوط الخارجية أو المعالم الأساسية للحداثة. ولهذا أصبحت الحداثة تساوي الغربنة (westernization).

    أمسى المجتمع الحديث مجتمعا صناعيا وعلميا. وعبر شكله السياسي عن نفسه من خلال الدولة القومية المدعمة بالسيادة العامة. وقد أعطى دوراً كبيراً للاقتصاد والنمو الاقتصادي. فلسفته الرئيسية هي العقلانية (rationalism)[2]. وفي هذا السياق رفض مجتمع الحداثة ليس فقط ماضيه ولكن كل الثقافات التي لا تعكس معانيه الداخلية. ان من الخطأ القول ان الحداثة تنكر الماضي وذلك لأن المقارنة مع الماضي تبقى وبشكل مستمر مؤشرا للتمييز بين الماضي والحاضر. ومجتمع الحداثة يدعم التجديد، في هذا الإطار مكن القول بأنه خلق أو أوجد ما يسمى بـ "التقليد الجديد" (The tradition of the new). فكما يقول الأستاذ بودريلارد (Baudrillard): "الحداثة ليست مفهوماً اجتماعياً، ولا مفهوماً سياسياً، ولا مفهوماً تاريخياً بدقة التعبير، إنها نمط حضاري متميز يناقض النمط التقليدي وهي تتميز في كل الميادين: دولة حديثة، تقنية حديثة، موسيقى ورسم حديثين، عادات وأفكار حديثة وهي متحركة في صيغها وفي مضامينها، في الزمان والمكان وليست ثابتة وبهذا هي تشبه التقليد." وبما ان الحداثة ليست مفهوماً للتحليل وليست لها قوانين وليست ثمة إلا ملامح للحداثة، ليست لها نظرية بل منطق للحداثة وأيديولوجية فهي إذن تقليد أي تقليد الحداثة.

    لقد حازت الحداثة (المجتمع الصناعي الحديث) على تحليل شامل في كتابات المفكرين الاجتماعيين الرئيسيين من القرن التاسع عشر، أمثال هيجل، ماركس، توكيفيك، فيبر، سيمل، وديركهايم. ويبقى لتحليل هؤلاء المفكرين علاقة وثيقة بأوضاع مجتمعات هذا اليوم. إلا ان نمو معالم جديدة في يومنا هذا، مثل عالمية الاقتصاد، تراجع الدولة القومية، والهجرات السكانية الكبيرة، قد أدت ببعض المفكرين إلى افتراض نهاية الحداثة. لقد شدد جيفري باراكلاو على ان التاريخ المعاصر هو شيء مختلف عن التاريخ الحديث. كما قال آخرون مثله ان الحداثة قد انتهت واننا في عصر ما بعد الحداثة.

    العديد من الأكاديميين المعاصرين يصرون على ان هذه الادعاءات غير مقنعة، وذلك بسبب قناعتهم بأنه يمكن إرجاع جذور التطورات التي سبق ذكرها إلى الحداثة الكلاسيكية. وهم في هذا يشددون على أننا لا نستطيع ان ننظر إلى تقليد الحداثة على أنه شيء ثابت غير متحرك. فقد سعى المفكران السوسيولوجيان سيمل وفيبر إلى إثبات ديناميكية الحداثة من خلال إبراز ما هو موجود من صراعات داخلية مستمرة في أجزائها مما يعطيها حركة مستمرة وتجديدا مستمرا في بناها الداخلية، الأمر الذي يعزز فكرة ان الحداثة مبنية على مفهوم التجديد المستمر، وبالتالي، مسألة إعطاء اسم جديد للتطورات التي حدثت وتحدث في يومنا هذا هي مسألة تتناقض والمفهوم الديناميكي للحداثة.

    وما يجدر ذكره في هذا الصدد ان كثيرا مما يظهر في إطار ما بعد الحداثة عبّر، في البداية، عن نفسه في الثورة الثقافية ضد الحداثة والتي كانت مؤشرا للحركة التي عرفت بالتحديثية (Modernism). ترجع جذور هذه الحركة إلى بداية القرن العشرين. وقد سعت منذ بدايتها إلى تبني ورفض بعض معالم الحداثة مبينة في ذلك مظاهر الجديد وبانية، اعتماداً على هذا، صحة ضرورة إعطاء اسم جديد لحقبة تاريخية جديدة في بناها الداخلية ومختلفة عن ما هو موجود في سابقتها "الحداثة".

    ما لا يمكن إنكاره هو ان مجتمع الحداثة في يومنا هذا ليس نفسه الذي كان سائداً في الفترة التاريخية التي عاش فيها ماركس وفيبر. إلا أنه كما ذكرنا سابقاً: الحداثة هي مبدأ المجتمع الغربي ولهذا لا نستطيع ان ننظر إلى الفترة المعاصرة كحقبة بعيدة كل البعد عن مبادئ الحداثة، فهي استمرار لها في التطورات الجديدة التي أحدثتها. ان التزام تقليد الحداثة بالنمو والتجديد المستمرين يتطلب اعتبار المعالم والأشكال الحالية لمجتمع الحداثة على أنها مؤقتة. ولهذا فانه من الضروري التوقع المستمر لنمو معالم جديدة في المجتمع في الإطار العام للحداثة نفسها.



    د. نديم مسيس-جامعة بيرزيت


    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] "هنا والآن" إشارة مستخدمة للتدليل على الاهتمام بالواقع اللحظي المعاصر المرتبط بالأفراد في حياتهم اليومية (الدنيوية).

    [2] العقلانية هي الاتجاه الفكري الذي أرساه ديكارت، والذي تميز بالارتكاز إلى العقل في اكتشاف الحقيقة.
                  

10-15-2004, 02:16 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تناقضات الحداثة العربية و تعريفاتها المختلفة (Re: osama elkhawad)



    تناقضات الحداثة العربية

    الأستاذ الدكتور كريم الوائلي

    إنَّ مصطلح الحداثة بالغ الغرابة عند الغربيين، إذ يبدو عند رينيه ويليك مصطلحاً قديماً فارغاً [1]، أو هو مصطلح مطاط كما يرى روجر فاولر [2]، وقد تعددت الآراء حول طبيعته، بحيث دفعت مالكوم برادبري إلى تأكيد أن «هذه التسمية تحتوي على الكثير من ظلال المعنى الذي لا تنجح في استخدامه بصورة دقيقة »[3].

    ولقد تأثر تحديد هذا المصطلح بتصورات مفكري التنوير الذين يؤكدون على العقلانية العلمانية والتقدم المادي والديمقراطية، كما قد اسهم في تأسيس أصوله مفكرون تميزوا بتمردهم على الأسس التقليدية، وجعلوا كثيراً من اليقينيات محط تساؤل، مثل التصورات الدينية والاجتماعية والأخلاقية، ولعل أبرز هؤلاء : فردريك نيتشه، وكارل ماركس، وسيجموند فرويد ـ ولذا فإن الحداثة تنطوي على قدر كبير من الاختلاف الجذري مع الأسس التقليدية للثقافة والفن في الغرب[4].

    وتعبر الحداثة الغربية عن الفوضى الحضارية والفكرية التي عمت الحياة والتي جاءت بها الحرب العالمية الأولى [5]، كما أنها تعكس صورة القوى الاجتماعية التي كونتها، بمعنى أنها جزء من «عالم يتجدد بسرعة، عالم التمدن والتقدم الصناعي والتكنولوجي » ولذلك فإن المبدعين والرسامين قد «عكسوا في بياناتهم ومعارضهم ما بين 1909 - 1914 أهمية القوى والأشكال المستمدة من العالم المحكوم بالآلة والتكنولوجيا »[6] ، وفي ضوء هذا فإن الحداثة ليست وليدة قطر بعينه، وإنما هي حركة « عالمية ولدتها قوى مختلفة بلغت ذراها في دول مختلفة وأزمان مختلفة، كان مكوثها في بعض الأقطار طويلا وفي بعضها الآخر مؤقتا، في بعض الأقطار أساءت الحداثة إلى تراثها الموروث كالتراث الرومانسي والفكتوري والواقعي والانطباعي ، وفي أقطار عدت نفسها تطوراً لذلك التراث»[7] .

    وتميزت الحداثة الغربية بخصوصيتها الزمانية والمكانية من ناحية، وبطبيعة التيارات الفكرية والفنية التي تشتمل عليها، من ناحية ثانية، إذ تبدأ الحداثة ـ زمانيا ـ في أواخر القرن التاسع عشر، وتبلغ ذروتها في الربع الأول من القرن العشرين، وتمتد مكانيا من روسيا إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وتضم مذاهب مختلفة في الفن والأدب كالمستقبلية والتصويرية والانطباعية والسريالية، ومن الملاحظ أن هذه المذاهب استخدمت مصطلحات أخرى غير مصطلح الحداثة تدل على إبداعها، فلقد استخدم إليوت مصطلح الصورية Imagism، وآثر أبولينيز مصطلح الشعر المحسوس أو المجسد concrete poetry، في حين تبنى آخرون السريالية والتكعيبية [8]، وقد دفع هذا التمايز والتفاوت باحثا ـ صالح جواد الطعمة ـ إلى القول : إن الحداثة « ليست أحادية اللغة، وليست أحادية الأصل، وليست مرتبطة بمرحلة زمنية واحدة، بل متعددة اللغات، ومتعددة الأصول، ونتاج مراحل زمنية متداخلة »[9] .

    وتثير الحداثة معضلات ماهيتها وتاريخيتها على السواء، فهي ليست مصطلحاً خاصاً بالنقد والأدب، ولكنها تشير إلى صيغ عديدة دالة على الحضارة والتقدم، فهي ابتداء، تدل على التغاير مع الأنماط السابقة، وتتمرد على خصائصها وسماتها، بمعنى أنها ليست « مفهوماً سوسيولوجياً، أو مفهوماً سياسياً، أو مفهوما تاريخيا يحصر المعنى وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية »[10]، وقد قاد هذا إلى توصيفات مرافقة لتحديد دلالتها مثل : الحداثة الأولية : Proto - Modernism والحداثة البدائية : Pala - Modernism والحداثة الجديدة: New - Modernism وما بعد الحداثة : Post - Modernism .

    أما الدارسون العرب فإنهم يتفاوتون ـ أيضا ـ في تحديدهم لماهية الحداثة ووظيفتها، إذ لها خصوصيتها من الناحية اللغوية من ناحية، وصعوبة تحديد دلالتها الاصطلاحية من ناحية ثانية، فهي من الناحية اللغوية تستدعي معارضها أو نقيضها، إذ لا يقال : « حدث ... إلا مع قدم » «والحديث نقيض القدم »[11]، بمعنى أن دلالة معارضها لا تغيب، وإن فاعلية نقيضها تسهم في تحديد ماهيتها، أما من الناحية الاصطلاحية فهي من الألفاظ المشوهة عند منذر عياشي،[12] في حين تبدو عند الروائي عبد الرحمن منيف من «أكثر المصطلحات خلافية بسبب عدم تحدد معناه بدقة وعدم معرفة أسباب وظروف نشأته وبسبب عزله عن سياقه التاريخي وطغيان إحدى دلالاته الجزئية على المفهوم »[13] ويرى أدونيس أن الكلام عنها « يكاد يكون لغوا »[14] ويذهب حمادي صمود إلى أن تحديد دلالتها أمر عسير، لأنها ما تزال غير محددة في أوربا، وإذا حددت فإنها تخضع للمواقع المختلفة، والانتماءات المتباينة للكتاب والتزاماتهم [15].

    وقد أحدث تعريب مصطلحي Modernity وModernism إرباكا لدى القاري العربي، إذ يبدوان مصطلحاً واحداً فتم تعريبهما بكلمة واحدة « الحداثة »، وميز آخرون بين الحداثة Modernity والحداثوية والحداثانية Modernism لأن المصطلح الأول لا يتقيد باشتراطات مذهبية أو مفهومية في أدب أمة معينة، أما الثاني فإنه يدل على حركة أدبية ونقدية معينة لها سياقاتها التاريخية والمعرفية والفنية في الأدب الغربي [16].

    ويختلط مفهوم الحداثة بدلالة مصطلحات أخرى كالمعاصرة والتجديد، ويبدو عباس محمود العقاد أبرز من عني بدلالة الحداثة والمعاصرة في أوائل القرن العشرين، ويرفض ما توهمه الشعراء الاحيائيون من أن الحداثة تعني وصف المخترعات الحديثة في أشعارهم وآدابهم، ذلك أن الوصف فعل عقلي يسقط فيه الشاعر رؤاه الذهنية على سطح الأشياء الكائنة في الخارج ،ويتبنى العقاد التعبير عن تجربة انفعالية متخلقة في أعماق الشاعر، ولذلك تتحقق الحداثة « عندما يشعر الشاعر أن له شيئا يقوله، ويستحق هذا الشيء أن يقال ،وإن الشاعر الذي يصف الطائرة ليس بالضرورة شاعرا عصريا، والذي يصف الجمل ليس شاعرا قديما »[17].

    ويحدد عز الدين إسماعيل موقفه في ضوء نـزعة وسطية تتجاوز نمطين متعارضين ومتباعدين : النظرة السطحية لمعنى العصرية التي يتحدث فيها الشاعر « عن مبتكرات عصره ومخترعاته، ظنا منه أنه بذلك يمثل عصره »[18] أو « الدعوة المغالية التي تدعو إلى العصرية المطلقة والتي توشك أن تنفصل نهائيا عن التراث »[19]،ويخلص من ذلك إلى أنه «ليس المجدد في الشعر إذن هو من عرف الطيارة والصاروخ وكتب عنهما، فهذه في الحقيقة محاولة عصرية ساذجة، فالشاعر قد يكون مجددا حتى عندما يتحدث عن الناقة والجمل »[20].

    وتمايز خالدة سعيد بين الحداثة والتجديد لشمولية الأولى وخصوصية الثاني، لأن التجديد أحد مظاهر الحداثة ،بمعنى أن الجديد « هو إنتاج المختلف المتغير ... الجديد نجده في عصور مختلفة، لكنه لا يشير إلى الحداثة دائما »[21] إن الاختلاف والتباين تحدد أن ماهية الجديد لتعبيره عن واقع مختلف متجدد، ولاستخدامه معايير تغاير الماضي ولا تنفيه أو تلغيه، أما الحداثة فإنها تتضمن الجدة وتتجاوزها في آن ولذلك فهي ترتبط «بالانـزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعا مع المعتقدات ... ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة»[22]وبقدر ما يؤكد هذا العلاقة الوثيقة بين الحداثة والتطور فإنه يشير إلى ارتباط التغير بأنماط إنتاجه وعلاقاته بها، بحيث يتبدى العلاقة الجدلية بين المعرفة والبنية التحتية في ضوء تجلياتها الماركسية المعروفة، إذ ليست الحداثة مقترنة بمظاهر شكلية كالوزن والقافية، أو قصيدة النثر، أو أنظمة القص والسرد، وإنما تتجاوز ذلك إلى « ثورة فكرية »، بمعنى أنها «لا تنفصل عن ظهور الأفكار والنـزوعات التاريخية التطورية وتقدم المناهج التحليلية التجريبية، وهي تتبلور في اتجاه تعريف جديد للإنسان عبر تحديد جديد لعلاقته بالكون . إنها إعادة نظر شاملة في منظومة المفهومات والنظام المعرفي، أو ما يكون صورة العالم في وعي الإنسان، ومن ثم يمكن أن يقال إنها إعادة نظر في المراجع والأدوات والقيم والمعايير »[23].

    ويصدق هذا الوصف على الحضارة الغربية لأنه من المستبعد أن يكون المجتمع العربي قد شهد كل هذه التغيرات من أنساقه المعرفية المتطورة وثوراته الفكرية الهائلة، ولكن خالدة سعيد تصر على تطبيق ذلك على المجتمع العربي وإبداعاته الفنية، وترى إن الحداثة لا تولد فجأة، ولكنها تتناسل بسبب تراكم معرفي، وتنطلق من مرحلة إلى أخرى، على الرغم من تعارض المرحلية مع خروقات الحداثيين، إذن فالحداثة حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد الأوائل مثل جبران خليل جبران وطه حسين، إذ يمثل فكرهما« قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية، كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، وأقام مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري، فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين »[24].

    ولم يقتصر دور الباحثين العرب على تمايز دلالة الحداثة عن مصطلحات مرافقة أو مصاحبة، ولكنهم أسهموا أيضا في تحديد ماهية الحداثة وسماتها الداخلية، فلقد بحث كمال أبو ديب عن معيار علمي منضبط يحدد للحداثة خصائصها، ويحاول التوصل إليه في ضوء ثلاثة مكونات :

    1ـ اتساع نطاقها : إذ يشمل مفهوم الحداثة الآداب والفنون ويتجاوزهما إلى التكنولوجيا كصناعة السيارات، وهي عامة بحيث تشتمل على أية حداثة، معاصرة أو قديمة، عربية أو أعجمية.

    2 ـ مفهوم مطلق للحداثة يتجاوز السياقات التاريخية والاجتماعية، فهي ظاهرة لا تاريخية، وأن مكوناتها « لا زمنية » .

    3 ـ وعي ماهية الحداثة في ضوء إدراك نقيضها « اللاحداثة، ويتكئ أبو ديب على منجزات رومان ياكبسون انطلاقا من تصور أساسي تقوم عليه اللغة مكون من بعدين : الرسالة والترميز، وتتحدد في أنها تركز على النظام في الرسالة، أما الحداثة «فإنها تنـزع إلى نقل محور الفاعلية الإبداعية من مستوى الرسالة إلى مستوى الترميز »[25] ويضرب أبو ديب مثلا على ذلك العلاقات الخلاقة بين الحد والحد، والجد واللعب، والسيف والكتب، في بيت أبي تمام :

    السيـف أصـدق أنبـاء مـن الكـتب فـي حـده الحـد بـين الجـد واللعـب

    إن أبا ديب يتبنى مفهوماً مطلقاً للحداثة وفقاً لمفاهيم الفكر الغربي، وتأسيسا على مفاهيم ياكبسون اللغوية، مما دفع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي إلى القول إن هذا « قفز فوق المشكلات، وهروب من الأسئلة الحقيقية التفصيلية التي من شأنها أن تصيب معرفتنا بعدم التوازن »[26]،وهذا يعني أن حجازي يرفض المفهومات القبْلية المنسوخة من الآخر، ويدعو إلى استقراء إبداعنا الحديث وتحليله لمعرفة ما فيه من حداثة، حتى لا نفرض عليه مفهوماً للحداثة، وليس فرضا لمفهوم وافد عليه، مما يبعث على تحريفه مما قد لا يستقيم مع منطق تطوره.

    إن ما يدعو إليه كما أبو ديب حداثة ذات منحى عالمي، وتعود في مرجعيتها الأساسية إلى المركزية الغربية، بمعنى أنها تتضمن خصوصيتين زمانية وأيديولوجية، وكلتاهما كائنتان في الغرب، وبحسب سياقاته التاريخية والاجتماعية، وأن تطبيقها في واقع آخر مغاير سيقود حتما إلى اغتراب حقيقي، ومن ثم تفقد فاعليتها، إن هذه الحداثة تنتظم في إطار المرجعية المعرفية الغربية بتاريخها وثقافتها الخاصة، بمعنى أنها تمثل الطرف الفاعل في المعادلة، في حين تمثل الثقافة العربية الطرف المنفعل الذي يتلقى الأصول وينسخها، ثم يشكل في ضوئها حداثة عربية ‍‍‍‍.

    وإذا كان كمال أبو ديب يدعو إلى حداثة تصدر عن الآخر فإن محمد عابد الجابري يريد أن تنطلق الحداثة« من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل »[27]، وإذا كان أبو ديب يدعو إلى حداثة مطلقة كلية وعالمية فإن الجابري يتبنى حداثة تاريخية وزمنية بمعنى الدعوة إلى حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر[28]، وما دامت الحداثة كذلك فإنها تخضع ـ شأنها شأن الظواهر التاريخية ـ للظروف التي ترسمها « لصيرورة على خط التطور »[29].

    ولا يختلف شكري عيّاد عن الجابري في تأكيده « إن الحداثة مفهوم تاريخي متغير»[30]، بمعنى أنها تتحدد في ضوء السياقات التاريخية والاجتماعية، ولذلك فهناك حداثة عربية في القرن الثاني الهجري، وهناك حداثة أوربية معاصرة، وهي ـ بحسب عياد ـ «حداثة قوم مختلفين لهم تطورهم وظروفهم ومتغيرات واقعهم »[31].

    بقي أن أشير إلى أن سلمى الخضراء الجيوسي تجعل الحداثة قرينة علاقة البناء الفني بالزمن، فهي لا تعد الشاعر حداثيا لأنه يبدع قصيدة النثر فحسب، وإنما تعده حداثيا «لأن موقفه من العالم ورؤيته للحياة تتكئ على وعي بضياع الإنسان الحديث في عصر الآلة »[32]، ويقرن محمد بنيس الحداثة بإمكانية الصيغ التعبيرية للنص في استيعاب حركة الواقع [33]، ويؤكد أن الأدب العربي قد حقق شيئا في مجال الحداثة، ولكن العقل العربي «على مستوى التنظير فاشل في تحديد مصطلح الحداثة وعاجز عن متابعة التقدم المنجز في الإبداع الفني »[34].

    مفهوم الحداثة عند أدونيس :

    ويعد أدونيس « علي أحمد سعيد » أبرز من تكلم عن الحداثة، فهي هاجسه الأكبر في الإبداع والتنظير، ويتأسس مفهوم الحداثة لديه في ضوء المغايرة والاختلاف، والمعاصرة والتجريب، ويميز أدونيس ـ ابتداء ـ بين المغايرة الشكلية والجوهرية، فالمغايرة الشكلية مقصودة لذاتها، ولا تعني شيئا مضافا، إذ لا تتجاوز الفعل الذي يقوم على إنتاج النقيض، بمعنى أن الإبداع يناقض الذي سلفه لمجرد المغايرة [35]، ويصدق هذا على الإبداع وغيره، فالخوارج ـ كما يرى أحد الباحثين ـ ليسوا محدثين على الرغم من اختلافهم وتغايرهم عن معاصريهم[36]، أما المغايرة الجوهرية الحداثية فن الإبداع فيها يتغاير « من حيث التجربة وأشكال التعبير »[37] ، ومن ثم فهو مختلف عما سبقه، وليس مؤتلفا معه .

    وفي ضوء هذا تسهم المغايرة الجوهرية في تحديد ماهية الحداثة وخصائصها، وهي تعني ـ عند أدونيس ـ التغاير مع الماضي العربي والآخر الغربي في آن، وقد أكد ذلك بقولـه : « تقتضي الحداثة قطعا مع التأسلف والتمغرب »[38]غير أن القطع مع الماضي ليس مطلقا، فلقد انتج الماضي أنماطا معرفية آنية وفقا لأنساق اجتماعية وتغيرات تاريخية معينة، فهي تعبر عن مرحلة ينتهي تأثيرها بمجرد انتهائها، وتختفي قيمها بزوال مسببها . كما قد انتج الماضي قيما إنسانية وأنماطا معرفية فاعلة ومتجددة، ولا ريب أن الأنماط المعرفية في الحالة الأولى تقيد تفكير الإنسان وتعيقه في صنع حاضره ومستقبله بفاعلية[39]، وهذا يعني أن أدونيس لا يخرج على كل قيم الماضي وإنما يتمرد على « النظام السائد »[40] في كل أنظمة المعارف والثقافة والفكر التي تمثل الماضي بمفهومه السلبي، ويتحدد موقفه في ضرورة تهديمها تماما، ولذا فالكتابة الإبداعية الحداثية هي التي « تمارس تهديما شاملا للنظام السائد وعلاقاته ـ أعني نظام الأفكار»[41] ، ومن ثم فلا «لا تنشأ الحداثة مصالحة، وإنما تنشأ هجوما . تنشأ إذن، خرق ثقافي جذري وشامل، لما هو سائد »[42].

    وفي الوقت الذي يسعى فيه إلى تهديم النظام السائد يعمد إلى بناء « طرق معرفية لم توْلف، وتطرح قيما لم تؤلف »[43]ومن ثم فالحداثة لا تفارق الرفض والتمرد لأن الرفض خروج على النظام المعرفي السائد والتمرد تجاوز أو خرق له وتقديم بديل عنه.

    وتسهم المغايرة مع الآخر في تجلية ماهية الحداثة عند أدونيس، فالحداثة العربية ليست نسخا وتقليدا للآخر وليست « مقاييس الحداثة في الغرب مقاييس للحداثة خارج الغرب »[44]بمعنى أن المماثلة بكل أشكالها وأنماطها إنما هي استلاب كامل للإنسان العربي، لأنه، والحالة هذه، يحركه الشعور بالنقص إزاء التراث لعدم إمكانية تجاوزه، وإزاء الآخر في عدم قدرة مجاراته، وفي كلتا الحالتين يوسم الشعر بالتخلف لأنه في حالة محاكاة الشعر العربي القديم يعيد الشاعر « إنتاج الوهم الأسطوري ـ التراثي » وفي حالة مماثلة الآخر الغربي « يعيد إنتاج شعر ذلك الآخر »[45].

    وفي ضوء هذا تعني المغايرة تجاوز المحاكاة والتقليد، لأننا في هذه الحالة إنما نعيد «إنتاج العلاقات نفسها، علاقة نظرة الشاعر بالعالم والأشياء، وعلاقة لغته بها، وبنية تعبيره الخاصة التي تعطي لهذه العلاقات تشكيلا خاصا »[46].

    أما المعاصرة فقد تدل على التزامن، وهو تحديد شكلي باقتران الحداثة بالزمن، ومن ثم تتجه العناية إلى زمانية الشاعر وليس إلى بنية النص، ويعي أدونيس ذلك تماما، لأن الحداثة ليست عصرية بزمنيتها وإنما الحداثة « خصيصة تكمن في بنيته ذاتها »[47]،ولم يقتصر الأمر على مجرد تجاوز الفهم الشكلي للمعاصرة وإنما ضرورة تجاوز المضامين العصرية إلى استحداث مضامين مختلفة، بمعنى تجاوز وصف إنجازات العصر وقضاياه، لأن الوصف ـ كما سبق أن أشرنا ـ يرتكز إلى رؤية تتكئ على مقاربات تقليدية، تماما كما فعل الشعراء الاحيائيون، ويضم إليهم أدونيس « بعض الشعراء باسم بعض النظرات المذهبية الأيديولوجية»[48].

    وإذا كانت المغايرة والمعاصرة يحددان للحداثة جانبا مهما من خصائصها وسماتها فإن التجريب يتمم للحداثة بنيتها العميقة، على الرغم من اتساقه بالانفتاح وعدم التحدد، ويشير أدونيس ـ بتشاؤم ـ إلى تجريب قصيدة النثر، إذ ترتكز قصيدة النثر على بناء داخلي يشتمل على مكونات الحداثة وفي ضرورة الفهم والتجاوز معا، ولذلك ينسجم هذا مع مقولات أدونيس عن الحداثة، وما يصدق عليها يصدق على قصيدة النثر أيضا، وان الحداثة تؤكد بإطلاق على أولية التعبير بمعنى أن « كيفية القول أكثر أهمية من الشيء المقول، وإن شعرية القصيدة أو فنيتها هي في بنيتها لا في وظيفتها »[49]، وبذلك يتم التأكيد على النص في ماهيته وفي بنائه الداخلي، ونسيجه اللغوي ومن ثم تقود الحداثة ـ وقصيدة النثر منها ـ إلى « تغيير في نظام الأشياء، وفي نظام النظر إليها » .

    مفهوم الحداثة عند جابر عصفور :

    ويمكن تأمل مفهوم « الحداثة » عند جابر عصفور في ضوء ثلاثة مكونات :

    أولها : دور الأنا الفاعلة في تحديد ماهية الأنا من ناحية، والوعي الضدي وأثره في تدعيم المكونات البنائية للحداثة .

    ثانيها : المدى الجغرافي للحداثة ( المدينة )

    ثالثها : كون الحداثة وجها آخر للتحديث .

    وتنبثق الحداثة من اللحظة التي « تتمرد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك، سواء أكان إدراك نفسها من حيث هي حضور متعين فاعل في الوجود، أو إدراك علاقتها بمواقعها، من حيث هي حضور مستقل في الوجود »[50] ، أي أن هناك ذاتا فاعلة واعية تعي نفسها أولا، وواقعها ثانيا، غير أن هذه الوعي المركب للذات والواقع لا يكفي لتحديد الحداثة أو نشوئها، وإنما لا بد من التمرد على طرائق الإدراك المعتادة، إن هذا الوعي يضاد وعيا قائما، ولذلك أطلق على وعي الذات نفسها وواقعها، وكيفيات تمردها: الوعي الضدي، وهو وعي لا يستسلم لليقين والذات العارفة لكل شيء، وإنما يستبدل « بالمطلق النسبي، وباليقين الشك »[51].

    ويتحدد المدى الجغرافي للحداثة بالمدينة، التي يتضمن وجودها التحديث بالضرورة، سواء أكانت هذه المدينة ذات طبيعة صناعية أم « المدينة الكوزموبوليتية » التي تعيش عصر ما بعد الصناعة[52]وتتميز هذه المدينة بأنها « النقيض للقرية والبادية، بما فيها من تصنيع يتجاوز الآلات اليدوية، وبما فيها من أنظمة معرفية تتجاوز عوالم الخرافة والسحر ... فهي مدينة ترعاها مؤسسات السلطة وتوجهها مصالح الطبقات الحاكمة والأجهزة الأيدلوجية للدولة، وتثير الشغب فيها مجموعات الهامشيين والمقهورين والمقموعين »[53].

    ولم تكن هذه التصورات سائرة في خط متصاعد ،ولكنها أخذت في التشظي والانكسار في التطبيق على الشعر العربي الحديث، لقد كانت المدينة على المستوى النظري مدينة العلم والتطور التقني، وإنها تناقض مجتمعي القرية والبادية، ولكنها على المستوى التطبيقي ـ حيث يستشهد بنصوص شعرية عربية ـ تصبح المدينة « ليست مدينة « ما بعد الصناعة الغربية » التي يتمرد فيها المبدعون على معايير التقدم والتطور والآلة »[54] وإنما « هي المدينة التي تتصارع فيها الكلمة والرقم، والتي تنقسم ما بين ماضيها وحاضرها، والتي تعرف نعمة الجامعة وبركة المسجد، وآلة المصنع وزنـزانة المعتقل »[55].

    ويلاحظ الناقد العربي أن هناك فجوة واضحة بين التصورات التي يصدر عنها وطبيعة النص الشعري المبدع الذي يحلله ويفككه ويعيد صياغة تفكيكه، ولذلك فإن هذه التصورات تتميز بقدر من الانشطار فهي تميل مرة إلى حلم الحداثة التي نراه متحققا في الغرب، وتخضع تصوراتها النظرية للحداثة لمعيارية هذا الحلم، ومرة تصف ما يبدعه الشاعر العربي وتحلل منجزاته، ثم تجاور بين المكونين، على الرغم من أنهما لا يتطابقان تماما، إن لم يكونا متعارضين.

    وإذا كان ما سلف يحدد للحداثة مكونات بنيتها الداخلية ومداها الجغرافي فإن الحداثة ليست معلقة في فراغ فهي قرينة التحديث، ويتحدد التحديث « بتغيير أدوات الإنتاج المادية في المجتمع وتثوير علاقاته »[56]وتتحدد الحداثة في الفكر والإبداع بحيث يكونان « وجهين لعملة واحدة لا ينفصل طرفاها في علاقتهما الجدلية »[57]، ويحدد جابر عصفور هنا معيارا أو قانونا يحكم العلاقة بين المكونين : التحديث / الحداثة، ويتحدد هذا القانون بالترابط اللازم بين التغيير الكائن في أدوات الإنتاج والتغيرات الإبداعية في المعرفة والفنون، ويصل الأمر حدا أن تكون «لحظة الحداثة قرينة لحظة التحديث . قد لا تتطابق اللحظتان تماما . ولكن ما بينهما من علاقة متعددة الأبعاد تجعل من انبثاق إحدى اللحظتين علة، أو بشارة، أو علاقة على انبثاق الثانية ..... إن المجتمع في الخليج والجزيرة قد وصل إلى مشارف هذه اللحظة، وإن عنف الاستجابة المضادة إلى الحداثة، والنبرة الهجومية عليها، يرتبطان بالشعور بهذه اللحظة المزدوجة، والخوف من أن يصل التناقض بين طرفيها إلى ما يهدد المجتمع »[58].

    إن المعيار الذي تتطابق فيه الحداثة والتحديث يصدق فعلا على الحداثة الغربية، غير أن تطبيقه وتعميمه على الوطن العربي، وبخاصة في الخليج والجزيرة العربية ليس دقيقا تماما، لأن المجتمعات العربية الأكثر تقدما من مجتمعات الخليج والجزيرة لم يحدث فيها هذا التغيير الهائل في أدوات الإنتاج وعلاقاتها التقنية، بحيث يبعث على حضور مقابلها، أعني الحداثة، وإنما يتفاعل المجتمع العربي بطريقة استهلاكية مع بعض مظاهر التحديث، ومن ثم فإن الإبداع المعرفي والفني ـ وفقا لهذا المعيار ـالذي يقترن بهذه الطريقة الاستهلاكية سيكون حتما متوافقا مع الطبيعة الاستهلاكية من ناحية، ومختلفا كيفا عما يحدث في الغرب من ناحية ثانية .

