دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
الفَصْلُ الأوَّل
اتِكَاءَة علَى ظَهْرِ التارِيخ
في السُلطة تعلَمنا كيف نحكُم! ولكن نسينا أن نعرف لماذا نحكم؟! ليونيل جوسبان.. من كتابه «اختراع المكان» الصادر في العام 1999
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
الإهداء..
• إلى الأستاذ مَحمُود مُحَمَّد طَه.. شهيد الفِكرِ الحُرِّ، الذي أنذَرَنا بِقدُومِ الطُوفَانِ، ولَمْ نَسْتبِِن النُصْحَ إلا ضُحَى الغَد..!! واجَه المَوت مُعتَدِلاً بِابتِسَامَةٍ وَضِيئَة, هَزَمَتْ ترَهات الظَلامِيِّين.. لَم يُدرِكُوا بأنَّه لَيس فِي الجُبَّة إلا كَلِمَة حَقٍ فِي وَجْهِ سُلطانٍ جَائِر..
• إلى عَبدالعَزيزِ النُّور خَلَفَ الله, وصَحْبُه الأكرَمين.. رَمزَاً لشهداء «الجَبهَة الشَرقِيَّة».. أولَئِكَ الأشاوس الذينَ اختَلَسَ أصحَابُ «اليَاقَات البَيْضَاء» أحلامَهُم، قَبلَ أن تجِفَّ دِماؤُهُم..
• إلى التايَة أبُوعَاقلَة.. التِي أضَاءَت طَرِيقاً سَلكَه زُمَلائِهَا الآخرين من نَواضِر الحَرَكة الطُلاَّبِيَّة..
• إلى جلاَّدِيكُم جَميعَاً... ألفُ صَفعَةٍ وصَفعَة.. في سِفرِ الخُروجِ مِن الجَحيمِ..!! إن السجن الحقيقي... ليس هو صكّة المفتاح ولا السقف الذي ينضح ولا طنين البعوض في الزنزانة الرطبة, البائسة إنّه الأكاذيب التي يردِّدونها دون انقطاع على امتداد جيل... كقرع الطبول الجبن الذي يلبس قناع الخنوع هذا هو يا أصدقائي الأعزاء ما يُحوّل عالمنا الحُر... إلى سجنٍ موحشٍ
كين سارو ويوا
• مقتبس بتصرف من كتابه «شهر ويوم». • أعدمه نظام الجنرال ساني أباشا وتسعة آخرين من نشطاء حقوق الإنسان في نيجيريا في نوفمبر/تشرين الثاني 1995.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
المُقَدمَة
المعلوم أن سُودان اليوم هو نتاجٌ لم يَكتمِل بعد لصيرورةٍ تاريخيةٍ طويلة ومُعقدة، خلالها تمَّت تفاعُلات وتمازجات وتحوُّلات مُجتمعيَّة كثيرة، أدت إلى تغيير هويَّته شكلاً ومضموناً، وخلقت في الوقت نفسه نسيجاً مُتنوعاً، إثنياً ودينياً ولغوياً.. وفي خلفية الرقعة الجُغرافيَّة هذه، ازدَهرَت واندَثرَت حضاراتٌ على مرِّ القرون، فقد تمركزت الحضارة الكُوشيَّة في ”نبتة“ أولاً، في الفترة 750 ق.م– 590 ق.م، ثم تحوَّلت إلى ”مروي“ في الوسط الجغرافي 690 ق.م – 350 ق.م، مُوازاة مع الحضارات الفرعونية التي نهضت على ضفاف وادي النيل، والشرق الأقصى والأدنى، والأكسُوميَّة في شرق القارة.. ثم أيضاً سادت وبادت ممالك وسَلطنَات ومَشيَخات، جسَّدت تفاعُل تلك الحضارات، وتأسَّست دُويلات مسيحية، كما في «النوبة» و«علوة»، وأخرى إسلامية كما في «الفونج» و«الفور» و«المهدية».. وتسلمتها أنظمة كولونيالية، وضعت الإطار الإداري للدولة الحديثة -الحكم التركي/المصري، والحكم البريطاني/المصري- ثم ورثتها في فترة ما بعد الاستقلال أنظمة ”نخبوية“، استهلكت نفسها بصراعات سياسية واجتماعية، أفضت إلى عجز الدولة، وابتعادها عن الأطر القياسيَّة والوصفيَّة لمفاهيم الدُول الحديثة، حتى أصبحت أكثر تهيؤاً واستسلاماً للحُلول الخارجيَّة.
استناداً إلى جُذور الماضي وفروع الحاضر، يبقى السؤال قائماً: ”متى تضع الحتمية التاريخية أثقالها في السُودان، بالنظر إلى تجارب الأمم والشعوب؟“.. ونعلمُ أن ذلك ما استغرق البعضُ، وأفنى فيه عُمراً، بدءاً بأفلاطون ومدينته الفاضلة، مروراً بابن خلدون ومزاوجاته بين سلوكيات البشر والطبيعة، وانتهاءً بكارل ماركس في التحول التاريخي، وتوينبي وصامويل هننجتون، وفرانسيس فوكويوما في انحيازه الجدلي النهائي للديمقراطية الليبرالية.
إن ”الحالة“ السُودانية المو######## لنخب ما بعد الاستقلال، ليست صراعاً بين أيديولوجيات ”ماضوية“، وأخرى ”مُستحدثة“، بالنظر إلى مُسَلَّمات التاريخ.. وليست صراعاً حول رؤى وأفكار ومفاهيم، قياساً بطبيعة المُجتمع، فقد قفزت إلى ذلك قفزاً عمودياً.. هي صراع سلطة في أزمة لم تحَدَّد طبيعتها.. وفي ساحة دولة هشَّة، رغم الثراء التكويني.. صراعٌ هزمت فيه الأوهام مُعطيات الواقع، فأصبحت ”الدولة“ تعيشُ الحاضر بثنائية الاستلاب التاريخي في ماضيها، وتتطلَّعُ للمُستقبل برَهَقِ الحاضر، فلا غروَ أن ترَعرَعَت وكبُرت وشاخت، على قاعدة ”أزمة وطنية“.. ونتيجة للعجز والفشل والخيبات المُتراكمة، تحوَّلت آنئذٍ إلى ”أزمة في الوطنية“!!
إن الحديث الموسمي حول السيناريوهات المُظلمة من ”الصوملة“ و”الأفغنة“ و”العرقنة“، يتحاشى مُجابهة الواقع في أن سيناريو ”السَودنة“، إن لم يقترب من المنظومة نفسها، فقد ماثلها بتميُّزٍ يُمكنُ أن يُصبحَ مضرباً للأمثال ”كحالة خاصة“، ولا جدال في أن النسخة ”المُسَودنة“ هذه تجلَّت بوضوحٍ في عقود الردَّة الأخيرة، التي انكفأت فيها الدولة، وأعلنت عجزها، واستسلمت للحلول الخارجية.. وهي حالة ما كان لها أن تتأتى، لولا أن السلاح أصبح حَكَمَاً، عِوَضاً عن الحِوار، والإقصاء مَنهَجاً بدلاً من احترام الرأي الآخر، والانتقائية سُلوكاً ازدرى منطق طبيعة ”الأزمة الوطنية“.
ففي عُقود الرِدُّة الأخيرة هذه، نهضت أكثر من 30 حركة وتنظيم مُسلَّح، توحَّدت جميعها لحسم التراكُم التاريخي عن طريق العُنف والقمع والاستبداد، ولما أصبحت صراعات السُلطة في ”الدولة الهشَّة“ مُهدِّداً للسلم والأمن الدوليين، وإزاء عجز النخب السياسية عن الخروج من وحل ”الدائرة الشريرة“، وقابليتها للحلول الخارجية، بدأت ملفات قضايا ”الدولة الهشَّة“ تجوبُ العواصم الإقليمية والدولية: أديس أبابا، نيروبي، أبوجا، هراري، جوهانسبرج، إنجمينا، واشنطن، لندن، باريس، جنيف، أوسلو، لوكسمبيرج... إلخ، ثم تناولتها المُنظمات الإقليمية: الإيغاد، الاتحاد الأفريقي، الساحل والصحراء، الجامعة العربية.. وطافت أيضاً على المُنظمات غير الحكومية بجميع تخصُّصاتها.. وأخيراً استقرت على طاولة الهيئة الأممية.. وبغضِّ النظر عن أن هذه ”السياحة“ أدَّت إلى تعقيد طبيعة الأزمة، وتفاقمها، فإن البعض ما زال يعيشُ ”غيبوبة“ التخدير من ”تدويل“ القضية، مُتناسين أن التدويل أصبح واقعاً قائماً يُصلِّي!!
إن سُرادِق العزاء التي أقيمت في العام الحالي 2006، بمناسبة مُرور نصف قرنٍ على استقلال الدولة التي صُنِّفت في عَداد ”الدُول الفاشلة“ كان ينبغي أن تكون الاحتفائية بها فرصة لتطهُّرٍ جماعيٍ من الرجس التاريخي المُقيم، بأمل أن يعود السُودان إلى أهله، أو بالأحرى يعود المُواطن إلى وطنه، بعد طول اغتراب.
إن الحُلول المُجزَّأة لن تنتج سوى واقع مُشوه، وربما أكثر تعقيداً.. ووصفُ الدواء قبل تشخيص الأدواء، لن يكسب جسماً معلولاً صحَّة ”وعافية“، فلا مفر من النقد الذاتي، ولا سبيل إلى توخِّي الشفافية إلا بالتخلص من تراكُمات الوهم التاريخ، ولن يستقيم الظل، وعُودُ البرنامج الوطني الشامل أعوج.. ولن تتحقق المُشاركة الحقيقية في غياب عقد اجتماعي، بلواء رابطة قومية ووطنية، يُثري فيها التنوُّع الوحدة المنشودة، وإلاَّ فإن الأزمة لن تكتفي بالتناسُخ، وإعادة إنتاج نفسها، وإنما ستهدِّد بتلاشي الدولة واضمحلالها.
إن عُقود الردَّة الأخيرة لم تقنع بالهروب من طبيعة الأزمة الوطنية، فحوَّلت سؤالها من حالة ”كيف“ يُحكَمُ السُودان، إلى ”مَن“ يَحكُمُ السُودان؟ هذا الابتسار هو ما كرَّس ”نازية“ الاستعلاء العرقي والثقافي، وزرع بذرة التطرُّف الديني والسياسي، وفي غياب الحريات العامة، تضاءلت الحقوق حتى اختصرها حُواة السياسة في: ”الناس عايزين ياكلوا ويشربوا“!! واختلَّت موازين الواجبات.. ”البديل شنو؟“.. وفي ظل الخلل لم يُستشاروا في ”من“ و”كيف“ يُحكمون؟! علماً بأنهم منذ أن تأزَّلت أقدامهم في تلك البقعة الجغرافية لم يهنأوا بمأكل أو مشرب أو ملبس.. منهم أجيالٌ ظلت تكدحُ من المهد إلى اللحد، بنقصٍ في الأنفس –الحروب- ونقص في الثمرات –التهميش- ونقص في الأحلام والطموحات!! فالعملية السياسية والتنموية التي لا تجعل من البشر محورها ومُرتكزها الأساسي، في حقوقه وواجباته، وتولي قضاياه التربوية والتعليمية والتثقيفية اهتماماً، تصبحُ مُجرَّد استغفال واستمراء لهروب من المسؤولية، ظلت تمارسُه النخب السياسية.
في ضوء هذه الخلفية، تجري أحداث هذا الكتاب، توثيقاً وتحليلاً لعقود الرِدَّة التاريخية، باعتبارها تمثل عصب الأزمة.. دون إغفالٍ لمرجعية صناعة التاريخ الوهمي، والنظام القائم، أياً كانت مُسمَّياته التي تغيَّرت وتبدَّلت في المظهر عبر سنوات، ولم تمس طبيعة الجوهر.. لم يكن نبتاً شيطانياً نزل إلى أرض الواقع السُوداني من علٍ، فقد وُلِدَ من رحم تلك الأزمة، وعاشها في حضنه.. وبالمُقابل، فإن مُعارضيه هم أيضاً نتاج تلك الأزمة، ومن ثم فإن الاتكاءة على تاريخ الأمس القريب، استلزمت رحلة طويلة في البحث والتقصِّي، والتوثيق والتحليل، بغاية أن تعين خلاصتها في قراءة المشهد الماثل. وذلك أيضاً استتبعه إسقاط لـ”تابو“ المُحرمات والإرهاب الفكري والسياسي، بهدف تحديد المسؤولية الفردية والجماعية، وكذا السياسية والعسكرية، ثم الحزبية والمُؤسسية بغضِّ النظر عن هويَّاتها.. وربما وجد القارئ في التفاصيل ما يُرهقُ العقل والوجدان، لكن الأزمة وطبيعتها تفرضُ على من استشعرها هزَّ شجرة التمرُّد الأزلي في النفس البشرية، ضد كل خطأ يستوجبُ التقويم والتصحيح.
نحنُ على يقينٍ وقناعة، بأننا نعيشُ عصراً تجلَّت فيه أجندة حُقوق الإنسان، بما في ذلك حُقوقه في المعرفة والتثقيف والتطوُّر الذهني، ومُواكبة التقنية الحديثة.. ومن هنا لم تعُد المعلومات حِكراً على فئة دون أخرى.. وفيما نحنُ بصدده، فمن حق القارئ الإلمام بتفاصيل ما كان يجري، سواءٌ في الكواليس، أو الصالات المُحرَّمة، أو الدهاليز المُعتمة، وما تناولناه بالتوثيق والتحليل ليس نبشاً لماضٍ اندثر، فهو أقوالٌ وأفعالٌ يمشي صانعوها بين الناس، قلنا لهُم بالأمس واليوم كلمتنا، رغبة في البناء وليس الهدم، وباحترام لا يشوبه خوفٌ، ولا وجل، ولا خنوع.. وجعلنا من القرَّاء حُكاماً توخينا فيهم العدل والإنصاف، لا خصوماً افترضنا فيهم الظلم أو الانحياز.. فمن شاء فليؤمن بما كفرنا، ومن شاء فليكفر بما آمنا.
إن الحقيقة هي بنتُ التاريخ، سوِّدت صفحاته أم ابيضَّت.. والتاريخ ابنُ الأحداث، صغُر شأنها أم كبُر، ومثلما يصنعه الأخيار يصنعه الأشرار كذلك، ومن أراد أن يدلف ببابه، توثيقاً وتحليلاً وتأرخة، ينبغي أن يكون مُحصَّناً ومُنزهاً عن الغرض الدنيء، فليس في الأمر شخصنة لمواقف الصناع من الأخيار والأشرار، وليس في الأمر ما يقبل الازدواجية وتخليط المواقف، وخيانة التاريخ لا يُمارسُها إلاَّ من كان ظلوماً جهولا!!
صحيح أن الخيار كان صعباً بين مطرقة نظامٍ استعدى الجُغرافيا والتاريخ والبشر، وسندانُ مُعارضة أقعدت بها الأجندة الخاصَّة وقصور الرؤى، وبالرغم من أن في الثقلين ما تنوءُ بحمله الجبال، وما يُمكن أن يورِّث الحقد والكراهية، إلا أننا نأينا عنها ترفعاً، وأدبرنا عنها تعففاً، واكتفينا بالغضب النبيل، دونما شماتة سياسية، أو استحقار فكري، ولا يُبرئ الكاتب نفسه في اجتهاده قدر استطاعته، وفق ما أملته الضرورات الوطنية والأخلاقية، مع الآخرين الذين حملوا لواء النشاط المُعارض –وهناً على وهن- فوجهة نظرنا في هذا الكتاب التي تحتملُ الخطأ والصواب بقدرٍ سواء، هي نتاج المُعايشة عن كثب فيما تناولناه، والذي لم نستطع إليه سبيلا استخدمنا كل ما هو مُمكن في البحث والتقصِّي عنه، بهدف أن نضع أمام القارئ عملاً مُكتملاً، إن لم يُصِب فلنا أجر الاجتهاد بطموح الحد الأدنى.
وُلدَت تجربة التجمُّع الوطني الديمقراطي –كما هو معلوم- داخل السُودان، وفي ضوء انتقال ملفات القضية إلى خارج الحُدود، نمت التجربة وتفاعلت وتطوَّرت في مُحيطٍ جديد.. اكتسبت أبعاداً جديدة، منها ما هو سالب ومنها ما هو إيجابي، ولن يستقيم تقييمها إلا في الإحاطة بكامل ظروفها ومُلابساتها.. وقد تبدو الشفافية، التي عالجنا بها هذا الأمر –وفق منهجنا- نوعاً من ”الفضح السياسي“ وفق منهج آخرين، وربَّما قطب بعضهم جبينه، وعقد حاجبيه دهشة، وربما تهللت أسارير آخرين وانتشوا طرباً.. لكن في الحقيقة نرجو أن تكون هذه الشفافية شيئاً قوَّاماً بين هذا وذاك، فغاية هدفنا الإلمام والتأمل والتقييم الموضوعي، ومن ثمَّ استخلاص العِبر والنتائج، بلا أحكامٍ مُسبقة، أو قناعات مُتأصِّلة، كما أن قراءة الحدث وفق ظروفه الموضوعية، قد تعين على تفهم بعض ”الأقدار السياسية“ في إطار مصالح تقاطعت وتشابكت معها، وأجندة اختلفت وتضادت معها أيضاً.
من المُسلم به التأكيد على أن الأزمة الوطنية ما كان لها أن تتخلق وتنمو، لولا ساسة الزمن الرديء، من ”سُوَّاس الأحصنة“، الذين درجوا على تبديل خيولهم عند كل مُنعطف، وفي منتصف أي مضمار.. فقد خسروا أنفسهم قبل أن يُرزأ بخسارتهم وطنهم.. عملوا على تزيين القبيح، وتقبيح الجميل.. وفي محاولة لاستقصاء أسباب الظاهرة، أفردنا لها صفحات، وقرينتها المُسماة بـ”التسامُح السياسي السُوداني“.. وأيضاً في محاولة لتشريح المفهوم معرفياً وواقعياً، بُغية إزالة الوهم الذي أسرج به البعض أحصنتهم، وانطلقوا بها في رحلة ماراثونية، دونما اكتراث بإراقة المُثل والأخلاق والمبادئ.
وللأمرين وجهٌ آخر، تمثل في ظاهرة التحالف غير المُقدس، بين السياسة والمال في السُودان، ذلك ما اجتهدنا أيضاً في بحثه، وما كان للمسألة أن تفرض نفسها لولا أنه في تقديرنا إن أهم إفرازات ”أزمة الوطنية“، هي ظاهرة الفساد الذي استشرى في حضن أصحاب الأيادي المُتوضئة، واكتسب مشروعية دينية وأخلاقية، وأفرز سلوكيات خلخلت ثوابت المُجتمع وقيمه ومثالياته، غابت فيه الطبقة الوُسطى، التي كانت تمثل العمود الفقري في التوازن، وحلت محله فئة طفيلية، تحكَّمت في مفاصله، وضخَّت سُمومها في جسده المُنهك.
ختاماً، لا يملك المرء إلاَّ أن ينحني تقديراً واحتراماً وتبجيلاً –من قبل وبعد طي صفحات هذا الكتاب- للذين آمنوا بما اعتقدوا، وقدَّموا أرواحهم رخيصة لحُلم الدولة المدنية الديمقراطية، وإن لم يتحقق.. والذين التفوا حول مبادئهم، وقبضوا على جمر هذا الحُلم، حتى احترقت أيديهم.. والذين عصبوا بطونهم، وأنهكهُم الظمأ والمسغبة.. والذين ثابروا وصبروا طوال سنوات الأمل والخيبة.
والشكر موصولٌ بالامتنان لكل من ساهم قولاً وفعلاً، ليرى هذا الجهد النور، فلولاهم لما كان هذا مُمكناً.. ويبقى الوُد قائماً، مهما اختلفت الآراء.
فتحي الضو
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ الأوَّل: عَشِيَّة الكَارِثة
تميَّز الانقلاب الأخير في السُودان عمَّا سواه من الانقلابات الماضية, بأنه الأول الذي تواترت أخباره من وراء الحدود.. وخلالها، كان هناك من يُحاول القيام بواجبه, وقرع ناقوس الخطر قبل فترة طويلة, مُستشعراً السُلطة التنفيذية التي يقف على رأسها السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء.. «في يوم 18/3/1989في حديث عابر مع سفير دولة أوروبية, سألني عن الأوضاع بالسودان, وقال لي إنه سمع من بعض المسئولين المصريين أن انقلاباً سوف يحدث بدون شك, وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على تلك الحالة, وبعدها حدثت محاولة انقلاب صلاح الضوي والمرحوم الزبير محمد صالح, وبعدها قمت بإرسال تقرير ضافٍ باليد للسيد رئيس الوزراء, مقيّماً الوضع بين السودان ومصر على ضوء التصريحات المتبادلة بين البلدين, وأشرت فيه إلى موضوع الانقلاب». ثم بعدئذٍ تكاملت الرؤى والمعلومات والوقائع مع ما كان يجري داخل الحدود.
صباح الجمعة، 23 يونيو/حزيران 1989، تحلَق حول السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء ”المُنتخبُ“ آنذاك، بعض ضيوفه، في منزله الكائن بمدينة أمدرمان ”حي المُلازمين“.. دخل عليه ضابط من ذوي الرتب الوسيطة في القوَّات المسلحة، وكان يتأبَّط خبراً مزعجاً، تشيبُ له الولدان، وقد جاء تحديداً لإبلاغ المهدي به، فقال له: «هناك ترتيباتٌ تَجرِي لتنفيذ انقلابٍ عسكري لتَغيير السلطة الديمقراطيَّة»!!
سألَه المهدي في البداية -ولم يُبدِ اكتراثاً ملحوظاً لمجالسيه- عن مصدر معلوماته.. فقال له الضابط: «ليس هناك مصدر معيَّن».. لكنه شرح للمهدي أنه، بعلاقاته المتشعِّبة وسط زملائه من العسكريين، استطاع التقاط كثير مِن الهمس الذي يدور بين ضبَّاط المؤسَّسة العسكريَّة, لدرجة أصبح ذلك في حكم اليقين.. وأضاف أنه لا يعلمُ متى سيحدث الانقلاب، ولا كيف؟! وبعد فترة ران فيها صمت رهيب على المكان, باغته المهدي بسؤالٍ استنكاري: «تفتكر مُمكن ضابط يغامر ويهِد الشرعيَّة الدُستورِيَّة؟!».
لم يكن المُساءل في حالٍ يستطيع معها أن ينفى ولعاً شرهاً وطموحاً أرعن، أصاب كثيرين من منتسبي تلك المؤسَّسة بداء الانقلابات العسكريَّة, عبر سنوات من تأسيسها، لحماية ”الأرض والعِرْض“.. فردَّ على سؤال المهدي بقوله: «يا سيِّد الصادق، الضابِط المُغامر عندما يركب الدبَّابة، لا يعرِف ”المؤسَّسة الشرعيَّة“, وكلُّ تفكيره يكونُ مركَّزاً في اتجاه أن حياته في خطر، ممَّا يحفِّزه لتنفيذ تلك المُهمَّة فقط»!!
عاجلَه المهدي بسؤالٍ تَقريري آخر، ينضح تواضعاً: «تفتكر ما الذي يمكن عمله؟».. لَم يتحذلق المُساءل في سؤالٍ يعلم أن سائله بمقدوره أن يؤلِّف فيه كتباً, فحصر اجتهاده فيما يعلمه، وقال له: «مِن الناحِية العسكريَّة، أستطيع أن أقول لك إن قادة الوحدات العسكريَّة يجب أن يكونوا ملازمين في وحداتهم بدرجة استعدادٍ قُصوى، وتَأهُّبٍ كامل, كما يمكن أن توضع كتيبة، أو أكثر، في منطقة ”فتَّاشة“ تحسُّباً».
بدا السؤال الذي ألقى به المهدي فضفاضاً، يغري بالاجتهاد, فكسر حاجز الصمت الذي خيَّم على الحاضرين, وتمطَّى الحديث بنهمٍ، تنظيراً وتفعيلاً، باستدعاء كل شاردة وواردة.. فمن قائل بأهمية تسريع خطى اتفاقية السلام, ومن رأى ضرورة طواف السُلطة التنفيذيَّة -التي على رأسها رئيس الوزراء- على الوحدات العسكرية المختلفة، لتوضيح أهميَّة الحفاظ على النظام الديمقراطي، وحماية ”الشرعيَّة الدُستوريَّة“.. وشمل الحديث ضبط الأسعار الفالتة في الأسواق، لإشعار المواطنين بأنَّ هنالك سلطة ترعى شئونهم!!
كان المهدي يصغي -كعادته- بإيحاء من تدبَّر لغده أمراً، أو هكذا ظنَّ مجالسوه, فانفضَّ سامرهم، كلٌ مضى إلى حال سبيله، بِما فيهم ناقل ”الكُفر“ بالنظام الديمقراطي.. ونودي على المهدي ليدرك صلاة الجمعة.
بعد يومين مِن ذلك التاريخ، وتحديداً في يوم 25 يونيو/حزيران 1989، كان بِضعة أفرادٍ مِن جهاز الأمن الداخلي يحاولون رصد وقائع اجتماعٍ هام لعدد من قيادات ”الجبهة القومية الإسلامية“ في ضاحية ”المنشيَّة“، شرقي الخرطوم، منزل ربيع حسن أحمد, وكانت الإجراءات التأمينيَّة لهذا الاجتماع مثيرة بدرجة تثير الفضول, وتَشي باحتمالات حدثٍ قادم.. «ومن المفارقات العجيبة، أن يمر بهم السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز أمن السودان، في ساعةٍ متأخرة من الليل، وهو في طريقه إلى منزله بالمنشيَّة, وحرص أحد هؤلاء الضباط على إطلاعه على مهمَّتهم، وتنويره بما يجري في هذا الاجتماع المصيري.. ومن أطرف الحوارات التي دارت في تلك الليلة، المشحونة بالتربُّص، حوارٌ بين رئيس الجهاز وذلك الضابط، الحريص على أداء الواجب في تلك الساعة المتأخِّرة من ليلٍ خانق، اشتدَّت فيه وطأة الأحداث، ووطأة الحرِّ.. في هذا الحوار، قال الضابط، وهو برتبة نقيب أمن، لرئيسه: يا ريِّس، نحن الآن نقوم بِرصد اجتماعٍ هام لقيادات الجبهة الإسلاميَّة.. وعلى الفور سأله رئيس الجهاز: وما هي الأسباب من وراء هذا الرصد؟ أجاب النقيب: سعادتك.. الجماعة يرتبون لشيء ما.. أعتقد أنه انقلاب.. وقد وزَّعتُ القوة لمعرفة ما يدور، ولمتابعة الأمر.. ضحك عبدالرحمن فرح، وقال باستخفاف: الجماعة ديل يعملوا انقلاب؟! ثم تابع قائلاً للنقيب: إنتو مشغولين بالفارغة.. عينكم لـ”المايويين“ متحرِّكين وبيعملوا في انقلابات، وإنتو ترصدوا في ناس الجبهة؟ ثم طلب رئيسُ الجهاز في هذا الحوار القصير من ضابط أمنه أن ينهوا هذه المهمَّة، ويعودوا إلى أشغالهم، والاهتمام بالمايويين».
”المايويُّون“ الذين عناهم رئيسُ جهاز الأمن، هم بقايا الرئيس المخلوع جعفر نِميري, وقصد بحديثه ذاك محاولة انقلابيَّةَ مزعومة، قيل إنها كان ينبغي أن تحدث في يوم 18 يونيو/حزيران 1989، لتغيير الحكم, وكان اللافت فيها صمت كل المسؤولين في أجهِزة الدولة، بأجنحتها المختلفة, عدا ثلاثةٌ من الجهاز التنفيذي، جميعهم بهويَّة حزب الأمَّة, انبروا في الحديث عنها بسيناريوهاتٍ مثيرة, وتفاصيل استخفَّت بالعقل الجمعي لأهل السُودان بصفة عامة، وساسته بصفة خاصَّة.. ابتدرها السيِّد مُبارَك الفاضل المهدي، وزير الداخليَّة آنذاك، بالحديث إلى عدَّة صحفٍ محليَّة ودوليَّة، مؤكداً أن الخطة الانقلابيَّة كانت ستنفَّذ يوم 18/6/1989، لتتزامن مع مخاطبة رئيس الوزراء للجمعيَّة التأسيسيَّة, حيث كان من المتوقع أن تهاجم المجموعة الانقلابيَّة البرلمان، وتقضي على القيادتين، العسكريَّة والسياسيَّة، وتشل الحركة في الدولة، فيما يعود نميري.. ثمَّ أضاف شيئاً من ”المشهِّيات“ اللازمة، بما يجعل من السيناريو حدثاً مهضوماً!! فيما رأى رئيس جهاز الأمن، المسكون بـ”فوبيا المايويِّين“، أن الأمر يتطلب مؤتمراً صحفياً, عقده بالفعل يوم 20/6/1989، واسترسل فيه بخيال خصب, بدءاً مِن اكتشاف مبالغ مالية كبيرة في حوزة المعتقلين, مروراً بخططهم, وانتهاءً باتخاذ الحكومة لإجراءاتٍ أمنية مشدَّدة، في المطارات والموانئ، لئلا يهرب ”المتورِّطون والمتعاملون معهم“ من البلاد.
أما رئيس الوزراء، الصادق المهدي، فلم يتوان في خلع جلبابه المدني، وارتداء بزَّة الجنرالات، وهو يخاطب الجمعية التأسيسية صباح اليوم التالي 21/6/1989، فأكد أن الانقلابيين كانوا يزمعون إطلاق قذائف مدفعية على مبنى البرلمان، للقضاء على السلطة التنفيذية والتشريعية, وتحريك الوحدات العسكرية المختلفة، والمبعثرة في أرجاء العاصمة وضواحيها، للاستيلاء على مبنى الإذاعة.. وتجاوز رئيس الوزراء في حديثه سقف الخيال، في التأكيد أيضاً بأن الانقلابيين، حال ما تؤول لهم السلطة، فإنهم سيقومون: «بإحضار السفاح نميري، وتصفية كل المعارضين, وبعد ذلك تتم تصفية السفاح نفسه»!! وأحكم رئيس الوزراء الحبكة الدرامية، بتحديد ساعة الصفر، والتي قال إنها: «الحادية عشرة صباحاً».
واقع الأمر، كان ذلك أمراً عصياً على الفهم والإدراك، في روايات المسؤولين الثلاثة, ولكن بغضِّ النظر عن خيالاتها الشاطحة, وبرغم المثالب التي اعتورتها, فقد كان من الطبيعي أن يستدعي الحدث -بمقاييس الفعل ورد الفعل- الشروع في تحوُّطات عسكرية وأمنية وسياسية, تحمي ”الشرعية الدستورية“ وتكسبها واقعاً مُهاباً. غير أنَّ البديل، كان ”استرخاءً“ سمجاً، حشرت السلطة نفسها في دولابه, ونام كل من أدلى ببيانه للناس قريرُ العين، هانئها, علماً بأن الفارق الزمني بين الانقلاب المزعوم والواقعي الذي حدث بعدئذٍ, لم يتجاوز العشرة أيام.. والمسؤولون الثلاثة، هم المُناط بهم بالدرجة الأولى السهر لحماية ”الشرعية الدستورية“.
أكد كثيرٌ من المراقبين، والمحللين السياسيين أن الانقلاب الحقيقي في 30 يونيو/حزيران 1989، استخدم الانقلاب المزعوم كغطاء تمويهي لتعزيز نجاحه, وهو افتراضٌ -بغضِّ النظر عن جدليته- يوضح مدى استخفاف الانقلابيين بـ”الشرعية الدستورية“، لأن الفاصل الزمني يستلزم التحوطات التي ذكرنا، وليس العكس.. بالتالي، فالذي أقدم على ”مغامرة“ كتلك، كان يدرك تمام الإدراك أنها سلطة لن تحرِّك ساكناً، طالما أن ”حرَّاسها“ في أوهامهم سادرون.
سواءٌ كان الانقلاب المزعوم غطاءً تمويهياً للانقلاب الفعلي، أم لا, فالأنكى والأمرُّ في كل تلك الرواية, أن الانقلاب المزعوم نفسه, والذي تبارى السادة المذكورون في رسم سيناريوهاته بخيال ”هوليودي“ استند من جهة في حقيقته على طموحٍ أقرب إلى الهذر والسذاجة، ممن سُمِّي بقائد المحاولة، ”العميد أحمد فضل الله“، نائب مدير كلية القادة والأركان.. ومن جهة أخرى، ألبس ذلك الطموح ”اللواء صلاح مصطفى“، مدير الاستخبارات العسكرية، ثوباً فضفاضاً، وقدَّمه لمرءوسيه في هرم القيادة, حيث التقط القفاز بعضهم، وطرحوه طازجاً بين يدي السلطة التنفيذية, والتي أضافت له من خيالها الخصب ما جرى ذكره.
كنا قد توقفنا حيث أنهى نقيب الأمن مهمة مجموعته، استجابة لطلب رئيس الجهاز عبدالرحمن فرح.. انصرفوا لقضاء ما تبقى من الليل مع أسرهم, على الرغم من أنهم كانوا قد استيقنوا -دونما تفاصيل تشبع رغبتهم- بأن الاجتماع كان محوره الأساسي التخطيط لتنفيذ انقلابٍ عسكري لصالح الجبهة القومية الإسلامية.
بَيْدَ أن المهمة لم تنته في صباح اليوم التالي 26/6/1989، بالنسبة لمدير إدارة الأمن الداخلي، اللواء صلاح الدين مطر, الذي أعدَّ تقريراً ”خاصاً وعاجلاً“ إلى رئيس الوزراء، بنسخة منه إلى وزيري الدفاع والمالية، رصد فيه بصورة شاملة ردود الفعل المتباينة في أوساط الأحزاب، والتنظيمات النقابية والعسكرية، وكذلك آراء المواطنين، بالنسبة لما أُعلِنَ عن المحاولة الانقلابية المذكورة، جاء فيه: «يرى بعض العسكريين أن القوات المسلحة كان لها رأى واضح في الوضع الراهن بالبلاد, عكسته مذكرة الجيش في فبراير 1989, وما أوردته من أسباب موضوعية فيها -على حد تعبيرهم- يجعل أمر التحرك العسكري لتغيير الحكم شيئا متوقعاً, وأنه سيلقى الدعم من الوحدات».. وخلص فيه إلى أنه: «ظل يتردد أن بعض قيادات الجيش صرَّحت بأنها لن تتمكن من السيطرة والتحكُّم في من هم تحت إمرتها، ومنعهم من المغامرة، طالما أن الأسباب لقيام الانقلابات قائمة».. وأورد التقرير أيضاً مواقف الأحزاب المختلفة، بما فيها الجبهة القومية الإسلامية, ثم آراء المواطنين بصورة شاملة.. وختم مدير الأمن الداخلي ما جاء في التقرير بتعليقٍ وضع فيه قلمه على الجرح النازف، ذاكراً: «من خلال استطلاع آراء المواطنين، اتضح أن الكثيرين، وبسبب المعاناة المعيشية والحياة, أبدوا تعاطفهم مع ”التغيير“، وليس ”الانقلاب“».. ثم أسدى النصح لرئيس الوزراء، الذي لم يستبنه إلا ضُحى الغد: «والبعض الآخر يرى، ولتفادي السلطة لأي مغامرة جديدة, أن تعالِجَ مشاكل البلاد الاقتصادية والمعيشية، وتحارِب الفساد، وعلى أعلى المستويات، وتقديم كل من يثبُت فساده للمحاكمة، وأن تمضى قدماً في مساعي إحلال السلام في الجنوب والغرب».
هذا التقرير، الذي أصبح يُعَدُ من أهم الوثائق التي تجاوزت أحاديث الشفاهة, فيما كان يصل إلى مسامع رئيس الوزراء في شأن الذي كان يجري فوق -وتحت- سطح الواقع السياسي السُوداني, ماذا كان حظه؟! كتب السيد الصادق مُلاحظاته عليه بخط يده، ووجَّهه إلى ”أخي الحبيب“.. ورغماً عن أن الوثيقة المنشورة كشطت الاسم, إلاَّ أن قرائن الأحوال تشيرُ إلى أنه واحدٌ من اثنين، لا ثالث لهما: إما وزير الداخلية نفسه، السيد مُبارَك الفاضل، بحُكم أن إدارة الأمن المذكورة تقع تحت دائرة مسؤولياته, أو رئيس جهاز أمن السُودان، السيد عبدالرحمن فرح، الذي تتكامل مسؤولياته مع الإدارة المعنية, وكلاهما من قادة الحزب العتيد.. بل إن رئيس الوزراء وصف التقرير لأحدهما، بأنه: «كالعادة، مُبتسرٌ من حيث الحقائق والتحليل»!! وتساءل باستخفافٍ مُمعنٌ في السُخرية: «متى يرقى الأمن الداخلي للإحاطة بالحقائق والتحليل الأشمل؟».
تساؤل لم يكن الله وحده -جلَّ شأنه وعلا- يعلمه، كما قال المهدي في ختام تعليقه, فالثابت عندئذٍ أنه هو أيضاً كان يعلمُ إجابته.. والمُوقنون بهذه القدرية -فيما نعلم- يشمِّرون عن سواعد الجد، ليدرأوا الشبهات بالحيطة والحذر, ويَعمَدون إلى السياسات التي تطعم المُسغبين, وتحارب المُفسدين, وتبُثُ الأمن والطمأنينة في نفوس المُتعبين, وتُعِدُّ القوة ورباط الخيل للمستهترين بمصائر الخلق, وبعدئذٍ سيجدون أن الخالق الذي سألوه إلهاماً وإلحافاً أقرب إليهم من حبل الوريد!!
في اليوم التالي لتقرير مُدير الأمن الداخلي, كان ثمة سيناريو يجري في موقع آخر.. فقد أورد سياسي ينتمي أيضاً للحزب الكبير شهادته عنه, ولكن بعد عشر سنوات من وقوع الطامة الكبرى، إذ قال: «في يوم الثلاثاء 27/6/1989، زرتُ الأخ إدريس البنَّا، ممثل حزب الأمة في مجلس رأس الدولة (قيادة جماعية) في مكتبه بالقصر الجمهوري، للتشاورِ معه حول ما كان يتردَّد عن انقلابٍ يوشك أن يقع، فيما رئيس الوزراء لا يحرِّك ساكناً.. اقتحم علينا خلوتنا الأخ أحمد عبدالرحمن محمد، وهو من قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وهو يقول ”قفشتكم يا رجعيين, قاعدين تتآمروا على كيفية الفرار من الانقلاب؟ والله جاييكم.. جاييكم“.. هكذا أكد لنا عن مرئياته حول المتوقع».
غير أن السيد إدريس البنَّا نفسه كان أكثر تحديداً في تحميل رئيس الوزراء -وهو رئيس حزبه أيضاً- المسؤولية، حيث قال في حوارٍ نشر مبكراً, بعد نحو عامين من الانقلاب, في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 7/11/1991: «ذهبتُ إلى المهدي في مكتبه قبل خمسة أيام من وقوع الانقلاب، لأخطره بمعلوماتٍ تؤكد حدوث انقلابٍ وشيك, إلا أن المهدي لم يهتم.. بل استبعد تلك المعلومات». ولعل المُفارقة الغريبة فيما أدلى به من اعتراف, أنه بالرغم من عُضويته في أعلى هرم سيادي في السلطة الديمقراطية, إلا أنه، هروباً من المسؤولية التاريخية أيضاً، جعل من نفسه رسولاً يلقي البيان المُبين على مسامع رئيس الوزراء، دون إقرارٍ بمسؤولية المجلس الخماسي نفسه، فيما يمكن اتخاذه من تدابير، تقطع الطريق على الانقلابيين, علماً بأن ذات المجلس كان قد فاجأ المواطنين السُودانيين, بعد نحو عام ونيف من اختياره, وتحديداً في 25/7/1987، باستلهام آليات النظم الديكتاتورية، وتلبيسها للنظام الديمقراطي، حيث أصدر بياناً أعلن فيه فرض حالة الطوارئ: «تأميناً للجبهة الداخلية في مواجهة أعداء الديمقراطية والوطن».. والمُدهش أن الأعداء المُفترضين والمُتربصين بالوطن، وديمقراطيته, كانوا في واقع الأمر طلاَّباً ومواطنين، قاموا بتظاهرات تطالب أُولِي الأمر برفع أعباء المعيشة المُتصاعدة عن كاهلهم، المُنهك أصلاً ببلايا ورزايا من انتخبوهم لتمثيلهم.
ما أكثر الرواة، والحدث واحد.. فقد تعدَّت أخبار الانقلاب دوائر الخرطوم العاصمة، التي لا تعرف الأسرار، والتي ”نامت نواطيرها عن ثعالبها“, ووصلت إلى بعض الأقاليم، فشاطرتها العلم بها.. ففي مساء الثلاثاء 27/6/1989 أيضاً، كانت نذرها قد وجدت طريقها إلى راعي الحزب الشريك في الائتلاف.. جاء قادماً من مدينة كسلا العميد محمد عثمان كرَّار، حاكم الإقليم الشرقي، إلى الخرطوم، وقصد منزل السيد سيد أحمد الحسين, وزير الخارجية والأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي, ووجد معه أحد كوادر الحزب ”محمد المعتصم حاكم“, وأوضح أن سبب مجيئه تواتر أخبار مؤكدة عن حدوث انقلاب, فاقترح عليه الحسين إبلاغ السيد الميرغني بذلك، فذهب ثلاثتهم إليه، وأطلعه اللواء كرَّار على المعلومات التي من أجلها قطع الفيافي، وترك تصريف شئون الإقليم، وهو يقود سيارته بنفسه.. كان رد الميرغني عليه: «الحديث عن انقلاب مالي البلد.. لكن دا ما حيحصل.. مُجرد إشاعات»!! وكرَّر الأخيرة هذه ثلاث مرات، حتى يبث الطمأنينة في نفوس زائريه, وطلب من اللواء كرَّار العودة صباح اليوم التالي إلى إقليمه، لأن هناك مهام كثيرة في انتظاره!!
ثم جاءت شهادة أخرى ”بعد أن حلب الدهر أَشطرَهُ“، كما تقول الأعراب, وقائلها هو من وردت مسئوليته فيما سبق, ولكنه هنا أراد التحلحل منها، ورميها على كاهل رئيس الوزراء، وصنوِّه الآخر، الذي يحلو له إدارة الشأن السياسي من وراء حجاب.. ففي أول إفادة مقروءة له، بعد عقدٍ ونصف من وقوع الكارثة, قال السيد عبدالرحمن فرح: «كنت مستشاراً، أو وزيراً مركزياً للأمن، وكنت أعلم بالكثير، حتى بهذه الإنقاذ وخلافها, غير أنني كنت مغلول اليد, مبتور اللسان.. ورغم ذلك بلَّغتُ لطرفي الحكم في ذلك الوقت، رئيس الوزراء السيد الصادق المهدى، والآخر السيد محمد عثمان الميرغني يداً بيد, ولا أملك غير التبليغ». ويضيف بما هو أسوأ: «سقط الحكم على يد الإنقاذ, وإن لم تفعل كان سيسبقها عليه آخرون».. وبالرغم من إقراره -أو إن شئت- علمه بأن السُلطة المسؤول عن أمنها قد تزلزلت هيبتها، حتى تبارت فيها الحركات الانقلابية.. وبالرغم من رد فعله حيال الذين كانوا يرصدون اجتماع قيادات الجبهة القومية الإسلامية، وفق ما جرى سرده من قبل, فهو يقول إنه كان ”مبتور اللسان“, ”مغلول اليد“ و”لا يملك غير التبليغ“!! والذي أوصل من خلاله الرسالة إلى المصب، الذي تتجمَّع فيه أسرار الدولة العليا.. ومن عجبٍ، لعله هنا قد روى الرواية أعلاه، ليضاعف مسؤولية رئيس الوزراء، ويستثني نفسه منها.
كانت المعلومات تتدفق، حتى قبل ساعاتٍ من ساعة الصفر.. ففي يوم الخميس 29/6/1989، الساعة الواحدة ظهراً, كان السيد جيمس جرانت، مدير اليونيسيف، على موعدٍ مع رئيس الوزراء.. قبيل ذلك بلحظات قليلة، لاحظ السفير علي حمد إبراهيم، رئيس مكتب التنسيق بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وأحد قيادات حزب الأمَّة, أن ضابطاً برتبة عقيد -سقط اسمه من ذاكرته- يذرع ردهات مجلس الوزراء جيئة وذهاباً, بصورة قلقة، تلفت الانتباه.. فسأله عن غرضه, فقال إنه يريد مقابلة رئيس جهاز الأمن لأمرٍ هام, ثم أفصح له عنه، دون مُداراة: «أنا ضابط ملحق بمؤسسة الزبير رجب, وبناء على معلومات توفَّرت لي، هناك انقلاب سيحدث غداً».. أبدى السفير اهتماماً شديداً برواية الضابط، وأثناء ذلك، دخل إلى المبنى السيد عبدالرحمن فرح، فانتحى بحامل الرواية جانباً، وقضى معه وقتاً ليس بالقصير، غادر بعدها الضابط المبنى، بعد ما أفضى بمكنون صدره.. فسأل السفير السيد فرح، الذي قال له: «المعلومة ما جديدة عليَّ.. الحاجة الماعندي هي ساعة الصفر.. وأنا رئيس جهاز، لا أستطيع أن أعتقل, وإنما لدي سلطة تبليغ مجلس الأمن الوطني». ثم دخل على رئيس الوزراء, ولا يُعرَف إن كان مجيئه لهذه الغاية, أو تداول معه المعلومة؟! وبعده حضر السيد جرانت محمَّلاً بعرضٍ جاذب لرئيس الوزراء، وهو تخصيص الهيئة الأممية لمبلغ 500 مليون دولار للحكومة السُودانية، لتعمير ما دمَّرته الحرب في الجنوب, إن هي مضت في اتجاه تنفيذ مبادرة السلام!! وأيضاً لا يُعرَف إن كانت أخبار الانقلاب قد طرقت آذان المسؤول الأممي، وبناء عليه جاء بذلك العرض المُغري, أم أنها الآلية الوحيدة التي تعرفها الأمم المتحدة في مثل تلك المواقف؟!
ثم جاء التوثيق الأخير -بعد أن سبق السيف العذل- وكان أكثر شمولاً، لأنه أُثير في جمعٍ من المُصابين بتعدُّد مشاربهم السياسية, وقد أمَّن على تفاصيله كل من كان عليه شهوداً.. ففي إحدى حلقات النقاش التي دأب المعتقلون على عقدها داخل سجن كوبر، بعد الانقلاب, بُغية طرد الملل وتبديد السأم الذي يضجر النفوس, صَدَرَ عن السيد الصادق المهدي قولٌ أراد به تعميم المسؤولية، فقال: «كلنا مسئولون عن الانقلاب».. فبادره السيد محمد إبراهيم نُقد بعبارة اعتراضية، قائلاً له: «الحقيقة أنتم لوحدكم المسئولون».. فسأله المهدي قاطباً جبينه، كتعبيرٍ عن حالة الضيق التي اعترته: «كيف؟!».. فقال نُقد: «أبلغناكم به».. فردَّ المهدي: «أبلغتم مَن؟!».. فرد نُقد: «أبلغنا صلاح عبدالسلام (أحد قيادات حزب الأمَّة وكان يشغل منصب وزير شؤون الرئاسة) الذي يجلس بقربك»، مشيراً نحوه بسبابته.. فسأل المهدي الأخير: «صحيح الكلام ده يا صلاح؟!».. فقال صلاح: «نعم»!! ساد صمتٌ عميق، تبَعثرت خلاله نظرات الجالسين، واهتزَّت له جدران السجن العتيق، والمتشققة أصلاً من هول أحداثٍ جسام، عَبَرَت خلالها طوال عقود زمنية.
ذلك غيضٌ من فيض.. ولو شاء المرء حصر كل الشواهد والأدلَّة, لما وسِعَه هذا الكتاب.. ويمكن القول بأن تداعي النظام الديمقراطي, والترتيبات التي كانت تجرى لتنفيذ الانقلاب, كانتا كتاباً مفتوحاً، قرأه معظم السودانيين, أو بحدٍ أدنى غالبية المُتابعين للحراك السياسي. ومن المؤكد أن الروايات السابقة، المثبتة، ليست هي كلُّ -أو جُلُّ- ما وصل لمصبِّ رئيس الوزراء، والآخرين الذين يشاطرونه المسئولية.. ولعلَّ القليل الذي وصل، واستنطق الصخر العصيَّا، كان المهدي قد عالجه -بما جرى سرده- بكثير من اللامبالاة, وهى الوجه الآخر للعجز في الأداء، والفشل في اتخاذ القرار.
غير أن المُفارقة، أنه لا يرى الأمر كذلك, حينما عزا العيب إلى البلاد التي اضطر لإدارة شئونها: «إنني كنت أتمزَّق ما بين 1986-1989 وأنا مضطرٌ لإدارة بلادٍ معجِّزة، وظروفها لا تسمح بمواجهة قَدرها بحزمٍ, فاضطررتُ لتسيير البلاد بالاستجداء، والصلات الطيبة». وبالطبع يعجز أي كائنٍ أن يفسِّر مغزى هذا الاضطرار!! ليس هذا فحسب، فهو يلقي بعجزه على الديمقراطية نفسها.. ففي سؤالٍ استصحبه الصحفيون دوماً في حواراتهم معه، منذ أفول نجم الديمقراطية الثالثة، حول مسئوليته في التفريط الذي أدى إلى سقوطها, يوردُ المهدي -في سياق مبرِّراته غير الواقعية- تناقضاً عجيباً، فيقول: «أما مسألة التفريط في الديمقراطية, فهي مسألة تتلخَّص، وببساطة شديدة، في عجز أي حكومة ديمقراطية في مقاومة الانقلابات العسكرية, ومن الصعوبة بمكان أن تحول، من خلال وسائل قانونية، دون وقوع انقلاب عسكري, وإزاء وجود تآمر من بعض القوى الحزبية غير الملتزمة ديمقراطياً. لقد كان في إمكاننا وقف أي انقلاب عسكري خلال الفترة الماضية».
وبغض النظر عن جدلية أن الديمقراطية تحميها الوسائل القانونية، أو المواثيق الوضعية وحدها, لكن فيما بدا أن الصحفي الذي أجرى الحوار بُهِتَ في تصحيف عبارته الأخيرة، التي ادعى فيها أنه: ”كان بإمكانه وقف الانقلاب“.. فأردف الصحفي متسائلاً: «كيف؟!».. فأجابه المهدي: «من خلال اتخاذ وسائل غير قانونية.. كأن ننشئ مليشيات مسلحة.. كان بالإمكان عمل ذلك, لكن النظام الديمقراطي يفترض مبادئ معينة.. افتراض أن القوى المدنية ملتزمة ديمقراطياً, أي ليست لها مطامح في استلام السلطة عن طريق العنف, وافتراض أن القوى العسكرية منضبطة, فإذا رفضنا هذين الافتراضين، سوف تصبح لدينا قوى ضاربة خارج الجيش, وعمليات استقطاب من داخل الجيش. مشكلتنا الأساسية أننا أطعنا القانون, على الرغم من أن لدينا [50] ألف مسلح ”تحت الطلب“»!! بالرغم من أن المهدي افترض خطأً بأن الخروج على القانون هو السبيلُ الوحيد لتحصين النظم الديمقراطية، من داء الانقلابات العسكرية, لكن لو سأله الصحفي: «أين؟!»، تعليقاً على عبارة ”50 ألف مسلح تحت الطلب“ لما وجد عنده إجابة شافية, وذلك استناداً إلى ما جرى على لسانه يوم أن كان على سُدة الحكم، وقبل ثلاثة أشهرٍ فقط من الانقلاب: «لا وجود للمليشيات في حزب الأمة، فكيان الأنصار قام برفع السلاح ضد نميري, ولكنهم قاموا بتسليم ذلك السلاح للجيش عند عودتهم من الخارج، بعد سقوط نظامه».
هكذا ينسخ رئيس الوزراء أقواله, ويجعلُ لكل مقامٍ مقالاً.. ومرة أخرى ينسى أنه قائل النفي أعلاه، وبمهارة لاعب سيرك متمرِّس، يتلاعب بالأرقام، قال: «نحن باختيارنا لم نقم بعمل عسكري, كرئيس وزراء كنت أستطيع إنشاء جيش فيه عشرون ألفاً من المليشيا من دون صعوبة مادية أو بشرية.. هم يعلمون أننا كأنصار في دمنا تربية جهاديَّة، يمكنها بسهولة أن تتحول إلى طاقة قتالية, لكننا علقناها كي نلعب في المجال السياسي بالقواعد الليبرالية». ويمضي في محورٍ آخر من الحوار، بنفس الحيوية، فيقول: «نحن لدينا إمكانيات بشرية ومادية وعسكرية كافية لأن نقهرهم سبع مرات».. والمُبشَّرون بـ”القهر“ هنا هم الذين اغتصبوا السلطة!! وبالنظر لتاريخ الحوار، سنرى لاحقاً ما الذي حدث، حينما طبَّق المهدى نظريته، و”تمرَّد“ على القانون الذي لم يكن بوسعه أن يتمرَّد عليه وهو في السلطة, وذلك حينما دعا أنصاره ”المنتظرين تحت الطلب“ إلى ”الهجرة“, بغية قهر النظام، لمرة واحدة، وليس سبعاً كما تمنى وأكَّد!!
من جهةٍ ثانية، لم يجد المهدي حرجاً في سرد بعض الوقائع، فيما حدث يومذاك، بطريقة لولبية: «في مارس من عام 1989، زارني السيد أحمد سليمان، وعرض عليَّ أن نقيم نظاماً رئاسياً أقوده ليحكم البلاد، ويحسم مشاكلها، وتدعمه الأمة والجبهة، ويُفرَضُ على الآخرين بالأغلبية النيابية، إن أمكن، وبالقوَّة إن لزم.. رفضتُ ذلك الاقتراح, وأوضحتُ أني مع إدراكي لعيوب الديمقراطية، أرى أن إصلاحها ينبغي أن يكون بالوسائل الديمقراطية, ولكن التسرُّع المعهود، والإعجاب الخفي بالوسائل اللينينة والبعثية العراقية, دفعتهم نحو مغامرة الإنقاذ, فأقاموا نظاماً ألحق بهم كحزب سياسي ذي برنامج فكري، وبالإسلام، أذىً بالغاً». المُفارقة، أن المهدي يُسمِّي ”التآمر“ اقتراحاً, ولا غروَّ إن بلغت الجرأة بأقطاب الجبهة الإسلامية أن يطرحوه مُباشرة على رئيس الوزراء، ولا يحرِّك هو ساكناً!! وكُتِبَ على أهل السودان، أن يطالعوا ذلك في مُذكراته، مقروناً بتفسيراتٍ لن تحرِّك شعرة في رأس أحد, سيَّما وأن النظام ألحق أذىً بالغاً بالسودان والإسلام، فذلك لن يختلف فيه اثنان, ولن تنتطح فيه عنزان.. ولكن، من المسئول؟!
