سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-12-2024, 02:40 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-08-2003, 03:45 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً



    سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً



    صدرت رواية ماركيز لسيرته (مذكراته) بلغته الأصل عام 2000 تحت عنوان ماركيزيّ بامتياز Vivir Para Contarla (عشتُ لأروي). يعني أن يعيش المرء الحياة ليرويها كأنّه ليصقل مرآة فعل الكتابة عينه موضوعاً للسرد. وقد احتفل العالم اللاتيني بالحدث كما يليق بعملاق أدب حي. وصدرت خلال أشهر ترجمة عربية لجزء من المذكرات من دون ان يكون للمسألة وقع الحدث في الحقل الثقافي عندنا. مرّ الكتاب سلعة بين السلع. وفي بداية الموسم الثقافي، اوائل الخريف، وقع دور الاحتفال على العالم الغربي فصدرت ترجمات كاملة. وبدأ العيد: تحقيقات في كبريات الدوريات. شهادات لكتّاب كبار وأصدقاء. مقالات لاستعراض ظاهرة ادبية ملأت الدنيا وشغلت الناس. بحث ميداني لجمع تاريخ شفهي من ذاكرات العديد من أصدقاء "غابو" واقربائه ومعارفه. هكذا، من "نيويورك تايمز" إلى "لوموند" مرور اً بـ"باريس ريفيو"، تردّدت أصداء الحدث مناسبةً لقراءة هذا الذي يدعى غابريال غرسيا ماركيز، حياةً وفعلاً كتابياً وآيةً أدبية عظمى تسعى بين الناس.

