|
هــل اصبحــت العلمـانيــة الفــرنسيــة رجعية مقارنة بالعلمانية الامريكية؟؟
|
خطاب شيراك بمنع الحجاب... والصليب والقلنسوة !
هــل اصبحــت العلمـانيــة الفــرنسيــة
"رجعية" بالمقارنة مع "العلمانية الاميركية"؟
حسم الرئيس جاك شيراك امس اتجاهاً لمعالجة احدى اهم قضايا تعبيرات التعددية الدينية في المجتمع الفرنسي... لصالح ما يمكن اعتباره الرؤية الكلاسيكية للعلمانية الفرنسية... وهي علمانية من غير الدقيق، بل حتى من غير الجوهري اي ذكر لها دون القول بسرعة انها تعبر - سياسياً - عن "مصلحة عليا" للدولة الفرنسية كما يراها الذين يتولون مقاليدها اليوم وعلى رأسهم رئيس الجمهورية باسم "الشعب" و"الامة" و"الجمهورية".
لقد جرى التحضير لـ"الحسم الشيراكي" بعناية ومسؤولية بالغتين، سواء عبر المرحلة الاخيرة من النقاش (الطويل) او عبر "اللحظة" التي تدخل فيها رئيس الجمهورية. الا انه مع ذلك لم يكن صعبا التكهن بهذا الاتجاه الذي اسفر عنه النقاش وبالتالي "القرار الاستراتيجي"، فقد كان هذا الاتجاه - وهو اساساً منع الحجاب الاسلامي في المدارس الرسمية - من نوع "السر الشائع" في الحياة السياسية والعامة الفرنسية. ولقد جرى ربطه - ايضاً بعناية ومسؤولية بالغتين - بمظاهر الديانتين التوحيديتين المسيحية واليهودية بما يحوله على مستويات عدة - بينها توصيات "لجنة ستازي" - الى موقف "علمانية الدولة" من الاديان الثلاثة جميعاً، وبينها الدين الاكثري اي المسيحي للمجتمع، دون ان ننسى ان الحكومة - على خط مواز في الاشهر الاخيرة وعبر وزير الداخلية نيقولا ساركوزي - قد قامت بدعم تشكيل اول هيئة منتخبة تمثل رسمياً مسلمي فرنسا.
لكن "الموضوع" يبقى جوهرياً هو موقف العلمانية الفرنسية من "الكتلة" الاجتماعية الدينية التي بلغت الآن حوالي خمسة ملايين شخص هم مسلمو فرنسا ذوو الغالبية الآتية من بلدان عربية خصوصاً المغاربية.
ان درجة الاحساس العالية بالمسؤولية الرسمية والسياسية والثقافية التي يجري فيها التعامل مع "الموضوع" في فرنسا يجعل طبعاً كاتب هذه السطور بعيداً تماماً عن محض "منطق سوء النية" البدائي الذي جرى استخدامه من قوى او شخصيات في بلدان عربية ومسلمة في تقييم سلوك "الطبقة السياسية الفرنسية" والدولة حيال موضوع الحجاب...
لكن بالمقابل لست قطعاً مع الرأي - الذي تردد صداه احياناً بشكل ببغائي - القائل بالاولوية المطلقة والوحيدة لمنطق "التطور الداخلي الفرنسي" تاريخاً وحاضراً - لسياق العلمانية الفرنسية، علمانية الدولة الفرنسية، منذ الثورة الفرنسية مروراً بمحطة 1905 التي جرى فيها فصل الدين عن الدولة في فرنسا بقانون، ومن مفاعيله الشائعة مفهوم "حيادية" التعليم الرسمي.