لأسبابٍ غير مفهومة، أسقط المهدي اسم د. حسن الترابي من تلك الزيارة, وكأن أحمد سليمان -الذي جاء بصحبته- قد عرض ذلك ”الاقتراح“ عليه قبل مجيئهما معاً، مؤكداً للترابي بأنه لن يرفضه: «لأن به وَلعاً للرئاسة، بغضِّ النظر عن النظام الذي يستند عليها».. وقد استحسن الترابي ”الفكرة“، رامياً بأثقالها على صاحبها.
بَيْدَ أن هذه الرواية، رغم ما احتشاها من هزال، إلاَّ أن لها تكملة أخرى، لم يشأ المهدي أن يذكرها، لأن فيها طرفاً كان يهمه أمره، يومذاك.. فقد قدِّم له نفس ”الاقتراح“، مرة أخرى، وبذات السيناريو، في أواخر مارس/آذار نفسه من السيدين مُبارَك الفاضل، وزير الداخلية، وأحمد عبدالرحمن محمد، قطب الجبهة الإسلامية.. حضرا إليه معاً، لإقناعه بما تمنَّع عنه من قبل, وكان ردَّه مكرَّراً.. وتلك مثالية، وإن كان البعض لا يسميها كذلك، ويُسبغون عليها النقيض الذي لن يُرضي متوخيها.. لكنها على كلٍ، محمدة تنقصها الشفافية مع المحكومين, وينقصها التدبير، تحسُّباً لما هو قادم!!
وأيضاً يجافي السيد مُبارَك الفاضل الحقيقة، بمكافيليته المعهودة، في تغبيش وقائع التاريخ, ويدَّعي أنه نصح رئيس الوزراء يومذاك، في مذكرة 5/5/2004، أي وثيقة اللواء شرطة صلاح مطر التي تمَّت الإشارة إليها.. وذلك خطلٌ في أحاديث السياسة، فالمسئولية -كما هو معروف- طالته أيضاً.. إلاَّ أنه يجافي الحقيقة مرة أخرى، فيقول: «الذي قطع شعرة معاوية بيني وبين الجبهة الإسلامية، هو من خرج عن الخيار الديمقراطي, لذا اتخذتُ موقفاً حقيقياً، حتى من أصدقائي الشخصيين المنتمين للجبهة». وتلك فرية، ظلَّ يردِّدها منذ وقتٍ مبكر، وأراد بها أن يدحض ما عُرِف عنه، إبان الفترة الديمقراطية، بأنه ”رجل الجبهة الإسلامية في حزب الأمَّة“، وهو الاتهام الذي وجَّهَهُ له المؤلف من قبل، فجاء رده على النحو التالي: «القضية بالنسبة لي قضية مبدأ, وأنا ملتزمٌ لمبادئ حزب الأمَّة، والديمقراطية التعدُّدية, وبالتالي تلقائياً أجد نفسي في مواجهة أي جماعة أو نظامٍ يدعو لمصادرة حقوق المواطنين، وإقامة نظام ديكتاتوري تعسُّفي, وفى إطار هذه المواجهات، أنهيتُ كل علاقاتي الشخصية مع قيادات الجبهة الإسلامية، باعتبار أنهم خونة, وأنا أرى أن العلاقة الشخصية لابد وأن تقوم على الصدق والأمانة، وطالما انعدمت المصداقية والأمانة، بالتالي تسقط كل الاعتبارات الشخصية, ومنذ يوليو 1989 رفضتُ رفضاً تاماً مقابلة أي من قيادات الجبهة الإسلامية، التي اتصلت بي في الخرطوم قبل خروجي إلى طرابلس، وفي لندن، وغيرهما». بالطبع لن يحتاج القارئ لمصباح ”ديوجين“ لاكتشاف الصدق فيما ظلَّ مُبارَك الفاضل يردِّده، دونما اكتراثٍ للواقع، الذي ناقض أي حرف فيما ادعاه, وفي ذلك تفاصيل سنأتي على ذكرها لاحقاً.
مواصلة للمبحث الذي ابتدرنا به هذا الفصل، يمكن القول بأن مسئولية رئيس الوزراء لم تتوقف عند حدود العلم المُسبق بالانقلاب, أو عجزه ولا مُبالاته في اتخاذ التدابير المُمكنة, وإنما في الإسهام الفعلي في الأزمات التي صاحبت النظام الديمقراطي، وهيَّأت المناخ للانقلاب, وذلك في محورين أساسيين:
• سياسياً: ثمة افتراض ردَّده كثير من المراقبين السياسيين، حتى بات في حكم اليقين, وهو التأكيد على أن انقلاب الجبهة الإسلامية تم لقطع الطريق أمام تنفيذ ”اتفاقية السلام“, باعتبار أن مجلس الوزراء كان سيجتمع صباح الجمعة 30/6/1989، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتزويد اللجنة الوزارية للسلام، بما هو مطلوب في اجتماعها المشترك مع الحركة الشعبية يوم 4/7/1989، والذي افترض أيضاً أنه سيُفضي إلى الموافقة على ترتيبات انعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989، كمحطة نهائية لرحلة مرهقة، وضعت لبناتها اتفاقية السلام, المُسمَّاة بـ”اتفاقية الميرغني- قرنق“ في 18/11/1988.
واقع الأمر، إن وضع الوقائع بالطريقة أعلاه، ينطوي على قدر كبير من اختزال ما كان يجري حقيقة في دهاليز صناعة القرار, منذ توقيع الاتفاقية، وحتى لحظة تنفيذ الانقلاب.. فقرائن الأحوال تشير أيضاً إلى أن تلك الصورة المتفائلة, يقابلها، على قدرٍ سواء، احتمالات مواصلة الأمور لجريانها في ذات الحلقة المُفرغة، التي رَدَحَت فيها طوال تسعة أشهر, ولم يرشح عنها شيء ملموس.
في الأصل، فإن انعقاد ”المؤتمر الدستوري“ المذكور كان قد تحدَّد له تاريخ 31/12/1988.. استقال وزراء الحزب الاتحادي قبله بيومين، لأن حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية صوَّتا في الجمعية التأسيسية ضد المُبادرة, وكان علاج رئيس الوزراء لتلك الأزمة، الاستمرار في التحالف مع الجبهة الإسلامية، تحت مظلة ”حكومة الوفاق“, أو بالأحرى ”حكومة الحرب“ كما نُعِتت, وذلك بالرغم من أنها لا تملك من أدواتها نصباً, سوى الصوت الجهير المؤجِّج لنيرانها!! ولم يكن ثمَّة منطق يدعو الطرفين إلى رفض الاتفاق، سوى النزعة الذاتية, التي لم تكترث لأشواق غالبية أهل السُودان للسلام, خشية أن ترتفع أسهم الغريم السياسي.
وبرغم المواقف التي وحَّدت القوى السياسية، والنقابية، والعسكرية فيما تلا من شهور, إلاَّ أن موقف رئيس الوزراء، حيال الاتفاقية، ظلَّ مبهماً ومراوغاً, وأهدر كثيرٌ من الوقت والطاقات، فيما لا طائل من ورائه.
بناء عليه, فالزعم بأن اجتماع مجلس الوزراء ”الطارئ“ ذاك، في صبيحة الجمعة 30/6/1989، كان مُخصَّصاً لتحضير ملف الحكومة الخاص بتنفيذ بنود اتفاقية السلام, أمرٌ فيه نظر, ودوننا في ذلك ما خطَّه بنان رئيس الوزراء نفسه، توثيقاً لتلك الفترة: «كتبتُ إلى رئيس الوزراء المصري، د. عاطف صدقي، بشأن قرارنا الخاص بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, والتي صار إلغاؤها رسمياً تقنيناً لواقع ماثل, وقد ردَّ عليَّ بالموافقة على ذلك، ما دامت هذه هي رغبة السودان, أما البروتوكول السوداني- الليبي الذي وقَّع عليه من الجانب السوداني وزير الدفاع في الفترة الانتقالية، اللواء عثمان عبدالله, فقد استنفد مدَّته, وبهذا أعلَنَت ليبيا، على لسان العقيد أبوبكر يونس، ترحيبِها ودعمها لمساعي السلام السودانية».
أما بشأن تجميد الحدود، فقد مضى رئيس الوزراء في تفسير الماء بعد الجهد بالماء، بقوله: «رأينا أن يكون تفسير التجميد بعد تداول وتقنين ذلك الإجراء كالآتي: 1- توقيع العقوبة على الجرائم الحدية تعزيراً دون الحد وتقنين ذلك الإجراء. 2- يُصدِر رأس الدولة عفواً عاماً على المحكومين بالقطع وذلك على أساس أن العيوب الموجودة في قوانين سبتمبر شبهة تدرأ الحد. 3- الذين عليهم دِيات وظلوا في السجون لمدة طويلة، لأنهم لا يستطيعون دفعها, تدفعُ عنهم الدولة دياتِهم من الزكاة».
إذا ما كان ذلك هو الملف، الذي ستحمله اللجنة الوزارية للقاء نظيرتها في أديس أبابا، يوم السبت 4/7/1989، فذلك أدعى للقول بأنه مرفوضٌ سلفاً من الطرف الآخر, وذلك لعدَّة أسباب، منها إن الاتفاقية تحدَّثت في موجز يسير عن قضايا أوضح من الشمس في رابعة السماء: «1- تجميد الحدود وكافة المواد ذات الصلة في قوانين سبتمبر 1983 إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري.. 2- إلغاء الاتفاقيات العسكرية التي تؤثر على السيادة الوطنية.. 3- رفع حالة الطوارئ.. 4- وقف إطلاق النار».
حتى ذلك الوقت, بل حتى بعد وقوع الكارثة، فالسيد رئيس الوزراء يتحدَّث عن حيثياتٍ وإجراءات في البند الأول، مع أن الاتفاقية تشير إلى ”التجميد“، ولا شيء غيره. ويتحدَّث عن ”إلغاء نظري“ من الأطراف المعنية في الاتفاقات العسكرية, علماً بأن لمثل هذه الاتفاقات طرقاً قانونية معروفة في إبرامها ونقضها, دائماً ما تكون موضَّحة في ذات النصوص.. ولا يحسبُ المرء أن ذلك أمرٌ تغفله دائرة المعارف الخاصة بالسيد رئيس الوزراء, الذي استهان بالأمر، لدرجة اعتماده على حديث طيَّره الهواء لمسؤولين ليس بينهم وبينه حجاب.. وحتى افتراضه في اتفاقية الدفاع المشترك، فقد نسخه السيد مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور, والمقرَّب من دوائر صنع القرار في مصر, في مقالٍ له صادف نشره يوم 30/6/1989, أورَدَ فيه ما قاله الرئيس حسني مبارك لوفد نقابة الصحفيين السودانيين، الذي زار القاهرة تلك الفترة، حول مسألة الإلغاء: «إن مصر ليست غاضبة من طلب السودان بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك, ولكنها غاضبة لأن حكومة الخرطوم طلبت من مصر اتخاذ الخطوة الأولى باتجاه إلغاء الاتفاقية».. ذلك ما يؤكد أن للإلغاء طرقاً معروفة، لم يجتهد فيها رئيس الوزراء، لغرض في نفسه يعزُّ عليه الإفصاح عنه.. والمعالجة ”النظرية“ تنطبق على البروتوكول مع ليبيا، اعتماداً على حديث الشفاهة الذي أدلى به مسؤول للإعلام، ويمكنه التنصُّل منه ببساطة النطق به.
أما السبب الثاني، فقد ذكرَته الحركة الشعبية في بيان، نشر على الملأ يوم 13/6/1989، أي قبل أن يصلها وفد اللجنة الوزارية للسلام بجناحٍ مهيض: «اتفق الطرفان على الخطوات التي اتخذتها الحكومة فيما يتعلق بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر, وأصرَّت الحركة على تأكيد ذلك بقرار من الجمعية التأسيسية. أما محضر الاتفاق العسكري مع ليبيا، فقد اختلفت حوله الآراء, حيث أكَّد وفد اللجنة الوزارية أن الإجراء الذي اتخذ يفي بالمطلوب, بينما رأت الحركة أنه غير كافٍ».
كان ذلك مهرجان المُزايدات الكبير, والمُماحكات التي تدثرت بها الأجندة الخفية, وعليه فالصورة لم تكن وردية بالكامل، كما رآها كثيرٌ من المتفائلين يومذاك. ذلك حتى لو افترض المرء جدلاً أن تنفيذ بنود الاتفاقية تمَّ وفق ما هو مطلوب، بحذافيره, وحملته اللجنة الوزارية، والتقت به الحركة الشعبية, فهل يظنَّن أحدٌ أن ذلك سيقع موقع صدقٍ في قلوب قادة الحركة، ويكون بمثابة فصل الختام في كتاب الحرب والسلام؟! افتراضٌ كان يمكن أن تكون إجابته ميسورة بـ”نعم“، إذا ما أغفل المرء ظروف الحركة يومئذٍ, فقد كانت في أوج تماسكها التنظيمي، وقمة عنفوانها العسكري, حيث كانت الحاميات والمدن في أعالي النيل والاستوائية تتساقط على يدها، كما أوراق الأشجار الذابلة، بصورة وصلت في مُنتهاها إلى إحكام الحصار على مدينة جوبا, وأدركت من خلال عملياتها العسكرية أنها تواجه خصماً مفكَّك الأوصال, بلا عدة سياسية ولا عتاد عسكري، علاوة على إدراكها أيضاً أن الحكومة التي تواجهها غرقت في لججِ الخلافات الائتلافية، بقيادة ربَّان تمرَّس في خلق الأزمات, ولا يهنأ له العيش إلاَّ في كنفها.
إلحاقاً بالسؤال السابق، هل يمكن القول إن القضايا الأربع المحدَّدة، والبسيطة، التي تضمنتها الاتفاقية تمثل طموحاً أعلى بالنسبة للحركة الشعبية آنذاك؟ وبما أنه سؤالٌ افتراضي، فإجابته بالطبع اجتهادية، وإن كانت مُستندة على مُعطيات الواقع في تلك الفترة, والتي تشير إلى النفي, باعتبار أنه لو كان الطموح بتلك السهولة، وذاك اليُسر, لأمكن التوصل إليه, بل ربما إلى أفضل منه مع القوى الوطنية والديمقراطية، عشيَّة سقوط الرئيس المخلوع نِميري العام 1985.. ولربما كان ذلك من شأنه أن يلقي بظلال كثيفة على كثير من القضايا, بدءاً بتغيير موازين القوى في النظام الديمقراطي, مروراً بتغيير خارطة التحالفات, وانتهاءً بقطع الطريق على القوى الظلامية التي باضت فساداً، وأفرخت سِفَاحاً في 30/6/1989.
من نافلة القول، إن الموقف السلبي للحركة الشعبية ساعد في تعميقه، ولأسباب ذاتية بحتة، الدكتور منصور خالد.. فبعد سقوط نظام نميري، جاء إلى الخرطوم منتشياً، وكان يظنُّ أنه سيُحتفى به، بفضل ما جاد به قلمه -في الساعة الخامسة والعشرين- من مقالاتٍ ناقدة للنظام.. وعوضاً عن ذلك، وجد نفسه يقف في مواجهة حملة عاصفة، قام بتحريكها بعض السياسيين والصحفيين, باعتباره أحد الموصومين بلفظ ”السدانة“, فغادر الخرطوم إلى نيروبي، ليستعصم بكهف الحركة الشعبية المنيع, حيث لا يمكن لأحد بعدئذٍ أن يعيدها على مسامعه, لا سيَّما وأن في الحركة نفسها من تنطبقُ عليهم الصفة، ولو بصورة نسبية.
عموماً، ما سبق أسئلة تتدفق, ليس من باب نكئ الجراح, وإنما لتنظيفها.. وليس من زاوية التباكي على الماضي، وإنما للنظر إليه بموضوعية, إن كان حسبُنا وضع الأمور في نصابها الصحيح، حتى يستقيم تحليل المواقف بشفافية.
عوداً على بدء, يحق للبعض الاستغراق، في الصورة الوردية المتفائلة، التي أكدت أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مُبادرة السلام, إلا رئيس الوزراء، الذي كانت أقواله وأفعاله تسبح في وادٍ آخر. وواقع الأمر، أن تأزيم السيد المهدي للواقع السياسي, بدأ مُباشرة عقِب تسلمه لمسئولياته, فكانت أولى خطواته هي تنكره لبرنامجه الانتخابي.. فقد فوجئ الناس بارتفاع بورصة ”قوانين سبتمبر“ في أجندته, وأصبح ثمنها عنده يساوي أضعاف ”ثمن الحبر الذي كتبت به“.. ثم تعثرت خطواته السياسية في عقد التحالفات، وفض الائتلافات، لأسباب لا علاقة لها بنبض الشارع، أو قضاياه الحقيقية, مثل شخصنته لمسائل بعينها مع الحزب الشريك في الحكم، مثل موضوع د. محمد يوسف أبوحريرة، ود. أحمد السيد حمد، والتي أدَّت إلى اهتزاز النظام الديمقراطي بأكمله, في حين اتهم صراحة -حتى من قِبَل أعضاء في حزبه- بالتستر على مُمارسات السيد مُبارَك الفاضل في الفساد, فكان جزاؤه الانتقال من وزارة إلى أخرى، برشاقة الفراشات.. الصناعة, فالتجارة, ثم الداخلية.. وكدأبه دائماً في الهروب إلى الأمام، عندما يقف عاجزاً أمام قضايا من صميم مسئولياته, امتدَّت يد التأزيم إلى خارج الحدود, فتسمَّمت علاقات السودان الخارجية.. فمع مصر، وصلت إلى درجة المُكايدات, مُستذكراً ومُسقطاً دوماً ثورة جدِّه الإمام محمد أحمد المهدي على العلاقة هناك: «قطاع من أهلنا في مصر ممَّن يصرون على رفض فهم الشعب السوداني.. هذا القطاع فشل في فهم أكبر الثورات في القرن الماضي بالسودان، وثورة أكتوبر، وثورة رجب/أبريل». وبادلته مصر ذلك العداء, واجتهدت أجهزتها في البحث عن الكيفية التي توقفُ بها ذلك الصداع, ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تكون تلك الأجهزة على علم بالانقلاب قبل حُدوثه.. ولكن الغريب حقاً، أن ذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات ”الأزلية“ بين البلدين, علاوة على أنه كان أمراً نشازاً في العلاقات بين الدول, وإن تَكرَّر حدوثه في بعض البلدان العربية والأفريقية: «...والمدهش أنه في يوم الانقلاب، كان معي عدد من السودانيين بالمنزل لمعرفة الأحداث, وعرفتُ من المخابرات المصرية، وقبل إذاعة البيان الأول اسم قائد الانقلاب وأعضاء المجلس، وحينما اتصل بي زميلنا ميرغني سليمان سفيرنا بتركيا يستفسر عن الانقلاب، وذكرتُ له الأسماء, أبدى دهشته. وحينما ذهبت لمقابلة اللواء التيجاني آدم الطاهر وإخطاره بما حدث، وأنه أصبح عضواً بمجلس قيادة الثورة, سألني عن بقية الأسماء!!».
تفسير تلك المُلابسات سبق أن أجلاها آخرٌ من قبل, وإن لم يُشِر صراحة إلى مصر لأسباب موضوعية، بالنسبة له، تتعلق بزمان ومكان نشره لها: «كانت تقف سيارة مدنية بلوحة تحمل رقم 5757 أمام سفارة دولة عربية, حيث ذكر تقرير أحد ضباط جهاز أمن السودان -القسم الخارجي- أن جهاز الأمن كان يراقب السفارة منذ فترة طويلة وأنه رفع تقريراً بأن العميد حقوقي أحمد محمود صاحب السيارة يتردد على هذه السفارة, وأنه في هذا اليوم، 29/6/1989، ظلَّ هناك إلى ما بعد الساعة الثانية بعد الظهر ثم عاد مرة أخرى في مساء نفس اليوم, ويرجَّح أنه قام أثناء الزيارتين للسفارة بإطلاع عناصر مسئولة بأن هناك تحركاً وسط الضباط يستهدف الاستيلاء على السلطة دون تحديد الموعد وأن مجموعة الضباط هم من الوطنيين الذين يستهدفون التخلص من حكومة الصادق المهدي فقط وبناء علاقات متوازنة مع مختلف الدول العربية بعيدا عن المحاور». وسواءٌ بدوافع العِلم، أو التنسيق, وبالوقائع التي ورد ذكرها -بلا شك- فإن رئيس الوزراء مسئولٌ بالدرجة الأولى عن هذه المُلابسات، التي أدَّت إلى أن تكون مصر طرفاً في الحدث.
إضافة إلى ذلك، شمل التوتر العلاقات مع دول الخليج، وبخاصَّة المملكة العربية السعودية، والكويت, ولحقت بهِم العراق، إثر انحيازه - بلا مُبرِّر- لإيران، خصمها في حرب الخليج الأولى!! ولم تكن دول الجوار الأفريقي استثناءً, فطال التوتر إثيوبيا, كينيا, وأوغندا.. أما تشاد، فقد انتفخت حكومة حسين حبري، وحاكت صولة الأسد، وهى تطارد معارضيها (قوَّات حسين جاموس الذي منحته الحكومة السودانية اللجوء السياسي)، وأعلنت -من غير أن تخشى في ذلك لومة لائم- توغلها لمسافة 150 كيلومتراً داخل الأراضي السُودانية.
الجديرُ بالمقارنة، في هذا الصدد، أن الدول التي عكرت سياسات رئيس الوزراء صفو العلاقات معها, كانت سبَّاقة في الاعتراف بالانقلاب، قبل أن تعرف هويته؟! ومن المُفارقات، أن القادمين الذين جاءوا على أنقاض حكومة رئيس الوزراء، شاركوه الرذيلة نفسها, وإن اختلفت المشارب!! وبالطبع، انعكس كل ذلك على قضية الحرب والسلام، ويتحمَّل الطرفان بعدئذٍ مسئولية أقلمتها، ثمَّ تدويلها، وتوابع الأمرين.
كانت مُبادرة السلام بمثابة الماء البارد، الذي انهمر على رأس رئيس الوزراء.. وعوضاً عن إيقاظه من سباته العميق, كانت ردود فعله تكريساً للعجز والفشل معاً.. بدأها -كما أشرنا- بالتسويف والمُكابرة, ومن ثمَّ وضع العراقيل أمامها, إزاء تزايُد ضغوط القوى المؤيِّدة لها.. خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية في 14/12/1988، راهناً قبولها ”بتوضيحاتها“، وهى الكلمة الجدلية التي رمى بها في حلبة الصراع, وصرفت الأنظار عن القضية الأساسية, حتى مضى التاريخ الأول المفترض لانعقاد ”المؤتمر الدستوري“ في 31/12/1988، دون سميع أو مجيب.. ومع اتساع دائرة الضغوط -بعد مذكرة القوَّات المسلحة- خاطب رئيس الوزراء الجمعية التأسيسية مرة أخرى في 27/2/1989، حيث قرن أيضاً موافقته بطلب تفويض لتوسيع قاعدة الحكم، والمُضي في تنفيذ سياسات عامة, وأكد أنه في حال عدم توفر التجاوب والسند العسكري والنقابي الذي يروم إليه، بما يمكنه من تحقيق تلك الغاية, فإنه سيتقدَّم باستقالته للجمعية في 5/3/1989!! وعندما جاءته ردود الفعل من ”المثلث الذهبي“ الذي حدَّده, بعدم منحه التفويض الذي طلبه, حبست البلاد والعباد أنفاسها.. فرئيس الوزراء وضع نفسه في موقف لا يُحسد عليه, ولجأ إلى وسيلة غالباً ما يُلَوِّح بها الديكتاتوريون، إما توخياً لشرعية معدومة, أو استدراراً لتعاطف مُرتجى.. ومع ذلك، فحينما نطق بها لأول مرة في تاريخه السياسي, استحسن الكثيرون صواب رأيه, لأنه من جهة أكد لهم عكس ما يشاع عنه، بأنه يحب السلطة حباً جماً.. ومن الجهة الأخرى، فقد كانت الحتمية سلوكٌ طبيعي مفترضٌ في أي سياسي عَجِزَ عن إيجاد الحلول الناجزة لقضايا بلاده المصيرية.
بقدوم التاريخ المذكور، استفتى رئيس الوزراء قلبه، إذ عقد مؤتمراً صحفياً، خيَّب فيه ظن الذين استحسنوا الفكرة, وقال إنه عدل عن الاستقالة، وأورد روايات ألجمت الألسن، وألبست الدهشة ثوباً مزركشاً!! قال إنه كان يتجوَّل في يوم الجمعة مع د. علي حسن تاج الدين، عضو مجلس رأس الدولة, ممثلاً لحزب الأمَّة في العاصمة, وقابل شيوخاً وأطفالاً، وجد منهم دفئاً، وطالبوه بعدم الاستقالة.. وإنه استلم رسالتين، واحدة من رجل دين مسيحي، وأخرى من رجل دين مسلم, يطالبانه فيهما بعدم الاستقالة أيضاً, ويصفانه بالوطني الغيور على بلاده.. من أجل تلك الرجاءات، قال إنه باع نفسه لمشاعر أهل السودان.. ولم ينس أن يؤكد - حتى تكتمل المُعادلة- أنه تلقى تأكيدات من مجلس رأس الدولة بالتزام القوَّات المسلحة بالديمقراطية والشرعية الدستورية, والتزام النقابات والاتحادات بوقف الإضرابات!! لا يسألَنَّ أحدٌ عمَّا كان يمكن أن يجنيه رئيس الوزراء، في حياته السياسية، لو أنه نفَّذ وعده، أو وعيده.. أمَّا ما كان يمكن أن تجنيه البلاد، التي باع نفسه لمشاعر أهلها, فذلك لن يعجز أي مجتهد في رصده، وأدناها ما كان يمكن أن يقال: «جاءت توضيحات الصادق المهدي إضعافاً لحيوية الاتفاقية، وسبباً في إحداث بلبلة وسط الرأي العام, وعاملاً إضافياً في تآكل شعبية الحكومة, فقد كانت الاتفاقية تُرضي طموح الشعب السوداني في ذلك الوقت، وتوفر له أملاً كاد أن يضيع نهائياً بإمكانية تحقيق سلام لدولة افتقدت السلام أزمانا طويلة». وأعلاها، كان يحق لكثيرين أن يقولوا إن استقالة رئيس الوزراء قد غيَّرت التاريخ السياسي للقطر كله, حيث أنه من المؤكد أن الأمور كانت ستتجه نحو شاطئ آخر، أكثر هدوءاً من الشاطئ المُضطرب، الذي سبحت فيه بعدئذٍ لأكثر من عقد ونصف، تحت إبط الجبهة الإسلامية.
تلك التساؤلات، التي أرَّقت البعض، شملت آخرين أعياهم البحث عن السبب أيضاً.. «تساءل الناس عن الحكمة من رفض اتفاقية لا تلزم بأي شيء سوى توفير الظروف الملائمة لعقد المؤتمر الدستوري بمشاركة كل القوى السياسية والنقابية في البلاد, وتساءلوا بشكل خاص عن أسباب رفض الصادق المهدي لاتفاقية هي تتويج لجهود مضنية شارك هو وحزبه في كل مراحلها، بدءاً من كوكادام في مارس 1986 وحتى اتفاقية الميرغني- قرنق في العام 1988؟ وتزامن هذا الموقف مع تصاعد عمليات العنف المسلح في الجنوب واتساع الحرب الأهلية واحتلال حركة قرنق لعدة مواقع ومناطق في أعالي النيل والاستوائية, الأمر الذي أدى لحالة من الإحباط العام وسط قطاعات واسعة من جماهير الشعب امتدت إلى صفوف القوات المسلحة».
آخرون حاولوا سبر غور تلك التساؤلات باجتهادات مقاربة.. «الذين يعرفون تطلعات وطرائق تقييم السيد الصادق المهدي للأشياء, وهذا ما لا ندعيه, يقولون إنه نظر للمبادرة المذكورة بمنظار محض في الشخصانية والذاتية, فقد أرَّقه تمكن (مولانا) الميرغني من تحقيق مثل هذه الخطوة الجبِّارة التي عجز فيها هو, رئيس الوزراء المنتخب ورئيس حزب الأمة، والمنظِّر والفيلسوف والمفكِّر للكثير من قضايا العالم الثالث التي عرفها وخبرها منذ أن تولى رئاسة أول وزارة وهو لم يبلغ الثلاثين بعد, وبرغم كل هذه الخلفية فشل في حل أكبر قضية تتهدَّد حكمه, وفي المقابل يتمكن منافسه الحزبي, الذي لا يتقلد منصباً, من صياغة أول حل محدَّد على درب السلام, وعلى المستوى (المقارن) فإن (مولانا) لم يتتلمذ مثله في أكسفورد, ولا تعرفه السمنارات الدولية في مراكز البحوث المتخصصة والجامعات, خطيباً في منهجية التشخيص الأكاديمي, لما يعرف بـ”حل الصراعات“-”Conflict Resolution“، كل هذا تحليلياً ربما كان مدعاة لاستكثار الإنجاز ومحرِّضاً لإفشاله».
ذلك ما كان يجري على الصعيد السياسي.. أما ما كان يدور في المحور الآخر, فقد كان أشد مرارة, وأكثر إيلاماً, وأفدح أثراً.. شاطر آخرون فيه رئيس الوزراء المسئولية, وأصبحوا مثله، يبحثون في كيفية استرداد ما فرَّطوا فيه بالأمس.
• عسكرياً: كانت الحركة الشعبية قد استثمرت أجواء الخلافات الحادة في الخرطوم, والمُماحكات السياسية التي كان رائدها رئيس الوزراء، بانتصارات عسكرية متتالية.. وبدون استغراق في تفاصيل كثيرة، تلاحقت على المؤسسة العسكرية, نقف على نزر منها، حدثت في ربع الساعة الأخيرة من النظام الديمقراطي.
كانت مذكرة هيئة القيادة، التي سلَّمتها لمجلس رأس الدولة ورئيس الوزراء يوم 20/2/1989، تمثل حداً فاصلاً للمواجهة السياسية والعسكرية, بوقائعها المُعلنة والمُستترة معا.. غير أنه قبل ثلاثة أيام منها، وتحديداً في 17/2/1989، ثمة حدث كان ينبغي أن يسترعي انتباه رئيس الوزراء, ويُحيطه بكثير من الاهتمام، لأنه كان بمثابة المقدِّمة للنتائج.. فقد وضع الفريق عبدالماجد حامد خليل، وزير الدفاع، استقالته بين يديه.. ويُذكر أنها حملت نفس مضامين مذكرة هيئة القيادة، بل تجاوزتها بالإشارة الواضحة لمكامن الداء, وسَمَّت الأشياء بمُسمَّياتها الصحيحة.. ويُذكرُ أيضاً أنها تزامنت مع استقالة كوادر قيادية في حزب الأمَّة، لأسباب اقتربت وتباعدت مع استقالة وزير الدفاع.
أورد الفريق عبدالماجد أربعة أسباب، حملته على الاستقالة, قال فيها ضمناً إنه يرى تحت الرماد وميض نار يوشك أن يكون له ضِرام, وذلك عندما أكد بأن انعكاساتها السالبة لم تكن وبالاً على المؤسَّسة العسكرية فحسب, وإنما على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية: 1- سياسة البلاد الخارجية أدَّت إلى إضعاف قدرة السودان على استقطاب العون العسكري والاقتصادي, وذلك ما انعكس سلباً على القوات المسلحة. 2- تباطؤ الحكومة في التحرك الإيجابي نحو مبادرة السلام. 3- هيمنة الجبهة الإسلامية على مركز القرار، وتوجيهه إلى الوجهة التي تريد، مما أضعف مقدرة الحكومة في التحرك داخلياً وخارجياً. 4- تضييق دائرة المشاركة في الحكم خلق استقطاباً وتمزقاً داخلياً (المشاركة المذكورة كان يتناصفها حزب الأمَّة والجبهة الإسلامية، فيما سُمِّى بحكومة الوفاق، بعد انسلاخ الاتحادي الديمقراطي من الائتلاف مع الأول).
ربما لأن مُغنِّي الحي لا يُطرِب، أو لأن الفريق عبدالماجد عزف ”مارشاً“ عسكرياً لأُذنين أصابهما وقرٌ سياسي، أو لأن رئيس الوزراء استحسن في دواخله تقريع د. الترابي (وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء) للفريق عبدالماجد، قبيل تقديم استقالته في آخر اجتماع حضره لمجلس الوزراء، أو ربما لكل هذه الأسباب مجتمعة, وافق رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع بسرعة من كان يتمنى حدوثها, دون أن يُكِر البصر مرتين في الأسباب الموضوعية التي أوردها.. وأقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها قرعت ناقوس الخطر بعنف, قبل وقوع الكارثة.
كان رئيس الوزراء يعلم تماماً تلك الأسباب, ويعلم تفاصيل أخرى لم يشأ الفريق عبدالماجد الخوض فيها, لا سيَّما ما حاق به شخصياً في التقريع المذكور في اجتماع مجلس الوزراء.. ففي تلك الجلسة، تحدَّث وزير الدفاع بإسهاب حول ضرورة السلام، بعد أن شرح الأوضاع العسكرية المتدهورة، لمؤسَّسة يتحمَّل مسئولية قيادتها, فتصدَّى له د. الترابي بتهكمٍ لاذع، وقال إنه كان آخر ما يتوقَّع أن يتحدَّث وزير الدفاع عن السلام.. وأضاف بأنه إذا كان وزير الدفاع يتحدث عن السلام, فعن ماذا يتحدث وزير السلام؟!
لم يجد المهدي غضاضة في أن يُسَطِّر تلك الخطيئة في مذكراته لاحقاً، بعد أن أصبحت مجرَّد ذكرى في أرشيف الحكم الضائع، فقال: «كان وزير الدفاع عبدالماجد حامد خليل يشعر بالآثار السلبية لبروز الجبهة الإسلامية, ويحاول موازنة الموقف، بكثرة الحديث عن السلام وضرورته، والتزام الحكومة به, فتصدَّى له بعض وزراء الجبهة الإسلامية في الحكومة، وعلى رأسهم د. حسن الترابي, وأخذوا عليه تكرار حديثه عن عمله, وأنه لا يترك مهمة السلام للآخرين, وتناول إعلام الجبهة ”غير المهذب“ الخط، وفتح تهجماته على وزير الدفاع».
بالرغم من أن لا شيء يمنع وزير الدفاع من تكرار حديثه عن السلام, بغضِّ النظر عن الظروف السيئة للمؤسَّسة العسكرية, إلا أن المهدي لا يجد حرجاً في التأكيد على أن الوزير -وحده- هو الذي استشعر تلك الآثار السلبية.. كما أنه لم يقل ماذا كان رد فعله وقتئذٍ, خاصة وأن الظروف تحتم عليه نصرة وزير الدفاع، ظالماً أو مظلوماً.. وصمته في الحالين، يؤكد ما ذكرنا، بأنه استحسن التقريع المذكور في دواخله!!
واقعُ الأمر, لا رئيس الوزراء، ولا نائبه -وزير الخارجية- ولا أي من حاضري الاجتماع، كان بمقدوره أن يشكِّك في صدقية وزير الدفاع، في حديثه المُتكرر عن السلام, بدليل أن الرجل تخلَّص من أي مشاعر إنسانية سالبة, وغَلَّب حسَّه الوطني، والمهني، في لحظة تاريخية حرجة, وذلك إثر نجاته من كارثة مُحققة, بعد يومٍ واحد من توقيع اتفاقية السلام, أي في 17/11/1988.. «كان الفريق عبدالماجد في زيارة تفقدية لمدينة واو، وبصحبته القائد العام للقوات المسلحة، ووفد عسكري كبير, عندما أصاب صاروخ سام 7 المضاد للطائرات - أطلقه أحد مقاتلي الحركة الشعبية- طائرة الوفد، عند اقترابها من المطار. كادت أن تسقط الطائرة، لولا براعة وحنكة قائدها، العميد طيار عامر الزين». وعند عودته إلى مطار الخرطوم، تحدَّث الفريق عبدالماجد للصحفيين، وأورد تعليقاً حصيفاً من وزير دفاعٍ يتعرَّض لمثل ذلك الحادث، فقال: «إن الحادث لا يشكل عائقاً أمام عملية السلام، أو إجهاضاً لمساعيها, والمؤسسة العسكرية لا زالت عند موقفها، من أن الحرب ليست هي الوسيلة التي تحقق السلام, بل إن الحل السلمي ما زال خيار المؤسسة العسكرية لحل مشكلة الحرب في الجنوب».
بعد سنواتٍ من الحدث، أضفى صحفي أبعاداً شخصية عليه، باعتبار مواقف الفريق عبدالماجد الاعتراضية على منحة التفرغ التي طلبها د. جون قرنق، لتحضير درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأمريكية, عندما كان الأول نائباً لرئيس هيئة الأركان للعمليات, والثاني ضابطاً في القوَّات المسلحة، إثر انضمامه لها بعد اتفاقية أديس أبابا, وهو افتراضٌ يصعب التحقق منه, مثلما يصعُب التحقق من آخر ناقضه في الرؤية.. «كان من بين هؤلاء الدكتور جون قرنق، الذي أثنى على اختيار عبدالماجد، ليس فقط وفاءً لضابطٍ كبير، تولاه بالرعاية عندما عمل تحت إمرته, وإنما تقديراً لقدراته المهنية، وحسه السليم في تقدير المواقف».
أياً كان التأويل، سلباً أم إيجاباً, فالحركة الشعبية نفت وقتها تورُّطها في الحادث, لكن قرائن الأحوال تؤكد بأنها الجهة التي أطلقت الصاروخ.. لربما أن الذي صوَّبه لم تصله أنباء التوقيع على الاتفاقية.. أو لربما أن بنود الاتفاق ما زالت حبراً على ورق، ولم تدخل حيِّز التنفيذ بعد, والمتصارعون يخوضون حرباً - شأنها شأن كل الحروب- لا أخلاق فيها.. غير أن المهم أن وزير الدفاع، بردِّه المذكور، حاول أن يمنحها تلك الصفة المستحيلة.
استناداً على كل هذه الوقائع، لم يكن من اللائق سياسياً، أو أخلاقياً، أن يمر رئيس الوزراء على استقالة وزير الدفاع مرور الكرام, ناهيك عن أنه ليس وحده الذي استشعر التوجهات الخطيرة للجبهة الإسلامية, سيَّما وأن العمل الجاد في اتجاه معالجة أسبابها، كان كفيلاً بتغيير المسار السياسي للقطر كله.
ليس هذا فحسب, ففي إطار رصدنا لتداعيات الأحداث, ثمة اجتماعان هامان كان رئيس الوزراء قاسمهما المشترك, وهما بالضرورة يجسِّدان الكيفية التي تعامل بها إزاء الأوضاع، على الصعيد العسكري, وهما بالضرورة أيضاً كانا نتاج استقالة وزير الدفاع، ومن بعده مذكرة هيئة القيادة.
كان الأول بعد سقوط عدة حاميات في الجنوب, آخرها ”ليريا“ في يناير/كانون الثاني 1989, حيث اجتمع السيد الصادق المهدي بهيئة القيادة, ممثلة في وزير الدفاع والقائد العام، ورئيس هيئة الأركان، ومدير العمليات، ومدير الاستخبارات، ونواب هيئة الأركان, وذلك لأن «تقريرها الذي رفعته له اعتبره سطحياً».. ولأن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم.. انتقدهم رئيس الوزراء انتقاداً شديداً, وألحق نقده بنصائح عسكرية, سلسلها بطريقته المعهودة, غير عابئ بالأوسمة والنياشين التي رصَّعت صدورهم، وقال لهم: - هناك انهيارٌ في المستوى القيادي الميداني، في كثير من المواقع, والدليل على ذلك ما حدث في كبويتا، وليريا، ولواء الردع، والكتيبة 118, هذا الانهيار جعل المعدات الموجودة لا تستعمل بكفاءة, بل جعلها مصدراً لتسليح العدو. - هناك هبوط مريع في الروح المعنوية, فبعد أن كان مجرَّد ظهور قواتنا يُرعِب العدو, انعكست الآية، وصار ظهور العدو يرعبها. - إن خطتنا القتالية قائمة على الدفاع وحده, فالعدو هو الذي يختار متى وكيف وأين يهاجم، ونحن لا نهاجم معسكراته, ولا خطوط إمداداته، ولا نهاجمه من خلفه, ولا نبادر بشيء، بل نترك زمام المبادرة له، وهذا يُلحِق بنا الهزائم. - إن طبيعة القتال الذي نواجهه تقتضي تجنيد عناصر فدائية، تدعم القوات المسلحة. - إن نظام مايو استغلَّ القوَّات المسلحة، واستخدمها لأغراضه السياسية، مستبيحاً كل قدراتها.
ثم تحدَّث عن تدني الأداء العسكري الذي سمح ”للعدو“ بإيقاف العمل في قناة جونقلي، وفى استخراج البترول، ووقف الملاحة بين الشمال والجنوب.. وكذلك تحدَّث عن التسليح شرقاً وغرباً، والعلاقة مع المعسكرين، والدعم والمساعدات, وخلص إلى أنه: «في هذا المناخ، توالت أنباء التردي العسكري في شرق الاستوائية, وأخيراً حامية ليريا، ذات الموقع الحصين والمحاط بالجبال.. إن المسألة لم تعد مسألة معدات، بل مسألة انهيار في القيادة الميدانية وفي الروح المعنوية».
ما أسهل الحديث عن الحرب من على الكراسي الوثيرة.. وما أصعبُ الحديث عن السلام من قلب ساحات المعارك.. خطبة عصماء كان يمكن أن تجد طريقها إلى أكبر الأكاديميات العسكرية, ولهذا صمت حيالها العسكريون المُحترفون، بعد أن ألقى بهم رئيس الوزراء مكتوفي الأيدي في اليم, وقال لهم إيَّاكم أن تبتلوا بالماء.. والأدهى أنهم يعلمون أن واقع الحرب، الذي أشبعه رئيس الوزراء تنظيراً، عَجِزَت في مثل ساحاته دولٌ تملك ما هو أكثر من العدة والعتاد.. ويعلمون أيضاً أن تقريرهم ”السطحي“ الذي رفعوه له, لا يحتاج لكل ذلك العناء، لأنه ببساطة تلخَّص في موبقاتٍ ثلاث: «تفرُّق الجبهة الداخلية, الإعلام السلبي, وضعف الإمكانات العسكرية».
لكن، وللتوثيق، ما الذي حدث يومذاك في ”ليريا“، التي خصَّها رئيس الوزراء بالاسم، والوصف الإستراتيجي؟!
حاولت هيئة القيادة بخطة عجولة استعادة مدينة توريت، بعد سقوطها في يد الحركة الشعبية, فأعدَّت لواء كاملاً، سُمِّي بـ”قوات الردع“ تسَّلم قيادته اللواء حسن محمد حسن علاَّم من مقر القيادة بمدينة جوبا: «فدفع بثلاث كتائب، كل منها في اتجاه، نحو المدينة المحاصرة، لتلتقي في حامية ”ليريا“. وفي منتصف المسافة بين القيادة والمدينة, تعثرت إحدى هذه الكتائب، نتيجة مكمنٍ أعدَّته قوات الحركة الشعبية, فتعثرت القوة بأكملها، وتبعثرت, وأراد بعضها العودة إلى جوبا, الأمر الذي لم يرُق لهيئة القيادة في الخرطوم, فأبرقت رئاستها في جوبا بعدم السماح لأيٍ من أفراد القوة المسحوبة بدخول المدينة, لحين وصول الفريق عبدالرحمن سعيد، نائب رئيس هيئة الأركان, لمعاينة الموقف ميدانياً، واتخاذ قرار الخطوة التالية, والذي كان قراره حينها التأكيد على عدم الدخول، لأسباب معنوية.. ثم عقد مبعوث هيئة القيادة لقاءً مفتوحاً مع ضباط وجنود كتيبة الردع، قال لهم فيه: إن مثل هذا التصرف يمثل هروباً من الميدان، لا يجوز وشرف الجندية, وكل ما جُبلت عليه القوات المسلحة من استبسالٍ وإقدام أمام العدو.. لقد كان حديث نائب رئيس هيئة الأركان لجنوده صارماً وعنيفاً, وكانت المفاجأة عندما أورد كلمة ”خوف“ في خطبته، متهماً رجاله بهذه الصفة المنغِصة، والتي تكتسب لدى الجندي ذات الدرجة في التشكيك في فحولة الرجل عند المدنيين.. انبرى له جنديٌ من آخر الصفوف، متقدماً بسلاحه إلى أن بلغه.. وحينما وقف في مواجهة الصفوف، حيَّا الجندي قائده, ثم أبدى اعتراضه على رميه بتلك الصفة الذميمة, وطفق يحكي: يا سعادتك، أنحنا رجال، وما فينا واحد بخاف الموت, ولو كنا بنخاف الموت، ما كنا من الأول دخلنا الجيش، وشِلنا السلاح.. إحنا يا سعادتك ما ناقصانا الرجالة, لكن ناقصنا كل شيء ثاني! ناقصانا التعيينات (الغذاء) وناقصنا اللبس وناقصنا السلاح.. وقد صَدَقَ الرجل الذي كان حافي القدمين، وعليه ”خرق“ عسكرية بالية, وهو في مقصده البسيط، كان يلومُ الدولة، في عجزها عن توفير الأساسيات لمن تناط بهم مهمة حماية ترابها، والموتُ بالوكالة عن الآخرين.. وبدون تردُّد أو مقدمات، أشهد الجندي الجمع الماثل إن شجاعة اتخاذ قرار الموت, حتى لو كان في حماقة تنفيذ الإعدام على النفس، لا يهابه رجال تلك الكتيبة.. أفرغ الجندي المجهول خزينة سلاحه على رأسه عياناً أمام قائده، وعلى مرأى من زملائه، وسقط ميتاً».
عاد الفريق عبدالرحمن سعيد أدراجه إلى مقر هيئة القيادة في الخرطوم, وأبلغها بمذكرة تحوي مُجمل الأوضاع، بما في ذلك تفاصيل ميلودراما الجندي المجهول, الذي وُورِيَ الثرى في ذات الموقع الذي شهد ملحمته الشخصية, ووُرِيَت معه قصَّته بكل أبعادها، الإنسانية والمأساوية.. قصة لو حدثت في قطر يحترم ساسته إرادة أبنائه, لاستوجبت في حدِّها الأدنى استقالة عامودية، تبدأ من رأس الهرم في السلطة, مروراً بالجهاز التنفيذي, وانتهاءً بهيئة القيادة العسكرية.. وأما في حدها الأعلى، فذلك ما لا يخضع لاجتهادات بحسب المُثل والأخلاقيات في العمل العام.. لكن المُفارقة، أن شاهد المأساة, وقارئيها في التقارير, وسامعيها من على البعد, طَفِقوا جميعاً يبحثون عن دور جديد في سلطة قادمة.
كانت رواية الجندي قد تعدَّت أروقة هيئة القيادة, واستقرت في أجهزة الدولة العليا.. ولم يكن رئيس الوزراء استثناء.. ذلك هو ما حدا بهيئة القيادة طلب اجتماع مع مجلس الدفاع الوطني, للتفاكر فيما آل إليه الوضع من بؤس وتردٍ, وقد سبق لها -أي هيئة القيادة- طَرق أبواب السلطة التنفيذية، بمذكرات متتالية، حتى كلَّ متنها.
الاجتماع المذكور تمَّ في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 1989, وحضره من مجلس الدفاع الوطني رئيس الوزراء الصادق المهدي, د. حسن الترابي وزير الخارجية, إلى جانب وزراء المالية والداخلية والأمن الوطني.. ومن جانب هيئة القيادة، الفريق عبدالماجد حامد خليل وزير الدفاع, الفريق فتحي أحمد علي القائد العام, الفريق مهدي بابو نِمِر رئيس هيئة الأركان, ونوَّابه: الفريق عبدالرحمن سعيد ”عمليات“, الفريق تاور السنوسي ”إمداد“، والفريق محمد زين العابدين ”إدارة“.
في بداية الاجتماع، قرأ الفريق فتحي أحمد علي بعض نصوص المذكرات التي سبق وأن أرسلتها هيئة القيادة, وتحدَّث الفريق عبدالماجد خليل مُستعرضاً الأوضاع التي وصلت إليها المُؤسسة العسكرية, مُؤكداً في ختامها على تعامل السلطة التنفيذية السلبي مع تلك المذكرات. إلاَّ أن رئيس الوزراء، غضَّ الطرف في تعقيبه عن تلك الملاحظات، وحوَّل حديثه إلى تقصير القوات المُسلحة في القيام بواجبها، بنفس التسلسل سابق الذكر.. أما د. الترابي، فقد التقط القفاز ليصُب اللوم أيضاً على هيئة القيادة، في تقصيرها بعدم متابعة تلك المُذكرات، لأن: «مصيرها دائما ما يكون في الأدراج». فأصبح الحديث بينه ووزير الدفاع سجالاً, لاسيَّما أنه سبق أن أنحى عليه باللائمة، في تكراره الكلام عن السلام وهو وزير دفاع, وفق ما ذكرنا آنفاً. وقبل أن ينفض الاجتماع، طلب الفريق زين العابدين السماح له بدقائق معدودات, فتحدَّث في نقاط ثلاث, مؤكداً على أن المعنويات العالية للقوَّات المسلحة تعتمد على تماسك الجبهة الداخلية, وطالب بجهود دبلوماسية لقطع الإمدادات عن الحركة الشعبية، والتي تتلقاها من دول الجوار, وختم بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم التي تعيشها البلاد.
لأن ما قيل في الاجتماع تبخَّر في الهواء, وما كتب في المُذكرات كان مصيره الأدراج, خرجت هيئة القيادة بقناعة مفادها أن السُلطة التنفيذية عاجزة تماماً عن تلبية متطلبات المؤسسة العسكرية.. أما على الصعيد السياسي، المرتبط بتماسك الجبهة الداخلية, فقد تفرَّقت أحزابه أيدي سبأ.. بين راغب، ومتمنِّع، ومعارض لاتفاقية السلام.. والمدهش أن رئيس الوزراء كان قاسماً مشتركاً أعظم في هذا الثالوث المتناقض.
بعد ذلك الاجتماع بأيامٍ قلائل، رأى وزير الدفاع أن استقالته أمرٌ لا مناص منه.. وبعدها بثلاثة أيام، دعا القائد العام كل قيادات القوَّات المسلحة من كافة الوحدات للتشاور, وذلك ما أسفرت عنه المذكرة الشهيرة. ورغم أن الزيارات الليلية تفزعُ السياسيين, خاصة في السودان، الذي كثرت فيه الانقلابات العسكرية, لم ينتظر القائد العام صباح اليوم التالي, فحمل المذكِّرة، وبصُحبته رئيس هيئة الأركان للعمليات الفريق مهدي بابو نِمِر، وأحد نوابه, وسلموها لرئيس مجلس رأس الدولة أحمد الميرغني, ومن ثمَّ إلى السيد الصادق المهدي في الثانية عشرة منتصف الليل.
بعد يومين من استلامها، أي في يوم 22/2/1989، تحسَّس رئيس الوزراء قلمه, وردَّ على المذكرة بمذكرة مطوَّلة, تحدث فيها بتفصيلات عن واقع ”فانتازي“, وكان لافتاً توقفه في بندين متصلين بالتداعيات اللاحقة, فالبند السابع عشر من المذكرة، جاء فيه: «إننا جميعاً، قيادة وقاعدة، منتشرين في كل بقاع السودان, يجب أن نؤكد بوضوح لا لبس فيه أننا مع خيار الشعب السوداني الأصيل في الحفاظ على الديمقراطية, كما أكدنا ذلك في السادس من أبريل, وإننا نرفض كل أنواع الديكتاتورية, وسنظل أوفياء لواجبنا المقدَّس في حفظ وصون سيادة الوطن».. ردَّ رئيس الوزراء على ذلك بقوله: «هذا التزامٌ إيجابي في حد ذاته, كذلك لا بديل له، فالانقلاب العسكري ممكنٌ وسهل, الثورة عليه ممكنة وحدثت, وعلينا أن نجنِّب بلادنا هذه الدوامة».. ثم البند الآخر الذي جاء في ختام المذكرة، ورمى بتاريخٍ قاطع: «نرفع لكم هذه المذكرة النابعة من إجماع القوات المسلحة لاتخاذ القرارات اللازمة في ظرف أسبوع من اليوم».. وردَّ عليها المهدي: «هذه نهاية غير موفقة، لأنها تشبِه الإنذار، وتفتح باب ملابسات, فالذين يريدون إحداث انقلاب عسكري سيجدون منها مدخلاً».
بعد أن ردَّ منفرداً، رأى المهدي بعدئذٍ ضرورة إشراك طاقم مجلس وزرائه، الذي قوامه قارعو طبول الحرب, فتضامنوا معه بردٍ في 25/2/1989.. ومع اقتراب العد التنازلي لمُهلة الأسبوع، خاطب المهدي الجمعية التأسيسية في 27/2/1989, وطَلَب إمهالاً حتى الخامس من مارس/آذار, وقرنه بطلب تفويض من الجيش, والتزامٌ بعدم اللجوء لانقلاب عسكري، حتى يُباشر تنفيذ المطلوب في المُذكرة.. كذلك طلب من النقابات الكف عن الإضرابات عن العمل، والاتجاه للإنتاج.. وكما ذكرنا من قبل، قرن عدم تنفيذ هذه الطلبات بتقديم استقالته في اليوم المُحدَّد.
أجهضت هيئة القيادة توقعاته في اليوم التالي مُباشرة، وأعلنت في بيان لها أنها: «لا تفوِّض مطلقاً صلاحياتها ومسؤولياتها المنصوص عليها في المادة [15] من دستور السودان الانتقالي».. وعلى حذوها سارت القطاعات المهنية الأخرى, فوضعوا رئيس الوزراء في محك صعب, تحَلحَلَ منه بالرواية التي ذكرنا, والتي لم تخطر على بال بشر!!
واقع الأمر، أن هيئة القيادة نفسها تراخَت في فترة الأسبوع الذي حدَّدته كإنذار, بدليل مُضي أكثر من شهر حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 26/3/1989.. والواقع أن التراخي انعكس على رئيس الوزراء برداً وسلاماً, ولربما تواترت إليه أنباء ”القسم الغموص“، فزادت من اطمئنانه, ولم ينس أن يُسمِّي كل ذلك ”تمريناً ديمقراطياً“.. مثلما أبدى قياديٌ آخر ارتياحه بالتقليل من شأن الإنذار, إذ نفى السيد مُبارَك الفاضل وزير الداخلية: «أن يكون لإنذار الجيش أي مدلولات، سوى الحصول على رد, بدليل أن الإنذار انتهى ولم يحدث شيء».