    يبدو ان الحلم، بنتيجة معاكسة لسياق التطور التاريخي للمصطلح في معناه ومبناه، بات فضيلة أوروبية، في حين تبقى لنا ما يضادده في الخُـلق والاشتقاق، أمور مثل النزق واللجاجة واستعجال الصفقة. مرّت السيرة الذاتية لماركيز بالعربية، بعد أسابيع قليلة من صدورها بالاسبانية من هنا، في مثل خلسة، بالتدريج، على دفعات. مرة من الشام، وأخرى من أرض الكنانة. مرة فصلا في جريدة، وأخرى في جزء من هنا ثم في جزء آخر من هناك، وتردد الصدى في قفر. لكنها السيرة نفسها تصدر أوروبية في مثل دوي. حدث أساسي في عالم الأدب له صفة الشمول من حيث صدور الترجمة كاملة وشهادات الأصدقاء واستقصاء التاريخ الشفهي لصاحبها. يواكبها احتفال احتفائي بـ"غابيتو" وما فعله لفن السرد الروائي يقيمه أساتذة نقد وثقافة في كل مربع من مرابع الصحافة التي أحبها غابو حتى الولع وفي تربتها "تعشق" جذور اللغة والواقع والحياة معا من دون أي كبح لنوازع الكتابة وشرطها النهائي: الحرية. وها سيل مقالات وتحقيقات غير مستندة إلى انشاء استيحائي ولا إلى فرض إخباري وإنما إلى رصد الشرارات الساطعة التي قذفها ماركيز في فضاء الأدب نجوما استقرت في مدارها جاعلة منه الرجل الحي والجالس في الوقت نفسه فوق تخت الزمن الكلاسيكي للأدب في شهرة عهد قديم.
    انها سيرة "حيوات" مندفعة الجريان لتصب في نهر الكتابة الدافق. تنبعث فيها الأمكنة من أوهام الذاكرة أو من بقايا عيان لم يعبأ به التاريخ أو من عهد حديث كأنه لم يُعرف لها ماض (الساحل الكاريبي، آراكاتاكا، بارانكيا، كارتاجينا...)، والأهل والأقرباء كأنهم كائنات الواقع السحري فقط ليكونوا موضوعات سرد روائي تطنطن له الدنيا، والعصبة المشاكسة من أصدقاء الفتنة الأدبية المتسكعين ما بين غرف التحرير في صحيفة "الهيرالدو" واللقاءات العاصفة في مكتبة "الموندو" وصولا إلى المقاصف والحانات وعالم الليل الخرافي كأنه الفردوس الرابخ في وحول الأرض.
    فوينمايور المستهتر، ذو الحس الساخر، صائد الأخطاء في ادغال اللغة، وأوبريغون، آكل الجداجد وأعظم رسامي كولومبيا، وخيرمان كانتيو، الناقد الدقيق واللاذع صاحب النثر الخدوم الذي يقنع القارئ بأن الوقائع تحدث لأنه هو الذي يرويها فقط، وألفارو ساموديو المثقف الأشبه بغجري الذي له عينا مجنون لا تخفيان سهولة الوصول إلى قلبه، وخوسيه فيلكس الأقرب إلى نفس غابو، الى طريقته في الحياة وثقافته الكاريبية، صاحب المبدأ الأساسي القائل بأن الفرق الرئيسي بين الحياة والأدب محض خطأ بسيط في الشكل، ويعتبر ماركيز ان كلمة ألفارو "جميعنا خرجنا من خوسيه فيلكس" ومضة صائبة.
    رواية الروايات
    يروي غابو كيفية تشكل الجماعة التي كان يقال عن أفرادها بسوء نية انهم أبناء الأب نفسه، انها العفوية وقوة الجاذبية والاستقلالية والميل الجامح والتصميم الخلاق الذي يشق طريقه بالمناكب، وهذا كله تبدّى في مغامرة إصدار "كرونيكا". ولا يمكن، في خضم السرد الماركيزي أيا يكن، فصل الوقائع التاريخية عن حمى الكتابة والأدب، أو فصل الأحداث عن سود الصحائف، أو جيشان صدور الكائنات البشرية (يتساوى في متونه منها العين والدون، الشريف والوضيع، السيد والنذل، الكولونيل والفلاح...) عن اللغة وإيقاع السرد الذي يتبدى في كل مناسبة روائية ترياقا منسكبا في نفس القارئ كأنه ليوطن فيها منظومة software الواقعية السحرية من دون معرفة إمكان اقتلاعها (فوغيه، قالها في معرض التحذير من خطورة قراءة ماركيز). السرد هو الحياة في عينها التي "تعاش لتروى" بل "كيف نتذكرها لنرويها"، على ما يقول غابو في الترويسة التي يصدّر بها سيرته. انها إذا رواية الروايات حيث نقرأ، عبر متابعة السيرة، الوقائع التي شكلت الجذور التي منها نبتت النصوص الروائية على مدى عمر موّار. ويمكن المرء ببارقة خاطر ساطعة أن لا يرى ثمة فرقا، في كل أعمال غبريال غارسيا ماركيز، بين فن السرد الروائي وأحوال الأيام والقدر المتربص بالفرد كأنه ليتخذه خالصا لوجه الأدب حتى انه لم يدرك فلسا مدى حياة بأسرها إلا بواسطة آلة الكتابة.
    لنذهب إلى الإحتفال الذي دهمنا لأن الحدث مر في ساحة النشر العربية اعتمادًا على النشاط المحموم لبعض المترجمين (إحدى هذه الترجمات كانت من مراجع هذا التحقيق وهي "عشت لأروي" ترجمة صالح علماني) من دون إلقاء الضوء على بعض الشهادات اللافتة التي واكبت صدور الطبعة الإسبانية وطال حِلم الأوروبيين (الفرنسيين بشكل خاص) في كشفها لتواكب صدورها بلغاتهم عندهم.
    شهادات تكتب السيرة
    أهم هذه الشهادات ربما كانت تلك التي رواها ميلان كونديرا عن لقائه بماركيز (وكورتازار وفوينتس) أواخر عام 1968 وكانت الدبابات السوفياتية تختال ببروجها المدرعة في شوارع براغ. تمت زيارة كتّاب أميركا اللاتينية بناء لدعوة من أصدقائهم التشيكيين "ليروا ويفهموا ويشجعوا زملاءهم". وقتذاك قرأ كونديرا "مئة عام من العزلة" فافتتن. "فكرت، قال، بالحِرم الذي أطلقه السورياليون على فن الرواية بعد وصمه بأنه ضد الشعر لأنه مغلق على كل ما هو خيال حر. لكن رواية ماركيز ما هي إلا خيال حر. أحد أكبر الأعمال الشعرية التي قرأتها. كل عبارة خاصة فيها تتطاير منها شرارة فانتازيا، وكل عبارة مفاجأة. تأكدت ان الشعر والغنائية ليسا مفهومين توأمين لأن شعرية ماركيز ليس لها شأن بالغنائية فهي لا تثمل إلا بالعالم الموضوعي الذي يرفعه في كرة حيث كل شيء هو في الوقت نفسه واقعي وسحري وغير قابل للتصديق".
    ويتذكر ألفارو موتيس لقاءه بصديق العمر منذ أكثر من أربعة وخمسين عاما في أمسية عاصفة في حي من أحياء بوكاغراندي بالأنديز. "أمران من سجاياه لا يمحوان صُدمت بهما: تفان شاسع ليس له حدود في الأدب، وبذل ذات بشكل محموم ومفرط ولانهائي من اجل الوقوف على الغرائب السرية للكلمات، ونضج رجولي بحس موزون لا يتزعزع وانحياز كامل إلى كل سنواته العشرين التي كان على وشك الإحتفال بها بحاجبي قرصان وقلب محمول فوق باطن كفّ مفتوح".
    المناسبة لم يفوّتها "أقدم الديكتاتوريين" على كرسي الحكم، فيديل كاسترو، الذي كتب عن "صديقي غابو الذي كان يؤكد لي ان في أميركا اللاتينية والكاريبي لا يحتاج الكتـّاب إلى خيال لأن الواقع يتخطى كل اختلاق بحيث أن مشكلتهم تقتصر على أن يسعوا ليجعلوا هذا الواقع في عينه قابلا للتصديق. علّمني غابو آفة قراءة الكتب الأكثر مبيعا والقابلة للإستهلاك السريع لأنها الطريقة الوحيدة للتطهر من وثائق الحزب. واستطاع أن يقنعني بأن أكون كاتبا عندما أولد مرة ثانية".
    المفاجأة سجلتها سيلفانا باترنوسترو (باريس ريفيو) التي أمضت في نهاية العام 2000 شهورًا في ترحال عبر أميركا اللاتينية خصوصا في الأماكن التي ولد فيها ماركيز وشب وانطلق، وذلك من أجل عقد لقاءات مع أصدقاء وأقرباء عرفوه عن كثب، وكانوا أسخياء بذكرياتهم عنه في الجلسات الأليفة التي جمعتها معهم. أقرباء آراكاتاكا، أصدقاء سوكر، بعض رفاق حانة جابي، زملاء المهنة في بوغوتا وصحيفة "الاسبكتادور"، واللائحة طويلة ضمت إليها أيضا نقادا وأدباء وشعراء حكوا ما سمّته باترنوسترو "تاريخا شفهيا" لصاحب "مئة عام من العزلة". والنتيجة صفحات كأنها المرايا الخلفية لغابيتو " ذي المُخـّيْن" كما كان والده يقول عنه وقد كان صبيا يلهو.