    إن التحديث ـ في تصوري ـ له دلالتان : دلالة إنتاجية داخلية وعميقة، وهذا يحدث في الغرب، ودلالة استهلاكية خارجية وسطحية، في الوطن العربي بعامة، وفي الخليج والجزيرة بخاصة، وليس بالضرورة أن يستمتع كل غربي بثمار ما ينتجه هو من تقنية، ولكنه في الحقيقة، صانع لها، ومؤثر فيها، ومؤثرة فيه، ومن ثم تغير من رؤيته وسلوكه وأنماط أفعاله، وقد يتفيأ الإنسان العربي بالمظاهر الاستهلاكية للتقنية، ولكن علاقته بها سطحية وخارجية، ولذلك فإنها لا تغير تماما من سلوكه ورؤيته وأنماط أفعاله، بمعنى أن البنية التحتية العميقة لمنظومات الإنسان العربي ثابتة وباقية ولم تعرف تفاوتا وتغايرا عميقين .

    إن الإنسان الغربي يَخلق ويعيش في مناخ إنتاج الحاسوب والانترنيت والتقنية المتطورة، أما الإنسان العربي ـ وبخاصة في الخليج والجزيرة ـ فإنه لا يخلق هذه التقنيات المتطورة ولا يعيش مناخها، ولا يتفاعل معها، إلا بمقدار، على الرغم من استيراده لها، واستخدامه إياها كل يوم. ومن الطريف في هذا السياق الإشارة إلى أن الدكتور صلاح فضل في أثناء حديثه عن مآزق الحداثة العربية يؤكد أن يرى « الحداثة الشعرية العربية سبقت حركة مجتمعاتها بآماد طويلة تفصلها عنها في بعض المناطق سنوات ضوئية كما حدث في الجزيرة العربية »[59].

    وفي ضوء هذا فإن لحظة الحداثة قرينة لحظة التحديث صحيحة في المجتمع الغربي أما في المجتمع العربي فإن المواطن العربي، والخليجي بخاصة، لا يعيش لحظة النتاج التحديث، ومن ثم فإن لحظة الحداثة لا تتولد منها بالضرورة، ولو كان هذا صحيحا فأين آثار ذلك على المستويات التالية :

    إن الإنتاج المعرفي والفني، في مجمله، إنتاج تبريري استهلاكي، يعيد تقديس وانتاج ما تم إنتاجه، ويدور جله في حلقة مفرغة، يتحرك في ضوء القديم، ولا يشارف الآتي، وما عدا استثناءات قليلة، فإن الإنتاج المعرفي الحداثي ضعيف التأثير في الحياة العربية .

    تربع الأنظمة القمعية/ العسكرتارية ـ القبلية والطائفية والدكتاتورية ـ على الوطن العربي بأسره ،وهي أنظمة تتميز بمنظوماتها المتماثلة، وتهدف إلى الحفاظ على وجودها، وتلبية رغبات الآخر.

    قمع المثقفين والتنويريين بالترهيب الذي يصل حد الاعتقال والتعذيب والاختفاء والإعدام، وبالترغيب في وظائف إدارية يتحول فيها المثقف إلى منتج يعيد إنتاج ثقافة السلطة ويبرر أفعالها.

    اقتصاد استهلاكي مترف يتأسس لا على احتياجات تنموية اقتصادية / اجتماعية، وإنما على تبديد ثروات الشعوب في الترف والبذخ والتسليح [60].

    مآزق الحداثة العربية

    أولا : حداثة انفصام :

    إن الإبداع الحداثي ليس وجودا معلقا في فراغ، وإنما هو لبنة في بناء أشمل يتشكل ويتفاعل مع أنظمة معرفية متشابكة، ونتاج سياقات تاريخية واجتماعية معينة، وهذا يصدق على الحداثة العربية في التراث وعلى الحداثة المعاصرة في الغرب .

    وتتكئ الحداثة في التراث العربي على أصول نظرية ومعرفية وفنية، وتتفاعل مع واقع بالغ الحركة والتغير والصيرورة، فهي جزء من بناء حداثي أوسع إذ تتأسس «على الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام »[61]، وتشتمل على تيارين ـ كما يحدد ذلك أدونيس : سياسي ـ فكري، وفني، ويتمثل الأول سياسيا في الحركات المناهضة للسلطة ـ الخوارج والزنج والقرامطة ـ وفكريا بالتصورات الاعتزالية والعقلانية الإلحادية والتصوف، ويهدف التيار السياسي /الفكري إلى نظام يوحد بين الناس، حاكمين ومحكومين، ويساوي بينهم اقتصاديا وسياسيا، ولا يمايز بينهم في جنس أو لون[62]. أما التيار الفني فلقد ابطل القديم وتجاوزه، وتحول فيه الإبداع إلى جهد إنساني يمارس فيه الإنسان « عملية خلق العالم»[63].

    إن هذين التيارين لهما وجود حقيقي في الواقع الاجتماعي، وتمثله معارضة حقيقية قوية في زمن سلطة قمعية، ولهذه المعارضة ثقافتها المضادة المعززة بالقوة أحيانا، بمعنى أن الحداثة العربية في القرنين الثالث والرابع الهجريين لها أساسها الفكري والسياسي، ولها قاعدة اجتماعية واسعة تؤمن وتدافع عنها إلى حد استخدام القوة والعنف .

    أما الحداثة الغربية فإنها وليدة تطور لتحولات وتبدلات سريعة من التقدم الصناعي والفني، أي أن التحولات الكائنة في أنظمة الحياة والواقع تعود بشكل أو بآخر لأحداث تغير في طبيعة الأدب وأنظمته وبنائه اللغوي، وهذا يعني أن الحداثة في الغرب تعبر عن أوجه التحول السريع التي حدثت في الواقع وسياقاته التاريخية، فالحداثة، والحالة هذه، «ابنة التقنية، وهي حركة تاريخية شاملة وليست مدرسة أو مذهبا أدبيا، وهي فن مديني لازمت فن القرن العشرين »[64]، وتنعكس آثارها على الأدب، ولذلك اتسمت القصائد بنأيها عن الخطابية والثرثرة والعفوية والطبع، وتميزت «بالاختزال والجسدية والشهوية والصناعة »[65].

    وإذا كانت الحداثتان العربية في الماضي والغربية المعاصرة في الحاضر تعبران عن واقع اجتماعي معين، وتتفاعلان مع طبيعة السياقات التاريخية الخاصة فإن الحداثة العربية المعاصرة تعاني من أزمة انفصام حقيقي، ذلك أن الحداثيين العرب المعاصرين تعاملوا مع المنجزات الحداثية الغربية بوصفها لبنة مستقلة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية، ومنفصلة عن منظوماتها المعرفية، ولقد فطن إلى هذا أدونيس الذي أكد خطأ فهم العربي لحداثة الغرب، لأنه لم ينظر إليها في ضوء ارتباطها «العضوي بالحضارة الغربية بأسسها العقلانية» إن نظرة الحداثيين العرب قد اقتصرت على منجزات الإبداع الأدبي والفني «بوصفها أبنية وتوصيفات شكلية » دون وعي « الأسس النظرية والعقلانية الكامنة وراءها، ومن هنا غابت ... دلالتها العميقة في الكتابة والحياة على السواء »[66]، ولذلك فإن تأثر الحداثيين العرب سيقود حتما إلى فهم شكلي، لا يعي من الحداثة إلى جوانبها السطحية، أما البنية العميقة فلقد كانت غائبة أو مغيبة .

    ثانيا : حداثة اغتراب :

    وإذا كانت الحداثة العربية المعاصرة فهمت حداثة الآخر فهما سطحيا وشكليا، فإنها في الوقت نفسه مغتربة عن الواقع الاجتماعي العربي ومتعالية عليه، فلقد قدم الحداثيون العرب نصوصا تعكس واقعا مختلفا ومتغايرا، إذ كيف يتسنى وجود حداثة للشعر العربي ولا وجود لحداثة في العلم أو في المجتمع أو في الاقتصاد، ترى هل كان الأدب العربي الحديث يعبر حقا في إنجازاته الحداثية عن الفكر العربي والواقع العربي والمشكلات العربية، أم انه يعبر عن الآخر، إن الآخر ـ كما يقول أدونيس ـ « يقيم في عمق أعماقنا، فجميع ما نتداوله اليوم فكريا وحياتيا، يجيئنا من هذا الغرب، أما فيما يتصل بالناحية الحياتية فليس عندنا ما نحسن به حياتنا إلا ما نأخذه من الغرب، وكما أننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب، فإننا نفكر بـ » لغة « الغرب : نظريات، ومفهومات، ومناهج تفكير، ومذاهب أدبية ... الخ، ابتكرها هي أيضا، الغرب . الرأسمالية، الاشتراكية، الديموقراطية، الجمهورية، الليبرالية، الحرية، الماركسية، الشيوعية، القومية ...الخ / المنطق، الديالكتيك، العقلانية ... الخ / الواقعية، الرومانطيقية، الرمزية، السوريالية »[67].

    وإذا كانت الحداثة الغربية تعكس « معارضة جدلية ثلاثية الأبعاد : معارضة للتراث، ومعارضة للثقافة البرجوازية بمبادئها العقلانية والنفعية، وتصورها لفكرة التقدم »[68]فإن الحداثة العربية المعاصرة لم تشهد هذا كله ،ويصر أنصارها على أن هناك تطورا وتغيرا في الشعر العربي يضارع شعر الحداثة الأوربية ويماثله، على الرغم من أن المجتمع العربي لم يشهد تحولات تماثل التحولات الكائنة في الغرب « فليس في المجتمع العربي حداثة علمية . وحداثة التغيرات الثورية الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، هامشية لم تلامس البنى العميقة، لكن مع ذلك، وتلك هي المفارقة، هناك حداثة شعرية عربية، وتبدو هذه المفارقة كبيرة حين نلاحظ أن الحداثة الشعرية في المجتمع العربي تكاد تضارع في بعض وجوهها الحداثة الشعرية الغربية، ومن الطريف في هذا الصدد أن حداثة العلم متقدمة على حداثة الشعر، بينما نرى، على العكس ،أن حداثة الشعر في المجتمع العربي متقدمة على الحداثة العلمية ـ الثورية »[69].

    ولا تعاني الحداثة العربية المعاصرة من انفصامها عن الواقع فحسب، وإنما تعاني من عدم التحامها عضويا بالبناء المعرفي للثقافة العربية، فهي لا تنمو بعافية في الواقع ولا تنبع من ذوات قلقة، فالحداثي العربي يعيش ـ كما يقول أدونيس « بعقل الآخر وأدواته وتذوقه »[70]، لأن النظام المعرفي للثقافة العربية يحجم الحداثة ويحد من حريتها وتلقائيتها، إن الحداثة « حركة تقوم على قول ما لم يقل في هذا المجتمع على رؤية عوالم متحررة من جميع العوائق النظرية والعملية، في حرية تخيل كاملة، وحرية تعبير كاملة، ويتعذر ذلك دون تجاوز النظام المعرفي السائد »[71]، وهذا صعب إن لم يكن مستحيلا في ظل الواقع الراهن، ولذا فإن الحداثة السائدة تمثل تهجينا في واقع مغترب، فهي«حداثة مهربة » كما يقول أدونيس « لأننا عندما نتكلم عليها إنما نتكلم على الآخر، متوهمين أن الآخر هو الذات»[72].

    إن هذه التصورات تدفعنا إلى القول إن نظام العلاقات الذي تم إرساؤه في الماضي هو نفسه نظام العلاقات الذي نتفاعل معه، ولا يزال يؤثر في ذهنيتنا وأنماط أفعالنا، وهذا يعني خلو حاضرنا من خصوصية حقيقية تميزه، فنحن إزاء خيارين، إما ارتماء في نظام علاقات الماضي، أو تمرد كلي عليه، دون بديل ينبع من خصوصيتنا، بمعنى ارتماء في نظام علاقات الآخر الغربي.

    وفي ضوء هذا فإن الحداثة العربية تبدو متأثرة إلى حد كبير بإنجازات الحداثة الغربية، الأمر الذي يبعث على القول إن هناك تبعية إبداعية تتزامن مع التبعية العامة التي تعيشها الأمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، لدرجة دفعت باحثا إلى القول إن الحداثة العربية«كالصدى لأصوات بعيدة سواء كانت العلاقة بين الصدى ومصدره مباشرة أو غير مباشرة »[73] أو هي ليست« سوى صورة كاريكاتيرية من حداثة الغرب »[74]، كما يؤكد ذلك فاضل العزاوي، ومن الغريب أن أحد الباحثين يعد هذا صحيحا، ويرى أن «استيراد الحداثة في الحياة والأدب أمر مشروع، وهو شبيه باستيراد وسائل الصناعة ووسائل الدفاع والمدارس الأدبية »[75]!! .

    ثالثا : حداثة صفوة :

    إن الحداثة العربية تعاني من أزمة انفصام حقيقي مع الآخر من ناحية، ومع السياقات التاريخية من ناحية ثانية، وهي في الوقت نفسه حداثة مجموعة من المثقفين، أو الانتلنجسيا بالمفهوم الغربي، يتحاورون ويتناقشون بعيدا عن الشارع العربي، بمعنى أنهم لا يعبرون عنه ولا يؤثرون فيه، ويرى محمد عابد الجابري أن هذه الصفوة « فئة قليلة جدا، وغير مؤثرة التأثير الكافي في واقعنا الثقافي . إن الكتاب الذي يصدر بيننا ويؤلفه واحد منا نتداوله فيما بيننا نحن فقط، ولا يوزع منه إلا حوالي ستة آلاف نسخة فقط في شعب يزيد على مائة وخمسون مليونا »[76].

    إن الذين يؤثرون في الواقع الاجتماعي أولئك السلفيون الذين يصوغون الحاضر في ضوء نمطية الماضي ومثاليته وثبات آلياته وأفكاره، وهذا يعني أنهم يعيدون إنتاج الماضي في الحاضر، واجترار لكل أشكاله المألوفة ، ومن ثم لا يمثل ما يقدمونه إضافة معرفية جديدة ،وإنما إنتاج ما تم إنتاجه، شرحا، أو تلخيصا، إن لم يكن تشويها . إن المثال الذي يسعى إليه هؤلاء لا يتحقق وجوده في الحاضر والمستقبل بفعل الجهد الإنساني، وإنما هو قار في الماضي، ومن ثم فإن التقدم عند هؤلاء ليس في « السير نحو المستقبل وإنما هو في العودة إلى الماضي . مثلها الأعلى نظريا هو الإيمان المطلق بكمال الماضي، وهو عمليا الخضوع للمؤسسات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية التي تمثله»[77].

    إن هناك تطابقا في الرؤية والسلوك بين جماهير الأمة والمؤثرين فيها من أصحاب النـزعات الماضوية والسلفية، وهذا يعني أن التغير الذي نراه على هذه الجماهير إنما هو تغير شكلي وسطحي، ولأن جمهورنا ـ كما يقول أدونيس ـ « لم يبدأ حتى الآن ثورته العقلية »[78]،إذن ليس المعول عليه ارتداء البدلة الإفرنجية وركوب السيارة والطائرة، ولا حتى استخدام الحاسوب والانترنيت ـ وإنما المعول عليه هو الفعل الذي تؤديه هذه الجماهير حقا، فهل تجد الجماهير ـ في زمن الإحباط ـ وجودها الذهني والمعرفي في تلك النمطية الثابتة في الماضي، أو أنها تتبنى مفاهيم الحداثيين، الفئة القليلة، التي تتحاور وتتناقش في معضلات ومشكلات لا تفهمها هذه الجماهير، ولا تعيرها اهتماما، تلك إذن هي المعضلة.

    تساؤلات أخيرة

    بقيت بعض التساؤلات تثار حول الشعر العرب الحديث بوصفه معبرا عن الحداثة العربية المعاصرة:

    لماذا بقيت قصائد الحداثيين غارقة في الغنائية، وإذا كانت الغنائية تعبير مفرط عن الذات، وتلك سمة شائعة في أدبنا الحديث، فهل الحداثة تكريس وتأكيد لهذه الغنائية، أم تجاوز لها ؟ إن هذا تعميق لدور الشفاهية ودورها في الإبداع، على الرغم من أن منظري الحداثة يؤكدون ضرورة نفيها وتجاوزها .

    لماذا ظل الوعي بالعالم والمجتمع والإنسان لدى أغلب شعراء الحداثة على ما هو عليه، ما عدا اختلافات بسيطة، إذ لا يزال الحداثيون يعيدون إنتاج القيم القديمة ذاتها، ولا يتجاوزون التغيرات الشكلية، فهم محافظون على « حدود قيم الريف الذي خرجوا منه والقبيلة التي ينتمون إليها .ولا يهم هنا إذا ما تغيرت الأسماء فقد يتخذ الريف شكل المدينة، وقد تستبدل القبيلة بالدولة أو الحزب، أو أي شيء آخر، المهم هو أن الموقف هو الموقف القديم ذاته والعواطف هي العواطف المبتذلة ذاتها »[79].

    لماذا يرتبط أغلب شعراء الحداثة العربية بالسلطات القمعية، يدافعون عنها، ويعيدون إنتاج ثقافتها، فلقد شهدت مرحلة ما بعد 67 وأغلب أدباؤها حداثيون «أدباء يؤثرون العبودية الوديعة يخدمون السلطة وينالون مقابل هذه الخدمة الامتيازات والمكافآت . وهؤلاء يخضعون في نتاجهم لمباديء لا يحددها الفن، وإنما تحددها السلطة، وهي مبادئ خاضعة للتغير تبعا لتغير السلطة »[80]، ولذلك ليس غريبا « ان نرى شعراء وكتابا عربا، ترتبط أسماؤهم بالحداثة العربية يمجدون الدكتاتوريات وأنظمة القمع والحروب باسم الغيرة الوطنية والقومية، أو يقفون مع الجلادين مشاركينهم الفتك بشعوب بأكملها، أو يسكبون عواطفهم الساذجة المبتذلة الهشة على الورق وبكائياتهم وصيغهم الجاهزة عن كل شيء من تمجيد القوة العسكرية وحتى البكاء على الذات»[81].

    وأخيرا :هل يمكنني القول :

    إن ما نعيشه اليوم يمثل إرهاصات الحداثة .... و ان الحداثة العربية لما تأت بعد .


    --------------------------------------------------------------------------------

    [1] ينظر : صالح جواد الطعمة، الشاعر العربي المعاصر ومفهومه النظري للحداثة، مجلة فصول، العدد : 4 1984، ص 13 .

    [2] See : Fowler , roger ,modern critical terms , routiodge & kegan paul , london, 1987 ,p 152 .

    [3] مالكوم برادبري، الحداثة، ترجمة مؤيد فوزي حسين ،مركز الإنماء الحضاري، حلب ،1995، 1/22 .

    [4] See: Abrams , M.H, A Glossary Of Literary Terms , Holt Rinehart,1985 p 108 -109 وينظر : مالكوم برادبري، الحداثة ( مصدر سابق ) ومارشال بيرمان، حداثة التخلف، ترجمة فاضل جكتر ،دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 1993، ص 40 .

    [5] ينظر : مالكوم برادبري، الحداثة، 1/27 .

    [6] نفسه، 1 / 59 .

    [7] نفسه .

    [8] جبرا إبراهيم جبرا، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 264.

    [9] صالح جواد الطعمة، الشاعر العربي المعاصر ... ص 31 .

    [10] ـ محمد برادة، اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، م فصول ،ع 3 1984 ص 12 .

    [11] ابن منظور، لسان العرب، دار صادر ،بيروت، د. ت، مادة : حدث .

    [12] تقديمه لكتاب : مالكوم برادبري، الحداثة، 1 / 6 .

    [13] ينظر : نبيل سلطان، فتنة السرد والنقد، دار الحوار، اللاذقية، 1994، ص 52 .

    [14] أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، دار الآداب، بيروت، 1993، ص 91 .

    17 حمادي صمود، ندوة العدد، « الحداثة في الشعر» مجلة فصول، العدد : 1 / 1982، ص 265 . ويرجع بعض هذا الفهم إلى تحديد علاقة الحداثة بالأصالة التي لها دلالتان : فهي تعني العودة إلى الجذور التراثية، كما يفهما السلفيون العرب، وتعني الصلة الوثيقة بالذات، وما ينبع عنها، كما يفهمها الأوربيون والحداثيون العرب .

    18 لم يميز عدد من الباحثين بين المصطلحين في أثناء تعريبهما، ينظر على سبيل المثال : مالكوم برابردري، الحداثة، 1 /22، وما بعدها، وبيتر بروكر، الحاثة وما بعد الحداثة ،ترجمة عبد الوهاب علوب، ومراجعة جابر عصفور، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1995، واستخدم كاظم جهاد مصطلح الحداثوية ،ينظر تقديمه لكتاب : لوفيفر، ما الحداثة، ص 20 ـ 21، وينظر أيضا :حوار مع جابر عصفور، في مجلة القاهرة، العدد : 173، ص 231، وينظر :

    Abrams , M.H, A Glossary Of Literary Terms , Holt Rinehart,1985 p 108

    [17] SEMAH , DAVID ; FOUR EGYPTIAN LITERAY CRITICS ,P 6

    إن هذا التصور العميق الذي أرساه العقاد تلقفه أدونيس وعمق فيه تصوراته في أثناء حديثه عن أوهام الحداثة، إذ ينفي أن يكون النص الذي يتناول إنجازات العصر وقضاياه حديثا، لأن الشاعر قد يتناول هذه المنجزات «برؤيا تقليدية، ومقاربة فنية تقليدية، كما فعل الزهاوي والرصافي وشوقي » فاتحة لنهايات القرن، دار العودة ،بيروت، 1993، ص 316، وقارن هذه التصورات بما عرضه عز الدين إسماعيل الذي سيأتي الحديث عنه.

    ومن الجدير بالذكر أن ابن قتيبة قد خلط في تراثنا النقدي بين الحداثة والمعاصرة، وجعل الثانية دالة على الأولى، ومتحدة بها، لأن التمايز لديه أصلا يقوم على أساس زماني، ينظر : ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق محمد أحمد شاكر، دار المعارف، مصر، 1982، 1/ 63.

    20 عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 10 .

    [19] نفسه .

    [20] نفسه، ص 13 .

    [21] ـ خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة ،مجلة فصول ،ع 3 / 1984 ص 25 .

    [22] ـ نفسه .

    [23] ـ نفسه ص 26 .

    [24] ـ نفسه ،ص 27

    [25] كمال أبو ديب، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 261.

    [26] أحمد عبد المعطي حجازي، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 263

    [27] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، دراسات ومناقشات، مركز دراسات الوحدة ،بيروت ،1991، ص 16

    30 نفسه .

    [29] نفسه .

    [30] شكري عياد، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 262 .

    [31] نفسه . وينظر : جابر عصفور، مجلة القاهرة الأعداد : 173 ـ 175، 1997 ص 231 .

    [32] سلمى الخضراء الجيوسي، ندوة العدد « الحداثة في الشعر » مجلة فصول العدد : 1 / 1982 ص 262.

    [33] محمد بنيس، ندوة العدد « الحداثة في الشعر » مجلة فصول العدد : 1 / 1982 ص 262 .

    [34] نفسه، ص 263 .

    37 ينظر : أدونيس ،فاتحة لنهايات القرن،ص 314 .

    [36] كمال أبو ديب، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 261.

    [37] أدونيس زمن الشعر، دار العودة، بيروت، 1983، ص 147، وينظر : ص 42، 45، 46، وغيرها.

    [38] أدونيس فاتحة لنهايات القرن، ص 315 .

    41 ينظر أدونيس زمن ا لشعر، ص 314، وما بعدها، ويرى محمد عابد الجابري : أن الحداثة « لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه «المعاصرة »، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي »، التراث والحداثة، ص 15 ـ 16 .

    42 أدونيس، زمن الشعر، ص 315 .

    [41] ينظر :نفسه، ص 296 .

    [42] أدونيس، النص القرآني، ص 107 .

    [43] نفسه، ص 115 .

    [44] أدونيس، فاتحة لنهايات القرن ،ص 315 .

    [45] نفسه .

    [46] نفسه، ص 319 .

    [47] نفسه، ص 314 .

    [48] نفسه، ص 316 .

    [49] أدونيس، زمن الشعر، ص 71، وينظر:فاتحة لنهايات القرن، ص 192 , 249، 250، 251، 252.

    [50] جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،بيروت، 1994 ص61.

    [51] نفسه .وينظر : جابر عصفور، نظريات معاصرة، دار المدى، بيروت، 1998، ص 268 وما بعدها.

    [52] نفسه، هوامش على دفتر التنوير، ص 63 .

    [53] نفسه، ص 64 .

    [54] نفسه .

    [55] نفسه، ص 65 .

    [56] نفسه، ص 62 .

    [57] نفسه، ص 92 .

    [58] نفسه، ص 99 .

    62 صلاح فضل، نبرات الخطاب الشعري، دار قباء، القاهرة، 1998، ص 146 .

    [60] لا يخفى ان ترسانات الأسلحة الباهظة تضج بها دولنا العربية، وهي غالبا ما توجه نحو الداخل، وإن ثروات الشعوب في خدمة السلطة، لدرجة يختزل الوطن في أغلب الأحيان بشخص الحاكم، الذي يتحول إلى رمز أغلى من الوطن والأمة، ترى هل نعيش وهم الحداثة كما نعيش وهم التحديث، تما ما كما «ترى المرأة أحدث الأزياء الأوربية في جناح الحريم، وحيث يصبح الدكتاتور بطلا يقود إلى المستقبل السعيد » فاضل العزواي، بعيدا داخل الغابة ،ص 137 .

    [61] ـ أدونيس، صدمة الحداثة، ص 10 .

    [62] ـ نفسه .

    [63] ـ نفسه .

    [64] خليل موسى ،الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر، مطبعة الجمهورية، دمشق، 1991، ص 9.

    [65] نفسه، ومن المفارقات اللافتة للنظر أن هذا الباحث قد قرن بطريقة تكاد تكون ميكانيكية بين الحداثة في الغرب وتطور الواقع بقوله : «ويستدعي تغير أنظمة الحياة تغيرا في أنظمة الأدب » ولكنه حين انتقل للتحدث عن الحداثة العربية أخذ يفصل بين الكيانين، إذ « لم تكن الحداثة في الحياة في العالم الثالث عموما وفي العالم العربي خصوصا نتيجة طبيعية لتحول المجتمع من خلال إنتاجية محدودة، وإنما هي نتيجة لتحول المجتمع الأوربي أولا، ولقرب الوطن العربي من المركز ثانيا » نفسه ص 11، ويؤسس الباحث على ذلك نتيجة تؤكد هذه المفارقة بقوله : « فجاءت الحداثة مقلوبة، ودخل العرب عصرها مستهلكين » نفسه .

    [66] أدونيس، النص القرآني، ص 94 ـ 95 .

    [67] ـ أدونيس، صدمة الحداثة، ص 258 .

    [68] صالح جواد الطعمة، الشاعر العربي المعاصر، ص 14 .

    [69] أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، ص 322 .

    [70] أدونيس، النص القرآني ،ص 108 .

    [71] نفسه، ص 108 ـ 109 .

    [72] نفسه ،ص 110 .

    [73] صالح جواد الطعمة، الشاعر العربي لمعاصر، ص 13 .

    [74] فاضل العزاوي، بعيدا داخل الغابة، ص 13 .

    [75] خليل موسى، الحداثة في حركة الشعر العربي المعاصر، ص 13 .

    [76] محمد عابد الجابري، ندوة العدد « الحداثة في الشعر »، مجلة فصول العدد : 1 / 1982، ص 213 .

    [77] أدونيس، زمن الشعر، ص 57 .

    [78] نفسه .

    [79] فاضل العزاوي، بعيدا داخل الغابة، ص 8 .

    [80] أدونيس، زمن الشعر، ص 79 .

    [81] فاضل العزاوي، بعيدا داخل الغابة، ص
                  

10-15-2004, 04:59 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وداعا جاك دريدا (Re: osama elkhawad)

    ما قبل الحداثة وما بعدها

    جاد الكريم الجباعي

    يبدو سؤال الحداثة اليوم ساذجاً ومتأخراً عن موعده نحو ثلاثة قرون، لكن مصائر الحداثة "الغربية" من جهة، و "الحداثة" المتوحشة التي نعيش أسوأ مظاهرها والتي يخيل إلى الكثيرين أنها الحداثة بألـ التعريف من جهة أخرى تقتضي إعادة طرح السؤال من جديد: ما الحداثة؟ على أن التعارض الذي نفترضه بين الحداثة المحققة و"مثال" الحداثة وقيمها ومبادئها يذهب بنا بخط مستقيم إلى أهم خصائص الحداثة، أعني: النقد. والنقد هو سمة العقل الذي ينفي باطراد.

    فقد قامت فكرة الحداثة على تأكيد "أن الإنسان هو ما يصنعه"، ولكي نتلافى الإيحاء "المادي" والميكانيكي لفعل يصنع، نميل إلى القول: إن الإنسان هو ما ينتجه، وما ينتجه الإنسان على نحو لا يفتر ولا يتوقف هو عالمه وتاريخه؛ فضلاً عن إنتاج وجوده الاجتماعي؛ فالإنسان ينتج ذاته في العالم وفي التاريخ ويحول مظاهر الطبيعة وعناصرها، ثم يستعيد موضوعية العالم والتاريخ والطبيعة في ذاته، ويعيد إنتاجها إلى ما شاء الله. ونؤكد مع ماركس أن الإنسان حتى اليوم هو عالم الإنسان، أي المجتمع والدولة. ومن ثم كان لا بد أن يتوافق "الإنتاج" الذي جعله تقدم العلم والتقانة والإدارة أشد فعالية مع تنظيم المجتمع الذي يحدده القانون، ومع الحياة الشخصية التي توجهها المنفعة، كما توجهها إرادة التحرر من جميع القيود. والتوافق بين الإنتاج الذي بات مشروطاً بالثقافة العلمية، وبين تنظيم المجتمع، والأفراد الأحرار إنما يرتكز على انتصار العقل وسيادته. ولذلك تكاد الحداثة أن تتماثل مع العقلانية، أو العقلنة. ولكن العقلانية كالحداثة مفهوم إشكالي، يتوقف في كل مرة على المعنى الذي نفترضه للعقل، وعلى مدى ما يتوفر عليه هذا المعنى من اتساق وتناغم أو من توتر وتنابذ بين العقلانية والذاتية، أو على ما يتوفر عليه من توتر بين الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته ورغباته وأهوائه ونزواته وأحلامه وتطلعاته الذاتية، والمواطن الذي يتوق إلى الحرية والعدالة والمساواة في نطاق جماعة ينظمها القانون بما هو تجريد العمومية وتعبير عن الكلية الاجتماعية وشكل التوسط الضروري للاندماج في الجماعة الإنسانية. أي على مدى اقتراب مفهوم العقل أو ابتعاده عن مفهوم الروح الإنساني في كليته وشموله. وتجدر الإشارة إلى أن الروح الإنساني يتجلى بقوة ووضوح في الثقافة بصفتها محتوى جميع العلاقات والبنى والتنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ومن ثم يغدو من الضروري أن نموضع حرية الإنسان ورفاهيته وسعادته وذاتيته في المجتمع والدولة، لا بالتضاد أو بالتخارج معهما، كما كانت الحال في عهود ما قبل الحداثة. ومن هنا كان المجتمع المدني (المجتمع العلماني الحديث) والدولة الوطنية (= القومية) الحاملان أجنَّة (جمع جنين) المجتمع الديمقراطي والدولة الديمقراطية من أبرز تجليات الحداثة وأهمها.

    ويبدو أن اقتران المجتمع المدني والدولة الوطنية بنمط الإنتاج الرأسمالي وما نجم عنه من تعميق استلاب الإنسان وتشييئه واغترابه عن ناتج عمله وعن ذاته، وما تمخض عنه تنافس الدول القومية وصراعها الضاري من ويلات وحروب ومن تدمير للإنسان والبيئة بمعناها الواسع، قد استدعى منذ وقت مبكر، ولا يزال يستدعي اليوم نقد الحداثة ومعارضتها؛ من دون أن يتنبه ذلك النقد وهذه المعارضة إلى العنصر الثوري الذي لا رجعة عنه في نمط الإنتاج الرأسمالي، أعني نمو العمل البشري وتحولاته النوعية حتى غدا أقرب ما يكون إلى العمل الذهني الخالص. فتغيرت من جراء ذلك طبيعة العمل والإنتاج الاجتماعي، وبنية القوى المنتجة، ولا سيما الطبقة العاملة الصناعية (البروليتارية)، وراحت الآلة الذكية تحل شيئاً فشيئاً محل العمل البشري بمعناه الكلاسيكي. على أن نقد الحداثة يذهب اليوم في ثلاثة اتجاهات: أولها، الاتجاه الذي بات يطلق عليه اسم "ما بعد الحداثة"، وهو في اعتقادي اتجاه محافظ، إن لم يكن ارتدادياً، على الرغم من سمته "العلمية"، وسوف نتناوله بدراسات مفصلة تكشف الصلات المقنَّعة بـ "العلم" بين ما بعد الحداثة وما قبلها. والثاني هو الاتجاه الذي يطلق عليه اسم "الليبرالية الجديدة"، أيديولوجية العولمة الاقتصادية الجارية والمتسارعة، بل أيديولوجية الرأسمالية المتوحشة في إهابها الأمريكي؛ ولهذا الاتجاه عنوانات رئيسة أهمها: "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات"، و "تحول "حرية الفرد" إلى مطلق مشرع ذاتياً"، بل لعل الأدق هو تحول حرية قلة من الأفراد إلى مطلق مشرع ذاتياً؛ في مجتمعات تشدد ثقافياً على الحد الأقصى للقناعات الفردية، وعلى الحد الأدنى للقيم الأخلاقية، بل لعلها لا تشدد على هذه القيم، ولا تعبأ بها؛ فتنفصل فيها الحرية عن المسؤولية المدنية. والثالث هو الاتجاه النقدي الذي يعيد إنتاج تقاليد الحداثة ومبادئها وقيمها، في ضوء نمو العمل البشري وتغير بنية المجتمعات الصناعية، وتحول الرأسمالية إلى نوع من رأسمالية خالصة ومتوحشة. ويبدو لي أن هذا الاتجاه يقتضي إنتاج ماركسية إنسانية، تعيد الاعتبار لا للديالكتيك بوصفه منطق الفكر والعمل ومنطق الواقع والتاريخ فقط، بل للمثل الأعلى الأخلاقي الذي كان في اصلها وأساسها، أعني حذف استلاب الإنسان بجميع أشكاله: المقدسة وغير المقدسة.

