|
محمود درويش في أمسية حاشدة في دمشق
|
تثير أمسيات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن بينها أمسية دمشق الأخيرة، أسئلة من نوع مختلف، لا تنطلق من الشعر قدر ما تمليها خصوصية انعقادها في ملاعب الرياضة. لا نعرف بالضبط متى بدأت علاقة الشاعر بهذه الأمكنة الشعرية المبتكرة، ولكن الدمشقيين يتذكّرون جيداً أمسية جرت في مطلع الثمانينيات وكانت مقررة على مدرج كلية الهندسة، ولما ضاق المكان بالحشود غير المتوقعة جرى تبديله في اللحظة الأخيرة، ليتراكض الحشد بجنون إلى ملعب كرة السلة في صالة تشرين الرياضية. ليست الملاعب مجرد حل عملي لضيق الأمكنة، ولا هي تحولت مع الزمن إلى معضلة، فالمكان فرضه خيار الجمهور الذي يرى في الشاعر مجموعة من الرموز التي ترضيه مثل ما يرضيه في لعبة كرة القدم. وعلى ذلك سينتقل إرث الملاعب من هتافات وأناشيد إلى جمهور الشعر، مع فارق أن الخصم هنا افتراضي وبعيد عن الحلبة، إزاءه سيكون الشاعر <<رأفة عظيمة>> بثقافة مهددة بالانقراض، وبشعب يريد أن يقول: <<نحن هنا، والذاكرة هي سلاح المقاومة الأول>>. أما لماذا محمود درويش، فلأنه القاسم المشترك بالنسبة للفلسطينيين. لن يصدّق أحد، ولا حتى الشاعر نفسه، أن هذا الجمهور كله جمهور شعر، وإلا كان الشعر معافىً أكثر مما ينبغي. ما الذي يبقى من الحشد (وهذه من مفردات لغة تعبوية) من دون جمهور المخيمات، الذين غادروا لتوّهم بيوت العزاء المفتوحة للشهيد الرنتيسي لينتظموا في قوافل تشعر أن من واجبها أيضاً أن تحسن استضافة <<زعيم الثقافة الفلسطينية>>؟ لكن الشاعر شديد الحساسية والانتباه؛ سيطالب حين يفتتح بمقاطع من <<حالة حصار>>، بالتخلّي عن الهتاف من أجل الاستماع إلى الشعر، فربما كان ذلك الهياج نوعاً من الخسارة التي ذهبت بشهداء وجرحى وبيوت وشجر <<بالإضافة للخلل البنيوي الذي سيصيب القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة>>. والشاعر الذي بدّد الهتافات بقسوة، وقد بدا ضجراً ومتعباً بعض الشيء في أول أمسيته، سرعان ما تحوّل إلى مزاج مرح وهو يستجيب لما يطلبه الجمهور (بدا الأمر استجابة مع أنه ليس أكثر من حيلة ديمقراطية، طالما أن القصائد جاهزة في جعبته) خصوصاً حين قرأ <<تعاليم حورية>> كرمى لعين صبية دمشقية، وبدورها لم تقصر في شكر هدية الشاعر؛ وقفت لتصرخ بأعلى صوتها <<والله بعشقك>>. ولعلها كانت الصبية ذاتها التي نسي الشاعر قلبه، عن عمد، بين يديها في أمسيته السابقة في المكان ذاته (صالة الجلاء) قبل حوالى خمسة أعوام. لكن حساسية الشاعر تجاه جمهوره قد تذعن في أحايين قليلة، من بينها إذعانه لأماسي الملاعب، فمع أنه يرد على من يطلب <<قصيدة الأرض>> بقصيدة <<درس من الكاماسوترا>> التي تعلّم العاشق كيف ينتظر العشيقة، ليلحقها من ثم بقصيدة <<في الانتظار>> التي تحكي حال العاشق قبل وصول حبيبته وهوسه برصد احتمالات الغياب الكثيرة، كان مصرّاً على قراءة مقطع شهير من <<مديح الظل العالي>> هو <<حاصر حصارك>> وهو القصيدة الصرخة التي لا تبتعد كثيراً عن <<سجل أنا عربي>> التي ظل الجمهور، ومنذ السبعينيات، يلح طويلاً في طلبها، من دون أن يستجيب الشاعر، كي يفسح لنفسه إمكانية التجاوز وعدم البقاء أسيراً لخيال الحشد. لم يقرأ الشاعر جديداً من قصائده. قراءة القديم هي ما يضيف للأمسيات الدرويشية ميزة أخرى هي تلك التمتمات التي يستبق بها الحضور قول الشاعر، وأحياناً بالنبرة نفسها. غير أنه فاجأهم بإلقاء مختلف لحواره مع الموت في <<الجدارية>> حين راح يقلّد صوت الموت بطريقة كرتونية (مستعارة من أفلام الكرتون المدبلجة)، ما اعتبره الجمهور دعابة ضحكوا لها، أو ربما هي طريقة كاريكاتيرية تسخر من الموت. في زيارة سابقة كان درويش قد وعد، في مؤتمر صحفي عُقد آنذاك، بقصيدة لدمشق، رغم أنها لم تغب يوماً عن شعره، منذ <<تهرب من يدي بردى>> إلى <<ما أجمل الشام لولا جروحي>>. دمشق في مسيرة الشاعر ليست علاقة منبرية عبر أمسيات حاشدة وحسب، ولذلك سيجيء الوعد قبل وصول الشاعر، وسيكتب في ديوانه الأخير <<في الشام>> التي عاد لقراءتها في الأمسية: <<في الشام أعرف مَن أنا وسط الزحام. يدُلّني قمرٌ تلألأ في يد امرأةٍ... عليَّ>>.
(دمشق)-راشد عيسى
|
|
|
|
|
|