    كان غابو صبيا صغيرا عندما أخبروه ان في قاع جرة الماء الفخارية يعيش العديد من الجن، فما كان منه إلا أن ذهب إليها مادا يده بعد تفريغ الماء باحثا عنهم بفضول لا تعوزه جرأة (داكونتي من آراكاتاكا). عندما عاش غابو في بارانكيا كان يعمل مثل شخص مخبول مرتديا ثيابا غريبة فتعوّد الناس أن يدعوه tropito يعني غلاما رث الثياب (أوللوا، أحد الأقرباء). تأثرت المجموعة بفولكنر، حتى ان ألفارو ذهب إلى عمق الجنوب الأميركي لكي يراه. تعوّد أن يجلس على مدخل بيته مغرقا في الشرب إلى أن يبدأ بمساءلة نفسه عما سيقوله لفولكنر عندما يقابله وجها لوجه. بعدئذ، تفوح منه الرائحة ويقرر المغادرة (إيرازو، شاعر ورسام عمل مع ماركيز). تجدر الإشارة إلى أن ماركيز اكتشف عبر قراءة فولكنر، الذي تأثر به في العمق، ضعف الرواية المحلية وبات تفكيره بها في أفق آخر. استأجر غابو غرفة في ماخور يفصله عن صحيفة "الهيرالدو" التي كان يعمل بها "عملا مهما بأبخس الأجور" قارعة طريق. هناك وجد هدوءًا كافيا ليكتب الكثير من المسوّدات (جينيت، عضو مشارك في إنشاء لاكويفا، شبه حانة باتت ملقى الجماعة). كان مفلسا في أكثر الأمسيات، يأتي متأبطا مسوّدات "مئة عام من العزلة" فيقول البعض "ها قد أتى المتسكع ليحدثنا في الأدب". كان يشرب قليلا جدا منصرفا إلى الإنصات للقصص التي نحكيها ليكتبها لاحقا (سكوبل، مصور في لاكويفا).
    كنا في الاتحاد السوفياتي مدعين اننا برفقة فرقة كولومبية موسيقية لأنهم لم يعطونا تأشيرة. استيقظ غابو ذات صباح وقال لي: "مايسترو، أنا حزين جدا، حلمت بأمر ممض". سألته وماذا يكون ذلك، فقال: "حلمت بأن الاشتراكية لن تنجح" (مندوزا، صحافي وديبلوماسي). التقى غابو بمرسيدس (زوجته المستقبلية) عندما كانت فتاة صغيرة. دخل مرة صيدلية أبيها وكانت في الحادية عشرة من عمرها وأخبرها "سوف أتزوج منك عند بلوغك سن الرشد". بعد سنوات قال لها: "يجب أن تتخذيني زوجا لأنني سوف أصبح في غاية الأهمية". كانت تعرف كل شيء منذ زمن بعيد (إيليو، مخرجة أفلام إسبانية، "مئة عام من العزلة" مهداة إليها). ويقول سانتياغو موتيس، صديقه المقرب، الشاعر ابن ألفارو، عن الفترة التي أمضاها ماركيز في باريس أواخر الخمسينات، ان باريس أعطته مخاضا قاسيا وطريقة لمساءلة نفسه في كيفية ما سيكونه ويفعله. لقد وقع انبطاحا على الوجه معرِّفا حاله ما كانه على الدوام: رجل من بارانكيا، من كارتاجينا، من آراكاتاكا. بعدئذ، اصطنع غابو ذاته وهو يحكي القصة الآن أدبية، الأمر الذي لا يعني انها حقيقية.
    كان المنزل الذي ولد فيه ماركيز مغطى بالنبات المعترش وفناؤه بالعشب البري عن آخره عندما أعلن في "الإسبكتادور" انه فاز بجائزة روميللو غاليكوس الأدبية وقيمتها مئة ألف دولار وهبها إلى السجناء السياسيين. ثم فاز بجائزة أخرى أعطاها أيضا لبعض المساجين. كان منزله خربا، وبلدته في حاجة إلى قناة ري ومدرسة، لكنه أعطى المال إلى شعب آخر ( زاباليتا، مؤلف موسيقي من كولومبيا).
    لم يعد قط إلى آراكاتاكا. ظهر ذات ليلة في منتصف الليل في سيارة ذات زجاج ملون. قاد حول البلدة مع بعض الأصدقاء، لكنه لم يعد أبدا إلى آراكاتاكا (إمبريا داكونتي، من عائلة قديمة الصلة بماركيز).
    قرأ ذات ليلة في شقة ألفارو صفحات من مسوّدة. تأثرت جدا وقلت له: "اقرأ المزيد، ماذا حدث بعد ذلك؟ "فروى لي بعدها قصة "مئة عام من العزلة" بكاملها. أذكر انه روى لي خبر قس يرتفع في الهواء، وصدقته قائلة لنفسي ولماذا لا يرتفع قس في الهواء؟ بعد انتهائه نت رواية الكتاب قلت له:" إذا كنت أنت الذي كتب هذا فإنك تكون قد كتبت التوراة". قال: وهل أعجبك. قلت: انه مدهش. فقال: إذا هو لكِ. وأعتقد انه رآني مصغية ببراءة عميقة فقال في نفسه: أنا في سبيل إهداء الكتاب لهذه البلهاء (ماريا لويزا إيلليو).
    انه متشبث برؤياه لا يتزحزح، أمضى عشرين عاما وهاجسه "مئة عام من العزلة"، بعد إنجازها أرسلها إلى الأرجنتين والمكسيك وإسبانيا، والثلاث رفضتها. انها ليست مهمة، ونصحه الأرجنتينيون بتكريس نفسه لأمر آخر (سكوبل). لكن الرواية نشرت أخيرا في بوينس آيرس عام .1967 نجاح صاعق قدره ثلاثون مليون نسخة. بعد أسبوع من صدورها سافر غابو إلى العاصمة الأرجنتينية في صفته عضو لجنة تحكيمية في مسابقة للرواية. عندما دخل المسرح، يقول موتيس، تمّ تقديمه مؤلفا للرواية، فهب الجمع وقوفا مرحِّبا به بتصفيق حار. هناك، في ذلك المكان وبالكيفية التي حصل فيها الأمر، بدأ كل شيء ولم يتوقف من حينه. العالم أتى إلى قدميه.
    التقط ماركيز التقليد الشفهي في الكلام في لحظة حاسمة لينقله إلى الأدب. أضاف الجمال إلى الواقع عبر اللغة. كان مندفعا لا من أجل مال ولا تعقبا للجوائز إنما ليروي قصة الحياة نفسها من البداية إلى النهاية. قصة الذين هم كل شيء، أهله، عائلته، أرضه، أصدقائه. ثقافة البوب هي أم الفن وابوه، وهذا هو غابو (موتيس).
    كانت مرسيدس، زوجة غابو، تتولى الرد على الإتصالات عندما ذهبت إلى بيته بعد سماعي نبأ حصوله على جائزة نوبل (1982). كانت عبارة "تهانينا" معلقة بأحرف كبيرة على الباب، وكانت لديه تلك العينان الكبيرتان الجاحظتان مفتوحتين كما لو انه في بُحران الهلوسة (إيلليو).
    أصيبت كولومبيا بالجنون.
    بات ما يقوله ماركيز هو الأدب الكولومبي وما لا يقوله بات من الصعب قبوله. صار الظاهرة التي لا يدانيه فيها أحد. ليس مرة خرجت مع أوكتافيو باث، تقول إيلليو، بل ألف مرة من دون أن أرى أناسا يفاجئونه بالمعانقة والتقبيل أو لسؤاله هل هو باث أم لا. أما مع ماركيز فكان الأمر يحصل على الدوام. أتت الأيام التي صار فيها غابو يتباهى باستطاعته مهاتفة تسعة رؤساء دولة من دون تكليف. بات كلينتون صديقه بعد ليلة مشهودة. كان قد طلب من شيلسي تدبير اجتماع مع غابو. أعدت مائدة خاصة اجتمع حولها، إلى كلينتون وماركيز، فوينتس وهيلاري وبعض الأصدقاء. يروي وليم ستايرون، أقرب الكتاب الأميركيين لغابو، بعض التفاصيل. أدخل غابريال وكارلوس الحديث مع كلينتون إلى مسألة حصار كوبا. كانا كلاهما متحمسا حول الأمبارغو. وكان الرئيس الأميركي يقاوم الدخول معهما في الحوار. الديبلوماسي بيل ليور طلب الإنتقال إلى موضوعات الأدب فسأل (هو أو كلينتون) الحاضرين أن يذكر كل واحد منهم اسم الرواية المفضلة عنده. أضاءت عينا كلينتون بعدما بدتا للحظات كالزجاج. فوينتس قال: دون كيخوته، وغابو: الكونت دو مونتي كريستو، ولم يكتف كلينتون بالقول ان روايته المفضلة هي "الصخب والعنف" لفولكنر، بل مضى تاليا مقطعا طويلا من الرواية بالحرف، ثم تحدث عن قوة فولكنر وشدة تأثره به. اندفع بعد ذلك ماركيز كاشفا عن أثر فولكنر عليه أيضا وانه بوحي من قراءات رواياته انطلق في الكتابة بعدما كان يراوح في صوغ الكلمة الواحدة.
    لا يمكن أن يكون لنا في العالم الاكلو الانكلوسكسوني مثل ماركيز، ليس لدينا مثل هذا التقليد أن يكون الكاتب مبجلا إلى هذا الحد، يقول ستايرون.
    وتعبّر القصة التي يحكيها جينيت عن القريحة الملتهبة التي تلقي غابو على الفور في غمرة الأدب في الحين الذي يقبع فيه الآخرون في انتظاره. التقينا في منزل ألفارو. عانقني غابو قائلا: هؤلاء هم أصدقاء الطفولة. كان خوان غوسان، صاحب الشأن الأكبر في الصحافة الكولومبية، حاضرا، فقال لغابيتو: مايسترو، دعني أجري معك مقابلة. فأجابه ماركيز:"أي نوع من الصحافيين أنت؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟ لديك القصة كلها أمامك مباشرة، فقط خذها. ها هو صديقي منذ كنا أطفالا. هذه هي قصتك