فالاحتكام الى اعتبار وحيد، على اهميته وواقعيته العميقة في التكوّن الثقافي - السياسي للنخب الفرنسية الحديثة، هو اعتبار سيرورة التاريخ الفرنسي الخاص، هذا الاحتكام من شأنه ان يؤدي عملياً الى منع النقاش حول الموضوع لا بين "حساسيات" البلدان المسلمة اكانت متخلفة ام متنورة، منفتحة ام متعصبة، اصولية ام ليبرالية، وبين "الحساسيات" الفرنسية فحسب، بل وربما الاكثر اهمية الآن بين الثقافة العلمانية الفرنسية وبين الثقافات العلمانية الاخرى في الغرب. فالعلمانية الفرنسية، على كل تأثيرها الثقافي التاريخي، ليست العلمانية الغربية الوحيدة. وبالتالي ليست النموذج الوحيد.
هذا المستوى من النقاش بين "العلمانيات" الرئيسية في الغرب، وبصورة خاصة بين العلمانيتين الفرنسية والاميركية القائمتين عميقاً على مفهومين لعلاقة الدين بالدولة، مختلفين، هذا المستوى النقاشي ينبغي ان يوضع على بساطه خطاب الرئيس الفرنسي ومِن "ورائه"... ولاحقاً امامه، كل النقاش الفرنسي - الفرنسي حول موضوع الحجاب المسلم، وكلا "العلمانيتين" (ومعهما طبعاً "العلمانية الانكليزية" والعلمانية الالمانية للتذكير) تعالج مسألة "كتلة" اجتماعية مسلمة متعاظمة العدد داخل بلدها.
"العلمانية الفرنسية" لا تفصل فقط الدين عن الدولة. وهذا ما يفعله القانون. بل تأتي من خلفية ثقافية - سياسية تاريخية تجعل الدولة "ضد" الدين، اذن انطبع دائماً - رغم ضرورة عدم التبسيط هنا - "النموذج الفرنسي" بسمة تضادية ما بين الدولة والكنيسة.
اما "العلمانية الاميركية" فتأتي من تكون تاريخي يجعل الدولة - ليس ضد الكنيسة - بل مسؤولة عن الجماعات الدينية. ولهذا ليست هناك في التاريخ الاميركي تلك السمة التضادية مع الكنيسة.
ان هذا الفارق النوعي في المسار والمفهوم بين "العلمانيتين" الاميركية والفرنسية، جعل الحساسية "الدينية" للدولة في الولايات المتحدة، خصوصاً مع تكوينها الفيدرالي (ايضاً المختلف عن التكوين "المركزي" للدولة الفرنسية) غير متوترة. فمفهوم "الوحدة" الاندماجي في اميركا هو "فردي" اي "صهر الفرد" بينما مفهوم الوحدة الفرنسي، والذي يتكرر خصوصاً في الجزء الاول من خطاب شيراك هو مفهوم جماعي انصهاري. انه هنا تعبير عن الامة (الفرنسية) التقليدية (التي لها عرض عسكري للجيش كل عام)، المفهوم المتصل عميقاً بالفكرة القومية للقرن التاسع عشر (في الولايات المتحدة لا عرض عسكري تقليدي في يوم معين في السنة).
السؤال المقلق في الواقع، هو هل اصبحت "العلمانية الفرنسية" بهذا المعنى الحذر جداً من تأثير الدين على الوحدة الوطنية كما يتبدى في خطاب الرئيس شيراك امس بالدعوة الى اقرار قانون منع الحجاب (ومعه طبعاً الصليب الكبير والقلنسوة) في المدارس الرسمية... هل اصبحت هذه "العلمانية" تحمل درجة ما من عدم القدرة على التكيف مع تحولات العالم (المعولم) الثقافية والاقتصادية والسياسية حتى لو كان الرئيس الفرنسي يشير الىها (اي العولمة) بكونها "مقلقة" ومدعاة "لعدم استقرار الفرد" الخ؟... وبالتالي هل ثمة "رجعية" ما في القرن الحادي والعشرين للنموذج العلماني الفرنسي مقارنة بالنموذج الاميركي، رغم كل الانحرافات البوليسية التي تبدت بعد 11 ايلول في التعامل مع اوساط واسعة من الاميركيين ذوي الاصول العربية والمسلمة؟ الا ان "العلمانية الاميركية"، اضافة الى تجربتها الداخلية المختلفة هي ايضا الآن - على مستوى الثقافة السياسية - آخذة ببلورة مفهوم "الديموقراطية الاسلامية" الذي ازداد وضوحا مع الاسف بالتوازي مع تصاعد "النزعة العسكرية" في السياسة الخارجية الاميركية. (في افغانستان وتحت الاشراف الاميركي، حسم الدستور الافغاني الجديد "اسلامية الدولة" وفي العراق يدور نقاش تحت ابصار الاميركيين وبمساهمتهم حول حدود هذا الموضوع في الدستور الجديد، مع تبلور فكرة ديموقراطية اسلامية).
