دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
عندنا تحديث لا حداثة: عباس بيضون يحاور نصر حامد ابوزيد
|
لم يكن نصر حامد أبو زيد يحسب، ولا كنا نحن ايضا نحسب انه سيجد في بيروت في انتظاره حزبا مناصرا، او انه سيجد جمهورا حافلا متعطشا للنقاش، اذا هو لم يتوقع ذلك تواضعا فإننا لم نتوقعه عن جهل بما يتفاعل في وسط ثقافي تمزق من اعلاه ولا ندري ماذا يجري في قاعدته، احتفى بنصر حامد ابو زيد وبدا ان شاغله الذي هو كثير الاختصاص وشخصه المقيم من اعوام طوال في هولندا جذابان لجمهور تُرك بلا نقاش وبلا قضايا ردحا طويلا. احب الجمهور الرجل الذي يدعم كلامه بعاطفة لا يستطيع ان يمسكها وبحماس وحب حقيقين. بقي نصر حامد ابو زيد يجاهد ليمسك دموعه وظلت طوال الوقت معلقة في عينيه. هذا ما يجعل من خطابه حياة وسيرة وحوار مباشر، هذا ما يجعل موضوعا لأهل الاختصاص شاغلا عاما. ويجعل من رجل مستغرق في بحوثه لنصر حامد ابو زيد رمزا، انه واحد من الرموز القليلة التي انتجتها اليوم ثقافة عربية معاصرة فالرموز تأتينا هذه الايام من مكان آخر، وهو هكذا رمز اخلاقي وانساني بقدر ما هو رمز ثقافي، نصر حامد ابو زيد عاد في اليوم الثالث الى هولندا وترك لنا هذا الحديث: سؤالي الأول هو الرجوع الى ما كنا تحدثنا عنه سابقاً، وهو عن المؤسسة التي أنت بصدد إعلانها، لا بد أن هناك أموراً أخرى قد طرأت، فماذا تقول في الحديث عن ذلك؟ أعتقد أنه يمكن أيضاً الحديث عن القانون الأساسي للمؤسسة، لأن المؤسسة تم تسجيلها في جنيف. قامت فكرة المؤسسة بعد مداولات بيننا، كيف نقوم بدور في سبيل تشجيع ودفع مسألة التحديث على المستوى الفكري. في مناقشاتنا أدركنا أن هناك مناطق كثيرة من المعرفة مغلقة، من هذه المناطق التعرف على كيف يفكر الآخر، على المستوى الفلسفي، على مستوى التحليل التاريخي، وعلى مستوى كيف يفكر الآخر في تراثنا، وأدركنا أن حركة الترجمة في هذه المجالات متجمدة تقريباً، حيث تركز اكثر على الآداب وعلى الشعر والرواية، لكن الترجمات الفكرية متوقفة خاصة أن هناك الكثير من المحرمات في مجال الترجمة وهناك مخاصمة للفكر الغربي في ما يتصل بدراساته عن الإسلام والتاريخ الإسلامي. هذا جزء، وهو الترجمة. الجزء الثاني هو التأليف وخاصة الاطروحات التي يطرحها الشباب والمتأثرة إلى حد كبير بمناهج متقدمة، أيضاً في مجال التاريخ الاسلامي والثقافة الاسلامية والنصوص الدينية... الخ نجد أن بعض هذه الابحاث جيد جداً لكنه لم يأخذ طريقه الى النشر بسبب المحرمات المتعددة. هناك مجال ثالث نفكر فيه وإن كان يحتاج الى أموال كثيرة جداً، وهو ترجمات دوائر المعارف وخاصة دائرة معارف القرآن التي صدر منها المجلد الثالث وليس في العالم الاسلامي وباللغة العربية أي فكرة عن هذه الدائرة، على الرغم من انه في العالم غير العربي، مثلاً في أندونيسيا أو في إيران أو تركيا نجد اهتماماً كبيراً لا بترجمة دوائر المعارف هذه فقط بل بالاضافة اليها من منظور محلي. طبعاً الخطط طموحة لأن يصبح هناك استخدام للوسائل الحديثة مثل الانترنت، ربما في المستقبل البعيد يكون هناك نوع من استئجار بعض الساعات في بعض الفضائيات. الخطط طموحة على المستوى القريب وعلى المستوى البعيد. لكن ما حققناه حتى الآن هو اختيار مجموعة من النصوص من لغات مختلفة (الانكليزية والفرنسية والألمانية) للترجمة، وبالفعل بدأت عملية الترجمة في بعض هذه الكتب، وربما بعضها على وشك الصدور. اخترنا أيضا مجموعة من نصوص ودراسات أكاديمية أنتجتها مجموعة من الشباب، معظمهم من الجامعات التونسية، عن الحديث النبوي ومنزلته وعن المؤتلف والمختلف، ونطمح أيضاً الى نشر بعض الكتب التي تتناول قضايا لا تجد تشجيعا من دور ومؤسسات النشر المعروفة. ننوي في نهاية شهر نيسان إقامة مؤتمر دعونا اليه مجموعة كبيرة من المثقفين المهتمين بالفكر، الذين نتصور انهم يتبنون الفكر الحداثي، اذا كان هذا هو هدف المؤسسة فلا بد