    "العقل وحده هو الذي يوطد التوافق بين العمل الإنساني ونظام العالم"، كما يقول ألان تورين؛ ولكن فصل العقل عن العمل، أو تصور إمكانية مثل هذا الفصل، قد يؤدي إلى إعادة إنتاج التصور المثالي الذاتي للعقل، أو إرجاعه إلى ما كان هيغل يسميه الروح المطلق أو الفكرة الشاملة، ويؤدي من ثم إلى إعادة إنتاج ثنائية الروح والجسد، وثنوية الفكر والواقع، والوعي والوجود، وثنوية الإنسان والطبيعة؛ وتجاهل حقيقة أن الإنسان طبيعة تعي ذاتها وتعي أنها تعي، أي إنه طبيعة بوسعها أن تكون موضوعاً لذاتها. ولذلك يمكن القول: إن العنصر العقلي في العمل الإنساني، أعني العنصر الإبداعي، لا التكراري، هو ما يجعل هذا العمل متسقاً مع نظام العالم؛ لأن نظام العالم ونظام الفكر من ماهية واحدة. وقد عبر أبو حيان التوحيدي عن هذه الماهية بقوله: "الروح لطيف الجسد، والجسد كثيف الروح"؛ فعيَّن بذلك صيغة التعارض الجدلي بين اللطيف والكثيف، أي بين الروح والمادة، التعارض الذي لا يكون أحد حديه إلا بالآخر، ولا ينوجد إلا بوجوده؛ فليس هناك لطيف بلا كثيف ولا كثيف بلا لطيف، ومن ثم فإن مقولة الروح شقيقة مقولة المادة، إذا فهمنا هذه الأخيرة على أنها المجرد بامتياز أو المجرد إلى النهاية، حسب إنغلز، وإذا نظرنا إليها، أي إلى مقولة المادة، على أنها "مقولة فلسفية"، حسب لينين، تحيل على الوجود الموضوعي المتعين القائم خارج الرأس. هناك دوماً عالم خارج الرأس، ولكن ليس هناك رأس خارج العالم. وبذلك تغدو الذاتية التي يراد لها أن تعارض العقلانية مشروطة بالعقلانية ومحددة بها، فليس ثمة ذات من دون موضوع، بل ليس هناك من ذات خارج الموضوع الذي هو العالم والكون اللامتناهي.

    وقد لا يستقيم هذا المعنى في الذهن ما لم ننظر إلى العقل على أنه عقل الواقع، أو عقل العالم، وعقل الكون. وهو المعنى المغروس في عملية الإنتاج التي أشرنا إليها، والتي تحيل على مقولة التموضع والاستلاب أو الاغتراب التي لم يعد في ضوئها من تاريخ للطبيعة مستقل عن عمل الإنسان وتاريخه، والتي من دونها لا يمكن أن تفهم مقولة القيمة بصفتها العمل البشري المجرد المتبلور في المنتج أو في البضاعة، بتعبير ماركس، ولا يمكن من ثم تقدير أهمية حكم القيمة الملازم لحكم الواقع حق قدره، أي لا يمكن تقدير أهمية الأخلاق ومطالب الذاتية حق قدرها. الرأسمالية التي قامت على التعارض بين رأس المال والعمل فصلت الأخلاق عن العمل والإنتاج، وجاء المذهب الوضعي الإيجابي ليعزز هذا الفصل. وأبرز تجلياته تمييز "الأيديولوجية" من "العلم" في مذهب ماركس، وتنحية الإنسان من مركز منظومته الفكرية ؛ وجاء المذهب "الثوري" ليحل مقولة الثورة الاشتراكية، والشيوعية، ودكتاتورية البروليتاريا، والأممية البروليتارية وغيرها محل الإنسان، فأنجز تلك القطيعة المشؤومة بين الماركسية والمثل الأعلى الأخلاقي. بيد أن الرأسمالية لم تكتف بفصل الأخلاق عن الإنتاج، بل تعدت ذلك إلى تنمية العنصر التكراري في العمل البشري على حساب العنصر العقلي الإبداعي، وقد بلغ ذلك ذروته في التايلورية التي كان شارلي شابلن من أبرع نقادها. كما تعدته إلى اعتبار "النظام"، أي نظامها ومعاييرها ومقاييسها النمطية عقلاً أعلى يجب أن تخضع له الدولة والمجتمع، فشلَّت بذلك قوة النفي التي هي أهم خصائص العقل.

    ومع ذلك، لا محيد عن ربط الحداثة بالعقلنة، والنظر إليها على أنها اعتراف مبدئي ونهائي بسيادة العقل، والثقة بقدرته على جعل العالم جديراً بأن يكون عالم الإنسان. وبهذا المعنى يمكن أن يكون النقد لا سمة الحداثة فحسب، بل مناط حيويتها وقوتها فضلاً عن مشروعيتها. فإن مشروعية الحداثة تنبع من مشروعية النقد، نقد جميع الأوضاع القائمة في كل حين، وهو ما يضع أهمية الفكر النظري، ويؤكد الحاجة إلى الفلسفة.

    الحداثة سعي لا يفتر في سبيل تملك العالم بالمعرفة والعمل، وافتتاح إمكانية التصالح بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وذاته، ولذلك كان ارتباطها وثيقاً بعملية الإنتاج الاجتماعي، بمعناها الواسع، فكل إنتاج هو تملك؛ يصح ذلك على إنتاج الخيرات المادية والثروة الروحية سواء بسواء. ولكن الحداثة المحققة لم تبرهن حتى اليوم، سوى بصورة سلبية، على اقتران النمو والديمقراطية كل منهما بالآخر بقوة العقل. بيد أن الديمقراطية كانت ولا تزال إحدى ممكنات الحداثة الرأسمالية، قبل أن تتحول الأخيرة إلى رأسمالية خالصة ومتوحشة؛ ومن ثم فإن ما كان عقلانياً ذات يوم يمكن أن يكف عن كونه كذلك. يتوقف الأمر في كل مرحلة من مراحل التطور على مركز ثقل النظام ونقطة ارتكازه، هل هي الإنتاج من أجل الربح أم من أجل تلبية حاجات المجتمع، وهل الإنتاج ذاته عامل تحرر وانعتاق أم عامل استعباد واستغلال فحسب؛ العمل الصناعي، قبل أن نتحدث عن المجتمع الصناعي، افتتح إمكانية تحرير الإنسان من الضرورات الطبيعية، ومن سيطرة السماء. ولكنه ما لبث حتى أنتج ضرباً من عقلانية أداتية خالصة، ونفعية بالمعنى الضيق للكلمة، أخذت تحل تدريجياً محل الرؤية العقلانية للكون والعمل. هذه العقلانية الأداتية ليست تخفيضاً للعقلانية فحسب، بل هي صيغة موافقة أو غبر معارضة للعنصرية وللتعصب القومي والأصولية الدينية ولنزعات الخصوصية الحصرية من كل صنف ولون. وفي مقابل العقلانية الأداتية كان هناك دوماً عقلانية متسقة مع روح النهضة والإصلاح والعلم والحرية تحفر مجراها بهدوء وعمق وثقة.

    عرف أبو حيان التوحيدي العلم بأنه "صورة المعلوم في نفس العالم"، والعلم في هذا السياق هو العقل حتى ليمكن القول: إن العقل هو صورة المعقول في ذهن العاقل؛ وأياً كان الأمر فإن ما يعنينا هنا أنه لا علم بلا معلوم، أي لا ذات بلا موضوع. ومن ثم لا بد أن نموضع العقل في العالم أي في المجتمع والدولة؛ ولذلك كان المجتمع الحديث هو الذي ينظم نفسه ويتصرف لا تبعاً لوحي إلهي أو لجوهر قومي متعال أو لتقاليد وأعراف موروثة، بل وفق مبادئ مستمدة من ماهية الإنسان ومن علاقاته الجدلية بعالمه وبذاته، ومن تعدد مجالات الحياة الاجتماعية وتنوعها، ونموها المطرد. فليس من شيء في المجتمع والدولة ليس موجوداً في الإنسان بالقوة أو بالفعل. الإنسان هو الذي يحتل موقع المركز في المجتمع الحديث والفكر الحديث، ومن ثم فإن العقلنة التي هي سمة الحداثة الأبرز لا تنفصل عن الأنسنة ولا عن العلمنة. بل لعله يمكن تحديد الحداثة بهذه المحددات الثلاثة: العقلنة والعلمنة والأنسنة. وهي ثلاثة وجوه متكاملة لحقيقة واحدة مفادها أن الإنسان لم يعد يدور حول أي شمس سوى شمسه الخاصة؛ فالمجتمع والتاريخ والحياة الفردية لا تخضع لمشيئة كائن أعلى يجب الخضوع لها أو يمكن التأثير فيها بالسحر، بل تخضع جميعها لقوانين الطبيعة التي هي ذاتها قوانين العقل. هذه المحددات تجعل من الحداثة نسقاً مفتوحاً على احتمالات ليبرالية وديمقراطية وعلى قيم العدالة والحرية والمساواة، أو على سلطة مطلقة لعاهل مستنير يرى فيها الشعب المعني تعبيراً عن عمومية المجتمع، وفي قانونها الذي يصون حقوق الأفراد ويحمي حرياتهم الأساسية انتصاراً على الجهل والهوى، ومفتوحاً على الاستبداد أيضا، بقدر ما تغدو صنمية السلطة معادلاً سياسياً لصنمية السلعة، أي بقدر ما يذوي الروح الإنساني ويتحول البشر إما إلى زوائد لحمية ملحقة بالآلات وإما إلى كائنات منمطة ومجرد مستهلكين للسلع والثقافة والقيم سواء بسواء.

    إن تساوق قوانين العقل وقوانين الطبيعة يضع تعريفاً للطبيعة يتعدى كونها مجال الوجود الفيزيائي، أو الواقع المادي الذي يمتاز من الواقع الفكري أو الروحي؛ فإن "الطبيعة لا تختص بكينونة الأشياء، وإنما بأصل الحقائق وأساسها. فإلى الطبيعة تنتمي جميع الحقائق ... القابلة لأساس ملازم لها ملازمة خالصة، والتي لا تستوجب أي وحي متعال، والتي هي أكيدة لذاتها وبديهية. هذه هي الحقائق التي نبحث عنها لا في العلم الفيزيائي فحسب، بل في العلم العقلي والأخلاقي، لأن هذه الحقائق هي التي تجعل من عالمنا عالماً واحداً مرتكزاً في ذاته مالكاً في ذاته مركز جاذبيته الخاص" . و "إن لمفهوم الطبيعة هذا، شأنه شأن مفهوم العقل، وظيفة رئيسية هي أن يوحد بين الإنسان والعالم .." ولعل تطور مفهوم البيئة وشموله البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وإعادة الاعتبار لمقولة الترابط الشامل بين ظاهرات العالم وقوانين الكون هي نوع من استعادة لمفهوم الحداثة يقتضيها شعور عميق بالمخاطر الناجمة عن تخفيض العقل إلى مجرد عقل أداتي ونفعي، وعن نمو عدم العقل الذي يضع عالمنا أمام مفترق، إما البربرية والهمجية، وإما إعادة إنتاج الحداثة في الفكر والعمل.

    عالم ما قبل الحداثة كان عالم الأوهام والخرافات والأساطير وخضوع الإنسان لتصوراته الذاتية عن نفسه وعن العالم، ولنتاجات عمله، وكذلك عالم ما بعد الحداثة.



    قوانين العقل وقوانين الطبيعة

    كان لفكرة الطبيعة في عصر الأنوار معنى أوسع من معناها الشائع اليوم، ولا سيما حيث تسيطر رؤية وضعانية تختزل العقل إلى علم وضعي أيجابي أو إلى ما كان هيغل يسميه "الفهم". فالطبيعة لا تعني مجال الوجود الفيزيائي أو الواقع "المادي" الذي يجب تمييزه من الواقع "الفكري" أو "الروحي"؛ "فكلمة الطبيعة لا تختص بكينونة الأشياء، بل بأصل الحقائق وأساسها؛ فإلى الطبيعة تنتمي جميع الحقائق القابلة لأساس ملازم لها ملازمة خالصة، من دون مساس بمضمونها، والتي لا تستوجب أي وحي متعال، والتي هي أكيدة لذاتها وبديهية. هذه هي الحقائق التي نبحث عنها لا في العالم الفيزيائي فحسب، بل أيضاً في العلم العقلي والأخلاقي؛ لأن هذه الحقائق هي التي تجعل من عالمنا عالماً واحداً، تجعل منه كوناً مرتكزاً في ذاته، مالكاً في ذاته مركز جاذبيته الخاص".

    إن فكرة الطبيعة، كما استخدمها فلاسفة عصر التنوير، تكاد تكون مرادفة لفكرة الخليقة في التصور الديني، ولفكرة الواقع في الاستعمال المعاصر، أو لفكرة الكون والوجود بمعناهما الكلي والشامل؛ وإن "لمفهوم الطبيعة بهذه المعاني، شأنه شأن مفهوم العقل، وظيفة رئيسية هي أن يوحد بين الإنسان والعالم، كما كانت تفعل فكرة الخليقة المقترنة في الغالب بفكرة الطبيعة أكثر مما هي معارضة لها. بيد ان هذا المفهوم يسمح للفكر والعمل الإنسانيين أن يؤثرا في هذه الطبيعة بمعرفة قوانينها ومراعاة هذه القوانين دون اللجوء على الوحي أو على تعليم الكنائس" .

    "وإذا كان لهذا اللجوء إلى الطبيعة وظيفة نقدية ومعارضة للدين خاصة فذلك لنه يسعى إلى أن يمنح الخير والشر أساساً لا هو بالديني ولا هو بالبسيكولوجي، بل اجتماعي فحسب. فالفكرة التي مفادها أن المجتمع هو مصدر القيم، وأن الخير هو ما ينفع المجتمع والشر هو ما يضر تكامله وفعاليته، هذه الفكرة عنصر جوهري في الأيديولوجية الكلاسيكية للحداثة" .



    الطابع النقدي للحداثة

    تظل دعوة الحداثة قوية وفعالة ما دامت نقدية؛ فهي دعوة ثورية، كما كانت في عصر الأنوار، ولكنها ليست شيئاً آخر؛ فحين تنتقد المجتمع التقليدي وثقافته لا تحدد آليات عمل المجتمع الجديد ولا تعين محتوى ثقافته. فهي في هذه الحيثية تجسد أهم صفات الفكر أعني روحه النقدي وانفتاحه على المستقبل وعلى ممكنات الواقع واحتمالاته. "الأيديولوجيا الحداثية لا تكاد تقنع عندما تسعى إلى إعطاء الحداثة محتوى إيجابياً" . الوضع القائم فقط يمكن تحديده إيجابياً؛ لأنه واقع متعيِّن، والمتعين هو ما اكتملت تعييناته. الحداثة في ارتباطها بالعقلانية والعلمانية والأنسية تنطلق من الواقع المتعين نحو آفاق مستقبلية مفتوحة، نحو أوضاع ليس بوسع العقل أن يحددها سوى بصورة سلبية. هذه الصورة السلبية هي قوة تفكيك المجتمع التقليدي لا قوة بناء المجتمع الحديث، قوة تفكيك الأوضاع القائمة لا قوة بناء أوضاع جديدة، وإلا فقدت الحداثة أهم مضامينها. ففكرة العقد الاجتماعي أو المجتمع المدني يمكن أن تفضي إلى قيام جماعة تمارس الظلم والجور، في حين كانت دعوة إلى التحرر. والفكر الحديث من ثم نسق مفتوح لا يسلم بأي حتمية. "إن الأيديولوجية الحداثية لم تكن مرتبطة بالفكرة الديمقراطية؛ فقد كانت ثورية حصراً، ناقدة نظرياً وعملياً سلطة الملك والكنيسة الكاثوليكية باسم المبادئ الشاملة، وباسم العقل نفسه".
                  

10-15-2004, 05:12 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رأي اسلامي:سقوط الحداثة (Re: osama elkhawad)

    سقوط الحداثة

    المؤلف : محمد عبد الشافي القوصي
    الناشر دار المريخ - مصر

    منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين الحداثيين والمحافظين أو بين الأدعياء والأصلاء إنها معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري العربي ( لغة وتراثا وشعرا ) وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به ووجودهم فيه فدافعوا عنه في شجاعة وقوة .
    انطلق الحداثيون والمرجفون والأدعياء تحت ظلال الزخم الإعلامي الوافد والواقع العربي المعقد في سباق محموم وفي لهاث مسعور فتسلطوا على مؤسسات الثقافة والإعلام ومنافذ الصحافة والنشر ليحشدوا الرأي العام لصالحهم فتظاهروا بالاجتهاد وادعوا الإبداع وحرية الرأي والفكر وأخذوا يشوهون ويهدمون الأدب العربي والإسلامي تحت دعاوى التطوير والحداثة وعزفهم على أكثر من نغمة وركوبهم موجة مقاومة التطرف والإرهاب والتخلص من القديم بهدف عزل الأدب والثقافة العربية والإسلامية عن الحياة عامة وفصل الأدب عن الدين والأخلاق حتى تخلو الساحة لنظريات ومذاهب وأيدلوجيات عفنة ونفايات الفلسفات الشاذة التي قذفت بها مراحيض الشارع الغربي والتي تربت في كنف الصهيونية العالمية وترعرعت في أندية الفجور وصالات القمار والرقص والإباحية لإفساد العرب والمسلمين ومسخ هويتهم وإلقاء خصوصيتهم وتدمير عقيدتهم واقتلاعهم من جذورهم .. لكي يعيشوا عالة على حامضي الثقافة وفتات الآخرين ، ومن ثم جاء كتاب سقوط الحداثة لمحمد عبد الشافي القوصي بمثابة الضربة القاضية للحداثة والحداثيين وجاء الكتاب في أسفار خمة بعد الإهداء والمقدمة ، وقد أهدى الكاتب كتابه إلى أدباء الأمة الأصلاء دعاة الخير وعشاق الفضائل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحافظين لحدود الله .

    ويرى المؤلف أنه من المؤسف حقا أن يطلق لفظ الإبداع على نماذج من الفحش والسخافة والعبث والسطحية حتى فقد مصطلح الإبداع مدلوله لكثرة اللغط حوله والعبث بدلالاته ومراميه ، بل دعوا إلى إزالة كل الموانع عن طريق الإبداع وجعلوا الإبداع في صورة معبود مقدس تنحني له الجباه والمبدع لا يسأل عما يفعل ، وهكذا فعل دعاة الحداثة وأدعياء التنوير إنهم يحاولن ظلما وعدوانا أن يغالبوا الأصلاء بالتهويل والتزييف والتقعيد والتضليل والإرهاب الفكري والنفسي قائلين بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون يريدون أن يسحروا أعين الناس ويسترهبوهم وربما أوجس بعض الأصلاء خيفة من كثرة حبالهم وعصيهم وربما خيل إليهم من سحرهم أنها تسعى حتى إذا ما حللوا هذه الأشعار ووضعوها في ميزان الأدب ومقاييس الشعر علموا أنها من كيد الساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .
    ولكني مع كل ما تفعله هذه الفرق المأجورة من الحداثيين والتنويريين والمتشاعرين فإن الأصلاء سيظلون مرابطين في سبيل الحق حراسا لصروح الأدب العربي وحماس التراث ومدافعين عن هوية الأمة لأنهم يعلمون أن هذه المؤامرات المكشوفة والحملات الماجورة ليست وليدة ذاليوم بل إنها موجودة منذ فجر التاريخ فالصراع بين الحق والباطل سنة أزلية وإن الثقافة العربية والإسلامية لرص أقوى من أن تشوه روعتها بعض الاتربة العابرة أو أن يطمس نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهذيل وجاء السفر الأول تحت عنوان : الأدب العربي في معركة البقاء وفيه يرى أن من العجب أن أول ما عرفناه من حضاة الغرب وأوليناه اهتماما بالغا من جانبنا هي الثقافة بوجه عام ثم الآداب والفنون مع أن هذه الأمور الثلاثة تختلف باختلاف البيئات مثل طبيعة المكان والزمان والناس حسب قيمهم وعاداتهم ومعتقداتهم .

    ويعد سلامة موسى من أخطر رواد هذه الاتجاه الذي يدعو إلى الانفصام عن تراث أدبنا العربي والاتلزام بالادب الغربي فها هو ينعق في كتابه اليوم والغد : كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أزواله فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من ىسيا وأن نلتحق بأوربا فإني كلما ازدادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني وكلما ازدادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها وشعوري بأنه غريب عني وكلما ازدادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها وشعوري بأنها مني ، وينعي على المازني والرافعي دراستهم لابن الرومي والمتنبي وعلي ومعاوية والجاحظ .
    كما تكلم عن الكثير من تلامذة المستشرقين وعملاء الترغيب والمأجورين وعلى رأسهم أحمد لطفي السيد وأنطون فرح وشبلي شميل ولويس عوض وإسماعيل مظهر وغيرهم .

    واستطاع هذه التيار الاستغرابي أن ينفث سمومه خاصة في فرتات التمزق السياسي والتصدع الاجتماعي والاقتصادي والنكسات العسكرية التي أصابت العالم العربي في العصر الحديث .
    وقد اتخذ أشكالا كثيرة منها الدعوة إلى استخدام العامية استخداما مطلقا في الأدب ووسائل الإعلام والتهجم على اللغة الفصحى بمعجمها وقواعدها وبلاغتها إلى حد المطالبة باتخاذ الحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية والاضراب عن استخدام البحور العربية والدعوة إلى ما يسمى بالشعر الحر الذي لا يلتزم النظام الموسيقي للآذان العربية والتحرر من صيغ التعبير القديمة وغخضاع عناصر الشكل لدفقات شعورية متغيرة والاستعانة بالمز حينا وبالأسطورة حينا آخر لتصوير أفكارهم ومشاعرهم واستبطان المعاني بدلا من وصفها وصفا خارجيا يعتمد على السرد المهمل.

    ويؤكد أن الحداثة ولدت وسط أجواء مضطربة ومشحونة بالصراع الحاد بين ارباب المصالح وتجار الحروب إثر الحربين العالميتين ثم تقلدها الغرب دينا جديدا أو منهجا عاما في رؤية الحياة والكون ولا تنحصر في الأدب فحسب .
    كما يرى المؤلف أن الحداثة إحدى أدوات الغزو الفكري وأسلحة التغريب ومن ثم لجا الغربيون إلى أناس من جلدتنا لاستئجار عقولهم وضمائرهم في عصر استئجار العقول والأرحام ممن قبلوا هذا الدور الرخيص الذي امتعض منه كثير من الغربيين أنفسهم فسعوا إلى تكوين جبهة علمانية مستغربة مستعدة لبيع كل القيم والأخلاقيات ومبادئ الموضعية والعقل وبالتالي تكون أجرأ على سب الإسلام وهز ثوابته وتشويه رموزه ودعاته وطمس كعالمه في ميدان الثقافة والأدب وكذلك الدعوة إلى ترويج الشائعات والمغالطات باسم حرية الفكر والأبداع والتجرؤ على النصوص والسخرية منها بحجة تأليه العقل البشري واستبدال العقل بالنقل والحرية بالجبر ثم غزالة كل الثوابت من طريق الحياة لفتح باب حرية الفكر وحرية الكفر وحرية الارتداد .
    فتحت عنوان فقه الحداثيين العرب كتب المؤلف يقول وفي خضم الأحداث ووسط هذا الصخب الإعلامي والفوضى الثقافية انطلق رهبان الحداثة العرب ودراويش البنيوية وعديموا الموهبة من الأدعياء والمتشاعرين والمجانين انطلق الملأ منهم يتهافتوت هنا وهناك وينعقون فيكل وادة ويسودون الصفحات ليبشروا بهذه التقاليع الغربية والنفايات الفلسفية والمذاهب الأدبية العفنة التي نبتت في مواخير البغاء ومواطن الرذيلة وترعرعتن في صالات الرقص والإباحية الغربية وقد ظلوا طيلة هذه الفترة يعانون من التناقض والاضطراب والغموض والابهام والحيرة والشك والغرور فهم أنفسهم لا يفهمون ما يكتبون أو ما يقصدون حتى هذه اللحظة ثم تحدث عن طوفان الزندقة والالحاد في الشعر العربي الحديث وجاء بنماذج تؤكد صحة ما ذهب إليه من الأشعار التي تنضح كفرا والحادا .

    ان جماع الفكر التغريبي وعصارة الحداثة المنتنة والجاهلية المعاصرة يلخصها الشاعر القروي بقوله نيابة عنهم وعن نفسه .
    سلام على كفر يوحدن بيننا * وأهلا سوهلا بعدها بجهنم
    وهذه الصورة القاتمة في الأدب العربي الحديث جعلته يجعل السفر الثاني لمختارات شعرية من عصر ما قبل الإسلام إنها نماذج شعث بنور التوحيد وأضاءت بهداية الكون فكساها الحق جمالا وجلالا فوعتها قلوب المؤمنين ولهجت بها ألسنة الصادقين .
    فأتى بنماذج من شعر قيس بن الحدادية وذا الإصبع العدواني وبزوغ بن عدي والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وأمية بن الصلت وزيد بن عمرو وغيرهم ثم تحدث في السفر الثالث عن رابطة الأدب الإسلامي نشأتها وأدافها وأدباء الإسلام .
    أما السفر الرابع فكان جمعا لحوارات ومناقشات حول الأدب الإسلامي مع كوكبة من الأدباء والمفكرين الإسلاميين وجاء السفر الخامس في عالم الجمال لبعض الدرر الشعرية الوضاءة .

    وقد جاء الكتاب بمثابة وثيقة أدبية وشهادة تاريخية ومحاكمة علنية لتلاميذ الاستعمار وأبواق الغرب وعصبة الإفك والمنافقين والسفهاء من بني جلدتنا كما يرصد وقائع المعارك التي دارت بين رعاة الأصالة ودعاة الحداثة بين أبناء الثقافة العربية الإسلامية وربائب العلمنة والتقريب بين العقلاء والأدعياء بين الشعراء والمتشاعرين وكان بمثابة صيحة تخدير من أدعياء ومقاولي الهدم والتخريب ودعاة العلمنة والتغريب وعبيد الشعر الحر وأعوان إبليس أجمعين ، إنه شهادة وفاة للحداثة والحداثيين العرب الذين أقيم مأتمهم في ماخور الحضارة الغربية .
                  

10-15-2004, 05:31 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رأي اسلامي حول الحداثة (Re: osama elkhawad)


    الحـــداثـــة في الفــكـــر والأدب(*)


    إبراهيم محمد جواد (**)


    لم يكن من الممكن لروّاد النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر الميلادي أن يكسروا قيود الجهل والتخلف، ما لم يقضوا بشكل حاسم ونهائي على الحلف (غير المقدس) بين الملوك والكنيسة، ومن هنا كان تسجيل التاريخ لذلك الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر الملوك بأمعاء آخر القساوسة).

    وكان من أول نتائج هذه الثورة إقصاء الدين عن الحياة نهائياً في الغرب كله، وحذف مفاهيمه وقيمه من القلوب والعقول، وخاصة عندما بدأت تظهر للوجود - بشكل واضح - تباشير النور، وانزياح جيوش الظلام المتمثل بالجهل والتخلف والتعصب الذي كانت ترعاه الكنيسة في الغرب.

    إن فصل الدين عن الدولة والمجتمع في الغرب، أدى إلى إحلال الرابطة القومية محل الرابطة الدينية، وإلى تفكيك الروابط الأسرية، وروابط القربى والنسب والدم - فيما بعد - لصالح المجتمع من طرف، ولصالح النزعة الفردية والمصلحة الشخصية - فيما سمي بالحرية - من طرف آخر، وإلى انحسار سلطة الكنيسة على العلم والفكر، وفتح الطريق لنقد الفكر القديم القائم على المثالية والإيمان، والسعي لتشكيل منهج جديد قائم على الحس والعقل.. ذلك المنهج الذي انتهى إلى المادية الحالية..

    نحن لا نريد أن نبرر لرجال النهضة الأوربيين نبذهم للدين بسبب تصرفات ومواقف الكنيسة، لكننا لا يمكن أن نغفل - في المقابل - عن الأصفاد والأغلال الثقيلة التي كانت الكنيسة تغل بها العلم والعقل باسم الدين، تلك القيود التي اعتبرت الكابوس البشع الذي كان جاثماً على صدر الفكر والعقل، مما دفع إلى التمرّد وإعلان النفير ضد كل المفاهيم والقيم الدينية التي نشرتها الكنيسة، كما لا نريد أن نبخس الجهود التي بذلت - بعد ذلك - في التنوير وإقامة المنهج العقلي في الغرب، واحترام الفكر الإنساني ودفع العلم إلى أقصى مدياته المتاحة.

    إنما نريد أن نسجل هنا الفارق الكبير بين موقف الكنيسة الغربية وموقف علماء الإسلام من العقل والعلم، وأن نوجه اللوم إلى مثقفينا ورجال الفكر لدينا الذين اتبعوا - دون روية - كل خطوات الأوربيين في نبذ الدين وقيمه وإقصائه عن الحياة وفصله عن المجتمع والدولة، رغم تباين مواقف الدينين من العلم والعقل، غير مترددين ولا غافلين عن أن نسجل هنا كذلك أن بعض المتظاهرين بزي رجال الدين في العالم الإسلامي كانوا - فعلاً وواقعاً - يشكلون مع السلاطين حلفاً يشابه في بعض جوانبه حلف الملوك والكنيسة في الغرب، وقد بدأ هذا الحلف بالانحراف عن الإسلام في موقفه من العلم والعقل، متأولين بعض النصوص الدينية فيما يخدم أهدافهم ومصالحهم، لكن ذلك لم يشكل الظاهرة العامة والدائمة التي تبرر لمثقفينا ورجال الفكر لدينا السعي إلى الإطاحة بالإسلام وقيمه ومفاهيمه السامية كما حصل في الغرب.

    الحداثة في الفكر والأدب..

    في الحقيقة والواقع، يكاد يكون لكل قديم حديث، بحيث أن كل حديث سيصبح في يوم ما قديماً. إنها سنة إلهية في الكون لا تتخلف، فكل مرحلة لاحقة من مراحل البشرية تعتبر حديثة بالنسبة إلى مرحلة سابقة، وإن مرحلتنا اليوم ستصبح قديمة في يوم من الأيام، عندما يطرأ على الحياة الاجتماعية للبشرية تحول مهم جديد، ذلك أن كل مرحلة سُلّم للتي تليها.

    وفي ضوء هذه الحقيقة نفهم أن (الحداثة هي المشاركة والمساهمة في التحول الكبير الذي تشهده الإنسانية)(1) بين كل مرحلتين متتابعتين.

    وقد أطلقت الحداثة - في عصرنا - على التحولات الفكرية التي حصلت في العصر الذي تلا النهضة الأوربية بعد الثورة الفرنسية، وسمي بالعصر الحديث.

    فالحداثة إذن ليست مذهباً أدبياً فقط، ينحصر في الكتابة والقصة والشعر خصوصاً، أو في الفن عموماً، وإنما هي مدرسة عريضة تشمل كل مجالات الحياة، فكراً وعقيدة، وثقافة وأدباً وفناً، وسلوكاً وسيرة، وقيماً ومفاهيم.

    وليس في وسع أحد أن يماري في المنشأ الغربي لمذهب الحداثة - الشائع لدينا - ولادة وحضانة وتصديراً، بحيث لم يكن لمفكرينا ومثقفينا وفنانينا وأدبائنا من دور، سوى التلقي والقبول، والتبني والترويج، الأمر الذي يعترف به الحداثويون العرب أنفسهم.

    (يؤكد محمد برادة أن الحداثة مفهوم مرتبط أساساً بالحضارة الغربية وبسياقاتها التاريخية، وما أفرزته تجاربها في مجالات مختلفة، ويصل في النهاية إلى أن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات التواصل بين الثقافتين)(2).

    الحداثة في الفكر العربي:

    إذن؛ الحداثة - كالتنوير - وليدة ثورة الغرب على الدين عموماً بسبب تصرفات الكنيسة الغربية خصوصاً، وتمحورت نظريتها حول رفض الدين، واعتماد العقل وحده طريقاً للمعرفة.