ذلك ما كان من أمر القوَّات المُسلحة عشية دخول البلاد في متاهتها الكبرى.. وتلك بعض ردود فعل رئيس الوزراء إزاء التطورات التي كانت تمورُ بداخلها.. ومن المُفارقات، أنه بعد أن غادر كرسي السلطة، وركن إلى حالات التأمل التي يهواها، أصرَّ في تقييمه لتلك الأوضاع على ما لا رأته عين, أو سمعت به أذن, أو حسَّه مواطنٌ في بلد الثلاثين مليون نسمة: «حققتُ للبلاد أنا وزملائي تمويلاً تنموياً في حدود [3] مليارات من الدولارات, ولسد العجز السنوي والمعدات العسكرية تمويلاً بلغ في السنوات الثلاث [4] مليارات من الدولارات, أنا لستُ فخوراً بالحصول على هذه المليارات السبعة, وما مولتُ من تنمية وبترول وسلع تموينيه، واستهلاكية، ومعدات, وكنتُ أعتبرها مرحلة تنتهي بقيام الانتخابات العامة المتوقعة في أبريل 1990، ليواجه أهل السودان قَدرهم، وكان برنامجنا للانتخابات سيكون في هذا الاتجاه». وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.. فمن المؤكد أن رئيس الوزراء قد خلط بين التمنيات والواقع, الذي لم يشهد ولو قدراً ضئيلاً من تلك الإنجازات.. فعلاَّّم الانقلاب إن كان ذلك حقيقة؟! ولماذا يقف مواطن أترفته هذه الإنجازات موقفاً محايداً من الانقلاب بعد حدوثه؟!
من جهة ثانية، يبقى اعتراف رئيس الوزراء بتأزيم فترة حكمه أمراً عصياً، رغم تمدد السنين، وتداخل الأحداث.. كذلك يصعب الطلب منه توجيه ذات النقد لنفسه، مثلما وجَّهه لهيئة قيادة القوَّات المسلحة, خاصة أنه تقلَّد، إلى جانب رئاسة الوزارة, منصب وزير الدفاع لعامين من أصل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر, هي فترة حكمه في الفترة الديمقراطية الثالثة, والتي شكَّل فيها خَمس حكومات، رأسها جميعها دون كللٍ أو ملل, وبهمَّة مَن ترجَّحت إنجازاته على إخفاقاته.
غير أن المُتابع لمسيرة المؤسَّسة العسكرية نفسها، منذ سيل المذكرة الذي جرى من عَلٍ, لا يستطيع أن يتغافل عن مسئوليتها فيما حدث بعدئذٍ.. فهيئة القيادة رمت بتهديدٍ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فتقاصر فعلها عن قولها.. ومذكرتها، حتى لو حَسُنَت النوايا حولها كآلية ضغط، إلا أنها تحوَّلت إلى خطأ قاتل، تَجرَّعته قبل الآخرين.. فهي، وفق تقدير أحد منسوبيها: «هيئة القيادة جهَّزت المسرح تماماً لقيام حركة انقلابية بأي مجموعة منظَّمة, إن لم يكن باسم القائد العام كما حدث فعلاً, فقد خلقت لهم المبرِّرات والأسانيد التي جاءت في المذكرة». وكان لافتاً في أكثر من فقرة، تأكيد الدور المُناط بالقوات المسلحة، بما في ذلك حماية النظام الديمقراطي, لكنها في واقع الأمر: «وضعت الجمرة على أنف النظام الديمقراطي, ولم تفعل سوى تجهيز المسرح لانقلابٍ عسكري, قام بتسديد أولى لطماته إلى كل من ساهم، أو كتب، أو شاركَ في إعداد المذكرة». والحقيقة ليسوا كلهم, فبعضُ الذين تآمروا على النظام الديمقراطي، كانوا حضوراً, وآخرون مِمَّن غيَّروا ولاءاتهم، وانغمسوا في سلطة الإنقاذ، كانوا حضوراً أيضاً. لم يكن كل الذين شاركوا في عزف ذلك اللحن الجنائزي للنظام الديمقراطي، من المؤمنين قولاً وفعلاً بمنطوق المادة [15] من الدستور الانتقالي لعام 1985, والتي تمَّ الاستشهاد بها في صدر المذكرة.
القائد العام، الفريق أول فتحي أحمد علي -رحمه الله- حتى بعد أن استنسرت بأرضه البغاث, عزَّ عليه الاعتراف بحُدود مسئوليته.. فردَّاً على سؤالٍ إن كان يشعر بالتقصير، أو المسؤولية، لأنه لم يكتشف تحرُّكات الانقلابيين، وهم ضباط تحت إمرته، قال: «أنا لا أشعر بالتقصير إطلاقاً»!! رغماً عن أنه من المعروف، لدى القاصي والداني، أن الاختراق الحقيقي للقوَّات المُسلحة من قِبَلِ الجبهة الإسلامية، انطلق من حصنه الأمين, بعد أن جنَّدت مُدير مكتبه، ”العقيد بحري سيِّد الحُسيني عبدالكريم“ لصالحها, فأمدَّها بكل حركات وسكنات المؤسَّسة العسكريَّة، التي كانت تصبُّ في مكتب القائد العام.. وقد ركن الفريق فتحي، بعد وقوع الكارثة، إلى تفسير ذلك بمثالية -عُرِفَت عنه- وكانت أقرب إلى ”ندم الكسعي“, وإن صَعُبَ عليه الإفصاح عنه, فكتب يقول عن مدير مكتبه: «مَثلٌ للخيانة والغدر بشرف المهنة، وقسم الولاء للوطن، ولقائده.. لقد باع الاثنين بعد مذكرة القوات المسلحة بمبلغ [3] ملايين جنيه.. لقد نسَّق مع المتآمرين، وأفشى أسرار القيادة، وتحركاتها، وساعد في خطة الخداع على باقي القيادات.. رجلٌ ضرب أمته، وخان أمانتها، وأذلها ببيع ضميره وشرفه وقسمه العسكري.. فهل يُرجى منه أي خير لوطنه وشعبه وجيشه؟! إن الخيانة قديمة قِدَم التاريخ، وبراعة الماكرين والمتآمرين تفوت ولو إلى حين, على الأذكياء».
لأن التاريخ تسلسلٌ لا فجوات فيه, تلاحقت لعنة المذكرة - كما سنبيِّن لاحقاً- على القائد العام، وهو يخوض غمار العمل المُعارض، في تجربة القيادة الشرعية, فلدغ من ذات الجحر للمرة الثانية!! وإن كانت المسؤولية التاريخية قد أناخت بكلكلها يومذاك على القائد العام, إلا أنها شملت كل أعضاء هيئة القيادة تالياً, الذين ازدردوا كلمات المذكرة حرفاً حرفا, وناموا ملء جفونهم عن شواردها، حتى لحظة إنفاذ الانقلاب.. ويضاعفُ من حجم مسؤولياتهم، أن بعضهم كان بمقدوره أن يفعل شيئاً مضاداً يُربِكُ به - على الأقل- خطة الانقلابيين, مثل رئيس هيئة الأركان مهدي بابو نِمِر، الذي عيَّنته الإنقاذ وزيراً للصحة لبعض الوقت, وكان قد أُعتقل من منزله في وقت متأخر من صبيحة يوم الجمعة, بعد أن ذاعَ خبر الانقلاب، وعمَّ العاصمة والقرى، والعالم الخارجي.. فقد ثبت أنه كان بمقدوره -في إطار خطط الإرباك- تحريك بعض الوحدات العسكرية, خاصة تلك التي تقع في منطقة أمدرمان، مقر سكنه, والتي لم تكن ضمن خطة الانقلابيين بالكامل!! ولا يدري المرء إن كان قد استذكر ساعة اعتقاله قولاً مأثوراً، نطق به قبل أقل من أسبوع من الانقلاب, وذلك حينما انفعل في لقاءٍ تنويري بمنطقة الخرطوم بحري العسكرية، وهو يشرح ملابسات الانقلاب ”المايوي“، فقال: «مافي واحد يقدر يعمل انقلاب ونِحنا -أي هيئة القيادة- موجودين». ثم مدير الاستخبارات العسكرية، اللواء صلاح مصطفى, والذي برع قبل أسبوع أيضاً في متابعة سيناريو ذلك الانقلاب الوهمي, وعجز جهازه عن توفير دليل يعتقل بموجبه أصحاب الانقلاب الحقيقي!! أما بقية العِقد النضيد، من أعضاء هيئة القيادة، فلم يكونوا بأحسن حالاً, ”فقد وافق شنٌّ طبقه“.
عوداً على بدءٍ, كانت تلك وقفات في المسارين، أوردناها كأمثلة لنوضِّح من خلالها -دون تعسف أو أحكام مسبَّقة- مسئولية رئيس الوزراء, وكذا الآخرين في ما حدث من تطورات سياسية وعسكرية، أجهضت النظام الديمقراطي، وغيَّرت مسيرة البلاد السياسية, بتأكيد أن مسئوليته تجاوزت حدود العلم المسبق بالانقلاب, وساهمت في تأزيم المناخ السياسي، الذي هيأ الظروف لحدوث الانقلاب نفسه.. وعليه، فلا غرو أن وجد رئيس الوزراء ضالته فيما ردَّده البعض، من أن الانقلاب تمَّ لقطع الطريق أمام مبادرة السلام!! وهو التفسير الذي استخلص النتائج دون النظر للحيثيات, ولا ينفي منطلقات الجبهة الإسلامية في تنفيذ الانقلاب حيث إنها أيضاً كانت ضمن الزاعمين بنجاح جولة المفاوضات في 4/7/1989، وانعقاد المؤتمر الدستوري في 18/9/1989.. غير أن انحياز رئيس الوزراء لهذا المذهب التفسيري، يجيء من منطلق عقدة ذنب سياسية اقترفها يومذاك، ولا يود الإفصاح عنها كحقيقة, أو الاعتراف بها كنقد ذاتي.. فكلاهما ليس لهما متسع في قاموسه. الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ الثانِي: مُؤامَرَة عَلى المؤَامَرة
نسبة إلى أن هذا المشهد ليس معنياً بالتوثيق الكامل، لبدايات تسرُّب عناصر تنظيم الإخوان المُسلمين، في أوساط القوَّات المُسلحة, لهذا سيتركز المبحث في الكيفية التي خُطط ودُبر ونُفذ بها انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيران 1989.. علماً بأنه لم يكن وليد تلك اللحظة، فقد طرحت فكرة الانقلاب أكثر من مرة، وفي فترات تاريخية مُختلفة، كانت تطفو أحياناً صعوداً، وتختفي أحياناً أُخرى هبوطاً، طبقاً لمجريات الأحداث. وبغضِّ النظر عن تفصيلات كثيرة، فقد كان تغلغل كوادر عسكرية إسلامية في أوساط القوَّات المُسلحة، في الفترة التي انخرط فيها تنظيم ”الإخوان المسلمين“ في النظام المايوي ”جعفر نميري“، بمُوجب ما سُمِّي بـ”المُصالحة الوطنية“ في 1977، حافزاً في تكوين جناح عسكري للتنظيم، أوكل أمر قيادته للعميد مهندس ”الهادي المأمون المرضي“, لكنه كان بمثابة ”خليَّة نائمة“، وخملت الفكرة نفسها –أي الانقلاب- إلى حدٍ ما، إثر تحكم التنظيم في النظام المايوي العام 1983، بعد تبني الأخير تطبيق ما سُمِّي بـ”قوانين الشريعة الإسلامية“، أو ”قوانين سبتمبر 1983“ وفق الشهر الذي صدرت فيه. ونشطت مرة أخرى، بعد انتفاضة أبريل 1985، تحسُّباً من الضربة القاصمة التي وجَّهها نميري للكوادر القيادية في التنظيم قبيل الانتفاضة، باعتقالاتٍ جماعيَّة في 10/3/1985، طالت معظم قيادات الإخوان، وعلى رأسهم د. حسن الترابي، وأسماهم وقتئذ تشفياً بـ”إخوان الشيطان“.
في الفترة المذكورة، تولى قيادة التنظيم المُقدم طيار ”مُختار محمَّدين“, بدلاً من العميد المرضي.. وتُجمع المصادر على أن الفترة التي تولَّى فيها ”محمَّدين“ قيادة التنظيم, وهي مطلعُ الثمانينيات، كانت هي البداية الجادَّة لبناء تنظيم عسكري فاعل لحركة الإخوان المُسلمين، داخل القوَّات المُسلحة. ثمَّ تولى بعد ذلك الملف بأكمله في القيادة السياسية للتنظيم، أثناء الفترة الانتقالية، السيد ”علي عثمان محمد طه“، وبرزت فكرة تدبير الانقلاب بشكل جدِّي خلالها، مُوازية للمُشاركة السياسية للتنظيم مع بقية القوى السياسيَّة في الحياة الديمقراطية. ورغم اضطراب وعدم استقرار المناخ السياسي في تلك الفترة، والذي ربما كان مُحفزاً لتنفيذ الفكرة، إلاَّ أن غالبية قيادة التنظيم عارضت تقويتها, بدعوى أن الآثار السالبة التي خلَّفها الحكم ”المايوي“ سياسياً ومعنوياً, ربما تحولُ دون نجاح الفكرة, من حيثُ تأييدها، والتجاوب معها في الأوساط الجماهيرية, وأُرجِئت ريثما تنتهي الفترة الانتقالية, لتقييمُ تجربة مُشاركة التنظيم، الذي اتخذ مُسَمَّى ”الجبهة القومية الإسلامية“ في مايو/أيار1985، قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية, ونظامها الديمقراطي الذي سيتأسَّس عليها.
في غضون ذلك، تمدَّد التنظيم السري العسكري أثناء الفترة الديمقراطية (1986–1989)، وخلال فترتها الزمنية القصيرة, وبما صاحبها من عدم استقرار واضطراب في المُناخ السياسي, تحفزت أوساط ”الجبهة القومية الإسلامية“ لتنفيذ فكرة الانقلاب، بعد أن ساهمت بقدرٍ كبير في إضعاف النظام الديمقراطي نفسه, خاصَّة في النصف الثاني من العام 1988. بَيْدَ أن خُطط الجبهة اضطربت أيضاً، على إثر اختطاف الموت لرئيس التنظيم السري، المُقدم ”مُختار محمَّدين“، بعد تحطم طائرته نهاية العام نفسه، في مناطق العمليات بسماء مدينة الناصر، واختير مُجدَّداً اللواء ”محمد المأمون الهادي المرضي“ الذي حلَّ مكانه لفترة انتقالية قصيرة، ثم اختير العميد ”عثمان أحمد حسن“. ومع ذلك، ظلَّ الأول قريباً من التنظيم, ويبدو أنه كان الأكثر إلماماً بخفاياه: «كانت المفاجأة هي في ظهوره بعد يوم واحد من انقلاب الجبهة الإسلامية في 30 يونيو 1989، كشخص له نفوذٌ كبير في السُلطة الجديدة, إذ قام بتفقد دار الضيافة، التي كانت تضم المُعتقلين من قادة القوَّات المسلحة, وكنتُ شاهد عيان لرُوحِ الغبطَة والتشفِّي التي ظهرت عليه خلال طوافه غير المُبرَّر على منطقة عسكرية، وهو متقاعدٌ خارج الخدمة. عند صدور قرار تعيين مجلس وزراء الانقلاب, عُيِّن اللواء المُهندس الهادي المأمون المرضي وزيراً للأشغال العامة, وكان يقول للمُقرَّبين منه: في واقع الأمر.. ”أنا رئيس هذه الحكومة“.. “I am the defacto Prime Minister of this Government”».. وأصبحت للتنظيم أذرع كثيرة في كل فروع القوَّات المُسلحة داخل وخارج العاصمة.
نشطت فكرة الانقلاب، واتخذت طوراً فعلياً وعملياً، في الشهور الأولى للعام 1989, ثمَّ ”دشَّنتها“ مُذكرة القوَّات المسلحة، التي قُدِّمت للقيادة السياسية في فبراير/شباط من نفس العام, فصعدت الفكرة إلى مرقى مُتقدِّم في الربع الأخير للفترة الديمقراطية.. ففي إطار تداعيات هذه المُذكرة، كان تقييم الجبهة الإسلامية لها أنها: ”عمل انقلابي“.. أو بالكاد، مُقدِّمة ”لمشروع انقلابي“.. وبالرغم من أن فكرة الانقلاب في ملامحها العامَّة، بدأت تظهرُ بمظهر المشروع المنافس والنقيض لـ”مُبادرة السلام“ (الميرغني- قرنق)، وبالرغم من أن المُبادرة نفسها، إن أقدم طرفاها -الحكومة والحركة الشعبية- على تنفيذها ”بمُعجزة“، فإن الجبهة الإسلامية لن تجد ما تعتاشُ به في خطابها السياسي والتعبوي، القائم على النقيض، بقرع طبول الحرب.
إلا أنه، وفق ما أشرنا إليه في محور سابق، لم تكن أولوية التنظيم في قطع الطريق أمام ذلك الهدف، ولكنه جاء تالياً.. ويبدو أن ذلك ما رمى له الماسك بزمام الملف في حديث جاء بين السطور, وإن استجار فيه بذرائع فقه الضرورة، فقال: «على الصعيد العسكري، الانقلابيون الذين عملوا باسم ضباط المُذكِّرة، أو غيرهم من المدارس الانقلابية، هم الذين أنهوا النظامُ الديمقراطي التعدُّدي. وعلى الصعيد السياسي، كانت موافقة رئيس الوزراء صاحب الأغلبية البرلمانية على الامتثال لوجهة نظر بضعة ضباط, هُم ضباط المُذكِّرة التي تمثل انقلابا على الديمقراطية والشرعية والتعددية. ففي مناخ كهذا أعتبر نفسي فيه زعيماً للمُعارضة, وفى أي برلمان أعارض بعد أن تحوَّل البرلمان المُنتخب لجثة هامدة, ورث شئونه آخرون، لا تمثيل ولا وجود لهم في الجمعية التأسيسية؟ إن موقفي وموقف غيري من الذين وقفوا مع الإنقاذ وهُم من مختلف الأحزاب والتيارات والمدارس الفكرية, انطلق من حقائق ثابتة، تقول إن الانقلابيين اليساريين وبعض الذين لا يمكن أن يؤتمنوا على البلد في طريقهم لوأد النظام البرلماني التعددي».. عليه، وبغض النظر عن التبريرات، فقد كان هاجس الجبهة الإسلامية أخذ زمام المُبادرة، باستباق تنظيماتٍ سرية وعلنية، أخذت تتبارى لتنفيذ ذات الفكرة.. ولما كانت القوات المسلحة هي هدف أولئك جميعاً، فقد رأت الجبهة الإسلامية أن المُذكِّرة وفَّرَت فرصة يمكن استثمارها، كغطاء تأميني يزيد من معدَّلات نجاح الانقلاب.
المُفارقة، أن د. حسن الترابي، الأمين العام ”للجبهة القومية الإسلامية“ لم يُظهر مُيولاً حماسية لتنفيذ فكرة انقلاب عسكري لإجهاض النظام الديمقراطي الأخير, إلاَّ في رحلة الشوط الأخير تلك.. ولم يكن ذلك زهداً في العمل الانقلابي نفسه، ولا حُباً في النظام الديمقراطي كمنهج سياسي، ولكن تلك هي إحدى طرائقه في المُمارسة السياسية، كما خبرها المُقرَّبون، ولهذا رغب –التفافاً- أن تأتي الفكرة من داخل المؤسَّسة التنظيمية, وهي هيئة مجلس شورى الجبهة الإسلامية (التناقض أن عملاً غير شرعي يبحثُ عن مؤسَّسية), والتي اجتمعت بكامل عضويتها (60 عضواً) عقب المُذكرة، لمُناقشة فكرة الانقلاب، نزولاً عند رغبة الأمين العام، الذي تظاهر وقتئذٍ بالوقوف على السياج.. وبعد طرحها وتداولها، أجاز المجلس الفكرة بشبه إجماع، ولم يعترض صراحة سوى د. الطيب زين العابدين، وتحفَّظ عليها السيد أحمد عبدالرحمن، ود. إبراهيم أحمد عمر، ويبدو أن تحفظهما كان من مُنطلق التشكك في نجاحها، سيَّما وأن الأول -وفق ما أوردنا في مشهد سابق- كان من أنصار انقلاب مُزدَوج بين الجبهة الإسلامية وحزب الأمَّة. وبعد إجازة الاقتراح، وجد د. الترابي نفسه أمام واقع لن يُجدي معه الحياد فتيلاً, ويُعتقدُ أيضاً أن توجُّسه لم يكن مُتعلقاً بالفكرة نفسها، بقدر ما كان مُتعلقاً بمُنفِّذيها من العسكريين, الذين لا يعلمُ عنهم شيئاً, وليست له صلة مُباشرة معهم, بل إنه لا يملكُ أي معلومات كافية عن أيٍ منهم.. فعلاقتهم المُباشرة كانت، وظلت محصورة مع نائبه، السيد علي عثمان محمد طه، كما ذكرنا.
قرارُ إجازة الانقلاب من الهيئة, تبعته قراراتٌ أخرى, حيث أوكِل للأمين العام الإشراف على تنفيذ الفكرة, على أن يختار بحريَّة من يشاء لإنجازها, وبحيث لا يعلمُ أعضاؤها أسماءهم، أو مهامَّهم, ويقوم الأمين العام كذلك ”بتنويرهم“ كل ثلاثة أشهر.. وبدوره، قام د. الترابي باختيار ستة، هم السادة: علي عثمان محمد طه, ياسين عمر الإمام, إبراهيم السنوسي, علي الحاج, عبدالله حسن أحمد, عوض الجاز.. واستند الاختيار إلى أن الأوَّل هو المسؤول منذ البداية عن المِلف العسكري, بينما كان الأخير مسؤولاً عن التأمين والجهاز الأمني في التنظيم، منذ البداية أيضاً.. أما البقية، فقد انحصرت مهامهم في الاستقطاب، التعبئة، التمويه، التمويل، وتأسيس خلايا هرمية ولجان، وكذلك السيناريوهات السياسية والحملات الإعلامية, وتهيئة الأوساط الجماهيرية (مثل التظاهرات المُتواصلة ضد المُبادرة، بذريعة التخلِّي عن الشريعة والاستسلام ”لحركة التمرُّد“) ولعلَّ تفرُّعاتها معروفة في هذا الصدد.
غير أن أخطر ما طرح في سيناريو التنفيذ، ما اقترحه أحدهم حول ”ضرورة تصفية القيادات الطائفية، وقياديين من الحزب الشيوعي“، الأمر الذي تباينت حوله آراء المجموعة بين مُؤيِّد (3)، ومُعترض (1)، ومُتحفِّظ (2)، فتداولوها مع د. الترابي، الذي رفضها تماماً.. وعوضاً عن ذلك، تمَّ التواصي والاتفاق على سيناريو ”عدم استخدام العنف إلاَّ في حالة مُبادرة الطرف الآخر“. أيضاً وضع المُخطِّطون نسبة كبيرة للفشل، بمعطيات الأمر الواقع نظرياً, مُستندين على أن القوى السياسية والنقابية ربما تلجأ إلى تفعيل ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“, ممَّا سيضع الانقلابيين في محك صعب.. إضافة للحاجز النفسي، الذي يُحتملُ أن يقف حائلاً دون تقبُّل الشارع السُوداني لفكرة الانقلاب نفسها, خاصة أن مُمارسات الديكتاتورية الثانية لم تطمس آثارها بعد. وقد وجد السيناريو علاجاً لهذه الاحتمالات المُتوقعة, بالتراضي حول اتباع الأسلوب الفرانكوي، ”الصدمة الفجائية“, وذلك باستخدام ”العنف بمقدارٍ“ ترهيباً, و”الإغراء بإسراف“ ترغيباً, وهو المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب.
على صعيد الترتيبات العسكريَّة، لم يكن الضبَّاط العسكريون الخمسة عشر, الذين أنيطت بهم مُهمَّة التنفيذ, من المُنتمين فعلياً لتنظيم الجبهة الإسلامية، سوى ستة منهم، وثلاثة ذوي توجهات إسلامية خاصة، والبقيَّة لا من هؤلاء ولا أولئك.. وكلتا المجموعتين، أُلحقت بالفكرة إلحاقاً.. بعضهم قبل التنفيذ بأيام معدودات، وهم لا يعلمون من أمرها نصباً, كما أن الستة المُنضوين تحت لواء التنظيم فعلياً, لم يكن بينهم واحدٌ في الهيكل التنظيمي للجبهة الإسلامية, ويشارُ إليهم جميعاً بـ”التنظيم العسكري السري“, وبأسماءٍ ”كودية“.. لهذا، فقد ارتأى المسؤول عن الملف إدخال عُنصر المال، لأول مرة في تاريخ الانقلابات العسكرية في السُودان, باقتراحٍ وافقت عليه المجموعة, وبموجبه تمَّ تسليم كل منهم مبلغ ستة ملايين جنيه سُوداني، نقداً وعينياً, تحوطاً لتأمين أُسرهِم من غوائل الدهر، في حال فشل الانقلاب، وتعرُّضهم لمُحاكماتٍ قد تصل حدَّ الإعدام. ولعل شراء الذِمَم هذا قد شكل ضمانة في قطع دابر الثرثرة، التي طالما كشفت أسرار معظم الانقلابات العسكريَّة في السُودان.
استلزمت نواحٍ إجرائية تعديل قيادة التنظيم العسكري السرِّي، بإحلال العميد عمر حسن أحمد البشير بدلاً من العميد عثمان أحمد حسن, وذلك نسبة لتردُّد الأخير دوماً، بدعوى ”عدم الجاهزيَّة“.. أما الأول، فإضافة إلى حماسه واندفاعه المعروفين، وعُضويته المُبكرة في التنظيم, ورُتبته العسكريَّة الكبيرة، فإن اختياره تمَّ وفق ما يُسمَّى بـ”التقييم الذاتي“ في الأجندة التنظيمية للجبهة الإسلامية في اختيار القيادة، وهو يختصُّ بتقييم مَلَكَات وصِفات وسُلوك الشخص المعني, وأهمَّ ما فيه، افتراضه عدم خضوع المَعنِي بالاختبار للعاطفة ”في حال وجد نفسه في موقفٍ ينشأ عند التنفيذ، أو بعده، في أي إجراء يتطلَّب توطيد أركان السُلطة في أوقات الشدَّة والأزمات“.. وقد تطابقت ”الظروف الاجتماعية الخاصة“ للعميد البشير في التقييم مع تلك الفرضيَّة، والتي تماثل إلى حدٍ ما ذات ”الظروف“ التي كانت مُحيطة بتكوين الرئيس المخلوع جعفر نميري, ويعتقد بأنها تحكمت في تصرُّفاته، ومُمارساته في الحكم.. ويُذكرُ أن منهج التقييم المذكور, يتم إجراؤه بصورة سريَّة، دون علم الشخص المعني, ويظلُّ كذلك.. وربَّما يعلمه لاحقاً، بطريق غير مباشر، أو لا يعلمه على الإطلاق.
أرسل السيد على عثمان طه -المسؤول عن المِلف- أحد كوادر الحركة الإسلامية، ”علي سليمان“، إلى العميد عمر حسن أحمد البشير، في قيادته بمنطقة المُجلد، جنوب كردفان.. وحضرا معاُ وِفقَ توجيهاته, وأقاما لبعض الوقت في مدينة الأُبيِّض, في منزل مسؤول الحركة الإسلامية ”علي النخيلة“، ومن ثمَّ اتجها نحو الخرطوم.. وكان أول عملٍ قام به العميد البشير، بعد وصوله, تسجيل البيان الأول للانقلاب في استوديوهات ”مُنظمة الدعوة الإسلامية“، وبإشراف فني من مسئول الاعلام فيها”عوض جادين“ وآخرين.. وبعد الاطمئنان على اكتمال كل الترتيبات، حدَّدت المجموعة ساعة الصفر لتنفيذ الانقلاب في الثانية بعد منتصف ليلة الخميس 22/6/1989.
غير أن حدثاً مفاجئاً أربك الخُطة لبعض الوقت, إذ تمَّ في صبيحة الأحد 18/6/1989 اعتقال عدد من قادة وحدات عسكريَّة في العاصمة، على رأسهم العميد أحمد فضل الله، بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري, وهو الحدثُ الذي أشرنا له بتفاصيل في المشهد السابق, وقلنا إنه كان ينبغي أن يكون حافزاً للقيادة السياسيَّة والعسكريَّة لاتخاذ المزيد من التأمين والإجراءات التحوطيَّة, واعتبره كثيرٌ من المُحللين السياسيِّين انقلاباً تمويهياً، للتغطية على الانقلاب الحقيقي, ولم يكن في واقع الأمر كذلك, فقد فوجئت به مجموعة الستة، وسابعهم د. الترابي, وكان الشيء الوحيد المربك -بالنسبة لهم- هو أن الاعتقالات شملت عدداً من كوادر التنظيم السرِّي، المُناط بها تنفيذ الانقلاب الحقيقي, فاستلزمت الخطة تغييراً طفيفاً!! كان المُدهشُ فيها تأجيل ساعة الصفر، لتكون بعد أسبوع واحد فقط من الموعد الأول, الأمر الذي اعتبره البعض أيضاً استهانة بالإجراءات الأمنية, لكن المجموعة استندت إلى عدَّة أسباب, أهمُّها خشيتها من ترهُّل الخطة، وسيناريوهاتها المتعدِّدة، والتي وُضِعَت بإحكامٍ، وقطعت شوطاً بعيداً.. كذلك للاستفادة من انشغال الأجهزة الاستخباراتية العسكرية, والقيادتين السياسية والعسكرية أيضاً بالتحقيقات حول المُحاولة المذكورة.. علاوة على أن رئيس الانقلاب نفسه كان مُقدَّراً له أن يُغادر السودان في الأول من يوليو/تموز، لحضور دورة في أكاديمية ناصر العسكرية بمصر لمدة عام, وجيء به من حاميته بغرض إكمال إجراءات استلام أمر تحرُّكه.. ولذا، فإن تأجيله لفترة طويلة قد يُلفت الأنظار لشيء ما.. المُفارقة، أنه حتى ذاك الوقت لم يحدُث أن التقاه د. الترابي, الذي كان لا يعرفه سوى اسماً، وكذا بقية المجموعة، باستثناء السيد علي عثمان طه.
ضمن إطار سيناريوهات الانقلاب, قرَّرت مجموعة الستة المُشرفة, من باب التمويه ودرءاً للشبهات، أن تشمل الاعتقالات د. الترابي وآخرين، منهم: إبراهيم السنوسي وياسين عمر الإمام، واستثنت علي عثمان طه وعوض الجاز، وطلب من عبدالله حسن أحمد الاختفاء مؤقتاً, ووُجِّه د.علي الحاج بالسفر للخارج, فتجوَّل بين العواصم لأكثر من خمسة أشهر, حتى بعد نجاح الانقلاب!! وتمَّ التأكيد لدكتور الترابي بأن اعتقاله مع الآخرين لن يدوم لأكثر من شهر، على أسوأ الفروض.. ويبدو أن الفكرة قد راقت له, وصادفت هوىً في نفسه, فهي في وجهها الآخر تجعله بمنأى - في حال الفشل- عن فعلٍ بغير المُخاطرة، فهو لا يدفع أي سياسي للافتخار أو التباهي, لا سيَّما وقد عُرف عن د. الترابي أنه من جنس السياسيِّين الميكافيليين والدُهاة, الذين لا يتورَّعون عن بناء مجدٍ شخصي على أنقاض الآخرين. ومع كل ذلك، لم تحقق فكرة التمويه أغراضها المرسومة، وفق ما خططت المجموعة.
في الشوط الثاني من السيناريو، وبعد أن وضعت مجموعة علي عثمان طه الترتيبات النهائية، بتغيُّراتها الطفيفة التي تضمَّنت ساعة الصفر البديلة, عرض الأمر برمَّته على د. الترابي، الذي طلب أن يُحضِروا له الضابط الذي وقع عليه الاختيار ليكون قائداً للانقلاب, فجيء إليه بالعميد عمر حسن البشير قبل يومٍ واحد من التاريخ المُحدَّد، أي في 29/6/1989, وفي ذاك اللقاء، الذي كان قصيراً, فوجئ الأخيرُ بالأوَّل يضعُ المُصحف بين يديه, علماً بأنه أدَّى القسم سلفاً, لكن الترابي طلب منه في المرة الثانية أن يُقسِم ”بألاَّ ينفرد بالسُلطة مُستقبلاً في حال نجح الانقلاب, وتوطدت أركان السُلطة الجديدة“.. لم يكن المذكورُ في وضعٍ يسمحُ له بأن يفكر مليَّاً فيما قاله ”الشيخ الدكتور“, ربَّما ليُبعِد أي شكوك أو هواجس قد تنعكس سلباً على علاقة مازالت تحبو, أو ربَّما كان في عجلةٍ من أمره، لمعانقة مَجد شخصي!! وأياً كان التفسيرُ، فالمُهم أنه أقسم دون تردُّدٍ، ودون تعقيب.. ولم يكن فيما تبقى من حديثٍ غير دعم القسم, بالتأكيد على ما يُطمئِنُ في توجهاته الإسلامية على المستوى الخاص, وزاد عليها بإلحاق غالبية الأسرة على المُستوى العام.. والمُفارقة، أن المُزايدة في التوجُّهات، لم تمنع تكرار القسم، وبذات المشهد، على مدى فترات التوتر في العلاقة بينهُما, وحتى قبيل ما سُمِّي بـ”المُفاصلة“ التي شقَّت صف الحركة الإسلامية، بعد عقدٍ كامل من نجاح الانقلاب.
لم يكن السيد علي عثمان طه نجماً ساطعاً في الحركة الإسلامية، بالنظر إلى آخرين قضوا جُلَّ عُمرهم فيها، منذ بواكير تأسيسها, وإن كانوا جميعاً مِمَّن يدينون بولاء كبير للترابي، وزعامته للكيان، ذلك باستثناء الجناح المُنقسِم عن الحركة، بزعامة صادق عبدالله عبدالماجد وآخرين، تمرَّدوا على قيادته، بذريعة الاختلاف معه حول بعض أفكاره الجدلية، وليس من بينهم من يُمكن أن يُنازعه تلك الزعامة التي تبوأها بملكاته الخاصَّة, وقد تمَّ ترفيعُ علي عثمان طه في المؤتمر الثاني، بمساندة حقيقية من الترابي نفسه، ليُصبح نائباً له.. وبالتالي، فقد كان يتمتَّع بثقته المُفرطة، التي كرَّست الانطباع بأنه وريثه في زعامة الحركة الإسلامية أيضاً. وللسيد علي عثمان طه قدرات ومُميِّزات خاصة أيضاً, سيَّما في العمل خلف الكواليس، وسياسة التخفي, بمثال دوره.. فبالرغم من أنه لعب دوراً محورياً في تخطيط وتنفيذ فكرة الانقلاب، كما أوردنا, إلاَّ أنه ظلَّ في حالة نفي مُستمر، حتى في الوقائع التي صنعها بيده: «لم أُعتقل بالرغم من كوني كنتُ مطلوباً القبض عليّ في قائمة السياسيِّين الآخرين, ولكن الجنود أخطأوا عنوان بيتي, ممَّا منحني فرصة الاتصال بمجموعتي التي قيَّمت الموقف تجاه الطلاَّب, ثم طوَّرته من خلال القطاع الطلابي، والذي تسيطر الجبهة الإسلامية على اتحاداته, حيث قامت اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم بنقل مُساندتها وتأييدها للانقلاب العسكري للفريق البشير».
واقعُ الأمر، رغم أسلوب المراوغة الذي اتَّبعته الطغمة الحاكمة في إخفاء هُويَّة الانقلاب السياسية والأيديولوجية, إلاَّ أن الاتهام ظل محورياً في الداخل والخارج, وبالتالي كان ثابتاً في كل الحوارات التي أجراها الصحفيون العرب والأجانب مع قادة الانقلاب.. لم يتردَّد في طرحه حتى الذين شاركوهم ذات الانتماء الأيديولوجي, مثل الكاتب المصري الإسلامي فهمي هويدي، الذي جاء إلى الخرطوم في زيارة طابعها البحث والتأكد, فطرح السؤال على الفريق عمر البشير، وكالعهد به، كانت إجابته غريبة ومدهشة معا: «الذين يعارضوننا لم يجدوا شيئاً يتهموننا به، سوى مسألة الانتماء للجبهة الإسلاميَّة, وسيظلُّ هذا السيفُ مُشهراً حتى يجدوا شيئاً آخر يأخذونه علينا.. فيلاحقوننا به.. ونحن نفهم دوافع المُلحِّين على مسألة العلاقة بالجبهة, فهم يُريدون حصارنا وعزلنا سياسياً وإعلامياً في الداخل، بوضع الثورة في حدود ذلك المجرى الضيِّق». وبمثل هذا الخطاب المُتلجلِج، سار حتى الذين قلنا إنهم أُلحِقوا بالفكرة إلحاقاً، وهم لا يعون من أسرارها شيئاً: «هذا هراءٌ تجاوزناه، لأننا ثورة قامت لاستقطاب جميع الفعاليات, والدعوة التي وجَّهناها للدكتور الترابي للمشاركة، هي نفسها الدعوة التي وجَّهناها إلى جون قرنق ومحمد عثمان الميرغني والصادق المهدي». لم يكن من السهل على الحاكمين الجُدُد الاستمرار طويلاً في سياسة إنكار هويَّة الانقلاب, وذلك بالنظر إلى الواقع الذي كانت مُجرياته تؤكد بوضوح أيلولة الوضع بالكامل للجبهة الإسلامية.
قبل أن يطوي العام الأوَّل أوراقه, بدأت السلطة بإزاحة القناع تدريجياً, بالإيحاء أولاً بأن الجبهة الإسلامية تعملُ لتأييد الانقلاب، وبأنه ليس من صنعها، فقبَيل الاحتفال بالذكرى الأولى للانقلاب، صدر تقريرٌ تقييمي سرِّي, تمَّ توزيعه في نطاقٍ ضيِّق للمُوالين, وكان بعنوان: ”السودان, حقائق ووثائق“، جاء فيه: «إن تأييد الجبهة الإسلاميَّة للنظام في ظلِّ مُعاداة القوى الأخرى له يؤدي إلى مزيد من التلاحم، ولو من باب المصير المشترك, وستسعى الجبهة لتنمية علاقتها مع النظام كل يوم جديد, بنفس الكفاءة السابقة مع نظام نميري، إن لم يكن بتجويدٍ أكثر».. ومضى التقرير في الكشف الفاضح: «إن ثراء فقه الجبهة في مجال التعاون مع النظم العسكرية هو المدخلُ لفهم العلاقة بين الجبهة والثورة, فإذا كان كل حزب له كامل الحرية في تحمل نتائج سلوكه السياسي, فمن باب أولى أن تسلك الجبهة ما تشاء, فقط أن لا تبني مواقفها على مواقف أحزاب أخرى».
إن إزاحة القناع تدريجياً كانت قد أملتها ظروف نأي جميع القوى السياسية عن المشاركة، أو التأييد.. إضافة إلى اتخاذ غالبيَّة الجماهير موقفاً حيادياً أقرب إلى السلبيَّة, كما أنها جاءت في إطار تحوُّل كلي، أزمعت السلطة الجديدة عليه, بغية عدم إتاحة الفرصة في أن تتحوَّل تلك المُقاطعة إلى فعل إيجابي، مُتمرِّد عليها, فقد جُوبهت حينذاك بأوَّل إضراب نفَّذته ”نقابة الأطباء“، في 26/11/1989, الأمر الذي دعاها إلى تنزيل المنهج القمعي، أو ”الصدمة الفجائية“ ترهيباً لكلِّ من تسوِّلُ له نفسه مُعارضتها, فأصدروا حكماً بالإعدام على نقيب الأطباء، د. مأمون محمد حسين, وحكماً بالسجن لمدة 15 عاماً على د. سيد محمد عبدالله بتاريخ 10/12/1989، في اليوم الذي يُصادف الاحتفال بذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وفى ذلك حكمة!! ثم تواصل مُسلسَلُ العنف الدموي بإعدام [28] ضابطاً في شهر رمضان، وعشيَّة عيد الفطر, وتلك حكمة أخرى!! وابتدعت السُلطة ظاهرة المُعتقلات السريَّة التي سُمِّيت من فرط ما يجري في داخلها بـ”بيوت الأشباح“, مارست فيها شتى صنوف التعذيب على المُعارضين, حدَّ التورُّط في جرائم جنائيَّة مُتعدِّدة, على يد عصبة تخصَّصت في ذلك, وبإشرافٍ مُباشر من د. عوض الجاز، د. نافع علي نافع واللواء بكري حسن صالح.. كذلك شرعت السلطة في تصفية جهازي الخدمة المدنية والمؤسَّسة العسكرية، وبقية القوَّات النظامية (الشرطة، السجون، حرس الصيد وضباط الجمارك) بقوائم فصلٍ تعسفي مُتتالية، سُمِّيت بالإحالة للتقاعد ”للصالح العام“, وإحلال كوادرها، وآخرين ذوي انتماءاتٍ هشة، بغرض استمالتهم.
كانت هذه الإجراءات الترهيبية قد خلقت ”علاقة عصبية“, بين السُلطة الجديدة والمُواطنين, تواصل ليلها بنهارها، في ظلِّ القوانين المقيِّدة للحريَّات, ودبَّابات وعربات مجهزة شاهرة فوَّهات مدافعها، ومُرابطة -حتى يومنا هذا- في المواقع الإستراتيجية.. أيقنت السلطة أن القمع هو الوسيلة الوحيدة التي يُمكن أن توطِّد أركان حُكمها, فاستمرَّت فيه على مدى الأيام, لم يمل فيها الجلاَّد أنين الضحيَّة.
بعد يوم مُضنٍ أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1989، جاء العميد ”فيصل مدني مُختار“ إلى منزله مساءً، وقبل أن يستجم قليلاً، جاءه ”الرائد إبراهيم شمس الدين“، و”العقيد الطيب إبراهيم“ (الشهير بـ”سيخة“)، وألحَّا عليه بالخروج معهُما، فطافا به على بعض نقاط التفتيش، وكذلك على المواقع التي خصِّصت كمُعتقلات، وانتهى بهم الطِوافُ إلى منزل في الرياض، فتِحَت لهم بوَّابته بعد إشارات معيَّنة، ”نورُ السيَّارة وجهازُ التنبيه“، وصعدوا إلى صالونٍ في الطابق الثاني.. وبعد فترة قصيرة، دخل عليهم السيد علي عثمان طه ود. عوض الجاز، وكانت هذه هي المرَّة الأولى التي يرى فيها العميد فيصل المذكورين.. ودار حديثٌ مقتضبٌ حول حُدود علاقة التنظيم بالانقلاب، أهمُّ ما فيه ما قاله الأول للأخير، فيما يشبه التوجيهات: «يا أخ فيصل، طبعاً الانقلاب ده نحن عملناه، وبالتالي نحن بنساعدكم بعمل قرارات وإجراءات، وما عليكم إلا التنفيذ فقط». وفي صباح اليوم التالي، قابل المعني بالحديث العميد عثمان أحمد حسن، والعقيد فيصل أبوصالح، وسرد لهم فحوى ما دار في لقاء الأمس، فقال له الثاني إن نفس هذه القصَّة تكرَّرت معه، واستغرب الأول الرواية، أو هكذا ادَّعى, لأنه لا يستطيع أن يقول بأنه كان من المُفترض أن يكون قائد الانقلاب نفسه، فذهب ثلاثتهم للعميد عمر البشير، الذي أنكر من جانبه خُضوع المجلس العسكري لأي تأثيراتٍ خارجية. واتضح أن السيناريو برمته كان مُرتباً, فقد جرى مع آخرين أيضاً.
تزامناً مع تلك الإجراءات، بدأت الروايات تتواترُ عن وجود ”مجلسٌ أربعيني“ يُديرُ شُئون الحكم من وراء ستار, وأخذت الروايات طابعاً أسطورياً, قامت السُلطة نفسها بتغذيتها على النهج الماسوني, في الوقت الذي لم يكن فيه هناك مجلسٌ أربعيني بعينِه, وكان ذلك عبارة عن ”المنظومة داخل النظام“، وهي المجموعة التي يقفُ على رأسها السيد علي عثمان طه, وتوسَّعت بعد نجاح الانقلاب، بالاعتماد على كوادر مُدرَّبة, كوَّنت أجهزة أمنيَّة ومهنيَّة مُتعدِّدة، لإحكام القبضة على مفاصل المُجتمع, وإخضاعه بالعنف والقهر والترويع، وفق المنهج المذكور من قبل.. وفي هذا الصدد، غذَّت السُلطة أيضاً روايات أخرى، مثل مخابئ سريَّة لأسلحة مُخزَّنة في الأحياء، تحسُّباً لساعة مُواجهة, وإن كانت الظاهرة حقيقية، لكن كان تضخيمها بغرض التخويف والترهيب.
في أوائل ديسمبر/كانون الأول 1989، ظلَّت سيِّدة مُرابطة في منزل العميد فيصل مدني، ورفضت أن تغادره ما لم تره، وعند وصوله في وقتٍ متأخر من المساء، قالت له السيدة إنها خالة شاب اسمه ”مجدي محجوب محمد أحمد“، ورَوَت له حكاية اعتقاله ومحاكمته: «...وأنهم قالوا حيعدموه».. وأضافت أنها قصدته، لأنهم أخبروها: «...بأنك رجل طيب و”ود ناس“».. فحاول العميد فيصل الاتصال بعدَّة أرقام لزملائه في المجلس العسكري، ولم يوفَّق.. غادر منزله إلى ضاحية الرياض, وقصد المنزل الذي سبق أن ذهب إليه مرَّة واحدة، واتَّبع نفس الطريقة، الإشارات وجهاز التنبيه، ففتِحت له البوَّابة.. اتضح لاحقاً أن هذا المنزل هو مقرُّ منظمة الدعوة الإسلامية.. وجد هناك اللواء الزبير محمد صالح ود. عوض الجاز، فأخبرهم بسبب مجيئه.. وبينما صمت الثاني، قال الأول: «يا فيصل يا أخي، الناس ديل مُساندِننا، ومشاكل البلد دي تقيلة، وفهَّمونا إنو قصَّة الاقتصاد دي ما بتتحلَّ إلا يكون في إجراءات عنيفة، كان إعدام ولا غيره»، وصمت.. ثمَّ قال الثاني بعدها، وباختصارٍ شديد: «الموضوع البتتكلَّم عنه ده انتهى بدري»!! وخرج المذكور لا يلوي على شيء .
كان لهذه الإجراءات وغيرها وجه آخر غير مرئي، في إطار النظام نفسه، و”المنظومة“ التي بداخله.. فالترابي ظلَّ في سجن كوبر، ضمن المُعتقلين الآخرين، لفترة ناهزت الستة أشهر, تحجَّج له خلالها المُخططون والمُنفذون, بأن إطالة بقائه لمزيدٍ من التمويه، غير عابئين بالروايات التي أجهضت منذ اليوم الأول السيناريو المزعوم.. أما ”المنظومة“ التي يقف على رأسها السيد علي عثمان طه, التي تغيَّرت وجوهاً ومهام, فبعد أن نجح سيناريو الانقلاب, أخذت زعيمُها العزَّة بالإثم، فتمدَّدت آماله وطموحاته وأحلامه, وراودته النفسُ الأمَّارة في زعامة التنظيم والنظام, والتي لن تتأتَّى إلاَّ بعملٍ دؤوب خلف الكواليس، يُزيحُ به الترابي عن موقعه.. وقد رسموا له دوراً أبوياً، بُغية أن يُمارس دور ”المُرشد“، كما في الثورة الإيرانية, فعمل الزعيم جاهداً مع الفئة التي اصطفاها، على ترتيب شئون النظام الجديد، في غضون الفترة التي قضاها المذكور في سجن كوبر, وهو لا يدري أن ما كان يجري خارج الأسوار، قطع شوطاً طويلاً, أصبح فيه ”النائبُ“ فاعلاً، و”الفاعلُ“ فعلاً مبنياً على المجهول!!
بعد قضائه شهور ”العدَّة السياسيَّة“ في سجن كوبر, خرج الترابي، وبدأ يلمسُ ابتعاد شئون الدولة الجديدة بعيداً عن شواطئه.. فتعمَّقت شكوكه وهواجسه تجاه العسكريِّين, فقام في العام 1992 بحلِّ المجلس العسكري, ظناً منه أن ذلك سيقطعُ دابر الفتنة.. ومرة أخرى، لم تمتد ظنونه لأبعد من ذلك, ولأنه -”بعناده“ المعروف- أراد أن يكون المُتحكِّم الوحيد, في وسطٍ ذاقَ فيه الأخيرون طعم السُلطة.. كان من الطبيعي، أن ينشأ توتر دائم, ورغم أن صراعاً في طوره الجنيني بدأ يتبلور - دون حدَّة أو ضجة- وراء الكواليس، إلاَّ أن الطرفين استطاعا إخفاءه لبعض الوقت.
صاحَبَ ذلك دخولُ حدثين مُهمَّين, أربكا سياسة التخفي، وسارعا في كشف قناع السُلطة نهائياً، على المستويين الداخلي والخارجي, وانعكسا من جهة أخرى على صِراع الكواليس, وفيه تسنَّى للترابي الإمساك بخيوط السلطة، وإعادتها إلى حياضه. • الأول: عندما حدث الغزوُ العراقي لدولة الكويت، في أغسطس/آب 1990, اتخذت الطغمة الحاكمة في السودان قرارها بالانحياز للدولة الغازية, وكان ذلك تنفيذاً لقرارٍ من التنظيم الدولي للحركة الإسلامية, وللترابي فيه نفوذ ودور مؤثر. وكما هو معروف، فقد بنى التنظيم حساباته, ليس حباً في نظام صدَّام حسين، وإنما استند إلى تقديرات إرث القوميَّة العربيَّة، التي عَصَفَ بها الغزو, فتدافعوا نحو بغداد، وأعلنوا تأييداً مُطلقاً للنظام العراقي، في السرِّ والعلن, وهم يعلمون أنه يخوضُ معركة خاسرة.. وشرعوا في تعبئة المُواطنين في العواصم العربية والإسلامية، بتظاهراتٍ مُتصلة، وبشعارات إسلامية، أقنعوا النظام العراقي سلفا بتبنِّيها, مُوقنين بأن تلك التعبئة التي قدحوا زنادها، ستحقق لهم وجوداً بين الجماهير من المحيط إلى الخليج.. وفى ذلك، زايدت الطغمة الحاكمة في الخرطوم, برسالة فحواها أن نموذج الدولة الإسلامية المُرتجى قد وَضَعَ لبناته في السُودان.
نتيجة لكل ذلك, حدثت القطيعة الكاملة بين النظام والحكومة المصريَّة, أكثر الأطراف التي كانت مُؤيِّدة وداعمة له، منذ لحظة استيلائه على السلطة, وأصبحت الدولة المصرية فيما بعد أُولى ساحاته في تطبيق إستراتيجية ”تصدير الثورة الأصولية“. كذلك أورَث الانحياز إلى جانب العراق السلطة مقاطعة إقليمية ودولية شبه كاملتين, وانعكست بصورة أساسيَّة في المجال الاقتصادي, لكن الترابي -من خلال الرسالة الموجَّهة للتنظيم الدولي- عَمِلَ على سدِّ الفجوة الاقتصادية, ونجح في استدرار دعمه, واستقطاب كوادر إسلامية للاستثمار في السُودان. ثم خطا الترابي خطوة أخرى، بتوسيع قاعدة التنظيم العالمي من خلال فكرة ما أسماه بـ”المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي“, وجمع شتاتاً مُبعثراً في أرجاء الدنيا، لتأسيس الكيان الجديد, واجتمعوا في الخرطوم في أبريل/نيسان 1991، وانتخبوه أميناً عاماً.
في إطار صراع الكواليس، هدف الترابي من وراء كل ذلك، إلى تأكيد زعامته للحاكمين بأنه ”المُخلِّص“ الذي يُمكنُ الاعتماد عليه في المُلمَّات, ونظراً لأن الآخرين لا تتعدَّى علاقاتهم الحُدود الجغرافية للسُودان, فقد اختار ميداناً لا يستطيع أي أحدٍ مِمَّن يُمكنُ أن تسوِّل له نفسه منازعته الزعامة, منافسته فيه.. وبعد اختياره أميناً عاماً للتنظيم الجديد, أراد الترابي تسجيل نقطة إضافية تعزِّز وجوده، على مستوى السلطة، ومستوى التنظيم, فاختار ميداناً آخر، كان يُمثل مُعضلة حقيقية للحركة الإسلامية العالمية, فاختار أفغانستان، لأن المُتعاركين فيها ”إخوة برباط العقيدة“, فغادرَ إلى بيشاور منتصف يوليو/تموز1991، للتوسُّط بين ”المجاهدين“ الأفغان, وإيقاف بحور الدم المُنهمرة من كل الأطراف.. وفي هذه الزيارة، التقى للمرة الأولى أسامة بن لادن، وآخرين من المتطرِّفين الإسلاميين, ودعاهم لزيارة السودان ”ضيوفاً مُقيمين“, وقد لاقت الدعوة هوىً في نفوسهم، فلبُّوها مُهْطِعين.
كذلك استخدم الترابي علاقاته في تأسيس علاقة خاصة وداعمة، بين طهران والخرطوم.. وقبل أن يطوي العام آخر أيامه، كان الرئيسُ الإيراني هاشمي رافسنجاني قد حلَّ زائراً السُودان في 13/12/1991، على رأس وفد ضخم، مُكوَّن من 157 شخصاً بينهم أكثر من 80 ضابطاً في الجيش والاستخبارات, قضوا ثلاثة أيام في الخرطوم, وتوطدت العلاقة بمشاريع مُختلفة ومُتعدِّدة، بعضها أثار جدلاً.. وكانت تلك الزيارة مدعاة للمُجتمع الدولي بوضع العلاقة في عين العاصفة, حتى أصبح التحلحُل منها صعباً ومكلِّفاً فيما بعد.