احاول باختصار، كمراقب، ان اتصور، على سبيل المثال، مدى ايجابية انعكاس هذا المفهوم (الثقافي الاميركي) على دول مثل مصر وماليزيا واندونيسيا وبالتأكيد تركيا التي تجري فيها الآن تجربة دقيقة يتحول فيه "الاسلاميون" الى "مسلمين ديموقراطيين" (مثل "المسيحيين الديموقراطيين" في اوروبا) ومدى سلبية حصيلة الحسم الفرنسي بمنع الحجاب (والـ... والـ... طبعا!) الذي ظهر في خطاب شيراك ايضا على هذه الدول في العالم المسلم، ومرة أخرى بصورة خاصة في تركيا التي تتبنى حتى الآن "النموذج الفرنسي" للعلمانية؟... (ولديها ايضا مشكلة "حجاب" في المدارس والجامعات)؟ فكم سيكون أثر النموذج الفرنسي بعد خطاب شيراك سلبيا في الحالة التركية التي تحمل قابليات تطور نحو "علمانية اميركية اكثر مرونة" كما قال لي مرة عبدالله غول عام 1997؟
أطرح السؤال فقط من هذه الزاوية... وأعترف انها احدى "الزوايا" في النقاش... الذي "نريد" (وافترض "جميعا" في العالم!) فيه تطورا ديموقراطيا في بلدان العالم المسلم، كذلك "اندماجا" فعالاً للمسلمين في كل بلد غربي داخل الحياة الوطنية، (بلغ حد، ان طارق رمضان حفيد حسن البنا الذي - اي طارق - عاد الآن لا يحظى برضى مثقفين فرنسيين، قال قبل بضع سنوات ان الديموقراطيات الغربية باتت ضرورة لحماية "الاسلاميين" من قمع سلطات بلدانهم).
كان المفهوم التقليدي للأمة الفرنسية يقوم على ان بيئات "الانصهار الوطني" ثلاث هي الجيش والمدرسة والعمل. الجيش الآن في الدولة الحديثة، بما فيها فرنسا التي طرحت في عهد فرانسوا ميتران ثم جاك شيراك فكرة الانتقال الى "الجيش المهني" او "الجيش الاصغر"، لم يعد له الدور الاجتماعي نفسه. اذن بقي العمل، وهذا بديهي، والمدرسة، من وجهة نظر المدرسة العلمانية التقليدية (الرجعية؟).
هل فوتت فرنسا، بحسم هذا النقاش، فرصة التأسيس "لعلمانية جديدة" في القرن الحادي والعشرين، ام انها أخّرت فقط - مع الحسم الشيراكي وتحت ضغط ضرورات رؤية تقليدية لـ"المصلحة العليا للدولة" - اسس الانتقال الذي يبدو ان فرنسا، البلد المتقدم، ليست جاهزة له بعد، خصوصا مع انشاء هذا "المرصد العلماني" لمراقبة "الانحرافات" عن "العلمانية" الذي دعا الى تشكيله الرئيس شيراك؟
جهاد الزين النهار البيروتية=18\12\2003
|
|
|
|
|
|