    فالحداثة على هذا نظرية فكرية وثقافية، تستند إلى خلفية سياسية، نجمت عن الجمود الفكري للكنيسة الغربية من طرف، وتحالف رجال الكنيسة مع رجال السلطة السياسية في المجتمعات الغربية ضد شرائح الشعب الأخرى من طرف آخر.

    وملاحظتنا الأولى: إن نقل نظرية الحداثة الغربية - كما هي - إلى المجتمعات العربية والإسلامية هو تعسف كبير لسببين:

    الأول: لأن الإسلام ليس غيبياً محضاً كالأديان الأخرى، ولا يقوم على أسس نظرية وخيالية ومثالية، إنما هو دين عقلي واقعي يتسم بتشريعات عملية تشمل كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والروحية والاقتصادية بتوازن وانسجام وواقعية.

    الثاني: لأن علماء الإسلام، أو إن شئت فقل رجال الدين الإسلامي - كما شاع القول مؤخراً - لم يكونوا في الماضي، وليسوا الآن، ولا يمكن أن يكونوا في المستقبل في حلف مع السلطة السياسية في المجتمع إذا انحرفت عن مفاهيم الإسلام وتشريعاته العملية، وأقول ذلك غير غافل عن انحراف البعض، ومحاولاتهم لأن يكونوا كذلك.

    إن للعقل في الإسلام دوراً فريداً في المحور الأساسي للدين، وهو التعرف على الله الخالق وتوحيده، وكذلك الدلالة على ضرورة اللطف الإلهي في إرسال الأنبياء وبعث الرسل، ليكونوا الأدلاء على توحيد الله سبحانه، والوسطاء لتلقي المنهج الفطري والعقلي والواقعي لطريق السعادة الإنسانية.

    وبالتالي فإن الإسلام - كما هو واضح ومعروف - هو دين العقل، كما هو دين الفطرة وكما هو دين الوحي.

    ولذلك فإن نظرية الحداثة - بمفهومها الغربي - لا محل لها في المجتمعات الإسلامية، وإن كانت حاضرة على الدوام بمفهوم إسلامي بحت، لم يغب عن الساحة الإسلامية، ألا وهو التجديد، الذي هو مضمون قول الرسول الأعظم(ص) - في بعض الروايات -:

    (يبعث الله لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمور دينها).

    وهذا المفهوم - التجديد - هو أحد أهم وظائف الإمامة لدى مدرسة أهل البيت(ع) التي استمر عطاؤها المتواصل أثناء غيبة الإمام(ع).

    فالتجديد أمر مستمر مدى العصور، لا يختص بعصر دون آخر، وليس له مدى زمني يتوقف عنده، ما دامت الأحكام يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، ضمن ما سمي بالثابت والمتغير في الأحكام.

    والتجديد هو - بمعنى من المعاني - تحديث؛ لكنه مضبوط بموازين شرعية قررتها الأحكام الثابتة ورعاتها من الأئمة والفقهاء.

    والملاحظة الثانية: أن مشروع التحديث بالمفهوم الغربي طرح سلطوي تروّج له السلطة السياسية، وقد فشل تماماً في كل المجالات التي طرح فيها، رغم الوسائل الضخمة التي وضعت تحت تصرفه، والجهاز الكبير - من المثقفين - الذي تهيأ لحمله، والأموال الطائلة التي رصدت له.. ويعود سبب فشل هذا المشروع في العالمين العربي والإسلامي إلى عاملين:

    الأول: ارتباطه بالمشروع الاستعماري.

    الثاني: تناقضه مع المشروع الإسلامي للتجديد والإحياء.

    والشعوب الإسلامية عامة تتعاطف وتتجاوب مع المشروع الإسلامي، وتنفر من المشروع الاستعماري وتعارضه ولا تتجاوب معه.

    لقد انصبت جهود مثقفي الحداثة الغربية على الهجوم على الدين، وتفكيك العادات والأواصر الاجتماعية، وكسر الرموز التراثية - السلبية منها والإيجابية على السواء - وقد ذهبت كل هذه الجهود أدراج الرياح، وإن خلفت بعض الغبار المتراكم في كثير من الزوايا والمناحي، وأفسدت كثيراً من العقول والقلوب والنفوس.

    فقد فشلت الدعوة إلى الكتابة بالخط اللاتيني، وتبخرت جهود الداعين إلى كتابة الأحرف العربية كما تلفظ، خرقاً لقواعد اللغة العربية في النحو والإملاء والخط، وانتكست كل محاولات إعادة صياغة قواعد النحو والصرف، وإلباس الألفاظ معاني جديدة غير معهودة في اللغة، وارتكست كل محاولات الهجوم على القرآن الكريم واعتباره بشرياً من صياغة الرسول، وانهزمت كل محاولات قراءته قراءات عصرية مبنية على مفاهيم الحداثة الغربية. إن كل هذه المحاولات لم تلق صدىً يذكر في عقول وقلوب الجماهير المسلمة، وإن كانت قد خلفت بعض الغيوم القاتمة في أجواء بعض المثقفين الماضين على خطى الحداثة الغربية.

    أما المجالات البسيطة التي تبدى للمثقفين الحداثويين أن الحداثة الغربية قد نجحت بها، فإن الفضل في ذلك لا يعود للحداثة ولا للحداثويين، وإنما هي من طبائع الأمور في المجالات المرنة التي تقبل التطور والتقولب وفق المقتضيات الحياتية المتسارعة التي لا تتوقف، ووفق المعارف والعلوم والتقنيات التي تتلاحق وتتكشف يوماً بعد يوم.

    والإسلام دين العلم والمعرفة، ودين التقنية والحضارة والمدنية، لا يعاديها ولا يجافيها ولا يقف في طريقها، بل يحث عليها ويعاضدها ويساندها إلى آخر مدى.

    الملاحظة الثالثة: أن الحداثة الغربية - التي يعتضدها حداثويونا - قد استنفذت أغراضها وفقدت كل مبررات وجودها، حتى أن الغرب نفسه قد ملّها وسئمها، وبدأ يتحرك للثورة عليها بعد أن اكتشف عوارها ومقتلها، وأحس بالنفق المظلم الذي أدخلته فيه، فراح يتلمس طريقه إلى ما سمي بـ(ما بعد الحداثة).

    وما بعد الحداثة هذا، ليس تطويراً للحداثة ولا تجديداً لها ولا منبثقاً عنها، وإنما هو نقيضها وضدها، المناضل لوأدها والتخلص منها ومن آثارها الفاسدة.

    (ما بعد الحداثة) ثورة ضد تفرد العقل والعلم، ومحاولة للعودة إلى الإيمان، فلقد انهار - في الغرب - الاعتقاد بسيادة العقل وحده، وخاب أمل الغربيين بالوعد الأولي للحداثة، المتمثل بتحرير البشر من الطبيعة، وبإنهاء الاستغلال والسيطرة، وبنقل البشرية إلى جنة أرضية موعودة.. ولقد ذهب بعض الغربيين بعيداً في هذا المجال، حتى قال البيئيون: (إننا في سعينا للتحكم بالطبيعة إنما نقوم بتدميرها وتدمير مستقبلنا كجنس بشري في الوقت نفسه)(3).

    (إن تيار ما بعد الحداثة - في الغرب - ينذر بأن العقل لا يستطيع - في التحليل الأخير - أن يتحكم بالطبيعة، بل إن الطبيعة هي التي تنتقم منا، ويعني ذلك أن هناك - في النهاية - قوة أخرى أقوى من العقل البشري)(4)، أليس هذا بالضبط ما كان يقوله الدين على الدوام؟!.

    (إن البرجوازية والرأسمالية المسيطرتين في الغرب، دفعتا الجنس البشري إلى الأمام ليحرر نفسه من سلاسل الطبيعة، ولقد رافق ذلك استبدال الإيمان بقوة عظمى بالاحتمالات غير المحددة الناتجة من المخيلة الإنسانية، والآن وبعد إدراك حدود القدرة الإنسانية على التحكم بالطبيعة، استعاد الإيمان بقوة عظمى زخمه)(5)، وقد توازى ذلك مع انهيار الإيمان بقدرة الإنسان على حل المشاكل الاجتماعية.

    يقول أليكس كالينيكوس: (يجب فهم ما بعد الحداثة - بوجه رئيسي - كاستجابة لفشل التحول الكبير في الفترة ما بين 1968 - 1976م في الوفاء بالوعود الثورية التي أطلقها، فما الذي يمكن أن يكون أكثر تطميناً لجيل انجذب نحو الماركسية، ثم ابتعد عنها بفعل ما شهده العقدان الماضيان من صعود وهبوط سياسيين)(6).

    ويقول ستيفن سيرمان: (لقد ترافق صعود الحداثة مع تحول أبستيمولوجي من الميتافيزيقا إلى الوضعية، وحل محل الإيمان بوجود حقيقة مطلقة لا يستطيع الإنسان استيعابها، البحث عن المعرفة الجزئية التي يمكن تجميعها والتأكد من صحتها بوساطة الأساليب العلمية، وكان ذلك عبارة عن تحول من الإيمان بالحقيقة المطلقة التي تتحكم بالحياة البشرية، إلى الإيمان بحقائق علمية جزئية يستطيع الإنسان استخدامها للسيطرة على الطبيعة، وهكذا بات الهدف النهائي للعقلانية العلمية اكتشاف سر الكون والحصول على المعرفة الشمولية الكبرى، إلا أن الدين ينكر إمكان إنجاز مثل هذه المهمة لاعتقاده بوجود حقيقة مطلقة لا يمكن اكتشافها، وهذا ما تقول به نظرية ما بعد الحداثة، وإن عبر طريق مختلف، فهي ترفض السعي للأنساق الفكرية المغلقة، وتنكر إمكان اكتساب المعرفة التامة عبر الطرائق العلمية، إذ ترى أن العقل ليس مصدراً موثوقاً به للمعرفة، فهو نفسه جزء من مشروع الهيمنة، والحقيقة المطلقة لا يمكن التوصل إليها، لأن لكل فرد حقيقته الخاصة، وفي غياب الحقيقة المعروفة موضوعياً، لا يبقى سوى المعتقدات الذاتية، وهذا ما يعود بنا إلى الإيمان)(7).

    إذا كان هذا هو ما آلت إليه الحداثة في الغرب، فهل لحداثويينا المعاصرين أن يفيئوا إلى هذه الحقيقة ولو من باب التقليد للغرب أيضاً؟!.

    الحداثة في الأدب العربي..

    إن الحداثة في الأدب ما هي إلا فرع عن الحداثة في الفكر، وهي مثلها مستمدة من الغرب ولادة وحضانة وتصديراً.

    يعتبر الأدب (الشعر - القصة - الرواية - المسرحية.. الخ) أحد أهم قنوات التحديث ووسائله، من حيث هو وسيلة التواصل بين الأفراد والمجتمعات للتعبير عن الأفكار والهواجس والدوافع والرغائب والمطامع والمطامح، وكل ما يدور في خلد الإنسان وفكره.

    وبكسر طوق الكنيسة في الغرب، والتحرر من المفاهيم والقيم الدينية، برزت كثير من النظريات الفلسفية المرتكزة على المادية والإلحاد.

    وفي هذا الجو الفكري تتابعت المذاهب الأدبية الغربية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية، أفضت إلى الرمزية ومنها إلى ما سمي بالحداثة، ثم نقلت إلى العالم العربي دون أي تغيير أو تبديل، فسادت في أدبنا العربي الحديث المصطلحات الغربية وأساليب الكتابة الغربية، ومناهج النقد الأدبي الغربية، وحتى الكلمات وهي تكتب بالحرف العربي لم تعد ذات مضامين ومعانٍ عربية.

    تقول الكاتبة الحداثوية خالدة سعيد في بحث لها عنوانه (الملامح الفكرية للحداثة): (إن التوجهات الأساسية لمفكري العشرينات تقدم خطوطاً عريضة تسمح بالقول إن البداية الحقيقية للحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة قد انطلقت يومذاك، فقد مثل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، وأقام مرجعين بديلين: العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني ومن ثَمّ تطوري. فالحقيقة عند رائد كجبران أو طه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين)(.

    وحتى لا يلتبس الأمر على أحد فيظن أن ذلك النهج إنما ينطبق على الدين كما صورته الكنيسة فقط، أنقل فقرة أخرى للباحثة نفسها تقول فيها:

    (عندما كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج (الإسلام) بإسقاط صفة الأصلية فيه، وردّه إلى حدود الموروث التاريخي، فيؤكدان أن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر فيما اكتسب صفة القداسة، وحق نزع الأسطورة من المقدس، وحق طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة)(9).

    سمات الحداثة الغربية:

    أ) رواد الحداثة الأدبية في الغرب: (كان إدغار آلان بو - الأمريكي - من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة في جانبها الأدبي على الأقل، وقد تأثر به كثير من الرموز التاريخية للحداثة مثل مالارميه وفاليري وموبوسان، وكان المؤثر الأول في فكر وشعر بودلير أستاذ الحداثيين في كل مكان.

    وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق)(10).

    إدغار هذا؛ كانت حياته وسلوكه مجافيين للحق والأخلاق والجمال على السواء، وكذلك كان شعره وأدبه (لقد كان سلوكه مشيناً جداً، وكانت حياته موزعة بين الفشل الدراسي والقمار والخمور والعلاقات الفاسدة، وتوّجت بمحاولة الانتحار بالأفيون)(11).

    أما بودلير - أستاذ الحداثيين في كل مكان، والذي كان عميد الرمزية بعد إدغار، والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل - فقد نادى بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس وغالي شكري(12).

    (لقد قام المذهب الرمزي الذي أراده بودلير، على تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة، تشير إلى مواضيع لم تعهدها من قبل، وكان يطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي)(13).

    ومن الطبيعي جداً أن يسلك هذا المسلك في الأدب والشعر من كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجاً للضياع والشذوذ، وقضى شطراً من شبابه في الحي اللاتيني بباريس، حيث الفسوق والانحلال والتبذل والعلاقات الشاذة ثم لاذ في المرحلة الأخيرة من عمره بالمخدرات والشراب.

    هكذا كان بودلير، وكان إلى ذلك مصاباً بانفصام الشخصية وبالنرجسية، فكان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به كما يقول إبراهيم ناجي مترجم ديوان بودلير (أزهار الشر) ومصطفى السحرتي مقدم هذه الترجمة.

    على أن الطريف أنه (حتى فرنسا على ما فيها من انحلال وميوعة ومجون وفساد منعت نشر بعض قصائده، عندما طبع ديوانه في باريس سنة 1957م، ويقول عنه كاتب أوربي (إن بودلير شيطان من طراز خاص) ويقول عنه آخر (إنك لا تشم في شعره رائحة الأدب والفن، وإنما تشم رائحة الأفيون))(14).

    وعلى خطى بودلير مشى رامبو الذي(دعا إلى هدم عقلاني لكل الحواس، وإلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لابد أن يتمرد على التراث وعلى الماضي، ويقطع أي صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية.. وتميز شعره فنياً بغموضه وتغييره لبنية التركيب والصياغة اللغوية عما وضعت له، وتميز أيضاً بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة)(15).

    وعلى آثار بودلير ورامبو جاء مالارميه وبول فاليري وغيرهما ووصلت الحداثة في الغرب إلى شكلها النهائي على يد الأمريكي اليهودي عازرا باوند والإنكليزي توماس إليوت.

    وبهؤلاء جميعاً تأثرت الموجات الأولى من الحداثيين العرب مثل: السياب ونازك الملائكة والبياتي وخليل حاوي وأدونيس.. وغيرهم(16)، وتعتبر قصيدة (الأرض الخراب) لإليوت معلقة الحداثيين العرب (بما حوته من غموض ورمزية، حولت الأدب إلى كيان مغلق، تتبدى في ثناياه الرموز والأساطير واللغة الركيكة العامية إلى آخر ما نراه اليوم من مظاهر الأدب اليومي للحداثيين العرب)(17).

    وقد يدافع الغامدي عن المنشأ الغربي للحداثة العربية مبررا ذلك بالشمول الإنساني والصياغة العالمية فيقول: (ومهما يقال أن تلك المصطلحات منقولة من الغرب، حيث كانت صدى لما كان عليه القرن التاسع عشر، إلا أن لها شمولها الإنساني وصياغتها العالمية التي تناسب كل لغة، ومن هذه المصطلحات على سبيل المثال (الداروينية) التي تعتبر كشفاً لتطور بعض جوانب الكائن الإنساني، وكذلك (الميثولوجية) التي تعد كشفاً لأصول العقائد، وهذه المصطلحات في جملتها تفصح عن منهج جديد ومحدد يستلهم العقل والتجربة في ربط المقدمات بالنتائج والعلة بالمعلول)(1.

    ونحن بالطبع نوافق بل ندعو إلى استلهام العقل والتجربة وإلى ربط المقدمات بالنتائج والعلة بالمعلول باعتباره المنهج العقلي للاستنباط، لكن ما نرفضه هو النتائج المبتسرة والمفتعلة أو المتسرعة التي يُدّعى انتماؤها لذلك المنهج، تلك النتائج التي سقطت في الغرب نفسه بعدما أفسدت فكر وسلوك أجيال بكاملها في الغرب والشرق بنسب متفاوتة.

    أما بعض منظري الحداثة في الأدب العربي فقد نحوا منحى آخر حين مضوا يبحثون عن طريق يمنحهم انعطافة نحو حداثة عربية الجذور، فرجعوا إلى العصر الجاهلي ومنه إلى العصرين الأموي والعباسي، يفتشون هنا وهناك عن بعض النماذج ويلبسونها ثوب الحداثة، فأبرزوا أمرؤ القيس وبشار بن برد وأبا نواس وعمر بن أبي ربيعة وغيرهم ممن سار من الشعراء القدامى على هذا الدرب.

    ويوضح أدونيس سبب إعجاب الحداثيين العرب بشعر أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة - على سبيل المثال - فيقول: (إن الانتهاك هو ما يجذبنا في شعرهما)(19).

    بل كانت فرحتهم أشد عندما ظفروا ببغيتهم في إيجاد جذور تاريخية عربية للحداثة - كما يدعون - عند بعض المتصوفة كالنّفري والحلاج وذا النون المصري وابن عربي وغيرهم، ولم يتم لهم ذلك إلا بالفهم الخاص والمنحرف لنصوص أمثال هؤلاء الصوفيين الكبار، فاعتبروا أن الرافد الصوفي يصب في دائرة الشعر العربي المعاصر ويلوّنه بلونه الخاص.. وهكذا راحوا يدّعون أن الشعر العربي الجديد يستمد من التراث الصوفي.

    يقول عبد الحميد جيدة: (الرافد الصوفي صب في دائرة الشعر العربي المعاصر ولونه بلونه الخاص، إن النّفري والحلاج وذا النون المصري وابن عربي وغيرهم أثروا في أدونيس والسياب ونازك والبياتي وصلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر، لذلك فإن القيم التي يضيفها الشعر العربي الجديد إنما يستمدها من التراث الصوفي)(20).

    لكن هذا لم يكن سوى مجرد ادّعاء لا مصداق له، ينفيه الحداثويون العرب أنفسهم، يقول غالي شكري: (وعندما أقول الشعراء الجدد، وأذكر مفهوم الحداثة عندهم.. أتمثل كبار شعراء الحركة الحديثة من أمثال أدونيس وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي.. عند هؤلاء سوف نعثر على إليوت وعايزرا باوند، وربما على رواسب من رامبو وفاليري، وربما على ملامح من أحدث شعراء العصر في أوربا وأمريكا، ولكنا لن نعثر على التراث العربي)(21).

    ويقول الشاعر محمد بنيس: (نحن جميعاً متورطون في الحداثة، وقد أصبحت أثراً من آثار جسدنا.. وحتى لا نتوه في المفارقات والمطابقات نثبت في الحداثة حداثات والمشترك بينها هو أرضية الغرب تقنية وفكراً وإبداعاً)(22).

    ويقول جبرا إبراهيم جبرا في كتابه (الرحلة الثامنة): (حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوربا، ومن العبث أن نستشهد بالقدامى)(23).

    ويقول غالي شكري: (إن محاولة تبرير الشعر الحديث بميراثنا التاريخي من حركات التجديد في الشعر العربي هي محاولة غير مجدية، بل أصبحت ضارة إلى حدٍ ما)(24).

    وهكذا كان الحداثويون العرب صدى للحداثة الغربية والمرآة التي نقلتها كما هي إلى مجتمعاتنا العربية، والأوعية التي حملتها بكل تنوّعاتها وتناقضاتها.

    ب) تذبذبات الحداثة: لا أريد أن أدخل لجة التأريخ لأدب الحداثة، وإنما أريد أن أؤكد أن الحداثة في الأدب الأوربي لم تستقر على مفهوم معين (فكثير من الحركات الأدبية كالطبيعية والانطباعية والرمزية والتصويرية والمستقبلية.. الخ متداخلة ومترابطة مع بعضها، وكل واحدة منها هي نتاج حركات أخرى، وليست حركة قائمة بذاتها. وإذا أخذنا الحداثة كحركة من هذه الحركات، أو حركة تضم كل هذه الحركات فهي لا تختلف عنها من حيث كونها تتضمن معاني مضطربة)(25).

    تدرجت الحداثة من حداثة مبكرة أولت الشكل اهتماماً كبيراً وانتهت بحداثة جديدة (ما بعد الحداثة) ضربت بالشكل عرض الحائط.. وخلال هذه الرحلة الطويلة مرت بفن اللافن، إلى فن الصدفة، إلى أدب الصمت الذي يقوم على اللامعقول واللاتخطيط، وعلى المحاكاة الهزلية، وعزفت عن الفن التقليدي إلى الفن التجريدي والتجريبي و.. إلى مسميات لا تنتهي لأنها تسير إلى لا هدف، ولو سارت إلى هدف محدد لانتهت هذه الأسماء، وانتهت معها الحداثة. وقد عبر أرفنك هاو عن هذا الواقع حينما قال: (لم تأت الحداثة بأسلوبها الخاص المؤثر، وإذا أتت بذلك تكون قد انتهت كحداثة)(26).

    كان هناك دائماً شيء من التذبذب والتأرجح في الأسلوب، بين المستقبلية والعدمية، بين المحافظة والثورية، بين الطبيعية والرمزية والرومانسية وحتى الكلاسيكية، وكان هناك دائماً نوع من المد والجزر بين العقلانية واللاعقلانية، وبين الوعي واللاوعي، وبين الذاتية والموضوعية.

    ما أغرب ما كانت تمزج الحداثة بين الترحيب بالتكنولوجيا وبين استهجانها، وتتأرجح بين الإيمان بصدق أشكال التعبير الجديدة عن الزمن وبين اعتبارها هروباً من التاريخ ومن وطأة الزمن.

    هذا الخلط بين المتناقضات كان السمة الأساسية للحداثة، هذه السمة التي نسفت كل أنظمة الفكر، وقلبت القواعد التقليدية للغة والفن، وأفسدت العلاقة بين الكلمات والأشياء، وفتحت الباب على مصراعيه أمام الانتقال المفاجئ وغير المنطقي من موضوع لآخر، واعتماد الصور المبهمة الضبابية التي تجمع بين النظام والفوضى، الخلق والتدمير، البناء والهدم، الظلام والنور، الموت والحياة.

    ج) أسلوب المغايرة: لعل أهم ما تشربته الحداثة الأدبية من الحداثة الفكرية هو (أسلوب المغايرة) وهو القاسم المشترك بين الفكر والأدب الحداثويين.

    لكن الفارق أن المغايرة في الفكر كانت تسير إلى هدف محدد سلفاً هو الانخلاع عن الماضي برمته بما يعنيه من دين وقيم وأخلاق، بينما المغايرة في الأدب لم تتخذ لها هدفاً محدداً سوى المغايرة في الأسلوب، وإن لم يحمل أي فكر على الإطلاق.

    هكذا نفهم قول فلوبير: (كل ما أريد أن أفعله هو أن أنتج كتاباً جميلاً حول لا شيء، وغير مترابط إلا مع نفسه)(27).

    ولكي يحقق الأوربيون هذا الهدف (التغاير) أو (التمايز) كان لابد من الانخلاع عن الماضي أولاً، ثم عن الحاضر بعد ذلك - عندما يصبح ماضياً - دون أن يقدموا (نهجاً) للمستقبل.

    إن التغيير بحد ذاته هو الهدف وهو المنهج، وهكذا انسلخ الأدباء الحداثيون الأوربيون ليس عن الماضي فقط وإنما عن الحاضر أيضاً، بل وليس عن الواقع فقط وإنما عن الحياة كذلك، وعاشوا في عالم من خيال يسبحون فيه بلا جهة محددة، تتقاذفهم رياحه الهوجاء وأمواجه العاتية حيث تشاء، إنه عالم الضياع في النزوات والشهوات والتيه في الأهواء والنوازع المفرطة في الذاتية، عالم العبثية والفوضى، وهو عالم لا يليق بالإنسان العاقل.

    ولابد أن نستدرك بأن هذا (اللامنهج) أو (التغاير اللاهدفي) لم يؤطر كل الأدباء الحداثيين الأوربيين، فإن كثيراً منهم قد وضعوا نصب أعينهم هدفاً محدداً لا يبتعد كثيراً عن هدف الحداثة في الفكر، كإشاعة أدب الانحلال أو الجنس أو فوضى العلاقات عموماً، أو أدب التحرر من الدين والتحلل من القيم والأخلاق.. أو.. أو.. لكن أسلوب التغيير نحو لا هدف معين بقي هو السمة الغالبة على الأدب الأوربي الحديث، وخاصة منه الشعر.

    إن أهم ما هدفت إليه الحداثة في الأدب أن يأتي أسلوبها على غير مثال سبق، ليستحقوا بذلك أن يكونوا إبداعيين حقاً.

    وحتى الأدباء والشعراء الذين اتخذوا من الهجوم على الدين والأخلاق والقيم محوراً لأدبهم، فلأنهم ربما وجدوا - في ذلك الحين - أن الدين والأخلاق والقيم كانت هي الواقع المعاش، وان الحداثة كان لابد أن تكون في مواجهة هذا الواقع، وأن مركب أسلوب المغايرة كان لابد أن يجري هذا المجرى، وأن يخوض هذا البحر، وربما لاقى ذلك عند كثير منهم هوىً نفسياً - نابعاً من النوازع والأهواء والسلوك الشخصي المنحرف - إضافة إلى الضرورة الإبداعية الأدبية.

    ومن الإنصاف أن نشير إلى أن ذلك الواقع المعاش في أوربا - في ذلك الحين - كان يُغطى جوره وظلمه وخنقه لحرية الإنسان، بقشرة هشة رقيقة من الدين المسيحي والأخلاق، مما يجعلنا نعطي مصداقية - إلى حدٍ ما - لبعض الأدباء الحداثيين في الغرب، وضمن هذا الإطار نفهم - على سبيل المثال - قول نيتشه: (على الفنان أن لا يحابي الواقع)(2.

    إن أسلوب المغايرة جعل الحداثة في الأدب تتسم بمفهوم غائم وغامض على عكس الحداثة في الفكر، وإن مقولة رامبو: (من الضروري أن نكون محدثين بصورة مطلقة)، لقيت صدىً قوياً في الغرب وفي الشرق على السواء، رغم التأويلات المختلفة التي رافقتها، ورغم تضارب الآراء حول تفاصيل مصطلح الحداثة وطبيعته وتطور مفهومه بتطور الزمن، يقول ليونيل ترلنك: (من جملة المشاكل التي تواجهنا عند دراسة العصر الحديث هي أنه لا توجد كلمة واحدة تحدد سمات هذا العصر، لقد استعملت كلمة (الحداثة) من حين لآخر مرادفة للرومانسية، واستعملت كذلك في وصف الأجواء العامة للأدب الأوربي في القرن العشرين بوجه عام، أما النقاد الماركسيون فيعدونها نوعاً من البرجوازية الجمالية المتأخرة النابعة من الواقعية، لقد استخدم هذا المصطلح ليغطي مجموعة من الحركات التي جاءت لتحطيم الواقعية أو الرومانسية، وكان ديدنها التجريد، حركات مثل الانطباعية، ما بعد الانطباعية، التعبيرية، التكعيبية، المستقبلية، الرمزية، التصويرية، الدوامية، الدادائية والسريالية، مع ذلك ليس هناك ما يوحد هذه الحركات، بل إن بعضها جاء ثورة كاسحة على البعض الآخر)(29).

    وهذا طبعاً بسبب أسلوب التغاير اللاهدفي أو التمايز الذي انتهجته الحداثة التي وصفها الناقد سي سي لوس في إحدى محاضراته عام 1955م فقال: (لا أتصور أن هناك عصراً سالفاً أتى بأعمال محيرة ومدمرة كالأعمال التي جاءت بها الدادائية السريالية، وأعتقد جازماً بأن هذا ينطبق على الشعر)(30).

    ويقول هربرت ريد: (شهدت الأزمان السالفة كثيراً من الثورات الفنية، فكل جيل جديد جاء بثورة فنية جديدة، إننا نجد أن لكل القرون ثوراتها المتعاقبة.. أما ما يسميه بعضهم بالثورة الفنية المعاصرة، فلا أعتقد أن لفظة ثورة مناسبة لهذا السياق، إنها تحطيم، بل انحلال مأساوي)(31).

    د) الغموض والرمز: هنالك من يدّعي أن الانتقال في النص الشعري مما هو منطوق ومسموع إلى ما هو مقروء، قد أحدث تغييراً كلياً في الأدب عموماً وفي الشعر خصوصاً، فلم يعد الصوت الإنساني أساساً وشرطاً لكل الآداب، بعدما أتيح للعين النهمة أن تقرأ بحرية ما يكتب على الصفحات، الأمر الذي سمح للنص الأدبي - والشعر ضمناً - بالانتقال من الإيقاع المتسلسل إلى المعنى الذي تفرضه اللحظة الآنية.

    يقول مالارميه: (إن غياب اتجاه العبارة الشخصي المتحمس، مهّد الطريق لظهور فن يدين بالفضل الكبير إلى الأشكال وليس إلى المشاعر، إن الشكل يضاعف المعنى ويحول القصيدة إلى مجموعة من التعابير الموحدة الشاملة)(32).

    وهذا يفسر طريقة مالارميه الغريبة في تركيب الجمل، بحيث لا تتضمن فكرة مركزية واحدة، بل تقوم على تحدي قواعد النحو، وتشتمل على مجموعة من الأسماء الغريبة الشاذة، كعبارته مثلاً: (شعلة الشهرة، رغوة دم، ذهب، عاصفة) أو عبارته الأخرى: (ليلٌ، يأسٌ، وأحجار كريمة).

    بمعنى آخر: إن ما أتاحه تقدم الطباعة، والكم الهائل من الكتب والمجلات والدوريات.. الخ من تراجع التلقي عن طريق الإلقاء والاستماع (صوت - أذن) وتقدم التلقي عن طريق الكتابة والقراءة (شكل - عين)، قد أدى إلى غياب التعبير الشخصي المتحمس لصالح التعبير الشكلي الفني، مما يسمح بالاعتماد على الرمز.

    (ويعدد جان مورا في (بيان الحركة الرمزية) بعضاً من الخصائص الأسلوبية في اللغة الرمزية فيذكر: كلمات نقية.. حشوٌ مهم.. حذف غامض، الانتقال من تركيب نحوي معين إلى تركيب آخر يحقق الجرأة المتطرفة)(33).

    وسواء صح هذا التحليل أم لا، فإن ما يهمنا هنا هو ما وصل إليه الرمز عند هؤلاء الحداثيين الذين يعتبرون أن الرمز يتكون من الموضوع والفكرة، من الحضور والغياب، من الكلمة المكتوبة والكلمة الممحوة، من الشكل والفراغ ، وينظرون إلى البياض الذي يكتنف النص على أنه صمت مفعم بالمعنى، لا يقل روعة عن النص الشعري نفسه، وكذلك استعمال اللغة غير الكاملة.. إلى آخر هذه العبارات التي لا تقدم ولا تؤخر.

    ولعلّ شاعراً يفاجئنا ذات يوم بقصيدة عصماء على صفحة ناصعة بيضاء، بلا كلام ولا عنوان؛ إنه الرمز، وهي حداثة الغموض، لا يهم ما تفهمه من النص. المهم ما تثيره بعض كلماته الشاذة الغريبة الغامضة من إيحاءات لديك، والأهم أن تثير لدى كل قارئ إيحاءات خاصة به، والأفضل أن لا تتوحد الإيحاءات وأن لا تلتقي المعاني والأفكار، وأجمل قصيدة حداثوية على الإطلاق هي التي لا تتضمن أية فكرة، ولا تحمل أي معنى، بشرط أن تثير إيحاءات متناقضة غير متناغمة ولا منسجمة لدى القراء!!.

    يقول سعيد السريحي: (ومن هنا أصبح من الصعب علينا أن نتفهم القصيدة الجديدة بعد أن تخلت عن أن يكون لها غرض ما، وأصبحت اللغة فيها لا تشير أو تحيل إلى معنى محدد، وإنما هي توحي بالمعنى إيحاء بحيث لا تنتهي القصيدة عند انتهاء الشاعر من كتابتها، وإنما تظل تنمو في نفس كل قارئ من قرائها حتى يوشك أن يصبح لها من المعاني بعدد ما لها من القراء)(34).