• ثانياً: أما التطوُّر الثاني، الذي استمر الترابي خلاله في إرسال إشاراته لزمرة الكواليس, فقد تمثل في التحوُّلات الدراماتيكية التي حدثت في منطقة القرن الأفريقي، مُستهل العام 1991, إذ انهار نظام سِياد برِّي في الصومال في فبراير/شباط1991, الأمر الذي أغرى التنظيم الجديد، ”المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي“، الذي يقفُ على رأسِه الترابي، بدخول ”المستنقع“ الصُومالي، بغرض تصدير الأصوليَّة الدينيَّة, مُستنداً إلى مُكوِّنات المُجتمع الصومالي في توافر العناصر الروحيَّة العقائدية.. وهو القطر العربي الأفريقي الوحيد الذي يدينُ جميع سكَّانه بالإسلام، على هدى مذهبٍ واحد، هو المذهبُ الشافعي.. كذلك انهار نظام مَنغِستو هيلاماريام في إثيوبيا في مايو/أيار1991, حيث تتوافرُ ذات العناصر، وإن بدرجة نسبيَّة، إذ يُقدَّر عدد المُسلمين فيها بأكثر من 65% من جملة السكان، الذين يناهزون الستين مليوناً, إلاَّ أن الإحصاء الرسمي يُقلِّلُ من تلك النسبة.. ثم برزت أيضاً إريتريا كدولة وليدة في المنطقة، بعد تحرُّرِها من إثيوبيا في مايو/أيار 1991، وكذا تشيرُ الإحصاءات الرسمية فيها إلى أن شُعُوبها تتناصفُ الإسلام والمسيحيَّة. ومِمَّا يجدُر ذِكرُه، أن الجبهة الإسلامية، وتحديداً زعيمها الترابي، كانت له علاقاتٌ وطيدة ومُبكِّرة مع قادة النظامين الجديدين ”الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا“ في أديس أبابا، و”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا“ في أسمرا, وذلك أثناء حقبة الديمقراطية الثالثة في السُودان, وقد أسقطت تلك العلاقة الخلفيَّة الماركسية للجبهتين معاً, وتوطدت أكثر بعد استلام الجبهة الإسلامية مقاليد السُلطة, وقبيل وصول الجبهتين لسُدة الحكم, وذلك من خلال تقديم دعم عسكري ولوجستي لهُما، كان له أثره الفاعل في المساعدة على سُقوط نظام مَنغِستو.. ومن جهة أخرى، كانت التحوُّلات في إثيوبيا قد أصابت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مقتل, وتغيَّرت تبعاً لذلك استراتيجية النظام نحو جنوب السُودان, من ”مزاج“ التهيؤ والاستعداد، والعمل على فصله, إلى كيانٍ يُمكن إخضاعه - تبعا لتلك التحوُّلات- بالقوة العسكريَّة, وأسلمَته ليُصبِح جسراً أمام التمدُّد الأصولي نحو قلب القارة الأفريقيَّة. وعموماً، نظر التنظيمُ الجديد لكل تلك التحوُّلات باعتبارها ساحة للتحرُّك في أوساط نحو خمسين مليون مُسلم في منطقة القرن الأفريقي, ولم يستصعب الغاية, حتى وإن طال السفر.
مضى الترابي في توجيه رسائله المُباشرة وغير المُباشرة لعدّة أطراف, أهمُّها جماعة ”صراع الكواليس“.. واختار في الخطوة التالية هدفاً توخى فيه تأكيد ”عالَميَّته“, فذهب إلى واشنطن لمُحاورة القطب الذي أصبح متسيِّداً الشأن الدولي، فيما سُمِّي بـ”النظام العالمي الجديد“.. أعدَّ له مجلس النوَّاب الأمريكي ”الكونجرس“ جلسة استماع في مايو/أيار 1992 لمُحاورته, ورغم الاتهامات التي انهالت عليه، وكانت دفوعاته حولها ضعيفة, إلاَّ أن الترابي، بميكافيليته المعهودة، كان سعيداً بالمُناسبة، والتي كانت بزعمه - وفق وقائع محضر الجلسة- رسالة لمن يهُمُّه الأمر. ويذكر أن الادارة الامريكية كانت قلقة بشأن علاقة النظام بدوائر ارهابيه, لكنها لا تملك دليلاً كافياً, وفق ما أكده سفيرها حينذاك في الخرطوم «الحكومة السودانية كانت تنكر علاقتها بالارهاب, وكنت أردد أن واشنطن لديها أدلة, وسئلت عن أدلة للأسف لم تملكني واشنطن معلومة أستطيع أن أطلق بها يدي وأضغط على الحكومة, مع أنني كنت على يقين بأن هناك علاقة مع بعض الاطراف في الحكومة ومنظمات, مثل حماس وحزب الله والجماعة الاسلامية وحركة الجهاد الاسلامية لتحرير فلسطين».
لم يكن ختامُ تلك الزيارة مِسكاً بالنسبة له, إذ تعرَّض لاعتداء من مُواطن سُوداني مُقيم في كندا ”هاشم بدرالدين“, وبمنطق الغرائز الإنسانية، لم يكن غريباً أن يستدعي الحادث شماتة بعض المُعارضين.. إلاَّ أن الغريب في الأمر حقاً أن بعض جماعة ”المنظومة“ رأت أن الأقدار وفَّرت لها فرصة في استثمار مأساويَّة الحدث، وتجييره لمصالحها, وذلك بالاستمرار في ترتيب شئون الحكم، إبان الفترة التي قضاها مُستشفياً.. ولاحقاً، زلَّ لسانُ أحدهم، وأفصح عن تلك المشاعر السالبة، بالتشكيك في قواهُ العقلية.
خلال هذا وذاك, كان الصراعُ -أو الترابي نفسه- قد دفع السُلطة للكشف تماماً عن وجهها الثيوقراطي, وشرعت في تطبيق برنامج الجبهة الإسلاميَّة، وتنزيله على أرض الواقع, باستخدام الشعارات البرَّاقة، دون مضمونٍ حقيقي, واستعمال الخطاب الديني بكثافة, وتفسير غير المألوف للناس في مناحي حيواتهم المُختلفة.. بفقه الضرورة حيناً, وبشيء من الديماجوجية أحياناً أُخَر.. وفي هذا الصدد، فقد أدهش الفريق عمر البشير زميلة صحفية، سألته عن ظاهرة حظر التجوُّل التي امتدَّت لأكثر من ثلاث سنوات من عمر النظام، فقال لها: = حظر التجول رغبة مفروضة علينا من الشعب, فقد وجد الشعب الاستقرار الأسري فيه, فالأبناء والأزواج يعودون إلى بيوتهم باكراً، وعندما جئنا إلى الحكم، كان هناك فراغٌ أمني في الخرطوم, نلاحظ كيف كان الناس يضعون السلك الشائك حول بيوتهم، لحماية أنفسهم من زوَّار الليل ”الحرامية“، وحظر التجوُّل جعل الناس مُطمئنين، ينامون الليل إلى الصبح، بلا إزعاج الحرامية. • هل تتكلم بجدية سيادة الرئيس؟ = أنا أتكلم جدي, وأنا أطلب منك أن تأتي إلى السودان وتتجولي في الشارع السُوداني لاستفتاء الناس في شأن حظر التجول, فإذا لم يكن هو رغبة شعبية، خصوصاً من العنصر النسائي, فنحنُ نلغيه في اليوم التالي. • لا يمكن أن أتصوَّر أن أي شعب يريد أن يفرض على نفسه حظر التجوُّل, هذا كلامٌ بعيد عن المنطق؟ = تعالي الخرطوم إذن.. أطلبُ منك أن تأتي إلى الخرطوم وتستفتي الشعب السُوداني، خصوصاً العنصر النسائي مثلك, إن كان يريد رفع حظر التجوُّل أم لا. نحن متأكدون أن أكثر قرار سيكون غير مقبول لدى الشعب السُوداني هو رفع حظر التجول.
الغريب أن الرئيس الذي حاكى باستلامه السُلطة الذين عناهم بتسوُّر حيطان المنازل ليلاً، كان يُدلي بآرائه تلك في ردهات الهيئة الأمَمِيَّة في قلب مدينة نيويورك, والتي واحدة مِن مهام تأسيسها، رعاية حقوق الإنسان في العالم.
غير أنه لم يكُن وحده آنذاك، فقد تواصل مُسلسلُ الدهشة.. ففي المجال الاقتصادي، شاء آخرون إحياء عظام ”ماري أنطوانيت“ وهي رميمٌ.. فردَّاً على سؤالٍ عن الغرض من الإجراءات الماليَّة التي أثارت سُخط المُواطنين، قال أحدهُم: «إن المُواطن العادي في قمة السعادة من تلك الإجراءات, وكلُّ ما يُشاعُ في هذا الصدد من حديثِ الأغنياء».. وجاراهُ ثانٍ: «الشعبُ السُوداني يتفهَّم تماماً ما حدث ويحدُث، وأعرفُ أن المُواطن السُوداني الذي يحصلُ على ثلاث وجبات، يُحاوِلُ توفير واحدة منها للدفاع عن البلاد».. وبزَّهُم ثالثٌ: «إنهم في الخارج يتساءلون، لماذا التزم السودانيون الهدوء, رغم المُعاناة والضيق، وارتفاع تكاليف المعيشة، ولم يتضجَّروا أو يندفعوا في المُظاهرات كما هو حالهم كلما أرادوا التعبير عن السُخط والغضب, وقد قال لي نقابيٌ قديم، إن السبب وراء هذه الظاهرة هو الاقتناع بطهارة الحكم».. ثم زاد: «إن السُودانيِّين لا يثورون بسبب الفقر أو عدم مقدرتهم على شراء اللحوم, ولكن يحدُث ذلك إذا حدث الفساد والانحراف، أو إذا أُهينوا في تفسير صمتهم, والشعب السُوداني يمنحُ فرصته للجديَّة، ونظامُ الإنقاذ يلمسُ الأوتار النفسيَّة، ويضعُ يده على مزاج وقناعات الشخصيَّة السُودانيَّة».. ثم ضربَ مثلاً بمدينة ”ثائرة“ من مُدُن السُودان: «فمدينة عطبرة، وهي عاصمة العمَّال في السودان، ظلت تاريخياً تتحرَّك وتتمرَّد ضد أقل القرارات تأثيراً على حياتها. الآن بلغ سعر كيلو اللحم خمسمائة جنية, ومع ذلك فإن الحياة في المدينة تمضي طبيعيَّة». وختم آخرٌ بمدحٍ في مكان ذم: «لا أعتقدُ أن الشعب السُوداني مُغفل أو ضعيف إلى درجة تأييد هذه الحكومة قهراً وقمعاً على مدى10 سنوات».. على الرغم من أن الأخير هذا ناقض حديثه بعد أقل من عامين, إثر تجرُّعه من الكأس نفسها، المرارة التي أذاقتها الإنقاذ للذين فسَّر المذكور صمتهم بالرضى, فأصبح يدعوهم جهراً للإطاحة بالنظام؟!
مع ذلك، فإن النماذج سالفة الذكر، مع ملاحظة أن جميعها نشِرَت خارج السُودان في ظلِّ تشدُّد السُلطة بعدم دخول أي مطبوعة للبلاد, تشحذ الأذهان للتأمُّل في ظاهرة استطالة سنوات الإنقاذ, رغم الواقع الذي يدحضُ كلَّ حرف نطق به المذكورون أعلاه.
كانت الأزمة الاقتصادية كلما اشتدت، وزادت ضيقاً ومعاناة على المُواطنين, عصَبَت السُلطة بطونهم بخطابٍ وشعارات لا تغني ولا تسمِن ولا تشبِعُ مِن جوعٍ، مثال: «لقد حدَّدنا أهدافنا ومبادئنا, فإذا كان الهدف هو الإسلام، حسب إيماننا، فإن ما نطبقه الآن في السُودان هو أمرٌ من ربَنا سُبحانه وتعالى, فلا يمكن لنا أن نحاول أن نُرضي البشر لنُغضِبَ الله سُبحانه وتعالي, مهما كان الأمر».. وقوله أيضاً: «الاقتصاد يُعاني اليوم لأننا حمَّلناه فاتورة الشريعة, وهل كان الناس يتوقعون منا أن نبيع ديننا بدراهم معدودات».
ظلَّت ألسُن مبعوثي العناية الإلهيَّة لأهل السُودان ترسِلُ مثل هذه ”الصواعق“ الشعاراتيَّة, في حين أن المُخاطبين يعلمون بأنهم جُبِلوا على دين الإسلام بالفِطرة.. يبدأون يومهُم بالبَسمَلة، ويختمونه بالحوقلة, وهم ثاني ثلاثة في الأمَّة الإسلاميَّة جمعاء مِمَّن اعتادوا الصلاة على المُصطفى ”صلعم“ كلَّما خرجت مِن جوفهم زفرة حرَّى، تدهمهم حينما يسمعون مثل ذلك اللغو مِن الحديث.. ولم يدَّع أحدٌ منهم أنه أراد أن يبيع دينه بدراهم، كثرُت أو قلَّت, وإنما قالوا: نريدُ نظاماً يكفلُ لنا حريَّاتنا الأساسيَّة.. يُطعِمُنا مِن جوعٍ, ويسقينا مِن ظمأ, ويؤمِّننا مِن خوفٍ.
خطابُ التعمية شمِلَ أيضاً المجال السياسي، فعندما تسألُ السُلطة عن مُصادرتها الحريَّات العامة, تلجأ الطغمة الحاكمة إلى فقه المقارنات البائس.. فردَّاً على سؤالٍ حول ما إذا كان النظام يقبل بالتعدُّدية، ومُشاركة المُعارضة في الحكومة، يكون الرد: «لماذا تتحدَّثين عن التعدُّدية في السُودان وحدَهُ, وأين التعدُّدية في العالم العربي؟؟».. أي أن افتراض غيابها في العالم المذكور، يُبرِّر غيابها عن السُودان.. وأحياناً يأتي المُبرِّر نفسه -بعد عولمته- بمنطق الوصاية, علماً بأن قائله كان يومذاك في قمَّة مجده الشخصي، قبل أن ينقلب عليه حواريِّوه: «إن الذي يحدُثُ عندنا باسم التعدديَّة، أو الديمقراطية الغربية, هو أقربُ إلى السُلطة الديماجوجية، أو الغوغائية, التي تقود حفنة من الأفراد والبيوتات إلى السُلطة بدون مُمارسة الشورى الحقيقيَّة, لا في داخل الحزب نفسه، ولا في داخل القطر عامة».. والمُفارقة، أنه حتى بعدما انقلبوا عليه، لم تحُل المِحنة عُقدة من لسانه، ليقول للملأ إن المُغامرة العسكرية المؤدلجة صادرَت حق الشعب في خياراته السياسية الطبيعية.
استكمالاً للدائرة، فقد طالت مُمارساتُ الإنقاذ قطاعات أخرى, الأمر الذي استنفر أحد الكتاب السياسيِّين، فكتب مُستنهضاً هِمم المُتقاعسين، لجعل مُمارسات السُلطة فيما أسماه بـ”أم الكبائر“، منطلقاً للإطاحة بها: «إنني أرى أن النظام الأصولي العسكري أبشعُ نظام حكم في البلاد منذ أن تكوَّن السُودان -بشكلٍ عام- على يد محمد علي باشا القرن الماضي, ومن أعظم الكبائر في سِجلِّ النظام، مُعاداته للآداب والفنون والفكر, ولهذا ينبغي تنسيق كل الطاقات لإطاحة الديكتاتورية، ووضع حدٍ للتدمير الذي تمارسه على جميع الأصعدة».. بالرغم من أن الداعي لم يمضِ شخصياً – بقلمه- في ذات الطريق، للوصول بالدعوة إلى نهاياتها المنطقية.
بَيْدَ أنَّ هذه المُمارسات طارت شظاياها، وأصابت آخرين, وكان لها انعكاساتها على مستوى الإقليم, ويبدو أنها -رغم سلبيتها- كانت بمثابة بروباجاندا ”دعاية“ لصالح الترابي، في صراعاته الخفية.. فقد جاء أول اتهام من بلد نَمذَجَت الجبهة الإسلاميَّة تجربته، واعتبرتها إحدى منطلقاتها في الانقلاب.. فبعد سلسلة مُظاهراتٍ واضطرابات شهدتها العاصمة الجزائرية, صرَّح مسؤولون لوكالة الأنباء الرسمية بتاريخ 31/5/1991: «بتورُّط نظام الجبهة الإسلامية السُودانيَّة في الشئون الداخلية لبلادهم».. ثم أعقبتها تونس على لسان رئيسها، زين العابدين بن علي، في الليموند الفرنسية بتاريخ 12/7/1991, بنفس الاتهام، إلى أن سحبت سفيرها من الخرطوم في 15/10/1991, حيث كان ”راشد الغنوشي“ زعيم ”حركة النهضة“ من بين المشاركين في فعاليات المؤتمر الشعبي الإسلامي, وبموجب توجيهاتٍ من الترابي، مُنِحَ جواز سَفَرٍ سوداني ”دبلوماسي“ في مايو/أيار 1991!! وعندما قامت السُلطات التونسيَّة بنشر نسخة مُصوَّرة منه, اعترف الترابي في تصريحاتٍ صحافية بتاريخ 18/10/1991، وقال: «إن ذلك جزءٌ من التقاليد السُودانيَّة في مُساعدة اللاجئين».. وتلاهُما الرئيس المِصري حُسني مُبارَك في الحياة 16/7/1991, بشيء مِن السُخرية: «البشير راجل طيِّب وأمير، بس الثاني اللي بيلعب مِن الخلف، ونحن فاهمين»، وأضاف: «الترابي هو الذي يعمل المشاكل، وفاهم بأنه سينشر مبادئه الهدَّامة في كل منطقة من العالم, ويلعب على دول المغرب العربي».. ثم مؤكداً في موقع إعلامي آخر بأنه يملكُ: «أدلَّة دامغة على تورُّط نظام الجبهة في أحداث الجزائر».
الذين تسابقوا في تأكيدات تورُّط النظام، والترابي بصفة خاصة, لو كانوا يعلمون صراع الكواليس، لأدركوا أن الرجُل حينها كان سيسعَدُ بالمزيد، حتى لو كالوا له أطناناً منه.. وكان حينما يقول: «لا دور لي في إدارة الحكم, ولكن بالضرورة لي دور فكري عام»، فإن تلك من الرسائل المعنيَّة بها ”زُمرة الكواليس“, وبعضهُم يقرؤها جيداً، أكثر من أصحاب القرار في دول الإقليم، التي استهدفتها طموحاته, وليس المشروع كما تخيَّلوا.. وبعد تأكيد الترابي زعامته مُجدَّداً، كان بعضُ أفراد ”الزمرة“ نفسها قد استكان, وبعضُها الآخر رضخ لمشيئته وزعامته, فأصبحت ”المنشية“ مَحَجًّاً لكل رجالات الدولة, بعد أن صارت القراراتُ، صغيرها وكبيرها، يُصدِرُها ”الشيخ الدكتور“ مِن دارِه تلك، دون قرطاسٍ، أو قلمٍ يُدمي بنانه.
غير أن للشفاهة تفسيراً آخر في مُمارسات ”الشيخ الدكتور“, فالمُتربِّصون به تورَّطوا في انتهاكات جنائية متعدِّدة على المستوى الداخلي (التعذيب, التصفيات الجسدية, الإعدامات) وأيضاً على المستوى الخارجي لاحقاً.. وقد اكتفى في جميعها بحُدود العِلم، عِلماً بأنَّ حُدود العِلم هي أيضاً نوعٌ من التواطؤ، أو المشاركة النسبيَّة في المسؤولية.. لم يكن ذلك اجتناباً للشرِّ، بقدر ما كان الترابي يُدرِكُ، بدهائه ومكرِه المعروفين، أن ثمَّة لحظة فاصلة يُحتملُ حدوثها.
عاد الترابي بعد شفائه لمُمارسة دوره, في حين تضاءلت غايات ”زمرة الكواليس“, انحناءً للعاصفة، أو استسلاماً لواقعٍ أحكم الشيخُ الدكتور قبضته عليه.. غير أنه أقدم في العام 1993 على خطأ إستراتيجي في إطار الصراع, حيث أصدر مُغترَّاً ”فرماناً“ يقضي بحلِّ تنظيم الجبهة، لعدم جدواه، بعد أن أصبحت نظاماً: «سعيتُ لتوسيع دائرة الحزب كلَّما اكتشفتُ ازدياد الذين يُؤمنون بما أدعو إليه, للدرجة التي وصلتُ فيها إلى قناعة كاملة بأنَّه ليس هناك ما تسَمَّى بالجبهة القومية الإسلامية, وارتضينا على رؤوس الأشهاد أنه لو قدِّر لهذه البلاد أن تعود مرة أخرى إلى نظام أحزاب، فإنني لن أكون عضواً في حزبٍ يحمل اسم الجبهة الإسلامية، أو غيرها من الأحزاب». رغم أن ذلك قولٌ يدُلُّ على أن ذكاءه لم يُسعفه في قراءة صحائف المُستقبل قراءة صحيحة، فالأشهاد الذين خبروا ميكافيليته يعلمون أنه الآن رئيس حزب المؤتمر الشعبي.. وتبع ذلك حلُّ هيئة مجلس الشورى ”بالتجاهُل“، إلى أن غابت في زحمة الأحداث.. وبهاتين الخطوتين، يبدو أن الترابي اقتنع بأن الكرة قد استقرَّت تماماً في ملعبه, بلا رقيبٍ أو حسيب, فوجَّه أبصاره إلى ما خلف الحُدود, مُتوخياً دوراً أمَمِيَّاً، بغرورٍ شديد: «إنه نموذج سُوداني سنجرِّبه ونحسنه، ثم نهديه إلى المُسلمين, ثم بعد ذلك إلى الغرب».
في الفصلين الثالث والخامس، سنتابع الأحداث التي أدَّت إلى بداية التصدُّع بين الترابي و”المنظومة“, إلى أن اختار كلُّ طرفٍ المُضي في طريق. الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ الثالِث: المُترَبصُون والهارِبُون
إذن، فقد مثلت الساعة الثانية من صبيحة الجمعة 30/6/1989 حداً فاصلاً في التاريخ السياسي السُوداني الحديث, بين نظامين نقيضين.. ديمقراطية -بغض النظر عن مُمارسة قاصرة أوصلتها إلى شيخوخة مبكرة- وانقلابٌ عسكري دشَّن لنظامٍ ديكتاتوري، أخفى هويته الثيوقراطية، ولو إلى حين.
لم يكن سيناريو الانقلاب نفسه مُرهقاً في التنفيذ, كما ذكرنا في المشهد السابق, بل ربما كان الأيسر في سلسلة ما يربو على الثلاثين انقلاباً -ناجحاً وفاشلاً- خرجت جميعها من رحم المؤسَّسة العسكرية, على مدى نصف قرنٍ منذ استقلال السُودان في العام1956.
ولسنا بصدد إعادة تسجيل تفاصيل ما وثقناه من قبل، حول وقائع الانقلاب, وزاد عليها آخرون -مع قلتها- بتوثيقٍ مُحكم أيضاً، لكننا نستزيد هنا بتسليط الضوء على بعض المفاهيم المُلتبسة التي سيَّلت فيها الأقلام أحباراً.
أكد كل الذين كتبوا عن هذه الفترة، أن الجبهة الإسلامية استخدمت خدعة ماكرة لتنفيذ سيناريو الانقلاب, بترويج أنه تمَّ باسم القوَّات المُسلحة، وهيئة قيادتها.. والذين يقفون عند هذا الحد في تفسير الملابسات، يُرسِّخون -من حيث لا يدرون- لخطأ أكبر, فذلك يعني لو أن الانقلاب قامت به هيئة القيادة، لأصبح عملاً محموداً ومُباركاً.. وواقع الأمر، أن كلا العملين مذموم, سواءٌ كان السيناريو الذي نجح، أو السيناريو الذي كان في مخيِّلة بعض أعضاء هيئة القيادة، وشريحة كبيرة من الضباط, أكدته المُداولات والمناخ الذي وُلدت فيه ”المُذكرة“.. وعليه، فما من منطق، أو سبب، يجعل البعض يتحسَّر على انقلاب لم يخرج من عباءة هيئة القيادة.. بحسب كونه ”انقلاب أخيار“.. مثلما لا ينبغي أن يشكل الانقلاب -الذي نجح مفاجأة للبعض- باعتبار أنه ”انقلاب أشرار“، لأن المتابعين لمسيرة تنظيم الجبهة الإسلامية يعلمون أن الأمر برمَّته يتَّسق مع أفكاره المُناهضة للديمقراطية.. وهي أفكارٌ لم تكن حبيسة الصدور, وإنما عبَّرت عن نفسها على لسان قادتها مراراً وتكراراً.
من جهة أخرى, يُذكر أن مثل هذا الفهم المُلتبس، في تفسير الفعل ورد الفعل في الواقع السياسي السُوداني، تكرَّرت مشاهده.. فعندما ضاق صدر السيد عبدالله خليل، رئيس الوزراء خلال الحقبة الديمقراطية الأولى، وأمين عام حزب الأمة أيضاً, بالمُناورات السياسية الحزبية، قدَّم النظام الديمقراطي بأكمله -أيا كان فجوره وتقواه- قرباناً للعسكريين.. قام بكرمٍ طائي بتسليم السُلطة للفريق إبراهيم عبود، وزمرته من كبار الضباط، وعلى الفور قام السيدان عبدالرحمن المهدي، زعيم طائفة الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية, بمُباركة الانقلاب، وإضفاء الشرعية الواقعية عليه، قبل أن يضيع صوت الفريق عبود في غياهب الصمت بعد إلقائه ”البيان رقم واحد“. والمُدهش أن تجد الوقائع التاريخية المثبتة تفسيراً عند السيد الصادق المهدي, ويعزي ما حدث إلى أنه/ «نتيجة سوء تفاهم بين سكرتير حزب الأمَّة السيد عبدالله خليل ورئيسه وراعيه السيد عبدالرحمن المهدي». ويعلم السيد الصادق أن بيان الأخير، الذي سمي فيه الانقلاب بـ«يوم الخلاص»، و«الثورة المباركة»، واضحٌ لا لبس فيه.. بل إنه ناب نفسه عن العسكريين قبل أن يُباشروا مسئولياتهم، فقال: «لن يسمحوا بالتردد والفوضى والفساد والعبث في هذه البلاد».. وطلب من أبناء الأمة المكلومة أن تذهب إلى: «أعمالها في هدوء وثقة لتأييد رجال الثورة».. فأين سوء التفاهم هنا، كما تساءل كاتب قبلنا؟!
أيضاً لا ينبغي أن يُشكل هذا الأمر أي مفاجأة, فالسيِّدان تصالحا مع نفسيهما وواقعهما.. فمن المؤكد أن النظام الديمقراطي -بغضِّ النظر عن المناورات الحزبية- إن لم يكن متقاطعاً مع البنية الطائفية التي يستند عليها الكيانان, فهو يأتي خصماً عليهما، بما يمكن أن يشعُّه من تنوير وتطوير سياسيٍ وثقافي وفكري, في حياة الفرد خاصة، والمُجتمع بصفة عامة.. غير أن المُهم، أن الحدث الذي مَزَجَ ”القداسة“ بـ”السياسة“ كرَّس الظاهرة، التي أصبحت وبالاً على السُودان وأهله.
والغريب أن الظاهرة كرَّست بدورها للفهم الخاطئ في دور المُؤسَّسة العسكرية, التي مُنِحَت حق الوصاية على الشعب في اختياراته السياسية, إدعاء أن القوات المسلحة مناط بها حفظ الأمن، متى ما لاح انفراط عقده في الأفق.. وإعادة الاستقرار، متى ما ظهر اضطراب ركائزه على الأرض.. وهى المرجعية التي يلجأ إليها الانقلابيون، كلما تَسنى لهم الإمساك بخناق السُلطة, وقد وجدت سنداً من مُختلف القوى السياسية، بذرائع مُختلفة، مثلما ذهب في ذلك حزب الأمَّة وأمينه العام في الانقلاب الأول.. وتكرَّر المشهد في الديمقراطية الثانية, عندما شعر الحزب الشيوعي بأن الأرض أصبحت تميد تحت قدميه, وأن بعض القوى السياسية شَرَعَت في تجهيز ”حبال المسد“ لتلفها حول رقبته، رغم أنف النظام الديمقراطي، لم يجد الحزب الشيوعي حينها حرجاً في مساندة الانقلاب العسكري الثاني في 25 مايو من العام 1969، ويجد تبريراً غريباً من ناشط طليعي في الحزب، قال: «ونذكر أن ذلك تمّ والحزب محلول, ونشاطه محظور, وصحفه موقوفة, وممتلكاته مصادرة, ورغم أنف الحقيقة والتاريخ والقضاء المستقل, فما الذي كان مطلوباً منه إذن؟ يُدعى إلى الحرب ولا يُدعى إلى المنادمة».. ولعل الإجابة المُختصرة تؤكد أن تلك ”أدواء“ لا ينبغي أن يكون ”دواؤها“ انقلاباً, فذلك يعني أن الحزب استيأس، أو استصعب - سيَّان- تعبئة الجماهير، وهو الحق الطبيعي المشروع في المُمارسة السياسية, إن لم يكن لسواد عيون الحزب، فللحفاظ على مُكتسباته الديمقراطية بحدٍ أدنى.. ودوننا تجربة الحزب الرائدة في الشعار الذي طرحه في العام 1961، ”الإضراب السياسي والعصيان المدني“، والذي أنتجت تراكماته ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964.. والمُفارقة حقاً، أن يُؤيِّد، أو يصنع، أو يُساند الحزب انقلاب 1969، بوصفه انقلاباً تقدمياً, في حين أنه كان الاستثناء الوحيد بين القوى السياسية في مُعارضة انقلاب 1958 -بيان 17/11/1958- بوصفه انقلاباً رجعياً.
ولأن ما بُنِي على خطأ، بالضرورة يؤدي إلى نتائج خاطئة أيضاً, فالتجربة التي حاولت أدبيات الحزب الشيوعي التحايل عليها ابتداءً, بأنها ”تهمة لا ينكرها، وشرفٌ لا يدَّعيه“.. كان الحزب قد تجرَّع سُمومها قبل الآخرين, بالانقسام التنظيمي في العام 1970، والذي انعكس سلباً على نمُوِّه وتطوُّره السياسي, وتجلَّت إفرازاته في لجوء الحزب مرة أخرى إلى ”ثأر سياسي“ عَبْرَ انقلابٍ عسكري مُضاد, تحمَّل تبعاته الثقيلة في يوليو/تموز 1971، إذ كانت حصيلته المأساوية إعدامات طالت قياداته التاريخية, نفذها نظام نميري بدمٍ بارد, فيما أسماه الحزب بـ”أسبوع الآلام“.
في لحظةٍ تاريخيةٍ نادرة، ورغم أنها خارج الحدود, قدَّم السيد التيجاني الطيب نقداً للحزب في ما اعتبره ”أخطاء تستوجب الاعتراف“ في ثلاث قضايا, هي: موقف الحزب الشيوعي من أطروحات الحكم الذاتي قبل الاستقلال, المشاركة في المجلس المركزي لنظام عبود, وأخيراً انقلاب نميري، أو ”نظام مايو“. وراهناً، رغم التبرير السابق، كتب أحد نشطاء الحزب نقداً واعترافاً جريئاً، ودعا الآخرين لحذوهم.. «ما نقوله باستقامة كاملة، إن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أمام الجماهير عن انقلاب 25 مايو، طالما قطاعٌ مؤثر وقوي، وجزءٌ واسعٌ من قيادته مشى في تدبير الانقلاب قبل قيامه, أو مؤازرته بعد قيامه, وكذلك دفع قطاعات واسعة جداً من جماهير الحزب الشيوعي، وجماهير النقابات المتحالفة معه في دعم هذا الانقلاب, إذن الحزب الشيوعي مسؤولٌ أخلاقياً وسياسياً, وندعو أي ”زول“ مسؤول في الحركة السياسية عن انقلاب عسكري أن يعترف بذلك دون تبرير».. ويضيف أيضاً: «19 يوليو أيضاً مسؤولٌ عنها الحزب الشيوعي سياسياً وأخلاقياً». وقد دعا السيد الصادق المهدي في ورقة له إلى: «ضرورة فتح ملف الانقلابات في السودان».
كان ينبغي أن تكون هذه التجارب مصدر عظَة واعتبار للآخرين.. لكن المُفارقة، أن الجبهة الإسلامية، بعدما سارت في الطريق نفسه بانقلاب 1989، عَمَدَت إلى إخفاء هويتها الثيوقراطية في البداية، بدعوى استفادتها من ”تكنيك“ فشل انقلاب يوليو/تموز 1971، الذي أسفر عن واجهته الشيوعية بصورة صارخة, وهي ذريعة كان يفترض أن تكون مدعاة لعدم تنفيذ الانقلاب، لا العكس, لأن مضمونها يعني أن التكوين النفسي والسياسي للشعب السُوداني لا ينسجم مع المُطلق في الأيديولوجيات، سواءٌ كانت يميناً أو يساراً.
ثم تأتي مُفارقة أخرى على الشعب اليتيم، الذي تعَلَّم الانقلابيون ”الحلاقة“ في رؤوس أبنائه.. فبعد أن دانت السُلطة لطغمة ”الإنقاذ“ بعد الانقلاب, أصدروا قراراً ”وطنيا“، أطلَقوا بموجبه سراح أربعة من رموز النظام المايوي, كانوا قد حُوكِموا بالسجن في الفترة الانتقالية, وفسَّر الفريق عمر البشير الأمر بقوله: «نحن اتخذنا القانون كمُبرِّر لإطلاق سراح هؤلاء.. وأصدرنا قراراً في حق كل من حُوكِم بسبب خرق المادة 96 من قانون العقوبات (إعلان الحرب على الدولة) أو المادة 21 الخاصة بالتمرد.. هذا تسقط عنه الإدانة.. لأننا نحن بتحرُّكنا خرقنا هاتين المادتين.. فمن هذا المنطلق، ومنطلق أخلاقي أيضاً, نحن طالما خرقنا هذه المواد، لا نقبل بأن يُحاكم بها شخص قبلنا».
أبت الأحداث إلاَّ أن تَكشف زيف هذا الادعاء في منطلقاته، بما فيها الأخلاقية.. فبعد شهورٍ قلائل، وتحديداً في أبريل/نيسان 1990، أرادت مجموعة من الضباط القيام بانقلابٍ عسكريٍ -أيا كانت دوافعه- على الانقلابيين أنفسهم, وعند فشل تدبيرهم أعدَّت السُلطة لهم مُحاكمات صورية، بالاستناد على ذات المواد المذكورة, وتمَّ تنفيذ الإعدامات في [28] ضابطاً بصورة وحشية مؤلمة، أسَّست لمنهج العنف، الذي اتخذه النظام وسيلة للبقاء في السلطة.
اتصالاً مع حديث البداية, حول دور المؤسسة العسكرية, فمن التناقضات الغريبة في المُمارسة السياسية, التأكيد الدائم على أن القوَّات المسلحة يجب أن تبقى بمنأى عن موارد السياسة, وطالما استزاد السياسيون في هذا الصدد، بالعُرف والقوانين والتشريعات المُختلفة, والتي تسقط في أول مُنعطفٍ يستعين بقوتها الباطشة, حينما تتعثر خطى البعض، ويَدْلهمُّ لَيل خطوبهم, إما بدعوتها -كما ذكرنا- إلى تسلم السُلطة بعملٍ انقلابي, أو مُباركته بعد نجاحه, ومنحه شرعية الأمر الواقع بالمشاركة فيه.
إن منسوبي القوَّات المسلحة هم شريحة في مجتمعٍ، الفرد فيه مُفرِط في تناول الشأن السياسي, لهذا ظلوا وما انفكوا يُمارسون نشاط أهل السياسة في السرِّ والعَلن.. مرة بالمُباشرة، كما في نصوص مذكرة فبراير/شباط 1989، والتي «حملت طابعاً مزدوجاً، عسكرياً وسياسياً، في آنٍ».. وأيضاً كانت في جوهرها ومضمونها مُطابقة ”حذوك النعل بالنعل“ للخطاب السياسي الذي كانت تلهَجُ به ألسنة القوى السياسية المُختلفة، في ذلك الوقت.. وهي أيضاً مشهدٌ مكررٌ -مع الفارق- لمُذكرةٍ سَبَقَ أن تقدَّم بها لفيفٌ من الضباط، بعد ثورة أكتوبر 1964، للسيد سِرالخَتِم الخليفة، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية ووزير الدفاع, وكان من أهم بنودها: «تطهير القوات المُسلحة من العناصر التي أيَّدت نظام الفريق إبراهيم عبود»، وهو المطلب الذي جَهَرَت به بعض القوى السياسية حينها. وأحياناً تتم المشاركة في النشاط السياسي بطريقة غير مُباشرة, وذلك بالتحايُل في الانقلابات، تحت دعاوى ”خلاص“ أو ”إنقاذ“ الوطن.. فمُذكرة فبراير - التي أشرنا إليها مراراً- استلَّت نصاً قننه لها السياسيون في الدستور الانتقالي لعام 1985، ويقرأ: «قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب، ومهمتها حماية البلاد، وسلامة أراضيها، وأمنها، وحماية مكتسبات ثورة رجب الشعبية».. فلا غرو إن اختزلت هذه الحماية بالانقضاض على السُلطة نفسها, فكأنما النخبة السياسية التي تواصت على ذلك النص الفضفاض، أرادت شَرْعَنة تحايُلها في الشأن السياسي.
بذات المستوى، كان اعتبار المُؤسسة العسكرية ضمن القوى السياسية والنقابية التي وقعت ”ميثاق الدفاع عن الديمقراطية“ في 17/11/1985، اعترافاً ضمنياً في حدِّ ذاته، بدورها السياسي -غير المعلن- وأَحقيتها المُعلنة في الخوضِ في القضايا السياسية المصيريَّة, على الرغم من أن الوثيقة المشار إليها أصبحت أثراً بعد عين, فقد كانت القوَّات المُسلحة، المُوقعة عليها، هي التي داست عليها بدبَّاباتها المُجنزرة في يونيو/حزيران 1989، ذلك لأن الجيوش بتكوينها، تنفرُ من كلمة ”الديمقراطية“, باعتبارها رجسٌ من عَمَل المَدنيِّين، في القوانين العسكرية, التي تلزم بالولاء والطاعة والتنفيذ.
إذن، يجب الاعتراف بأن النصوص فشلت في مُعالجة أزمةٍ مزمنة, مثلما أن العرف لم يكبح جماح الطامحين للوصول إلى سُدة السلطة، عبر عمل انقلابي, طالما أن مختلف القوى السياسية -في سعيها المحموم أيضاً نحو السلطة بوسائل غير ديمقراطية- ركضت خلف سراب المُؤسسة العسكرية, توهماً بأنه المُبتغى.. واستظلَّت بهجيرها، بحسبه المُرتجى!!
لأسبابٍ غير الأسباب السياسية التي أوردناها، ثمة طرف يرى في المُؤسَّسة العسكرية وجهاً آخر، كوَّنته من خلال تجاربها الخاصة, بصورةٍ مُغايرة، لا تخلو من تطرُّفٍ ومُغالاة.. فمُنذ وقت مُبكر، دَعَت الحركة الشعبية لتحرير السودان، من خلال المانفستو التأسيسي الصادر في 31/7/1983، إلى تحطيم الجيش السُوداني, باعتباره مؤسَّسة رجعية انكشارية، وضع لبناتها الاستعمار البريطاني, وطوَّرها في ذات الاتجاه ما أسماه بـ”الاستعمار الحديث“, واقترح بديلاً لها، جيشاً ثورياً جديداً تتشكلُ نواته من الجيش الشعبي للحركة نفسها.
بالرغم من أن الحركة الشعبية جعلت من ذلك المانفستو -فيما بعد- تراثاً في متحف التاريخ, إلاَّ أن تلك الأفكار ظلت المحور الرئيسي في إستراتيجيات قادتها, وقد عبَّر د. جون قرنق، بعد سنين عددا من صدور المانفستو في ذات السياق، بقوله: «الجيش النظامي يتعرَّض لتدميرٍ مُنظم من جهتين، الأولى: الجبهة الإسلامية الحاكمة في الخرطوم, والثانية: قوَّات الجيش الشعبي.. ونجحت الجبهتان في مهمتهما، والجيش السوداني الآن يحتضر، وضعيف، والسبب هو التحالف غير المعلن بيننا والجبهة من أجل تدميره». واقع الأمر، إن هذا التفكير سبق لقائد الحركة التعبير عنه، غير مرَّة، في اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي, دون أن يجد حظَّه في نقاشٍ موضوعي بناء، تهيباً من إيقاظ الفتنة النائمة.. إلا أنها وجدت من أيقظها مرَّة، برميةٍ من رامٍ لم يتورَّع في إزاحة الغطاء عن المسكوت عنه.
جاء ذلك في ندوة كنا قد أقمناها، على هامش اجتماعات هيئة قيادة التجمُّع في أسمرا، في الفترة من 9/1 إلى 11/1/1996, بعدما تأخر انعقاد الاجتماع لأكثر من أسبوع، في انتظار وصول د. قرنق، حيث تحدَّث باقان أموم، القيادي في الحركة الشعبية، بوضوحٍ فاق حدَّ الصراحة, وأورد آراء أصابت المشاركين بوجومٍ، فقال حول موضوع الجيش: «الجبهة الإسلامية أحدثت ثورة حقيقية، مع أنها ثورة رجعية, إذ استطاعت تحطيم جهاز الدولة القديم، والتي أسميها ”دولة الجلاَّبة“, والناس في الجنوب لا يشعرون بأنهم جزء من هذه الدولة, لأنها ليست ضمن طموحاتهم وأحلامهم, ونحن في الحركة بصورة خاصة لا نبكي على ذلك, لأننا لسنا خسرانين.. فجهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش، جهاز قهر.. مثلاً كان يصعُب في فترة من الفترات الحديث عن إعادة تشكيل وتركيب الجيش السوداني كمؤسسة عسكرية, باعتبار أنه أصبح مؤسسة عريقة مو######## من الاستعمار، تطوَّرت عبر عقودٍ ماضية, لكنها كانت جهازاً في يد السلطة، واستخدمته في قهر الشعب السوداني مرات عديدة، بما في ذلك شعب جنوب السودان.. الجبهة الإسلامية قامت بتحطيم ما كان يحلم به جنرالات معنا.. الجنرال فتحي والجنرال عبدالرحمن.. ولا حلَّ لدينا سوى تكسير هذه الأجهزة وإعادة بنائها».. ثم اقتبس باقان من تجربته الشخصية مثلاً مفزعاً، فأضاف: «أنا كشخص، ليس لديَّ ولاءٌ للسودان, وبالتالي فهو غريبٌ علىَّ.. في مدينة هافانا في كوبا، كنتُ أشعر بانتماءٍ، وأنني جزءٌ من المجتمع, وسألتُ نفسي: ”هل هذه خيانة، أم ماذا؟“.. لكن الحقيقة كنت أشعر بأنني مندمجٌ في المجتمع, ولا أشعر بالعزلة، أو أنني مواطنٌ من الدرجة الثانية.. في الخرطوم مثلاً، أشعرُ بأنَّني في الغربة.. كنتُ أقولُ لنفسي: ”هل هذه قِلَّةٌ في الوطنية، أم أن هناك سبباً آخر؟“.. الحقيقة، السبب أنني تَرَبَّيت على ذلك.. أنا أقول، كاقتراحٍ، إن عاصمة السودان الجديد يجب أن تتحوَّل من الخرطوم, لأن الخرطوم تذَكرنا بأشياءٍ مؤلمة كثيرة.. لابد أن نبحث عن مدينة أخرى، في أي مكان».
لم يتطرَّق أحدٌ في الندوة لحديث السيد باقان، غير السيد التيجاني الطيب، الذي قال اختصاراً: «على الرغم من تفهُّمِنا للأسباب الموضوعية التي تقف خلف هذا الكلام, إلاَّ أن مثل هذه الآراء تفزِعنا».. وفى واقع الأمر، كان التيجاني متصالحاً مع نفسه, بل متصالحاً مع هواجس حزبه في هذا الشأن.. فهذه الآراء سبق أن كانت محور حوارٍ طويلٍ قبل نحو أكثر من عقدين, بين سكرتير الحزب محمد إبراهيم نقد، ود. جون قرنق، في أول جولة خارجية للأول بعد انتفاضة أبريل/نيسان 1985, ودارت حول مانفستو الحركة بشكلٍ عام، وآرائها في جهاز الدولة القديم، بما في ذلك الجيش بشكلٍ خاص.. إلا أن الثابت في تفكير قادة الحركة الشعبية، تمسُّكهم بهذا المفهوم من ”مَهْد“ بداياتها، وحتى ”لَحْد“ نيفاشا، الذي أفرز اتفاقاً، اقتسمت بموجبه الحركة الشعبية السلطة مع نظام الجبهة الإسلامية، أي ”جهاز الدولة القديم“، ذلك بالرغم من أن بند الترتيبات الأمنية عطَّل الوصول إلى اتفاقٍ في أكثر من مرحلةٍ من مراحل التفاوض.. ربما للأسباب المذكورة، والتي أقر بها قادتها.. أو ربما لقناعتهم بأن: «جيوش حركات التحرر مثل خيل المغول, إن ماتت الخيول، مات مالكوها»..!! على حدِّ تعبير أحد كوادرها.
أيَّاً كانت الأسباب، فالثابت أن قائدها ظلَّ متعظاً، أو مسكوناً بـ”فوبيا“ الماضي, عندما جرَّد جعفر نميري, قائد حركة الأنانيا «2»، جوزيف لاقو، من جيشه بعد الاتفاقية, وجعله جنرالاً تائهاً في أقبية القصر الجمهوري.. «إن الحركة الشعبية لن تُكَرِّر الخطأ الإستراتيجي الذي وقعت فيه أنانيا «2»، عندما حلَّت جيشها بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، مما أعطى الرئيس نميري فرصةً لعدم احترام الاتفاق فيما بعد». لهذا، كان قرنق يرى أن السبيل الوحيد لقتل تلك الهواجس.. «احتفاظ الحركة الشعبية بنحو مائة ألف مقاتل، في كامل استعدادهم العسكري، للدفاع عن الاتفاقيات إذا حاول الطرف الآخر تجاوزها، أو التملص منها». ورغم قولنا بأن المانفستو أصبح تراثاً في أدب الحركة، لكن د. قرنق رأى أن الاتفاقية المذكورة نفخت فيه الروح، خاصة في المسألة موضع الجدل.. «إن أكبر إنجاز حققه اتفاق نيفاشا للترتيبات الأمنية والعسكرية، هو وضع الجيش الشعبي في مصاف الجيش القومي السوداني». ذلك ما أفسح الآمال للحركة الشعبية في أن تطلب المزيد, فخَطَت خطوة أخرى بمطالبة النظام بالصرف على هذا الجيش, وكانت أيضاً تلك من النقاط التي تظاهر فيها الطرف المعني بالرفض والتمنُّع, ولم يكن بمقدوره الاستمرار في ذلك, فتمَّت معالجتها ضمن البنود السرِّية للاتفاقية، بمشاركة الوسطاء الراعين لها. وعليه، يمكن القول بأن بند الترتيبات الأمنية، يعد أولى الثمار التي قطفتها الحركة الشعبية من اتفاق نيفاشا الثنائي.. فهو، وإن لم يبلغ بها أقصى مرامي حلمها في تحطيم الجيش القومي, وإحلال جيشها الخاص محلَّه, فقد حافظ على قوتها العسكرية وفق نسبٍ, يحقُّ لها أن تزعم بأنها قاربت الحلم المشار إليه.
من جهة أخرى، فإن الشريك الذي عقدت معه اتفاقاً، غير مُعلن، في تحطيم المؤسَّسة العسكرية، وفق ما أدلى به د. قرنق، كانت له أجندته الخاصة حيال تلك المؤسَّسة، منذ نجاح الانقلاب، وتسلُّمه مقاليد السلطة.. فمن المعروف أن الجبهة الإسلامية قد ثابرت طيلة عقدٍ ونصف على إحلال مجندي ”الدفاع الشعبي“ مكان الجيش, بفصل عشرات الآلاف من الخدمة العسكرية, وأدلجة من تبقى بوسائل مختلفة, وأيضا سواءٌ تحقق لها ما أرادت، أم لم يتحقق, تصبح المُحصِّلة أن المؤسسة العسكرية تخلخلت ركائزها، نتيجة الظروف التي وضعتها بين ”فكي كماشة“, وبالتالي طرأ تغيير على ما اصطلح على تسميته بـ”المثلث الذهبي“، بأضلاعه الثلاثة: أحزاب, نقابات, وقوَّات مسلحة.. وهي القوى مِحْوَر الصِّراع السياسي، حول السُلطة في السُودان، طيلة نصف قرن منذ استقلاله.
بَيْدَ أننا هدفنا من تلك الفذلكة إلى توضيح الخلفيَّة التي نَهَضَ على جُدرانها انقلاب الجبهة الإسلامية في العام 1989، والذي دَفَعَت فيه المؤسسة العسكرية ثمناً باهظاً، قبل أن تنداح آثاره السالبة على القطاعات الأخرى في المجتمع السوداني.
نعودُ إلى النقطة التي ابتدرنا بها الفصل، في الانقلاب نفسه, والذي ذكرنا أنه يعد من أسهل الانقلابات التي حدثت, وليس ذلك استهانة بالعدد القليل الذي نفَّذ الموضوع، إذ كانوا بضع عشراتٍ من المؤسَّسة العسكرية, انضمَّت لهم في ساعة الصفر عشراتٌ أخرى من كوادر الجبهة الإسلامية, وقد قُدِّر العدد الإجمالي بثلاثمائة فرد!! ولكن لأن الشرط القاسي في الحركات الانقلابية, وهو ”السريَّة“، كان قد سقط تماماً بالوقائع التي أشرنا لها في المشهد الأول, فقد كان معظم المتابعين للحراك السياسي، والناشطين فيه, وعلى رأسهم أقطاب الحكومة الديمقراطية ”الرشيدة“ يتحرَّون سماع ”المارشات العسكرية“، كما يتحرَّى الصائمون رؤية هلال رمضان!!
وكما هو معلومٌ, فقد خطَّط الانقلابيون لكل شيء, عدا واحداً، جاء بمحضِ الصُدفة، مُتزامناً مع الساعات الحرجة في تنفيذ الانقلاب, فسهَّل عليهم الأمر من حيث لم يحتسبوا, إذ كان معظم قادة السلطة -حكاماً ومُعارضين- في حفل زواج إحدى الأسر السودانية، ”آل الكوباني“.. جاء بعضهم من الجمعية التأسيسية, بعد مداولاتٍ اتَّسَمَت بساقِط القول، في مناقشة بند حيوي.. ”الميزانية العامة“.. وكان بينهم أيضاً الذين انتووا الانقضاض على السلطة.. جاءوا خفافاً - من باب التمويه- وغادروا سراعاً، بلسان حالٍ يقول إن المناسبة ستكون بمثابة الفرح الأخير للنظام الديمقراطي، والقائمين عليه.
ثمة ثلاثةٌ، من الذين افترِضَ فيهم السَّهر على حماية النظام، وتأمينه من غوائل الانقلابات العسكرية, بعد أن عَلِمُوا بحدوث ”المتوقَّع“, قاموا بعمل ”غير المُتوقَّع“, إذ اختاروا الهروب!! باعتباره أقصر الطرق لحماية الذات, وليْسَت السلطة، أو الوطن بأكمله!! من المُفارقات، انتماؤهم جميعاً إلى حزب الأمة!!
لم يُرْهِق السيد مُبارَك الفاضل -وزير الداخلية- ذهنه كثيراً بالتفاصيل.. فبعد تبليغه هاتفياً، من بعض أفراد الأسرة الذين شاهدوا الدبَّابات تعبر الجسور الرابطة بين أجزاء العاصمة المثلثة, هَرَبَ على الفور من منزله، واختفى في منزل المحامي حسن عبدالله لنحو ثلاثة أسابيع, باشر خلالها اتصالاته مع بعض أركان الانقلاب، الذين كانوا يقبعون خلف الكواليس, ومنهم صهره د. غازي صلاح الدين العتباني.
في هروبه، كان مُبارك قد خَشِيَ أمراً، واستسهل آخر.. فنسبة لأنه كان الوزير الوحيد في النظام الديمقراطي الذي طالته تهَمُ الفساد، حتى أُرْغِمَ رئيس الوزراء على تشكيل لجنة تقَصٍ له, فقد خشي البطش به في محاكمة إيجازية، يرتئي فيها الانقلابيون فتح ”ملفاته المُفخَّخَة“، للإيحاء بمحاكمة النظام الديمقراطي بأكمله.. لكنه في الوقت نفسه، كان قد وضع احتمال أنه لم يكن -في الأصل- ضد فكرة الانقلاب, بل كان أحد المُتحمِّسين له، وفق ما ذكرنا في الفصل السابق.. وعليه، كان في هروبه يُريدُ التأكد ممَّا إذا كان سيناريو ما حدث مُطابقاً لسيناريو بنات أفكاره.. ولمَّا تبيَّن له أن الانقلاب الجديد يدور في فلكٍ آخر, شَرَعَ في الهروب الثاني، إلى خارج الحدود، بسيارة جُهِّزَت خصيصاً لقطع الفيافي والصحاري, فاتجه نحو الحدود الليبية.. ونسبة للإجراءات الأمنية المكثَّفة التي اتبعها الانقلابيون, كان من الطبيعي أن تثور الأسئلة المُحرَّمة في كيفية ”نجاح هروبه“، في ظل تلك الظروف؟! وقد استقر الاجتهاد في أن الذين كان يُفاوِضُهم في الخفاء لعبوا دوراً في ذلك, أو على الأقل غضُّوا البصر عنه.
في 28/7/1989، كان مُبارَك الفاضل في ضيافة الحكومة الليبية، إذ تجمعه علاقات مُميَّزة مع رئيس جهاز الأمن، العقيد صالح الدروقي.. بعد يومٍ من وصوله، زار الفريق عمر البشير -للمرة الأولى- طرابلس, وأثناء محادثاته مع العقيد معمر القذافي، سأله الأخير بصورة عَرَضِيَّة عن مُبارَك.. فقال له الأول، إنه هَرَبَ، وجار البحث عنه.. فأشار القذافي إلى غرفة مجاورة، وقال له: «إنه هنا»!! بالطبع، لم يكن البشير يعلم.. ولا يعلم أحدٌ ما الحكمة التي حَدَتْ بالقذافي إلى أن يفعل ذلك, أو ما تمَّ الاتفاق عليه.. لكن المُفارقة الغريبة، أن السيد مُبارَك الفاضل، بعد أن غادر طرابلس إلى سويسرا, لم تطأ قدمه أرض ليبيا مرة أخرى، إلا بعد عددٍ من السنين.