من أن تقيم علاقة مع المثقفين الذين تتفق معهم في الحداثة بشكل عام لا في التفاصيل الصغيرة. الحداثة بمعنى كل ما يملك مستقبلاً في الفكر السياسي والفكر الاقتصادي والفكر التعليمي والفكر الديني... على أساس أن هناك خمسة محاور في هذا المؤتمر، كل محور يقدم فيه بحث يعقّب عليه معقبان بورقة مكتوبة ومن ثم يُفتح النقاش بين المشاركين، فالمؤتمر يركز أساساً على النقاش. ومن الممكن لهذا المؤتمر الأول الذي يعرض فيه إطار المؤسسة، وتناقش فيه القضايا الاساسية، قضايا التحديث الثقافي، التحديث السياسي، التحديث الفلسفي، التحديث الاجتماعي، من الممكن أن تصدر أعماله في كتاب يكون الكتاب الاول في سلسلة كتب غير دورية تصدر كل بضعة شهور، كل كتاب له محور. وفي المستقبل قد يتطور هذا الكتاب الى أن نترجم مقالات مختارة من دوائر المعارف ذات موضوع واحد، وتصنف هذه المقالات تصنيفاً ألفبائياً بحيث تجمع بين شكل دائرة المعارف وشكل الكتاب، مثلاً إذا أردنا إصدار كتاب عن حياة محمد أو السيرة النبوية. نختار جميع المواد في دائرة المعارف التي تتناول السيرة النبوية، سواء عن حياة محمد، أو عن مكة، عن زوجات النبي خديجة وعائشة وغيرها، أي تُترجم كل المواد التي تتصل بشكل أو بآخر بحياة محمد، وتوضع في كتاب بعنوان <<حياة محمد>> وترتب المواد في الداخل ترتيبا ألفبائيا. عندنا طموحات كبيرة جدا لترجمة الأعمال التي كتبت عن القرآن بلغات أخرى كالفرنسية والألمانية، لكن لا يمكن أن يكون في هذه المشروعات الطموحة مترجم واحد بل نحتاج الى فريق ترجمة تحت إشراف لجنة ترجمة، لكن بصفة عامة نشاط المؤسسة متركز في التحديث، حيث نرى ان هناك نقصاً في ربط الفكر العربي بفكر الحداثة، ليس فقط حداثة القرن العشرين بل ذاكرة العلوم الإنسانية بشكل عام. مؤلف على المؤلف هناك كتب لم تترجم الآن لتناقضها مع التصور الإسلامي، هل تفكرون في ترجمة هذه الكتب؟ نحن نفكر في ترجمتها وقد اخترنا بالفعل بعض هذه الكتب التي تطرح وجهة نظر مخالفة لوجهة النظر الشائعة والمسيطرة، ولأن الهدف هو خدمة الكتاب المترجم سوف نسمح بالتعليقات التي تفند الآراء كما كان شائعاً في الترجمات في ثلاثينيات القرن الماضي، إذن نورد في الكتاب المترجم وجهة نظر المؤلف، واذا كان هناك من رد يكتب في كتاب (مختلف)، بحيث لا يبقى القارئ تحت سلطتين: سلطة المؤلف، وسلطة مؤلف على المؤلف. نرى أن ذلك نوع من ممارسة السلطة على المؤلف، فمثلاً دائرة المعارف التي ترجمت في الثلاثينيات من القرن الماضي في مصر والتي وصلت الى حرف العين ولم تكتمل، كل مادة مترجمة ترجمة أمينة ولكن هناك معلق متخصص يعلق على المادة، وهنا لا يعود القارئ حراً مع المادة، بحيث لا يقرأها بالضرورة الا في ضوء التعقيب. نحن نريد أن نترك للقارئ الحرية في قراءة المادة وكذلك الردود عليها، بحيث تبقى عنده حرية التقييم، ولا يبقى محكوماً بوجهة نظر المعلق الذي يتتبع المؤلف في كل فكرة جزئية ويعلق عليها رفضاً أو قبولاً. حتى في الكتب التراثية، ستجد مثلاً ان تفسير الزمخشري نشره <<الحلبي>> ولا يزال يُنشر وعلى هامشه رد ابن المنير عليه، وكأن الشرط لمنح الكتاب وجهة النظر المعتدلة في التفسير مشروعية هو أن توضع في اطار التحجيم والرد عليها، وبالتالي نريد أن نفك هذا التحجيم. وأنا كنت أتمنى قراءة كتاب الزمخشري وبعدها أقرأ ابن المنير السني يرد عليه ويفنّد آراءه. ربما لا يتفق كثيرون معنا في هذه الفكرة، لكن مسألة احترام المؤلف مهما كان الاختلاف معه، لأن الاختلاف مع المؤلف يجب أن يبقى خارج اطار طرحه لفكرته، بحيث لا يكون هناك أي نوع من الرقابة داخل الكتاب نفسه على المؤلف. المؤسسة بقيت هناك تفاصيل أساسية حول اسم المؤسسة وأعضائها... اخترنا اسم <<المؤسسة العربية للتحديث>>، المبادرة جاءت من أحد رجال الأعمال محمد الهوني، وهو في الأصل حاصل على دكتوراه في القانون، ولأسباب ليست سياسية تماماً بل تتعلق بالضغوط في المجتمع الديني، هاجر واشتغل في الأعمال في روما بإيطاليا، وله مجموعة شركات عمل في روما، وهو رجل مثقف، وقد كان صاحب المبادرة. عرفت من طريق الاستاذ محمد أركون أنه التقى به عدة مرات في باريس وبالأستاذ جورج طرابيشي، ونشأت فكرة استثمار بعض الأموال في خدمة الثقافة العربية. حين اتصل بي الأستاذ أركون سألته هل تعرف هذا الرجل؟ وأنت تعرف الشكوك المتبادلة بين المثقف ورجل الأعمال في اطار ثقافتنا وخاصة بالنسبة الي، المهم اننا التقينا معاً وحين طرح الاستاذ اركون المقترحة تولدت عندي طمأنينة، فقد طرح مثلاً الدكتور عبد الشرفي ومحمد الشرفي من تونس وكلاهما باحث وأستاذ ومثقف وأعرفهما منذ فترة طويلة. اذن صار عندي اطمئنان الى أن صاحب المبادرة يختار مثقفين لا ينتمون الى مؤسسات وهم مستقلون فكريا ولهم انجازاتهم في مجالات تخصصهم المختلفة في ما يرتبط بقضية التحديث، ومن هنا وافقنا على ان نلتقي ودعانا الدكتور الهوني الى روما وعرفنا على نفسه وأدركنا أنه ملمّ بخريطة الثقافة العربية وأن المساهمة التي يقدمها ربما تساعد المؤسسة على العمل لمدة سنة مثلاً. لكن مجرد أن تنشأ مؤسسة من هذا النوع يعطي أملاً بأن يكون هناك تشجيع لمموّلين آخرين، لكن كان كلامنا أن تنشأ المؤسسة بقانونها الاساسي، ليكون أي تمويل آخر موافقاً لقانون المؤسسة، فلا يبقى الممول قادراً على أن يتدخل في قانون المؤسسة. وقد أنجزنا نحن القانون الأساسي، شارك معنا بعد ذلك الدكتور نسيب نصار، الأستاذة ليلى شرف، وانضم الينا وإن لم يكن مشاركاً بقوة جابر الأنصاري وفريدة منان من المغرب، هناك ممثلون من المغرب وتونس والجزائر والأردن ولبنان ومصر... في المؤتمر الأول نسعى الى خلق المؤسسة نفسها، لأن المؤسسة ليس هي المؤسسين بل مجموع المثقفين الذين يقتنعون بهذا المشروع ويحاولون الإسهام به وتطويره. وهذا هو الهدف من المؤتمر الأول، ولذلك سترى أنه في لن يقدم فيه أحد من المؤسسين بحثاً، فهو دعوة للمثقفين من أماكن مختلفة ليقدموا أبحاثاً ومن ثم يعقب آخرون ثم يفتح النقاش، باعتبار أن المشكل السياسي والمشكل الفكري والثقافي والمشكل الاجتماعي والمشكل التعليمي، من أهم المشكلات التي تحتاج الى تحديث. وستكون الجلسة الافتتاحية لتقديم المؤسسة بالشكل الذي تكلمت عنه، فأنا سألقي كلمة والأستاذ أركون كلمة وربما الدكتور الهوني أيضاً، لأننا ينبغي أن نقدم أنفسنا للحياة الثقافية العربية بشكل واضح ولا يحتمل اللبس وتكون القصة معروفة للقاصي والداني ولا أسرار فيها. زيارة إذا وضعنا جانبا مسألة المؤسسة وعدنا اليك، فهمت أن انقطاعك عن مصر، في جزء منه، كان اختيارياً، بمعنى انه بعد المنفى كان هناك هذا الجرح الذي جعلك تنقطع عن البلاد العربية كل هذا الزمن. الآن عدت، وكما لوحظ هنا وفي مصر رافق هذه العودة قدر كبير من الحفاوة، هل يمكن الكلام عن هذه العودة؟ سئلت السؤال نفسه في مصر، وقلت لا، هذه ليست عودة بل زيارة، لأن العودة ليصح أن تحدث فيجب أن تمكنني من القيام بدوري كمعلم وأستاذ مشرف على رسائل وعلى تخريج أجيال... لأن دوري كباحث لم يتأثر كثيراً، كان الغرض من ترك المكان هو الاحساس باستحالة الاستمرار في القيام بالدورين: دور المعلم ودور الباحث، وحين يصاب أحد الدورين باحتقان فقد يؤثر على الدور الآخر، وبالتالي كان قرار المغادرة قراري أنا، والهدف هو الاحتفاظ بإمكانية ان أستمر كباحث. من حسن حظي أني استطعت أن أقوم بدور المعلم، وأن يصبح عندي تلامذة، ليس فقط من الأوروبيين، بل أيضا من المسلمين، من أندونيسيا، من ماليزيا وإيران وتركيا... السنوات الثماني خلقت عندي روابط. حين رجعت اول مرة الى مصر سألني أصدقائي إن كانت تلك عودة، فكان ردي بسيطاً جداً وهو أنني اضطررت لأن أترك حديقتي الصغيرة (وهي طلابي الذين أمرّنهم) مرغماً عام 1995، فهل تطلبون مني الآن أن أتركهم الآن مختارا، هذا موقف غير أخلاقي. لم أكن مخاصماً للعالم العربي، فأول زيارة لي