                  

12-08-2003, 10:55 AM

الجندرية
<aالجندرية
تاريخ التسجيل: 10-02-2002
مجموع المشاركات: 9450

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)

    شكراً اسامة
    دعني استل من بين كل هذا الوهج عبارة
    Quote: سيل مقالات وتحقيقات غير مستندة إلى انشاء استيحائي ولا إلى فرض إخباري

    فهي " برق غازل شرفة احلامي "
    هل يمكن ان نكتب هكذا كتابة
    Quote:

    غير مستندة إلى انشاء استيحائي ولا إلى فرض إخباري


    محبة وسلام وشوق
                  

12-08-2003, 05:41 PM

إيمان أحمد
<aإيمان أحمد
تاريخ التسجيل: 10-08-2003
مجموع المشاركات: 3468

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: الجندرية)

    Up
                  

12-10-2003, 07:42 PM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)

    الأخ الخواض تحياتى

    يبدو لى اننى طالعت هذا المقال الشامل فى صحيفة النهار اللبنانية. وربما انستك لهفتك ورغبتك الكريمة فى اطلاعنا عليه الاشارة الى مصدر المقال وهذا سهو لا يشبهك فقد عهدناك قائمآ بواجب الاسناد والمرجعية حين تنقل ما بدا لك حسنه من مختلف المصادر وجلّ من لا يسهو
                  

12-10-2003, 08:23 PM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)

    وهذه ترجمة من كتاب ماركيز الأخير " أعيش لأحكى" وجدتها منشورة فى الانترنيت
    ـــــــــــــــــــــــــــــ


    مذكرات ماركيز‏..‏ أن تعيش لتحكي ـ
    أخطائي الإملائية لاتزال تطاردني
    ترجمة ـ د‏.‏ طلعت شاهين