السيد عبدالرحمن فرح، رئيس جهاز الأمن, كان ثاني الثلاثة الهاربين, والذي كان قد بَرَعَ قبل أقل من أسبوعٍ في رسم سيناريوهات ”وهميَّة“ لانقلاب ما سُمِّيَ بـ”المايويين“، وادَّعى فيه أن الجهاز العتيد الذي يرأسه: «كان يراقب نميري منذ أن كان بأسوان (مصر)». إلاَّ أنه في الانقلاب الحقيقي، عَجِزَت كل آلياته عن المتابعة والتقصِّي, ومسرح الحدث بالقرب من داره, فلحظة أن عَلِمَ بالأمر، قام على الفور بمغادرة منزله إلى منازل ”لها في القلوب منازل“!! فتنقل حتى استقرَّ به الوضع عند شقيقته ”سارة“ في الامتداد شارع «31».. ولأنه لا يملك هُدْهُد سُلَيْمان، ليأتيه بالخبر اليقين، رغم مرور ساعاتٍ على الانقلاب، لاحَت فيها تباشيرُ الصباح، لَجَأ إلى تسخير المُتَاح، فأرسل شقيقته إلى منزل العقيد كمال إسماعيل، المجاور لهم, يستفسِرُه إن كان لديه أية معلومات حول ما جرى؟! لَمْ يكن المسؤول بأَعلم من السائل, علماً بأن السائل يقف على رأس جهازٍ كان يُفترَضُ فيه أن تكون معلوماته حول الانقلاب قد رشحَت للناس, قبل أن يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود فيه!! سِيَّما وأن رئيسه، حسب إفادته التي أوردناها، اعترف وقال إنه كان يعلمُ الكثير!!
فَكر السيِّد فَرَح، ثم قدَّر، ثم قرَّر مواصلة الهروب والاختفاء.. وبغض النظر عن دعاوى ذلك, إلاَّ أنه أَدْبَرَ عن تنفيذ الفكرة، لأن ظروفه الصحية لا تسمحُ بالمُخاطرة.. وقبل أن يستسلم لمصيره، الذي ألحقه بزمرة المُعتقلين في سجن كوبر, كان وشقيقه ”خالد فرح“, قد لعبا دور ”حمامة السلام“, التي تطوف بين الانقلابيين ورئيس الوزراء الهارب, تنقل لهم ”شروطه“ للاستسلام!!
أما رئيس الوزراء، السيد الصادق المهدي، فما أن تمَّ تبليغه بالخبر المُتوقَّع, حتى قامَ بغير المُتوقَّع!! فكان ثالث الهاربين.. ولأن ذلك ميدانٌ لا يستلزم التنظير، بقدر ما يتطلب التدبير, فقد كان هروبه فطيراً.. أُلقِىَ عليه القبض بنحو أقل من أسبوع، وهو يتأبَّط سيفاً من ”عُشَر“.. وهو عبارة عن مذكِّرة أعَدَّها سلفاً لتسليمها للانقلابيين.. «كنتُ قد أطلَعتُ الرجل على المذكرة, وقلتُ له إنني سأنتقلُ من مدينة أمدرمان إلى الخرطوم، حتى يَسهُل عليه الاتصال واللقاء، الذي كنت أريد أن يتم في القيادة العامة للجيش, وجئتُ المنزل الذي كنتُ أريد البقاء فيه في انتظار الرد، راكباً دراجة, واتضح أن هذا المنزل وهو منزل أختي وعمي مهدي حسين شريف كان مراقباً, وقبل أن أتَّصل بالشخص المعني تمَّ تطويق المنزل في اليوم ذاته وتمَّ اعتقالي». وبِغَضِّ النظر عن اللقاء الذي اجتهد المهدي في سبيله، ليتم في ”القيادة العامة“!! فَرُبَّ سائلٍ, إذا ما كان ذلك هدفه وطموحه، ففيمَ الهروب أصلاً؟! ورداً على المتسائلين، قال: «عندما اختفيتُ كان هناك سببان لاختفائي, أولاً كان هناك اتفاقٌ على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية, يَنُصُّ على أن تتحرَّك القوى السياسية عند وقوع أي انقلاب عسكري, ولذلك كنت أريد أن أرى إذا كانت هناك جهة مستعدة للتحرُّك في هذا الإطار أم لا.. أما السبب الثاني فهو أنني كنت أريد معرفة طبيعة الحركة, لأن تقديري كان أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلاب, فإذا كان الانقلاب أجنبياً كنا سنخرج من البلاد ونقاومه».
واقعُ الأمرِ، بهذا التفسير الحلزوني، حَيَّر رئيس الوزراء حتى الذين ينظرون لأخطائه بعين الرضا.. فهذا حديثٌ كالغربال.. كثير الثقوب.. فقد وَضَعَ المهدي تعريفاً نشازاً للانقلابات العسكرية، لم يَخْطر على قلب حكَّامٍ مُنتخبين مثله، انقلب عليهم العسكر في التاريخ القديم والحديث.. فالانقلاب -في شرعه- إن كان ”أجنبياً“ وَجَبَت مقاومته, وإن كان ”وطنياً“ يمكن مفاوضته!! فلا غرابة أن منحهم الشرعية ”المفقودة“ في بطن المُذكرة التي كان يتأبطها.. «معكم سلاح القوة، ومعنا الحق»!! قبل أن يتحَسَّسوا خطاهم، على أرض الواقع, ويتناسى المهدي في غمرة تبريراته تلك أنه حينما انتخِبَ رئيساً للوزراء، أدَّى القسم لحماية الدستور والنظام الديمقراطي، من أي أخطارٍ تتهدَّدهما، سواءٌ كانت وطنية، أو أجنبية.. والقادة التاريخيون لا ينتظرون الآخرين ليروا ما هم فاعلون.. وعندما يُقِرُّ بأن تقديراته أكدت له أن بعض الجهات الأجنبية تريد تنفيذ انقلابٍ, فما الذي فعله لقطع الطريق عليها؟!
على أن التجربة أثبتت أن المهدي استمرأ تكرار أخطائه.. مثلما استمرأ تبريراته المُرهِقة للعقل والوجدان.. ففي تماثُلٍ من ماضيه السياسي القريب, وبالرغم من أنه كان جزءاً من التعقيدات السياسية، التي صاحبت أجواء السلطة قبيل انقلاب مايو/أيار 1969, ورغم الإرهاصات التي كانت تُشِيرُ أيضاً إلى احتمال الانقلاب, إلا أنه استبعد أي مُغامرة عسكرية تجهضُ النظام الديمقراطي, تماماً، مثلما استبعدها بعد عقدين في يونيو/حزيران 1989، وهو سيِّد العارفين بهما.. «قبل يومين من 25 مايو 1969، تَوَجَّهتُ وزميلٌ لي إلى منزل الصادق المهدي، حيث استعرضنا معه الأوضاع الداخلية, وسألناه إن كان يتوقع انقلاباً عسكرياً, فرفع أصابع يده اليسرى ليُعدِّد الأسباب التي تَحولُ دون وقوع انقلابٍ عسكري, ومنها أن ثورة أكتوبر لا يزال درسها وتجربتها في الخاطر، كما أن الظروف التي يمكن أن يتحرَّك فيها الجيش للاستيلاء على السلطة مغايرة تماما لتلك الظروف التي كانت سائدة في نوفمبر 1958». علماً بأن الظروف التي عدَّدها كان قد أسْهَمَ فيها بقدرٍ وافرٍ من التكدير السياسي.. فهي الفترة التي اشتَعَلَت فيها الخلافات الشهيرة بينه ورئيس الوزراء محمد أحمد محجوب, خفَّت حدَّتها بقبول الأخير بمُقترحٍ قضى بترشيح الإمام الهادي المهدي لنفسه -باعتباره راعي حزب الأمة- لرئاسة الجمهورية, والسيد الصادق لرئاسة الوزراء، -باعتباره رئيس الحزب- في حكومة مقبلة.. قدِّر أن تكون انتخاباتها العامة في مطلع العام 1970, إلاَّ أن المحجوب ضاق ذرعاً، بعد عودته من لندن التي كان يتداوى فيها، بطموح المهدي المُتعجِّل للرئاسة, فقام بتقديم استقالته.. إلاَّ أن وساطة على طريقة ”الأجاويد“ السُودانية, كان روَّادها السادة الهادي المهدي، محمد عثمان الميرغني وإسماعيل الأزهري, طلبوا منه تعليقها، وعدم تقديمها لمجلس السيادة, وكانوا يأملون في بقائه إلى حين إجراء الانتخابات، بقناعة سائدة في أن ما تبقى من فترة كفيلٌ بتحقيق بعض الاستقرار للمناخ السياسي المُضطرب.
في غمرة التمنيات، قطع انقلاب مايو الطريق.. ويُذكَر أنه بعد وقوعه، لم يكن للسيد الصادق أي تحفُّظات عليه، سوى إبعاد ”الواجهة الشيوعية“.. ربَّما لأنه انقلاب ”وطني“، بحسبِ عُرفِه!! وقد نقل رغبته تلك إلى جعفر نميري قائد الانقلاب, بل تطوَّع بتقديم خدماته لإقناع عمه الإمام الهادي, فأعطاه نميري ضوءاً أخضر, فغادر إلى الجزيرة أبا، التي استعصم بها الإمام الهادي، مُصمِّماً على مُعارضة ”الانقلاب الشيوعي“, لكن الأخير طلبَ منه البقاء في الجزيرة للهدف نفسه, عوضاً عن اصطحابه هو للخرطوم لمُفاوضة الانقلابيين.. وأثناء ذلك، توجَّس الانقلابيون منه خيفة، بظنهم أنه خدعهم, فاستدعوه بدعوى مواصلة الحوار, وعند وصوله، تمَّ اعتقاله، وإرساله إلى سجن بورتسودان, وبذلك منحه الانقلابيون ”شرف“ معارضتهم!! وهو شرفٌ لم يسلم من الأذى، ليس لأنه لم يُرَق على جانبيه الدمُ, ولكن لأنه شرفٌ سعى له, ولم يَسْعَ هو إليه!!
إذا ما أضفنا لكل ذلك ”الصفقة السياسية“ التي تمَّت بينه وبين نميري العام 1977, والتي سُمِّيت تجاوزاً بـ”المُصالحة الوطنية“, فقد كانت في حقيقتها قواسِم مشتركةً لأفكارٍ شمولية, طَمَحَ لها المهدي، ولوَّح له بها النظام المايوي.. مثل الجمهورية الرئاسية, والتنظيم السياسي الواحد، والتوجهات الإسلامية.. إلخ, ولم تكن الديمقراطية فيها سوى ”فريضة غائبة“, لم تجرِ سيرتها، لا على الورق، ولا حتى على الألسن!! ولولا أن نميري انقلب على نفسه في العام 1983، متعلقاً بما أسماه بـ”القوانين الإسلامية“, ولولا أنه تنكر بعدئذٍ لِمَا وَعَدَ به المهدي لذاته, لَمَا وَجَدَ الأخير هذا تبريراً في مُعارضة نظام نميري, والذي لا فرق في توجُّهاته الديكتاتورية في أيٍ من سِني حكمه الست عشرة, عليه فإن استنساخ الأخطاء، وتبريرُ الفشل, يظلاَّن سِمَة مسيرة السيد الصادق المهدي السياسية, لكنه لا يأبه لذلك كثيراً.
عندما شَغَلت السلطة التنفيذية نفسها بالهروب، حين وقوع الانقلاب, في موقعٍ آخر كان القائد العام للقوات المُسلحة، الفريق فتحي أحمد على، يخوض معركة محدودة, قدِّر لها أن تكون المعركة ”اليتيمة“ التي جَرَت لحماية كبرياء النظام الديمقراطي, وقد وثَّق لها على النحو التالي: «صباح يوم الجمعة سعت 210، حُوصِرَ منزلي في حي كوبر، بعد أن تمَّ قطع كل التلفونات، بقوة فيها [5] ضبَّاط، وعدد يتراوح ما بين 30-45 من مليشيات الجبهة، في زي القوات المسلحة، ومعهم بعض المُستَجدِّين من سلاح النقل, ودارت معركة بالرشاشات استمرت من سعت 220 إلى 520، كنتُ بالداخل مع أربعة فقط من حرسي الخاص. قتل واحدٌ، وجُرحَ أربعة من المتآمرين, وفشلوا في اقتحام المنزل وبعد ما استعانوا بمدرعة كسرت الباب الرئيسي للمنزل وَوَجَّهَت فوهة مدفعها نحو المبنى, وعندها آثرتُ سلامة أسرتي وأطفالي, فأمرتُ الحرس بالانسحاب ثم ارتديتُ الزي العسكري وذهبتُ في حراستهم المُشَدَّدة إلى فرع البحوث العسكرية بالقرب من القيادة العامة, ومنه إلى منزل الضيافة وأُرْجِعتُ مساء السبت إلى منزلي في كوبر, وظَلَلتُ تحت الحراسة لمدة أسبوعين, وبعدها رُفعت الحراسة لكنني كنت تحت المراقبة لفترة طويلة. لو تحرَّكت قوة لنجدتي خلال الساعات الثلاث لَتَغَيَّر الموقف, ولعلَّ في ذلك حكمة يعلمها الله ونحن لا نعلم إلا القليل».
إن ”لو“ تلك، التي ختم بها القائد العام شهادته, لا تفتحُ عمل الشيطان فحسب, وإنَّما تفتحُ أبواب تاريخ سُوِّدت صفحاته.. فبينما كان يطمحُ في تحرُّكِ قوةٍ تغيِّر الموقف, لم يكن هناك واحد من طاقم أركان هيئة قيادته ذرَفَ دمعة حرى على الديمقراطية الموءودة, ناهيك عن القيام بنجدتها.. ولا يدري المرء إن كان القليل الذي يعلمه ”القائد العام“ في ذلك الوقت, يضم بين دفتيه إحجام هؤلاء، وهروب أولئك.. لكن بالطبع ذاك ما كان يعلمه الانقلابيون، فلم يتردَّدوا لحظة في إعادته إلى منزله في اليوم التالي, بعد أن أصبح جنرالاً بلا جيش!!
على أننا نستوقف أنفسنا قليلاً عند ظاهرة هروب السُلطة التنفيذية, ليس باعتبارها ظاهرة جديدة، أو شاذة في التاريخ السياسي السُوداني، منذ أن عَرفت الدبابات طريقها نحو مباني الإذاعة والتلفزيون، لنشر ”البيان رقم واحد“ على الملأ, ولكن لأن المنطق جافاها لأسباب ثلاثة: • أولاً: الهاربون الثلاثة ينتمون إلى طائفة عُرِفَت في الواقع السُوداني بالشجاعة والإقدام, استناداً إلى تُراثٍ الثورة المهدية.. من هذا المنطلق، لم يكن متوقعاً من ”الخلف“ غير اتِّباع سُنة ”السلف“, والتي ليس بالضرورة أن يكون معنياً بها امتشاقُ السّيوف، أو التمَنطق بالأسلحة الناريَّة، لمواجهة سلطة مُغتصِبة لسلطة شرعية.. فللشجاعة ألفُ بابٍ.. عليه، وبهذا المنطق، فإن هروبهم جاء خَصْماً على ذلك التراث, مهما تعدَّدت الأسباب الذرائعية. • ثانياً: يقف السيد الصادق المهدي على رأس السُلطة التنفيذية, باعتباره رئيس وزراء منتخباً, وتولَّى مسؤولياته بقسمٍ لحماية الدستور، والنظام الديمقراطي.. وكذلك فَعَلَ الوزير والمستشار.. ولم يكن مُطلقاً في تلك الحماية مُفرَدَة تُشِيرُ إلى الهروب, والذي سجَّلوا بموجبه سابقة في مضمار السياسة السُودانية, حيث إنه في كل الانقلابات العسكرية التي أجهَضَت نظماً ديمقراطية, استبقت القيادات السياسية نفسها في انتظار قدَرِها ومصيرها، عدا حالة واحدة، سجَّلها الشريف حسين الهندي، عند وقوع انقلاب مايو 1969. • ثالثاً: المعروف أن السيد الصادق المهدي، طيلة مُمارسته العمل السياسي, جَعَلَ بينه وبين المال العام حرمة, فلم يستغل منصبه في اكتنازه, ولم يُفسِد أو يَختلِس, حتى إن الانقلابيين أنفسهم لم يجدوا شيئا يَصِمُونَه به في بياناتهم الأولى، غير ”كثرة الكلام“.. وعليه، فإن خُلو سِجِله من تلك الآفة، التي طالما اتخذها الانقلابيون وسيلة للمحاكمة والمحاسبة والإدانة, كان ينبغي أن يكون دافِعَه في المقاومة, أو انتظار مصيره بأضعف الإيمان.. في حين يرى البعض أن هروب وزير الداخلية جاء مُنسجماً مع الجَدَل الذي طوَّقه في الاتهام بالفساد.
خلاصة، تجدُرُ الإشارة إلى أن تحديد هذه الأسماء فَرضَته ظاهرة الهروب, لكنَّه، من جهة أخرى، لا يعني أنها المسؤولة وحدها عن انهيار النظام الديمقراطي، وإن كان لها القدح المُعلى.. لكن الإنصاف يقتضي ذِكر لاعبين آخرين، في ضرَّاء أهل السودان.. ومن باب التعميم، يمكن القول بأن الديمقراطية الثالثة في السُودان كانت نموذجاً لنظامٍ فَالِتٍ، أضاعت هويَّته السياسية قوى حزبية، اختلط حابلها بنابلها.. خَاضَت غِمار التجربة بفؤادٍ أفرغ من ”جوف أم موسى“.. بلا برنامجٍ, وبلا وسائل, وبلا أهداف.. غابت عن أركانها الديمقراطية وسيلة, فتوسَّلتها غاية لحكم البلاد.. وتنظيمات نقابية ومهنية اختلَّ ميزان أخذها وعطائها.. لم تكن تعرف ما تريد، أو تدري ما تفعل.. وجمعية تأسيسية – برلمان- يؤم مبناها الفخيم نوابٌ, لا همَّ لهم سِوى إنعاش أجسادهم بهوائها الرطِبُ العليل.. ومجلس سيادة ليس له من وجودٍ محسوس، سوى الاسم التاريخي, شَغَلَ أعضاؤه أنفسَهُم بسُننٍ في القضايا الانصرافية، والمحسوبية، والصرفُ البذخي.. خدمة مدنية عاطلة, وصحافة تعطَّلت حواسُّها الخمس, فانحدرت مِهنياً وأخلاقياً.
دارُ عرضٍ كبيرة، بمساحة مليون ميل مربع.. جَرَت فيها وقائِع مسرحيةٍ مُمِلَّة لنحو أربعين شهراً, رغم اعتكاف الجمهور الذي كان العمل أدنى من طموحاته, وعندما أُسدِل الستار، هَرَعَ المُمثلون لاستدعاء الجماهير الغائبة.. نصبوا لها سُرادقاً للعزاء, طلباً للمواساة في المأساة التي امتدَّت لأكثر من عقدٍ ونصف العقد من الزمان, بلسان حالٍ يقول: فقط، كونوا عليها شهوداً!!
هكذا تحدَّث العسكر بذاك المنطق، الذي عايشه وحسَّه كل أهل السُودان.. لكن لم يكن ذلك يعني أن الحل يكمُن في انقلابٍ يرتدي قناع الثيوقراطية.. ولم تكن المُمارسة تعني فشل المنهج الديمقراطي.. وأيضاً، لا يعني ذلك بيع الناس الوهم والشعارات الجوفاء، وحصرهم في أقببِة الجهل والتخلُّف, فجميعهم قد أضاع زمناً غالياً، اقتطعه السُودان من تقدُّمه ونَمَائِه وازدهاره.. ولا عزاء للمكلومين!! الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ►██ الغلاف (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ الرَّابع: الرَقْصُ مع الذِئاب
بعد نجاح الانقلاب، كان ”سجن كوبر“ الشهير يعجُّ بسياسيين ونقابيين وعسكريين.. بعضهم انتقل بين عشية وضحاها من نعيم السلطة إلى جحيم الاعتقال, وآخرون ليست لهم ناقةٌ ولا جَمَل في أي موقعٍ من مواقع النظام الديمقراطي الموءود.. وكما ذكرنا، فقد وفَّر الترابي لنفسه مكاناً بين المُعتقلين، تنفيذاً لسيناريو الخطة.. كان من ضمن المُعتقلين أيضاً السيد محمد عثمان الميرغني, والذي دخل السجن لأول مرة في حياته.
ثلاثة فقط من رواد السلطة المُغتصبة لم يكونوا بين المُعتقلين.. أولهم، السيد أحمد الميرغني، رئيس مجلس السيادة ”رأس الدولة“, الذي كان قد طبَّق ميزة العطلة الخاصة لشاغلي المناصب الدستورية, وغادر البلاد قبل الانقلاب للاستجمام من رهق العمل، في إحدى الجزر اليونانية ”رودس“, وبعد أن عَلِم بالحَدَث، عرج على قصره المنيف في الإسكندرية، ولاذ بصمتٍ لم يُلفِت انتباه المُراقبين, لأن ذلك كان دأبه طيلة الثلاث سنواتٍ ونصف السنة، التي صمد فيها النظام الديمقراطي.. وثانيهم، السيد الشريف زين العابدين الهندي، وزير الخارجية ونائب رئيس مجلس الوزراء, الذي كان أيضاً في زيارة خاصة لمصر, وهى عادة ظلَّ يُمارسها كلَّما عَجِزَ عن مُباشرة مسئولياته.. وثالثهم، كان السيد مُبارَك الفاضل وزير الداخلية, الذي اختفى، وهرب لاحقاً، حسب الوقائع التي ذكرناها من قبل.
كنا قد عمدنا إلى توثيق ما جرى في ليلة ”العشاء الأخير“, إلى جانب وقائع أخرى هامة داخل المُعتقل, استناداً إلى بعض معايشيها، ممن عاشوا تفاصيلها بعمقٍ ودقَّة في الملاحظات.. أولهم، السيد التيجاني الطيِّب, والذي لم تكن تجربة الاعتقال في حدِّ ذاتها بجديدة عليه, فقد نال نصيبه منها من قِبَل الأنظمة الديكتاتورية الثلاثة التي حكمت السودان, وكانت السنوات التي قضاها في المُعتقلات والاختفاء القسري, إلى جانب المنفى الاختياري في القاهرة, قد غطَّت أكثر من نصف عمره السياسي!! والمُفارقة أن القاهرة، التي جاءها لاجئاً في بداية التسعينيات، كانت قد شَهدَت أوَّل اعتقالٍ له في سجن ”الهايكتسيب“ في مايو/أيار من العام 1948، وكان وقتها سكرتير اتحاد الطلبة, ومعه كلٌ من عبده دهب، عبدالرحمن الوسيلة، محمد أحمد الرشيد، تيدي جيمس لاركن، وهو جنوبي كان يعمل موظفاً مع البريطانيين في قنال السويس, وآخرين بدأوا الارتقاء في مدارج الشيوعية, تحت مُسماها المعروف بـ”الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني [حدتو]“.. واعتقالهم، الذي كان بسبب موقفهم من القضية الفلسطينية، وتزامن مع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى, تخلَّله إضرابٌ عن الطعام لأكثر من عشرين يوماً.
بدأ التيجاني توثيقه لأحداث تلك الفترة، التي تداخل فيها الخاص بالعام، كالتالي:
«عشية الانقلاب، مساء الخميس 29/6/1989، كنتُ ضمن المدعوِّين لحفل الزفاف الشهير ”آل الكوباني“, والذي تميَّز بمشاركة كل ألوان الطيف السياسي, بما فيهم أقطاب الجبهة الإسلامية. أذكر أن كل شيء كان لطيفاً، بما في ذلك الجو ”الطقس“، على رغم ما كان يعتمل في الصدور, أي الاحتقان السياسي من جهةٍ، وعزم المتآمرين على الانقضاض على النظام الديمقراطي من جهةٍ أخرى.. ولعل المناسبة الاجتماعية تلك قد ساهمت في إخفاء هذه التناقضات.
غادرتُ مبكراً بعد مراسم ”العقد“, واتجهت إلى مقر صحيفة الحزب ”الميدان“, وذلك للوقوف على ترتيبات العدد الذي سيصدُر صباح اليوم التالي، الجمعة.. ثم اتجهتُ إلى منزلي، وكانت الأسرة خارجه في مناسبة اجتماعية أخرى, وأويتُ إلى سريري في حوالي الساعة العاشرة والنصف تقريباً.. وفى وقتٍ لاحق من الليل, الساعة الثانية والنصف تحديداً, سمعتُ طرقاً شديداً على الباب الخارجي، فنهضتُ منزعجاً، وكل الذي في خاطري أن صهري -الذي كان مريضاً- قد حدث له مكروه, وجاء من يبلغني ذلك الخبر, ولكن عندما فتحتُ الباب، فوجئتُ بضابط من الجيش برتبة نقيب، ومعه اثنان من الجنود, فبادرني بلهجة هادئة لم تتخللها أي حدة محتملة في مثل تلك المواقف، وقال لي : ”إن القيادة العامة للقوات المسلحة استولت على السلطة, وإن هناك قيادات سياسية تقرَّر التحفُّظ عليها لمدة يومين أو ثلاثة, وبعد أن تعود الأوضاع لطبيعتها، سيطلق سراحهم“.. فاستأذنته في تغيير ملابسي، وحملتُ ما أعتبره ضرورياً، مثل فرشاة الأسنان والمعجون وماكينة الحلاقة، وخرجت معهم، فوجدت في الخارج سيارة صغيرة طراز ”تايوتا بيك أب“, وأجلسوني بين جندي وآخر مدني، كانا ينتظران في السيارة، وصعد النقيب إلى جانب السائق.. حينها لاحظت أن العلامة العسكرية تشير إلى أنه ينتمي للسلاح الطبي, وحتى ذلك الوقت لم يدُر بخلدي أن هذا الضابط، أو الانقلاب كله، من تنفيذ الجبهة الإسلامية, بالرغم من أننا كنَّا على مدى أسبوعٍ تقريباً نكتبُ في الميدان مقالات وتحليلات تشير إلى أن الجبهة الإسلامية عمدت إلى تكتيكات انقلابية، وأنها تضمر شيئاً من ذاك القبيل.. وبالطبع كان ذلك صحيحاً، لكننا لم نتخذ أي إجراء كان يفترض عمله.. وصحيح أيضاً أننا أوصلنا الرسالة للسيد رئيس الوزراء, إضافة إلى أننا حاولنا تنبيه الناس وإشعارهم بالخطر القادم, لكننا لم نطرح شعاراً مُحدداً تجاه ما كان متوقعا -أي الانقلاب- وهذا خطأ، أو تقصير من جانبنا، نتحمَّل مسئوليته.
الجميع صامتون داخل السيارة, وفى الخارج ليس هناك ما يلفت الانتباه، غير حفلات الزواج الكثيرة على امتداد الطريق المؤدي إلى ”وادي سيِّدنا“, وهو منظر تقليدي، فمثل تلك المناسبات الاجتماعية دائماً ما تقام في نهاية الأسبوع, وكنت قد استسلمتُ لمقولة النقيب، في أن الانقلاب من صُنع القيادة العامة, ولم أستغربها، خاصة أن المناخ السياسي كان مضطرباً بعد المذكرة الشهيرة.
عند وصولنا إلى مدخل مدينة أمدرمان، من جهة الخرطوم العاصمة, حيث يوجد ”قصر الشباب والأطفال“, اتَّجهت السيارة يميناً، فخامرني شكٌ في تلك اللحظة بأن الانقلاب ليس من صُنع القيادة العامة، كما قال النقيب, لأن الطريق الذي سلكناه لا يؤدي إلى مقرها.. فداهمني إحساسُ الخطر، وغلب على تفكيري أن الجبهة الإسلامية تَقفُ من وراء التدبير.. وفى ضوء ما كنتُ أكتبه في افتتاحيات الصحيفة, سَيطرَت علىَّ هواجس تحدِّثني بدنو نهايتي.. وتلقائياً انصرف ذهني في استعراض مسيرة حياتي، بمحطاتها المختلفة, فغمرني شعور بارتياح الضمير.
كذلك تجاوزت السيارة مباني السلاح الطبي, وواصلت سيرها صوب مقر سلاح المهندسين, حيث أوقفنا الجنود الذين كانوا يقفون أمام البوابة الرئيسية بالطريقة التقليدية, وعند وصول أحدهم إلى مقدمة السيارة، نزل النقيب، فتناهى إلى سمعنا أنهم يتحدثون بجدلٍ حول ”سِرُّ الليل“, حيث تباينت تقديراتهما, وعندما لم تثمر محاولات النقيب, نَزَل السائق من السيارة، فاكتشفت للمرة الأولى أنه برتبة ”رائد“, فخاطبَ الجندي مُحتداً بقوله: ”إنتو ما نَوَّروكم؟“.. فأجابه الأخير بالنفي.. فلم يأبه لذلك، وحاول شقَّ طريقه، في الوقت الذي كان النقيب يحاول الإمساك بالجندي, والذي كان بدوره يحاولُ الحديث مع زملائِه.. وأثناء ذلك المشهد، صدرت عبارة بتوجيه صارم ”أرضاً سلاح يا عسكري“, وفجأة انطلقت ثلاث رصاصات متتالية... تبعها صمتٌ كثيفٌ, قطعه صوتُ أحد الجنود بسؤالٍ استفهامي: ”هل مات؟!“.. فجاءه الرد سريعاً ومقتضباً ومؤكداً في آنٍ واحد: ”نعم، مات“.. كنتُ، والذين معي داخل السيارة، قد خفضنا رؤوسنا عند سماع صوت الرصاص، وعندما رفعناها، كان أن شاهدنا جثة الرائد على الأرض، في وضعٍ يؤكد ما سمعناه، بأنه قتل.. ونظرتُ للخلف، فرأيتُ سيارتين تقفان خلفنا، إحداهما ”نيسان بيك أب“ بيضاء, والأخرى مثلها زرقاء اللون، تتبع لجهاز الشرطة.. وفى لمحِ البصر، تحركوا جميعاً واختفى النقيب عن الأنظار.. ومع ذلك، رفض الجنود مُغادرتنا السيارة, وبدأتُ أسأل الرجل الذي يجلس بجانبي - بلباسه المدني- عن موضوعه, فتلجلج في الإجابة، وظَهرت عليه علامات الاضطراب، فخامرني شكٌ في أنه من المشاركين, إذ إن تبرير وجوده معنا لم يكن مقنعاً.
ظلَّت جثة الرائد مُسجَّاة على الأرض, وعرفتُ فيما بعد أنه ”أحمد قاسم“، وهو طبيبٌ أيضاً، ويُعَدُّ من العناصر الشرسة في تنظيم الجبهة الإسلامية العسكري.. بعد عدة أيام، سمعتُ الفريق عمر البشير يتحدثُ بتفاصيل الحدث الذي جرى أمام أعيني، بطريقة مُختلفة تماما, فأيقنتُ بأن تلك علامة في كذب رئيس الانقلاب.. خرج ضابط من سلاح المهندسين واصطحبونا جميعا إلى داخل المبنى, واعتقدتُ في دخيلة نفسي بأن الانقلاب فشل، وأنني سوف أذهبُ إلى منزلي، وربما كتبتُ تلك الوقائع كشاهد عيان, وسألتُ الضابط عن سبب احتجازي، فقال لي: ”سنرى“!! وكانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً.. تمَّ التحقيق مع الجنود، والمدني، وأطلقوا سراحهم، في حين أبقوني محتجزاً معهم.. وفي حوالي الساعة التاسعة، نقلوني إلى سلاح الموسيقى، وكان مشاركا في الانقلاب!! وجدت هناك الفريق عبدالرحمن سعيد، وابن السيد الصادق، ”عبدالرحمن“, وعبر مذياعٍ صغيرٍ أحضره لنا أحد الضباط، استمعنا إلى ”البيان الأول“, فاستنتجنا - رغم عدم وضوح الرؤية- بأنه من صنع الجبهة الإسلامية.. وفى المساء حولوني إلى سجن كوبر، وأدركتُ ربَّما تكون المسألة طويلة, فطلبتُ أن يُحضِروا لي ملابس من منزلي، وتهيأتُ نفسياً لاعتقالٍ طويل.
في سجن كوبر، وجدتُ محمد إبراهيم نُقد, عمر نورالدائم، عثمان عمر الشريف، التوم محمد التوم، خالد فرح ونصرالدين الهادي. ومن الجبهة الإسلامية، كان هناك حسن الترابي، أحمد عبدالرحمن، إبراهيم السنوسي، الفاتح عبدون وآخرون، بعددٍ إجماليٍ بلغ [11] شخصاً, إلى جانب معتقلين مدنيين وعسكريين، فيما سُمِّي بمحاولة انقلاب ”جماعة مايو“، وعلى رأسهم الزبير محمد صالح، وكامل محجوب، وغيرهم.. وُضِعنا في غرفتين من غرف المعاملة الخاصة, حيث ضمَّتني الغرفة مع الترابي ونقد وعثمان الشريف واحمد عبدالرحمن ونصرالدين وفرح.. كان الحديث عاماً في اليومين الأولين.. كل واحد روى طريقة اعتقاله, ونُقد قال لي إنه عرف بالانقلاب في وقت متأخر من الليل, ولم يحاول الاختفاء، وفَضَّل انتظارهم حتى يصلوا ويعتقلوه.
كان عددٌ من العسكريين الموالين للجبهة الإسلامية يُحيطون بالسجن, وجَّهوا لنا رسالة واضحة، فحواها أنهم سيقومون بتصفيتنا في حال حُدوث مقاومة في الخارج.. وأخرى من خلال إدريس البنَّا، عضو مجلس رأس الدولة, وأكَّدها له أحد أعضاء الانقلاب، الذي تجمعه به صلة قربى أسرية, إذ بعد أن زاره قال له: ”أبلِغ نُقد أن أي رصاصة لو أطلقت في الكلاكلة، ضواحي الخرطوم، ستكون التالية في رأسه“.. لكن لم يكترث أحدٌ لذلك, لا سيَّما أن هناك إحساساً طاغياً بأن الانقلاب لن يستمر لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة, وذلك بمُعطيات الوضع الداخلي، علاوة على أن المناخ العالمي لم يعد يسمح بالانقلابات العسكرية, مثلما أن الأوضاع في المنطقة لا تسمح باستمرار ظاهرة ”الإخوان المسلمين“ في السُلطة.. وقد انعكس الإحساس المؤقت على طبيعة المناقشات, والتي لم تكن في البداية منتظمة أو جادة.. ومن المُفارقات أن كوادر الجبهة الإسلامية كانوا يردِّدون بأنهم أكثر عدداً في السجن من الشيوعيين.
أصبح معروفاً لكثير من المعتقلين بأن وجود الترابي معنا كان ذراً للرماد في العيون, ومع ذلك فقد ظلَّ عثمان عمر الشريف يردِّد باستمرار، وعلى مسمع من الجميع: ”هذه أول مرة في التاريخ قيادة انقلاب تكون موجودة داخل السجن“ وكان الترابي يبتسم كلَّما سمع ذلك.
كان اعتقال الصادق المهدي صدمة لنا جميعاً, وكنا نعتقد بأن شخصاً مثله يستطيع الاختفاء لمدة طويلة.. عندما انضم لنا بعد أسبوع، كانوا قد أحضروه مساءً، وكنتُ قد فتحتُ له الباب، الكرنتينة [ج], فوجدته في ذات الهيئة التنكرية التي كان عليها حين اعتقاله.. غيَّر فيها من وضع عمامته، لأن الأنصار يضعونها بطريقة تختلف عمَّا هو شائع في وسط السودان, وكان حليق الشارب والذقن, ومع ذلك لم تكن بالنسبة لي طريقة تنكرية مائة في المائة.. ربما لأنني أعرفه.. وأذكر حينما خرجت من السجن، أنه زارني للتهنئة جارٌ لي، بيننا علاقة جيدة, وبعد أن خلا المكان من الزوَّار، استأذنني في الانصراف, لكنه قال لي: ”أريد أن أسألك سؤالاً، وأرجو أن تَصدُقني القول.. هل وَد الإمام كان حالقاً ذِقنه وشَنَبه عندما جاءكم في السجن؟“.. ولم أكن في حالٍ أن أقول له غير الحقيقة, لكنني فوجئتُ به يضع كلتا يديه على رأسه، وجلس على الأرض، وظلَّ يردِّد المقولة بصورة أقرب إلى الهستيريا، حتى أشفقتُ عليه, ولم أعتقد بأن هذا الموضوع يمكن أن يُزَلزِل كيانه بالصورة التي مثلت أمام عيني, فحاولت تخفيف الأمر عليه بقولي، إن ذلك شيء عادي، وساعدته على النهوض, فنظر إلىَّ ملياً، وقال: ”لو جانا في ود نوباوي وطلب الاختفاء، فهل يستطيع مائة نظام أن يعرفه؟!“.. فقلتُ له: ”على كلٍّ، هذا اجتهاده“.. فغادرني وهو لا يلوي على شيء.
كذلك تمَّ اعتقال الميرغني بعد الصادق, وبالطبع كان معنا أشخاصٌ عاديون من طائفتي الأنصار والختمية.. الجميع كانوا في مكان واحد، يأكلون ويشربون، ويطلقون ”النكات“ أحيانا.. وفى التقدير كسر ذلك شيئاً من القداسة التي يُحيط بها بعض أولئك السيِّدين المذكورين, وأعتقد مع الصادق بَدَت المسألة عادية نسبياً.. أما مع الميرغني، فقد حدث تقارب مع أناسٍ لم تتواصل العلاقة معهم بذلك الشكل من قبل.. وطبعاً البعض كان قد تهكَّم على اعتقاله، إلا أنني سمعتُ مَن نقل عنه عبارة طريفة، قال فيها: ”مش الشهادة بتاعتكم دي، أهو جبناها“.. ويقصدنا بذلك نحن الشيوعيين.. عموماً، كانت الحياة على الطريقة السودانية المألوفة, لا تحكمها ضوابط معينة، حتى في النوم والاستيقاظ, وكان الراغبون في أداء الصلاة يؤدونها بصورة جماعية بإمامة الترابي, وعندما اعتقلوا نقدالله لاحقاً، أصرَّ أن لا يؤم الترابي المُصلِّين.. وحسبما علمتُ، لم يكن ذلك لأسباب سياسية، وإنما لملاحظات على شخصه وسلوكه, فقدَّم ميرغني النصري عضو مجلس السيادة، فبدأ يؤم المُصلين حتى لحظة خروجه من المُعتقل.. تولى نقدالله نفسه الإمامة بعده، في حضور الصادق والميرغني والترابي، رغم صِغَر سِنِّه.. كان الترابي قد فصِل مِنا لفترة قضاها في الحبس الانفرادي, وبعد عودته لنا ثانية، واصَلَ الصلاة تحت إمامة نقدالله، الذي لم يفعل مثله كما ذكرت.. أما علاقة الترابي بالآخرين، فقد كانت عادية، يتخلَّلها نقاش وتبادل في وجهات النظر، رغم شعور الجميع بأنه القائد الفعلي للانقلاب.
أذكر أنه في إحدى الليالي -3/10/1989- في الساعة الحادية عشرة تقريباً, حضرت مجموعة من الأمن واصطحبت الصادق المهدي، ولم يعُد في تلك الليلة، فأصابنا قلقٌ، ازداد حينما علمنا في الصباح أنه وُضِعَ في الحراسات المُخصصة لمنتظري تنفيذ حكم الإعدام, فتحرَّكنا جميعاً في حملةٍ مكثفة، خاصة محمد إبراهيم نُقد, ونجحنا في إعادته إلى مقره السابق.. وقد حكى لي ما حدث، وقال إنهم أصعدوه في سيارة مُسدَلة بالستائر, تحرَّكت في اتجاهاتٍ كثيرة للتمويه، لكنها لم تُبارِح مبنى السجن, ثم أدخلوه في غرفةٍ مُضاءة بالأحمر، وأجلسوه على كرسيٍ من ثلاثة أرجل، وعليه أن يحافظ على توازنه طيلة جلوسه, وأعقب ذلك تحقيق عنيف، وهدَّدوه بالقتل، وبإفشاء أسرارٍ عن حياته الخاصة، وزعموا أن لديهم صوراً فوتوغرافية في لندن والخرطوم, مما أثار استياء الكثيرين، واحتجوا بطرُقٍ مُتعدِّدة.
أعتقد أن الترابي يتعامل دائماً مع الناس بشيء من التعالي، وأسباب وضعه في الحبس الانفرادي تعودُ إلى موقفٍ له مع الضابط المسؤول من السجن، العقيد موسى الماحي, والذي كان في جولة مروريَّة لتفقد الأوضاع, فتوقف أمام الترابي، وبدأ الحديث معه في موضوعٍ عاديٍ, لكنه انفعل واحتدَّ معه, وكان جالساً, فقال له الضابط بشيء من الأدب: ”عندما أتحدث معك، فعلى الأقل المُفترض أن تقف مثلي وتتحدث معي“, فاحتدَّ الترابي أكثر، ورفض، فما كان من الضابط إلاَّ أن طلب من أحد عساكره وضعه في الحبس الانفرادي, وظلَّ فيه لمدة أسبوع، وهو منطقة معزولة ومليئة بالفئران.. {ربما كان ذلك للإيحاء بعدم صلَته بالانقلاب، تدعيماً لسيناريو التخفِّي – [المؤلف]}.
في حدثٍ آخر، كان إبراهيم شمس الدين، أصغر الضباط المشاركين في الانقلاب سناً, وكان برتبة رائد, قضى نحبه في تحطم طائرة عسكرية بمنطقة ”عدارييل“ في جنوب السودان العام1998، كان يأتي في بعض الأيام، ويجمع الصحف والمعتقلين -وبينهم رئيس الوزراء- ويبدأ في إلقاء محاضراتٍ مستفزة، مردِّداً عباراتٍ مثل: ”إن شاء الله إتعلمتوا الدرس“، فكانت مسألة مهينة حقاً.. أيضاً بعد وصول الصادق، كان هناك في السجن ما يسمى بـ”فرش متاع“, أي أن يُحضر السجين لوازم فرشه, وحدث أن جاء مدير السجن في دورة تفتيشية، فوقفنا وصافحناه, ثم انتحى جانباً مع شخصين، وتواصل حديثه معهما، فاعتبرنا الأمر منتهياً، وجلسنا.. وعندما رآنا، أشار لي بإصبعه -على نحوٍ مُهين- بأن أقف, فتملَّكني غضبٌ شديد, وبذات الطريقة أشار نحو الصادق المهدي، الذي سأله بدوره عن السبب, فقال له: ”أرجو أن تحترمونا مثل ما نحترمكم.. حين يدخل ضابط السجن، يُفترَض أن تبقوا واقفين“, فقال له الصادق: ”حينما دخلت، وقفنا، وصافحناك.. وعندما انشغلت مع آخرين، انتهى الأمر“.. فحدثت ضجة كبيرة في السجن، خاصة أن مثل هذا الضابط، كان قبل أيامٍ يؤدي التحية للصادق، باعتباره رئيس الوزراء.. الغريب في الأمر، عندما عاد الضابط إلى مكتبه، وجد أمراً بإحالته للتقاعد, وبالطبع كثرَ الشامتون عليه.
بتزايد أعداد المُعتقلين،أخذت المناقشات طوراً جدِّياً.. بعضها كان ناقداً للتجربة الديمقراطية المجهضة, وبعضها الآخر انطلق من زاوية ضرورة تصويبها مستقبلاً, وحتى تلك اللحظة لم يكن الصادق المهدي يعتقد بأن الانقلاب من تدبير الجبهة الإسلامية!! أما الترابي نفسه، فقد صاغ موقفه آنذاك على الحاضرين بالنحو التالي: ”إذا كان الانقلاب الجديد سيفتح الطريق أمام الإسلام، فنحن معه، بغضِّ النظر عن موقفه من الديمقراطية, وإذا كان يهدِفُ إلى سَدِّ الطريق أمام الإسلام، فنحن ضده، بغضِّ النظر عن موقفه من قضايا الديمقراطية أيضاً“.. بهذا الموقف الواضح، الذي أغلق به الترابي باب الحوار، وانتفت فيه أي قواسم مشتركة.
عَزَلنا ممثلي الجبهة الإسلامية، وبدأنا نتحاور كأحزاب ونقابات في كيفية التخلُّص من النظام، وإقامة بديلٍ يعالج جذور المشكلة، ويكسر الحلقة الشريرة, وذلك بعد الاتفاق على طبيعته، وكونه امتداداً للأزمة الوطنية المزمنة.. كما اتفقوا على أهداف وبرامج عمل، وصياغة ميثاقٍ يُنشَر على الجماهير، يكون بمثابة دعوة لها للالتفاف حوله، والنضال من أجل ما ورد فيه.. كذلك اتفقوا على إنشاء هيئة تضمُّ القوى الموافقة عليه، والتشاور مع الآخرين، الذين لم يشملهم الاعتقال، من الأحزاب والنقابات والعسكريين.. وقد تكوَّنت لجنة لمناقشة الميثاق المقترح، مثَّلها من حزب الأمة الصادق المهدي وعمر نورالدائم, ومن الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني وفاروق أحمد آدم, ومن الأحزاب الجنوبية باسفيكو لادو لوليك وإليابا سرور, إلى جانب نُقد وشخصي.. وبعد المناقشات الأولية، كلِّفتُ بالصياغة، فأفسحتُ موقعاً لنَقدِ التجربة الماضية، بما فيها موقف الأحزاب التقليدية، والذين لم يبدوا أي اعتراض على ذلك, وسرَّبناهُ للخارج، ليتواءم مع نقاشات الآخرين, وتوليتُ شخصياً إرساله لقياداتنا في الحزب، لإطلاع قوى المعارضة عليه..
في إطار التشاور نفسه، تَسَلمنا عن ذات الطريق، مشروعاً مختلفاً، وأبدينا فيه ملاحظاتنا، التي انصبت جُلها على اقتراحٍ ورد فيه، يتعلق بقسمة السلطة بعد إسقاط النظام، بحيث تمنَحُ النقابات 70% من الوزارات والبرلمان، و30% للأحزاب وأي قوى أخرى.. والحقيقة لم نأخذ المقترح بجدِّية، لأنه يُعيقُ الفكرة وهي في طورها الأولي.. وأخيراً تمَّ الاتفاق على الصورة المعروفة التي استقر عليها العمل, بتعديلات مهمة، وإن كانت محدودة..
قبل كل ذلك، وخلال النقاشات، كان الميرغني قد اقترح تسمية الكيان المعارض بـ”التجمع الوطني الديمقراطي“, في حين أن نُقد كان يردِّد - من قبل- على الحاضرين ضرورة البحث عن صيغة أخرى غير تلك.. وحاولنا إِثناء الميرغني باعتبار أن التسمية المذكورة تعدُّ من لوازمنا السياسية, وتعني مدلولاً معيناً ظللنا نردِّده منذ العام 1956, عِلاوَة على أننا لم نرتح أصلاً للتسمية، لأنها في ذاك الوقت لا تنطبق على التجربة الجديدة التي كنا بصددها.. وأمام محاولاتنا تلك، ازداد إصرار الميرغني، فوافقنا.
كان التوقيع على الميثاق قد تمَّ في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1989, وبمجرَّد نشره، بدأ النظام في تشديد القبضة على المعارضين, فظَهَر ما سُمِّي بظاهرة ”بيوت الأشباح“.. وعلى مستوى السجن، تمَّ نقلي ونُقد إلى ”الكرنتينة [أ] “، حيث وضعونا مع أشخاص متَّهمين بالاتجار في العملات الصعبة, وفى ذلك الوقت حُكم على الشابين مجدي محجوب محمد أحمد وجرجس القس يُسْطس، ثم أعدموهما فيما بعد.. أعقب ذلك إضراب الأطباء في 26/11/1989، والذي شكَّل نقطة تحوُّل في علاقة نظام الجبهة الإسلامية بقوى اليسار, فحكموا بالإعدام على نقيب الأطباء د. مأمون محمد حسين في 10/12/1989، ويوافق ذلك ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان, ثم جاءت مذبحة الضباط في أبريل/نيسان 1990.
في الشهور الأولى للعام 1990، بدأوا في إطلاق سراح البعض, وقد أفرج عني في 9/8/1990، وكنتُ قد عَزَمتُ على الاختفاء، إلا أن الحزب وجَّه بضرورة خروجي من السُودان, وحاولتُ المُغادرة بدعوى الراحة والعلاج, لكنَّهم مارسوا تسويفاً متعمداً، وعندما تأكدتُ من مماطلاتهم في هذا الخصوص، عزمتُ على المخاطرة بالهروب شمالاً, وكان ذلك طريقاً سبقني إليه المرحوم عزالدين علي عامر, فخرجتُ سراً في نوفمبر/تشرين الثاني 1990 بترتيبات معينة, أذكر أن ”الرحلة“ كانت عادية, لربما الجديد فيها أنها أتاحت لي التعرُّف على جغرافيا ذلك الجزء من السودان.. كنَّا قد قطعنا الصحراء على ظهور الجمال, والصمت المثير هو السمة المميزة للصحراء, ليس هناك أي نوع من أنواع الحياة.. فلا وجود لكائناتٍ حيَّة.. لا بشر ولا شجر ولا حيوانات.. الصورة عموماً تحرِّضك على التأمل.. تبدو النجوم وكأنها تطالعك، وتشعر بأن الظلام له لونٌ آخر, والأصوات مختلفة تماماً عما ألِفنَاه, وعندما ترى جبلاً أمامك، تعتقد أنه قريب منك, لكن الوصول إليه يستغرق عدة ساعات.. قال لي الدليل إننا نَحسِبُ الزمن بسرعة بالسيارة, بينما هم يحسبونه بمسير الجمل.. بمعنى أن المسافة التي تقطعها السيارة في ساعة, يقطعها الجمل في يوم, وقد تجد آثار قدم إنسان أو سيارة، وتعتقد بأنها حديثة، لكن الدليل يحدِّدها بالشهور، وبدقة شديدة!!
في هذه الرحلة، التي تواصل ليلها بنهارها، مع بعض ساعات الراحة, لم يكن ثمة أي موضوع يسيطر على ذهني، سوى الرغبة في الوصول إلى النقطة النهائية, وعندما دخلنا الأراضي المصرية، استبقيتُ نفسي لعدة أيام, ثم وصلتُ القاهرة يوم 12/11/1990، كمنفى اختياري, وفيه بدأنا مسيرة أخرى كما هو معلوم».
التوثيقُ الثاني، كان مع شخصية عاشت التجربة بخلفيتها العسكرية, وقد وجد نفسه، للمرة الأولى في حياته، مُعتقلاً مع سياسيِّين ونقابيِّين داخل سجن كوبر.. لم يكن يعرف الكثيرين منهم معرفة شخصية, مثلما أن الكثيرين كانوا لا يعرفونه أيضاً, ذلك لأنه كان يتعاطى السياسة من وراء الكواليس، شأنه في ذلك شأن معظم منسوبي المؤسَّسة العسكريَّة في السُودان.. وحينما مارسها في الهواء الطلق، أصبح أكثر المُعارضين إثارة للجدل, برواياتٍ تعدَّدت أمكنتها، وتباينت أزمِنتها، وجرَّت غموضاً يثير غرائز حب الاستطلاع, ووضوحاً يطفئ ظمأها.
بعد إطلاق سراحه من سجن كوبر, غادر ”العميد عبدالعزيز خالد“ السُودان، هروباً بذات الطريق المُؤدي للشمال, وبنفس الكيفية التي سبقه إليها آخرون.. وفي القاهرة، مارس نشاطاً مُعارضاً في إطار تجربة ”القيادة الشرعية“، أثبتت الوقائع أنها وُلِدَت كسيحة.. ثمَّ ما لبثَ أن تَركها خلف ظهره، واتَّجه إلى بقعة جُغرافيَّة اتخذها مُرتكزاً لتحريك الساكن في الصراع السُوداني, بمشروعٍ هَوَت إليه أفئدة الطامحين لرؤية ”دولة مدنية ديمقراطية موحدة“، تولدُ من ركام المعارك.. لكنَّ رياح السياسة السُودانية تجري دوماً على غير ما تشتهي السُفن.. فقبل عبور الجسر، تغيَّرت المُعادلات بصورة دراماتيكية.. فالأصدقاء الذين لاذ بهم، قلبوا له ظهرُ المِجَن.. والحلفاء الذين عوَّل على نصرَتِهِم، أداروا له ظهورهم.. ومن بين رفاق الأمس، تسابق أكثر من ”بروتس“، لينال شرف الطعنة النجلاء في مقتلٍ.. وعندما تكرَّرت تجربة السجن مرة أخرى، في قطرٍ لم يخطُر ببال أحد أن الأقدار وضعت فيه سر اعتقاله, سَعِدَ الأعداء الذين تَربَّصوا به، وتربَّص بهم، أن جَاءَهم مخفوراً, كأول سياسي سُوداني تطبَّق فيه تلك التجربة الغريبة.. وبين المحبسين، تدفقت الأحداث أحباراً ودماء.. ذلك ما سيردُ في فصولٍ أخرى.. لكنه قال حول بداياتها:
«أولاً، كخلفية ضرورية، لابد من الإشارة إلى أن الضباط الذين شاركوا في الانقلاب أُلحِقوا بالفكرة، ليكونوا حطباً لتلك النار.. مما يعني افتقارهم لفكرٍ سياسيٍ راشد, عدا الإسلاميين منهم.. وبغضِّ النظر عن أوجُه الخلاف معهم، فقد كانوا من مؤيِّدي نظام مايو في فترة الثمانينيات.. باعتبار الشراكة الخفية ابتداءً، والظاهرة انتهاءً، بين النظام آنذاك وتنظيم الجبهة الإسلامية.. وبعد نجاح انتفاضة أبريل، ظلَّ أولئك الضباط، ولفترة طويلة، مراهنين على عودة نميري.. وعندما يَئِسوا، عملوا على التأثير على ضباط المجلس العسكري الانتقالي, بهدف ضرب تيَّار الضباط الوطنيين الأحرار.. وفى هذا الإطار، كانوا من وراء ثلاثة كشوفات قدِّمت للمجلس العسكري لتنفيذها: الكشف (أ)، فصل من الخدمة.. الكشف (ب)، نقل ومتابعة.. ثم الكشف (ج)، رصدٌ مِن على البُعد.
كنتُ آنذاك ضابطاً في العمليات الحربية، كرئيسٍ لشعبة العمليات التي يديرها اللواء عثمان عبدالله، وزير الدفاع في الفترة الانتقالية.. احتوت القائمة (أ) على بعض قيادات حركة أبريل، الذين أُعدِمُوا في العام 1990, ومنهم اللواء محمد عثمان كرار، وكنتُ أيضاً ضمنها، وأذكر أن اللواء عثمان عبدالله قال لي إنه اعترض على فصلي واللواء كرار، باعتبار أننا ضباط مميزون -على حد تعبيره- وقال إن الآخرين لم يبدوا اعتراضاً على وجهة نظره تلك.. فقلتُ له: ”واقع الأمر أن الضباط الذين فُصِلوا أيضاً مُميَّزون“، وكان عليه الوقوف ضد الفصل من حيث المبدأ.. لهذا، لم أستغرب استهدافي في زمنٍ مُبَكر بعد انقلاب الإنقاذ, وكنا قد أطلقنا على ذلك الإجراء التعسُّفي تعبير ”مذبحة القوَّات المُسلحة“.. ولم نكن نعلم بأن المذبحة الحقيقية، ستكتمل في ظل نظام الجبهة الإسلامية.