    إن عباءة الغموض، ودثار الضباب والسحب هو السمة البارزة للحداثة العربية، فأنت إذا أصخت بسمعك أو رنوت بعينك إلى قصيدة الشاعر الحداثوي، لا تستطيع مهما ركزت السمع أو البصر بفكر حاضر وقلب مقبل وعقل يقظ مفتوح لا تستطيع أن تخرج بمفهوم واحد واضح، بل تجد نفسك تتأرجح بين الليل والنهار بين العتمة والنور، بين اليأس والأمل، بين الرجاء والخوف، بين الحياة والموت، بين الكلام والصمت، ولعله الكلام الصامت، والصمت المتكلم، والليل المنير، والنهار المظلم، والموت المفعم بالحياة وحياة الموت، والارتفاع بحبل اليأس القاتل، والسقوط في مهاوي الرجاء والأمل.. (كلام طاعن بالصمت، واحتمالات فناء تنعش الحياة.. وامرأة تسلبني كسرة موتي أو تمنحني قبر حياتي، تحمل تاريخ الهجرة صوب الضلع السائب، وأنا لا أملك إلا صمتاً أسحبه من فمك فيصير فراشة)(35).

    الرمز قيمة فنية وجمالية لا تنكر، ولا يمكن الاعتراض عليه، وإن درجة الإحساس بالجمال التي يمنحنا إياها الرمز لا يمنحنا إياها التعبير الواضح الصريح، وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة جداً لا مجال لذكرها الآن.

    لكن هذا لا يسوغ بحال من الأحوال الإفراط في الرمز وصولاً به إلى درجة الإبهام والغموض بحيث لا يفك معانيه ودلالاته وغوامضه المثقف بل ولا حتى الشاعر نفسه في كثير من القصائد.

    الأدب.. الشعر.. الفن عامة، حالة ثقافية عامة للإنسان، لا حالة خاصة تهم النخبة أو نخبة النخبة فقط.

    إن الغموض المفرط يدخل الشعر في ظلام الطلاسم، ويحشره في زمرة الأحاجي والألغاز، ويحرفه عن لغة الأمة والمجتمع إلى لغة الكهنة والسحرة، لغة المشعوذين والدجالين أعداء الإنسانية والمتربصين شراً بالإنسان، وإضافة إلى أنه لا يلبي طموح الشاعر في التعبير عن مشاعره، فإنه لا يوصل هذه المشاعر إلى السامع أو القارئ.

    وعودة إلى بيان جان مورا عن الحركة الرمزية، الذي أشرنا إليه قبل قليل لنذكر بطريقة صنع الغموض، وأقول صنع الغموض، لأنه ليس غموضا بديهياً، بل هو غموض مصنوع منحوت، مؤلف من كلمات نقية مع حشو مبهم وحذف غامض، إنه الثالوث الحداثوي المقدس، وهو أعقد قليلاً من قصة الورقة المكتوبة التي تطوى وتقص بعناية ثم يعاد جمعها من جديد - كيفما اتفق - للحصول على نص أدبي طريف أو لوحة فنية باهرة، إنه هنا حشو بطريقة فنية وحذف بطريقة انتقائية، وقصد مسبق لصنع نص غامض.

    ويفسر السريحي سر الغموض في القصيدة الحداثوية فيقول: (إن ظاهرة الغموض التي من شأنها أن تعد السمة الأولى للقصيدة الجديدة، نتيجة حتمية أفضت إليها سلسلة من التطورات التي طرأت على العلاقة المتوترة بين الشاعر المبدع والقارئ المتلقي)(36).

    ويكشف الحداثوي أحمد عائل فقيه سر التوتر بقوله: (إننا في مجمل الأحوال نسير في اتجاه معاكس لما هو سائد ومكرس في بنية المجتمع.. إذاً كيف يمكنك تحرير ما تحلم به، وما تود أن تقوله، علناً؟)(37).

    موقفنا من الحداثة في الفكر والأدب..

    ليست مجتمعاتنا العربية بأقل حاجة إلى بعض معطيات الحداثة من المجتمعات الغربية، لكننا نرفض أن تكون الحداثة العربية نسخة طبق الأصل - بل ربما مشوهة - عن الحداثة الغربية، ونطالب بالتحديث والتجديد النابعين من ضرورة عربية خالصة، والمنطلقين على أساس متين من المنهج الاستدلالي العقلي في الفكر والاستخدام السليم للغة العربية في الأدب.

    فالمجتمع العربي أيضاً تثقل كواهله مجموعة كبيرة من القيود والأغلال التي تفرضها السلطات السياسية، مغطاة تارة بقشور من الأخلاق والعادات، ومبررة تارة أخرى بالتطور والتجدد والمعاصرة.

    ولذلك فنحن مع الحداثة فيما ترمي إليه من تغيير وتجديد، على أن يقوم هذا التجديد على أسس علمية سليمة، وأن يكون للتغيير هدف مشروع مدروس بعناية، ولسنا معها في هدم القيم الدينية الأصيلة والأخلاق الإنسانية الراشدة.

    نحن معها في إعادة صياغة الشكل وفق ضوابط سليمة، ولسنا معها في أن تجر الأدب إلى ظلمات اليأس والفوضى والعبثية والسوداوية المغرقة أو الخيال المفرط، أو الواقعية المؤذية التي تفسد الفرد والمجتمع الإنساني.

    نحن نريد أن يستفيد أدباؤنا وشعراؤنا من إيجابيات الحداثة.. من الوعي المبدع، من الخيال الخلاق، من الأبعاد الجمالية الأخاذة، من الظلال الفنية الموحية، دون التورط في العوالم المجهولة، والتلبس باللاهدفية واللاجدوائية والفوضى الفكرية واللغوية، والانبتات عن الجذور، والضياع في بحر من ظلمات الطلاسم والغموض...

    الهــوامـــش:

    (*) هذه الدراسة هي مختصر شديد الإيجاز لمحاضرتين ألقاهما المؤلف في منتدى الأربعاء الثقافي مما أدى إلى حذف الشواهد والأمثلة والنصوص.

    (**) إبراهيم محمد جواد كاتب وشاعر من سوريا

    (1) معالم على طريق تحديث الفكر العربي: ص67، د. معن زيادة.

    (2) الحداثة في ميزان الإسلام: ص18 عوض محمد القرني، ينقل عن مقال بعنوان (اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة) منشور في مجلة (فصول) المجلد الرابع، العدد3 ص11، ونكتفي هنا بهذا النص حيث سنورد فيما بعد نصوصاً أخرى تدل على المنشأ الغربي للحداثة.

    (3) مجلة (أبعاد) عدد4 ص272-273.

    (4) المصدر السابق.

    (5) المصدر السابق.

    (6) مجلة أبعاد: عدد4 ص272 دراسة للباحث التركي خلدون جول ألب، والنص ينقله من كتاب (the end of sociological theory).

    (7) المصدر السابق.

    ( مجلة (فصول) المجلد الرابع، العدد الثالث ص26 و27.

    (9) المصدر السابق.

    (10) الحداثة في ميزان الإسلام: ص21-22 عوض القرني (بتصرف قليل).

    (11) المصدر السابق.

    (12) انظر (فن الشعر) ص64، إحسان عباس و(شعرنا الحديث إلى أين) ص16 غالي شكري.

    (13) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر: ص121، عبد الحميد جيدة.

    (14) الحداثة في ميزان الإسلام: ص23.

    (15) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر: ص148.

    (16) فن الشعر: ص72 إحسان عباس.

    (17) الحداثة في ميزان الإسلام: ص24.

    (1 مجلة اليمامة: عدد906 ص62، مقال علي الغامدي (الشعر الحديث كمصطلح).

    (19) الثابت والمتحول: ج1 ص216، أدونيس.

    (20) الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر: ص98 - 99.

    (21) الحداثة في ميزان الإسلام: ص19.

    (22) الأدب العربي وتحديات الحداثة: ص15، عبد الله أبو هيط، ينقل نص الشاعر محمد بنيس من مجلة الكرمل - قبرص، العدد12 لعام 1984م.

    (23) مجلة (فصول) المجلد الرابع، العدد الرابع ص17 مقال لصالح جواد.

    (24) شعرنا الحديث إلى أين: ص116 غالي شكري.

    (25) الحداثة: ص48 تأليف عدد من الباحثين الأمريكيين والأوربيين.

    (26) الحداثة الأدبية: ص13 - أرفنك هاو، طبعة 1967م.

    (27) الحداثة: ص25.

    (2 الحداثة: ص25.

    (29) الحداثة: ص23، ينقل عن ترلنك في كتابه (ما وراء الحضارة) طبع لندن عام 1966م.

    (30) المصدر السابق: ص20.

    (31) المصدر السابق: ص19-20، ينقل عن كتاب (الفن الإلهي) لهربرت ريد، المطبوع عام 1933م.

    (32) الحداثة: ص229 - 230 عن كتاب مالارميه (أزمة الشعر).

    (33) الحداثة: ص230، (البيان الرمزي) لجان مورا، مقال منشور في مجلة (لوفيجارو) الأدبية- 18 أيلول 1886.

    (34) الحداثة في ميزان الإسلام: ص39، نقلها عن كتاب السريحي (الكتابة خارج الأقواس) ص31.

    (35) هذه مقاطع مقتطفة من قصائد حداثوية.

    (36) الحداثة في ميزان الإسلام: ص39، ينقل عن كتاب السريحي (الكتابة خارج الأقواس) ص17.

    (37) مجلة عكاظ: عدد 71-72 ص10.
                  

10-15-2004, 05:41 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
في نقد الحداثة الكومبرادورية- محسين الدموس (*) (Re: osama elkhawad)


    ابن رشد »الحق لا ملة له

    لا أنكر بأي حال أن الحافز الرئيسي الذي دفعني هنا للكتابة هو تعاضدي مع جريدة »الأحداث المغربية« ضد كل أشكال الحداثة الكومبرادورية التي تجرف قطار التقدم عن مساره السليم، أي التفكير بمعنى آخر في السلسلة المرعبة من المفارقات والأكاذيب والوعود التي ينتجها دعاة »العدالة« و»التنمية« و»التقدم« والتي بقدر ما تقفز على الأسئلة الحقة التي تستوجبها المرحلة بقدر ما ترهن مصير المجتمع وتعمق محنته الضاربة في جذور تاريخه السياسي والحضاري وتنتج بالتالي فائض القيمة من الظلم والتخلف والاستبداد.

    ١- في معنى الحداثة الكومبرادورية :
    أثبت التاريخ أن استراتيجية التقليد لمظاهر قوة الغرب واستيراد التكنولوجيا لا يمكن أن ينتجا سوى تغيير في بنية المجتمع البرانية من دون أن يمس لبابه وعمقه، بل يمكن أن يفضيا إلى مفارقات مضحكة. لم تكن التكنولوجيا، بهذا الاعتبار، قط مجرد أدوات محايدة تتيح لمستعمليها إمكانات جديدة في التعامل مع الذات والعالم والطبيعة فحسب، بل كانت وهذا هو الأساس، رؤية مغايرة للعالم تقطع مع فكر الخرافة والميتافيزيقا، وتدشن أفقا حياتيا جديدا يرسخ مبدأ السببية في العلاقات الإنسانية، ويرى في العقلنة سبيلا نحو تأهيل الإنسان ومضاعفة مردوديته المادية والذهنية. فحينما استعاض الفلاح الغربي مثلا، عن المحراث الخشبي بالمكننة لم يكن يعوض أداة بأداة فحسب، بل كان يترجم على أرض الواقع القطيعة مع أسلوب التفكير »القدري« ويستجيب لروح الثورة الصناعية التي غيرت علاقات الإنتاج ووسائله. لقد توازى إذن، تطبيق المكننة مع مسلسل إزاحة السحر عن العالم وسيادة فعل دنيوية المجتمع Sécularisation وهو توازٍٍ لعب فيه فلاسفة التنوير دورا مركزيا من خلال تحرير الفلسفة من اللاهوت وفصل التفكير العقلي عن الإيمان الديني. من هنا، لم يكن التدبير التكنولوجي للحياة بمعناها الشامل منفصلا عن الأفق المعرفي الحداثي الذي جسده انتقال المجتمع من طور تاريخي هيمن فيه تحالف الإقطاع مع الإكليروس إلى طور تاريخي آخر بلورت فيه الطبقة البورجوازية الصاعدة وعيا وتمثلا جديدين لنمط العلاقة بين الفرد والمجتمع يقوم على أساس عقد اجتماعي Pacte social واضح يحدد ما لله وما لقيصر. هكذا لم تحدث التكنولوجيا صدمة للإنسان الغربي ولم تغرِّبه عن واقعه، بل جاءت تتويجا لتحولات متفاعلة بين المعرفي والاجتماعي والتاريخي والسياسي، وهو ما جعل مسلسل التحديث في مجتمعات الغرب شاملا يشيع العقلانية ويحدث اللغة ويحرر المرأة ويفتح أفق التعليم على منهاج التحليل ويُفعِّل الحس النقدي ويشجع على الابتكار الموقف في تضاعيف هذا التلازم بني التكنولوجيا والوعي المؤسس لها نشأ مشروع الحداثة والتنوير في المجتمع الغربي. فما حال وموقع هذا التلازم في السياق العربي-الإسلامي ؟

    ٢- هجنة وتلفيق فمزيد من التخلف :

    شاء مكر التاريخ أن يتأسس الراهن العربي على المفارقة التالية : »عربة أمام الحصان« و»المتنورون الأحرار خلف الضباط الأحرار« هي المفارقة ذاتها التي جعلت العرب/المسلمين يرفتون خارج السياق الكوني وينكشفون أمام العالم المتقدم عراة، شيزوفرانيين يجمعون بين التقليد والحداثة، وبين الشورى والديمقراطية، وبين الإمامة والجمهورية وبين الليبرالية الاقتصادية والاستبداد السياسي، من دون أن يرف لهم جفن المأساة لهذا التناقض المهول بين هذه المفاهيم، ومن دون أن يدركوا المسافة المعرفية والتاريخية الفاصلة بين أطراف هذه الثنائيات، وهم في ذلك سائرون في تلفيقية مخجلة لا يرعوي فيها خطيب الجمعة الذي يطلب الاستسقاء عبر مكبر الصوت، ولا زعيم مؤسطر يعيش في الأدغال ينتصر في هندامه لزي »المجاهدين الأفغان« لكنه يواجه »الكفار« بالقنابل وليس بالنبال. فإلى أي شيء تعود هذه البلادة الذهنية ؟ وكيف لم يستطع العرب/المسلمون تمثل التكنولوجيا باعتبارها قدرا Destin تفصح كما يرى هايدجر، عن حتمية كونية توحد البشر في حركة تاريخية شاملة، وتفتح آفاق الإبداع وترسخ ثقة الإنسان بذاته لا بقوى مفارقة، في صياغة المجتمع واكتشاف الطبيعة ؟ هل يتعلق الأمر بسمات جوهرية تخص العرب/المسلمين كجنس وكحضارة كما ذهب إلى ذلك المستشرق رينان ؟ ألا يمكن اعتبار الاستعمار، من خلال تحالفه مع الإقطاع والسلطات الاستبدادية التقليدية المحلية قد ساهم في إنتاج ظروف موضوعية مُعيقة للحداثة المنشودة ؟ من الواضح حين نطرح هذه التساؤلات، أننا نميل إلى ترجيح الأطروحة الاستشراقية »العنصرية« التي ترد الفوارق بين الثقافات والشعوب إلى طبائع عرقية ثابتة، بل إن ما يحكمنا في طرحها هو تقويض ما وصفه الشاعر الإنجليزي وليام بليك بـ »الأغلال التي يصنعها الذهن« أي تحرير العقل من عوائقه التي تشده إلى الوراء، بل الدفع به إلى المستقبل. فلا شك في أن أزمة تخلفنا ليست معطى طبيعيا، وليست لعنة إلهية كما أنها ليست نتيجة مؤامرة، بل هي معطى تاريخي ساهم في تأجيجها وتكريسها شريحة هامة من الأنتلجنسيا العربية عبر انخراطها في القضايا الفكرية المضللة من قبيل »التحديث من الداخل« أو »الأصالة والمعاصرة« أو »الخصوصية الحضارية«. وعلى هذا الأساس، فإن سؤال التخلف ينبغي أن ينطلق من التشكيلات الاجتماعية التي تنتج الحضارة وليس من الحضارة في حد ذاتها. كما تنبه إلى ذلك مهدي عامل في كتابه »أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية«(١.

    إن أي حديث عن النهضة أو التحديث لا يفطن إلى هذه المعضلة الطبقية يبقى محفوفا المزالق والأفكار المزيفة ينكشف هذا التزييف حين تقيس البورجوازية الكولونيالية في عالمنا العربي نهضتها على النهضة الفكرية في أوربا فبين »الولادة الجديدة« Rennaissance في أوربا والنهضة عندنا كما يرى مهدي عامل -في ملاحظة ثاقبة- اختلاف لفظي له دلالته، فالأولى توحي بولادة شيء جديد مؤسس على القطع المعرفي مع الفكر السابق. أما في مفهوم »النهضة« فيختفي معنى الولادة الجديدة، لأن النهضة ليست ولادة شيء جديد، بل هي نهضة الشيء نفسه عليه أن ينهض من ركود أو خمود هو فيه.(٢ بعبارة أخرى، تفيد »الولادة الجديدة« انبثاقا لعلاقات جديدة وإبدالات معرفية وسلوكية توازيها جِدَّة، بينما تكرس »النهضة« الماضي في الحاضر ويرهن السلف ليحكم الخلف. ولذا، لم يعمل إجرائي العصرنة والتحديث في العالم العربي على استشراف آفاق جديدة للعيش العقلاني، بقدر ما رسخ التخلف بآليات تكنولوجية لا تنقصها النجاعة. فمن جهة أولى، تمَّ اعتبار الموروث سجلا لقيم معيارية (قيم الولاء والطاعة) وتثبيت التفاوت بين البشر بوصفه قدرا ربانيا، وتكريس دونية المرأة، وفي جهة أخرى، تم النظر إلى استجلاب التكنولوجيا الغربية كتدبير مشروع يمليه سياق العولمة وحاجيات التطور. قد يستسيغ المرء الموقف اليقظ لحضارات الشرق الأقصى العريقة إزاء الوافد الحضاري الغربي. ومردُّ ذلك أن الانخراط في شمولية التاريخ الكوني لا يفضي بالضرورة إلى الخضوع التام للقَوْلَبة والتنميط. فشتان بين الياباني الذي يحافظ على قيم »الساموراي« النبيلة، والذي يساهم في الآن ذاته في تقدم العلوم على المستوى الإنساني وينضبط لقيم المدنية الحديثة (احترام حق الفرد في الاختلاف، احترام حق المرأة في تقرير مصيرها ...) وبين المتأسلم الذي لا يستوحي قيم المروءة لدى العربي المسلم، بل يَنْشَدُّ وراء الشكليات (حَفُّ الشارب، التسربل بالتشادور ...) ويقمع المرأة ويصادر حريتها في أن تكون ذاتا وليس موضوعا للفتنة. إن اختزال الهوية في الشكل دون الجوهر، وحصر التعامل مع التكنولوجيا في بعدها النفعي البحث من دون تمثل ما تنطوي عليه من معان فلسفية ومنطقية (الصاروخ يحدد أهدافه اعتمادا على معطيات معلوماتية وتقنية وليس اتكاء على قوى مفارقة) هما اللذان أوقعا العرب الشيزوفرانيين في تلفيقية تثير الضحك، لكنه ضحك كالبكاء كما عبر جدنا أبو الطيب المتنبي. فما معنى هذا الحرص على شكلانية الماضي والإقبال في الوقت عينه على البُعد الأداتي المجرد للتقنية غير القبول بالحداثة المسطحة ؟! والشغف بالهُجنة التي تنتج التخلف ؟!. يقول سمير أمين في هذا السياق »إذا كنت حديثا وماضويا في آن واحد، فأنت بالضرورة تقبل الحداثة بشكلها الكومبرادوري«(٣. ويتضح هذا السلوك المزدوج الممجوج بشكل أكثر جلاء لدى دعاة الإسلام السياسي، أصحاب الشعار الشهير »الإسلام هو الحل«، فهؤلاء في خطاباتهم السياسية، وتنظيراتهم الفكرية يشيدون بالنظام الديمقراطي في جانبه الإجرائي-التقني، لأنه يتيح لهم إمكانات هائلة للاستقطاب واحتكار المقاعد النيابية، لكنهم في مقابل ذلك يُعْرضون عن البُعد الفلسفي للديمقراطية اللصيق بالمدنية وبمبدأ العلمانية بوصفه مجالا ينظم الاجتماع البشري على أسس المواطنة وليس على ثقافة الرعية. فما يجهله هؤلاء هو أن الديمقراطية كل لا يتجزأ، تسعى من جانب أول إلى تصريف حالات الاحتدام والصراع على السلطة وتسوية نزاع المصالح بالطرق السلمية، وتُفَعِّل من جانب ثان مبدأ الحرية الفردية في الاعتقاد والتفكير والسلوك. لا ريب إذن، في أن الديمقراطية مشروع حداثي يقترن جدليا بالعلمانية، وهو مشروع يروم تمييز الشأن العام عن الشأن الخاص وفرز المطلق عن النسبي، ولا شك أيضا، في أن تجزيئها وأخذ شقها التقني الصرف ينمان عن انتهازية مفضوحة ويكشفان عن حداثة مقلوبة ترجع القهقرى إلى قوالب السلف عوض الانفتاح على آفاق المستقبل فأي معنى للديمقراطية حين يستعاض عن الحق في تشريع يراعي مصالح البشر المتقلبة مع تقلبات الزمان والمكان بمبدأ غائم وفضفاض وهلامي هو »الحاكمية لله« أي الاستعاضة بمعنى آخر، عن الخطاب السياسي بالدوغما العقائدية ؟ وكيف تستقيم الدعوة إلى رفض حضارة الغرب الإلحادية مع الانغماس حتى النخاع بمباهج هذا الغرب المادية، أليس من الشرف والمروءة أن يكون الإقرار بالديمقراطية باعتبارها مفتاحا نموذجيا لتنظيم الاختلاف متوازيا مع الاعتراف بفضل الغرب في صنعها ؟ ألا تفضي أمْثَلَة الغرب Idéalisation وتبخيس الآخر إلى الانشطار والنكوص والانسحاب كما يرى زيعور.(٤ يختزل المثل المغربي التالي : »من يرقص لا يحجب وجهه« هجنة التفكير لدى المتأسلم السياسي، كما يكشف عن مفارقاته العديدة. فهو يطلب الدينا ويقبل على لذائذها المادية، لكنه يدعي الزهد والتقوى، وهو يعلن انتسابه إلى الديمقراطية التي تُنَسِّبُ Relativeser الاجتهاد (شعارات ولافتات المؤتمر الأخير لحزب العدالة والتنمية المغربي) لطمأنة أصحاب الحال والخصوم، غير أنه في ممارساته وحملاته الانتخابية، يتملكه اليقين، ويحارب خصومه على أساس الثنائية المانوية (أنا الخير، والآخر الشر)، ثم إنه حين يزهو حد الخيلاء بتجذره في المجتمع وبقدراته العظيمة على الاستقطاب والتأثير في الناس (سيرة الدار البيضاء المعارضة لمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية)، فإنه يتغاضى عن أساليب الدجل والديماغوجية، التي يعتمدها في هذا التأثير. وهو بهذا السلوك يتنافى مع أخلاق المنافسة الشريفة التي يدعي أنه حارسها. فلا غرابة إذن، أن نجد عطر الافتراء والدجل متفشيا في ديباجة خطابه التي تعرض عن التمييز بين عالم الشهادة وعالم المطلق، بل الأدهى من ذلك أنه يستميل مخاطبيه بإواليات الإقناع السِّري(٥ التي تعطل -كما يرى Vance Packard الحس النقدي والاستدلالي وتُبَئِّرُ الاهتمام على طاقتهم الانفعالية ومكبوتاتهم اللاواعية. إن الرقص فن وليس عيبا. إنها حركات يبثها الجسد ليتواصل مع أجساد مفترضة (من منا ينسى رقصات الممثل المغربي الرائع محمد مفتاح في مسلسل »عبد الرحمان الداخل«) كذلك السياسة، فهي فن ولكن للممكن، وليس للوهم، فيها يتبارى الفاعلون ومن خلالها تفرز تناقضات المجتمع وتضارب مصالحهم، ومن ثم فإن ظهور المتأسلم السياسي بمظهر الداعية، وليس السياسي يسقط ورقة التوت عن انتهازية مرذولة ونفاق ديني سافر.

    ٣- الماء يطفئ والحداثة تقضي على التخلف :

    يقول الشاعر الألماني الكبير رانكه »أما فيما يخصني، فأجزم بأن كل حقبة قريبة من الله، وبأن قيمتها لا تنتج مما ينبثق منها، بل تكمن في حد ذاتها بالذات أي في هويتها الخاصة«(٦. يكشف هذا القول عن تساوي الأحقاب والمراحل التاريخية، إذ أن كل حقبة تمتلك قيمتها الخاصة في حد ذاتها من خلال الأسئلة التي يطرحها الواقع والأجوبة التي يقترحها الاجتماع البشري. إن هذا الديالكتيك هو ما يصنع التطور في التاريخ، ويحرر الإنسان من شرنقة التعلق بالقوالب البائدة ومن ثم، فإن أي تعطيل لهذا الدياليكتيك معناه الإجهاز على كفاية الإنسان في إدراك حاجياته المستجدة، كما أن الوقوف عند لحظة معينة من التاريخ باعتبارها لحظة النضج والكمال (الخلافة الراشدة مثلا) التي يجب أن تنسخ من جديد معناه إلغاء التاريخ وصرف النظر عن تحولات الحاضر الفكرية والسياسية والاجتماعية والحضارية. ولذا، فإن أول خطوة تقود مجتمعاتنا إلى استيعاب سؤال هذا الحاضر تكمن في نزع طابع القداسة عن الماضي واعتباره فقط طورا من أطوار الارتقاء في سلم الحضارة البشرية، لكن السؤال-المحنة هو : كيف السبيل إلى ذلك ؟ يقدم محمد أركون في هذا الصدد إجابة علمية في غاية الأهمية تتمحور حول ما يسميه بـ »الإسلاميات التطبيقية«. إن الثقافة العربية الإسلامية -حسب الأكاديمي الجزائري- هي ثقافة تأويل للنص/الوحي، وبالتالي فهي لا تتأسس على مبادئ النص الأول بقدر ما تعيش على العكس من ذلك، في تضاعيف النص الثاني/التأويل. إذن، ولكي تعانق مجتمعات هذه الثقافة عالم الحداثة الفسيح عليها أن تقيم مسافة فاصلة بين النص المؤسس والنص المؤول، أي بين الوحي باعتباره كلاما إلهيا مطلقا، وبين النص الثاني بوصفه اجتهادا يعكس تقديرات ومصالح وتحيزات آنية تتلاشى بتلاشي أصحابها.

    وعلاوة على ذلك، تتيح هذه المسافة الفاصلة أدوات مثلى لتفكيك تعالقات النص الثاني مع بنية النظام القائم وبنية الثقافة السائدة، وهو ما يمنح للنص الأول في الوقت ذاته إمكانية الانفتاح على قراءات وتأويلات جديدة تفرضها طبيعة القضايا والإشكاليات والأسئلة التي تواجهها في العصر الحالي، وتستوجبها أيضا القطائع المعرفية والعلمية والفلسفية التي تحققت على المستوى الكوني. إن إجراء من هذا القبيل، سيفتح لا محالة، بنية المجتمعات العربية على الحداثة الحقة التي يشوبها الانسجام والواقعية وليس على الحداثة الكومبرادورية التي تأتلف مع نقيضها. ليس الحداثة الحقة دعوة إلى الاستلاب أو نزوعا إلى المحاكاة الصماء، وإنما هي بلغة عبد الله العروي الانتظام في الأفق الكوني، أما دون ذلك فخرط القتاد.
    هوامش:

    (*)باحث في الآداب والجماليات حاصل على الدكتوراه من جامعة ظهر المهراز/فاس

    هوامش البحث :

    ١- مهدي عامل (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية) دار الفارابي، الطبعة الثانية، بيروت ١٩٧٩.
    ٢- نفسه ص : ١٦٨.
    ٣- سمير أمين (حول الإسلام السياسي) مجلة الطريق، العدد الخامس، السنة ٦٩. ٤- علي زيعور (المنجرح في علائقية الذات والآخر داخل الدار العالمية للحضارة) مجلة مواقف، شتاء ١٩٩٢ ص : ٤٨.
    ٥- Voir Vance Tackard (la persuation clandistine) Ed calman levy
    .1984
    6- انظر الترجمة الرفيعة التي أنجزها الأكاديمي المغربي رشيد بنحدو لكتاب هانس روبرت ياوس »جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي« الطبعة (١، ٢٠٠٣، ص ٣١.
                  

10-15-2004, 05:53 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الأول (Re: osama elkhawad)

    في مقابل النموذج الحداثوي المستند على النموذج الغربي ,يحاول بعض الاسلاميين ايجاد بديل له يستند الى مفاهيم مثل التجديد والحداثة الاسلامية.
    والدراسة التالية لعبدالقادر قلاتي تحاول ان تؤسس لذلك النموذج البديل.
    وتعتمد الدراسة على المحاور التالية:
    1-بناء التجديد في النمط الغربي
    2-في نقد المحاولات التجديدية

    3-نشأة أسلمة المعرفة

    4-حدود إمكانية التجديد الذاتي

    5-فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة

    --------------------------------------------------------------------------------

    1-بناء التجديد في النمط الغربي:

    لا يمكن أن نحدد شروطًا موضوعية لتتم عملية التجديد في حقل التداول الإسلامي دون توقف هذه المحاولات التي تتم بعيدًا على النصوص المؤسسة لتراثنا الديني. والتي تعمل على الاستنجاد بمفاهيم تشكلت خارج هذا الحقل التداولي. لتصوغ مفاهيم هامشية لا تلمس بنية التراث وإطاره العام، ومن ثَم لا يطال مجهودها سوى ما تشكل في التاريخ من نصوص أفرزتها قراءات تمت حول هذه النصوص المؤسسة (القرآن والسنة). والتي ارتبطت بسياقات تاريخية وحيثيات وليدة تلك اللحظة التاريخية، وإذا كنا نشترط إبعاد هذه المحاولات، فإننا لا نملك اشتراط إزاحة مجهودها الذي قارب القرن ونصف القرن.

    وفي محاولتنا لتحديد الشروط الموضوعية التي يجب أن يستوفيها حصول عملية التجديد بعيدًا عن الأنساق المعرفية والأنماط الحدثية التي ترتبط بحقل تداولي آخر. يستوجب ذلك التقدير السليم للحقيقة الدينية التي تختلف اختلافًا بينًا عن المعايير الفلسفية التي تطبع النمط الحداثي الغربي. ذلك أن "مسالك الغرب في التحديث بُنيت أصلاً على أسس عقدية وقواعد مذهبية تعارض الحقيقة الشرعية الإسلامية. وكل من اتبع هذه المسالك الحداثية من غير إتمام التبصر بسياقاتها العقدية وكامل التبين لآثارها ومآلاتها القريبة والبعيدة، لا بد أن يقع في الإضرار بعقيدته الدينية وبعمله الشرعي، ذلك أن هذه المسالك قامت على صنفين من الفصل: أحدهما: فصل العقل عن كل دلالة على الغيب، ومن المعلوم أنه لا عقل في الإسلام إلا ممن أدرك هذه الدلالة الغيبية وعمل بها؛ والثاني، فصل العلم عن الأخلاق" 1، وهنا يكمن الخلاف المعرفي بين النمطين المذكورين. ذلك أن العقل والعلم يمثلان المستند بالنسبة لكلا النمطين، فالحداثة الغربية تستند إلى العقل بعيدًا عن كل دلالة غيبية وعن العمل عندما يتجرد من كل دلالة خلقية.

    وهذا ما يدفعنا للبحث عن نمط مخالف يبقي للدلالة الغيبية والخلقية حضورها عند كل محاولة للتجديد لما للدلالتين من ارتباط بهذين الصنفين؛ لذا يجب أن نطلب نمطًا تحديثيًّا مغايرًا، لما كنا قد سلمنا به منذ الإرهاصات الأولى للمشروع التجديدي الذي يزيد عن قرن ونصف إذا اعتبرنا لحظة التجديد بدأت مع الحركة الوهابية، واعتبرنا هذه المحاولة أولى حلقات ما قد نسميه بالتجديد الذاتي الذي تم بعيدًا عن فتنة النمط الحداثي الغربي الذي هيمن على كل المحاولات التي جرت هنا أو هناك في عالمنا العربي والإسلامي.

    فالمحاولة، وإن كانت بسيطة إلا أنها طرحت مفهوماً ذاتيًّا للتجديد يتلخص في "سيطرة الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة. لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط خلافة بغداد" 2 دون الاستناد إلى مفاهيم من خارج المنظومة الفكرية الإسلامية. وهنا تكمن فرادة هذه المحاولة التي لم تبدد فاعليتها سوى تحالفات سياسية ألغت كل بعد لفكرتها الأساس. ثم ظهرت محاولات أخرى بدت أنها امتداد لها غير أن طغيان النمط الحداثي الغربي دفع بهذه المحاولات بعيدًا عن (الفكرة الأصيلة في الإسلام) كما يسميها المرحوم مالك بن نبي. فالشروط الموضوعية التي يمكن أن تضمن تحقق محاولة تجديدية جادة ليست واضحة بالقدر الذي يجعلنا نحددها ضمن عناصر معينة، بل إن هذه الشروط حسب تقديرنا للحالة التي يعيشها الفكر الإسلامي المعاصر غير واضحة المعالم في ضوء هذا الجمود والارتهان للحداثة الغربية، ومن ثَم فالفكر الإسلامي يجب أن يتحرك ضمن تفكير جديد انطلاقًا من الموروث الديني، وأن يستثمر الآليات التي صاغت مفهوم العلم والمعرفة في إطار هذا الموروث دون الارتهان للنمط الحداثي الغربي، بل يستفيد من الحركة النقدية التي بدأت تطال الأبستملوجيا الغربية.