للعالم العربي كانت في سوريا سنة 99 وكنت سعيداً جداً بذلك حيث كانت المرة الأولى بعد اربع سنوات التي ألقي فيها محاضرة بالعربية. كانت تلك عودة الى اللسان. بعد ذلك جاءت الدعوات من الاردن والمغرب ولبنان، كما كانت هناك ايضا دعوات من مصر، لكن كان بودي أن أعود الى مصر بدعوة من الجامعة لا من أي مؤسسة أخرى، فقد جاءت الدعوات من مؤسسات لم اكن في عمري بعيدا عنها لكن عقدة العقد بالنسبة إلي كانت مؤسسة الجامعة التي لم تستطع برغم كل نداءاتي المتكررة التي نشرتها أن تدعوني كعضو لجنة مناقشة مع أحد الطلاب الذين تسجلوا معي مثلاً، لكن ذلك لم يحدث. كنت ملخصاً وطني في الجامعة، وهذا كان خطأ، فالجامعة احدى المؤسسات <<الخربانة>> ضمن الخراب الام في المجتمع، أو الفاسدة ضمن الفساد العام. اكتشفت أني كنت مخطئا في اختصار الوطن في الجامعة. الوطن هو أهلي وأصدقائي وبعضهم في الجامعة والناس الذين يحبونني وأحبهم. من هنا قلت لنفسي: هل أنتظر حتى يدعوني أحد الى وطني؟ وأكاد أقول لنفسي: يا أيها الغبي... لأول مرة أكتشف ان هذا كان غباءً، ولذا قمت بالرحلة الاولى ولا أستطيع وصف الحال... الوطن ليس المكان. لقد كنت أظن أني حين تصل الطائرة الى جو المطار سيأخذني جو الأفلام والأغاني وتلك الاشياء الجميلة. كما ظننت أني حين أصل الى ارض المطار سأقبل الأرض... الرحلة الثانية كانت حين بلغت الستين، وذهبت فيها الى الجامعة، فقط لأوقع عقد الانفصال وأمضي أوراق المعاش، وكانت تلك فرصة لمقابلة الناس، وأهم شيء في الجامعة كان استقبالي بحب غير ملتبس من الموظفين والسعاة ومع أن عندي مشكلة في تذكر الاسماء الا أن الغريب اني تذكرت أسماءهم. الجماعة مشكلتك الأساس جزئيا هي مع المؤسسة الدينية في مصر ومع التيار المتعصب عملياً، هل وجدت أخيرا أن المشكلة ليست فقط مع هذين التيارين بل أيضا مع الجامعة؟ المشكلة هي أساسا مع الجامعة، فالمؤسسة الدينية والمتعصبون كانوا موجودين من السبعينيات، فالازهر بدأ منذ السبعينيات يتحول الى مؤسسة وهابية تقريبا، والمتعصبون أيضا بدأوا بالحضور منذ السبعينيات وكانوا داخل الجامعة، ومشكلتي معهم هي مشكلة أي مصري. ولم تكن هناك مشكلات شخصية، لكن ما حصل أن المشكلة كلها أتت من الجامعة لا من خارجها فالتقرير الذي كُتب ضدي من أجل حرماني من الترقية وتداعيات ذلك التقرير كلها من الجامعة. الكتب التي اتهمتني بالكفر وبالإلحاد والطعن بالصحابة والقرآن صدرت أيضا من جامعة القاهرة. مشكلة طه حسين مثلا أو علي عبد الرازق جاءت من الأزهر أي من خارج الجامعة التي وقفت مع طه حسين. لكن مشكلتي أنا جاءت من الجامعة لا من خارجها، فجرحي لم يكن في الواقع من تلك المؤسسات التي أعرفها وأعرف حجمها، لكن كيف تحولت الجامعة الى مؤسسة غير أكاديمية، وجاءت المعركة التي قررت أن أخوضها وأدفع الثمن واعياً، لأن معركة الترقية كان يمكن أن تفض لو أني سكت بضعة شهور ثم قدمت طلب الترقية وينتهي الامر، وكان ذلك أحد العروض من رئيس الجامعة الذي بعث يفاوضني في هذا، لكن القضية لم تكن قضية الترقية، بل قضية الحريات الأكاديمية في الجامعة، فكيف تمضي الجامعة على تقرير لا يمت الى التقارير الاكاديمية بصلة بل هو مجموعة عبارات مسيئة، وضع الجامعة هنا كان يشخص ويلخص وضع المجتمع ككل، أنت في مجتمع تعرفه لكن يبقى عندك أمل بأن الجامعة ستبقى منارة، وكلنا نحلم بالمؤسسة الثقافية والمؤسسات التعليمية التي تحافظ على درجة من الاستقلال عن الفساد خارج الجامعة، وهذا يعطينا الأمل بأن يستعيد المجتمع عافيته، لكن حين تتحول الجامعة الى جزء خاضع تماما لقوانين الفساد التي خارجها فهنا المأساة. لا القانون ولا المحكمة ولا غيرها هي الأساس بل كانت تداعيات، إنما الزلزال الحقيقي هو زلزال الجامعة. حين عدت ودخلت الجامعة مرة اخرى وجدت أنها اصبحت حطاماً، وكثير من زملائي قالوا لي بشكل مباشر او ضمني اني ينبغي أن أكون سعيدا بتركي الجامعة، وحتى إن بعضهم