برغم أن الجبهة الإسلامية مدَّت جسورها منذ فترة طويلة مع القوات المسلحة، باستقطاب ضباط، وتجنيدهم في صفوفها, إلا أنها عملَت على تمرير سياساتها في الفترة الانتقالية، تحديداً من خلال رئيس المجلس العسكري، الفريق أول عبدالرحمن سوار الدهب, ونائبه اللواء تاج الدين عبدالله فضل.. وبعد نجاح الانقلاب، كوفئ الثاني بإدارة ”منظمة شباب البناء“، وهى إحدى الأذرع التنظيمية للجبهة الإسلامية, والأول برئاسة ”منظمة الدعوة الإسلامية“, علماً بأن العمل في القوات المُسلحة يمنعُ على القائد العام تولي مثل ذلك المنصب، بسبب امتلاكه معلومات كثيرة في جهاز الدولة!!
الذي حدث في صبيحة الانقلاب، إنني ذهبتُ إلى المكتب بغرض جمع معلوماتٍ عنه, وفي حوالي الساعة الحادية عشرة تقريباً جاءني اتصال من القيادة العامة يطلب حضوري فوراً لمقابلة المجلس العسكري الجديد.. والمُفارقة، أنني عَلِمتُ قبل تحرُّكي أنهم اتصلوا بمن أرأسهم في اللواء [62]، وقالوا لهم بأنني موجود معهم, في إيحاء بأنني مُشاركٌ في الانقلاب!! عندما ذهبت للقيادة العامة، قابلني ضابط قال إنه سكرتير المجلس الجديد.. تركني في مكتبه لبضع دقائق، وعاد مرة أخرى، وقال لي إن الموضوع الذي طلبني من أجله المجلس انتهى!! فقلتُ له: ”من الذي طلبني تحديدا“, فقال لي: ”اللواء عثمان أحمد حسن“, فطلبت منه أن يُبلغهم بأن الموضوع بالنسبة لي لم ينته.. وفي المرة الثانية، اصطحبني للداخل، ووجدتُ -بالإضافة للمذكور، وهو أحد ضباط دفعتي- كلاً من الزبير محمد صالح، بكري حسن صالح، سليمان محمد سليمان، إبراهيم نايل إيدام ومحمد عثمان سعيد.. بادرني عثمان بقوله إن لديهم معلومات تشيرُ إلى أنني ”ضد الثورة الجديدة“, وعندما سألته عن مصدر معلوماته، قال إنه لا يستطيع كشفه.. كان الجميع في حالة صمتٍ غريب, فقلتُ له إن هذا الانقلاب لم يُكمِل 24 ساعة بعد، مِمَّا ينفى مسألة المصدر, ويؤكد -في نفس الوقت- معطياتٍ أخرى, وطلبتُ منه أن يكون أكثر وضوحاً، وليكن كلنا كتاباً مفتوحاً.. فاتسمت لهجته بشيء من الهدوء، وبدأ يحدثني عن الانقلاب، باعتباره عملاً وطنياً لخدمة الشعب السُوداني، وأن من قاموا به ”قوى وطنية مستقلة“, فقاطعته، وقلتُ له: ”هؤلاء ليسوا بقوى مستقلة.. هذا انقلاب لصالح الجبهة الإسلامية, وأنا شخصياً ضد الانقلابات بشكل عام، بغض النظر عن الجهة التي وراءها, وبدلاً من خداع الناس، يجب أن توضحوا لهم الحقيقة بشجاعة, وإلا ستدخِلون البلاد في ورطة لا يعلم مداها إلاَّ الله“.. بدا أن محمد عثمان سعيد ضاق صدره جرَّاء حديثي, فقال لي بحدةٍ: ”أنت لا تعلِّمنا بما نفعله, لأننا سنعمل ما نقوله“.. فتضايقتُ أنا أيضاً، ودخلتُ معه في مشادة، قصدتُ فيها استفزازه بأشياء مهنية وأخلاقية، ثمَّ خرجت.. وعلمتُ فيما بعد بأنهم أحالوني للمعاش، ورغم أن قانون القوَّات المسلحة يسمح للفرد بأن يظلَّ في الخدمة لمدة ثلاثة أشهر, إلا أنني لزمتُ داري.
بعد مُضي نحو شهر ونصف، حضر أحد الضباط بطلب استدعاء، من اللواء محمد أحمد الدابي، رئيس الاستخبارات العسكرية.. وعندما التقيته، اصطحبني إلى مكتب الفريق إسحق إبراهيم، رئيس هيئة الأركان.. فتح الأخير ملفاً كان أمامه، وقال لي إن المعلومات تؤكد بأنني مُعادٍ للثورة, وأنني على اتصال بسياسيين كثيرين، وسَمَّى لي أسماء بعضهم.. ولأنني أدركتُ بأن المقابلة تشي باحتمالات شيء قادم, اكتفيتُ بالقول بأنني أُحِلتُ للمعاش، وبعيدٌ عن القوَّات المُسلحة.. وبالفعل، لم يمضِ وقتٌ طويل على ذلك، فوجدتُ نفسي مُعتقلاً -ضمن آخرين- في سجن كوبر.. كانت التجربة جديدة بالنسبة لي، لأنها المرة الأولى لي في حياتي التي أُعتقلُ فيها, وأستطيعُ أن أقولُ بأنني قضيتها متأملاً في واقع الحال.. ومن جهة أخرى، قرَّبت المسافات بيني وبين آخرين، من سياسيين ونقابيين، لم تكن حبال الوصل ممدودة معهم من قبل.. وفي نفس الوقت، تمتنت مع آخرين، كنتُ أعرفهم ويعرفونني.. ولا أجدُ حرجاً في القول -بصورة أكثر وضوحاً- إنني تعرَّفتُ على شخصيات مُميَّزة، واحترمتها, في حين فوجئتُ بخواء وسطحِية آخرين، تولوا مناصب، سواءٌ وزارية، أو مسؤوليات حزبية.
من القيادات التي التقيتها للمرة الأولى عن قرب، كان السيد الصادق المهدي, وهو في الحقيقة رجلٌ مُنفتح, مُمكن تتحدَّث معه، أو في حضوره، عن أي شيء.. مع ملاحظتي بأن بعض كوادر حزبه تخشاه لدرجة الرهبة, وهو شُعورٌ -في تقديري- أدنى درجة من الاحترام.. ويختلفُ الأمر مع السيد محمد عثمان الميرغني، الذي يُعبِّر له بعض أتباع الطائفة الختمية -مِمَّن كانوا معنا في السجن- عن احترامهم بشيء من التجلَّة.. ذلك هو واقعنا في السُودان، لكن أعتقد بأن معيشتُنا المشتركة جميعاً، وضعت أولئك في وضعٍ مُحرج، حتى وإن لم يُفصِحُوا عنه, وذلك نتيجة رؤية المذكورين في حالاتٍ على غير ما اعتادوهم!! وبالطبعِ في علاقة الشيوعيين بالسيد محمد إبراهيم نُقد، لا يوجد شيء من ذاك القبيل.. ومن الشخصيات التي زاد احترامي لها، مصطفى عبدالقادر المحامي, فقد أثبتت المواقف أنه وطنيٌ غيور، ظلَّ يتصدَّى لأي انتهاكات لحقوق الإنسان, ويُدافع عن الناس، وتملكته هذه المبادئ حتى وهو مُعتقل.. وأذكر أنني تعرفتُ أيضاً على أخوة مُميَّزين، منهم المهندس عبدالعزيز عثمان، الذي شغل منصب وزير الصناعة في الفترة الانتقالية, ود. عبدالقادر الرفاعي، والصادق الشامي، والتيجاني الطيب.. ولم أحتكَّ بالترابي كثيراً، وفي الواقع فعل ذلك الكثير من المُعتقلين، لقناعتهم بأن وجوده معنا كان تمثيلية.. ومن المُفارقات، حينما وُضِعَ في الحبس الانفرادي, قام نُقد بحملة توقيعات للمطالبة برفع الحجز عنه, ومن المؤكد أنه انطلق في ذلك من موقف مبدئي وأخلاقي.. ومع ذلك، تجاوب البعض مع الحملة، وامتنع آخرون للسبب الذي ذكرته.
من المواقف التي لا أنساها، رحيل الأستاذ عبدالمنعم سليمان داخل السجن, فقد أشاع موته موجة من الحُزن والإحباط, فقمت بمساعدة آخرين في تجهيز الجنازة، وبعد الانتهاء من تلك الطقوس، فكرتُ في تحويل تلك المشاعر إلى شيء إيجابي، فبدأتُ أهتف، فردَّد الآخرون الهُتافات، وكنا جميعاً في حاجة لذلك.
أما المواقف الطريفة، فأذكر أنه تمَّ تحويل نُقد والتيجاني الطيب إلى موقع آخر، كان يَضُم تجَّار العملة, الذين احتجُّوا، وطالبوا بِنقلهم، باعتبار أن ”جريمتهم بسيطة“، وهي الاتجار في العملة, في حين رأوا أن المذكورين يمكن أن يُعدموا.
في وجودنا، ألحقوا بنا ”مجدي محجوب“ وهو شاب هادئ ورزين، كان يستشير مصطفى عبدالقادر باستمرار, ونتيجة إحساس باطني، قلتُ لمصطفى إن هذا الشاب سوف يُعدم.. لقد تألمنا جداً لموته، وكذلك جرجس.. وقد ذكرتُ لمصطفى نفس المشاعر.. وجيء أيضا بأركنجلو أقاداو، ووالده من المُوسرين في مدينة جوبا، وأُعْدِم.. وكان هناك شخصٌ رابع، وُجِّهت له نفس التهم، لكنه لم يُعدم، وعلمنا أن أهله من ضواحي شندي، وضغطوا على عمر البشير من الناحية الأسرية!!
هنالك ظاهرتان سيئتان، لفتتا نظري داخل السجن، لأنهما تحِطَّان من قدر البشر.. الأولى، وَضعُ المراحيض العامة، بصورتها التقليدية المعروفة, علاوة على أن وجود حرَّاس السجن -على مرأى من مُستخدميها- ضاعف من ذلك الوضع المُزري والمُهين, ولا أدري ما هو شعور الآخرين، بالذات الزَّعامات السياسية التي انتظمت حياتها على نمط مُعيَّن؟! أما الظاهرة الثانية، فقد تَمثلَت في وجود كمية مهولة من الفِئران، يكاد حجمُها يُماثل حجم القِطط.. رُبَّما يستهين البعض بهذه الظواهر، باعتبار أن الحياة في السُجون ليست ترفاً, وأن الأنظمة الاستبداديَّة تتعمَّد ذلك، كإحدى آليات التعذيب المعنوي, لكنني مع ذلك اعتبرتُ أن تلك قضية، لأنني مهجوسٌ دوماً بإنسانية البني آدم، أينما كان.. في السُجون، أو خارجها.. لاسيَّما وقد كرَّمه المولى عزَّ وجلَّ.. المُهم، طالبنا بإبادة تلك الفئران، فأحضروا ”شراك“ تقليدية، لم تجدِ معها.. وعندما ازدادت المُطالبة، أحضروا دواءً معيَّناً، نجح في تقليص عددها، لأنه يُؤثر في العصب البصري، فتخرج من جحورها التماساً للضوء, فيَسهُل اصطيادها.
نقلتُ بعد فترة إلى سجن كسلا، برفقة آخرين، أذكر منهم: يوسف حسين، محمد محجوب عثمان، عبدالقادر الرفاعي وبشير عمر, ولم يطل بقائي، فقد تمَّت إعادتي مرة أخرى إلى كوبر، وكان ذلك في الأول من أغسطس/آب 1990, وقد أسرَّ لي مدير السجن، واسمه ”عوض“، بأن حاكم الإقليم، اللواء عوض محمد الحسن، زعم بأنني سوف أهرُب، وطالبَ بتشديد الرقابة علىَّ.. وأذكر أنه -قبل مغادرتي سجن كسلا- زارني ”الفاتح عروة“، وهو ابن أختي، وكان وقتها مستشاراً أمنياً لرئيس الانقلاب، عمر البشير, ومن باب المُجاملة المعروفة، أعطاني مبلغاً من المال, وتعمَّدتُ أن أحصيه أمامه, فاستغرب تصرُّفي، وسألني السبب, فقلتُ له: ”ربما يأتي يوم تكون فيه بمثل وضعي، وسوف أزورُك لأُعطِيك نفس المبلغ“!! أسوقُ هذه القصَّة للتدليل على ظواهر مُميِّزة للمُجتمع السُوداني, فاختلافُ المشارب السياسية أمرٌ طبيعي، حتى داخل الأسرة الواحدة.. لكن في تقديري، أن أسوأ ما فعلته الإنقاذ في هذا الصدد، ادعاؤهم بـ”إعادة صياغة الإنسان السُوداني“, وفي ذلك انتهجُوا ما من شأنه أن يُفرِّق بين الابن وأبيه, والأخ وشقيقه, والبنت وأختها، ولاشكَّ أن تلك المُمارسات الأمنية قد جزَّأت المُجتمع، وخلقت جيلاً مُشوَّهاً.
واقع الأمر، لم أكن فكرت في الهروب من السجن, لكن بعد الإفراج عني، وتَضايقي بعدئذٍ من المُراقبة المُستمرَّة, فكرتُ جدياً في الهروب باتجاه الشمال.. شجَّعني على ذلك نجاح البعض في التجربة, فرتَّبنا أمورنا، وكنا ثلاثة, العميد عبدالرحمن خوجلي، والمقدم عبدالعظيم عوض سرور, إضافة إلى شخصي، فسلكنا نفس الطريق الذي سلكه الآخرون, وبنفس الوقائع والمشاهد، إلى أن وصلنا القاهرة في أواخر مايو/أيار 1991, لتبدأ مرحلة أخرى في مسيرة النشاط المُعارض». الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة
بحُكم الواقع, واستناداً على نتائج آخر انتخابات ديمقراطية، جرت في العام 1986, لا يمكن القول - بصورةٍ مُطلقة- إن الجبهة الإسلامية، رغم تدبيرها للانقلاب, هي التي حكمت السُودان مُنفردة لأكثر من عقد ونصف (1989– 2005), ذلك لأنها اصطحبت معها في رحلة الحكم هذه ثلة من المُهرولين، بهُويَّات سياسية مختلفة، أو بدونها, وذلك بغضِّ النظر عن حجمهم، أو دورهم التمثيلي.
قياساً على ذلك، فإن المشهد عينه تكرَّرت وقائِعه -بصورة نسبية- في النظامين الديكتاتوريين السابقين, اللذين وضعا بصماتهما السيِّئة في التاريخ السياسي السُوداني الحديث, الأمرُ الذي يطرح سؤالاً طالما ظلَّ مُحلقاً في فضاءات السياسة السُودانية ردحاً من الزمن, ومثل، في الوقت نفسه، مُرتكزاً أساسياً في تشخيص حالات التخبُّط وعدم الاستقرار، الذي لازم بِناء الدولَة مُنذ استقلالها.. لماذا تبدِّل بعضُ النخب ولاءاتها السياسية إلى النقيض، وتهرول خفافاً نحو الأنظمة الديكتاتورية؟!
إن الإجابة الموضوعية على هذا السؤال قد تفسِّر الأسباب التي جعلت الأنظمة الديكتاتوريَّة الثلاثة تصمُد -مُجتمعة- زهاء الأربعة عقود زمنية, في حين أن الأنظمة الديمقراطية الثلاثة، أيضاً, لم تعمِّر لأكثر من عقدٍ واحد، بإضافة الفترات البينيَّة الانتقالية.
من المؤكد أن الأنظمة الديكتاتورية، حينما تتخذ الانقلابات العسكرية وسيلة، مستترة أو علنية, تلجأ مباشرة إلى نشر حبائلها حول النخبُ ذوي الهويَّات السياسية المُختلفة، وإغوائهم في مشاركتها, وتَهدف من وراء ذلك إلى توطيد دعائم سُلْطاتها، وتكريس ”شرعية“ الأمر الواقع.. ومن جهة أخرى، فإنَّ استجابة النخب دائماً ما تأتي بدوافع الطموحات الشخصية, وغالباً ما تغلفُ بستار ”تحقيق أهداف وطنية نبيلة“, ومن أعيته الحيلة في التبرير، يلجأ إلى أسلوب المُفاضلة بين سوءتين, خاصة من قبل الذين كانوا يوماً من حُماة الأنظمة الديمقراطية وسُداتها, رغم التبايُن بين النظامين.
ير أن المشاركة، في حالات استثنائية نادرة، كانت من باب ”الحماقة السياسية“, مثل التي دفعت بالسيد ”أحمد خير“ لأن يتقلَّد منصب وزير الخارجية في نظام اصطلح على تسميته بـ”الديكتاتورية الأولى“, وأصبح أول من استن تلك السُنة، غير الحميدة بالطبع.. فعلى خطاه سار آخرون, علماً بأن السيد ”خير“ كان قامة سياسية شامخة، ورائداً من روَّاد الحركة الوطنية، التي ناهضت الاستعمار، وتطلعت إلى تأسيس نظامٍ ديمقراطي نموذجي، يُلبى رغائب أهل السُودان, وإليه يُنسَبُ الفضل في طرح فكرة ”مؤتمر الخريجين“، الوعاء الحاضن للحركة الوطنية مُحققة الاستقلال.. «جاء ميلاد الفكرة في محاضرة ألقاها أحمد خير في ود مدني تحت عنوان: ”واجبنا السياسي بعد معاهدة 1936“، ونشرت مجلة ”الفجر“ نص المحاضرة في عددها الصادر في مايو 1937».
عزا أحد أبناء جيله ما أسميناه بـ”الحماقة السياسية“ إلى إِغواء السلطَة وإغراءاتها، بغضِّ النظر عن هويتها، وقال إن مشاركته كانت نتيجة: ”طموحه الجامح للقيادة والزعامة“.. وأضافَ، غامزاً وهامزاً، أنه: «لم يكن يكتفي بمنافسة رصفائه وأبناء جيله, بل كان يتطلَّع لمنافسة من سبقوه بأعوامٍ وأعوام في هذا المسار، ممَّن صارت لهُم شعبيةٌ كبيرةٌ بين المُواطنين، لا يستطيع زعزعتها». وأيَّاً كان التفسير لتلك الظاهرة, لكن صاحب الرأي نفسه، السيد أحمد محمد يسن, وهو أيضاً من رُوَّاد الحركة الوطنية، نهى عن خُلُقٍ وجاء بمثله، ليس بالمشاركة في نفس النظام فحسب, وإنما في الديكتاتورية الثانية أيضاً, وذلك حينما استجاب لتعيينه في مجلس الشعب القومي الخامس، في نظام نميري, غير عابئ بتلك المشاركة البغيضة، التي اختتم بها حياة حافلة في العمل السياسي، لما يقارب نصف القرن.
بعد مشاركة أحمد خير، تداعت تلك المواقف الشاذة، مُتجاهلة طبيعة النظام الحاكم, إذ قامت نخبة من روَّاد الحركة الوطنية، ضمَّتهم قائمة سُمِّيت بـ”كِرامُ المُواطنين“، وعلى رأسهم الشيخ علي عبدالرحمن ”الشيخ الأحمر“، والسادة محمد نور الدين, حمَّاد توفيق, يحيى الفضلي, أحمد محمد ياسين, برفع مذكرة في 29/11/1960، نيابة عن حزب الشعب الديمقراطي, لتوطيد أركان النظام الديكتاتوري, زعموا أنها محاولة للانعتاق من ربقة الطائفيَّة, فاستخفُّوا حتى بالنعت الذي وصفوا به أنفسهم, بافتراض أنه يحكم مواقفَ مُناهضة للنظام، وليس سُبل دعمه ومُساندته. وكذلك تبعهم من على البعد السيد خضر حمد، وأرسل برقية من القاهرة قبل أن تطأ قدميه أرض بلاده.. وأيضاً نخبة من رواد الحزب الوطني الاتحادي, وأيده ”الإخوان المسلمين“.. وقد ذكرنا في مشهد سابق مُباركة السيدين!!
وفي شخصيَّات ذلك الجيل أيضاً, ما الذي حدا بقامة سياسية ووطنيَّة سامقة، كالدكتور ”أحمد السيِّد حَمَد“ للمشاركة في نظام الديكتاتورية الثانية؟! والمُفارقة أنه النظامُ الذي انقضَّ على الديمقراطيَّة الثانية, والتي كان د. أحمد أحد وجُوهها البارزة.. وذات النظام الذي دبَّر له سلسلَة من التهم، وحاكمه للانتقاص من قدره السياسي والوطني.
في واقعِ الأمر، كان نظامُ الرئيس المخلوع جعفر نميري، الموصوف بالحاكم الفرد, قد برع في التلاعُبِ بمواقف النخبة السياسيَّة, وبلغت به الاستهانة درجة في الاستمتاع بتعيينهم وإقالتهم، من خلال وسائل الإعلام!! ودفعه ذلك للتباهي بأنه جعل المنصب الوزاري مشاعاً لمن استطاع إليه سبيلا، فقال إنه: «عيَّن أكثر من ثلاثمائة وزير في فترة حكمه، البالغة ستة عشر عاما». أما أهلُ الإنقاذ، فقد ضربوا رقماً قياسياً في تاريخ الاستوزار في السُودان, بأن جعلوه محجَّاً لكلِّ طائف، سواءٌ من المُوالين، أو ضعافُ النفوس، من أصحاب الهويَّات السياسية الأخرى.. ويكفي استدلالاً أيضاً بأن ما يُسَمَّى بِـ”حُكومة الوحدة الوطنية“ التي جمعت بَيْنَ النظام والحركة الشعبية، ضمَّت جيشاً جراراً من الوزراء، ووزراء الدولة، والمُستشارين.. وإذا ما أضفنا لهُم الوزارات الولائية، والولاة، وحكومة الجنوب, نكونُ أمام ظاهرة لا يُشارك السُودان فيها دولة أخرى في العالم, أيَّا كان تصنيفها، في قوائم المتخلِّفين، أو المُتقدِّمين.. ويبدو أنها أخذت باقتراحٍ ساخر لزعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نُقد في البيان الإماراتية 18/7/2005، إذ قال: «اقترحتُ على الترابي أيام تواجدنا معاً في المعتقل أن ينشئ وزارة ”دوَّارة“، يبقى فيها من يشغلها ستة أشهر، حتى ينال لقب ”وزير سابق“ الذي يتهافت عليه البعض، رغم أن الوزارة فقدت ذلك البريق الذي كان».
عموماً، فإن شئنا الحصر, نسوقُ أمثلة لفئة استمرأت العيش تحت إبط الأنظمة الاستبدادية, فتمرَّغت بين ديكتاتوريتين، حتى تقيَّحت جلودها، منهم: إسماعيل الحاج موسى, عزالدين السيد, شريف التهامي, أحمد سليمان, على شُمُّو, عبدالله أحمد عبدالله, أحمد عبدالحليم, بدر الدين سليمان, أبوالقاسم محمد إبراهيم, حسن عابدين, عون الشريف قاسم, محمد يوسف محمد.. وآخرون كثر.. ومثلَما استغرب البعض موقف أحمد خير، كرَّر القاضيان، أصحاب المواقف التاريخية الناصعة, بابكر عوض الله وعبدالمجيد إمام، الخطأ نفسه، بالمشاركة في النظام المايوي, ولحقهُم من نوَّاب الديمقراطية الثانية د. محي الدين صابر، وموسى المُبارَك.. ثم سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة أكتوبر, والسادة فاروق أبوعيسى، وأحمد إبراهيم دريج, بدر الدين مدثر, واستمر الحبل على الجرار.
ومن مُفارقات السياسة السُودانية، أن د. منصور خالد، مُبتدع عبارة ”سدنة مايو“ التي سار بها الركبان, تحايل عليها بقلمه الرشيق، في كتابه ”النخبة السودانية وإدمان الفشل“.. وحتى يتسنَّى له الانفكاك من ربقة تلك الزُمرة, قام بتحقيب سنوات النظام المايوي، وذلك بتقسيمه إلى أربعة ”مايوهات“، وجميعها -كما هو معروف- لا تستر عورة.. علاوة على أن ذلك أمرٌ من فعل الحُواة، لا السياسيين, لأن للسياسة مقاييسها، التي تضع مثل تلك الأنظمة في مكانها الطبيعي.. وقد ظلَّ يردِّد في أحاديثه، ويداور في كتابِاته لذلك المفهوم، بادعاء أن الربع الأول والثاني، من عمر النظام، كانا عامرين بالإنجازات والإعجازات.. «نعم، كانت لنا في مايو أيام نضرات تحققت فيها أحلامٌ كبار, إيقافُ نزيفُ الدم لمدة عشر سنوات, وبناء صُروحٍ في الصناعة والزراعة والطرق والجامعات، وجعل التنمية همَّاً أساسياً للحاكم»..
تلك هي الأحلامُ الكبار التي توحي لقارئِها غير المُدرك لحقيقة الصورة، لكأنما السودان كان في كنفها جنَّة تجري من تحتها الأنهار.. مع أن الأمر، قياساً بعدد السنوات، يُلجمُ اللسان حياءً عن ذكره.. فالجامعتان، ومصنعا السكر، وقاعة الصداقة، والطريق البري بين العاصمة والميناء, بغضِّ النظر عن كونها من صميم مسئوليات الحكومات المُحترمة, إلا أن هذه الحكومات لا تدَّخر لها سنين عددا، تقتطعها من جلود مواطنيها الصابرين.. علاوة على أنه منطق معلول، لأن الأنظمة الديكتاتورية يُمكن أن تستخدمه مقياساً لشرعيتها, وبه يَحِقُّ لأهل الإنقاذ أن يقولوا للسُودانيين: لماذا كل هذا العناء في معارضتنا، وعدم الاعتراف بشرعيتنا, فقد استخرجنا لكم البترول من باطن الأرض, وشيَّدنا مصافيه على ظاهرها, وصدَّرناه للعالم الخارجي, وأصبحنا مُراقبين في منظومة دول ”أوبك“, ونتطَلَّع لعضوية كاملة الدسم!!
أمَّا اتفاقية أديس أبابا، التي عدَّها ضمن تلك الإنجازات البئيسة, فصحيح أنها أوقفت نزيف الدم لسنوات, ولكن، ما لا يُمكن للمرء أن يفهمه هي تلك الدهشة التي يُبديها د. منصور، إزاء تنكر نميري للاتفاقية، وعبثه بها، كما يعبثُ أي طفل بِدُميته بعد إشباع رغائبه منها.. فما الذي يمكن أن نتوقعه من اتفاقية صمتت عن الديمقراطية، المُناط بها إبراء كل الجروح؟! وما الذي يُمكن توقعه من رئيسٍ كان يعتبر مُجرَّد الحديث عنها، ناهيكَ عن تطبيقها، رجسٌ من عمل الشيطان؟! وقياساً، يرجو المرء أن لا يُبدي د. منصور دهشة أخرى، إن تنكر أهلُ الإنقاذ لاتفاقية نيفاشا.. فالحصيفون الذين ينظرون لتَجارب الماضي، بعين العظة والاعتبار، توقَّعوا حُدوث هذا بحقائق المنطق الأزلي، التي تُؤكد أن ”فاقد الشيء لا يُعطيه“.. وفي واقع الأمر، حينما يردِّد د. منصور تلك الإنجازات، ليس بهدف أن تمنح النظام صكاً جزئياً للغفران, ولكن بإيحاء أن تمنحه شخصياً ذلك الصك، حتى ينزوي من ناظريه همٌ، بات يعتريه كلَّما جاءت سيرة ذلك التاريخ اللعين.
عندما تحدَّث الناس مراراً وتكراراً عن حقبة ديكتاتورية استطالَت سنواتها، حتى ملَّها سدنتها أنفسهم, يُصبح لزاماً على المراقبين وضع سنوات النصف الأول للنظام تحتَ المجهر.. أي النصف الذي تقلَّب فيه د. منصور في المناصب، كتقلُّب الرقطاء على الرغام، واعتبره في أجندته عامراً بالإنجازات!! فبعد أقل من شهرٍ على حدوث الانقلاب، امتطى د. منصور صهوة وزارة الشباب والرياضة في 19/6/1969, وهى الوزارة المعنيَّة بالشباب، عماد الأمَّة، وبرامج إرشادهم، وتوجيههم، وبذرُ القيم المثاليَّة والوطنية والتقويميَّة في نفوسهم.. وقطعاً ليس من بين كلِّ تلك الأهداف توطيد دعائم نظام ديكتاتوري، وتمجيد ”ثورة مايو“ -”الظافرة أبداً بإذن الله“- ورئيسُها المُلهِم والمُلهَم!! وبعدها، كان على ظهر وزارة الرعاية الاجتماعية في 28/10/1969, وهي المعنيَّة برسالة مُحدَّدة نحو المُجتمع، كذلك ليس من بينها استقطابهِم لشيءٍ لا يرومونه.. ثم حملَه البُراق ليكون مندوباً للنظام في أروقة الأمم المُتحدة في 21/7/1970، وبغضِّ النظر عن أن تلك كانت رغبته التي سعى لها سعياً حثيثاً، لشيء في نفسه.. فالمنصب أيضاً كان معنياً بترويج ديمقراطية النظام, والدِّفاع عن انتهاكاته للحريات العامة, ووضع المساحيق التي تخفى عُيوبه، وتحيلُ مساوئه إلى محاسن.. وبعد أن قضى وطره، عاد وزيراً للتربية والتعليم, التي تأمل فيها شاعرنا الفحل محمد سعيد العباسي أن ”تعلم النشء علماً يستبين به سُبُل الحياة“.. ومؤكداً أن “قبل العلم أخلاقاً“.. ثم وزيراً للخارجية، لمواصلة نفس الأهداف السامية، والمقاصد النبيلة.. ولاشكَّ أنه برع في صنعته، بما لديه من إمكانات خاصة.. ومع استمرار الرسالة التبشيرية، فقد أغمض عينيه، وصمَّ أذنيه عن سُخْطِ الناس على النظام, والتعبير عن مُعارضتهم له بشتَّى الوسائل المعروفة.. تظاهراتٍ, انتفاضاتٍ, إضرابٌ عن العمل ”عصيان مدني“, انقلابات عسكرية, صِدامٌ مُسلَّح.. الخ، ولا ينقص من قدرها أنها لم تبلغ النجاح في النصف الأول، العامر بالإنجازات, وأتت أُكلها في النصف الثاني، المليء بالإخفاقات.. على حدِّ تصنيفه!!
إن النصف العامر، الذي كانت له فيه سنواتٌ نضِرات, هو النصفُ الذي خلخل فيه النظام التعليم بالبدعة التي أدخلَته في المتاهة الكبرى.. وهو النصفُ الذي انهمرت فيه دماءُ أبرياء في ودنوباوي والجزيرة أبا, ورهط من العسكريين في ”دروة“ الشجرة، والحزام الأخضر، وسفوح جبال كرري.. وآخرين جاءوا من خلف الحُدود، لن ينتقص من وطنيَّتهم وصفُ النظامِ لهم بـ”المُرتزقة“.. فلماذا لا يُعَدُّ هؤلاء ضمن إنجازات التباهي؟! وحتى لو حصرنا الأمر في نطاقٍ أضيق، هل كتب د. منصور، أو قالَ شيئاً للناس، عندما أقدم النظام، الذي طاف حول كَعْبَتِه، بإعدام خليلَه وصفِيُّه -كما زَعَمَ- ”فاروق حمدالله“ رمياً بالرصاص, وكان يُزَمجرُ كهزبرٍ ثائر، مُردِّداً عبارات زُهد، كلُّ من سمعها في الدنيا, ولم يزهد هو في المنصب الزائل؟! أما رفاقُ ”حمدالله“ الآخرين، فلتغفر له أرواحهم كلمات الاستحسانِ التي ذرَّها على مسامع ”الرئيس القائد“ تزلفاً وقربى.
في إطارِ ما ذكرناهُ سابقاً، عن أن الأنظمة الديكتاتورية تنشُر حبائلها لإغواء المُتهافتين, لم يكن غريباً أن يُشارك د. منصور في نظامٍ لبَّى رغائبه الشخصية.. فهو حينما وسَّع جلباب طموحه السياسي، بدأ مُبشِّراً –ضمنياً- بفكرة الحزب الواحد، في حواره مع الصفوة.. وزادَ جُرعة طموحه لاختصار المسافات، نحو ذلك الهدف، بالتمهيد أو التبشير بالانقلاب غير المرئي، في سلسلة مقالات.. ذلك ما أكده، أو اعترف به لاحقاً، وبشيء من الزهو والفخر.. «كان كثيرٌ من أعضاء المجلس متأثرين بمقالاتي التي كتبتها قبل ثورتهم».. ومَن كانت تلك غايته، فلا جناح ولا تثريب عليه، إن كوفئ بمنصب في النظام الانقلابي.
المعروف أن د. منصور، حينما يُسألُ عن مشاركته في تلك الفترة، فهو لا ينفيها, وبالطبع لا ينبغي له.. لكن الغريب في الأمر، أن تأكيداته تأتى دوماً مقرونة بتبرير الخطأ، وتبرئَة الخطيئة.. ذلك ما يجعل حديثه مُجرَّد حداءٍ في صحراء، لا يسمعُ الحادي فيها سوى صدى صوته.. والأكثر دهشة، أن التبرير يأتي أحياناً بشيء من المُكابرة، وخداع الذات.. «لم أكُن يوماً من سُوَّاسِ الخَيْلِ الذين يُبَدِّلون أحصنتهم في مُنتَصف العَدْوِ».. يقولُ ذلك، رغم السلوك الذي لا تستطيعُ العين نكرانه، إلا من رمد.. فبغضِّ النظر عن تبديل الأحصنة، فإن المُشاركة نفسها لا تحتملها كلماتُ الاستدراك، ولا التسويف، ولا التلاعُب بالألفاظ, فهي من جنس الأفعال التي لا تقف عند حدود الاعتراف, وحتى الاغتسال سبع مرات في مياه النيل العذب الطهور، لن يُجدي في إزالة أدرانها.
غادر د. منصور خندق النظام المايوي في فبراير/شباط 1980, أي في ”الربع الثالث الرديء“ وليس المُنتصف كما يُسوِّق، وتحديداً كان ذلك في أعقاب مؤتمرُ القمَّة الأفريقي، الذي عقد دورته في الخرطوم، واختير فيه نميري رئيساً للمُنظمة.. ومثل ذلك الحدث، بغضِّ النظر عن طبيعة النظام، يعتبره أي وزير خارجية كيوم عُرسه, لكنَّه على العكس، كان الحدث الذي بدأ فيه نجم د. منصور -وزير الخارجية- في الأفول, بعد أن استأسد عليه سدنة القصر، وأوغروا صدر الرئيس ”المُلهِم“ ضدَّه.. وشعر وقتذاك بأن الأرض بدأت تهتز تحت قدميه, وإزاء قناعته بضعف موقفه، آثر الرحيل عن النظام، بادِّعاء بطولة متأخرة، في مقالات كتبها، وسمَّاها: ”لا خَيْرَ فينا إن لَم نقلها“.. ولا يذكر أن الذين أصرُّوا على نشرها، فعلوا ذلك ليس حباً فيها, بقدر ما كان في إطار الصراعات المختلفة، التي كانت تعجُّ بها ساحة النظام في تلك الفترة.. وليس مُهماً هذا التفصيل، لكن المُهم أنها حينما نشرت، كان كاتبها قد طوى الأرض طيَّاً, ولم يشأ البقاء حتى يرى رد فعل النظام.. وبالطبعِ ليس من الحكمة أن يرمي ابنُ آدم نفسه في التهلكة, لكن ادِّعاء ما لم يكن كائناً، هو في حقيقته تزييفٌ للواقع، وذرٌ للرمادِ في العيون.
عندما استبدل د. منصور حصان النظام المايوي بحصان المُعارضة, انبرى في كتابات راتبه في صحيفة ”القبس“ الكويتية، بنقد النظام وسياساته، كمن اكتشفها فجأة بعد عقد من الزمان.. وهو -بلا شك- تأمَّل أن تكون تلك المقالات شفيعاً له عند ذلك الشعب، المغلوب على أمره.. وكنا قد ذكرنا من قبل أنه بعد سقوط النظام في أبريل/نيسان 1985، جاء إلى الخرطوم زائراً، ومُعتقداً بأنه سيُستقبل استقبال الفاتحين, غير أن البعض أفسَدَ عليه بهجة يومه ذاك، بنبش صفحة المواجع التي ظنَّها قبِرَت, فغادر الخرطوم آسفاً، وترك خلفه القومُ يصطرِعون حول سدانته.. ومضى في توطيد انضمامه للحركة الشعبية.. وهو في الأصل، حينما انضم لها، كان بحسِّه السياسي يتحسَّبُ لمثل ذلك اليوم, إذ ليس من الفطنة أن تواجه أعداءك بظهر مكشوف, وكانت الحركة الشعبية وقتئذٍ، الوحيدة التي يُمكن أن توفِّر له ملاذاً آمناً، يقي من نوائب الدهر، وشرور الخصوم.
بذاتِ المُكوِّنات الأحادية، التي تحوصلت في دواخل د. منصور، والمو######## من النظام المايوي, قدَّم أوراق اعتماده رسمياً لقائد الحركة الشعبية، بالتحليق حول أفكاره ”قرنق يتحدث 1986“.. ولم يشأ أن يجعل مؤلفه ينداح رحابة على الحركة كلها، حتى في العنوان، مُكرِّساً بذلك نقطة ضعف لازمتها منذ التأسيس، وحتى رحيل قائدها في يوليو/تموز 2005.. ولأن الانضمام، في الأصل، كان ملاذاً، كما ذكرنا، لم يُكلِّف د. منصور نفسه بتبريرٍ واقعيٍ للذين استغربوا تناقضاته, ليقول لهم: لماذا استطاب الماركسية -التي كانت هوية الحركة آنذاك- وعبَّرت عنها بوضوحٍ في مانفستو التأسيس, ولم تَرُق له من حزبٍ ظلَّ يحملُها كصخرة سيزيف، ويُبشِّر بها منذ منتصف الأربعينيات؟!
ولأن عين الرِضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ, ففي المؤلَّف المُشار إليه, تجاهَلَ د. منصور ملاحظة أساسية، أوردها د. قرنق: «إن النميري كان شيوعياً»، علماً بأنَّه يعرفُ المذكور كمعرفته بفطاحل الشعراء العرب, وإن تقاصَرَت معرفة قرنق به.. مثلما أنه أيضاً لم يُكلف نفسه بتصحيح معلومة أساسية، حول انتفاضة أبريل: «لم تكُن سوى انقلاب دُبِّر في الخارج، بموافقة ومشاركة النميري، ونفذه جنرالات النميري في الداخل»!! ويبدو جلياً أن ذلك الخطأ الإستراتيجي في التحليل، هو الذي بنت عليه الحركة موقفها السِّلبي, عندما أخذتها العِزَّة بالإثم، واعتبرت التغيير الذي حدث لا يعنِيها في كبير شيء.. ولرُبَّما تصحيحه ساعتئذٍ كان يُمكن أن يغيِّر أشياء كثيرة.. ولم يكن تجاهله من باب الهفوة، ولكن لأنه أمرٌ صادف هوىً في نفسِ مَن كانَ يُرجى منه تصحيحاً, أو على الأقل تلك صفحةٌ من كتاب يتمنى د. منصور أن يمزِّقها، لا أن يصحِّحها!! وقد ذكرنا من قبل، أنه ساهم بعدئذٍ في تعميق تلك الفجوة المفاهيمية, وكان مثيراً للمراقبين أن الحركة الشعبية، التي جَهَرَت برأيها في جنرالات نميري, أصبح أحد سدنة ذات النظام مُستشاراً سياسياً مُعيَّناً لقائدها.. وجميعهم في تلك الحظيرة سواء.
على كلٍ، تلاقت الإرادات الخفيَّة, فالحركة الشعبية لم تكن الديمقراطية في أولوياتها, وعليه لم يكن وجود المُستشار الجديد بين ظهرانيها غريباً, فهو أيضاً لم يذكرها في مؤلفاته العديدة، إلاَّ لماماً.. ومعاً قالا للمُتسائلين، إنها مؤجَّلةٌ حتى تضع الحربُ أوزارها, ويُغرِّد كل متلهِّف لها أغاني السلام، في رُبوعِ المليون ميل مربع.. ولن يخطئ من يقول بأنه: ”وعد عرقوب“، كما تقول العرب العاربة, قياساً بما تمخَّضت عنه مشاركة نيفاشا مع طرف ثانٍ، لم يقل إنها مؤجَّلة، ولكنه قال جهاراً نهاراً بأنها حرامٌ في أجندته, وذلك ما سنقتفي آثاره في فصول تالية.
بموجب تلك الشراكة، عاد د. منصور إلى السُّلطة، في ختام تلك الرحلة المُرهقة, مُستشاراً ضمن زُمرَة أحد عشر كوكباً آخرين، يُرجَى مِنهم تقديمُ النصحِ والإرشاد، والاستشارات، لمؤسسة رئاسة الجمهورية, والتي قال عَن رُوَّادها ما لَم يقله مالِك في الخَمر.. ولعل اللافت للنظر، في عودته الثانية، أنها جاءت بعد أكثر من رُبع قرنٍ على مُفارقته السلطة.. ولعمري، ذلك أمرٌ لا يحدُثُ إلاَّ في بلدٍ مُفترَى عليه، وعلى أهله، كالسُودان.. ومثل هذا يُعَد في مَصَافِ رابع المستحيلات في الغرب، المفتون به منصور, حيثُ للمنصب هناك بيانٌ وتَبيين، وميقات معلوم, لكنه هذه المرة جاء مسكونا بـ”فوبيا بهاء الدين محمد إدريس“، أو ”راسبوتين“ النظام المايوي, والذي كان السبب الرئيسي في مغادرته لخندق النظام، في ذاك الزمن التليد.. والقصور، كما نَعلمُ، ليسَت مكاناً للحُكم وحده, فهي أيضاً، وعَبرَ التاريخ، مكان للتآمر والدسائس، وتصفية الحسابات، ما ظهر منها، وما بَطن.. وقد أضاف لها بهاء الدين، قبلاً، الحسومات المئويَّة عند كل مغنمٍ، والتي التصقت باسمه التصاقُ الوشم بالجلد.. ومِن المُؤكد بأن القرَّاء موعُودون غداً بسفرٍ جديد يحكي فيه منصور -كدأبِه في تأرخة الأحداث- أسرار القصر، بصفته مُراقباً، وليس مُستشاراً. وربما شمل ذلك نظم القريض في شجرة ”الهشاب“ بقريحة الشعراء, ومنتوجها اللزج، الجاذب لذوي المواهب الدفينة في دنيا المال والأعمال.
مواصلة للمَبحَث الذي تناولنا فيه تَكالب النخَب السياسية على الأنظمة الديكتاتورية, تؤكد التجارب الماضية أن الديكتاتوريات دائماً ما تقتنص الترهُّل، الذي يُلقي بكَلكَلِه على الأنظمة الانتقالية, فتضع جُرثومتها في أحشائها, أفكاراً بغرض النموِّ، وأشخاصاً بهدف الاستقطاب.. وقد كانت الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نميري من الرداءة بمكان، بحيث تصلح نموذجاً لرثاء العقل السياسي السُوداني.. شعبٌ تمخَّض ثورة، فوَلَدَت مسخاً مشوهاً!!
كانت الجبهة الإسلامية قد استهدفت تلك الفترة الانتقالية، ووضعت جُرثومتها في أجساد أربعة مِمَّن لهُم ارتباطاتٌ باطنيَّة بتوجهاتها، أو مُهيَّأين لخدمة أجندتها.. كان أولهم المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، رئيس المجلس العسكري, وثانيهم نائبه الفريق أول تاج الدين عبدالله فضل.. فقد كافأت الأول بتولِّي منصب أمين أمناء ”منظمة الدعوة الإسلامية“, وقد ردَّ لها الحسنة بعشرٍ من أمثالها, بتسخير استوديوهات المنظَّمة في عملٍ ”دعَوِيٍ“ لتسجيل ”البيان الأول“ للانقلاب، قبل شهرٍ تقريباً من حدوثه.. والذي يدعو للاستغراب في شخصيَّة المُشير، أنه حينما أصبح الأمرُ واقعاً في انتفاضة أبريل 1985، وتحتَّم انحياز المُؤسَّسة العسكريَّة لجانب الشعب, رضخ سيادته، بعد أن استخار ربُ العباد, وصام أيام كفارة لحنثه بقسم ”البيعة“، التي نصَّبت نميري أميراً للمُؤمنين؟! في حينِ أن حدثاً آخر كان هو طرفه، واستوجب انزواءه مِن الحياة العامة, لكنه عبَّر دون إحساس لديه بالذنب، وبرغم أنه كلَّف الموعود به حياته, وكان الضابط ضمن كوكبة الضباط المغدورين في ”مذبحة رمضان“.. يومذاك كانت سُلطة الإنقاذ قد استعانت بالمُشير سوار الذهب للتوسُّط في إقناع ”اللواء حسين عبدالقادر الكدرو“ في انقلاب إبريل 1990، والذي كان مُتحصِّناً في قيادة المُدرَّعات، مُصمِّماً على المُقاومة حتى الرمق الأخير, فاستسلم بعد أن وعدهُ المُشير بضمانِ ”مُحاكمة عادلة“, وتعهَّد له بذلك، فصدَّقه المغدور به، نِسبَة لثقته فيه -على ما يبدو- واتضح أن الوعد والتعهُّد هما المقصلة التي كانت في انتظاره!! ومع ذلك، استمرَّ المُشير في تقديم خدماته، دون أدنى وازعٍ أخلاقي.. وبعد كل ذلك، مطلوبٌ من الشعب السُوداني الصبور، أن يضع المُشير في قائمة الشَّرف!! عِلماً بأننا شهدنا في ”فسطاط“ دار الكُفرِ، على حدِّ تعبير كبيرهم الذي علمهم الإرهاب، أن مسؤولين زهدوا في مناصبهم, بل آثروا الرحيل من الدنيا بأكملها لمُجرَّد أن مُواطناً تعثر في حُدودِ واجبهم!!
كذلك، كوفئ الفريق تاج الدين بـ”منظمة شباب البناء“, وهى أيضاً رافدٌ من روافد منظمات الجبهة الإسلامية.. وثالث الفرسان، كان رئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية، د. الجزولي دفع الله، والذي جاء إلى منصبه ذاك من سجن كوبر، محمولاً على أعناق الجماهير، فتنكر لذلك التكريم بتسويف قضايا تلك الجماهير، خدمة لأجندة الجبهة الإسلامية, وخاصة ”أمُّ القضايا“، المُسمَّاة بـ”قوانين سبتمبر“, وهي القوانين المنسوبة زوراً وبُهتاناً إلى الشريعة الإسلامية.. وقد كوفئ في نهاية الفترة الانتقالية بترؤسه لـ”وكالة الغوث الأفريقية“!! فحيثما توجد كلمة ”إغاثة“، أو ”طوعية“، فابحث عن الجبهة الإسلامية!! (وضعتها الإدارة الأمريكية مُنتصف العام 2005 في قائمة المُنظمات المحظورة).. وقد شاركه في مُهمَّة التسويف تلك النائب العام عمر عبدالعاطي، ولذا فقد طالته الاتهامات أيضاً، ويبدو أنه لم يطل ”لا بلح الشام، ولا عِنَبُ اليمن“, من العطايا التي نثرتها الجبهة الإسلامية على من سلفت أيديهم في خدمة أجندتها.
نعم، فالمُتساقطون في نظام مايو كثرٌ, والذين ولغوا من ديكتاتورية الإنقاذ أكثر.. وبين المنزلتين كانت الفترة الانتقالية وكراً, والحقبة الديمقراطية جسراً, وبهما عبر البعضُ من شاطئ إلى شاطئ, دون اعتبار لتغيُّر الوجوه, ولا تبدُّل الألسنة، ولا تشوُّه ملامح التاريخ.. وهكذا تسَلسَلَت الدورة الشريرة.. ولمَّا كنا قد بدأنا هذا المبحثُ بالتساؤل حول هرولة النخب السياسية نحو الأنظمة الديكتاتورية, في محاولة تهدفُ إلى إِجلاء الحقائق، حول أسباب تمدُّد سنوات تلك الأنظمة, فلابد من الإشارة هنا إلى أنه في سياق التمويه الذي ابتدعته سلطة الإنقاذ بداية تسلمها السُلطة, عَمِلَت على ضمِّ وجوه انتهازيَّة إلى قافلتها، وهم أصحابُ الولاءات المُجزَّأة، الذين تسكرهم السُلطة، بغضِّ النظر عن هويَّتها.
في طليعة أولئك، كان د. حسين أبوصالح، نطاسي جراحة المخ والأعصاب, فتمَّ تعيينه بعد الانقلاب وزيراً للإسكان, وبعدها وزيراً للرعاية الاجتماعية, ثم وزيراً للخارجية، وهو ذاتُ المنصب الذي شغله في النظام الديمقراطي, إلى جانب وزير الثقافة والإعلام, وقبلهما كان في الفترة الانتقالية وزيراً للصحة.. وبعد أن أشبع غرائزه في كراسي تلك الوزارات, اختارت له الإنقاذ عشَّاً آخر، أكثر دفئاً وحميمية، مع توجهاتها، فعيَّنوه في نوفمبر/تشرين الثاني 1997، رئيساً لما أسموها بـ”الهيئة الشعبية للحوار الوطني“.. وحتى لا تعتري الدهشة وجوه الذين يستعجبون ذلك التقلب، فهُو يذكِّرهم بأنه حامِلُ لواء القِيَم النبيلة، التي دفعته لقبول تلك المناصب تكليفاً، لا تشريفاً.. «عَمِلتُ مع الحكومة [5] سنوات، وابتعدتُ لأسباب ليس هذا أوان الحديث عنها, ولكنّ الظروف الوطنية لا تسمح أن يقف الإنسان مكتوف الأيدي, ولابد من الإسهام بجدية من أجل الحفاظ على وحدة السودان، يكون أو لا يكون».. وهل يذكر القرَّاء أي مقولة غير هذه لكلِّ من كشفت الأنظمة الديكتاتورية انتهازيَّته، المخبوءة تحتَ دثار صورة زائفة؟! على كلٍ، فمواصلة لتلك الرسالة الوطنية، لبَّى د. أبوصالح نداء الإنقاذ في البدعة المُسمَّاة بـ”التوالي السياسي“, فقام بتسجيل حزب ”وادي النيل“.. وبغضِّ النظر عن أن الحزب، وآخرين مثله، مجرد وهم في مخيلة صانعيه, إلاَّ أن مثل هذه التسمية يقول عنها السُودانيون في عامِّيتهم: ”الجوابُ يكفيك عنوانه“!! ولأن السُلطة التي أدمن د. أبوصالح كراسيها, لم تعد ”أعصابه“ تتحمَّل الابتعاد عنها, أعادته الإنقاذ في العام 2004 لسيرتها الأولى، فتولَّى رئاسة ”منظمة الدفاع عن العقيدة والوطن“.. والمُفارقة، أن التعيين الأخير هذا جاء في الوقت الذي فرَّت فيه العقيدة من أهل الإنقاذ، وتولَّى فيه المُبشَّرون بـ”دُنوِّ عذابهم“ أمر الوطن بأكمله.
ذلك النموذج، قابله -بصورة نسبية- من حزب الأمَّة اثنان, لم يجدا حرجاً منذ وقت مُبكر، في الانضمام لمسيرة الإنقاذ الظافرة.. أولهُما عبدالله محمد أحمد، الذي كان وزيراً للثقافة والإعلام في الفترة الديمقراطية, وقد عُرف عنه يومها بأنه ”الوزير الاستثناء“ في تاريخ السُودان الحديث، الذي ثابر في تمرير أجندة لا صلة لها بالإعلام، ولا قبل لها بالثقافة, وكانت في واقع الأمر مطابقة لأجندة الجبهة الإسلامية، في رؤيتها للرسالتين معاً.. ولا غرُو، فقد كان أحد الكوادر المُؤسِّسة لحركة ”الإخوان المسلمين“.. وربما لهذا السبب، أو لغيره عيَّنته الإنقاذ سفيراً لها في إيطاليا بعد الانقلاب, ثم ما لبثت أن أزاحته من موقعه دون أن تذكر أن الإقالة تمَّت بسبب تورُّطه في فضيحة صفقات تجارية مع شركات إيطالية، صدَّرت مواد غير صالحة لتنقية مياه الشرب -”الشبَّ“- إلى السُودان, فغادر مسرح الإنقاذ مُستسلماً في هدوء لتلك الخاتمة.
الثاني كان عثمان عبدالقادر عبداللطيف، حاكم الإقليم الأوسط في الفترة الديمقراطية.. عيَّنته الإنقاذ وزيراً للطرق والمُواصلات, ولأسباب تقتربُ من سابقه، أقيل أيضاً, ولكنها وجدت له موقعاً رحيباً في الهيئة القيادية في حزب ”المؤتمر الوطني“ الحاكم، وظلَّ يقدِّم خدماته بتلك الروح الانتهازية, إلى أن توارى، أو وُورِي!! وجاء ثالثٌ في نهاية المطاف، محمد علي المرضي، حاكم كردفان السابق, وعيَّنته الإنقاذ وزيراً للعدل، بعد أن اقتنعت بأنه جاءها مثقلاً بنحو ثلاثة آلاف عضو من حزب الأمَّة، انضموا لحزب السُلطة، المؤتمر الوطني، أو كما قال.
أيضاً واصلت الإنقاذ مساعيها الحميدة لاستقطاب آخرين من الحزب الموصوف بالفلتان التنظيمي, فأعلن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في حفل بهيج يوم 1/2/2006, انضمام نجوم جُدُد من الاتحادي الديمقراطي, هم اللواء مهندس عبدالعزيز محمد الأمين، حاكم الإقليم الشمالي السابق, وعضو المجلس العسكري الانتقالي الأسبق، د. الفاتح محمد التيجاني، وزير الزراعة السابق، وعمر الشيخ حضرة، وزير الإسكان السابق، ثم عبيد حاج علي، رئيس القضاء الأسبق. ومثل هذا الاختيار وظروفه, يمكن أن يقال أنه تطابق فيه خطأ الزمان والمكان.