    2-في نقد المحاولات التجديدية:

    يمكن أن ندرك بيسر أهم الأخطاء التي وقعت فيها حركة التجديد المعاصرة في محاولاتها التي تمت في حقل التداول الإسلامي، ذلك أن إصرارها على التقريب بين حقلين تداوليين يملك كل منهما خصوصية الاختلاف عن الآخر جعلت أي متابع للخطاب الديني يلحظ هذا الخلط المنهجي في عموم ما أنتج من تنظير فكري خلال عمر هذه التجربة التي اعتبرنا بدايتها ظهورا لحركة الوهابية في الحجاز.

    فعملية التقريب التي تمت في إطار هذه المحاولات والتي استقت مفاهيم وآليات نقلتها من حقل تداولي «مغاير للمجال التداولي الإسلامي العربي..» 1.

    أظهرت عدم إمكانية الإحاطة بالحداثة الغربية وفهم سياقاتها التاريخية «لأنها مفهوم معقد لا يمكن الإحاطة به» 2 أو التمكن من فهم تجربته دون قراءتها بعيداً عن الانبهار ودون التخلص من آثار لحظة الاصطدام التي طرقت بقسوة العقل العربي والمسلم، وراحت هذه المحاولات تحاكي النمط الحداثي الغربي الذي كان يستبطن نبذ كل ما هو قيمي باعتباره نمطا يستند في تجربته الحداثية على العلم الذي لا يمكن للجانب الأخلاقي أن يتدخل في ممارسته؛ فالحضارة الغربية كما تنعت «حضارة منكفئة على «اللوغوس» في دلالته اليونانية الأصلية أو بإيجاز إنها «حضارة لوغوس...» 3 ومن معاني «اللوغوس» التي برزت معنيان «اشتهرا أكثر من غيرهما، وهما: «العقل» و«القول»؛ فحينئذ، تكون الحضارة الحديثة حضارة ذات وجهين: «حضارة عقل» و«حضارة قول»؛ لكن الوجه الذي شغل الناس عمومًا والمتفلسفة والحداثيين خصوصًا أكثر من الآخر إلى حد الافتتان به، هو كونها «حضارة عقل»؛ وتجلى هذا الافتتان في رفع «الخاصية العقلية» -أو بالاصطلاح المعروف؛ «العقلانية»- إلى أعلى مرتبة من مراتب الإدراك الإنساني كما تجلى في الميل إلى تخصيص أهل الغرب بها» 4 فالمحاولات التجديدية التي حسمت موقفها من الحداثة من أول لحظة بأن اختارت تقريب النموذج الحداثي الغربي مع تراثنا الفكري دون أن تتميز خصوصيات هذا النموذج، ودون أن تبرز خصوصية الدين الإسلامي راحت تخوض في موضوع «العقلانية» بعيداً عن خصوصية الذات، وتستند في كثير من تنظيراتها إلى هذه الخاصية «حتى تواردت عليه ضروب من الشبهة والإشكال، وتطرقت إليها صنوف من الخلل والفساد، هذه الضروب والصنوف التي تحتاج إلى استجلاء أوصافها وبيان أسبابها وتحديد آثارها حتى نحترز من الوقوع فيها ونهتدي إلى طريق في «العقلانية» يكون موافقاً للأخلاق الإسلامية» 5. فإذا حاولنا أن نجمل المحاولات التي استقت معايير العقلانية الغربية (المجردة) نستطيع أن نلاحظ ثلاث حقائق من واقع الاشتغال بهذه العقلانية حصرها طه عبد الرحمن فيما يلي:

    1- أن كل من تولى النظر في وسائل النهوض بواقع العالم الإسلامي والعربي لم يتردد في أن يجعل العقلانية على رأس هذه الوسائل، مشيدًا بفضائل وفوائد المناهج العقلية في تحصيل المطلوب من التقدم والتحضر.

    2- أن التعلق بالعقلانية تساوي فيه من يتمسك بأخلاق الدين الإسلامي ومن يميل عن هذا الدين مبتغيًا العمل بأخلاق أخرى وكذا من ينزل منزلة بين هذين الطرفين، منتقيًا بعض الأخلاق من الدين الإٍسلامي والبعض الآخر من مذاهب غير إسلامية أو غير دينية، بحجة مسايرة التطور والاستجابة لمقتضى التغيير.

    3- أن هذه الدعوة إلى العقلانية التي تشترك فيها الفئات الإسلامية والعربية على تباين اختياراتها العقدية تزايدت في الشدة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرنًا ونصفًا من الزمن وامتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين 6.

    ولم تخضع مَوْضَعَة «العقلانية» في المجال الإسلامي. أو تنظيرات هذه المحاولات لعملية نقد، بالقدر الذي يجعلها مقبولة التوظيف والتقريب من المجال التداولي العربي الإسلامي، بل اندفعت المحاولات التجديدية نحو مَوْضَعَة العقلانية، وكأنها المخلص لأوضاعنا الحضارية وأبت هذه المحاولات كما قال طه عبد الرحمن: «إلا التمادي في التعلق بالعقلانية والاحتجاج بها والاحتكام إليها، نظرًا لراسخ إيمانهم بكمال مبادئها وتجانس مناهجها وسلامة مآلاتها، حتى أنهم لو فوتحوا في أمر هذا التمحيص وأشعروا باستعجال الحاجة إليه، لكرهوا الدخول فيه لما بلغه هذا الاعتقاد من أنفسهم» 7 وتذهب هذه المحاولات في تقريبها لتراثنا الديني نحو المعايير العقلانية، وإن اختلفت فهومهم نحو أي من الجوانب التراثية أقرب إلى الاستجابة لهذه المعايير. «منهم من يقول بأنها النصوص الفلسفية، ومنهم من يرى أنها النصوص الفقهية، ومنهم من يعتقد أنها النصوص اللغوية، ومنهم من يذهب إلى أنها هي النصوص الكلامية، ومنهم أخيرًا من يجمع أجزاء هذه النصوص، ثم ما كان من هذه النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل»8.

    إن أشكال الوعي المغلوط الذي صاحب هذه المحاولات عندما تصور أصحابها إمكانية تبنّي المنظومة الحداثية الغربية دفع بها إلى التسليم بمرجعية الحداثة وطرح تصورات ومحاولة إبداع مفاهيم ضمن هذا التصور المغلوط الذي يكشف مدى سذاجة هذه المحاولات عندما تصورت مثلاً إمكانية أسلمة المنظومة المعرفية التي أنتجها النمط الحداثي الغربي وهي إحدى الآفات التي وقعت فيها حركة التجديد بعد آفة العقلانية المجردة غير المسددة (بتعبير طه عبد الرحمن). وظهرت فكرة الأسلمة على الرغم من براءتها من تهم التغريب وتشويه الإسلام التي عادة ما تتهم بها بعض المحاولات المؤدلجة، وتطورت دعوتها حتى غدت اتجاهاً كبيراً ضمن هذه المحاولات. وظهرت دعوتها الأساس، وهي أسلمة المعرفة الغربية، وخصوصًا العلوم الإنسانية كالاقتصاد والعلوم الاجتماعية والأنثربولوجيا وعلم النفس والفلسفة. وخلقت هذه المحاولة خطًّا جديداً في التفكير الديني بدأ يعمل على بناء نظام معرفي وفق الرؤية الإسلامية، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته دون التغاضي عن «الإجابات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن نظام منهجي ديني غير وضعي»9.

    غير أن المحور الأساسي في أدبيات هذه المحاولة التجديدية هو بناء الأنساق المعرفية التي عرفها تاريخنا وذلك «للربط بين الأنساق المعرفية أو النماذج وبين الإنتاج الفكري الذي وجد في تلك العصور لتحديد مدى الاستقامة والفعالية والتجديد والشمول في ذلك الإنتاج أو تجديد العلاقة بين الأزمة الفكرية التي عاشتها الأمة وبين الأنساق التي سادت في تلك الفترات... ثم محاولة كشف وبيان كيفية استمداد النماذج المعرفية الجزئية من النظام الكلي التوحيدي» 10.

    كل ذلك تمهيداً كما يقول طه جابر العلواني «لإمكانية تشكيل نماذج معرفية في مختلف العلوم الاجتماعية والتطبيقية قائمة على عقيدة التوحيد والجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الواقع مع الاستفادة مع النماذج المعرفية التي سادت التراث والنماذج المعرفية التي طورها الفكر الغربي أو الإنساني المعاصر» 11.

    الهوامش:
    1
    - طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج في تقويم التراث ـ المركز الثقافي العربي ـ ص 237.

    2- داريوش شايفات ـ أوهام الهوية ـ دار الساقي. ص 117.

    3- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.

    4- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.

    5- نفس المرجع ـ ص 60.

    6- نفس المرجع ـ ص 60.

    7- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ص . 60 ـ 61.

    8- طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج. ص 25.

    9- محمد أبو القاسم حاج حمد ـ منهجية القرآن وأسلمة فلسفة العوم الطبيعية والإنسانية ـ نقلاً عن إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ طه جابر العلوي ـ ص11.

    10- طه جابر العلواني ـ إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ ص 20.

    11- نفس المرجع ـ ص 20.



    (عدل بواسطة osama elkhawad on 10-15-2004, 06:04 PM)

                  

10-15-2004, 05:59 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثاني (Re: osama elkhawad)


    3-نشأة أسلمة المعرفة:

    يرجع أغلب الدارسين فكرة أسلمة المعرفة إلى كتابات سيد نقيب العطاس في كتاب نشره عام 1969. وكانت فكرته تهدف إلى تحرير الناس في عالم الملايو من التقاليد الخرافية والثقافات المحلية والسيطرة العلمانية على التفكير واللغة. غير أن بدايات البناء التنظيري لهذه الفكرة كانت مع جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية. خصوصًا عند إسماعيل الفاروقي وجعفر شيخ إدريس، بالإضافة إلى سيد حسين نصر والعطاس.

    لقد بدأت تنظيرات هؤلاء العلماء استنادًا إلى الحركة النقدية التي بدأت تطال الإبستملوجيا الغربية من طرف عدد من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، "ونخص بالذكر هنا «هيوم» (Hume) في كتابه حول الطبيعة الإنسانية؛ حيث هاجم المبالغة في الموضوعية ورفعها إلى مكانة «شبه إله»، كما تساءل عن مبررات افتراض أولي لعالم خارج ذواتنا أو حتى عن ذات منفصلة عنه.

    كما صرّح أن «التكرار» -أحد مبادئ الموضوعية العلمية- ليس لديه أي قوة برهنة على الإطلاق، وذلك بالرغم من أدائه دورًا رئيسيًا في «فهمنا» للأشياء.

    وبالفعل فإن «هيوم» كان مقتنعًا بأن كلاً من العقل والحجج لا يقومان إلا بدور صغير فقط في «فهمنا»؛ فالمعرفة لا تتعدى كونها معتقدًا لا يمكن الدفاع عنه"1.

    وانطلقت مدرسة «إسلامية المعرفة» في هذا الاتجاه مستثمرة هذه الحركة النقدية التي بدأت تتسع في الغرب ومن داخل المجتمع العلمي، خصوصا «وايتهيد» (Whitehead)، و«توماس كون» (Kuhn)، و«بولانيني» (Polanyi)، وبول فييرابند (P.k.feyerabad)، وميتروف (Mitroff)، ورافتز (Ravetz)، هذه الحركة النقدية التي بدأت تؤسس لإبستملوجيا غربية بديلة ولأنماط معرفية غير غربية للتفكير.

    وجاءت محاولة «أسلمة المعرفة» كرد فعل إسلامي -كما قال ضياء الدين سردار- على الإمبريالية الإبستملوجية الغربية.

    وبدأت محاولة التنظير تركز على تقديم انتقادات حادة للإبستملوجيا الغربية، جسدتها كتابات سيد محمد النقيب العطاس وإسماعيل راجي الفاروقي، فقد قدم العطاس في مقالة له: (نقض تغريب المعرفة 1985) «أشد الانتقادات تدميرًا للإبستملوجيا الغربية؛ حيث أكد أن مذهب "الشكية" شاسع الانتشار، وهو الذي لا يعرف الحدود الأخلاقية والقيمية، والمنتمي للنظام المعرفي الغربي، وهو نقيض الإبستملوجيا الإسلامية»2 فيقول:

    «يبدو أنه من المهم أن نؤكد على أن المعرفة ليست حيادية، وأنه بإمكانها فعلاً أن تستقرأ مع طبيعة ومضمون معينين، ومن ثم تتنكر بقناع المعرفة. كما أنها في الواقع تؤخذ ككل -ليس كمعرفة حقيقية، ولكن كتأويل لها من خلال "موشور" للتصوير العالمي للرؤيا الفكرية وللإدراك الحسي النفسي للحضارة التي تلعب الآن الدور الرئيسي في صياغتها ونشرها.

    إن ما يصاغ وينشر هو معرفة نقعت في خاصة وشخصية تلك الحضارة، بحيث تصهر المعرفة المقدمة والمنقولة كمعرفة على هذا النمط بمهارة مع الحقيقة بغية أن تتخذ -عن جهل وبرمتها- كالمعرفة الحقيقة نفسها»3.

    ويعتقد العطاس أن «قيم التنوير» والحركة الفلسفية الفرنسية للقرن السابع عشر هي القيم الأصلية للعلم والتكنولوجيا الحديثة»4، رغم أنه يقر ما للإسلام وتراثه من مساهمة في بناء المعرفة التي عرفها الغرب فيما بعد، والتي أبدعت نموذجه الحضاري، والتي كان لها الدور المعتبر في تطوير العلم والتكنولوجيا الغربيين. «لكن المعرفة والروح والعلمية العقلانية أعيدت صياغتها وقولبتها لتذوب في بوتقة الثقافة الغربية. وهكذا أصبحت منصهرة ومندمجة مع جميع العناصر الأخرى التي تكون خاصية وشخصية الحضارة الغربية».

    إن هذا الاندماج وذلك الانصهار أنتجا -كما يقول سردار- «ثنائية مميزة في التصور العالمي وقيم النظام المعرفي الغربي»5، وهذه هي نقطة الارتكاز في نقد العطاس للنموذج الحداثي العربي ودعوته إلى الأسلمة تبدأ بالعمل على إبداع النظام المعرفي الإسلامي الذي يتم بعيدًا عن النظام المعرفي الغربي.

    ذلك أن المساهمات الإسلامية داخل هذا النظام المعرفي «لا يمكن إلا أن يزيد في صيت القيم والتوترات الداخلية للثقافة والحضارة الغربيتين. كذلك فإن منظومة المعرفة والعلم هذه لا يمكن أن تلبي حقاً احتياجات المجتمعات الإسلامية أو حتى أن يكون لها جذور اجتماعية داخل العالم الإسلامي»6.

    وقريبًا من هذا تأتي أطروحة الفاروقي حول الأسلمة؛ فهو يرى أن مرض الأمة لا يداوى «إلا بجرعة إبستملوجية، وأن أصعب مهمة تواجه الأمة الإسلامية هي إيجاد حل لمشكلة التعليم»7 ذلك أنه لا أصل في نهوض هذه الأمة من ركودها الحضاري وربطها بدورة حضارية جديدة، ما لم تبدع نظامًا تعليميًّا تلغي به هذه الازدواجية الراهنة في التعليم الذي انقسم إلى نظامين: ديني وآخر دنيوي.

    ودعا الفاروقي إلى إيجاد هذا النظام التعليمي الذي «ينبع من الروح الإسلامية، ويعمل باعتباره وحدة متكاملة مع برنامج الإسلام العقدي» 8، ويحدد الفاروقي في خطته للأسلمة خمسة أهداف هي:

    - التمكن من العلوم الحديثة.

    - التمكن من التراث الإسلامي.

    - إثبات الصلة بين الإسلام ومختلف فروع المعرفة الحديثة.

    - البحث عن وسائل تمكننا من التأليف المبدع بين التراث والمعرفة المعاصرة.

    - وضع الفكر الإسلامي في المسار الذي يتيح له إنجاز النموذج الإلهي.

    إن التطبيق العملي لهذه الخطة يقوم على افتراض أساسي هو البدء بالمجالات المعرفية كما هي الآن في سياقاتها الغربية. مع شيء من الحذف والإضافة لتتم في الأخير الأسلمة المطلوبة أو كما يرى الفاروقي. والفاروقي باعتباره من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية كان تركيزه الأساس في دعوته إلى الأسلمة، هو أسلمة هذه العلوم تحديداً. فهو يرى أنها العلوم أكثر ترويجًا للنموذج الحداثي الغربي ومفاهيمه الخاصة بالدولة ـ الأمة (Nation - state)، والهوية العرقية» 9. غير أن الفاروقي أغفل ما للعلم والتنكولوجيا من دور في المحافظة على الأنساق الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي يسيطر بها الغرب على العالم. لم يعد المجتمع (الغربي تحديداً) يصاغ من مفاهيم العلوم الاجتماعية بل إن هذه الوظيفة انتقلت إلى المعرفة العلمية والتكنولوجية التي أصبحت «هي الأداة الرئيسية للإمبريالية المعرفية الغربية»10.

    إن المعرفة لا يمكن فصلها على التصور والنظام العقدي الذي تمتد فيه جذورها وأي محاولة لاختراق هذا المفهوم وتصور إمكانية تجاوزه، لا تقود إلى أي مشروع إيجابي؛ فالإيستمولوجيا أو نظرية المعرفة «تعمل على تحديد المعرفة والتمييز بين فروعها الرئيسية وتعيين مصادرها وإقامة حدودها. إن إمكانية وكيفية المعرفة هي التساؤل المركزي للإبستملوجيا..»11، لذا فإن محاولة أسلمة الفروع العلمية والمعرفية التي تطورت في الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي، هي غير ذي جدوى فجدير بعلماء الأمة والمشتغلين بالبحث العلمي أن يوجهوا طاقاتهم لإبداع منظومة معرفية تستند إلى الإطار المرجعي الديني الذي يملك منهجيته ومفرداته ومفاهيمه. حتى نصل إلى مرحلة إبداع علوم تختلف عن العلوم الغربية المعاصرة، فلا نستطيع مثلاً أن نقول بأسلمة الأنثربولوجيا، العلم الذي نشأ في إطار ظروف خاصة، وقام على أسس ومبادئ معينة، أو نزعم أنه بإمكاننا أن ننشأ علم أنثربولوجيا إسلامي، ذلك خطأ منهجي يتضمن قبول الحدود الاصطناعية التي وضعت لهذا العلم ضمن المنظومة الحداثية الغربية.

    إن أسلمة المعرفة ليست إلا مغالطة إبستملوجية أظهرت الإسلام وكأنه دين يحتاج إلى الارتباط بالمعرفة الحديثة متغافلة عن حقيقته كدين صالح لكل زمان ومكان (وهو مفهوم مركزي في المنظومة المعرفية الإسلامية)، فحاجة الأمة إلى التقدم الحضاري يجب ألا تتجاوز أبعاد هذا الدين وحقيقته.

    كما يجب علينا كأمة أن نعترف بأن أبستومولوجيا العلم الغربي هي التي صاغت العلم الحديث. «إن أبستملوجيا العلم الحديث هي التي تحدد الطريقة التي تمكن الأفراد في المجتمعات المصنعة من تصور «عالمهم» ومحاولة معرفته وفهمه والسيطرة عليه. وتركز هذه الإبستملوجيا أساسًا على التمييز بين الذاتية والموضوعية... إن هذه الثنائية بين الوقائع والقيم، الحقيقة الموضوعية والإحساس الذاتي تمثل الميزة الرئيسية لإبستملوجيا العلم الحديث، إنها طريقة معرفية تناقض تلك التي تسود في كثير من المجتمعات التي تتصور الحكمة والمعرفة في حالتها الشعورية الذاتية»12.

    إن الغرب وعبر فلاسفة كثر بدأ يبحث عن أبستومولوجيا بديلة. لتلك التي ارتبطت بالمغامرة الأستدمارية (Colosation) الأوروبية وبظهور العقلانية العلمية كوسيلة شرعية وحيدة لفهم الطبيعة والسيطرة عليها. فلماذا لا نبدأ نحن محاولاتنا التجديدية بالبحث عن صيغة لتصور ذاتي للمعرفة ؟ مستند إلى مفهوم العلم، المصطلح الأقرب إلى الرؤية الإسلامية. بل هو المفهوم الوحيد والمركزي لما قد نسميه بإبستملوجيا إسلامية. فقد ظل العلم عبر تاريخ أمتنا الطويل يربط المجتمع الإسلامي بمحيطه ويعطي للإسلام حركته وحيويته .

    إنه في ظل هذه الدعوة ـ صناعة إبستومولوجيا إسلامية ـ يجب على الحركة التجديدية أن توظف طاقاتها وقدراتها في طرح خطاب تجديدي متماسك يستند إلى الذات بعيداً عن فتنة النمط الحداثي الغربي، فالأسلمة أشبه ما تكون كما يرى ضياء الدين سردار بعملية إعطاء روح من القيم الإسلامية في حقول معرفية تشكلت بالرؤى الكلية والمفاهيم واللغة والنماذج المعرفية الغربية، وهي كما يخشى سردار أقرب إلى تغريب الإسلام منها إلى أسلمة المعارف الغربية.

    الهوامش:
    12- ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / العدد 75 / شتاء 1994، ص 106.

    13- نفس المصدر ص 108.

    143- نقلاً عن ـ ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 /شتاء 1994. ص 109.

    15- ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 / شتاء 1994. ص 109.

    16- ضياء الدين سردار ـ مجلة الكفر العربي / عدد 75 / شتاء 1994. ص 109.

    17- نفس المصدر ـ ص 109.

    18- نفس المرجع ـ ص 109.

    19- نفس المرجع ـ ص 110.

    20- نفس المرجع ـ ص 113.

    21- نفس المرجع ـ ص 113.

    22- ضياء الدين سرداد،مجلة الفكر العربي، العدد 75، شتاء 1994، ص 104.

    23- سردار، الفكر العربي، عدد 75، شتاء 1991، ص 105..

                  

10-15-2004, 06:09 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا-الجزء الثالث (Re: osama elkhawad)

    4-حدود إمكانية التجديد الذاتي

    بعيداً عن ثنائية تقليد/حداثة:

    إلى أي حد يمكن أن نجدد تفكيرنا الديني بعيداً عن هيمنة النمط الحداثي الغربي؟ ثم إلى أي حدٍّ يمكن أن ندفع التفكير الديني نحو إبراز منظومة من الإبداع التكويني الذاتي في جدلية التعاصر والتثاقف استناداً إلى شرط النهوض التاريخي والحضاري دون الامتثال لمعايير خارجية في جدلية العلاقة الذاتية مع الآخر (النمط الحداثي الغربي)؟

    إن إمكانية ذلك لا تتم إلا عندما تقتنع المحاولات التجديدية التي تتم في حقل التداول الإسلامي بأن لا فائدة مرجوة لوضع الإسلام مقابل الحداثة. وأن التجديد لا يتم إلا وفق معادلة حددتها هذه المحاولات التي اعتبرت أن الإسلام يمثل الماضي (التقليد). بينما الحداثة هي لغة العصر. وهي من يجب أن يحدد علاقتنا به. وما لم تتم عملية تقريب بين حقلي الإسلام والحداثة فإنه لا يمكن أن تبدع منظومة معرفية إسلامية تقوم على توافق بنيوي بين هذين الحقلين.

    إن هذه الجدلية الحادة المطابقة لصورة الحركة التجديدية منذ إرهاصاتها الأولى هي التي صاحبت هذه الحركة في كل محاولاتها التجديدية، لقد اندفعت هذه المحاولات في تفسيرها للظواهر والبنى الاجتماعية الأكثر تعقيداً نحو استخدام هذه الثنائية الجامدة حداثة/تقليد. وهذا ما جعلها تسلم بفاعلية التقريب مع الحداثة الغربية. ذلك أن الغرب ونمطه الحداثي هو من أبدع هذه الثنائية (خصوصاً الدراسات الاستشراقية). لتفسير الظواهر الاجتماعية، في العالم غير الحداثي (التقليدي غير الأوروبي)، "إن بسط الكلام في مفهوم التقليد يجب أن يحملنا على الاعتراف باستواء التقليد وجهاً من الحياة الاجتماعية، وليس مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، ومن وجهة بالغة الأهمية ليس التقليد والحداثة حالتين متنابذتين في مرتبة الثقافة والاجتماع، وإنما هما حيثيتان مختلفتان للوضعية التاريخية. وبهذا اللحاظ فإن عدداً من الأشياء التي يجري التفكير فيها بوصفها أشياء حداثية إنما ترتبط بوثيق صلة بتقاليد لها جذورها في التاريخ الغربي"1.

    هناك صيغ تقليدية كثيرة تندرج ضمن الحداثة، وقد تشكل إحداها مفهوماً مركزياً لها. كالليبرالية مثلاً، فهي لا تتعين باعتبارها مزيجاً من عناصر تقليدية وأخرى حديثة. إنها تقليدي يرسم وجها مركزيا من وجوه الحداثة الغربية ومع كونها تقليدية فهي أكثر حداثة من الكثير من المفاهيم المندرجة ضمن متن الحداثة. ومع هذا لا يطال النقد الموجه إلى التقليد هذه الصيغ الحديثة في الغرب، بل يكثف جهوده نحو نقد ما يسمى "مجتمعات / ثقافات تقليدية".

    في سياق هذا التفكير يمكن للحركة التجديدية أن تخرج من أسر ثنائية تقليد/حداثة، وأن تعاود التفكير في الصيغ الجاهزة التي أبرزتها المنظومة الحديثة الغربية، وهو أن التقليد يعني غياب الحداثة، وأن الحداثة فعل اجتماعي وثقافي يمكّن من التحرُر من هيمنة التقليد. ثم النأي بتفكيرنا الديني عن كل التفسيرات القائلة بالتوافق البنوي بين الفكرين الإسلامي والغربي. وإمكانية التقريب بينهما. وأن التراث (التقليد) لا يمكن أن يفهم من ذاته. وإنما يتطلب دائماً نقيضاً مفهومياً. وهو طبعاً الحداثة.
    --------------------------------------------------------------------------------
    الهوامش:
    24- صبا محمود، السلطة المدنية وإعادة تشكيل التقاليد الدينية ، مقابلة مع طلال أسد، مجلة الاجتهاد (عدد 49/48/2000)، ص 255..
    وتكنولوجيا
                  

10-15-2004, 06:15 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّاالجزء الرابع والأخير (Re: osama elkhawad)

    4-فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة:

    لا يمكن فك هذه العلاقة المتشكلة ضمن شروط تاريخية وإكراهات حداثية لم يكن التفكير الديني قادرًا على أن يعط مفهومًا ذاتيا عن التجديد والتغيير إلا ضمن هذه الشروط (ربط التجديد بالحداثة) ما لم نحرر مفهوم التقليد (التراث) «الذي تنحصر دلالته بحسب الأدبيات الشائعة في الدعوة إلى ماضٍ أساسي يقاس به التاريخ اللاصق ويرد إليه»1.

    إن العلاقة بين التجديد كآلية والحداثة كمعطى اجتماعي وثقافي لم تتشكل إلا ضمن تصور مغلوط فرضته شروط تاريجية عند حاجة الأمة إلى النهوض. وبالتالي فالإسراع في التأكيد ألا حاجة ماسة من وراء هكذا علاقة مطلب ضروري عندما تبدأ محاولة تجديدية جادة. تبدع شروطها التاريخية الناسخة لتلك المشوهة وتبرز حاجة الأمة إلى التغيير أو التجديد ضمن رؤية وتصور ينطلقان من الذات ولا يستبعدان ما قد يستفاد من إنجازات الحداثة. في أي محاولة للتجديد (الذاتي).

    إن الدعوة إلى تحرير مفهوم التقليد (التراث) من أسر تصورات خاطئة جعلته يلتصق بخاصة «زمانية أي أنه تابع للزمن». وهذا ما كرس هذا الوهم نحو مفهوم التقليد. حيث إن أعراضه «تنقض بالفراغ من عملها بدون بقاء أثر أو قيمة»، وهذا ما يُحاول تيار التغريب أن يُكرسه كتصور منطقي لإبعاد الإسلام ومنظومته المعرفية من أي محاولة سياسية أو ثقافية. باعتبار الإسلام -في نظر هؤلاء- شكل تقليدي (تاريخي) انتفت فاعليته بانقضاء حضوره في الزمن. والمحاولات التحديدية التي ربطت مصيرها بالحداثة لم تكن بعيدة عن هكذا تصور، أي أن تراثنا الديني الذي صنع وجودنا الحضاري، وظل يحدد مسار تفكيرنا عبر تاريخ طويل لا بد أنه فقد الكثير من فاعليته، وأن عطباً واسعاً طال آلياته. ومن ثم الارتهان إلى الحداثة مصير وليس خيارا.

    إن المحاولات التجديدية لم يلامس عملها بنية التراث بل عملت على إضفاء طابع حداثي على مفاهيم تراثية. وحاولت بإجراء تعسفي تأصيل صيغ حداثية ضمن فضاء التراث. وأكسبتها شرعية الممارسة الإسلامية. وضمن فقه الواقع (الارتهان إلى الحداثة). طال مجهودها غير المجدي الكثير من الصيغ التراثية والتي تملك في أحايين كثيرة شرعتها من النص المؤسس. لكن هذه المحاولات المحدثنة وبدعوى فقه الواقع تعمل على تجاوز هذا المعطى، وتبرر عملها هذا بعنوان واسع ومتهافت (فقه الواقع وضرورة العصر)، كي لا تحدث قطيعة معرفية مع الأصول والمقاصد الكبرى لهذا الدين. وهي لا تدرك أن القطيعة المعرفية حاصلة بمجرد سحب مفاهيم التراث وتقريبها نحو هذه الصيغ الحداثية. وقد نقرأ في كثير من أدبياتها جملاً من قبيل «العقلانية الإسلامية المؤمنة» التي تختلف بحسب هذه الأدبيات عن العقلانية اليونانية المتجردة من البعد الديني، العقلانية الوضعية التي جاءت نقيضاً للدين عكس عقلانية هذه المحاولات التي جمعت بين النقل والعقل بين حكمة والشريعة، وما إلى ذلك من عبارات وجمل صيغت ضمن هذا التنظير

    والإشكالية هنا ليس فيما قد تطرحه هذه التنظيرات من الصيغ المستحدثة وإنما في التأصيل الذي غيّب أي محاولة إبداعية للتجديد، فالمحاولات التجديدية التي استندت إلى التأصيل في تنظيراتها غفلت عن حقيقة تظهر لأي متابع للفكر الإسلامي المعاصر. الذي غيبت منهجية التأصيل بنيته الأصلية التي كان يمكن للمحاولات التجديدية أن تعيد صياغة المفاهيم والقيم الإسلامية ضمنها -أي بنية الفكر الإسلامي- بدل النظر إلى هذه القيم والمفاهيم من زاوية حاجات العصر وضروراته.

    ومن أخطر ما تقبله الفكر الإسلامي تحت ضغط منهجية التأصيل إدماج قيم حداثية ضمن المنظومة المعرفية الإسلامية وذلك بالقول مثلا إن الديمقراطية «موجودة في الفكر الإسلامي تحت اسم الشورى، وأن العلمانية موجود تحت اسم العقل»!!.

    إن هذه المنهجية جعلت محاولات التجديد تغفل حتى عن النظر إلى هذه القيم الحداثية نظرة نقدية بل عملت على إدخالها إلى حقل التداول الإسلامي باعتبارها «مكتسبات أو اكتشافات إنسانية وعقلية نهائية، ولم تنظر أو لم تفكر في النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه من محدودية تاريخية أو تناقضات داخلية»2. ذلك أن الضغط المنهجي الذي صاحب المحاولات التجديدية جعلها تعتقد أن التجديد يكمن في «تحديد المعاني والمفاهيم المستخدمة في إطار منظومة ثقافية أو فكرية بما يتفق مع القيم الحديثة أو العصرية.. إن الخطأ هو في التفكير في أن التجديد هو مطابقة أو مسايرة لقيم معينة داخل المنظومة، أي ما أصبحنا نردده فيما بعد، ونسميه التكيف مع قيم ومعطيات العصر»3.

    ما يمكن أن نخلص إليه من فك الترابط بين التجديد والحداثة. وجعل هذه العملية -التجديد- تتم بعيدًا عن النمط الحداثي الغربي، هو دفعها نحو وضعية مختلفة وشروط مختلفة عن تلك التي عرفتها المحاولات التجديدية التي تمت في حقل التداول الإسلامي. لعلها تبدع نمطها في التحديث انطلاقاً من الذات (التراث). وإن كنا لا نستطيع أن نحدد هذه الوضعية وأن نكتشف الشروط الممكن أن تتم فيها محاولة جديدة للتفكير الديني.