    مناخي المثالي منذ أيام الدراسة في مدرسة سان خوسيه كان إدماني للقراءة كنت اقرأ كل ما يقع بين يدي فكنت أقضي أوقات فراغي كاملة في القراءة وكل وقت الدروس تقريبا بسنواتي الست عشرة وبخط جيد أم لا كان يمكنني أن أقرأ وأعيد قراءة في نفس واحد وبلا مساعدة أو نظام
    كان كل هذا يتم تقريبا سرا أثناء الدروس المدرسية أعتقد أنني قرأت مكتبة الليسيه كاملة التي كانت مكونة من بقايا مكتبات أخري سيئة‏:‏ المجموعات الرسمية وميراث المعلمين وكتب لا يعرف أحد كيف وصلت إلي هناك بعد عملية غرق ولا أستطيع أن أنسي المكتبة القروية المنشورة في دار مينيرفا والتي كان يمولها السيد دانييل سامبر أورتيجا ويوزعها علي المدارس ومعاهد وزارة التربية‏.‏ كانت مائة مجلد تحتوي علي كل ما هو أفضل وأسوأ ما كتب في كولومبيا قررت أن أقرأها بنظام التسلسل إلي حيث أستطيع‏.‏ وما يثير رعبي أنني كدت أكملها خلال العامين الأخيرين ولم استطع خلال حياتي الباقية أن اعرف إن كانت قد أفادتني في شئ أم لا‏.‏
    لحظات إشراق الفجر كان لها طعم قريب من طعم السعادة عدا صوت الناقوس القاتل الذي يدق فجأة في السادسة والنصف يقفز من السرير فقط اثنان أو ثلاثة من ضعاف العقول ليقفوا في الصفوف الأولي أمام صنابير المياه لحمامات غرف النوم الباقون نظل نعصر آخر لحظات النوم إلي أن يأتي المعلم المناوب ليجري بطول الصالة نازعا بطاطين النائمين تكون نصف ساعة من الحياة السرية المكشوفة لارتداء ملابس النظام وتلميع الاحذية ونستحم بالمياه السائلة من الصنابير فيما كل واحد يتخفف من هزائمه الليلية بالصرخات ويسخر من هزائم الآخرين وتكشف أسرار الحب وتجري عمليات التجارة ويتم الاتفاق علي مبادلات المطعم والموضوع العقلي الدائم للفصل المقروء في الليلة السابقة‏.‏
    كان جييرمو جرانادوس ينطلق في غناء كل ما يحتويه ذهنه الذي لا يكل من موضوعات التانجو أغني مع ريكاردو جونثالث ريبول جاري في غرفة النوم في ثنائي كاريبي علي أنغام خرقة تلميع الأحذية بجوار الأسرة فيما يكون صديقي ساباس كارافالو يجري في صالة النوم من أقصاها إلي أقصاها عاريا كما أنجبته أمه والفوطة معلقة بقضيبه الأسمنتي المسلح‏.‏
    كان ممكنا أن نهرب فجرا في جماعة من هذا الملجأ الداخلي للقيام بواجبات تعهدنا بها خلال عطلة نهاية الاسبوع لم تكن هناك حراسة ليلية ولا معلمون في غرف النوم عدا مناوب الأسبوع وبواب الليسيه الأبدي ريبيريتا في الحقيقة يعيش ساهرا طوال الساعات فيما يقوم بواجباته اليومية كان يعيش في غرفة الإيوان ويقوم بعمله جيدا ولكننا كنا نقوم ليلا برفع ترابيس الكنيسة ونعيدها إلي مكانها دون إحداث ضجيج ونقضي الليل في بيوت أخري ونعود قبل الفجر بقليل عبر الشوارع الجليدية‏.‏ لم نعرف أبدا إن كان ريبيريتا كان نائما فعلا كميت أم لا أم أنها طريقته في أن يكون متسترا علينا‏.‏ لم يكونوا كثيرين الذين يهربون وأسرارهم تنام في ذاكرتنا كمتسترين علي بعضهم أمناء علي أسرارهم أعرف بعض من كانوا يقومون بالهرب كروتين يومي والبعض قام به لتجربة الإحساس بقشعريرة المغامرة في الجسد ويعودون منهوكين من الرعب لم نعرف أبدا أن هناك من تم اكتشاف هروبهم‏.‏
    كانت كوابيسي الليلية التي ورثتها عن أمي تمثل عيبي الاجتماعي الوحيد في المدرسة لأنها كانت تقطع نوم الآخرين كصرخات قادمة من القبور جيراني في السرير يعرفونها جيدا وكانوا يخافون فقط العواء الأول المنطلق في هدوء الفجر والمعلم المناوب الذي ينام في الغرفة الكرتونية كان يتجول بيننا ليلا من أقصي الغرفة إلي أقصاها إلي أن يتم إحكام النظام لم تكن حالات نوم فوضوية بل كان لها علاقة بالإحساس بارتكاب الذنب لأنها حدثت لي مرتين فقط في بيوت غريبة وكانت غير مفهومة أيضا لأنها لم تكن تحدث في ساعات النوم القصيرة بل خلال نومي سعيدا إلي جوار أشخاص أو في أماكن عامة تجعلهم ينظرون إلي بشكل بريء الكوابيس يمكن مقارنتها بكوابيس أمي كان أصلها في رأسها هي وكانت تخرج مع القمل الذي لا يدعها تنام لم تكن صرخاتي متبخرة بل أصوات طلب استغاثة حتي يمكن أن يعطف علي أحد ويوقظني لم يكن في غرفة نوم الليسيه وقت لأي شئ فما أن أبدأ أول أصواتي حتي تسقط علي رأسي أمطار من الوسائد القادمة من الأسرة المجاورة أقوم مذعورا والقلب منقبض ولكني سعيد بأنني لازلت علي قيد الحياة‏.‏
    كانت القراءة بصوت عال قبل النوم أفضل ما في الليسيه وبدأت تلك القراءات بمبادرة من الأستاذ كارلوس خوليو كالديرون بقراءة قصة لمارك توين مقررة علي الصف الخامس وسيمتحنون فيها في أولي ساعات الدروس لليوم التالي قرأ المقاطع الأربعة الأولي بصوت مرتفع في غرفته الكرتونية لنقوم نحن من لم يكن لدينا الوقت لقراءتها بكتابة شروحها كان الاهتمام كبيرا ومن حينها تقرر فرض عادة القراءة بصوت مرتفع قبل النوم كل ليلة لم تكن البداية سهلة لأن بعض المعلمين المنافقين فرضوا الكتب التي يجب قراءتها ولكن بوادر التمرد جعلتهم يضعون وجهة نظر التلاميذ في الحسبان‏.‏
    المعلم الوحيد الذي بقي كواحد من الألغاز الكبيرة لشبابي كان هو المدير الذي وجدته عند وصولي كان اسمه أليخاندرو راموس كان جافا ومحبا للعزلة بعوينات زجاجية سميكة تبدو كعيون أعمي وسلطة لا تقبل الجدل تجعل كل كلمة له كما لو كانت قبضة حديدية يهبط من ملجئه في السابعة صباحا ليفتش علي نظافتنا الشخصية قبل دخول المطعم يرتدي ملابس محكمة ذات ألوان فاقعة وياقة قوية كما لو كانت مصنوعة من البلاستيك وأربطة عنق لافتة للنظر حذاء لامع أي خطأ في نظافتنا الشخصية يعني العودة إلي غرفة النوم لإصلاحه ويبقي باقي اليوم مسجونا في مكتبه بالطابق الثاني ولا نعود إلي رؤيته حتي اليوم التالي في الساعة نفسها أو خلال الاثنتي عشرة خطوة التي يسيرها من مكتبه إلي الفصل الخامس حيث يقوم بتدريس ساعة الحساب الوحيدة التي يدرسها ثلاث مرات في الأسبوع تلاميذه يقولون عنه إنه عبقري في الأرقام ومسل في الفصل ويتركهم مشدوهين بحكمته ورعب الامتحان النهائي‏.‏
    بعد وصولي بقليل كان علي أن أكتب الخطاب الافتتاحي لأحد احتفالات الليسيه الرسمية وافق معظم المعلمين علي الموضوع لكنهم تركوا الكلمة الأخيرة في هذه الحالة للمدير كان يعيش في آخر السلم بالطابق الثاني لكنني عانيت خلال تلك المسافة كما لو كانت رحلة حول العالم سيرا علي الأقدام لم أكن قد نمت ليلتها بشكل جيد ووضعت رباط عنق ملابس الأحد ولم أكد أتذوق طعام الإفطار حتي خبطت علي الباب بهدوء شديد لدرجة أن المدير لم يفتح لي حتي المرة الثالثة ودعاني إلي الدخول دون أن يحييني وكان ذلك من حسن حظي لأنني لم أكن أملك صوتا لرد التحية ليس بسبب جفائه ولكن بسبب رهبة النظام وجمال المكتب بأثاثه من الخشب النبيل المحشو بالقطيفة والجدران المزينة بدواليب من الكتب المجلدة بالجلد الطبيعي أنتظر المدير برصانة شكلية حتي التقط أنفاسي ثم أشار إلي كرسي أمام مكتبه وجلس هو علي كرسيه‏.‏