إنَّ نظام الجبهة الإسلامية، التي تولت زمام سلطة الإنقاذ، كان روَّاده في حقيقتهم خليطاً متنافراً من ذوي التوجهات الثيوقراطية والشمولية والأوتوقراطية، وأهمها الانتهازية.. والأخيرة أيديولوجيا مُستحدثة في السياسة السُودانية من قبل المُتهافتين.. وكان لزاماً على كل زائرٍ ومقيم في دار الإنقاذ، تفسير الأمور وفقاً لمُنطَلقاته، أو تمنياته.. ولعلَّ أغرَبَ ما رشح عن كائن سياسي، منذ أن ظلَّ السُودان يبحث عن استقرارٍ لنظام حكمه, ما نطق بِه عبدالباسط سَبْدَرات، الذي أدمَنَ الشمولية، للدرجة التي لم يرعوِ معها في إِخصَاءِ الديمقراطية.. فقرَّر نيابة عن أهلِ السُودان جميعاً، أنَّ: «الشمولية هي الأنسب لحكم السودان»!! من المؤكد أن قائل هذا الرأي التالف، أو مَن شاطره ذات التوجُّهات, لو أن ثقافتهم السياسيَّة أسعفتهم للاطلاع على أشهر خطب المُناضل الجنوب أفريقي ”نيلسون مانديلا“ لما جهروا به.. فقد قال ”مانديلا“ للقاضي الذي حكم عليه بعقوبة السجن مدى الحياة, عوضاً عن عُقوبة الإعدام التي كانت مُتوقعة, وذلك قبل مُغادرته منصة محكمة ”ريفونيا“ إلى ”سجن روبن“ الرَّهيب, وكان وقتها في ريعان شبابه: «لقد وهبتُ نفسي خلال حياتي للكفاح من أجل الشعب الأفريقي, فقد ناضلتُ ضد سيطرة البِيض، وناضلتُ ضد سيطرة السُّود, فقد تعلَقتُ بالمجتمع الديمقراطي، الحر، المثالي، الذي يعيشُ فيهِ كل الناس معاً في انسجامٍ، وبفرص متساوِية, وهو الهدفُ الذي أتمنى أن أعيش من أجله، ويتحقق، وإن تَطَلَّب الأمر، فهُو الغاية التي أنا على استعداد للموت في سبيلها». وقد طابق قوله فعله، فقد صَمَدَ في سجنه زُهاء الثلاثة عقودٍ زمنيَّة، بإيمانٍ لم يتزعزع، إلى أن تحقق الهدف الذي نذر له حياته.
مع تمدُّد سنوات الإنقاذ، كانت محنة بعض النخب السياسيَّة تزدادُ غوراً, واستمرَّ التساقط مُنتظماً كحبات المسبحة.. وكان لبعض النخب الجنوبية نصيبٌ في التقلُّب بين الأنظمة، بهُويَّاتها المُتباينة, للدرجة التي عزَّ فيها وجود استثناء, وتلك هي إحدى نقاط الضعف التي استغلتها الأنظمة المركزيَّة في الشمال، لمُداراة عجزها وفشلها في حلِّ قضِيَّة الحرب والسلام.. ولعلَّ السيد ألدو أجو دينق يُعَد نموذجاً لسياسي سجَّل رقماً قياسياً في تاريخ الاستوزار في السُودان، في رحلة ماراثونية، بدأت منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، وحتى الألفية الثانية.. وحاذاه في السباق السادة أنجلو بيدا، وماثيو أبور، وجوزيف لاقو.. وأضيف لهم مؤخراً بونا ملوال، بعد عودته للسُلطة مُستشاراً في القصر, كصنوِّه الذي قضى مثله سبع سنواتٍ نضرات في كنف النظام المايوي.. ومن النخب الجنوبيَّة الذين شاركوا في هذا النظام, لكنهم اختطوا لحياتهم طريقاً آخر، السادة أبيل ألير، وفرانسيس دينق، ودينق ألور.. وقد جرفت أحداث انقسام الحركة الشعبية في العام 1991 د. رياك مشار، للارتماء في أحضان الإنقاذ، في منصِبٍ شرفي، كمساعد لرئيس الجمهورية.. وأيضا د. لام أكول، وزيراً للمُواصلات، بموجب ”اتفاقية الخرطوم للسلام“.. لكنهما، بعد خمس سنوات من المشاركة، عادا أدراجهِما إلى سرب الحركة الشعبية, وكأنَّهُما كانا في رحلة للترويح عن النفس.. وكانت الاتفاقية المذكورة قد شملت آخرين، منهم من قضى نحبه، مثل كاربينو كوانين, وليم نون, أروك طون أروك.. ومنهم من ينتظر، ويصعب حصرهم.
كنا قد ذكرنا من قبل أنَّ السيد الشريف زين العابدين الهندي, كان ثاني ثلاثة من السُلطة الديمقراطية، لم يشملهم الاعتقال، عند حدوث الانقلاب, نسبة لوجوده في القاهرة آنذاك، وقد استبقى نفسه فيها لعدة سنوات, لم يشغل نفسه فيها بشيء سوى اجترار الذكريات، وأقوالٌ متناثرة هنا وهناك، لم ترق لمستوى أفعال تنظيمية جادَّة.. فهو، من جهة، عندما انتظَم النشاط المُعارض للنظام, أو فلنقل بداية مُحاولات البعض لتفعيل دور التجمُّع الوطني, اتخذ منه موقعاً قصيَّاً قبل أن يستبين ليله من ضُحاه.. «نحن لم نعمل ضد ما أسميتموه بالتجمع الوطني الديمقراطي, فقَد أشرنا إلى جثَته قبل إعلان وفاته, وكان على يدينا كسر عصا سُليمان، التي استندت عليها رفاته»..
لم يكن مطلوباً من الشريف الهندي أن ينضمَّ للتجمُّع, ولكننا أوردنا ذلك من باب استمراء الرجُل للنقد السلبي، الذي لا يُقدم بديلاً مقنعاً, وهو الخط نفسه الذي انتهجه في النظام الديمقراطي، الذي كان أحد أركانه حزبِياً وشخصياً, وكان واضحاً أن موقفه من التجمُّع جاء نكاية في رئيس حزبِه، السيد محمد عثمان الميرغني, رغم أن الأخير هذا نفسه، كان حتى ذلك الوقت، بعيداً عن نشاطات التجمُّع التنظيمية.. صحيح أن الشريف، وحولَه قلة من المؤازرين، أعلنوا موقفهم المُعارِض للنظام, لكنها مُعارضة بذات الأقوال النظريَّة المُضطربة التي تغترف دوماً من بحر التمنيات والأوهام.. «منذ تسلط هذا النظام على رِقاب العباد، ظلت إشاعاتُ المُصالحات تتردد بين الفينة والأخرى, وأعلنا موقفنا صريحاً وواضحاً، أن لا صُلح, ولا تفاوُض, ولا مُهادنة, لأن من يفعل ذلك إنما يُصالحُ على جثث الشهداء، وعرق الضعفاء»..
تأكيداً لتلك القناعات الصارمة، قام الشريف بزيادة جُرعتها في مؤتَمر صحفي في لندن، عقده بتاريخ 5/2/1995، وقال فيه: «إن نظام البشير فَقد مقومات البقاء، لأنه سلب الإنسان السوداني حريته، وشوه عقيدَته، وملأ البلاد فقراً ومرضاً وجوعاً».. ثم ألقَى بختميَّاته في المؤتمر بنبوءة العرَّافين، وقرَّاء الفناجيل: «إن هذا النظام لَن يسقط بانقلاب عسكري، كما يظن البعض, وإنما بمزيج من القوة العسكرية والثورة الشعبية».. ولأنه يعلَم بأنه لا يملك شروى نقير من الآلية التي حدَّدها لإسقاط النظام, فما الذي حدث بعد فترة قصيرة، لم تغادر فيها حتى حتمِيَّاته حنجرته!! عاد الشريف في أكتوبر/تشرين الأول 1996 إلى الخرطوم, مُهادناً النظام ”الذي ملأ البلاد فقراً وجوعاً ومرضاً“، ومُفاوضاً على ”جثث الشهداء وعرق الضعفاء“، ومُصالحاً بثلاث وزارات استأثر بها ”جلال الدقير“, ”السماني الوسيلة“ و”أحمد بلال“.. لم يكن ذلك إيماناً من أهل الإنقاذ بمقدراتهم الخارقة، وإنما لهدفٍ ليس في حاجة إلى لبيبٌ ليفهمه.. ويُمكن أن يفك طلاسمه بعد أن انضمَّ ”الحزب“ للمؤتمر الوطني.. وثقافة بسطاء أهل السُودان، تقول عن مثل هذه المواقف بمُختصرٍ مُفيد: ”لا فرق بين أحمد.. وحاج أحمد“.
إن كثيراً من النخب السياسية لا يُحسنون تقدير المواقف، بطرح آراء يعلمون سلفاً أنهم غير قادرين على تحمل تبعاتها, ولهذا فهُم دوماً يقعون في مأزق عدم المصداقيَّة.. والأنكى أنهم لا يطرف لهم جفنٌ حينما يقدمون على فعل نقيضها.. ولعلَّ ذلك لا يخرج عن نطاق أسباب ثلاثة: فإمَّا أنهم يستخفون بذاكرة الناس, أو أنهم يعتقدون – واهمين- بأنَّ أولئك الناس ما خلقوا إلا للتجريب.. أو لقناعتهم بأن المنهج السِياسي السُوداني يفتقر إلى أهمِّ ركيزتين أساسيتين في العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وهما: ”الشفافية“ و”المُحاسبة“.. بالتالي، ليس غريباً أن تتكرَّر الخيبة، والتجارِب الفاشلة، واستنساخ الأزمات في الحياة السياسية السُودانية, طالما أن البعض يظن أنه لا رقيب ولا عتيد على مُمارساته, ولا حسيب لتجاوزاته، حتى لو كانت انتهاكاً لحقوق الإنسان.
بعد سقوط لاءاته الثلاث، ومشاركته الإنقاذ أتراحها, اقتنص الشريف زين العابِدين فرصاً عديدة لتقديم آيات الولاء والطاعة لأهل النظام، ”الذي سلب الإنسان السُوداني حُريته وشوَّه عقيدته“، ولم يتورَّع في التَعبير عن ذلك بشيء من النفاق السياسي.. ففي 18/4/2002، أقام لنائب الرئيس، علي عُثمان طه، احتفالاً في مزرعته في ”حلة كُوكُو“، بمناسبة شفائه من وعكة صحِّية، فدائما ما تنتهز الأنظمة الشمولية هكذا مُناسبات لضخ الهواء في جسدها المُنهَك.. خطب الشريف في ضيوفه، مُوجِّهاً حديثُه للمُحتفى به، ومُستلهماً عبق المناسبة: «لَيتَني كُنتُ مع الطَباخين في خُطوط الإمداد, أطبخ الطعام لمن يُدافعون عن الثغور».. لكأنما القائل لا يعلَمُ أن المُدافعين عن الثغور هم فتية غرَّرت بهم الإنقاذ، وأجبرتهم على القتال كرهاً تحت مظلَّة مشروعٍ وهمي.
عودة الشريف زين العابدين، وانخراطه في النظام الذي سبق وأن انتقده نظرياً, بغضِّ النظر عن ضآلَتها وقيمتها السياسيَّة, إلاَّ أننا أوردناها هنا للتدليل على تناقضات النخبة السُودانِيَّة.. ولا شك أنها -رغم ذلك- قد دفعت البعض ممَّن يحكمون على الأمُور بظواهرها, إلى المُحصِّلة التي تساوي بين سوءتين.. عُسر السلطة، ويُسر المُدَّعين معارضتها!! وفى ذلك تفسير لبعض الأسباب حول تمدُّد سنوات الإنقاذ.
كان أكثرُ المُنتَقدين لعودَة الشريف في أروقة التجمُّع الوطني الديمقراطي, أمينه العام مُبارَك الفاضل المهدي, والذي بادر في اليوم التالي مُباشرة لعودته في 23/10/1996 إلى عقد مُؤتمر صحفي بمقر التنظيم في أسمرا -دار السفارة السُودانيَّة سابقاً- قال فيه إنها خطوة: «معزولةٌ ويائسة، ولا تمثل علاجاً».. وإنها: «جاءت نتِيجة تعب هؤلاء من النضال».. وقفزاً على المراحِل، نقِفُ أيضاً عند ”ثوابت“ مُبارَك الفاضل في المُعارضة، على خلفِيَّة انتقاداته لعودة الشريف: «لا تسوِية سلمية مع النظام إلا بعد تنفيذ قرارات أسمرا للعام 1995، وتخلِّي النظام عن طموحاته وتَعنته، وتَفكيك نظامه لمصلَحة إقامة نظام جديد على أساس السلام والعدل والديمقراطيَّة».. ويُضفي على ثوابته تلك ما درج الآخرون على ترديده: «لأن النظام فاقدٌ للشرعية أصلاً، ولا يمكن أن يطرح تعددية، لأنه لو كان يؤمن بالديمقراطية لما انقلب عليها».. ويشترط على النظام، إن كان يريد حلاً فعلياً للأزمة التي أوقع فيها البلاد، وهلك جرَّاءها العباد، أن: «يسلم السلطة، ويفسح المجال أمام عودة الديمقراطية والسلام الحقيقي».. وحتى عندما كانت تصدر إشارات أو تكهنات ترمي في اتجاه مُصالَحَة بين النظام وحزب الأمَّة, يلجأ مُبارك إلى مُضاعفة التصريحات المُتشدِّدة ليدحض ظنون المُتشككين.. وفي مطلع فبراير/شباط 1998، قالها أمام رهط من نشطاء الحزب في مؤتمر عقدوه في العاصمة الإريترية أسمرا، في ظلِّ روايات مُتداولة عن مُصالَحَةٍ: «نطالبُ بِإغلاق الباب نهائياً أمام طرح النظام لحلولٍ جزئية، أو ثنائية، يسعى من خلالها إلى كسب الوقت، وتفتيت قُوى المُعارضة».. فما الذي حدث؟!
أولاً، ولأن القائل تصدَّر قائمة السِياسِيين الذين يقولون ما لا يفعلون, ويفعلون ما لا يقولون, لم يكن عصيَّاً على مُبارَك أن يطأ بقدميه على كمٍ هائل من ”الأدب السياسي“ المُعارض, ويمشي على ذات خطى الشريف، التي وصفها بـ”العزلة واليأس“.. والمُفارقة، أنه بينما كان يُجري ترتيبات ”لقاء جيبوتي“ مع أهل النظام, تصدَّى نيابة عن المُعارضين لقولٍ مُستفزٍ نطق به الفريق البشير، لدى افتتاحه مصفاة ”بشائر“ في 5/9/1999: «إذا تَجاوزنا عن الإساءات التي ساقَها الفريق البشير، على قادة المعارضة، باعتبارها انعكاساً لأزمة الحكم والقيادة التي تعانيها بلادنا, فلا يُمكننا أن نتجاوز عن دعوتِه المُعارَضة إلى التوبة والانخراط في نظام الإنقاذ».
بعد ”اتفاق جيبوتي“، أدار مُبارَك ظهره للعمل المُعارض والمُعارضِين معاً، وكان لَهوفاً تجاه السُلطَة، التي قذفها بالأمس بأسوأ النعوت, بعد أن فجَّر خلافاً مُحتقناً بينه وبين السيد الصادق المهدي في يناير/كانون الثاني 2002, واحتضنه النظام بمُوجب اتفاقٍ ثنائي، وقعه مع ”قطبي المهدي“ في 7/7/2002، نصَّ علي: «شراكة وتحالف بين الطرفين، يشملان كل أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، من القَاعدة إلى القمَّة», وكان الشُركاء الجُدُد على استعداد لوهبه أكثر من ذلك، باعتبار أن ما فعله في حزب الأمَّة, كان هدفاً لهم، و”جيبوتي“ كانت وسيلتهم في الوُصول إليه, علاوة على يقينهم بأنها عطايا مرحليَّة.. وبموجب الاتفاق، حقق مُبارَك طموحاً ذاتياً بتوليه منصب مُساعِد رئيس الجمهورية، وإن كان شرفياً.. وبغضِّ النظر عن هوية النظام، التي لَم تتغيَّر إلاَّ في نظره, وتطلب ذلك أن يستبدل لساناً بلسان، بزَّ ميكافيلي في منهجه.. «إن أي أفكار سارت عليها القوى السِياسية، أو حل النظام وإقامة نظام آخر تشارِك فيه كل القوى السِياسية, أو حل النظام وإقامة انتخابات أولاً، ثم المُشارَكة, كلها نظرِيات سقطت الآن، وما عادت ذات جدوى»..
بالطبع، ما لم يُرِد مُبارَك ذِكرُه، أن تلك النظريات، لو سقطت, فهي لم تسقط من تلقاء نفسها، إنما بفعل مَن تبارى على نقض العُهود والمواثيق، وهو في طليعتهم بمُشاركته تلك, والتي وضع لها إطاراً شخصانياً، افترض فيه أن خلق الله يسهرون ويختصمون في طبيعة علاقاته الأُسريَّة، بينما هو ينامُ ملء جُفونِه عن شواردها!! «لا أذيع سراً إذا قلت بيني وبين النائب الأول علاقةُ نسب، وكثيرٌ من الناس غير مُلِمِّين بهذا الأمر، ويُركزون أكثر على علاقتي مع د. غازي صلاح الدين, لكن بنفس القدر، النائب الأول زوجتهُ من عائلَتي, بمعنى أن هناك علاقة مصاهرة بيننا، وهناك تقارُباً بيننا، باعتبار أننا من جيلٍ واحد, ولهذا استطعنا إقامة علاقَة تفاهُم»..
ولأنه كان في رحلة استكشافية في دهاليز أهل السُلطة، لجأ إلى أسلوب منح الشهادات المجَّانية بما لا يسمن ولا يُغني من جوع.. «البشير لديه مساحة كبيرة جداً للآخر، ولا توجد لَديه النزعة ”الكلبوشية“ زي ما بقول أخونا المرحوم د.عمر نورالدائم, ويمكنك مناقشته في أي قضِية، والخروج بموافقة على أن تلعب فيها دوراً ما».. بلا شك، إن أهل الإنقاذ -وبرغم معرفتهم لشخصيَّة مُبارَك من قبل- إلاَّ أنهم اندهشوا لرشاقة العصافير التي تنقل بها من فننٍ إلى فَنَن.. وعندما تأكدوا بأنه استنفد أغراضه، وانتهت صلاحيَّته، أُقيل بصورة مُهينة.. ببيانٍ مقتضب، من خلال وسائل الإعلام, لأنه اعتقد واهماً أن المُشاركة تعني الاقتراب من جُحر المنظومة المُتحكمة في مفاصل النظام!! ولم تشفع له العلاقاتُ الشخصيَّة والأُسَريَّة التي تزلف بها إلى أهل النظام.. وزاد من محنته تنكر الانتهازيين، عاطِلي الفِكر والسياسة الذين استصحَبَهُم معه في رحلة المُشاركة, فلم يتوانوا في بيعه بدراهم معدودات، بعدما استطابوا الكراسي الوزارية.
تعدُّ الفترة التي مارس فيها مُبارَك الفاضل نشاطاً مُعارضاً ضد النظام, واحتلَّ فيها منصب الأمين العام للتجمُّع الوطني, من أخصب فترات حياته السياسيَّة, ذلك لأنها من جهة أتاحت له فرصة إقامة علاقات عامة، كان يفتقرُ إليها، مع أوساط مُؤثرة في عملية صُنع القرار في بُلدانها، على المُستويين الإقليمي والدولي.. ومن جهة أخرى، فإنه خلال تلك الفترة استطاعَ مُواراة صُورة كئيبة التصقت به عن شخصه، خلال الحقبة الديمقراطيَّة، التي تولى فيها مقاليد عدَّة وزارات.. والمعروف أنه جاء إلى العمل المُعارض وهو مُثقلٌ بكمٍ هائلٍ من الاتهامات، والتجاوزات المالية, وقد اجتهد في البداية لمحوها إعلامياً، بلقاءات مُكثفة.. «يردِّد النظام ذلك لأنني رفعتُ لواء المُعارضة، وكنتُ في مُواجهته.. مارس معي إستراتيجية اغتيال الشخصية بِوصفي أنني فاسِدٌ, فحقق في كلِّ الوزارات التي توليتها، وكانت لجان التحقيق تأتي على غير ما كان يتمنى»..
غير أن الأهم من كل ذلك، فإن مُبارَك اجتهد أيضاً أثناء وجوده في صفوف المُعارِضين في اكتناز المال من عواصم تحسن الظنَّ في علاقَتِها بالتجمُّع الوطني بصفة عامة، وحزب الأمَّة بصفة خاصة.. وليس سراً أن اندفاع رئيس الحزب نحو العودة المُتعجِّلَة لداخل السودان, كانت في المقام الأول لأسباب مالية، أكثر من كونها سياسيَّة.. ويُعتقدُ بأن مُبارَك بهذه الخُطوة كان يُدرك أن الخلاف بينه وبين رئيس الحزب سيؤدِّي لا محالَة إلى فراق.. الأمر الذي يتطلبُ إمكانات ماليَّة، إن شق طريقه كما فعل.
لا يتورَّع مُبارَك الفاضِل، في سبيل الوُصول إلى غاياته، في أن يُثقِلُ الوطء على جُثث من يعتقدُ بأنهم أعداؤه.. ولأنه مسكونٌ دوماً بهاجس المُؤامرة، فهُو دائِمُ البحث عن عدو ينفثُ فيه طاقته.. وحتى إن لم يجده، فقد يتوهَّمه أحياناً.. «مبدئي أن لا أدخل في تسويات ومُماطلات لأني أواجه عدواً، وأسابقُ الزمن، لذا أتعاملُ بحزمٍ يَصِلُ للغلظة, ولم أنجرف لاستفزاز أو معركة جانبية, وأديرُ رأسي لكل من أحس منه بعدم فائدة لي في العمل, ولذلك فإن كثيراً من الإخوة شككوا، لأسباب شخصية تتعلق بمواقِع وتحقيق مآرب».. ذلك تشخيصٌ واقعيٌ ينسجمُ مع شخصه، رغم أن العدُو مُبهمٌ.. ولهذا، فإن مقاييسه في العمل السياسي أقرب إلى الديماجوجية.. «ملاحظتي على السياسة السودانية، إجماعُ الناس على الضعيف، واختلافهم على القوي».. ويستشهدُ في هذا التقييم بحدثٍ استثنائي، يبدو أنه احتلَّ موقعاً في عقله الباطن، ووضعه نصب عينيه في الوُصول لأهدافه السياسيَّة.. «بحث الناسُ عن شخصِية ضعيفَة لا علاقَة لها بالسياسة, فكان ”سر الختم الخليفة“, أيقَظوه من النوم ليُصبِح رئيس وزراء وهو ليس من المشتَركين في الندوة, ولا علاقة له بها، وأراد مُختارُوه تمييع القضايا».. ولاشكَّ مُطلقاً في أن مَن وضَعَ مثل هذا التقييم نصب عينيه, لن يجد مشقة تذكرُ في تدوير مواقفه، سواءٌ في إطار الحزب الذي ترعرع سياسياً وأسرِياً في كنفه, أو ما بين المُعارضَة والنظام.. وما يهمنا بالنسبة للأخير، أن المُلابسات أجابت على سؤال البداية، الذي أكدنا فيه أن الإنقاذ في مسيرتها، اصطحبت معها ثلة من أصحاب الهويات السِياسيَّة المُختلفة, وهم أحد أسباب تطويل فترة بقائها في السلطة.
كان د. علي حسن تاج الدين، القيادي في حزب الأمَّة, وعضو مجلس رأس الدولة السابق، أحد الميامين الذين خاضَ بهم السيد مُبارَك الفاضل مَعرِكة انقسامه من الحزب, وكوفئ بعد المُشاركة في السُلطة بتعيينه مُستشاراً لرئيس الجمهورية للشئون الأفريقية.. ولاحظ هنا أن ”المُستشارية“ في ظل الإنقاذ هي وظيفة من لا وظيفةَ له!! وإحقاقاً للحق، فَقَد كان أكثرهم وضوحاً في أول مُؤتمر صحفيٍ له بعد التعيين, إذ أكد فيه انتهازيته بصورة مفضوحة، مُشيراً إلى أنَّ الكرسي ديدنه، ولا شيء غيره, وضرب في ذلك مثلاً مُتداولاً في الثقافة الشعبية لأهل غرب السودان.. ”سُلطَة للساق، ولا مال للخنَّاق“.. ولم يُعِنهُ ذلك الزاد القليل في تكملة مشوار التقلب في المناصب, فركلته الإنقاذ أيضاً.
وفي رِحلَة السقوط السفلي تلك، اصطحب مُبارَك الفاضل معه أيضاً نجيب الخير عبدالوهاب, وكان هو من حرَّضه على الانضمامِ لصفوف المُعارضَة، ليس لموقف مبدئي, فانخرط في صفوف النشاط المُعارِض، ولكن بِلا لَون، أو طعم، أو رائحة.. وقد شغل نفسه في أروقتها بأن أصبح عين مُبارَك التي ترى, وأذنه التي تسمع، وثابر في ذلك بِولاء أدهش ناظريه, ولم يتوقف عطاؤه لـ”مُبارَك“ إلا بعد أن آثر كرسي السُلطة على من أوصله لبوَّابتها!! وتبعه في ذلك آخرون، تشظوا بعد أن استغنت الإنقاذ عن رئيس المجموعة المُنقسمة إلى نحو خمس كيانات جديدة, ولا يُمكِنُ بأية حال إطلاق صفَة حزب على أي منها، وفقاً للمقاييس التنظيمية السياسيَّة المعروفة.
تطولُ قائمة المتساقطين, فَمن الذين أضاعوا عمراً للكرى، في منظومة المُعارَضَة, كان اللواء الهادي بشرى، الذي رست سفينته على شواطئ الإنقاذ قبل مُبارَك وصَحبُه بسنوات, ويُعَدُّ في واقع الأمر ضمن بضاعة مُبارَك الفاسدة والكاسدة، التي قدَّمها للمُعارَضة, فقد فَرض انضمام المذكور على ”القيادة الشرعيَّة“، الجناح العسكري آنذاك للمُعارضة, بدعوى أن يكون في وسَطها كادرٌ ”أنصاري“.. وبالطَبع، ذَلَك سببٌ لم يذكره صراحة.. كان الهادي يشغل منصب نائب رئيس جهاز أمن السودان في الفترة الديمقراطية, وقبيل الانقلاب بيومٍ واحدٍ، غادَرَ الخرطوم إلى ألمانيا, في وقتٍ كان رئيس الجهاز خارج البلاد أيضاً!! ومعروفٌ الدور الذي لعبه هذا الجهاز في الانقلاب، حينما خلا الجو للرجل الثالث، العقيد محمد السنوسي, والعميد إبراهيم نايل إيدام.. وقد أثار كل ذلك شكوكاً حول الهادي بشرى.. وزادت قتامة تلك الشكوك حينما عاد، ولم يُعتقل، ولو لساعات معدودة، أو حتى من باب محاولة الانقلابيين الإلمام بأسرار في الجهاز، تعينهم على التحكم أكثر في السلطة!! على كلٍ، جاء الهادي بهذا الإرث المُثقل بالشكوك، وانضم للمُعارضة، في قطاعٍ كانت قد وضعت عليه آمالاً عراضاً آنذاك, وكانت تلك الآمال مدعاةَ له لأن يختال بمشية طاؤوسيَّة وسط المُعارضين.. كان كثيرُ الحديث عن المواقف الأخلاقية.. «إن بيع المواقف لم يعُد لعبة صالحة حتى لدى الأطفال»، وجاء ذلك مثالاً في معرض رده على موقف قيادة مُنظمة التحرير الفلسطينية, التي كانت مُساندة للنظام، بحسابات لا علاقة لها بغياب الديمقراطية في السُودان, أو حتى مدى شرعية النظام التي يتجادل حولَها السُودانيون.
على أن اللواء بشرى استهوته تلك اللغة, وظل يصيغ بها بيانات ”القيادة الشرعيَّة“، حتى أغرقتها في أتون السياسة، وأبعدتها عن الهدف الذي تأسَّست من أجله.. «إن مُصالحة تقفز فَوق أسبابُ الخلاف وتُبقيها خامدة قابلة لمُعاودة الظهور, وتكرس واقعاً رفضه كافة الناس منذ حدوثه في 30/6/1989 لا ينبغي أن يطلَق عليها اسم مصالحة, بل هي رُضوخٌ كاملٌ لرغبة المُستَبِدِّ الظالم».. وكان في كلِّ بيانٍ لا ينسى أن يقطع بالتعهُّدات التي تنزلُ الطُمأنينة على قلوب المُعارِضين, وقد اتضح - بما جرى بعدئذ- أنه كان يعني بها عكس ما كتب.. «إن هذا النظام لَن يظفُر منا بقولٍ أو فعل، أو حتى إيماءة توحي بمُهادنة أو مصالحة».. وعندما لم تسع البيانات موهبته اللغوية, تمدَّد على صفحات صحيفتي ”الخرطوم“ و”الاتحادي الدولية“, اللتين كانتا تصدُران من القاهرة, واتخذ صفحاتهما مَيداناً للرماية، بمقالاتٍ مُتتالية, كانت توحي لقارئيها بأنَّ جِنرالاً مُحترِفاً يقودُ جنوداً لا يرونها, يقفُ مُتأهِّباً على أعتاب الخرطوم العاصمة!! ولَم يستمر الوهم طويلاً، فَبعد فترة وجيزة، من انضمامه، رمى الهادي بشرى بذلك التراث، ووضعه خلف ظهره، وارتمى في أحضان النظام ”المُستبد الظالم“, والذي سبق أن أكد، من فَرط تمسُّكه بمبادئه، ”أنه لن يظفر منه بمُجرَّد إيماءة“، ناهيك عن مُصالحة؟! وتلك تحكيها فصولٌ قادمة، بتفاصيل يَندَى لها جبينُ الشرفاء.. وأمَّا المذكور، فقد ألحَقَت به عاراً لَن يزول.
إلى جانِب السياسِيين، شمِلت مِظلة الإنقاذ طائفة من المُثقفين، حملَة لواء التنوير في الُمُجتمع.. ففي وقتٍ مُبكر، فاجأ الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم الذين أحبوه أديباً فذاً، مَلكَ شِغافُ القلوب بروائع شعريَّة خالدة, وكذلك بمواقفه السياسيَّة الصلبة، والمُناهضة للديكتاتوريات السابِقة, إلاَّ أنه في لحظة غفتْ فيها عَينُ التاريخ، سخَّر قلمه، وأعلَن موقفه المؤيِّد لنظام الإنقاذ , إلى حد تبرُّعه من حُرِّ ماله للنظام، دعماً له في حربِه ”الجهادية“.. لكنه في واقع الأمر فَعل ذلك ليس إيماناً منه بتوجُّهاتِ الإنقاذ, وإنما لأسباب شخصية تتعلق بِموقفه من د. منصور خالد!! لكن حتى الذين يعلمون ذلك، أحزنهم موقفه, ولم ينسوا له تلك الكبوة، التي كانت بِمثابة بقعة سوداء في ثوبِه الوطَني الناصع البياض.. ولم تمهِله الأقدار ليرى ما الذي فعلته الإنقاذ في السودان وأهله.
دخل بعضُ المثقفين أيضاً دارُ الإنقاذ، وظنوا أنها آمنة, ولم يلبثوا فيها طويلاً، بعدما ”اكتشفوا“ أنها مليئة بالعقارب والثعابين.. من هؤلاء، الأديب الشاعر محمد المكي إبراهيم, فيما أسماه بـ”مغامرتي السياسية في برلمان الجبهة“، ويقصد انخراطه في إحدى مؤسَّسات النظام الوهميَّة ”المجلس الوطني“, وقد اعترف لاحقاً بخطأ المشاركة في كثير ممَّا كتب, وتلك محمدة ينقص اكتمالها محاولته –أحياناً- إسباغ تبريراتٍ غير مقنعة لمشاركته. وكان السيد محمد محجوب عثمان قد شاركه عضويَّة المجلس المذكور, إلاَّ أنه انسحب في هدوء، تاركاً خلفه ظلالاً من التساؤلات المقرونة بخيبة التصقت بتاريخه السياسي. أيضاً ضمَّت قافلة المثقفين الشاعر فرَّاج الطيب السرَّاج, الذي انبرى منذ البِداية في نظمِ قصائد تمدح النظام وقادته, وقد وافَته المنيَّة بتلك الخاتمة.
غيرَ أنه ثمَّة آخرون من المُنضوينَ تحت لواء الحركة الإسلاميَّة, قفزوا من المركب قبل سنوات, وغيَّروا مواقفهم الدَّاعمة للنظام، إلى نقيضها المُعارِض.. ومن هؤلاء، د. عبدالوهاب الأفندي، الذي سبق أن استمات في الدفاع عن سياسات النظام، وتوجهاته، في السنوات التي كان فيها في قمَّة تطَرُّفه.. ولا غرابة في ذلك, لكنَّ الغريب حقاً أنه فجأة خلع ذلك الجُلباب، وارتدى آخر غير محدَّد الهويَّة, وبدأ في انتقاد ذات النظام، وخصَّص لذلك جزءاً من مقالاته اليومية في صحيفة ”القدس العربي“.. بَيْدَ أنه نقدٌ لا يجُبُ ما قبله, إلاَّ إذا جاء مصحوباً بنقدٍ ذاتي جريء، واعتراف واضح بِفداحة المُشارَكة التي ساهَمَت -مع آخرين- في توطيد دعائم نظام شمولي مُتسلِّط, وهذا ما لم يجرُؤ قلمه على كتابته حتى الآن.
أيضاً من المُثقفين السياسيين الذين استجابوا لمهازل نظام الإنقاذ في بداياته, وفي مُؤتمر ما سُمِّي بـ”الحِوارُ الوطني“, كان د. عبدالله علي إبراهيم, الذي لم يعترض على الدعوة، سوى أنها ”جاءت عبر المذياع“.. وبرَّرها بما هو أغرب: «فتشت أنحاء نفسي فلم أجد مثقال ذرة من عزوف أو تردد» , ولبَّى الدعوة معه أيضاً بروفيسور عبدالرحمن أبوزيد, بروفيسور عمر بليل, التيجاني الكارب المحامي, د. محمد نور الدين الطاهر, بروفيسور سيد حريز, د. عبدالله إدريس, عبدالسميع عمر.. إلخ.. وبعضهم، وتحديداً الأول، الذي أعجزت مشاركته كل متقص توقَفت عند ذلك الحدِّ, ولربَّما أن ذلك -بالمعيار النسبي- لا يرقى لدرجة التجريم الكامل، وإن ظلَّ خطأ في سيرة الرجُل, ما وجد منبراً إلأّ وحاول تبريره.. غير أن المثير للانتباه، أنه في ثنايا كتاباته المنتظمة في الصحافة السودانية، لم يعلن موقفاً واضحاً من طبيعة النظام ابتداءً, علماً بأن ممارساته انتهاءً دفعت كثيراً من الوطنيين لمناهضتها قولاً وفعلاً.. وعِوَضاً عن ذلك، فقد اتسمت كتاباته بِشيء من الضبابيَّة، واضطراب الرؤية, تمدح النظام حيناً، وتقدحه أحياناً أُخر.. ولعلَّ المدهش ما كتبه في هذا الصدد، إذ طالب بالكفِّ عن إدانة نظام الجبهة الإسلامية، فيما اقترف من جرم سياسي، فقال: «إنه لا يُسمِن ولا يُغنى من جوعٍ, بعد نحو ثلث قَرن من وقوع القدر، أن نتهمها في خلقها السياسي، ونستنزِل عليها الإدانة».
بغضِّ النظر عن الخطأ الحسابي، الذي ربَّما ورد على غفلة من قلمه, إلاَّ أن المُحيِّر أن انقلاباً تمَّ تدبيره وتخطيطه وتنفيذه، مع سبق الإصرار والترصُّد, يُعزيه إلى كونه مسألة ”قدريَّة“, بإيحاء أن تلك العصبة كانت مُسيَّرة وليست مُخيَّرة فيما فعلت!! ثم يطلبُ من أهل السُودان، الذين سامَهُم هذا النظام سُوء العذابِ، أن يمنحوه صك براءة من تلك الفعلة الشنعاء.. يقولُ هذا، في الوقت الذي تبارى فيه أهلُ النظام أنفسهم في الاعتراف بالفعل والخطأ معاً, سيَّما وقد تقاطرت تلك الاعترافات بعد انقسامهِم إلى فريقين.. فالترابي مثلاً، قال تمهيداً، إن: «الانقلابات العسكرِية كانت ضرورة، فلم يمكن أن نصل للسلطة بدونها».. ثم حصرياً بأقوال عدة، تبعه أيضاً د. علي الحاج: «نعم نحن مُخطئون, ظننا أن تجارب الإسلاميين أفضل من غيرهم» فكيف تستقيم تبرئة من وفر على الناس مؤونة البحث عن بيِّنة؟! لكن استمرار د. عبدالله في السير في ذات الطريق يدعو للشفقة، وليس التساؤل, فهو انتقد أيضاً الذين يُحيُون ذكرى شهيدُ الفكر الحُر، ”الأستاذ محمود مُحَمَّد طه“ كلَّ عامٍ، لأنهم: «يُركزون على تحميل الحركة الإسلامية الترابية أقصى الوِزرِ في مقتل الرجل»..
المُفارقة أيضاً في هذا الافتراض، أن المعنيُّ بالرسالَة ما زال مُتمسكاً بصواب موقفه الإجرامي, وممَّا لا يُسمِن ولا يُغني من جوع تنصيبُ الكاتب نفسه مُحامياً للدفاع عن مُذنب أقرَّ بجريمته.. والمُدهش أيضاً، أن الكاتب يقرنُ فرضيته بما هو أشدُّ مضاضة.. «والحق إن ذنب الحركة الإسلامية في القتل قليل جداً بالمُقارنة مع طبقة العُلماء الدينية في الدولة».. ذلك قولٌ مُتناقضٌ، فلو أن كاتبه قَصد أن الجبهة الإسلاميَّة لَم تقتل سوى فرد واحد، فتلك مصيبَة, ردَّ عليها القرآن الكريم بالتأكيد على أنَّ من قتل نفساً بِغير ذنب فكأنَّما قتل الناس جميعاً.. أما وأن أغفل الكاتب سلسلة جرائم القتل التي ارتكبتها الجبهة الإسلاميَّة، بعد سطوِها على مقاليد السُلطَة, فالمصيبة أعظَم حينئذ.
دائما ما تبدي الأنظمة الديكتاتوريَّة اهتماماً كبيراً بالإعلام، وتضعه في صدر أولويَّاتها, فهو الوسيلة التي تختصر المسافات في تجميل ممارساتها البشعة، وتزييف الحقائق.. وهناك رتل من الصحفِيين مِمَّن تفانوا في خدمة تلك الأنظمة.. انبطحوا على ظهورهم، فداست عليها بأحذيتها الثقيلة, دون أن يصدُر عنهُم أنين أو شكوى.. بل على العكس من ذلك، عزفوا لها ألحاناً بأنماط مختلفة.. وقد تصدَّر قائمة الذين وزَّعوا جهودهم بِسخاء على أكثر من نظام ديكتاتوري كلٌ من: أحمَد البَلاَّل الطيِّب، مُحي الدين تيتاوي، النجيب قمر الدين، ثمَّ محمد سعيد معروف، وانضم لفتية الإنقاذ لاعبٌ جديد ”فتح الرحمن النحاس“، واستنفد أغراضه بعد فترة وجيزة، وكذلك آخرين.
من الذين خدموا النظام الديكتاتوري الأول, السادة عبدالله رجب، محمد طه الريفي ومحمد الحسن أحمد، غير أن الأخير لم يكرِّر الخطأ مرة أخرى مع النظامين الديكتاتوريَّين التاليين، ويمكن القول أنه عمل على تصحيحه، خاصة في موقفه من النظام الديكتاتورِي الثالث.. وماثل ذلك موقف جيل آخر، خدم الديكتاتوريَّة الثانية، بتوليه مسئولية رئاسة تحرير الصحيفتينِ الوحيدتين، ”الأيام“ و”الصحافة“، وهم: السادة فضل الله محمد، حسن ساتي وإبراهيم عبدالقيوم.. واتضح أن التجربة كانت كافية للعظة والاعتبار, حيثُ أنه لا يلدغ من جُحر مرَّتين إلا المُتهوِّرون، الذين يتعمَّدون الوقوع في موارد التهلكة.. وعلى النقيض، تحدثنا تجربة أستاذ الأجيال محجوب محمد صالح, أن القلم أمانةٌ تنوء بِحملها الجبال, والانحياز لقضايا الجماهير واجبٌ وطنيٌ ومهني, ومناهضة الأنظمة الديكتاتوريَّة مسؤوليةٌ تاريخيةٌ, وهذا هو الثالوثُ الذي كان بوصلته في مضمار العمل الصحفي، لنحو نصف قرنٍ من الزمان, لم يحد عنها، ولم يساوِم عليها, ولم يفتر عزمه وهو يدفع ضريبة تمسُّكه بها, سجناً وتشريداً وتأميماً لصحيفته, وكانت بهدف تدجينه وتركيعه, لكنه ظلَّ صامداً كالطود الأشم.
عودة مرة أخرى إلى حياض السياسيين، المُتهافتين على الأنظمة الديكتاتورية, فقد اصطحبت الإنقاذ معها أيضاً في بواكير عهدها بعد الانقلاب آخرين، لم تمهِلهم الأقدار ليكملوا المسيرة.. ومن هؤلاء، د. عبدالسميع عمر, محمد زيادة حمور, علي سحلول.. إلخ, غير أنه في خواتيم عهدها، أكمل أحد المعارضين منظومة السقوط.. والمدهش أنه اختار له توقيتاً كان النظام فيه -مشروعاً وتنظيماً- قد تآكل، من القلب والأطراف, لكن ذلك لم يكن بِذي بالٍ بالنسبة له, لأنه، بقدراته السياسيَّة المُتواضعة، أراد اختصار المسافات لتحقيقِ طموحٍ شخصي, ففي يوم 18/11/2003 غافل الشيخ عُمَر محمد طه، رئيس تنظيم مؤتمر البجا, وعضو هيئة قيادة التجمُّع الوطني الديمقراطي عيون الرقباء والمُترصدين, وقامَ بالزحف نحو مدينة كسلا, مُستتراً بالليل والجبال, ولم يقصِد المدينة مُحرِّراً، مثلما بشَّر بذلك تنظيمه والآخرين, ولا غازياً، كما يحلو لأهل النظام وصف مُعارضيهم, ولكنه عبر مُستسلماً, رافعاً ”رايةٌ بيضاء“، ومُنكساً أخرى حمراء، صبغتها دماءُ الذين وهبوا أرواحهِم فداءً لمشروع المُعارَضة.. ولأنه باع نفسه بثمنٍ بَخْس, لم يجتهِد أهلُ النظام في تلبِية طموحاته الشخصيَّة, فأهملوه بعد أن قضوا حاجتهم من عودته بضجَّة إعلامية, كانت بالطبع سانحة للتقليل من شأن المُعارِضين عموماً.. غير أنَّ المُثير في الأمر، أن الشيخ عُمر ما لبث أن عاد بخُفي حنين، بعدَ تبخُّر أحلامه وطموحاته, ولم يجد ما يثنيه عن مُواصلَة دوره المُعارض في إطار الحظيرة التي غادرها بعد تلك الهدنة المؤقتة.. ولَم يسألَه أحد من زملائه -أعضاء هيئة القيادة- حتى عن مُشاهداته في رحلَة الذهاب والإياب, فتلك من الأشياء التي لا تشغل بال أحد في أروقة التجمُّع الوطَني الديمقراطي!!
المُفارقة، أن عقد الواسطَة في تلك ”المُبادرة“ بين الشيخ عُمَر والنظام, شيخٌ آخر، هو سُليمان بيتاي, الذي خلع عليه المُجتمعون في مؤتمر مُصَوَّع العام 2000 صفة ”شخصيَّة وطنيَّة“، وأصبح ضمن منظومة هيئة القيادة, بتزكية من رئيس التجمُّع الوطني، السيد محمد عثمان الميرغني!! وقد دللت مُمَارساته علىِ أنه لَم يكترث كثيراً لتلك المكرمة, لأنه منذ أن انتظم العمل المُعارِض في الجبهة الشرقية، ظلَّ وشقيقه ”أحمد بيتاي“ يتبادلان أدوار ”لعبة الكراسي“، بين النظام والمُعارضة, وذلك حفاظاً على مكاسبهِما الخاصة, وتكريساً لمصالحهِما الذاتيَّة في المنطقة المنكوبة ”همشكوريب“، التي رُزئت بسَيطرَتهما على تعاقب الأجيال.
إن منطقة همشكوريب، التي سنتعرَّضُ لها في فصولٍ قادمة, تعدُّ مثالاً ناطقاً للتهميش والتخلف, وقد جعلها ”آل بيتاي“ مُستوطنة إقطاعِية تحت غطاء دعاوى دينيَّة, تقمع أي سؤال حائر يبحث عن الأسباب.. وقد استغلوا الجهل الذي أحكم ظلامه حول ساكنيها, أو بالأحرى ”التجهيل“ الذي يفرضونه عليهِم, فتمَّ عزلهم عن كلِّ ما من شأنه الارتقاء بحياتهم, وخاصَّة في مجالي التعليم والصحَّة, وحالوا بينهم وبين النزر اليسير الذي تجود به المُنظمات الطوعيَّة الأجنبيَّة, إذ ينوب آل بيتاي عنهم في الاستحواذ على مواد ”الإغاثة“، للتصرُّف فيها بالطرق التي تعزِّز من سيطرتهم، وتقوِّي نفوذهم، وتضمن لهم استمرارية التحكم في مصائر أولئك المُدقعين في فقرٍ وذل.
تلك مجرد أمثلة.. إن الذين سكنوا أقبية الديكتاتوريَّات الثلاث، ولم يبارحوها كثر، والذين تلونوا في مبادئهم، يميناً مع تلك الأنظمة، ويساراً مع نقيضها، أكثر.. والذين انكفأوا خاسئين من مُناصرة الأنظمة الديمقراطيَّة، إلى مُعاشرة الأنظمة الديكتاتوريَّة لا عدَّ لهم.. والذين توهَّموا أنهم تطهَّروا من رجس الأنظمة الديكتاتوريَّة، وأقبلوا خلسة لأخذ ”ريعهم“ من الأنظمة الديمقراطيَّة، لا حصر لهم.. وما ذكرناه، ما هي إلاَّ نماذج جسَّدت مآلات بعض نخب ساسة أهل السُودان, الذين ارتضوا أن يضعوا في سيرتهم الذاتية ما لا يُمكنُ أن يمحى بمُرور الزمن, ولا يسقط بالتقادم.. وقطعاً، فإن نظام الإنقاذ عزف ألحانه النشاز على خلفيَّة تلك اللوحة السوداء. الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد
كان ذلك مشهداً ميلودرامياً, في يوم 5/1/2004 اجتمع القاتل والمقتول, أو الجلاَّد والضحية، وذلك للاحتفاء بالخيبات المُتراكمة. إذ عقد مجلس وزراء الإنقاذ ما أسماه بـ”الجلسة التاريخية“ برئاسة الفريق عمر البشير, أمَّها كل الحُكام الذين مرُّوا على كراسي السُلطَة في فترة ما بعد الاستقلال, عدا الذين قضوا نَحبهم.. والحُضور هم السادة: أحمد الميرغني, الصادق المهدي, جعفر نميري, الجزولي دفع الله.. كذلك حضرها لفيفٌ من الذين طافوا على وزارات مُختلفة.. وحول الحدث، قال الأخير، رئيس وزراء حكومة انتفاضة أبريل/نيسان 1985: «إن هذا اليوم جمع كل حكام السودان، منذ الاستقلال, من جاء عن طريق صندوق الاقتراع, ومن جاء عن طريق ثورة شعبية, ومن جاء بواسطة دبابة, ومن أسر هذا، ومن سجن هذا، ومن أطلَق سراح هذا, اجتماعهم كلهم في صعيد واحد لا يحدث إلا في السودان, إنها ظاهرة سودانية خالصة».. وقال الصادق المهدي: «إن هذا الاجتماع التاريخي يعكس ثقافة الموَدَة والمحبة السودانيَّة المعروفة»، ولم ينس المهدي أن يستلهم من الثقافة الشعبية السودانيَّة تشبيهاً للمناسبة، فقال: «إن البشير قال كلاماً طيباً, ”سمَك بياض ما فيهو شوك“», والكلام الطيب الذي قاله المذكور «يجب الاعتراف الكامل بفضل الآخرين».
نيابة عن الوزراء، تحدَّث حسين أبوصالح، صاحب الرقم القِياسي في الاستوزار، وقال: «إنها فرصةٌ تاريخيَّة, وإن التغيير من نظامٍ إلى نظام في السودان كان يتم دائماً بالعُنف, عبود انقلب عسكرياً على النظام الديمقراطي, والشعبُ ثار على عبود وانتزعه بالقوَة مِن كُرسِي الحُكم, وزحف نميري بالدبَّابات من خور عمر, وأزيح من السُلطَة بانتفاضة شعبية عارمة, وجاءَت الإنقاذ بالدبَّابة, ورَغمَ كلِّ ذلك ما سادت سياسة الفُجور في الخُصومة، بل على عكسها تماماً سَادَ التسامح».. وأضاف: «إن الاعتراف بجهد الآخرين، ونسيان المرارات السابِقة، هو الذي يدفعُ السودان للأمام».. أما الميرغني، فقد ظلَّ -كالعهد به- صامتاً، فلم ينبس بِبِنتِ شفة.. وبالطبع، لم تَشمَل المُناسبة الترابي، لأنه كان مُعتقلاً، رَغمَ أنه نالَ لقب ”الرجل الوحيد الذي حكم السُودان مِن وراء الستار“ لفترة من الزمن.
مِن المُؤكد أن أفراد الشعب السُوداني، الذين حكمهم المُجتمعون -طوعاً أو كرهاً- لو أنَّ أحداً استفتاهم في وقائع تلك التراجيديا السياسيَّة، لامتزج الغَضَب بالسُخرية في آرائهم, ذلك لأنَّ ”الفَشَل“ هو القاسمُ المُشتركُ الأعظم بين المُجتمعين.. ليسَ هذا فحسب، فبَعضُهُم مارس فيهم أسوأ أنواع الساديَّة السياسيَّة, وحوَّلوهم إلى ”فئران معامل“.. وآخرين أغرقوهم في بُحُورٍ مِن الظلمات.. وجَميعُهُم ذهبُوا غير مأسُوف عليهم, فلم يذرف أحدٌ عليهِم دمعة واحدة.. وبالتالي، فمِن باب الإنصاف أن نقول إن تلك المُناسبة لا تعنيهم في كبير شيء, أو في مُجاراة مع من أقتبس المثل الشعبي أعلاه, يمكن القول بذات الثقافة أنه «مُولد وصاحبو غايب».
لكِن مِن الواضِح أنَّ المُجتمعين استندوا في تفسير الظَاهرة إلى السائد في الثقافَة السياسيَّة السودانيَّة، فيما يُسمَّى بـ”التسامُح السياسي“ السُوداني.. وهي الظاهرة التي ذاع صيتها، ويحلو للكثيرين اعتبارها إحدى العلامات الإيجابِيَّة في السُلوك السِياسي السُوداني، ويقولون إنَّها تميِّزه عمَّن سِواه مِن الشُعوبِ والأمَمِ.. لكِن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ”هل الأمر كذلك حقيقةً؟“..
إنَّ مُجرَياتِ الواقِع تشيرُ إلى أنَّ ذلك المفهوم هو في حقيقته نوع من أنواع التحايُلِ الذي ابتدعه السياسيُّون السُودانيون، لتبرير اغتِصَابهم الحقوق الأساسية للمُواطن، وهو أيضاً كهفٌ احتموا به لإخفاء عجزهم وفشلهم وخيبتهم.. وبالنظر لحقيقة ما يجري بين النخب في دهاليز السِياسة السودانيَّة, في ظلِّ أي نظامٍ سياسي, فإنَّ الظاهرة تجري على عكس ما أطلق عليها.. لكنَّ المُفارقة أنَّ الظاهرة نفسها بصورة عامة، تتقاطع تماماً مع المعنى المنهجي للسياسة, والذي اتفق على أنه تَسييرٌ لشُئون الناس بشفافية كاملة، على قاعدة الحقوق والواجبات, تخضع فيه السُلطة التنفيذِيَّة في النظام الديمقراطي لمُراقبَة ومُساءلَة السُلطَة التشريعيَّة, وتختصُّ فيه سُلطة قضائِيَّة مُستقلة بمبدأ المُحاسبة.. وبالتالي، ليس لمفهومِ ”التسامُح السياسي“ السُوداني موقع في إطار هذه المنظومة.. بَيْدَ أنَّ البشريَّة عرفت ما يُسمى بـ”التسامح الاجتماعي“, وصنوِّه الآخر المُسمَّى بـ”التسامح الديني“, وكليهما معنِيٌ بتهذيبِ النفوس, وكسر العصبيَّة، وتكريس القِيَم والمبادئ التي تسمُو بالفرد والجماعة، وصولاً لمُجتمَع الفَضيلَة، وإن كان حُلماً عصيَّاً. وعليه، لم يكن غريباً أن تسُود ظواهر التسامُح الاجتماعي والديني في أوروبا والغرب, وتنتفي ظاهرة ما يُسمى بـ”التسامح السياسي“, تلك البدعة التي أوهمنا بها أنفسنا لزمن في السُودان.
ونوردُ في ذلك مثلاً ببريطانيا، الدولة التي تزلفنا بنظامها السياسي ”ديمقراطية وستمنستر“ ولم نصطلِ بنِيرانِ نِضالاتها التي أوصلتها لتلك الدرجة مِن الاستِقرار والمثالية, فهِي -كما هو معروف- ترسَّخت بقيمٍ ومُثل ومبادئ، امتدَّت عَبرَ مئات السنين, في حين أننا توهَّمنا أن الاقتباس وحده يُمكنُ أن يُحقِّق استقراراً.. واختزلت النخبة السياسيَّة السودانيَّة التجربة برمَّتها في الاهتمامِ المُوسمي بالذين ”يُصوِّتونَ بأقدامهم“، على حدِّ تعبير المثل الإنجليزي الشائع, الأمر الذي يُفسِّر حالة الكساح التي عَصَفَت بها لثلاث مرات.