قال لي ضمناً أتمنى لو كنت مكانك فأنت على الأقل حر وتمارس حريتك تمارس علاقتك بتلاميذك. من حوالى شهر زارني أحد تلاميذي وكان قد حصل على الدكتوراه، قال لي كلمة أسعدتني كثيرا وارهبتني كثيرا، قال: لا معنى لأن تفكر في العودة، فأنت لديك تلاميذك وعندك مكانك وأبحاثك وعندك دور لا يختلف أبدا عن الدور الذي كنت تقوم به في مصر، فقط يختلف من حيث هوية التلاميذ والبيئة، لكن الدور هو نفسه. وأنا لو قررت العودة فأنا الآن محال على المعاش. لذلك صممت على أن تلك كانت زيارة لا عودة. والزيارة جعلت المنفى يتحول الى مهجر، وهناك فرق بين الاثنين. حين يكون مشروعك في عمقه مشروعا تحديثيا وتكتشف أن الثقافة الحديثة هي قشرة خارجية وصورية لدرجة أنه خير لأبنائها وللمثقفين الحديثين أن يهاجروا، وأن عملهم في الخارج أفضل. أي انطباع تحمله هذه المسألة لك؟ هذا يخلق كماً هائلا من المرارة، وأنا لا اقدم حلاً هنا، بل أقدم حلا مرا جدا لوقائع شخصية. أنت محق في أن الثقافة العربية الشائعة هي ثقافة قشرية، لكن بذور وبراعم التحديث موجودة فيها، وإن سفّ عليها التراب والرمال، وهي موجودة من بدايات القرن التاسع عشر. اللقاء مع العالم ومحاولات بناء الجسور مع العالم، لن أردك الى الجسور التي كانت مفتوحة مع العالم في تاريخ الثقافة العربية الاسلامية، لكن على الاقل في القرن العشرين والقرن التاسع عشر كانت هناك محاولة لبناء الجسور والالتقاء مع العالم ولتطوير المعنى، معنى التراث ومعنى الثقافة... هناك رمال غطت على تلك المحاولة، ربما اتت تلك الرمال مع البترول. كيف تزيح تلك الرمال وتستعيد تلك البراعم وتنميها وتسقيها بماء جديد، ليس ماء تحديث القرن العشرين، بل ماء القرن الواحد والعشرين وتربط العقل والثقافة العربية والفكر العربي ثانيةً بمنابع الفكر العالمية. هذا دور ثقافي وإلى حد بعيد نخبوي، فنحن لم نرتكز على الجماهير او العمل الشعبي، وإنما نقوم بدور على المستوى البنية الثقيلة أو الصناعة الثقيلة اذا جاز التعبير. كيف يمكن لهذا الدور ان يأخذ ابعادا شعبية لأن التحديث اذا ظل على مستوى النخبة فقد تجد الريح.... هذا سؤال حول وسائط الثقافة، الإعلام والتلفزيون والفضائيات والانترنت، الشباب الناشط، الهيئات المدنية والمؤسسات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، الناشطين في مجالات المرأة وحقوق الانسان وفي مجال الفن والأدب، وعندنا الآن أجيال من الشباب لها رؤية جديدة وتحاول أن تصوغ هذه الرؤية برغم الصعوبات الشديدة، هذه القوى الناشطة الوليدة بحاجة الى نظام معرفي تستطيع أن تستند إليه من أجل التغيير. اذا صح هذا الوصيف فهو الأمل الذي يعطي هذا المشروع قدرا من الايمان بالمستقبل. النخب والدين الشعبي كلمة <<شعبي>> ردتني الى كلام لم أستوعبه جيدا في احد لقاءيك، وهو نوع من رد الاعتبار للدين الشعبي، وفهمت أن رد الاعتبار للدين الشعبي نظريا هو لرفع يد المؤسسات عن الدين، ولكن هناك جانب آخر خطر لهذه الفكرة، ففي هذا <<الدين الشعبي>> شحنة هائلة من ضيق الأفق ومن التحريم والتعصب... الخ. هل يمكن ان تشرح هذه الفكرة على نحو افضل؟ الشعبي الذي تصفه بقدر هائل من ضيق الأفق والتعصب والتحريم والتحليل، هو الأصولية الشعبية. حين أتكلم على الدين الشعبي فعلى أفق أوسع بكثير من الممارسات المعهودة، الأولياء والأضرحة والمزارات والاحتفالات الدينية والصوفية... التي كثيرا ما ننظر اليها بازدراء واحتقار من دون أن نحاول أن نفهمها، وهذا الازدراء مع وجود طبقة من أنصاف المتعلمين الذين صنعهم الاستعمار الذي احس بالتميز وبالتالي حصل احتقار لهذه الثقافة الشعبية، جعل الناس أنفسهم يحتقرون ثقافتهم الشعبية، وبالتالي دائما الجيل المتعلم الوسيط هو الذي كان الارض الخصبة التي رعى فيها التعصب، فحين تنظر الى شباب الجماعات الاسلامية فلن تجد الشباب الجاهل والأمي بل ستجد أنصاف المتعلمين، بل معهم شهادات عليا في الطب