    --------------------------------------------------------------------------------
    الهوامش:
    25- صبا محمود، السلطة المدنية وإعادة تشكيل التقاليد الدينية ، مقابلة مع طلال أسد، مجلة الاجتهاد (عدد 49/48/2000)، ص 255..

    26- نفس المصدر ص 108.

    27- نقلاً عن ـ ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 /شتاء 1994. ص 109.
                  

10-15-2004, 06:23 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رأي اسلامي يرفض العولمة ويربطها بالحداثة وما بعدها (Re: osama elkhawad)


    قضية للحوار: "العولمة" لا تنفك عن ثقافة "ما بعد الحداثة"
    د. سعيد الشهابي

    ربما اقترن مصطلح العولمة بالهمينة السياسية والاقتصادية الغربية في العقود الاخيرة، ولكن المصطلح له جذوره في الثقافة الانسانية، ويمكن القول ان الاديان هي اوضح مصداق له. السبب في ذلك ان هذه الاديان انزلت من الله سبحانه وتعالى الذي خلق البشر ولم يميز بينهم، بل دعاهم جميعا لاتباع اوامره واجتناب نواهيه. اما الاسلام فهو التجسيد الكامل للدين الالهي القويم، الذي يخاطب الناس جميعا ولا يقتصر خطابه على قوم دون آخرين: "قل يا أيها الناس اني رسول الله اليكم جميعا الذي له ملك السموات والارضين". وبالتالي فليس هناك من حيث المبدأ اعتراض على تعميم القيم والمفاهيم الخيرة الى كافة ربوع الدنيا. فهذه هي الرسالة المبتغاة من وراء الدعوة والتبليغ.

    الاسلام ينطلق على اساس الحب الالهي للبشر، وحب الناس للخير، وحبهم لبعضهم البعض، وعلى اساس ذلك المفهوم الخير، يحث اتباعه على الدعوة الى الله، هذه الدعوة ليست حركة تصوف او رهبنة، بل هي مفهوم عام شامل، يروج القيم الروحانية، كما يدعو الى السلوك القويم. انها دعوة لخلق تمازج وتكامل بين الايمان والعمل الصالح. فما يفيد الناس يعتبر عمل خير مطلوب، وما يضرهم شر مرفوض. على هذا الاساس فقد "عولم" الاسلام قيم الخير، ودعا الى مواجهة ما هو شر وبلاء.

    عولمة اليوم التي نعيش في ظلها، ليست سوى تكريس لثقافة مادية انطلقت على خلفية الصراع الثقافي والديني في الغرب، وانتصار مروجي فصل الدين عن السياسة والممارسة الحياتية، وصعود ظاهرة العلمنة. وبالتالي فهذه الظاهرة تنتمي لقوتين اساسيتين: اقتصادية وايديولوجية.
    اما القوة الاقتصادية فهي هيمنة الراسمالية والرغبة في تكثيف الربح والكسب المادي بدون حدود، حتى لو كان ذلك على حساب البشر الآخرين. وبالتالي فقد نمت الطبفية وتوسعت الهوة بين الاغنياء والفقراء، خصوصا مع غياب آلية تنظيم الدخل والتوزيع، وترك الامور بيد اصحاب القوة القادرين على استغلال الظروف لصالحهم على حساب من لا يمتلكونها.
    اما الايديولوجية الملازمة للعولمة فتنتمي الى مشروع العلمنة الذي تكرس بالثورة الصناعية وساهم في تهميش دور الكنيسة بعد ان واجهت علماء الطبيعة ونكلت بهم. ومشروع العلمنة الذي تزامن مع ما سمي بـ "الحداثة" التي من معالمها فصل الدين عن السياسة والدولة، آخذ في التطور، حتى بلغ اليوم حالة خطيرة من الليبرالية الفكرية والاجتماعية اصبحت تهدد ابسط القيم التقليدية حتى لدى الكنيسة نفسها. فاصبحت مرحلة "ما بعد الحداثة" التي يروج لها كثيرا في المطارحات الفكرية الغربية اليوم، تسمح مثلا بالاعتراف بالشذوذ واعتباره امرا طبيعيا. بل بلغ الصراع ليصل الى طبقات لكنيسة نفسها. فبينما يختلف زعماء الكنيسة حول "لاهوت التحرير" الذي دفع بالعديد من الكهنة والقديسين للمشاركة في النضال ضد الاستبداد في امريكا اللاتينية وجنوب افريقيا في عقد الثمانينات، تجد الكنيسة نفسها اليوم في صراع داخلي حول مدى شرعية اعتماد الكهنة الشاذين وقبولهم في طبقاتها، ومدى السماح لهم بمزاولة مهماتهم في الكنائس كمسؤولين كبار. فمنطق "ما بعد الحداثة" يخضع القيم والمفاهيم للتجربة والذوق البشريين، بعيدا عن اية مرجعية دينية او خلقية. فليس هناك ثوابت بل تجارب وممارسة وتقديس للذوق البشري مهما كان شاذا.

    ولذلك فالاعتراض على العولمة انما ينطلق على اساس رفض اخضاع العالم لثقافة القوي الذي ادى تقدمه المفرط في مجال التنكنولوجيا الى تحول العلم المادي الى آلهة مقدسة، لا يجوز المساس بها وبقيمها. وبسبب التركة التاريخية من الصراع بين الكنيسة والعلم في العصور الوسطى، اصبح العالم اليوم يدفع ضريبة ذلك الصراع، وذلك من خلال اخضاعه لظاهرة العولمة التي تهدد قيم الشعوب ومبادئها ومعتقداتها. وتتراوح شراسة هذه الظاهرة ما بين هيمنة المنتجات التكنولوجية الغربية على العالم الثالث عموما، وما يصاحب ذلك من تهديد للثقافات والعادات المحلية وانماط الحياة التقليدية، مرورا بهيمنة الشركات المتعددة الجنسية على العالم، وما يصاحب ذلك من استبداد اقتصادي مفروض على شعوب العالم الثالث، وصولا الى الهيمنة السياسية والعسكرية التي تجسدت في العقدين الاخيرين، وتكرست بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وعولمة "ما بعد الحداثة" القائمة على منطق القوة والغلبة وسيادة منطق الرغبات الذاتية للافراد، من بين الاسباب التي ادت الى ما يعيشه العالم اليوم من هواجس مقلقة نجمت عن الهيمنة الامريكية المطلقة على العالم، وتجاوز ابسط مظاهر الوئام الدولي المتمثل بمنظمة الامم المتحدة. وقد وجد بعض المفكرين الغربيين انفسهم مضطرين لمناقشة الاسس التي تنطلق عليها السياسة الامريكية وقرارات الحرب والسلام. فأصبح هناك نقاش قوي حول مفهوم "الحرب العادلة" بالعودة الى المفاهيم التي طرحها القديس اوغستين في القرن الرابع الميلادي . وشارك اسقف كانتربري، روان ويليام، في انتقاد رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، لمشاركته في الحرب التي اعتبرها ويليام "غير عادلة" .بل ان بعض المفكرين الغربيين طرح في الفترة الاخيرة نقاشا حول ما اذا كان الرئيس الامريكي، جورج بوش "مسيحيا جيدا". ويرى هؤلاء ان بوش لم يلتزم بتعليمات المسيحية التي يفترض ان تستعمل لغة الحب والسلام بدلا من لغة الحرب والعدوان.

    الكنيسة اصبحت ضحية ظاهرة "العولمة" المادية العلمانية، وبذلك اصبحت مهددة من داخلها لانها لا تستطيع عزل نفسها وهيكليتها عما يدور في محيطها. فالقوى المادية المحيطة تفوقها في الامكانات والتأثير، خصوصا ان التنامي التكنولوجي، لكونه تطورا علمانيا في الاساس، يكرس التوجه لتكريس ثقافة "ما بعد الحداثة" التي تنسف الاسس الدينية للامم، وتخضع الامور للذوق الشخصي ورفض وجود اية ثوابت اخلاقية او سلطة دينية يمكن التسليم لها واعتبارها مرجعية لتصرفات الافراد. هذه العولمة وتداعياتها تسمح اليوم باستنساخ الجنس البشري، بدعم من الزعماء السياسيين، والاحتجاج المائع من القوى الدينية، مسيحية ام اسلامية. وبهذا تحقق وعد الشيطان "ولأقعدن لهم صراطك المستقيم، ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله". ان السجال الدائر حول العولمة من الجانب الاسلامي ليس منطلقا من ردور فعل محدودة سببها الشعور بالعجز عن مواكبة التطور او مواجهة تحديات التقدم الغربي، بل من شعور عميق بان الانسانية اصبحت تسير باتجاه التدمير الشامل للمحيط الذي تعيش فيه البشرية، سواء على مستوى الكيانات الانسانية، ام المحيط البيئي ام القيم الاجتماعية والثقافية. وفي كل من هذه المحيطات يمكن استعراض امثلة لا تحصى لتأكيد مقولة الضياع الخطير لهذه الانسانية، وهو ضياع من بين اهم اسبابه هذه العولمة التي توجهها ثقافة "ما بعد الحداثة" وتحركها الآلة التكنولوجية المنطلقة على خلفية العلمنة والتشرذم الفكري والروحي الذي يعيشه الغرب اليوم.

    علماء المسلمين، هم ايضا، يعيشون حالة من اللف والدوران في معمعة الحركة البشرية في بلدانهم من جهة، وفي العالم الذي اصبح ربانه يخيف ركاب السفينة من "الارهاب الاسلامي" لافشال اية ردة فعل استباقية لوقف هذا التداعي الروحي والفكري لدى الامم والشعوب. هذا الربان يسعى لـعولمة مقولة "الارهاب الاسلامي" كواحدة من الوسائل للدفاع عن ثقافة "ما بعد الحداثة" من خطر "الاصولية" التي تنتمي الى الدين وقيمه ومنطلقاته واهدافه. مشكلة هذه "الاصولية" انها هي الاخرى تبحر في محيط لجي بدون ربابنة ماهرين قادرين على توجيه السفينة بعيدا عن الصخور والامواج العاتية. العولمة وفق هذا الافتراض، ظاهرة لا تنفك عن انتمائها التاريخي لمرحلة الصراع بين الكنيسة والعلم، وهو صراع لا ينفك كذلك، عن التاريخ الدامي بين الاديان، ذلك الصراع الذي يمتد بجذوره الى الحروب الصليبية، ويصل بفروعه الى الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والتأثير السلبي لذلك على مشروع الحوار بين الاديان. وما لم يتم الخروج من هذه الحلقة المفرغة داخل البيت الديني اولا، ومن الاحتراب الدموي بين "مروجي الديمقراطية" حسب التعبيرات الدارجة للتقليل من خطورة "العولمة العسكرية" و "الاصولية الاسلامية" فلن يكون ممكنا الخروج برؤى واضحة وتصورات معقولة لما يمكن عمله لمواجهة فاعلة مع علمانية العولمة التي تنسف الاسس الدينية والاخلاقية والثقافية للامم والشعوب
                  

10-15-2004, 07:57 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة (Re: osama elkhawad)


    بقلم:
    د. ناصر الدين الأسد *

    لندن: «الشرق الاوسط»
    حرصت جمهرة كبيرة من العلماء على تقديم دراسات وأبحاث لمعالجة قضايا فقهية معاصرة، وإنه بحكم التطورات الجديدة في عالم الدراسات الفقهية نحت ثلة من العلماء والفقهاء الى تقديم دراسات حول الحقوق الدولية في الاسلام، والغزو الفكري، ودور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي، والإسلام في مواجهة العلمانية، والإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة، وحقوق الطفل والمسنين وحقوق الانسان في الاسلام، والنظام العالمي الجديد والتكتلات الاقليمية، واسلامية مناهج التعليم، والخطاب الاسلامي ومميزاته ونحو ذلك.

    وقد أردنا تعميم الفائدة في هذه القضايا للمتطلع الى معرفة أفكار الدارسين والعلماء لها فأحببنا أن نقدم لقراء «الشرق الأوسط» مجموعة من هذه البحوث من رصيد دورات مجمع الفقه الاسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي.
    الجزء الأول:
    * الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح، كل مصطلح، إنما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله الى مفهوم غيره الا باستعمال مصطلح آخر، فالحداثة اذن ليست كلمة عامة يقصد بها الجدة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه، فتختلف بذلك سماتها ومظاهرها وعناصرها باختلاف العصور، فالتجدد والتطور في العصر الأموي، في الحياة عامة، لهما من السمات والمظاهر ما يختلف عن عصر الراشدين، ثم ما يختلف عن العصور العباسية وما تلاها من عصور. وقد اختلط معنى مصطلح (الحداثة) في اللغة العربية في بدء استعماله ودورانه على الأقلام والألسنة بمعنى الجدة، وربما كان سبب ذلك أن الوصف منها هو (حديث)، فقالوا: (العصر الحديث)، و(الشعر الحديث)، فظنوا أن هذا الوصف منصرف الى معنى (الجديد)، أو هذا الذي نحن فيه الآن، وربما جعلوه بمعنى (المعاصر)، وقالوا ان لكل عصر جديده أو حديثه، مرددين قول الشاعر:

    إن ذاك القديم كان حديثاً وسيغدو هذا الحديث قديما

    ومن أجل رفع هذا الالتباس أصبح بعض كتابنا في هذه الايام يستعملون صفة (الحداثي) بإضافة ياء النسبة الى المصدر، وربما زادوا في التوضيح فقالوا (الحداثية) ـ باستعمال المصدر الصناعي ـ للتفريق بينها وبين (الحداثة) بمعنى الجِدَّة، ثم أغرب بعضهم فاستعملوا للمصدر لفظة (الحداثوية)، وللصفة لفظة (الحداثوي). كل ذلك ليثبتوا لهذا المصطلح انفراده بمعنى خاص، وامتيازه عن غيره.

    فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في ادراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولا بد لنا قبل أن نمضي في الكلام عن الحداثة من أن نشير إلى أنها ـ في أصلها ـ ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة واصدار الاحكام القاطعة.

    من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديداً واضحاً أو تعريفاً شاملاً لها، وانما نجد فيها تناولاً عاماً لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها او آثارها، وهو ما سنتطرق اليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته،ومع ذلك وقعت الحداثة ـ في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ـ في ما رفضته نظرياً، وفي ما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها. فشهد القرن العشرون ـ مع التقدم العلمي والتكنولوجي ـ أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على اساس الاحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، واهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال اراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي الى افساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة.
    من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيراً من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة).

    ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، لكنه لا يغدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد ان اصابها الجفاف فقست واصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والانسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة الى تطعيم (ماديتها) المغرقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانباً انسانياً يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.

    ويذهب فريق آخر الى انكار هذا الشعار الجديد، والى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال انها انتهت أو سقطت، أو يقال ان حقبة اخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الاشارة العابرة اليه، وربما تساءل بعضنا ساخراً: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟

    ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج الى مزيد من التوضيح ـ على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه ـ ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد ان نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.

    والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم اخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون اليها اسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربعمائة.

    والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة ـ خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان ـ وحركات الاصلاح الديني عند مارتن لوثر (1483 ـ 1546م)، وجون كالفن (1509 ـ 1564). وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحرراً فكرياً من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارهم للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، واقامة انفسهم وسطاء بين الله والناس، يحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الاصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران. حتى ذهب بعض العلماء الى ان تلك الحركات والدعوات، كانت متأثرة بما كان شائعاً بين العلماء والمتعلمين في أوروبا من المعارف الاسلامية، ومن تعاليم القرآن الكريم وكتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين.

    وقد اقاموا الدليل على ذلك بقدوم اعداد من هؤلاء المتعلمين الى الاندلس للدراسة في المدارس وحلقات العلم هناك، ومنهم عدد من الرهبان الذين اصبح احدهم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو (سلفستر الثاني) في سنة 999م، وكذلك استدلوا بكثرة الترجمات للقرآن الكريم ولكتب بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة المسلمين من أمثال: الكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير، وقيام اتصال وثيق بين المسلمين والأوروبيين في أثناء حروب الفرنجة (الحروب الصليبية)، ومن خلال السفراء والأسرى بين الجانبين، وكان منهم علماء وفلاسفة تدور بينهم جميعاً محاورات دينية يعرض المسلمون من خلالها الاسلام.

    ولكن هذه النشأة التاريخية ما لبثت ان مرت في مراحل من التطور، فأصبحت الثورة على الكنيسة ورجال الكهنوت ثورة على الدين نفسه، وكفراً به، إلى أن قال (نيتشه) (1844 ـ 1900) قولته المشهورة: «قد مات الإله»، وأصبح تنظيم شؤون الحياة والناس لا علاقة له بتعاليم الدين، وراج شعار «الانسان يصنع تاريخه». وربما كان هذا التغير في موقف العلمانية ومعناها هو السبب في الاختلاف في فهم كثير من الناس لها وفي موقفهم منها. فإن فهمت على المعنى الأول فنحن ـ المسلمين ـ معها، اذ لا كنيسة عندنا ولا كهنوت، وان فهمت على المعنى الثاني فهي منافية للدين منكرة لله عز وجل، ولا يقبل بها مسلم مؤمن. وهذا الذي ذكرناه عن العلمانية هو الحداثة بعينها، وهو يدخلنا فيها من أوسع أبوابها، ذلك أن ما قاله (نيتشه) وما ذكرناه من أن «الانسان يصنع تاريخه» هما من أسس الحداثة وركائزها. بل لقد ذهب بعضهم الى ان تعريف الحداثة: هو ان «الانسان يصنع تاريخه» مع تأكيد كلمة (الانسان) وأن «هذا القول بمثابة شهادة ميلاد الحداثة، وتحديد مجال تساؤل الفكر الاجتماعي»، وحتى نستكمل توضيح هذا العنصر العلماني من عناصر الحداثة نحتاج الى ان نستمر في اقتباس عبارات من أصحاب هذا المذهب، فأحدهم مثلاً يتساءل: «هل أصبح من الممكن ربط مختلف انجازات المعرفة الفرعية ودمجها في تفسير موحد للواقع الاجتماعي ككل؟» ويجيب بقوله: «للاجابة على هذا السؤال طابع فلسفي بالضرورة، لقد كان لاجابة جميع فلسفات العوالم القديمة ـ أي السابقة على الحداثة الرأسمالية ـ طابع ميتافيزيقي صريح. فكانت هذه الفلسفات تؤكد ان هناك نظاما يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة والمجتمعات والأفراد، فأقصى ما كان يمكن ان يحققه البشر ـ فرادى وجماعات ـ انما هو اكتشاف اسرار هذا النظام، بواسطة صوت الانبياء، وادراك مغزى الاحكام الميتافيزيقية المضمرة، فالطاعة لها».

    ثم يقول: «نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الارث، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفقد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقاً. فأدرك الانسان منذ هذه اللحظة انه هو صانع تاريخه، بل ان العمل في هذا السياق واجب، الامر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار. انطلقت الحداثة ـ إذن ـ عندما أعلن الانسان انعتاقه من تحكم النظام الكوني. وارتأى ـ واشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي ـ أن هذه القطيعة كانت أيضاً لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم ـ في مجال إنماء قوى الانتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية ـ ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في انجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفاً للتحرر والتقدم».

    ثم يقول: «ليس هناك تعريف آخر للحداثة ـ في رأيي ـ غير هذه القطيعة الفلسفية». ومما يزيد الأمر وضوحاً تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني، خاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية دانيال هير فيوليجيه، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر ان الحداثة كانت تتصور انها مسار تاريخي طويل للتحرر من اسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة ابعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الانسان ينظر الى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.

    وثانيها: ان جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من اطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته، كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد ان يضفيه على العالم. وهذه الاستقلالية من شأنها ـ من دون أدنى شك ـ ان تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.

    أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاً من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث ـ بتأثير العلمانية ـ تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيداً عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها انصار الحداثة قيوداً تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم. وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية، أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الازاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الازاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات.
    وحين نعيد النظر في ما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل الى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:

    أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و«الشك في ما هو قائم، واعادة التساؤل في ما هو مسلم به». ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.

    وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالانسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر الى تأليه العقل، وانكار الغيب، ونفي الوحي، وعدا من الخرافات، حتى انهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة)، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية، ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو الى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح اذا حُصِر في القطيعة مع انماط التفكير واساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.

    وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيداً عن تصديق تعاليم الدين واحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.

    ورابعها: الايمان بفكرة التقدم. وخلاصتها ان الانسانية تسير دائما الى الأمام من عصر الى عصر، وان كل عصر تال لا بد ان يكون اكثر تقدماً وافضل للناس من العصر الذي سبقه، فالحاضر افضل من الماضي، والمستقبل افضل من الحاضر. والتقدم بهذا المعنى أمر حتمي. على حين كان الناس قبل القرن السادس عشر يمجدون الماضي، ويرون ان العصور السابقة كانت افضل من الحاضر، وان كل عصر أسوأ من العصر الذي قبله، ومن هنا نشأت فكرة تقديس الماضي، واصبح كثير من الناس يحنون الى الأيام الفاضلة السعيدة Good old days.
    وفكرة التقدم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة التطور، فقد «كان العقل البشري في عمومه يعتقد أن للأشياء ـ وضمنها الأفكار، والمرجعيات والقيم والايديولوجيا والمبادئ ـ حقائق ثابتة أزلية أبدية. وقد سمى الفلاسفة القدماء وربما أيضاً المحدثون، هذه الثوابت: جواهر، أما ما قد يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي ـ كما سموها ـ مجرد أعراض لتكل الجواهر».

    وهذا يعني ان لتلك (الجواهر) ستظل على حالها الثابتة منذ بدء العالم الى نهايته من دون تغيير أو تطوير. ثم جاء تصور عقلي جديد جعل (التغير) مكان (الثبات)، وانتهت بذلك مرحلة التفكير المطلق، وبدأت مرحلة التفكير النسبي «الذي ينظر الى كل شيء على انه متغير ونسبي».

    وذهب بعضهم الى ان التقدم والحضارة وقف على أوروبا، ومن هنا سادت نظرة التعالي الأوروبي الى البلاد الأخرى (المتخلفة)، وخاصة بلاد آسيا وافريقيا، وكان ذلك سبباً من أسباب حركة الاستعمار الأوروبي، اذ كان الاعتقاد انه من حق تلك البلاد المتقدمة ان تستخدم سكان البلاد المتخلفة وتستعبدهم، وتستثمر مواردهم وتستنزفها لخير الانسانية المتحضرة، وقد ادعى بعض ساستهم ان تلك البلاد الآسيوية والافريقية لم تبلغ سن الرشد بعد، وان الاستعمار هو وسيلة الاخذ بيدها الى الترقي والتحضر.

    وخامسها: تمجيد الفردية Individualism التي أخذت تنمو، خاصة بعد الثورة الفرنسية في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فـ «الفكر والنظام السياسي والاجتماعي الغربي قام على اساس مفهوم واحد مقدس هو الفردية، الذي يضمن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها لتحقيق هذه الغايات. وفي حال حدوث تضارب بين مصلحة الفرد والمجتمع فإن مصلحة الفرد هي التي تعلو على ما سواها. ومن هذا المفهوم تفرعت كل الافكار والقيم الغربية المتعلقة بالحرية الفردية والمبادرة الذاتية التي لا تحدها حدود، ولا تكبلها ضوابط وقيود».

    * وزير التعليم العالي الأسبق ورئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن

    الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة (2 ـ 2)

    لم يقتصر الإسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه إنما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق

    الجزء الثاني:
    لندن: «الشرق الأوسط»

    استعرضت جلسة امس مفهوم الحداثة كمصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح انما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله الى مفهوم غيره إلا باستعمال مصطلح آخر، كما تطرق الدكتور ناصر الدين الاسد في الجزء الاول من بحثه الذي نشر في جريدة «الشرق الاوسط»، ضمن مجموعة من بحوث هي جزء من رصيد دورات مجمع الفقه الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، الى ان الحداثة ليست كلمة عامة يقصد بها الجدة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه.

    وفي حلقة اليوم يتناول الباحث ابعاد الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالتحليل والدراسة، حيث ركز على الجانب الايجابي لهذه الابعاد المتعلقة بالتقدم والنهضة.

    قامت «حقوق الانسان» على اساس فلسفي ومذهبي من الحرية الفردية. وكانت المغالاة في هذه الحرية واحترامها تعبيرا عن رد فعل لما كان يعانيه الفرد من اغلال القرون الوسطى الاوروبية في ظل انظمة الحكم المطلق والاقطاع والكنيسة. وقد اتاحت هذه الحرية الفردية الانطلاق الى بناء المجتمع الغربي الحديث الذي يمارس فيه الفرد استقلاله وحريته ودوره في الابداع والتقدم والتميز واقامة الدولة المدنية الحديثة. لكن المغالاة في هذه الحرية الفردية بلغت مبلغا تمثل في اباحة كثير مما كانت الشرائع السماوية والمجتمعات لا تبيحه، مثل: اباحة المخادنة (مع منع تعدد الزوجات الشرعيات)، واباحة الزنى واسقاط عقوبته حتى عن الزوجة، والسماح بالتزاوج بين افراد الجنس الواحد: بين الذكور والذكور وبين الاناث والاناث، وتخفيض السن المسموح بها لهذا التزاوج المثلي او المعاشرة والمعايشة المثلية الى الثامنة عشرة، بل دونها! وغير ذلك من مظاهر الحياة والسلوك التي انتهت اليها الحرية الفردية مما يستهجنه كثيرون حتى في الغرب نفسه، اذ ليس من شك في ان عندهم عشرات الملايين من المؤمنين المتدينين، ومن المحافظين على التقاليد، وكذلك من الذين لا ينتمون الى الحداثة في شيء، من: الأميين، والمعتنقين لمذاهب دينية وثنية، والمعتقدين بالخرافات..الخ. والحكم بالحداثة انما يشمل الاتجاه العام في المجتمع والدولة، وليس الافراد الذين تظل نسبتهم قليلة مهما يكثر عددهم. وقد قيل عن الحداثة: ان لها ـ بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ـ وجها مشرقا نتطلع اليه، وجانبا مظلما نتجاهله. وان ما هو ايجابي وتقدمي نهضوي في الحداثة هو الذي اُبرز على مدى عقود مضت، لكن التعتيم على الجوانب السلبية للظاهرة نفسها اصبح الآن غير مقبول. وقد نظر الى سلبيات الحداثة في المجتمع والافكار والقيم خلال عقود التنمية في العالم الثالث. والعالم العربي منه. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على انها مشكلات انتقالية ستتغلب عليها المجتمعات التقليدية في مسيرتها التاريخية نحو الحداثة، ومن هنا جاء هذا الاندفاع نحو التقدم و(المعاصرة)، بسبب رؤية متكاملة للحداثة تتجاهل ما هو مضر وسيئ منها. ويسمى هذا النمط من التفكير القائم على مفهوم الفردية الفكر الرأسمالي، وهو فكر لا ينكر حتى اشد انصاره المساوئ التي افضى اليها، وقد دفعت تلك المساوئ بآخرين الى نظرية جديدة جاءت رد فعل على مثالب الفكر الرأسمالي، هي النظرية الشيوعية، ومن يمعن النظر في الفكر الشيوعي يجد ان اصحابه قلبوا المفاهيم الرأسمالية، فذهبوا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، نزعوا وسائل الانتاج من يد الفرد ليضعوها في يد الدولة، وحولوا المجتمع الى حالة المركزية الشديدة، وحرموا الفرد من ابسط حقوقه ومقومات انسانيته، فجردوه من الحرية، ومن الملكية التي تكفل له حقا خاصا في أي امر حتى في اولاده.

    وكان اهم عنصر من عناصر الحداثة تعرض لاعادة النظر فيه هو العلمانية، ومن هنا انتهى بعضهم الى القول انه: «على عكس ما كان يتصور انصار الحداثة الغربية، من ان مشروعها الحضاري، الذي يقوم على الفردية والعقلانية والوضعية والعلم والتكنولوجيا، سيؤدي بالتدريج الى تهميش الدين واحتلاله موقعا ثانويا في المجتمع الحديث، فإن وقائع العقود الماضية، وما نراه من عودة للمقدس في الوقت الراهن تشير الى سقوط نبوءة انصار الحداثة».

    ومثلما بولغ في علمانية الحداثة، كذلك بولغ في رد الفعل والعودة الى الدين: فظهرت في عدد من البلاد حركات دينية تقوم على الغلو والتعصب وسوء الفهم للدين وللكتب المقدسة، مثل: الجماعات المسيحية اليهودية، او الصهيونية عند الانجيليين، خاصة في الولايات المتحدة، ومثل اعمال الارهاب بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية، ومثل قيام دولة عنصرية دينية على اساس من اساطير بعض الكتب الدينية المحرفة ونبوءاتها، وربما كان اوضح مثال على ذلك دولة اسرائيل في فلسطين المحتلة.

    فما هو موقف الاسلام من كل ما تقدم؟ وكيف يكون الاسلام في مواجهة الحداثة الشاملة؟ وللاجابة عن هذين السؤالين اللذين يكادان يكونان سؤالا واحدا، لا بد لنا من ان نعود بذاكرتنا الى عصور ازدهار العلم الاسلامي، وانتشار الحضارة الاسلامية، وحركتهما في التوسع والتأثير في اوروبا، خاصة منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وما تلاه من عصور حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). وهو ما اشرنا الى طرف منه عند حديثنا قبل صفحات عن حركات الاصلاح الديني المسيحي في اوروبا، وسنعود اليه بعد قليل. وربما كانت اوضح السبل الى تلمس الاجابة عن السؤالين السابقين ان نقف عند كل عنصر من عناصر الحداثة لنتحدث عن موقف الاسلام منه وعلاقة المسلمين به.

    فالعنصر الاول، وهو حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و«الشك فيما هو قائم واعادة التساؤل فيما هو مسلَّم به»، عنصر يتضمن مبادئ قررها الاسلام تقريرا واضحا لا لبس فيه، وسار على هديها العلماء والمفكرون المسلمون. وحسبنا ان نشير في هذا المجال الى ان الاسلام قد اباح حرية الخطأ، وجعلها حقا من حقوق المسلمين في بحثهم عن الحقيقة، اذا خلصت نياتهم وكان الحق رائدهم ولم يتعمدوا ذلك الخطأ للتضليل. ومن هنا كان دعاء المسلمين: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) («البقرة: 286»)، وقوله تعالى: «وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما» («الاحزاب: 5»)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان».

    ولم يقتصر الاسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه، انما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق ويطلب العلم، فجعل له حينئذ أجرا واحدا وجعل للمصيب أجرين. وتدخل في هذا الباب آيات التسخير المتعددة في كتاب الله تعالى، واجمعها واشملها قوله تعالى: «وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» (الجاثية: 13)، وهكذا انطلق علماء المسلمين (يتفكرون) و(يتدبرون) دون ما حرج ولا تزمت، لا يحول بينهم وبين ميدان من ميادين العلم حائل.

    اما موضوع (الشك فيما هو قائم واعادة التساؤل فيما هو مسلّم به)، فالفكر الاسلامي حافل بما يدل على انه الرائد في هذا المضمار، وقد كان من منهج العلماء المسلمين الشك في الامور الى ان يقوم الدليل على صحتها او بطلانها. ومن امثلة ذلك ما نص عليه الجاحظ ـ بعد ان ذكر خبرا غريبا ـ قال: «ولم اكتب هذا لتُقِرَّ به، ولكنها رواية احببت ان تسمعها. ولا يعجبني الاقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الانكار له، ولكن ليكن قلبك الى انكاره اميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما، فلو لم يكن في ذلك الا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج اليه». اما العنصر الثاني ـ الذي اشرنا اليه ـ من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو تحكيم العقل في كل ما يتصل بالانسان وكل ما يعرض له، فما اكثر الدعوة اليه في كتاب الله وفي احاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند علمائنا ومفكرينا، وهو مبثوث في أمهات كتبنا. وقد عدّ العلامة الباكستاني الدكتور محمد عباس عبد السلام رحمه الله تعالى (الحائز جائزة نوبل في علوم الطبيعة) سبعمائة وخمسين آية في القرآن الكريم، هي في صميمها حث للمسلم على التأمل في الطبيعة واستعمال العقل لفهمها واستعمال المهارة لتسخيرها.

    وقد تكررت في القرآن آيات تحض على العقل وتنتهي بقوله تعالى: (.. أفلا تعقلون) و (.. لعلكم تعقلون) و (... إن كنتم تعقلون) و (... لقوم يعقلون)، او ما يتصل بذلك من الفاظ العقل.

    وكذلك تكررت فيه آيات تدعو الى التفكير، وتنتهي بقوله تعالى: (لعلكم تتفكرون) و(أفلا تتفكرون) و (لقوم يتفكرون).

    وآيات اخرى فيها الفاظ متعددة تدل على معاني العقل والفكر، مثل التدبر «أفلم يدبروا القول» (المؤمنون: 6 و«ليدبروا آياته» (ص: 29)، ومثل: النظر «أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض» (الاعراف: 185).

    و «أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها» (ق: 6)، و«أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت» (الغاشية: 17). ومثل لفظ البصر وما اشتق منه كقوله تعالى: «وفي انفسكم أفلا تبصرون» (الذاريات: 21) الى غير ذلك من آيات صريحة اللفظ أو صريحة المعنى، مما هو مبثوث في كتاب الله، وربما كان اشملها واجمعها قوله تعالى: «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة» (البقرة: 219 ـ 220).