    كنت قد بذلت في إعداد أسباب زيارتي الجهد الذي بذلته في إعداد الخطاب استمع إلي في صمت ووافق علي كل جملة بهزة من رأسه ولكن دون أن ينظر إلي بل كان ينظر إلي الورقة التي كانت ترتعش في يدي وفي بعض النقاط التي كنت أري أنها مسلية حاولت أن أنزع منه ابتسامة لكن جهودي ذهبت هباء بل وأكثر من هذا‏:‏ أنا كنت علي ثقة تامة بأنه كان يعرف بزيارتي مسبقا ولكنه تركني أكمل طقوس شرح أسبابها‏.‏
    ما أن انتهيت حتي مد يده علي المكتب وأخذ الورقة خلع نظارته ليقرأ بانتباه عميق ولم يتوقف سوي مرتين ليجري بعض التصحيحات بقلمه ثم أعاد وضع النظارة علي عينيه وحدثني دون أن ينظر في عيني بصوت حجري هز قلبي قال لي‏:‏
    ‏-‏توجد هنا مشكلتان حضرتك كتبت‏:'‏ تناغما مع ازدهار بلادنا التي قدمت للعالم الحكيم الإسباني خوسيه ثيلستينو موتيس في القرن الثامن عشر نعيش في هذا الليسيه مناخا فردوسيا‏'.‏ ولكن هذه الكلمة بها حرف خطأ والأخري ينقصها التشديد‏.‏
    شعرت بالمهانة لم تكن لدي إجابة للحالة الأولي أما الحالة الثانية فلم يكن لدي شك فأجبته علي الفور بما تبقي لي من صوت‏:‏
    ‏-‏معذرة سيدي المدير القاموس يقبل كلمة الفردوسي بتشديد وبدونه ولكن أنا رأيت أن أكتبها هكذا لأنها ستكون موسيقية أكثر‏.‏
    يبدو أنه شعر بالهجوم عليه كما شعرت أنا ولم يكن قد نظر إلي بعد فأخذ القاموس من علي أحد الدواليب دون أن ينطق بكلمة تحجر قلبي لأنه كان قاموس أطلس نفسه الذي كان يملكه جدي لكنه كان جديدا ولامعا وربما لم يستخدم من قبل‏.‏ وفتحه في الصفحة المطلوبة في أول محاولة وقرأ وأعاد قراءة الخبر وسألني دون أن يحول نظره عن الصفحة‏:‏
    ‏-‏حضرتك في أي فصل
    قالت له‏:‏
    ‏-‏الثالث‏.‏
    أغلق القاموس بضربة واحدة ونظر إلي في عيني لأول مرة وقال‏:‏
    ‏-‏برافو استمر علي هذا النحو‏.‏
    من ذلك اليوم لم ينقص زملائي سوي أن يطالبوا بإعلاني بطلا وبدأوا في تسميتي بكل التشريفات المطلوبة‏'‏ ابن الشاطئ الذي تحدث مع المدير‏'‏ إلا أن ما أثر في خلال تلك المقابلة مرة أخري فهو مأساتي الشخصية مع الإملاء التي لم أفهمها أبدا وحاول أحد معلمي أن يخرجني من تلك المأساة عندما أخبرني بأن سيمون بوليفار لم يكن يستحق المجد الذي ناله بسبب كتابته الرديئة‏.‏ وآخرون كانوا يعزونني باعتباره مرض الكثيرين وحتي اليوم بعد نشر سبعة عشر كتابا فإن مصححي البروفات الطباعية يشرفونني بتصحيح أخطائي الإملائية كما لو كانت أخطاء في التصفيف‏.‏
    كانت احتفالات زيباكيريا الاجتماعية تختلف بشكل عام حسب حالة كل واحد وموهبته وطريقته مناجم الملح التي عثر عليها الأسبان حية كانت الجذب السياحي في نهايات الأسبوع وكانت تستكمل بطبق الكرشة بالفرن والبطاطس الثلجية الغارقة في أحواض كبيرة من الملح زملاء منطقة الشاطئ الكاريبي بشهرتنا المستحقة كمثيرين للضجيج وسوء التربية كنا نتمتع بالسمعة الطيبة في الرقص كفناني موسيقي الموضة وذواقة في الحب حتي الموت‏.‏
    كنت عفويا جدا إلي درجة أنه في اليوم الذي عرفنا فيه بنهاية الحرب العالمية خرجنا إلي الشوارع في مظاهرة عارمة بالرايات والشعارات وأصوات النصر طلب أحدهم متطوعا ليخطب في الجموع فخرجت إلي شرفة النادي الاجتماعي دون أن أفكر في الأمر لحظة واحدة في منتصف الميدان الرئيسي وبدأت أصرخ برنات عالية في خطاب اعتقد البعض أنني كنت أحفظه مسبقا‏.‏
    كان الخطاب الوحيد الذي وجدت نفسي مجبرا علي ارتجاله في سنواتي السبعين الأولي من حياتي أنهيته باعتراف غنائي للأربعة الكبار ولكن ما لفت الأنظار في الميدان كان ذكر رئيس الولايات المتحدة الذي مات قبلها بقليل‏:'‏ فرانكلين ديلانو روزفلت الذي كان كالسيد القمبيطور الذي يعرف كيف يكسب الحرب بعد موته‏'‏ ظلت هذه الجملة تسبح في المدينة لعدة أيام وتمت كتابتها علي لافتات شوارعية وعلي صور رزوفلت المعروضة في واجهات بعض المحلات لذلك فإن أول نجاح شعبي لي لم يكن لكوني شاعرا أو روائيا بل كخطيب والأسوأ من كل هذا‏:‏ كخطيب سياسي منذ ذلك الوقت لم يكن هناك حفل رسمي في الليسيه دون أن يأخذوني إلي الشرفة ولكن كانت الأحاديث مكتوبة ومصححة حتي آخر نفس‏.‏
    مع مرور الزمن أفادني ذلك الغرور حتي لا أصاب بالرعب من الجماهير تماما في حفلات العرس الكبري كما في كانتين الهنود التي كنا نسكر فيها حتي نزحف علي بطوننا‏:‏ في بيت بيرينيثي الجميلة المتحررة كنت محظوظا لأنها لم تتزوجني لجنونها بحب آخر أو في مكتب التلغراف التي كانت تقوم فيه الرائعة ساريتا بعمل إجراءات القروض التلغرافية المؤسية إلي أبوي لسد احتياجاتي الشخصية وقدمت لي أكثر من مرة نقود تلك التلغرافات قبل وصولها لإنقاذي من أكثر من ورطة إلا أن الحب الذي لا ينسي لم يكن حبا لشخص بقدر ما كان لحارسة مدمني الشعر كان اسمها ثيثيليا جونثالث بيثانو وكانت ذات ذكاء سريع وظرف خاص وروح طليقة في أسرة عميقة المحافظة وذاكرتها غير الطبيعية فيما يختص بحفظ الشعر كانت تعيش في البيت المواجه لليسيه مع عمتها الأرستقراطية العزباء في بيت ضخم محاط بحديقة كثيفة الأشجار كانت العلاقة في البداية مرتبطة بالمسابقات الشعرية لكن ثيليا تحولت في النهاية إلي أن تكون رفيقة الحياة ضاحكة دائما وفي النهاية بدأت تحضر سرا وبموافقة الجميع دروس الأدب التي يقوم بها الأستاذ كالديرون‏.‏
    خلال سنوات اراكاتاكا حلمت بالحياة السعيدة مغنيا من احتفال إلي آخر بالأكورديون والصوت الجميل وهي الطريقة التي كنت أؤمن بأنها الأكثر قدما وسعادة قص حكاية فإذا كانت أمي تخلت عن البيانو من أجل الأولاد وتخلي أبي عن الكمان ليحافظ علينا فقد كان من العدالة أن يموت الأكبر من هؤلاء الأبناء جوعا في سبيل الموسيقي مشاركتي الدائمة كمطرب وعازف في فريق الليسيه أثبتت أن لي سمعا لأتعلم العزف علي آلة أكثر صعوبة وأنه يمكنني الغناء‏.‏
    لم تكن هناك سهرة أو حفل في الليسيه دون أن تكون لي فيها يد بطريقة أو أخري ودائما بفضل الأستاذ جييرمو كيبيدو ثورنوسا المؤلف الموسيقي ورجل المدينة المدير الدائم للأوركسترا البلدية ومؤلف موسيقي‏'‏ أمابولا‏'-‏ أغنية الطريق الحمراء كالقلب‏-‏ أغنية شبابية كانت في وقتها روح كل السهرات والاحتفالات الشعبية كنت أول من يعبر الحديقة العامة لسماعه أيام الأحد بعد حضور الصلوات بالكنيسة دائما ما يبدأ بمقطوعة‏'‏ جوثا لادرا‏'‏ وكورال‏'‏ مارتيا‏'‏ والتروبادور وفي النهاية لم يكن يعرف المايسترو أبدا ولا يتجرأ علي القول إن حلم حياتي في تلك السنوات أن أكون مثله‏.‏
    عندما طلبوا في الليسيه متطوعين لدروس التذوق الموسيقي أول من رفعوا أصابعهم كنا جييرمو لوبث وأنا‏,‏ كانت الدروس صباح أيام السبت ويقودها الأستاذ اندريس برادو توفار مدير أول برنامج للموسيقي الكلاسيكية في إذاعة‏'‏ صوت بوجوتا‏'‏ ولم نكن نملأ ربع المطعم الإضافي ولكن من اللحظة الأولي وجدنا أنفسنا أسري كلام المعلم كان الأصيل المتكامل من لذة منتصف الليل يرتدي صدرية بسيطة وصوته هادئ متقطع وما يمكن اعتباره اليوم تجديدا ذلك المسجل الذي كان يديره باقتدار وحب لترويض عجول البحر كان يبدأ من فرضية‏-‏ كانت صحيحة في هذا المجال‏-‏ تقول إننا مستجدون تماما لذلك بدأ معنا من‏'‏ كرنفال الحيوانات‏'‏ لسان سيني وعلمنا رؤية كل حيوان بعدها عزف‏-‏ ولم لا‏-'‏ بدرو والذئب‏'‏ لبروكوفيف والسئ في تلك اللحظة أنه ذكرني بأن موسيقي كبار الموسيقيين كانت إدمانا سريا وكنت في حاجة إلي سنوات طويلة حتي لا أصدر أحكاما متعجلة للتفريق بين الموسيقي الجيدة والموسيقي الرديئة‏.‏
    لم ألتق بالمدير مجددا حتي العام التالي عندما تولي تدريس مادة الهندسة للصف الرابع دخل الفصل يوم ثلاثاء في العاشرة صباحا وألقي بتحية الصباح بهمهمة دون أن ينظر لأحد ومسح السبورة بالبشاورة حتي لم يبق شئ من الطباشير عليها بعدها استدار نحونا وسأل الفارو رويث توريس‏:‏
    ـ ما هي النقطة؟
    لم يكن هناك مجال للإجابة لأن مدرس العلوم الاجتماعية فتح الباب بلا استئذان وقال للمدير إن هناك مكالمة تليفونية عاجلة من وزارة التربية خرج المدير مسرعا للرد علي التليفون ولم يعد إلي الفصل بعدها أبدا لأن المكالمة كانت لإبلاغه بترك مكانه كمدير العمل الذي أكمل واجباته طوال خمس سنوات في الليسيه ثم أنهي حياة كاملة من العمل الجيد‏.‏
    حل محله الشاعر كارلوس مارتين الأكثر شبابا بين جماعة شعراء‏'‏ حجر وسماء‏'‏ الذي ساعدني ثيسار دي بايي علي اكتشافه في بارانكيا كان في الثلاثين من عمره وثلاثة كتب منشورة كنت أعرف بعض قصائده وشاهدته مرة في مكتبة في بوجوتا لكنني لم أجد شيئا أقوله له ولا حتي كتبه لأطلب منه توقيعه عليها‏,‏ ظهر فجأة ودون أن يعلنوا ذلك خلال راحة الغداء ولم نكن ننتظره مبكرا هكذا كان يبدو كما لو كان محاميا أكثر منه شاعرا بملابس مخططة علي الطريقة الانجليزية كانت جبهته صافية وشاربه مستقيما بحذق وهو ما كان يشتم من شعره أيضا تقدم بخطوات محسوبة جدا نحو المجموعات الأقرب إلي مكان وجوده هادئا ومبتعدا قليلا ومد لنا يده‏:‏
    ‏-‏أهلا أنا كارلوس مارين‏.‏
    كنت خلال تلك الفترة مهووسا بالشعر الغنائي الذي ينشره ادواردو كارانثا في القسم الأدبي لجريدة‏'‏ التيمبو‏'‏ ومجلة‏'‏ السبت‏'‏ أعتقد أنه كان مستلهما من‏'‏ انا وبلاتيرو‏'‏ لخوان رامون خيمينيث الموضة المنتشرة بين الشباب الذين كانوا يأملون في مسح جييرمو فالنسيا من علي الخريطة‏.‏ كان الشاعر خوسيه روخاس وريث لارث قد ساعد علي نشرها باسمه ونشر بعض المقاطع الأصلية التي أيقظت اهتماما كبيرا بين جيله وأدت إلي توحيد الشعراء الجيدين المعروفين وقتها‏*‏
    الاهرام القاهرية
                  