لكن بعيدا عن العلوم الانسانية، نتج عن ذلك فراغ ما فلم يعد هناك رصيد روحي ناتج عن الدين الشعبي يملأ هذا الفراغ، بما في ذلك زيارة الاضرحة وكتابة الرسائل للامام الشافعي والشكوى الخ... فالنقد غير الخلاّق، والنقد الاحتقاري لهذا الدين الشعبي خلق فراغا لم يكن يملأه الا الدين الشكلي، الذي لم يعد فيه احتفالات ومبادئ. الاحتفال الشعبي للدين يرتبط بالمقدس، يحول ضريح الولي الذي يزوره الناس للبركة الى ساحة لممارسة كل أنواع الأنشطة الجنونية، ففي الوعي الشعبي يختفي الفصل الكامل بين المقدس والمدنس، بين الدنيوي والأخروي، فتمارس الدنيوي وأنت ذاهب الى الديني. وهذا يمارسه الحجاج، اذ انهم وهم ذاهبون الى بيت الله الحرام يتاجرون أيضاً يشترون ويبيعون... والقرآن نفسه يتكلم عن ذلك: <<ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات>>، فكيف تعيد من جديد الوحدة بين المقدس والانساني. هذه الوحدة كانت موجودة في الدين الشعبي، الذي جمع بين التصوف والشعائرية والتسامح والتشدد أحيانا، هذه المنظومة اختفت لحساب منظومة لا ترى الا الحلال والحرام ولا ترى الا الشعائر والاشكال، وذلك بفعل نخبة اصلاحية تنويرية، لكنها لم تستطع أن تنظر الى الثقافة في مداها الواسع، فكانت هناك ثقافة العامة وثقافة النخبة، وهنا احتُقرت ثقافة العامة لحساب ثقافة النخبة. انا لست في صدد استعادة ثقافة العامة، بل القضية هي كيف نلغي ثانية الفصل بين ثقافة العامة وثقافة النخبة؟ وهذا سؤال يحتاج الى دراسات في الانتروبولوجيا والى دراسات اجتماعية وفي انتروبولوجيا الثقافة وفي الدين واشكال التعليم الديني، وهذه الدراسات هي ما نحتاج اليه. قصدت الدين الشعبي وليس الدين الشعبوي، الذي قدمه الاخوان المسلمون، لكنه قدموا دينا شعبويا عسكريا، تتمثل فيه الاشبال والكشافة، دين كالذي عمله هتلر (القمصان البيض والخضر الخ...). اذن عسكرة الدين بدأت بتصفية الدين من ابعاده المتعددة لحساب بعد واحد هو البعد القانوني الذي يقدم الاله المشغول فقط بالعقاب والثواب، بينما الاله في الدين الشعبي في المراحل الاولى لا يقدم بهذه الطريقة. هل ترى أن المسؤولية الاولى عن الركود والاستنقاع الذي نحن فيه تعود الى النخب نفسها التي أسيء توليدها، نخب انتهت الى نوع من الدين الاستبدادي، ونخب حداثية تحولت ايضا الى نوع آخر من التفكير الاستبدادي والنظام الاستبدادي؟ لا أستطيع ان اقول المسؤولية الاولى، بل أحاول هنا ان اتأمل في ما حدث في الظروف التاريخية لما يسمى نشأة المثقف، المثقف بعد أن انفصل عن الشيخ، والشيخ الذي كان ودعني اقلها بلغة غرامشي <<شيخا عضويا>> أصبح شيخ المؤسسة، والشيخ العضوي الذي كان يحمي الناس وكان يدلهم ويفهمهم وكان يحتفل معهم ويشاركهم طقوسهم، ما إن خرج من الناس واصبح موظفا لدى الدولة أصبح يمارس سلطته بنفس منطق السلطة: افعل ولا تفعل، لم يعد الشيخ يعيش الحياة مع الناس. من هذا الشيخ الذي انفصل عن عضويته نشأ المثقف، طه حسين كان شيخا وأمين الخولي كان شيخا. المسألة هنا ليست هجانة افراد وانما الظروف الموضوعية التي تولّد فيها مشروع الحداثة، المرتبط بميلاد المثقف، الأفندي والشيخ. الافندي الذي طلع من الشيخ، والشيخ الذي طلع من الدرويش وشيخ الطريقة، شيخ الطريقة الذي كان جزءا من الناس، يتصدى للحاكم اذا مسّ الناس. مع نشوء الدولة الحديثة انفصل الشيخ ليصبح جزءا من جهاز الدولة. من <<رحم>> هذا الشيخ ولد المثقف الحديث، وحين تنظر الى جميع مؤسساتنا تجد أنها لم تخرج من رحمها الأول. فجامعة القاهرة مثلا المفروض انها مؤسسة حداثية أنشئت مع بداية القرن العشرين بسبب العجز عن تحديث المؤسسة التقليدية، والبديل عن هذا العجز هو خلق مؤسسة موازية، هذه المؤسسة الموازية هل استطاعت أن تحل تماما محل المؤسسة القديمة؟ لا. والدليل أن المثقف يخرج من المؤسسة القديمة ليذهب الى المؤسسة الحديثة، طه حسين خرج من الازهر الى جامعة القاهرة، أمين الخولي، عبد الرازق الخ... وهنا ستجد أن المؤسسة التقليدية سيطرت ثانية على المؤسسة الحديثة، ما حصل سنة 93... أن جامعة القاهرة احتلها الأزهر ليس على المستوى السيميولوجي فقط وإنما ايضا على المستوى القانوني فهناك كلية في جامعة القاهرة هي كلية دار العلوم لا تقبل غير المسلمين. اذن هل اصبح داخل حرم الجامعة علمانية؟ لا. دار العلوم أنشئت لتجمع بين علوم الازهر والعلوم الحديثة، أي الصيغة الوفيقية، ثم حين انشئت المؤسسة الحديثة اصبحت مؤسستين ولم يعرفوا الى ايم يردون تلك المؤسسة الوسيطة، وفي النهاية ألحقوها بجامعة القاهرة. بمعنى آخر، الازهر يطارد طه حسين منذ ذلك الوقت حتى اليوم، المطاردة مستمرة... ليس فقط لعلي عبد الرازق بل حتى محمد خلف الله ، اذن ليس هناك حداثة حلت محل التقليدية. أود أن أسألك عن نظرتك كمثقف <<تحديثي>>، للامور، التي قد تبدو متعارضة مع نظرة أخرى ترى أن المشكلة في الدين وأن محور المسالة هو نقد الدين، بينما نرى أن جانبا من تفكيرك ينصب على نقد التجربة الحديثة نفسها واعتبارها مسؤولة مباشرة أكثر من الدين نفسه... جزء من التجربة الحداثية هو المشروع الاصلاحي، والاصلاح الديني مشروع على الدرجة نفسها من الالتباس التي عليها مشروع الحداثة، لأن الذي قام بالاصلاح الديني هو نفسه المثقف الذي كان بين الشيخ وبين الحديث، وهنا أسئلة اساسية في الاصلاح حين حاول محمد عبده اثارتها حصلت عليه رقابة، وهنا أصبح لدينا محرمات، لأن الشيخ تحول بشكل او بآخر الى مرجعية في المشروع الحداثي، مرجعية لا يمكن بدونها تقبل الحداثة، فأصبحت الحداثة هنا هي الأصل، ولتقبل الحداثة يجب ايجاد مبرر، وهذا مشروع الاصلاح الديني كله، ومن هنا كانت فكرة فتح المعنى الديني، كانت المسالة ان عندك طرفين، في أي طرف تشتغل؟ في الدين، تفتحه، لكن ليس طبقا لآليات وادوات إجرائية معرفية حديثة وإنما طبقا للإجراءات والآليات المعرفية التقليدية. وهنا أمكن ايجاد نوع من التحديث تخدم به السياسة. الان انعكس السؤال، لم يعد قبول الحداثة بالدين بل الحكم عليها بالدين، ولم تعد المسالة هل يقبل الدين الحداثة؟ بعبارة أخرى: أسلمة الحداثة لا تحديث الاسلام. مشكلة المعنى الديني واحتقانها والصراع حولها جزء من مشكلة الحداثة، بدون التقليل من شأن الانجازات التي تكلمت عليها عن جذور وبراعم الحداثة. لكن ما قلته هو كيف نستعيد هذه البراعم لكن نرويها بمياه جديدة. مشروع التحديث كله كان مشروعا مفروضا وليس حركة حرة نحو الحداثة وإنما محاولة لتقبل شيء مفروض. ماذا تقول للمسيحيين يبدو أن النقاش كله داخل الاسلام، وأنت كمفكر شاغلك الاساسي هو الفكر الديني، يبدو ان هذا الفكر الديني الذي يشغلك هو بصورة اساسية الاسلام، ماذا يقول مفكر مثلك للمسيحيين في العالم العربي وهم موجودون بوفرة في النخب المثقفة؟ أعتقد أن الفكر المسيحي يحتاج الى شيء شبيه بما يحدث في الاسلام، وسأتكلم عن مصر، المجتمع الذي اعرفه، فالفكر المسيحي هناك لا يقل في احتقانه رسميا ولا في تعصبه عن الفكر الاسلامي. طبعا المسؤول الاول هو الأغلبية التي هي التي تحدد المعركة وتحدد المواجهة، لكن الانفتاح هنا يقابله انفتاح هناك، والانغلاق هنا يقابله انغلاق هناك. الحداثة اصبحت شأن اصحاب كل دين على حدة وليست شأنا وطنيا. كل أديان المنطقة بحاجة للدخول في الحداثة واجراء نقدها الذاتي وتاريخها الحديث. اريد سؤالك عن المسيحيين كأقلية، ادى مشروع التحديث في أطواره الاخيرة الى مضاعفة تهميشها وخاصة في مصر. اعتقد ان هذه كبوة مشروع التحديث.... اذا كانت ثورة 1919 مؤشرا على نهضة سياسية وارتبطت بها نهضة فكرية وثقافية وحتى نهضة غنائية.... مع المبدأ يقل هذا الاحتقان، مع الكبوات والأزمات يزداد الاحتقان... وقبل وضع الدستور عام 1923 كان هناك نقاش مهم جدا حول النص على ان الدين الرسمي هو الاسلام ام لا، وكانت هناك معارضة شديدة لذلك، الأقباط هم الذين قالوا انه لا