    وحين ننظر بعد ذلك الى اقوال بعض العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين، نجدهم كثيرا ما يعولون على العقل ويدعون اليه، فمن ذلك قول الجاحظ: «فلا تذهب الى ما تُريك العين، واذهب الى ما يُريك العقل، وللأمور حُكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجّة». والحديث عن العقل وتحكيمه متصل أوثق اتصال بحديثنا السابق عن الشك وعدم التسليم بأقوال العلماء السابقين دون تمحيص، وهو ايضا متصل أوثق اتصال بما حث عليه الاسلام من نبذ الخرافات والاساطير. ويدسّ بعضهم تعبيرات ماكرة كقولهم: (ثقافة الخرافة)، ويخلطون الكلام خلطا ليفهم ان المقصود بالخرافة انما هو الايمان بالغيب. وشتان ما هما وبُعْدَ ما بينهما.

    واذا كان للخرافة (ثقافة) تشيع بين العوام الجهال، يخوضون فيها، وينخدعون بها، (مثل: الزار ودفوفه ورقصه، ومثل الحجب الباطلة وقراءة الكف والإخبار بالحظ والمستقبل، والتنجيم، وأحاديث السحر والجن والشياطين)، فإن الغيب ليس له ثقافة، وانما هو تصديق وايمان، دون الخوض في هذا الغيب ودون بناء ثقافة له: «وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو» (الانعام: 59). «ولله غيب السموات والارض واليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون» (هود: 123).

    وأما العنصر الثالث من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو عنصر (العلم) ومناهجه، فالحديث عنه في الاسلام ولدى المسلمين حديث طويل. وهؤلاء علماؤنا في مختلف ميادين العلم نجوم نيرات في سماء الحضارة الانسانية: في مرحلتها الاسلامية، ثم في تأثيرهم في عصر النهضة الاوروبية وعصر التنوير، وقد تُرْجِمت كتبهم الى اللغة اللاتينية، اما مباشرة واما من خلال العبرية. وفي طليعة هؤلاء العلماء المسلمين: جابر بن حيان (ت 200هـ ـ 815م)، الذي كانت له شهرة كبيرة عند الافرنج بما نقلوه من كتبه في بدء يقظتهم العلمية، قال عنه (برتلو) M. Berthelot: «لجابر في الكيمياء ما لارسطو طاليس قبله في المنطق. وهو اول من استخرج حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، واول من اكتشف الصودا الكاوية، واول من استحضر ماء الذهب، وينسب اليه استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم، وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها».

    وانما تكلفنا ما تكلفنا من اقتضاب القول في موضوع اختلف اصحابه فيه اختلافا واسعا، لنزيل عنه غموضه الذي خلفه عند كثير من أهله وعند اهلنا، وكان حقه التوسع فيه والبسط لولا ضيق المجال، ولنصل كذلك من كل ما قدمنا الى ان الاسلام ـ بالفهم الصحيح له ـ كانت (الحداثة) من بعض منهجه الشامل. وان العلماء المسلمين هم آباء (الحداثة) الاوروبية، بما نقلوه الى اوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الاسلام من حرية التفكير والتعبير، والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد، وبتسخيره لهم ما في السماوات والارض جميعا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والاساطير والأوهام والاباطيل، وبما يسر لهم من اساليب العلم ونظرياته وانجازاته، وبما دعاهم اليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الانسان من عبوديته للإنسان، وجعل العبودية لله وحده، بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما، وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعا دونما احتكار لطبقة دون غيرها: تعدل فيهما وتغير، وتفسر وتشرح، وتمنح وتحرم.

    فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية و(الحداثة) الحقيقية المؤمنة، التي تعرف ان وراء الاسباب مسببا ـ سبحانه ـ لا تعمل بغير ارادته، وانه استخلف الانسان في الارض لاصلاحها وعمارتها، واقامة العدل واشاعة الرحمة بين اهلها مهما تختلف اديانهم واعراقهم وألوانهم، وان الله رقيب على الناس في ما يعملون لا يغيب عنه مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الايماني الذي تجردت منه (الحداثة) الاوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني. ولذلك احدث الاسلام التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى عن المادية المفرطة التي أدت الى الانانية والى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك اخلاقي اطاره قوله تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» (القصص: 83)، وقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان» (المائدة: 2)، وقوله تعالى: «ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين* واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين» (الشعراء: 183 ـ 184) الى غيرها من الآيات التي ترسم هذا المنهج القرآني.

    ولا تستطيع أمة ان ترتقي في معارج التقدم، وان تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير (الحداثة) بعناصرها التي ذكرناها. وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن (الحداثة)، واقتبستها منهم اوروبا، تخلفوا وتقدمت.

    فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، واستعمال العقل والاحتكام اليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها، تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن.

    وهكذا فإن الاسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وان اردنا ان نتمسك به فعلينا ان نتقدم نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته اشواط، فهو حديث دائما، عصري دائما، واكثرنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات.

    وخلاصة كل ما تقدم ان الاسلام ليس (في مواجهة الحداثة) الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد اخذتها منه اوروبا، فأفادت منها كثيرا، ووصلت بها الى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة، ثم ما لبثت ان اقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطا لها، وفرغت منها روحها وانسانيتها، فأصابتها بالجفاف، وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن ان نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما اقحم عليها، ونرد اليها ما انتزع منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للانسانية.
    ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
    * وزير التعليم العالي الاسبق في الاردن
                  

10-15-2004, 08:04 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
صبيانية الحداثة وعبثها وربطها بالفساد والجنس والمخدرات (Re: osama elkhawad)

    وهنا راي اسلامي اخر يربط الحداثة بالفساد والعبث والصبيانية والمخدرات والجنس منقول من خيمة دوت كوم بدون مؤلف

    الـحـداثـه
    التعريف:
    هي صبيانية المضمون وعبثية في شكلها الفني وتمثل نزعة الشر والفساد في عداء مستمر للماضي والقديم ،وهي افراز طبيعي لعزل الدين عن الدولة في المجتمع الاوروبي ولظهور الشك والقلق في حياة الناس مما جعل للمخدرات والجنس دورهما الكبير

    التأسيس وأبرز الشخصيات:

    بدأ مذهب الحداثة منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريا في باريس على يد كثير من الأدباء السريالين والرمزيين والماركسيين والفوضويين والعبثيين،ولقي استجابة لدى الأدباء الماديين والعلمانين والملحدين في الشرق والغرب.حتى وصل إلى شرقننا الإسلامي والعربي .
    ومن أبرز رموز مذهب الحداثة من الغربيين :
    - شارل بودلير 1821-1867م وهو أديب فرنسي أيضا نادى بالفوضى الجنسية والفكرية والأخلاقية ،ووصفها بالسادية أي التلذذبتعذيب الآخرين .له ديوان شعر مترجم بالعربية من قبل الشاعرإبراهيم ناجي ،ويعد شارل بودلير مؤسس الحداثة في العالم الغربي.
    -الاديب الفرنسي غوستاف فلوبير 1821-1880م.
    - مالارامية 1842-1898م وهو شاعر فرنسي ويعد أيضا من رموز المذهب الرمزي .
    -الأديب الروسي مايكوفوسكي ، الذي نادى بنبذ الماضي والاندفاع نحو المستقبل
    من أبرز رموزهم بالبلاد العربيه

    ومن رموز مذهب الحداثة في البلاد العربية:
    - يوسف الخال- الشاعر النصراني وهو سوري الاصل رئيس تحرير مجلة الحداثية .وقد مات منتحراً أثناء الحرب الاهلية اللبنانية .
    - أدونيس( علي أحمد سعيد )نصيري سوري ويعد المروج الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية ،وقد هاجم التاريخ الإسلامي والدين والأخلاق في رسالتة الجامعيةالتي قدمها لنيل درجة الدكتوراة في جامعة ( القديس يوسف)في لبنان وهي بعنوان الثابت والمتحول ،ودعا بصراحة إلى محاربة الله عز وجل .وسبب شهرتة فساد الإعلام بتسليط الأضوءعلى كل غريب .
    -د.عبد العزيز المقالح - وهو كاتب وشاعر يماني،وهو الآن مدير لجامعة صنعاء وذو فكر ييساري.
    - عبد الله العروي - ماركسي مغربي.
    - محمد عابد الجابري مغربي.
    -الشاعرالعراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي.
    -الشاعر الفلسطيني محمود درويش- عضو الحزب الشيوعي الاسرائيلي أثناء اقامته بفلسطين المحتله , وهو الآن يعيش خارج فلسطين .
    -كاتب ياسين ماركسي جزائري .
    - محمد أركون جزائري يعيش فى فرنسا .
    - الشاعر المصري صلاح عبدالصبور – مؤلف مسرحية الحلاج

    الأفكار والمعتقدات:

    - نجمل أفكار ومعتقدات مذهب الحداثة وذلك من خلال كتاباتهم وشعرهم فيمايلي :
    - رفض مصادر الدين الكتاب والسنة والجماع ومصادر عنها من عقيدة أما صراحة أوضمان .
    - رفض الشريعة وأحكامها كموجه للحياة البشرية .
    - الدعوة إلى نقد النصوص الشرعية والمناداة بتأويل جديد لها يتناسب والأفكار الحداثية .
    - الدعوة الى إنشاء فلسفات حديثة على أنقاض الدين .
    - الثورة على الأنضمة السياسية الحاكمة لأنها فى منظورها رجعية متخلفة أي غير حداثية , وربما استثنوا الحكم البعثي .
    - تبني أفكار ماركس المادية الملحدة , ونظريات فرويد في النفس الإنسانية وأ وهامه , ونظريات دارون فى أصل الأنواع وفكار نيتشة ،وهلوسته،والتي سموها فلسفة ،في الإنسان على( السوبر بان) .
    - تحطيم الأطر التقليدية والشخصية الفردية،وتبني رغبات الانسان الفوضوية والغريزية.
    - الثورة على جميع القيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية،وحتى الاقتصادية والسياسية .
    - رفض كل ما يمت الى المنطق والعقل.
    - -اللغة- في رأيهم - قوى ضخمة من قوى الفكر المتخلف التراكمي السلطوي،لذا يجب أن تموت،ولغة الحداثة هي اللغة النقيض لهذه اللغة الموروثة بعدأن أضحث اللغة والكلمات بضاعة عهد قديم يجب التخلص منها.
    - -الغموض والابهام والرمز- معالم بارزة في الأدب والشعر الحداثي.
    - ولا يقف الهجوم على اللغة وحدها ولكنه يمتد إلى الأرحام والوشائح حتى تتحلل الأسرة وتزول روابطها،وتنتهي سلطة الأدب وتنتصر إرادة الانسان وجهده على الطبيعة والكون .

    ومن الغريب أن كل حركة جديدة للحداثة تعارض سابقتهافي بعض نواحي شذوذها وتتابع في الوقت نفسه مسيرتها في الخصائص الرئيسية للحداثة.
    إن الحداثة هي خلاصة سموم الفكر البشري كله ، من الفكر الماركسي إلى العلمانية الرافضة للدين، إلى الشعوبية إلى هدم عمود الشعر، إلى شجب تاريخ أهل السنة كاملاً إلى إحياء الوثنيات والأساطير.
    ويتخفىالحداثيون وراء مظاهر تقتصرعلى الشعر والتفعيلة والتحليل،بينما هي تقصد رأساً هدم اللغة العربية ومايتصل بها ممن يتصل بهامن مستوى بلاغي وبياني عربي مستمد من القرآن الكريم ،وهذا هو السر في الحملة علىالقديم وعلى التراث وعلى السلفية

    تطور الحداثه بالغرب وفي البلاد العربيه:

    إن حركة الحداثة الأوروبية بدات قبل قرن من الزمن في باريس بظهور الحركة البوهيمية فيهابين الفنانين في الأحياء الفقيرة.
    ونتيجة للمؤثرات الفكرية، والصراع السياسي والمذهبي والاجتماعي شهدت نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في أوروبا اضمحلال العلاقات بين الطبقات ، ووجود فوضىحضارية انعكست آثارها على النصوص الأدبية.
    وقد تبنت الحداثة كثير من الطبقات ،ووجود فوضى حضارية انعكست آثارها على النصوص الأدبية .وبلغت التفاعلات السياسية والاجتماعيةوالاقتصادية في أوروبا ذروتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى .وبقيت باريس مركز تيار الحداثة الذي يمثل الفوضى الأدبية.
    وقد تبنت الحداثةكثير من المعتقدات واملذاهب الفلسفية والأدبية والنفسية أهمها:

    1-الدادائية : وهي دعوةظهرت عام1916م،غالت في الشعور الفردي ومهاجمة المعتقدات، وطالبت بالعودة للبدائية والفوضى الفنية الاجتماعية.
    2-السريالية : واعتمادها على التنويم المغناطيسي والأحلام الفرويدية ، بحجة أن هذا هو الوعي الثوري للذات ،ولهذا ترفض التحليل المنطقي ، وتعتمد بدلاً عنه الهوس والعاطفة.
    3-الرمزية : وما تتضمنة من ابتعاد عن الواقع والسباحة في عالم الخيال والأوهام ،فضلاً عن التحرر من الأوزان الشعرية ،واستخدام التعبيرات الغامضة والألفاظ الموحية برأي روادها .وقد واجهت الحداثة معارضة شديدة في جميع أنحاء أوروبا،
    ثم ظهرت مجلة شعر التي رأس تحريرها في لبنان يوسف الخال عام 1957م تمهيد لظهور حركة الحداثة بصفتها حركة فكرية ، لخدمة التغريب ، وصرف العرب عن عقيدتهم ولغتهم الفصحى …لغة القرآن الكريم .
    وبدأت تجربتها خلف ستار تحديث الأدب ، فاستخدمت مصطلح الحداثة عن طريق ترجمة شعر رواد الحداثة الغربيين أمثال :بودلير ورامبو ومالا رامية ، وبدأ رئيس تحريرها –أي مجلة شعر – بكشف ما تروج له الحداثة الغربية حين دعا إلى تطوير الايقاع الشعري ،وقال بأنه ليس لللأوزان التقليدية أي قداسة ويجب أن يعتمد في القصيدة على وحدة التجربة والجو العاطفي العام لا على التتابع العقلي والتسلسل المنطقي كما أنه قرر في مجلتة أن الحداثة موقف حديث في الله والإنسان والوجود .

    كان لعلي أحمد( أدونيس)دور مرسوم في حركة الحداثة وتمكينها على أساس :
    ما دعاه من الثبات والتحول فقال ( لايمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة في الفكر العربي والتخلص من المبنى الديني التقليدي ( الاتباع ) استخدم أدونيس مصطلح الحداثة الصريح ابتداءً من نهاية السبعينات عندما :صدمة الحداثة عام 1978م وفيه لايعترف بالتحول إلا من خلال الحركات الثورية السياسية والمذهبية ،وكل مامن شأنه أن يكون تمرد على الدين والنظام تجاوز للشريعة.

    لقد أسقط أدونيس مفهوم الحداثة على الشعر الجاهلي وشعراء الصعاليك وشعر عمر بن أبي ربيعة ، وأبي نواس وبشار بن برد وديك الجن الحمصي ،كما أسقط مصطلح الحداثة على المواقف الإلحادية لدى ابن الرواندي وعلى الحركات الشعوبية والباطنية والإلحادية المعادية للإسلام أمثال :ثورة الزنج والقرامطة .
    ويعترف أدونيس بنقل الحداثة الغربية حيث يقول في كتابه الثابت والمتحول : ( لانقدر أن نفصل بين الحداثه العربيه والحداثه في العالم ) .

    أهم خصائص الحداثه:

    - محاربة الدين بالفكر والنشاط .
    - الحيرة والشك والاضطراب .
    - تمجيد الرذيلة والفساد والإلحاد .الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمور .
    - ا لثورة على القديم كله وتحطيم جميع أطر الماضي إلى الحركات الشعوبية والباطنية .
    - الثورة على اللغة بصورها التقليدية المتعددة .
    - امتدت الحداثة في الأدب إلى مختلف نواحي الفكر الإنساني ونشاطه .
    - قلب موازين المجتمع والمطالبة بدفع المرأة إلى ميادين الحياة بكل فتنها ، والدعوة إلى تحريرها من أحكام الشريعة .
    - عزل الدين ورجاله واستغلاله في حروب عدوانية .
    - تبني المصادفة والحظ والهوس والخبال لمعالجة الحالات النفسية والفكرية بعد فشل العقل في مجابهة الواقع .
    - امتداد الثورة على الطبيعة والكون ونظامه وإظهار الإنسان بمظهر الذي يقهر الطبيعة .
    - ولذا نلمس في الحداثة قدحاً في التراث الإسلامي ،وإبراز لشخصيات عرفت بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي وميمون القداح وغيرهم .وهذا المنهج يعبر به الأدباء المتحللون من قيم الدين والأمانة،عن خلجات نفوسهم وانتماءاتهم الفكرية

    الخلاصه:

    أن الحداثة تصور إلحادي جديد – تماما - للكون والإنسان والحياة ،وليست تجديد في فنيات الشعر والنثر وشكلياتها .وأقوال سدنة الحداثة تكشف عن انحرافهم بإعتبار أن مذهبهم يشكل حركة مضللة ساقطة لا يمكن أن تنمو إلا لتصبح هشيما تذرة الرياح وصدق الله العظيم إذ يقول (ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً ) .
    حسبنا في التدليل على سعيهم لهدم الثوابت أن نسوق قول أدونيس وهو أحد رموز الحداثة في العالم العربي في كتابه فن الشعر ص76: ( إن فن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي ليست تلك التي تسلية أو تقدم له مادة استهلاكية ،وليست تلك التي تسايره في حياتة الجادة ،وإنما هي التي تعارض هذه الحياة .أي تصدمه وتخرجه من سباته ،تفرغه من موروثه وتقذفه خارج نفسه , إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها،الدين ومؤسساته العائلة وموسساتها، التراث ومؤسساته ، وبنية المجتمع القائم ,كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها ،وذلك من أجل تهديمها كلها أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد ،يلزمنا تحطيم الموروث الثابت ،فهنا يكمن العدو الأول للثروة والإنسان ) ولا يعني التمرد على ما هو سابق وشائع في مجتمعنا إلا التمرد على الإسلام وإباحة كل شئ باسم الحرية .

    فالحداثة إذاً هي مذهب فكري عقدي يسعى لتغيير الحياة ورفض الواقع والردة عن الإسلام بمفهومه الشمولي والإنسياق وراء الأهواء والنزعات الغامضة والتغريب المضلل .وليس الإنسان المسلم في هذه الحياة في صراع وتحد كما تقول الكتابات لأهل الحداثة وإنما هم الذي يتنصلون من مسؤلية الكلمة عند الضرورة ويريدون وأد الشعر العربي ويسعون إلى القضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجريد وتجاوز كل ما هو قديم وقطع صلتهم به .

    ونستطيع أن نقرر أن الحداثين فقدوا الإنتماء لماضيهم وأصبحوا بلا هوية ولا شخصية .ويكفي هراء قول قائلهم حين عبر عن مكنونة نفسة بقوله :
    لا الله أختار ولا الشيطان
    كلاهما جدار
    كلاهما يغلق لي عيني
    هل أبدل الجدار بالجدار
    تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
                  

10-15-2004, 08:20 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20139

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
راي حول وجود نماذج للحداثة غير النموذج الغربي (Re: osama elkhawad)


    في الحداثـة والتنـوير بين المركزية الغربية والواقع الإسلامي(*)

    لنبدأ من الأساس العريض الذي يؤرّخ لمسار الفكر البشري كله على وجه الأرض عند كثير من الكتاب الغربيين، وهو أن العقل الإنساني مرّ بمرحلتين هامتين هما: المرحلة اللاهوتية والمرحلة العلمية. وبينما تجاوز العقل الأوروبي المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، فإن العقل العربي ما زال يعيش المرحلة الأولى. وإذا ما أُريد لهذا العقل أن يبدع ويطور الحياة، فما عليه إلا أن يسير حثيثاً إلى المرحلة الثانية. وإذا ما أراد الكاتب أو المفكّر أن يُفعِّل الحياة في بيئتنا العربية والإسلامية، فإن عليه أن يوجه اهتمامه إلى نقد العقل الغيبي اللاهوتي الذي ينتمي إلى العصور الوسطى، بينما نريد نحن أن نعيش الحياة المعاصرة بحداثتها وعلميتها.

    عند هذا المنطلق نقف.. فنتساءل: هل هذا التقسيم للتفكير البشري موضع اتفاق من لدن الباحثين والمفكرين كلهم في الشرق والغرب، أم أنه تقسيم منطلق من أسس التفكير الغربي ويعكس نوعاً آخر من أشكال "المركزية" الغربية التي تعد مسار الفكر الغربي مرجعية لكل مسارات الفكر القديم والحديث في العالم؟

    بين العلم والروح

    والحق أنه إذا كانت أوروبا قد مرّت بمرحلة لاهوتية كنسيّة قاومتها في عصر نهضتها، وانتقلت بعدها إلى المرحلة الوضعية العلمية، فإن هذا لا ينطبق على واقع الفكر البشري كله، ولا واقع الحياة الفكرية في العالم الإسلامي. إن تاريخ الفكر الإسلامي لا يمكن أن نختصره بكلمة واحدة (اللاهوتية) أو الغيبية، وإذا فعلنا ذلك، فإننا نكون ردّدنا مقولات في ذهن الأوروبيين عن الإسلام، ولم ننطلق من التقويم الحقيقي لتاريخنا الفكري.

    إن المرحلة التي يطلق عليها الغربيون اسم (الميتافيزيقية) في الفكر البشري كله قبل عصر النهضة الأوروبية، هي مرحلة عطاء علمي وعقلي وتجريبي لدى المسلمين، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا، ولا حتى واقع النقلة الأوروبية في عصر النهضة الذي استند إلى منطلقات التفكير العربي والعلم العربي.. كما تجلى واضحاً في نقد المنطق الأرسطي عند روجر بيكون، ومن بعده فرنسيس بيكون، إذ كانت لمسات جابر بن حيان النقدية لذلك المنطق بارزة على مسار النقد العقلي الأوروبي في عصر النهضة.

    أقول إنه إذا كانت الحدود صارمة بين العقل الميتافيزيقي والعلمي في الفكر الأوروبي، فإنها ليست كذلك في الفكر الإسلامي. إن المرحلة السابقة في الفكر الإسلامي ليست (ميتافيزيقية) وإن كان للميتافيزيقيا فيها نصيب. إنها في واقع الأمر مرحلة عقلية وتجريبية، وكان لهذا مصاديقه في الواقع العقلي في كثير من مظاهر النتاج الفكري والمفاهيم الحضارية، وفي الواقع التجريبي في مجالات العلم التطبيقي في حياة المسلمين.

    ولذلك يمكن أن نقول إنه لا يوجد ذلك الستار الحديدي الضعيف بين المرحلة القديمة من تاريخ المسلمين، وبين الحياة المعاصرة التي يريدون أن يكون لهم فيها حضور فاعل. فالعلم قاسم مشترك بين هاتين الحياتين، علم قديم يضاف إليه علم جديد من نتاج المشترك الإنساني العام. وليس بالضرورة أن يكون العلم الحديث مدابراً ومضاداً للطابع الروحي الذي يشكل الحياة لدى المسلمين ويؤثر فيها، فكما كان في حياة المسلمين علم وتجريب وروح، يمكن أن يكون في حياتهم المعاصرة علم وتكنولوجيا وروح، بل يمكن أن تكون الروح إغناءً لمسار العلم ورافداً له، ودافعاً لمزيد من الإنجازات فيه.

    الفكر والتجربة الإنسانية

    وإذا كان ثمة تدابر (ومغاضبة) بين العلم والروح في الحياة الأوروبية في عصر النهضة، وما تلاها، فلأن الكنيسة كانت هي السبب في هذا التدابر، ولأن الفهم الديني الضيّق للمؤسسة الدينية هو الذي أوجد القطيعة بين الروح والعلم، ووقف عثرة أمام التطور العلمي، فكان أن اتخذ العلم مساره بعيداً عن منطق الدين وتوجيهه.

    أعرف أن الحديث عن العلم في تاريخ الإسلام يُصدُّ بمقولة إن هذا تاريخ، وليس واقعاً معاصراً.. وليكن هذا تاريخياً، ولكنه تاريخ حقيقي يدحض مقولة إن العقل البشري مرّ بمرحلتين ثابتتين هما الميتافيزيقية والوضعية، كما هو الشأن في مسار الحياة الفكرية الأوروبية. بل إن حياة الأمم الأخرى لا تعكس هذه الضوابط الصارمة، حيث كان للعقل والعلم والتجريب نصيب في مراحلها السابقة، وإذا اتّضح هذا، واتّضح أنه لا بد أن تعطى المساحة الواسعة لإنجازات العقل البشري في بيئات العالم الأخرى وحضاراته، وأن يتخذ مسار الفكر وبناء الحضارات أوجهاً متعددة لإثراء هذا المسار، وعدم حصره في إنجاز عقلي واحد، قد يحوّله لاحقاً إلى لون واحد وطعم واحد، وقد يرافقه فيما بعد انغلاق أو طغيان من نوع جديد.

    فإذا كانت أوروبا انطلقت في حداثتها في عصر النهضة منطلقاً يعكس واقعاً فكرياً خاصاً، حيث الكنيسة التي تتحالف مع الاقطاع وترفض أن تطور فكري، وأي اكتشاف علمي، فإن الأمم الأخرى يمكن أن تنطلق في حداثتها الخاصة التي لا تعني بالضرورة موقفاً معادياً للدين، بل يمكن أن تتخذ من الدين نفسه عامل دفع للتحديث، خاصة إذا كان هذا الدين محضناً للعلم وميداناً له.

    إن الحداثة في مفهومنا ليست ظاهرة أوروبية أو قدراً أوروبياً، لقارات الأرض كلها، وللشعوب كلها، بل هي ظاهرة تاريخية إنسانية عامة. توجد حيثما يوجد عمل إبداعي، وتوجد حيث توجد عقلانية واستثمار أمثل للحوار مع الطبيعة، بل حيثما نجد إنسانية الإنسان متحققة نجد عملاً حداثياً. ولهذا فلسنا أمام حداثة واحدة مقرها أوروبا، بل يمكن أن نجد حداثات متعددة في الصين واليابان وأرض الإسلام، كل يفتح كتابه ويقدم برهانه ويعرض إنجازه، كما يقول أحد الباحثين.

    الإصلاح أو الهدم

    وإذا كان ثمة مواضع خلل في طريقة التفكير في العقل العربي في تاريخه القديم، أو المعاصر، فيمكن مناقشتها وتصويبها على أسس من العلم والمنطق، وليس عن طريق مصادرة التفكير العربي والإسلامي كله، ونسبته إلى المرحلة الميتافيزيقية، والدعوة إلى رسم السبيل لتطويره عن طريق ربطه بطريقة التفكير الغربي الخاضع لظروف معينة جعلته يتخذ مساراً آخر يقوم على الآحادية الوضعية، ونبذ كل ما له صلة بالروح، هذا تدعو إليه بعض الكتابات التي يكتبها الحداثيون العرب، وهي كتابات تنطلق من مبادىء غربية صرفة تغضّ طرفها عن واقع الحياة العربية، بل إنها لا تعكس مسار الفكر الأوروبي نفسه الذي لم يحاد الدين في منطلقاته كلها.

    وإذا أردت أن تحدث تنويراً حقيقياً للعقل العربي الذي يشوبه بعض الخلل في التوجه أو الاستنتاج أو الإبداع، فإن السبيل إلى تنويره هو أن ترجعه إلى معالم من الوعي بذاته ومحيطه وتاريخه وترسم له أهدافاً، وتضع بين يديه وسائل، وليس عن طريق توجيهه إلى عصر التنوير الفرنسي والأوروبي بعامة، ذلك العصر الذي يعكس صراعاً ما بين العلم والدين، أو ما بين التخلف الأوروبي آنذاك وما بين العلم المتوثب.

    فليس هناك طريق واحد للتنوير.. فإذا كان هناك طريق أوروبي لتنوير العقل الأوروبي في مرحلة من مراحله.. فإن هناك أكثر من طريق للتنوير في حياة المسلمين، أو اليابانيين أو الصينيين. ويبقى العلم وتبقى العقلانية وسيلة مشتركة فاعلة للبناء، ولكن تبقى خصوصيات الواقع والتاريخ حاضرة وفاعلة كذلك، وهي ليست بالضرورة من المثبطات والمعرقلات لمسيرة العلم والتطوير.

    عقبات سياسية فعلية

    يبدو أن عرض مسألة الحداثة، والتنوير على ضوء من أسسها، كثيراً ما يناقش مناقشة نظرية بعيداً عن ضغوط الواقع ومحفزاته، ويبدو أن الإشكالية ذات أبعاد سياسية في جانب منها، كما أنها ذات أبعاد حضارية، تشكل أوروبا (الحداثية) نفسها فيها عقبة في طريق التحديث الذي يريد أن يختطّ لنفسه مساراً خاصاً بعيداً عن حتمية التحديث الأوروبي.

    وبهذا يمكنك أن تتساءل معي:

    أولاً: كيف يمكن لك بناء حضارة على أسس حداثية خاصة، وأنت في مرحلة من التبعية والعبودية والاستلاب؟

    ثانياً: كيف تسير نحو حداثتك الخاصة، وأنت مكبل بالفقر وانعدام الوسائل، وأن تلتفت فلا تجد إلا (عولمة) تريد إخضاعك لآلية إنتاجها؟

    ثالثاً: كيف تستطيع بناء حداثة مع "أمية" وجهل ضارب الأطناب، أو تعليم لم يعد إلا للبحث عن الوظائف؟

    رابعاً: أية حداثة في جو من الظلم والاضطهاد وانعدام الفرص لتبادل السلطة، وأي إبداع يرتجى في مجتمع لا يملك حريته؟

    وحين نجيب عن هذه الأسئلة وغيرها.. يمكن أن نؤسس لمعالم الحداثة، ونرسم طرق التنوير على ضوئها، ناظرين إلى ما حولنا،غير ناقلين لإكليشهات جاهزة لكل عقل، ولكل زمان ومكان.

    ننهض بالدين والعلم معاً

    ولا أحد يرفض أن يكون العلم من أبوابه الواسعة منفذاً إلى اكتشاف أعماقنا، وسبر أغوار العالم من حولنا، وتوظيف ذلك كله من أجل بناء حياة أرقى وأسعد وأجمل، مع التزام بخصوصيتنا الدينية، وطابعنا الحضاري، ولتذهب تلك المقولة الماكرة التي تكرر في كل مرة أن خصوصيتنا الحضارية والدينية تصادر ما توصل إليه الإنسان من علوم ووسائل وتعيدنا إلى الحياة البدائية، إلى حيث سكن الأكواخ وركوب الحمير! من قال إن العلم ووسائل التكنولوجيا وقف على حياة الأوروبيين ومن سار على منهجهم في القطيعة مع الدين؟! إن العلم لا يعرف حدوداً، ولا يعرف جنسيات وألواناً.. إنه إنجاز إنساني مشترك توظفه الأمم لتطورها وبناء حياتها، وتبقى لها ـ مع ذلك ـ خصوصياتها الحضارية والدينية.

    وفيما يتعلّق بنا ـ نحن المسلمين ـ يمكن أن يُساهم الدين في رسم الأهداف العليا في حياتنا، بحيث تكون حضارتنا إنسانية المنحى هادفة لبناء الإنسان وإشباع حاجاته، وجعله كائناً محسناً ومنصفاً في تعامله مع أبناء الجنس البشري، وليس كما فعلت أوروبا في تعاملها مع الآخر.. وهذه آثار فأسها في كل صقع من أصقاع الأرض، وهذه هي أمريكا وريثة أوروبا وآثار دمارها على الإنسانية.

    وفي الوقت نفسه يُستثمر العلم لإعداد الوسائل المادية التي تستكمل بناء الحياة، وتسهل الحركة والتمتع والكسب فيها، وبالدين والعلم، معاً، نحارب الخرافة، ونحارب الكسل والاتكالية، كما نحارب الظلم والجشع والاستحواذ، وكل الصفات الغريزية الحيوانية التي تسطو على الحياة البشرية، وتعكر العلاقات الإنسانية النبيلة فيها.

    فإذا كان ثمة حداثة أوروبية وتنوير أوروبي تتدابر معهما الأهداف والوسائل، فإن لنا حداثةً وتنويراً قائماً عليها، لا يتدابران مع الأهداف، كما أشرنا.. وبهذا فنحن إزاء حداثتين مختلفتين وإزاء تنويرين مختلفين.. هذا هو الحق، وهذا هو الواقع، وهذا ما ينبغي أن يكون، وكل مصادرة وإكراه وتزوير لحقائق الحياة البشرية، لا يبني حضارات أمم، بل يرسخ حضارة واحدة غالبة، وحولها أشباح حضارات، ومسوخ حضارات، وأطراف حضارة تردد صدى مركزية واحدة قاهرة.


    --------------------------------------------------------------------------------

    (*) د.محمد الزودي باحث وأكاديمي عراقي - صحيف "المؤتمر" العراقية: 4- 8 – أيار 2003
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 3:   <<  1 2 3  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de