12-10-2003, 11:41 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: Adil Osman)

    شكرا لكما الاخوان
    الخواض وعثمان

    مع فائق الشكر
                  

12-11-2003, 00:26 AM

إيمان أحمد
<aإيمان أحمد
تاريخ التسجيل: 10-08-2003
مجموع المشاركات: 3468

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: rani)

    شكرا أسامة علي وضع المقال
    وشكرا أستاذ عادل علي ما أوردته أيضا.
    وراني علي الصورة الجميلة.

    في الحقيقة دخلت أولا وقرأت... ووددت أن أسأل عن مصدر المقال لكن شعرت بالحرج، فشكرا للتوضيح.

    لكم التحية، ولهذا الرجل الفريد دون تكلف
    إيمان
                  

12-11-2003, 00:27 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: إيمان أحمد)
                  

12-11-2003, 01:11 AM

Adil Osman
<aAdil Osman
تاريخ التسجيل: 07-27-2002
مجموع المشاركات: 10208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)

    وهذه مقالة رصينة وثاقبة كتبتها السيدة جروسمان مترجمة ماركيز من الاسبانية الى الانجليزية ولها يعود الفضل فى تعريف القارئين باللغة الانجليزية بماركيز الفصيح، وسوف اترجم المقالة الى العربية لو تيسّر لى فضل وقت
    ــــــــــــــــــــــــــــــــ


    On Translation and García Márquez

    By Edith Grossman
    Speech delivered at the 2003 PEN Tribute to Gabriel Gárcia Márquez, held in New York City on November 5, 2003.


    Ralph Maheim, the great translator from the German, compared the translator to an actor who speaks as the author would if the author spoke English. A sophisticated and provocative analogy, for it takes into account something that is not always as clear as it should be, at least to many reviewers, whose highest endorsement for a translation tends to be that it is “seamless.” If I may attempt to translate the damnation barely concealed in their faint praise, I think they really mean that the translator has, with proper humility, made herself or himself “invisible,” a punishing goal that is desirable only if we are held personally responsible for the Tower of Babel and all its dire consequences for our species.
    Fidelity is surely our highest aim, but a translation is not made with tracing paper. It is an act of critical interpretation. Let me insist on the obvious: Languages trail immense, individual histories behind them, and no two languages, with all their accretions of tradition and culture, ever dovetail perfectly. They can be linked by translation, as a photograph can link movement and stasis, but it is disingenuous to assume that either translation or photography, or acting for that matter, are representational in any narrow sense of the term. Fidelity is our noble purpose, but it does not have much, if anything, to do with what is called literal meaning. A translation can be faithful to tone and intention, to meaning. It can rarely be faithful to words or syntax, for these are peculiar to specific languages and are not transferable.
    To recreate significance for a new set of readers, translators must make the effort to enter the mind of the first author through the gateway of the text – to see the world trough another person’s eyes and translate the linguistic perception of that world into another language. The better the original writing, the more exciting and challenging the process is. You can be sure that the attempt to enter the mind of García Márquez is as exciting and challenging as the work of a translator gets.
    His most recent book, Living to Tell the Tale, is the first volume of a projected three-volume memoir, though I am sure there will be those who insist that it is fiction, as some did, especially in the UK, when News of a Kidnapping was first published and people who should have known better refused to believe that the book was a piece of investigative reporting. The possible reason for their misapprehension is made explicit in Living to Tell the Tale: in a series of fascinating comments, García Márquez makes it clear that he sees little distinction between the practice of journalism and the writing of fiction. This is certainly not a question of his confusing truth and imagination, or reality and fantasy, and it is much more than a clever turn of phrase or thought. Over and over again in the memoir he refers to incidents and situations that are familiar to the reader because they have appeared, transmuted and transported, in the works of fiction. Even more important than events mined from the mother-lode of his experience, however, is the reportorial narrative technique common to both genres in García Márquez’ writing.
    He is a master of physical observation: Surfaces, appearances, external realities, spoken words – everything that a truly observant observer can observe. He makes almost no allusion to states-of-mind, motivations, emotions, internal responses: Those are left to the inferential skills and deductive interests of the reader. In other words, García Márquez has turned the fly-on-the-wall point of view into a crucial aspect of his narrative style in both fiction and non-fiction, and it is a strategy that he uses to stunning effect. It not only obliges readers to participate in the narration by placing them up on the wall, right next to the fly, but I believe it is also one of the techniques he employs to abrogate sentimentality, leaving only actions driven by emotions, and sometimes passions.
    It is a joy and a privilege beyond the telling of it to translate the profoundly expressive and artful writing of the Maestro. Thank you, Gabo, for your books.
    – Edith Grossman

                  

12-11-2003, 06:22 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20885

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)

    سلامات يا عادل
    كلامك صحيح
    وقد فاتني ان انبه الى ان مصدر المقال هو الملحق الثقافي لجريدة النهار
    فمعذرة للجميع
    مع تقديري
    المشاء
                  

03-26-2004, 03:16 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سيرة غابريال غارسيا ماركيز يكتبها الآخرون أيضاً (Re: osama elkhawad)


    الجمال النائم والطائرة*


    قصة : غابرييل غارسيا ماركيز
    ترجمة : بن سويعد عبد الحليم
    كلية العلوم / جامعة قسنطينة


    كانت جميلة فاتنة ، رشيقة القوام ، وبشرتها ناعمة بلون الخبز ؛ عيناها مثل اللوز الأخضر و شعرها الأسود مسدول على كتفيها ؛ ذات هيئة أندونيسية ، كما قد تكون قادمة من بلاد الأنديز .

    كانت ترتدي لباسا ذا نسق خلاق ينم عن ذوق رفيع ؛ سترة مصنوعة من فراء اللينكس ، قميصا من الحرير الخالص بأزهار متناسقة ، سروالا ذا قماش طبيعي مع حذاء ذي حزام ضيق بلون نبات البوغنفيليا (bougainvillea ).

    " هذه أجمل امرأة على الإطلاق شاهدتها في حياتي " ؛ قلت في نفسي عندما لمحتها عيناي وهي تمر أمامي بخطوات رهيفة حذرة كخطوات اللبؤة ، و أنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفع الأمتعة بمطار شارل ديغول بباريس ، إستعدادا لرحلتي إلى نيويورك . لقد كان ظهورا خارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة بهو المطار .

    كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ، و كان الثلج يتساقط منذ الليلة المنقضية . كانت حركة المرور أبطأ من العادي في شوارع باريس ، و أكثر بطئا على الطرق السريعة أين اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق ، بينما تزاحمت السيارات و اختلط دخانها بالثلج ؛ أمّا بداخل بهو المطار فكان الجو لايزال ربيعيا .

    وقفت في الطابور أنتظر دوري ، خلف مسنّة هولندية أمضت ساعة كاملة في الحديث عن حقائبها الإحدى عشر ؛ و بدأت أشعر بقليل من الملل عندما وقعت عيناي على الجمال الفاتن الذي قطع عليّ أنفاسي وأنقذني من تلك الضوضاء ، و لم أدر بعدها كيف انتهى مسلسل المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ على صوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني ؛ وبادرتها ملتمسا عذرها إن كانت تؤمن بالحب من أوّل نظرة . " طبعا ، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة " ردّت عليّ دون أن تحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر ، ثمّ سألتني إن كنت أفضّل مقعدا في مساحة التدخين أو عكس ذلك . رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية " لا يهم ، ما دام أنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ."

    أبدت قبولها للتعليق ببسمة تجارية ، ثمّ قالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : " اختر أحد الأرقام التالية ؛ ثلاثة ، أربعة أو سبعة "

    قلت : " أربعة " .

    ردّت ، و قد كشفت ابتسامتها عن نشوة وسعادة : " منذ خمسة عشر عاما و أنا أشغل هذا المكان ، ما رأيت أحدا قبلك اختار غير الرقم سبعة " .

    كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب ، ثم أرجعتها إليّ مع بقية الوثائق . نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء ، و خفّفتا من حرقتي ريثما يظهر الجمال الفاتن من جديد . و في هذه اللحظة بالذات ، أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة ، و أنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلى مواعيد لاحقة .

    " إلى متى يدوم هذا التأجيل ؟ "

    " علم ذلك عند الله " ، ردّت عليّ بابتسامة ، وواصلت : " لقد أذيع هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنف خلال العام كلّه " .