مانع من ذلك، كنوع من التعبير عن الثقة. هل الدين يجب أن يكون هو المرجعية، ام ان الدين له اختصاص وفضاء، وهناك فضاءات خارجه لا تخضع لمقولاته، وهو ما نسميه سياسيا فصل الدين عن الدولة. وذلك جزء من التحدي في مشروع التحديث الاصلي فطول الوقت كان الكتاب الحداثيون محتاجين الى الدين، ولا يزال الدين هو السلاح الذي يستخدمه الخصوم ضد السلطة. والنتيجة معاناة الناس. المشكلة هي صيغة الحداثة الملتبسة التي لم تستطع ان تقيم حداثة حقيقية في الفكر الديني، لأنه لم يكن هناك حداثة بل تحديث، حداثة قشرية في الشكل فقط لكن طريقة تفكيرنا تزداد تقليدية. حياتك في الغرب (هولندا) هل غيرت في سؤالك وإشكاليتك؟ لا، وسعت مجال البحث ومجال السؤال، لأني طوال حياتي في مصر يبقى اهتمامي بالصيغة العربية للاسلام، وحتى الصيغة المصرية. خروجي من مصر كان مفيدا جدا لي في معرفة صيغ اخرى عن الاسلام غير العربي، في اسيا وفي افريقيا وحتى في تركيا وايران، وذلك لم أكن مشغولا به في مصر، بل كانت القضايا الداخلية والمحلية هي التي تشغلني حيث يبقى مجال البحث ودائرة الحفر ضيقا للإجابة عن هذه الاسئلة المحلية، الان هناك سياق عالم اسلامي اوسع وسياق عالم اسلامي في علاقته مع عالم غير اسلامي، اوروبا، المسلمون في الغرب وفي اميركا، قضايا المسلمين في الغرب وفي اميركا، مشكلة الغرب مع الاسلام... هذه الامور تراها وأنت في الخارج بشكل مختلف عما لو كنت في الداخل، وتصبح طرفا في نقاش اوسع بين مسلمين اوسع من المسلمين العرب وبين مسلمين وغير مسلمين، وهذا يفتح لك نوافذ وقنوات للبحث لا يمكن أن تنفتح لك وأنت مشغول في مصر بفتوى تصدر عن الازهر أو بطلاب يسألونك لماذا القرآن كذا وكذا، واشعر بأني قادر على تقديم اجابات اكثر عمقا مما لو كنت في مصر. هل فكرت ولو نسبيا في تغيير نطاق بحثك، اي الخروج من نطاق البحث الاسلامي الى موضوعات عربية اخرى؟ دخلت مثلا في مقارنة في العلاقات المبكرة بين الاسلام والثقافات والاديان الاخرى قبله، الى اي حد كان للجدل الاسلامي وغير الاسلامي في القرون الاولى، دور في صياغة الثقافة الاسلامية بشكل عام وتحليل قضاياها... هذه الاسئلة هي نوع من الانشغال باسئلة من النوع العلائقي، مثلا بنية القرآن وعلاقتها ببنى نصية قبل القرآن، هذا كله خروج من أسر أن تبقى مشغولا بالاسلام كأنه لا علاقة له بما قبله، ثم ان تجربة الاسلام غير العربية تعطيك مجالا اوسع للبحث، فتكتشف مثلا الى اي حد الاسلام في اندونيسيا متشرب بالثقافة الهندية، وحتى في مصر، الى اي حد الاسلام متشرب بالثقافة المسيحية والثقافة الفرعونية قبل المسيحية والرومانية واليونانية، هناك اصرار على أننا مسلمون اولا واخيرا فقط. حين ترى الاسلام في اندونيسيا ثم تعود لتراه في مصر فإنك تراه من منظور جديد، وهذه ميزة تفتح لك ابوابا وتكشف لك اضواء، لكن المشكلة انك تجري ابحاثا متشظية فلا تعرف متى تصدر هذه الابحاث في كتاب، فقد تشغلك نقطة هنا 3 4 اشهر... المؤتمرات ايضا تفتح لك مجالات فكرية اخرى، هناك عالم انفتح وحين ينفتح هذا العالم قد يخضك لبعض الوقت حتى تستطيع ان تستوعب أنك في وقت ما ستستعيد توازنك. كيف تقدم الفكر الاسلامي في اطار النزعة الانسانية. هناك طالب مثلا غير متخصص بالفرق الاسلامية ولا يعرف العربية ولا الفارسية ولا التركية، بل هو طالب يريد تعلم الانسانيات. لقد وجدت نفسي ايضا اتعلم وفرحت جدا، فنحن مجموعة اساتذة ندرّس موضوعا واحدا، انا من وجهة نظر اسلامية، وآخر يدرّس من زاوية الفلسفة، وآخر من زاوية علم النفس، وآخر من زاوية البيولوجيا، وهنا تهتز لأنك طول الوقت كنت تدرس <<كورسات>> تمتلكها لكن الان تدرس موادا ليست ملكك وحدك، بل هناك مجموعة اساتذة غيرك. في البداية شعرت بخضة وانا اقرأ داروين مثلا، اذن في الجامعة الان الكل يشعرون بأنهم تلامذة حتى اننا نجري امتحانات بعضنا لبعض. هنا طلابي يتعلمون وأنا ايضا اتعلم.
|
|
|
|
|
|
|
|
|