    لقد كانت على خطأ ؛ لقد كانت عاصفة القرن كلّه ؛ إلاّ أنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الإنتظار ذات الدرجة الأولى ، و يمكنك ملاحظة ورود حقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها ، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي سحرا وهدوءا تماما كما تصوّرها مبدعوها ؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملجأ مناسبا للجمال الفاتن ، و كذلك رحت أبحث عنها في قاعات الإنتظار الأخرى تائها ولهانا و غير آبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ .

    كان معظم المنتظرين رجالا من الحياة الواقعية ، يقرؤون صحفا بالإنجليزية ، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في أشخاص آخرين وهن ينظرن من خلال النوافذ إلى الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانع الخامدة المتجمّدة وحقول " رواسي " الواسعة التي حطّمتها أسود جائعة .

    وما أن حلّ منتصف النهار حتى شغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة ، و باتت لا تحتمل إلى درجة أنّني غادرت لآخذ جرعة هواء منعشـة . وبالخارج شاهدت منظرا غير عادي ؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل قاعات الإنتظار ، و منهم من قبع في الأروقة وعلى المدرّجات منقوصة الهواء ، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الحيوانات الأليفة والأمتعة والأبناء . وانقطعت الإتصالات مع المدينة وأضحى القصر البلاستيكي الشفاف أشبه بكبسولة فضائية عملاقة تركت قابعة على الأرض في وجه العاصفة . ولم يفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن ( المروّض ) ، و ألهمني ذلك شجاعة و صبرا لأظلّ منتظرا ظهوره .

    ما أن حلّ وقت الغذاء حتى أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم في البحر ، وأضحت الطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة ، و خارج المقاهي و الحانات ؛ وفي أقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء للإستهلاك . و حتى الأطفال ، الذين ظهروا في لحظة ما و كأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا ، شرعوا في البكاء دفعة واحدة . ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير ؛ لقد كان نداء الفطرة .

    وفي تلك الزحمة ، لم أستطع الحصول سوى على كأسين من مثلّجات الفانيلا من محلّ بيع للأطفال . لقد كان الناذلون يضعون الكراسي على الطاولات عندما غادر أصحاب المحل ، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكونتوار وأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة ، ولكن دائم التفكير في الجمال الفاتن .

    في الثامنة ليلاّ ، غادرت رحلة نيويورك المبرمجة أصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ . وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافرو الدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم ؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي ؛ وفجأة كاد قلبي يتوقّف عن النبض . يا لغريب الصدف ! رأيت الجمال الفاتن جالسا على المقعد المجاور أمام النافذة . لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير ؛ و قلت في نفسي : " لو قدّر لي أن أكتب هذا ، فلن يصدّقني أحد ". ثمّ نجحت في إلقاء تحية متردّدة بعد تلعثم لم تسمعها و لم تنتبه لها .

    لقد شغلت مقعدها كما لو كانت تنوي أن تعمّر هنالك لأعوام ؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب و في متناول يدها حتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي . و في أثناء ذلك ، أحضر لنا المضيف شامبانيا الضيافة . أخذت كأسا لأناولها إياه ، لكنّني تمهلت قليلا و فكّرت في ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في الوقت المناسب . لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزت إلى المضيف ، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح من سابقتها إلاّ بقليل ، بأن لا يوقظها خلال الرحلة ، و لأيّ سبب كان . لقد كان يشوب صوتها الدافىء بعض الحزن الشرقي .

    وعندما أحضر المضيف الماء ، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة ؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة . كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة و بثقة كبيرة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها . وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة ، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن ، غطّت جسمها ببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها ، وضعت قناع النوم على رأسها ، استدارت وولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق . لم تصدر عنها تنهيدة واحدة ، ولا أدنى حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية ، زمن الرحلة إلى نيويورك .

    لقد كانت الرحلة خارقة واستثنائية بالنسبة إليّ . لقد آمنت دائما ولازلت أؤمن بأن لا شيء أجمل في الوجود من امرأة جميلة ؛ وكان يستحيل عليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر ذلك المخلوق الفاتن الذي ينام بجانبي ، والذي كثيرا ما تردّده الروايات والقصص .

    ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيف وخلفته مضيفة شابة ، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعات الموسيقى . ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك على زميلها ، غير أنها أصرّت على السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللوم عليّ لأنّ الملاك لم يعلّق إشارة " أرجو عدم الإزعاج " حول رقبتـه .

    تناولت وجبة العشاء بمفردي ، محدّثا نفسي في سكون بكلّ ما كنت سأقوله لها لو شاركتني عشائي . كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في إحراج بأنّ الأقراص المنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للموت . و مع كلّ شراب كنت أرفع كأسي لأشرب نخب صحّتها .

    خفتت الأضواء ، و كان يعرض على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد ، و كنّا ولا أحد معنا في ظلمة هذا العالم . لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا ورهيبا ، وكانت الطائرة تبدو جاثمة غير متحرّكة بين النجوم . ثمّ رحت أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات ، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر ، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور السحب فوق الماء . كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا ترى نظرا للون بشرتها الذهبي . لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين ، وأظافرها الوردية تعكس صحتها الجيدة . وكان يزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط ؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما ، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني . ورحت على وقع تأثير الشامبانيا أردّد في سرّي روائع جيراردو دييغو حول المرأة والحب والجمال . خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها ، وألقيت بجسمي عليه ، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية .

    كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا ، محاكيا صورتها ، لم يكن سوى رائحة جمالها . لقد كان شيئا مدهشا حقا . لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة جميلة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التفرج على أجمل فتيات المدينة وهنّ مخدرات و مستلقيات عرايا على نفس السرير ، يتعذبون من حرقة الشغف والحب ولا يستطيعون ايقاظهن أو لمسهن ، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات .

    في تلك الليلة ، وأنا أراقب الجمال النائم ، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي ، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد الحدود ؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت أحاسيسي بفعل الشمبانيا : " ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر ".

    أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشامبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة ؛ وعندما استيقضت كانت رأسي تؤلمني بشدّة . ذهبت إلى الحمّام ، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة . كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق ، و للحظة ، إنتابني شعور عدواني ممتع في عدم التقاطها . ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائد في دمي ، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة ، فوجدتني قبيح المنظر وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذا الحد .

    فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار ، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بسرعة كاملة إلى الأمام . ظهرت فجأة إشارة " ألتزموا أماكنكم " ، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الإضطراب ، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه خوفه وذعره . وخلال حركتي الخاطفة ، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت ؛ غير أنّتي غيرت موضع قدمي في آخر لحظة ، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة.

    كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكره حركة الطائرة . وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد ، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الجامحة في ايقاظها بافتعال عذر ما ، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال الساعة الأخيرة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة ، حتى ولو كانت غاضبة ، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك ؛ غير أنّني افتقدت الشجاعة الكافية لذلك ، و قلت لنفسي باحتقار شديد : " إذهب إلى الجحيم ! لماذا لم أولد ثورا ؟ "

    استفاقت من نومها ، ومن تلقاء نفسها ، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط . كانت جميلة ناعمة و مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود ؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج القدامى ؛ و كذلك هي لم تفعل .

    خلعت قناعها ، فتحت عيناها المشعّتين ، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة ، وضعت البطانية جانبا ، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه ، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها ، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة ، ثمّ لبست سترتها اللينكسيـة . تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية نقيّة ، وغادرت من غير كلمة وداع ، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة ، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية .


    * أخذت هذه القصّـة الصغيرة و ترجمت من النسخـة الإنجليزية " The strange pilgrims " للكاتب و الروائي غابريال غارسيا ماركيز
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de