حينما طار رأسُ الملك تشارلز الأول في العام 1649، وُلِدَت الجُمهوريَّة البِريطانِيَّة على يد كرومويل, وكان أهمُّ شيء فعله تعبيد الطريقِ نَحوَ الملكِيَّة الدُستوريَّة، وإشاعة ”التسامُح الديني“, وعلى إثرِ ذلك، تقاطر اليهودُ نحو %
| |
|
|
|
|
|
|
المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد (Re: بكرى ابوبكر)
|
المَشْهَدُ السَادِس: الضَحِيَّة والجَلاَّد
كان ذلك مشهداً ميلودرامياً, في يوم 5/1/2004 اجتمع القاتل والمقتول, أو الجلاَّد والضحية، وذلك للاحتفاء بالخيبات المُتراكمة. إذ عقد مجلس وزراء الإنقاذ ما أسماه بـ”الجلسة التاريخية“ برئاسة الفريق عمر البشير, أمَّها كل الحُكام الذين مرُّوا على كراسي السُلطَة في فترة ما بعد الاستقلال, عدا الذين قضوا نَحبهم.. والحُضور هم السادة: أحمد الميرغني, الصادق المهدي, جعفر نميري, الجزولي دفع الله.. كذلك حضرها لفيفٌ من الذين طافوا على وزارات مُختلفة.. وحول الحدث، قال الأخير، رئيس وزراء حكومة انتفاضة أبريل/نيسان 1985: «إن هذا اليوم جمع كل حكام السودان، منذ الاستقلال, من جاء عن طريق صندوق الاقتراع, ومن جاء عن طريق ثورة شعبية, ومن جاء بواسطة دبابة, ومن أسر هذا، ومن سجن هذا، ومن أطلَق سراح هذا, اجتماعهم كلهم في صعيد واحد لا يحدث إلا في السودان, إنها ظاهرة سودانية خالصة».. وقال الصادق المهدي: «إن هذا الاجتماع التاريخي يعكس ثقافة الموَدَة والمحبة السودانيَّة المعروفة»، ولم ينس المهدي أن يستلهم من الثقافة الشعبية السودانيَّة تشبيهاً للمناسبة، فقال: «إن البشير قال كلاماً طيباً, ”سمَك بياض ما فيهو شوك“», والكلام الطيب الذي قاله المذكور «يجب الاعتراف الكامل بفضل الآخرين».
نيابة عن الوزراء، تحدَّث حسين أبوصالح، صاحب الرقم القِياسي في الاستوزار، وقال: «إنها فرصةٌ تاريخيَّة, وإن التغيير من نظامٍ إلى نظام في السودان كان يتم دائماً بالعُنف, عبود انقلب عسكرياً على النظام الديمقراطي, والشعبُ ثار على عبود وانتزعه بالقوَة مِن كُرسِي الحُكم, وزحف نميري بالدبَّابات من خور عمر, وأزيح من السُلطَة بانتفاضة شعبية عارمة, وجاءَت الإنقاذ بالدبَّابة, ورَغمَ كلِّ ذلك ما سادت سياسة الفُجور في الخُصومة، بل على عكسها تماماً سَادَ التسامح».. وأضاف: «إن الاعتراف بجهد الآخرين، ونسيان المرارات السابِقة، هو الذي يدفعُ السودان للأمام».. أما الميرغني، فقد ظلَّ -كالعهد به- صامتاً، فلم ينبس بِبِنتِ شفة.. وبالطبع، لم تَشمَل المُناسبة الترابي، لأنه كان مُعتقلاً، رَغمَ أنه نالَ لقب ”الرجل الوحيد الذي حكم السُودان مِن وراء الستار“ لفترة من الزمن.
مِن المُؤكد أن أفراد الشعب السُوداني، الذين حكمهم المُجتمعون -طوعاً أو كرهاً- لو أنَّ أحداً استفتاهم في وقائع تلك التراجيديا السياسيَّة، لامتزج الغَضَب بالسُخرية في آرائهم, ذلك لأنَّ ”الفَشَل“ هو القاسمُ المُشتركُ الأعظم بين المُجتمعين.. ليسَ هذا فحسب، فبَعضُهُم مارس فيهم أسوأ أنواع الساديَّة السياسيَّة, وحوَّلوهم إلى ”فئران معامل“.. وآخرين أغرقوهم في بُحُورٍ مِن الظلمات.. وجَميعُهُم ذهبُوا غير مأسُوف عليهم, فلم يذرف أحدٌ عليهِم دمعة واحدة.. وبالتالي، فمِن باب الإنصاف أن نقول إن تلك المُناسبة لا تعنيهم في كبير شيء, أو في مُجاراة مع من أقتبس المثل الشعبي أعلاه, يمكن القول بذات الثقافة أنه «مُولد وصاحبو غايب».
لكِن مِن الواضِح أنَّ المُجتمعين استندوا في تفسير الظَاهرة إلى السائد في الثقافَة السياسيَّة السودانيَّة، فيما يُسمَّى بـ”التسامُح السياسي“ السُوداني.. وهي الظاهرة التي ذاع صيتها، ويحلو للكثيرين اعتبارها إحدى العلامات الإيجابِيَّة في السُلوك السِياسي السُوداني، ويقولون إنَّها تميِّزه عمَّن سِواه مِن الشُعوبِ والأمَمِ.. لكِن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ”هل الأمر كذلك حقيقةً؟“..
إنَّ مُجرَياتِ الواقِع تشيرُ إلى أنَّ ذلك المفهوم هو في حقيقته نوع من أنواع التحايُلِ الذي ابتدعه السياسيُّون السُودانيون، لتبرير اغتِصَابهم الحقوق الأساسية للمُواطن، وهو أيضاً كهفٌ احتموا به لإخفاء عجزهم وفشلهم وخيبتهم.. وبالنظر لحقيقة ما يجري بين النخب في دهاليز السِياسة السودانيَّة, في ظلِّ أي نظامٍ سياسي, فإنَّ الظاهرة تجري على عكس ما أطلق عليها.. لكنَّ المُفارقة أنَّ الظاهرة نفسها بصورة عامة، تتقاطع تماماً مع المعنى المنهجي للسياسة, والذي اتفق على أنه تَسييرٌ لشُئون الناس بشفافية كاملة، على قاعدة الحقوق والواجبات, تخضع فيه السُلطة التنفيذِيَّة في النظام الديمقراطي لمُراقبَة ومُساءلَة السُلطَة التشريعيَّة, وتختصُّ فيه سُلطة قضائِيَّة مُستقلة بمبدأ المُحاسبة.. وبالتالي، ليس لمفهومِ ”التسامُح السياسي“ السُوداني موقع في إطار هذه المنظومة.. بَيْدَ أنَّ البشريَّة عرفت ما يُسمى بـ”التسامح الاجتماعي“, وصنوِّه الآخر المُسمَّى بـ”التسامح الديني“, وكليهما معنِيٌ بتهذيبِ النفوس, وكسر العصبيَّة، وتكريس القِيَم والمبادئ التي تسمُو بالفرد والجماعة، وصولاً لمُجتمَع الفَضيلَة، وإن كان حُلماً عصيَّاً. وعليه، لم يكن غريباً أن تسُود ظواهر التسامُح الاجتماعي والديني في أوروبا والغرب, وتنتفي ظاهرة ما يُسمى بـ”التسامح السياسي“, تلك البدعة التي أوهمنا بها أنفسنا لزمن في السُودان.
ونوردُ في ذلك مثلاً ببريطانيا، الدولة التي تزلفنا بنظامها السياسي ”ديمقراطية وستمنستر“ ولم نصطلِ بنِيرانِ نِضالاتها التي أوصلتها لتلك الدرجة مِن الاستِقرار والمثالية, فهِي -كما هو معروف- ترسَّخت بقيمٍ ومُثل ومبادئ، امتدَّت عَبرَ مئات السنين, في حين أننا توهَّمنا أن الاقتباس وحده يُمكنُ أن يُحقِّق استقراراً.. واختزلت النخبة السياسيَّة السودانيَّة التجربة برمَّتها في الاهتمامِ المُوسمي بالذين ”يُصوِّتونَ بأقدامهم“، على حدِّ تعبير المثل الإنجليزي الشائع, الأمر الذي يُفسِّر حالة الكساح التي عَصَفَت بها لثلاث مرات.
حينما طار رأسُ الملك تشارلز الأول في العام 1649، وُلِدَت الجُمهوريَّة البِريطانِيَّة على يد كرومويل, وكان أهمُّ شيء فعله تعبيد الطريقِ نَحوَ الملكِيَّة الدُستوريَّة، وإشاعة ”التسامُح الديني“, وعلى إثرِ ذلك، تقاطر اليهودُ نحو بريطانيا، بعد أن طردوا منها لنحو ثلاث قرون.. ويُذكرُ أن إسهامات الفَيلسوف جون لوك الفكريَّة، كانت سبباً مُباشراً في ذلك التحوُّل التاريخي لبريطانيا, بعد أن استلهم كرومويل أقواله، وحوَّلها إلى أفعال, وخاصَّة كتابه الثاني ”رسالة عن التسامح الديني“، والذي مَهَّدَ له بكتابه الأول ”بحثان عن الحكومة“، وفيهما أعلنَ رفضه لدَعاوَى المُلوك في الحَقِّ الإلهي, ونادَى بنظريَّة ”فصل السلطات“، مُرسياً بذلك قواعد الديمقراطيَّة السياسيَّة.
ولأنه لا يعرفُ الصبابة إلاَّ مَن يُعانيها, ما كانَ لجون لوك أن يطرق ذلك الموضوع الحيوي الذي غيَّر تاريخ بريطانيا السِياسي، لولا أنه شخصياً كان أحد ضحايا التعصُّب الديني, والذي أجبَرَهُ على الهُروبِ إلى هولندا, وقد أسَّس نظرته في التسامُحِ الديني على قاعدة حتميَّة الانتقال من التسامُح بين مُعتنقي الديانة الواحدة, إلى التسامُح مَع مُعتنقي الديانات المُختلفة.. «يجب أن لا نَستبعد إنساناً أياً كان عمله أو وظيفته لأنه وثَنيٌ أو مُسلمٌ أو يهودي».. ومِن المعروف أن أفكار لوك أثرت بعدئذٍ في تفجِير الثورة الفرنسية، التي مهَّدت لإعلان حقوقِ الإنسان, وانداحت أيضاً على أقطارٍ أخرى، فحرَّرتها مِن الاستعمار، مثلما حدث في أمريكا اللاتينية.. وفى أوروبا، كان أثرُها العظيم في ازدهار حركة التنوير، بظهُور فلاسفة كبار، اقتدوا بأفكار لوك.. وعليه، فإن ”التسامُح الديني“ يُعدُّ ركناً أساسياً في ترسيخ النظام السياسي، في حين أننا، ذراً للرماد في العيون, اعتقدنا بأن ما يُسمَّى بـ”التسامُح السياسي“ هو الذي يؤدي إلى بِناء أمَّة مُتناقضة ومُتباينة في ثقافاتها وأعراقها ودياناتها.. وظلَّ المُصطلحُ يَنحَرُ في رِقابِ تلك التناقضات، بدلاً عن إثرائها, أو حتى توفير المناخِ الملائم لها، والذي يحققُ الوُحدَة في إطار التنوُّع, وذلك ما تؤكده مجريات الأحداث التي حملت النقيضين معاً في أحشائها.
تعرَّض السودان القديم، المؤسَّس على دُويلات وممالك ومشيخات للفتحِ الإسلامي, إثر حملَة عبدالله بن أبى السَّرح, والتي نجحت في إخضاع أهالي بلاد النوبة، وانتهت بـ”معاهدة البُقطِ“ في العام 651 ميلادية, وكانت عبارة عن هدنة أمان، أو مُعاهدة عدم اعتداء, ونصَّت على أن: «يدفع أهالي النوبَة نحو أربعمائة من أواسط رقيقهم كل عامٍ ويتسلمون مُقابلها مواد غذائية وملابس وخمراً, إلى جانب التصريح للتجار المسلمين بدخول أراضي النُوبة مُجتازينَ غير مُقيمين, وسُمِحَ للنوبة بالتجوُّل في مصر بنفس الأسُس على أن تَحتفظ كلُّ جماعة بدينها».
تلك المُعاهدة الفريدة، التي سبقت أفكار جون لوك بأكثر من ألف عام, صَمَدَت في وجه كلِّ المُتغيرات السياسيَّة والاجتماعيَّة لأكثر من سَبَعَة قرونٍ بالنسبة لمملكة ”المَقرَّة“، والتي انهارت في القرنِ الرابع عشر, وأكثر من ثمانية قرونٍ بالنسبة لمملكة ”عَلوَة“، التي أصبحت دُوَيلة يحكمها المُسلمُون في مطلَع القَرن السَّادس عشر, رغم أنها تبدو للرائي وكأنها حالة مُؤقَّتة، أملَتها ضروراتُ الغزو. غير أنَّ المُهم في كلِّ ذلك، أنَّ تلك الفترة الطويلَة نسبِياً, شهدت تعايُشاً إسلامياً مسيحياً على قاعدة ”التسامُح الديني“ التي وفرتها مُعاهدة ”البُقطِ“, ولم يُنتهك إلاَّ بسُقوطِ مملكة ”عَلوَة“ في وسَطِ السُودان, والتي تحالَف في إسقاطها حِلفُ قبيلتي ”الفونج“ بقيادة ”عمارة دُنقس“، و”العَبْدِلاَّب“ بقيادة ”عبدالله جَمَّاع“، وذلك بدمارٍ صارَ مَضرَباً للأمثال في الثقافة الشعبيَّة السائدَة، والمعروف بـ”خَرَاب سُوبا“, وقامت على أنقاضها مملكة ”الفونج“، ناعية حالَة استثنائية في التعايُش الإسلامي المَسيحي، الناتج عن المُعاهدة.. «إن الحديث عن ”خَرَاب سُوبا“ قد يحمل في تَضاعيفِه إشارة إلى العُنف، لا ضد الدولة فحسْب, بَل ضد المسيحيِّين الذين بقَوا على أنقاض تلك الدولة, لاختفاء المسيحية بذلك الشكل الدرامي, ثمَّ عَبرَ الذوبان التَدرِيجي، والانتهاء القَسْرِي.. ولعل روح التَسامُح وسعة الأفق، التي عُرِفَ بها المُسلمُون الأوائل, قد تَلاشَت كثيراً بين حنايا المجموعات التي وفدت إلى بلاد السُودان»..
كان ظهور دولَة ”الفونج“ التي امتدَّت لما يُناهز الثلاثة قرون، ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر, هو أولُ مُحاولة لتأسيسِ دولة ثيوقراطيَّة في تاريخ السُودان، قبل تأطير كيانه السياسي والإداري، بعد الفتح التركي المصري العام 1821.؟ ولعلَّ ذلك - بالتطوُّرات المذكورة- كان بداية ازدواج المفاهيم, فَقَد انحَسَر ”التسامُح الديني“ بين المِلتين، الإسلامية والمسيحية, وتزامن ذلك مع مدِّ السَّلاطين لجسورهم، مع طبقة الفقهاء والمُتصوِّفة، الذين كان لهُم تأثير عظيم في المُجتمع. غير أنَّ بعضهم ما لَبث أن أصبح مشغولاً بالدنيا أكثر من انشغاله بالآخرة, وتمَّ استغلالهم في توطيد أركان المملكة بفتاوى تتناسبُ ومقامات السَّلاطين, وكان ذلك في التقدير أولى بدايات ”تديُّن السياسة“ (الفقهاء)، و”تسييس الدين“ (السلاطين).. ولا غرو أن كان ذلك سبباً أيضاً في نهايتها.. «يُمكنُ اعتبار دولة الفونج أنموذجاً لقيام دولة دينيه متأثرة بسماحة التَصوُّف, ومع ذلك تَدهوَرَت مع تدهوُر التَصوُّف ومُفارقَة السلاطين الأواخِر لسيرة آبائهم الذين كانوا يتمسكون بالدين, والنهج الصُوفي منه على وجه الخصوص»..
وفى خِضَم ازدواج المفاهيم، وإزاء التغيُّراتِ الجذريَّة التي حدثت في بنية المٌجتمع، فقد أدَّى الضَعفُ الذي اعترى المملَكة، إلى بروز مُصطلح ”التسامُح السياسي“, ولم يكن ثمَّة مناص أمام السَّلاطين سوى التمسُّك بأهدابه، حفاظاً على سُلطَتهم.. «برزت أرستقراطية عسكرية محلية عن طريق التراكُم البدائي, ثم انتقلت إلى التجارة الخارِجية, ومع بروز تميَُزِها الاقتصادي، رَأَت ضرورة تميزها الاجتماعي, وتمثلَ ذلك في تبنيها لتَعاليم الإسلام في أنماط سُلوكها الظاهري, كأحد أشكال تميزها عن العامة, فقاموا بِتشجيع العُلماء وكانت خدماتُ العُلماء الفقهية مطلوبة بصفة خاصة لاستكمال البناء القانوني لمُجتمعات المُدن ومراكز التجارة, فقام نفرٌ من العُلماء باجتهادات بارزة لإيجاد تشريعات تناسب المجتمع السناري»..
ذلك ما كان مِن أمر الحُكمِ الوطني, أمَّا الحقبة التي تلته، مُمثلة فيما بعد الفتح التركي, فبحُكم ارتباطِه بالسَلطنَة العُثمانِيَّة، التي كانت تمثل مركز الخلافة الإسلامية «قام بتأسيس مُؤسسة العُلماء كمؤسسة رسمية يُعتَمَدُ عليها في تَسيير شُئون البلاد, ولكنها لم تَجد تأييد ودعم مُعظم الطرُق الصُوفِية القَائمة, ومع ذلك فقد وجدت السُلطة الجديدة مَن يتعاون معها وكانت الطريقة الخَتمية في المُقَدِّمة, أما بقية الطُرُق فقد اتخذ بعضُها موقفاً سلبياً بينما اتخذ بعضٌ آخر موقفاً عدائياً من الحكم الجديد».. وعليه، فقد كان موقفه من مسألَة ”التسامُح الديني“ سُلطوِياً، أو سُلطانِياً - سِيَّان- وهو لا يفضي بالضرورة إلى خلق التعايُش المعني.. كذلك أدعى إلى القول بأنه لم يكن معنِياً بـ”التسامُح السياسي“ باعتباره استعماراً استعبادياً، مسنوداً بقوَّة عسكريَّة قمعيَّة لترسيخ كيانٍ إداري جديد, مثلما أنه عَصَفَ بـ”التسامُح الاجتماعي“ لأنه، إضافة إلى الإنهاكِ الاقتصادي للمُواطنين بالضرائب، كان على رأس أهدافه الاستعمارية الحُصول على أكبر قدر مِن العبيد, ودشَّن بذلك مُؤسَّسة الرِقِّ في السُودان.. «ما مِن بَحثٍ يستقيمُ عُوده وتَستَقِر أركانه عَن عِلاقات الرِقِّ والاستِرقاق في المُجتمع السُوداني, إن لم يتخذ من عهد التركيَّة محوراً له، فهي الذروة, التي دفع محمد علي باشا تلك المُؤسسة نحوها, ولا تتضح الصورة على السفحِ مِن الجانِبَين, إلا بِتسلقِ واعتلاءِ القِمة, فما فعلتهُ تجارة الرقيقِ والاستِرقاقِ عَبرَ الأطلَسِي في غَرب أفريقيا, فعلته التركيَّة في السُودان, وفى الحالَتَين كان الاسترقاقُ واستحواذ الرقيق الهدف الإستراتيجي الأول, تخضع له وتَليه في الأهمية أهداف أخرى، كالتَنقيب عن الذهب, أو اكتشاف منابع النيل, والفيصل هنا الوثائق, لا تحليل وترجيح المؤرخين, أو نفاق محمد علي ومن خلفه في العرش أمام قناصل الدول الأوروبية, قال الباشا ”وبعضمة“ لسانه في رسائله لابنيه المقصود الأصلي مِن هذه التَكلفات الكثيرة والمَتاعب الشاقة ليس جمع المال كما كتبنا إليكم ذات مرة بعد مرة, بل الحصول على عدد كبير من العبيد الذين يصلحون لأعمالنا ويجدرون بقضاء مصالحنا. والهدف من إرسال قوة كافية جيدة العدة والعتاد لتلك المناطق هو الحُصول على عبيد يصلون إلى مُعسكرات أسوان بسلامٍ, فالعبيد المُلائمون للجنديِة تعادل قيمتهم قيمة الأحجار الكريمة، بل أكثر قيمة».. وبالتالي، وفي ظلِّ تلك الصورة الواضحة، لا معنى للحديث عن ”التسامُح“ في أيٍ مِن شُعَبه الثلاث.
على صعيد تالٍ، حاول محمد أحمد المهدي تأسيس دولَة، هي الثانية مِن حَيثُ التماثل الثيوقراطى مع مملكة الفونج, والأولى مِن حيثُ توجُّهاتها الصارخة، حيثُ إن رائدها، ومِن بَعده خليفته عبدالله التعايشي، عملا على توطيد أركانها بالقهر والعُنفِ والاستبداد.. استناداً إلى المشيئة الربَّانية تارة، والإرادة النبويَّة تارة أخرى.. وفى ذلك، استهدفت مُواطنيها، وبالأخصِّ الفئة التي نازعتها الفتيا في أمُورِ الدِين، مِن الفقهاء والعُلماء والمشايخ, وتواءمت في ذلك مع ثقافة المُستعمر نفسه، بل تجاوزته باستحداث طرُقٍ عديدة للتَنكيلِ بمُعارضيها، سجناً وتعذيباً وقتلاً، واستتبع ذلك قبرُ ”التسامُح الديني“ في إطار العقيدة الواحدة, مثلما أنها اختطَّت خُطى المُستعمر الذي ادَّعت مُحاربته بتكريس مُؤسَّسة الرق, وتصعيدها الحرب بين القبائل بتأليبِ بعضهم على البعض الآخر, وزادَت باستحلال السَبايا, فألحَقت ”التسامُح الاجتماعي“ بمثله سالف الذكر.. ومن البديهي أن لا يكون لـ”التسامُح السياسي“ مكانٌ في قامُوسها، طالما أن علائقها مع مُواطنيها كانت قائمة على الإقصاء بخيار ”مَن لم يُناصرها فهو بالضرورة ضدَّها“، علماً بأن بعض الذين ناصروها وانخرطوا في صفوفها فعلوا ذلك لأسباب سياسيَّة وليست دينية، هروباً مِن مُمارسات الاستعمار التركي.. ومع ذلك، فإن ذكر الجوانب السلبيَّة في تاريخ المهدِيَّة لا يغمط حقها كثورة وطَنيَّة في الجانب الإيجابي منها، والمُتمثل في مُقاومة الاستعمار نفسه, لكن تلك يقالُ عنها عطِيَّة مُنِحَت باليمين، وأخذت أضعافها بالشمال.
أمَّا الاستعمار المُزدوج الثاني، والمُسَمَّى أيضا بـ”الحكم الثنائي“ -البريطاني/المصري- والذي دامَ نحو ستين عاماً (1898-1956) فهُو يختلف عن سابقه، في كونه استعماراً استيطانياً، لأهداف توسعية, وقد اقتضت هذه المُهمَّة تقديم صُورة مُناقضة لدوافعه, وكان نشرُ المسيحيَّة تابعاً لها، ولم يكن سبباً.. ومع ذلك، لم يجعل مِن التبشير بها محكا لمُحاربة العقيدة الإسلاميَّة.. «كان البحث عن مُتعاونين مع الحكام الجُدد ومُواجهة خطر حركات المُقاومة يتطلب، ليس فقط عدم معاداة الإسلام, بل أيضاً تَبني سياسة تَعملُ على إقامة مُؤسسة للعُلماء المُسلمين, هادئة ومقبولة لاحتواء الطرق الصوفية العديدة، والقضاء على المهدية, وضرورة التعامُل مع الإسلام بحساسية عالية، تشملُ أيضاً منع عمليات التنصير في الشمال، وتشجيع الإرساليات، لتركيز نشاطها في المجتمعات الوثنية في الجنوب».. وفي التقدير أن قانون المناطق المقفولة 1922 كان معنياً بالدرجة الأولى بالمسألة الأنثروبولوجية، والحد من تغلغل اللغة العربية, أكثر من كونه حرباً مباشرة على العقيدة الإسلامية, وذلك بغض النظر عن الإسهام الفعلي للقانون في تفسخ العلاقة الاجتماعية بين الشمال والجنوب.
في هذا السياق، ومِن أجل تقديم صُورة مُناقضة لدوافعه أيضاً، أياً كانت دواعيها، فقد عمد في بداية بسط نفوذه على الدولة، إلى إشاعة شيء من ”التسامُح الاجتماعي“ في قضية محوريَّة, إذ عمل على وضع بعض القوانين التي هدفت إلى تصفية مؤسًّسة الرِق، المو######## من الاستعمار الأول.. «الأداة التي توسلت بها الإدارة لمُحاربة تجارة الرقيق, كانت مصلَحة مُناهضة الرِقِ, التي انتقلت من القاهرة إلى الخرطوم عام 1903، تحت إشراف مفوَّضٍ عام ومدير، وأُعيد تنظيمها كإدارة وقوة شبه عسكريَّة، بسلطات شرطية, وصلاحيات قضائية»..
تلك المصلحة التي أنشأت لها فروعاً في عدة مناطق من السُودان، شرعت على الفور في عتقِ الأرقاء، بمنحهِم ما أسمته بـ”ورقة الحريَّة“.. لكن المُفارقة، أن محاولات المُستعمر البريطاني، لاقت عنتاً من الوَطنيِّين، الذين ضرَّهم تصفية مُؤسَّسة الرِقِّ, وعلى رأس هؤلاء، اعترض زُعماء السُودان الدينيِّون، قادة الأحزاب الطائفية الكبيرة فيما بعد، السادة: علي الميرغني, عبدالرحمن المهدي, الشريف يوسف الهندي, الذين أرسلوا مذكرة في 6 مارس/آذار 1925، وجَّهوها إلى ”مدير المخابرات“ البريطانية!! ولا يدري المَرءُ، لماذا لم يُتِح لهم مقامهم توجيهها إلى رأس السُلطة الاستعمارية مباشرة؟! على كلٍ، في تلك المُذكرة، برَّروا أولاً اعتراضهم على القانون، بالتذاكي على العُرف والقانون الدولي.. وثانياً، بتزييف واقع الأرقاء في خُصوصيَّة المُجتمع، بزعمِ أن المُستعمرين لا يعرفونها!! وجاء في المذكرة:
«نرى مِن واجبنا أن نشير إليكم برأينا في موضوع الرق في السودان, بأمل أن توليه الحكومة عنايتها ولقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة منذ إعادة الفتح, وطبيعي أننا لا نستطيع أن ننتقد أمراً تَوحد كل العالم المتمدن لإلغائه, وهو واحدٌ من أهم الأمور التي يعنى بها القانون الدولي, على أن ما يهمنا في الأمر أن الرِق في السودان اليوم لا يمت بصلة لما هو متَعارفٌ عليه بشكلٍ عام. فالأرِقاء الذين يعملون في زِراعة الأرض, شركاءٌ في واقع الأمر لملاَّك الأرض ولهم من الامتيازات والحُقوق ما يجعلهم طبقة قائمة بذاتها، ولا يُمكن تصنيفهم كأرِقاء بالمعنى المتعارف عليه. وأهلُ السودان الذين ما زال لهم أرقاء في الوقت الحاضر, إنما يُعاملونهم كما لو كانوا من أفراد العائلة بسبب احتياجهم المتعاظم لعملهم, ولو كان لطرف أن يتظلم الآن فهم الملاك الذين أصبحوا تحت رحمة آرائهم. وكما تعلمون تمام العلم، فإن العمل في الظرف الراهن هو أهم قضية في السُودان, ويتطلب علاجها الاهتمام الأكبر, فالحكومة والشركات والأفراد المهتمون بالزراعة, يحتاجون لكل يد عاملة يمكن الحصول عليها لتسهم في نجاح المشاريع. ولابد أن الحكومة وموظفيها قد لاحظوا خلال السنوات القليلة الماضية, أن أغلبية الأرِقاء الذين أُعتقوا أصبحوا لا يصلحون لأي عمل, إذ جنح النساء منهم نحو الدعارة, وأدمن الرجال الخمر والكسل.
لهذه الأسباب نحث الحكومة على أن تنظُر باهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسئولية للعمل, والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم. بما أن هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيداً بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي, فلم تعد هناك حوجة لإعطائهم أوراق الحرية, إلا إذا كانت هناك حوجة لإعطائها لملاك الأرض الذين يعملون لهم, وإنه لمن مصلحة كل الأطراف المعنية والحكومة وملاك الأرض والأرِقاء, أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة, أما إذا استمرت سياسة تشجيع الأرِقاء على ترك العمل في الزراعة والتسول في المدن, فلن ينتج عن ذلك سوى الشر. نتمنى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بعين الاعتبار, وأن تصدر أوامرها لكل موظفيها في مواقع السلطة, بأن لا يصدروا أي أوراق حرية, إلا إذا برهن الأرقاء على سوء المعاملة».
تلك من الوثائق التي يَندَى لها جبين الإنسانية، ولا يُعادلها في السُوء، من جهة الحيثِيات التي أوردتها، سوى وضعية طبقة ”العبيد“ في الدولة الرومانية.. والمُفارقة حقاً، أن المُستعمر يدعُو لإنهاء الظاهرة, بينما زُعماء أهل البلد المُستعْمَرين يَعمَلون للإبقاء عليها!!
على كلٍ، فإن مدير المُخابرات الذي وُجِّهت له المُذكرة، رفعها بدوره في 6/4/1925 إلى القنوات التي كان مُفترضاً في السادة المذكورين مُخاطبتها، السكرتير القضائي، والسكرتير الإداري, بتعليقٍ مقتضب منه، يلتمس فيه قارئه، ارتياحه من خلف السطور, ذلك لأن المُذكرة لم تكن مُطالبة المُستعمر بالرَّحيل، وهو جلَّ ما يُمكن أن يؤرِّقه, والمُفترض أنه غاية ما يُمكن أن يتَّفق حولَه الزُعماء الثلاثة.. فبغضِّ النظر عن الموضوع، كان مُجَرَّد اتفاقهم مثار دهشة مُدير المُخابرات.. «مما يستلفت النظر حقا أن يكون هناك أي موضوع يتفقُ حوله الأعيان الثلاثة, وهذا في حد ذاته يَدفعُني للاعتقاد أن المذكرة تستحق عناية فائقة».. بناء عليه، كان الالتماسُ المرفوع مِن السادة الثلاثة قد مسَّ وتراً في عواطف السكرتير الإداري، الذي كتب بدوره مُذكرة للسكرتير القضائي في 11/4/1925، أشار فيها إلى أن الضوء الأحمر الذي سلَّطه المذكورون على القرار يستوجبُ من الإدارة «السير بحذرٍ بالغٍ في مُعالجة موضوع الرقيق»، واعتبر أن: «الأمر سابقٌ لأوانه»، وعوَّل على عامل الزمن بقوله: «أعتقد جازماً إذا ما طبقَت المذكرة نصاً وروحاً فسوف يختفي الرِقُ بمرور الزمن»..
المُفارقة، أن رد السكرتير القضائي بتاريخ 14/4/1925 لم يَنطوِ على الرَّفض وحسب، وإنما تناول الموضوع مِن الناحية الدينية، التي ينهلُ منها الزُعماء مَرجعيتهم.. «لو أن عرب السودان اتبعوا المُوجهات الأخلاقية والشرعية التي أتى بها رسولهم, لأمكن أن يُقال الكثير في دعم وجهة نظر قاضي القضاة, لكنهم للأسف لا يفعلون».. إلى أن يختم مذكرته بقوله: «إنني أميل إلى أن نقتحم المجازفَة حول العلاقات العائلية كما اقتحمنا سابقاً علاقات الإرث, وأن نعلن على الملأ أنه على المحاكم المدنية والشرعية عند النظر في القضايا, أن تنطلق من أن كل شخص حر وأنه كان دائماً حراً, أو على الأقل حر منذ سبتمبر 1898. لا أستبعد أن تنشأ حالةً من السُخط والضجر - أعتقد أنها ستنشأ- لكني أرى مواجهتها».. وبالطبع لم يكن منظوراً من المُستعمِر أن يكون حريصاً على تطبيق القانون, في ظل عدم حماس المعنيِّين بالأمر.. علاوة على أنه في نهاية الأمر، فإن التطبيق مُرتبط بمصالحه الخاصة، التي قد تتطلب غضَّ الطرف - ولو جزئياً- عن الظاهرة, ولعل ذلك ما حَدَثَ، إذ: «قامت الحكومة بالسماح باستمرار الرقيق العائلي».
إن مذكرة الزعماء الثلاثة لَم تراعِ ظرفاً تاريخياً، كان نقطة تحوُّلٍ هامَّة في تلك الفترة, فقد صَدَرَت في أعقاب ثورة 1924, وهي الثورة التي كان قائدها ”علي عبداللطيف“، وبعض رفاقه الآخرين ينتمون عضوياً لمؤسسة الرِقِّ والاستِرقاق.. أو بتعبيرٍ آخر، كانوا ينتمون إلى ما صار يُعرَف بـ”الزنوج المنبتين قبلياً“، “Negroid but De-tribalized people” وهم من طالبت مُذكرة المُستعمر بإلغاء عبوديتهم, في الوقت الذي كان هدفهم -وهم مُستعبدون- اقتلاع حريَّة أمَّتهم من براثن المُستعمِر نفسه!!
من المعروف أن مُهادنة زعماء الطائفية للاستعمار كانت سبباً مُباشراً في إطالة أمده, وهو ما يُمكنُ الإشارة إليه بـ”التسامُح السياسي السِلبي“.. فالسيِّد علي الميرغني، زعيم طائفة الختمية، الذي سَبَقَ أن تعاوَنَ مَع الحُكمِ التركِي، وتلقى دعماً منه, كذلك بادر البريطانيُّون بدَعمِه أدبياً ومادياً, وقد ردَّ الحسنة بعشرة أمثالها.. «بينما كانت الطريقة الختمية تنمو, كانت تدعم الحكم الاستعماري أثناء نموها, فقد قاموا بدور الوسيط الفعال للمساعدة في الحصول على تأييد عدد كبير من الناس لسياسات الحكم الجديد, فكانوا عاملاً في الاستقرار وحفظ النظام في السنوات الأولى للحكم, كما كان لهم دورهم المؤثر في دعم السياسات الاقتصادية للحكومة».. وفي ذلك تفصيلٌ لا تحتمله صفحات الكتاب!!
أما السيد عبدالرحمن المهدي، الذي تلقى أيضاً دعماً غير محدود من البريطانيين، فقد كان براجماتياً في تبريره.. «أرى أن الثورة المسلحة آنذاك مقضيٌ عليها بالفشل, وكنتُ أرى أن الانصراف عن الحياة هزيمة لأنصارِها إذ كنت أعتقد أن واجبي يُحتم علي أن أحافظ على تراث المهدية حتى لا تذهب تلك الصفحة المُشرِقَة من تاريخ بلادنا».. وكان ذلك هو المنهج الذي جسَّر به العلاقة بينه وبين المستعمرين، رغم المِحَن والإحَن التاريخية.. غير أن البعض لا يفسِّرها كما ذهب.. «ظهرت انتهازيته ونهجه السلمي بشكلٍ بارز عندما قدم سيف والده بطريقة غير مُتوقعة هدية للملك جورج الخامس, ولكن الأخير ردَّه إليه ووجَّهه باستخدامه في حماية الإمبراطورية والدفاع عنها».. أياً كان التبرير، فإن ما أسميناه بـ”التسامُح السِياسي السِلبي“ قد أملته لغة المصالح, وكان المال فيها قاسماً مشتركاً, ولهذا لم يكن مُستغرباً أن تستحي ”عيون الزعماء“ من مُحاربة المُستعمِر، بعد أن أطعَمَ أفواههم, طِبقاً للمثل السوداني الشعبي.
كانت مظلة ”التسامُح السِياسي السِلبي“، التي أشرَعتها كلتا الطائفتين الكبيرتين, قد امتدَّت لتشمل بعض طلائِع المُجتمع -”الإنتلجنسيا“- التي احتواها منبر ”مؤتمر الخريجين“ في العام 1938, والذي أصبح فيما بعد -رغم نبل المقصد- ساحة لتباري زُعماء الطوائف، بغرض تدجين منسوبيه, بوسائل ظاهرها الخير، وباطنها الشر, وسُمِّى ذلك نفاقاً بـ”الرِعايَة الكَريمَة“ التي غَرِقَ المؤتمرُ في بُحورها زُهاء العِقدَين من الزمن، قبل أن يتحقق الاستقلال.
المُثيرُ في الأمر، أن التسامح - بشُعبه الثلاث- دارت وقائعه في إطار الطائفتين أنفسهما بصورة نقيضة، بل أنكى وأمَرُّ.. فعلى سبيل المِثال، فإن تعليق ”مدير المُخابرات“ البريطاني الذي أوردناه من قبل، ولم يُخفِ فيه دهشته من اتفاق الزعماء الثلاثة على أمر, فإنه لم يقل ذلك إلاَّ لعِلمِه، بل علم كافة السُودانيين آنذاك، بأنَّ زَعيمَي الطائفتين كانَ بينهُما ”ما صنع الحداد“.. فالعلاقة أصلاً تأسَّست على قاعدة من الفرقة والخلافات المُزمنة, والتي وصلت درجة ”الخُصومة الفاجرة“, وانسَحَبَت حتى على عَوَام الطائفتين لأكثر من نِصفِ قرن, إلى أن وضَعَا حداً لها في لقاء جَمَعهُما معاً بتاريخ 3/12/1955، وسُمِّي بـ”لقاءُ السيِّدين“.. وفي أعقابه أصدرا بياناً، جاء فيه: «الآن وقد شاء الله فتحقق الأمل العظيم الذي ظلت تَنشده البلاد منذ أن التقينا وتصافينا ابتغاء مرضاة الله والوطن, يسرنا أن نعلن عزمنا على الوقوف متكاتفين في ما يعود على الأمة السودانية الكريمة بالخير والسعادة والحرية والسيادة الكاملة».
في إطارِ ازدواجيَّة مفاهيم التسامُح، لم يكن غريباً أن يَعتبرَ البيانُ ”التاريخي“ أن المُصالحة جاءت ابتغاء مَرضَاة الله, في حين يَعلمُ المُتصالحان تمام العِلم، أن دين الله المعني نهى عن هَجرِ المُسلِم لأخيه الُمُسلِم لأكثر من ثلاثُ ليال.. وكانا يعلمان أيضاً بأنَّ ”التسامُح الاجتِماعِي“ قد ذَهَبَ مَع الرِيح، طيلة خِصامِهما، بانسحابه على عَوامُّ الطائفتين, مثلما أنَّ ”التسامُح السياسي“، بالصورة التي مارسَاهُ بها، كان فرصَة ذهبيَّة للمُستعمِر في العَزفِ على أوتاره المُتناقِضَة بمَهارةٍ بالِغَة.. ومَع ذلك، فإنَّ المُوَجِّهات، أو التمنِّيات التي عدَّدها البيان، كانت مَوْضِع نَظرٍ، بعد أن جَرَت مياهٌ كثيرة تحتَ الجُسور.. ولعلَّ ذلك ما حدا بأحد السياسيِين إلى وضعِ ذلك اللقاء في إطارِه الطبِيعي، رغم انتمائِه تنظيمياً للحزب الذي يتبع لإحدى الطائفتين، ”الأنصار“.. فقد وصفه السيد مُحَمَّد أحمَد محجُوب بقوله: «لقد كان التحالف بين المهدي والميرغني أعظم كارِثَة مُنِي بها تاريخُ السياسة السُودانية, ففي هذا التحالف سَعَى عَدُوانِ لدُودَانِ مَدَى الحياة، وبدافعِ الجَشَع والتهافت على السُلطة، والغرور والمصالح الشخصية، إلى السيطرة على الميزان السياسي في السُودان»..
صحيحٌ أن أوَّل ”إنجازٍ“ في توابع الحلف المذكور يومذاك، كان إسقاط أوَّل حُكومة ديمقراطيَّة بعد الاستقلال، وكان يرأسُها السيد إسماعيل الأزهَري، المُنتمي سِياسياً للطائفة الأخرى، ”الختمية“.. وصحيحٌ أيضاً أن الحكومة التي جاءَت في أعقابها وسَمَّاها رئيس وزرائها، السيد عبدالله خليل، والمُنتمي سِياسياً لإحدى الطائفتين أيضاً -”الأنصار“- سمَّاها تزلفاً بـ”حكومة السيِّدَين“, تجَرَّعت مِن الكأس نفسه بعد نحو عام وبضعة أشهُر بالتسليم الشهير للقوَّات المُسلحَة.. والصحيح كذلك، أن مُحصِّلة هذا وذاك، هي التي وضعت حجر الأساس في عدم الاستقرار السياسي، الذي عانى منه السُودان منذ استقلاله.. لكن الذي يُضعِف من مصداقية شهادة المحجوب أنها جاءت بعد أن قضى جُل عُمرِه السياسي تحتَ مظلة ذلك الحلف الكارثي، وفي خدمته.. وأنه أقرَّ بها بعد أن زال عنه صَولَجَانُ السُلطَة.. والأهمُّ مِن هذا وذاك، أنه ما كانَ يمكن أن يقر بها لولا أنه شخصياً اكتوى بنيرانها، مع سليلُ الطائفة التي ينتمي لها، ”السيد الصادق المهدي“.. وسَبحَت ردحاً من الزمن في بُحور ازدواج مفاهيم التسامُح، بشُعَبه الثلاث.
لأن النار ”بالعُودَيْنِ“ تزكو، فالخلافات لَم تقتصِر على الطائفتين, بل كانت في إطارِ الطائفة الواحدة أشدُّ ضراوة، وأكثر ضرراً, وقد تفوَّقت طائفة كيان الأنصَار وحِزبُ الأمَّة برقم قياسِي.. فلأسباب لا تخفَى على أي مُراقِب، كان السيد الصادق المهدي قاسماً مُشتركاً في مُعظمِها, وِغَير خلافه مع السيد محمَّد أحمد محجوب, فقد تلبَّدت سُحُب الخِلافِ بينه وبين عمِّه السيد الهَادي المَهدي, لم يحسمها حتى رحيل الثاني للدار الآخرة, فانتقلت جُرثومتها إلى اثنين من أبنَائِه.. ولِيُّ الدين، والصادق.. اللذين تمحور خِلافَهُما حول ”الإمامَة“ في الطائفة, في حين استبقى شقيقهم الثالث ”نصرالدين“ نفسه إلى جانب المهدي، مُتجاهِلاً الإمامة، ومُناصِراً له في السياسة، فاختارَه نائباً له في الحزب طوال فترة الديمقراطية الثالثة, وهو الاختيار الذي أوغر صدر آخرين، تصدَّرهم ”خاله“، السيد مُبارَك الفاضل، الذي يعتقدُ في نفسه بأنه الأجدر بالمنصب.. وظلَّ الخلاف مُستعِراً، وتفاقم حتى بعد سقوط النظام الديمقراطي.. وبعد تسَلم السيد مُبارَك الفاضِل مقاليد العمل الخارجي لحزب الأمَّة في المُعارضة، اجتهد في تصفية الخلاف بآلياته المَعرُوفَة، التي جعلت ”خِصمَه“ يَشكو الأمرَّين في ظُروف المنفى الاضطراري.. وقام السيد الصادق المهدي بعد هروبه من السُودان العام 1996 - في عملية ”تهتدون“- بمُحاولة لرَأب الصَّدع, وشكل لجنة في العام 1997، برئاسة القاضي صالح فرح، أحد كوادر حزب الأمَّة في الخليج، إلاَّ أن اللجنة لم تستطِع استنطاق أحد, وانفَجَر الخِلافُ في وسائلِ الإعلام الخارجِيَّة، استخدم فيه كلا الطرفين الأساليب والوسائل التي يُواجه بها الأعداء بعضهم البعض.. ثمَّ حاول المهدي إطفاء نِيرانه مرَّة أخرى في المُؤتمر الاستثنائي للحزب، الذي عُقِد بأسمرا في فبراير/شباط 1998، ونتجَ عنه عِناقٌ ظاهري أمام المُؤتمرين, استجاشت فيه العواطف، وانهمرت الدُموع, لكن ما أن انفضَّ السامر، حتى كان كل واحد من ”الخِصمَيْن“ يُعِدُّ عُدَّته وعتاده لِمعرَكة قادِمَة.
أيضا ظلَّ الخِلافُ مُحتدماً ومُزمناً بين السيد الصَادِق وعمه السيد أحمد المَهدي، وامتدَّ لسنوات، ومازال سِجَالاً, صاحبته أقوالٌ وأفعالٌ، بل ومُمارَسات، يعجزُ الراصد عن حصرها.. غير أن الخلاف الذي نَشَبَ في العام 2002 بين السيِّدين الصادق المهدي ومُبارَك الفاضِل، بعد عودة حزب الأمَّة لداخل السودان - بموجب اتفاقية جيبوتي- تجاوز كل السُقوفِ الماضية, بخُصومة استنهضت كوامِن الماضي وشَواهد الحاضر, واستخدما فيها كل مُتاحٍ من أسلحة الدمار الأخلاقي الشامل, لدرجة أيقن فيها البَعضُ بأن ذلك صِراعٌ من النوع الذي لا يُمكنُ رَأبَ صَدعِهِ بإصلاحِ ذاتِ البَيْنِ.
على الضفة الأخرى، لم تشهد طائفة الختميَّة الكم نفسه من الخلافات التي دارت رحاها في طائفة الأنصار, ورُبما يعودُ ذلك إلى طبِيعة السيِّدَين القائِمَين على شُئون الكِيان.. ورُبما أيضاً لمحدوديَّة النسل، وعدم تعرش شجرة العائلة بالعديد من الأبناء، ونأيُ نسائها عن السياسة!! وإن كانت الطائفة قد شهدت خلافاً واحداً، مازال يدور، بين السيِّدين، محمَّد عثمان الميرغني ومحمَّد سرَالختِم الميرغني, لم يتوانَ الأول فيه عن استخدامِ ذات الوسائل المُجَرَّبة في طائفة الأنصار، لإخماده بكلِّ ما أوتى من قوَّة ومكر وجَبَروت!! وبعضٌ من ذلك جرت وقائِعه بصورة أسقطت صِلاتُ الرَحم، وعَلائقُ الدَم التي تربطهما معاً.. رغم أن الخلاف غَلبَت عليه المسائل الماليَّة – الإرث العائلي- أكثر من القضايا السياسية.. ومع ذلك، عَزَّ حَلهُ، فتفاقم. بَيْدَ أن الكِيانُ الحزبي الذي وُلِدَ من الطائفة، كانَت الخِلافاتُ في أروقته أكثر باعاً, تظهرُ وتختفي، حسب مُقتضياتُ الظروف السياسيَّة, ومحورها جميعاً -من وراء الكواليس- زعيم الطائفة، السيد محمد عثمان الميرغني, وفى وقت مُبكر حاولت فئَة الانعتاق من ذلك النفوذ، ورفعوا الشعار المعروف: ”لا قداسةَ مع السياسة“, وعلى هذا الدرب سار آخرُون في فترات مُتقطعة (التفاصيل في فصل قادم).. ولعلَّ آخرهم الفئَة التي سمَّت نفسها بـ”الحزب الاتحادي -الإصلاح والتجديد“, وتناسلت عنها أربع تيارات أخري بمُسمَّيات مُختلفة, لكنَّ الواقع يُشير إلى أنه لا السلف ولا الخلف استطاعا إلى ذلك سبيلاً.
يتجاهلُ كثيرٌ من المُراقبين طبيعة الخلافات في السياسة السُودانيَّة، بفصلها عن التكوين النفسي والسُلوكي للشخصيَّة السُودانيَّة، المُتدثرة بالإيجابيَّات، والمُتنزهة عن السلبِيات, وفق الفهم الأسطوري السائد, لكن الواقع يُؤكد أولاً عدم مبدئيَّة مُعظم الخلافات السياسية.. وثانياً، أنها نتاج خُصوماتٍ وطموحاتٍ شخصيَّة.. وثالثاً أنها تعود للسلبِيات التي يعزُّ مُواجهتها، أو الاعترافِ بِها، في مُكوِّنات الشخصيَّة السُودانيَّة..لا سيَّما في الحقل السياسي, كالعِناد.. المُكابَرة.. الضِيق من الرأي الآخر.. الرغبة في إقصائه بشتى الوسائل، الأخلاقي منها أو غير الأخلاقي.. الغيرة.. الحسد.. التهوُّر..المُكايدة.. الأنانية.. الميكافيلية.. اهتزازُ العواطف بشخصنة القضايا.. تبخيسُ الأشياء.. شراءُ الذمة وسيطرة عُنصُر المال.. ضعف الحس الوطني.. النفورُ من العمل الجماعي Team Work مُقابِل الفَرَدانِيَّة.. الخ.. مع التأكيد أن تلك السلبِيات ليست شاملة ولا معمَّمة, ولا تَعني بأية حالٍ إنكار الصفات الإيجابِيَّة المعروفة، والتي تتمتع بها الشخصيَّة السُودانيَّة، وكادت أن تصبح استثناء.. مثل الشجاعة والكرم والمُروءة.
على سبيل المثال، إذا ما تأمَّلنا في فترة ما بعد الاستقلال, وهي الفترة التي تجلت فيها الخلافات السياسيَّة غير المبدئِية, واشرأبَّت فيها الطموحات الشخصيَّة, وبدأت النخَبُ تفصحُ عن مكنون صُدُورِها من مشاعر سالبة, يُرجعها أحد مُعاصريها إلى بعض ما أشرنا إليه من النقائص المُتخفية في السُلوك السياسي السُوداني.. «إن الخُصومات والخلافات الشخصية.. فضلاً عن الاختلافات في الهَدَف والوَسيلة.. كانت سبباً في تحامُل الكتاب على خُصومهم, ولا تثريب عليهم في ذلك, فتَفكيرهم الخاص، وانتماءاتهم الخاصة تدفعهم لأن يروا الخطأ -كل الخطأ- في الطريق الذي يسيرُ فيه الفريقُ الآخر».. وقد وصف صاحب الرأي هذا نفسه ما حدث في أشهر الخلافات في ذلك الوقت, تلك التي كانت بين السيد أحمَد خير وبعض رفاقه، أو أصدقائه، فيقول: «إنها كانت تبلغ درجة الخصومة، بل القطيعة في بعض المواقِع».
تلك الظاهرة، بالمثال المُشار إليه، قد تعدَّدت عَبرَ الفترات السياسِيَّة المُختلفة, في الوقت الذي ظلَّ فيه الحديثُ مُتصلاً عن ”التسامُح السياسي“، وفى تصاعُدٍ مُستمِر، حتى بَلغَ عنان السماء. وفي التقدير أن الفجوة المفاهيميَّة العميقة، بين النظَريَّة والتطبيق, خلقت حالة مِن الالتباس والتخليط في المُمارسة السياسيَّة, الأمر الذي يُفسِّر في إحدى جوانبه حالات التقلب، وعدم الاستقرار، والسُكون تحت سماء غير طبيعيَّة.. «الناس الذين يعيشون حياة غير طبيعية بدرجة غير عادية, يمكن أن يضمروا الحسد والحقد وسوء النية, وكل ما يتعارض مع الخير, ويمكن أن تتطور فيهِم ضغوطُ القسوَة, ومن جهة أخرى قد يفقدون تماماً كل استمتاعٍ بالحياة بدرجة لا يقوون معها على بذل أي مجهودٍ»، وقد كان ابن خلدون في مُقدِّمته أكثر قسوة في تفسير مثل هاتيك الظواهر، غير أن المُهِم أنها أكثر انتشاراً بين النخَبُ السياسيَّة, وليس غريباً في ظلِّ هذا المفهوم أن بعضهم تطوَّرت في نفسه ”ضُغوط القسوة“ وقام بتطبيقها عملياً, للدرجة التي لم يجد البعضُ لها تفسيراً، غير استنكار نسب الذين قاموا بها للأمَّة السُودانيَّة, مثلما ذهب في ذلك الأستاذ الطيب صالح في تساؤله، الذي طبقت شُهرَته الآفاق السُودانيَّة: ”من أين جاء هؤلاء؟!“.. مُخاطباً به أهل الإنقاذ في وقتٍ مُبكِر.. وبالطبع ما كانَ يُرجَى أن يقول أحدٌ إنهم هبطوا من السماء, فالكل يعلمُ أنهم جاءوا من صُلبِ تلك الأمَّة, ويتمتعون بكامل هويتهم السُودانويَّة, وفعلوا ما فعلوا تحت رحاب سُلطة وطَنِيَّة، بغض النظر عن طبيعتها أو طريقة استحواذهم عليها.. أي إنها ليست غزواً أجنبياً.. لكن لا أحد يريد مُجابهة الواقع، بإسناد تلك السُلوكيَّات إلى النقائص، أو السلبيَّات، التي نتوارى منها, والتي خلقت الفجوة العميقة بين النظريَّة والتطبيق.. الغريبُ في الأمر، أن الكاتِب الكبير نفسه جسَّد ذلك التناقض, فكان ثاني ثلاثة نزلوا ضُيوفاً مُعزَّزين ومُكرَّمين على الذين استنكر نسبهم للأمَّة السُودانِيَّة, وكأنه لَم يقل شيئاً.. وليس ذلك بغريب في ظِل تستر النخب ببدعة ”التسامُح السياسي“ علناً, ومُمارستها نقائضه في السِر.
لا جدال أنَّ مُمارسات الأنظمة الديكتاتوريَّة كانت لها اليَدُ الطولى في تعميق تلك النقائض، فالحُكمُ الدِيكتاتوريُ الأوَّل (1958-1964)، والذي غلبت عليه الصفة الأبويَّة ”البطريركية“ - كما ذكرنا من قبل- قام بوضع حجر الأساس لظاهرة ”الإعدام السياسي“, والتي طالت عسكريِّين ومدنيِّين، كانت جريمتهم أنهم حاولوا اتباع خُطاهُ، بانقلاب مُضاد لاستلام السُلطَة.. وتحت شعار: ”التطهير واجب وطني“، بدأ أيضاً تطبيق سياسة قطع الأرزاق، بالفصل الجماعي من الخدمة المدنِيَّة والعسكريَّة.. أما الحُكمُ الديكتاتوري الثاني (1969-1985)، فقد بدأ خُطواته في السُلطة بمذابحَ جماعِيَّة، شَمِلَت أيضاً مدنِيِّين وعسكريِّين, في الجزيرة أبا وود نوباوي العام 1970, وألحقها بالإعدامات المأساويَّة في العام 1971.. وفي الحَدِّ الفاصِل بين السُلطتين، حدثت ”مَذبَحَة بيت الضيافة“, التي تفرق فيها دمُ الضُبَّاط المغدورين بين القبائل!! وتكرَّر سيناريو الإعدامات في العام 1975.. ثم جَرَت الدِماءُ أنهاراً في عَمَلٍ مُسلح أخر قامت به بعضُ القوى السياسِيَّة ضدَّ السُلطَة في العام 1976.. وختم النظام العسكري الثاني -”المايوي“- مُمارساته في القتل بإعدامِ الأستاذ محمود مُحَمَّد طه في العام 1985.
أمَّا الحُكمُ الديكتاتوري الثيوقراطِي الثالث -”الإنقاذ“- فقد توسَّع في ثقافة القتل، والعُنفِ والقهر، حتى أصبحت قاعدة له.. ورغم أن النظام تمظهر بالتوجُهات الإسلاميَّة, إلا أنها استندت - في تقديرِنا- إلى نظريَّة ”ألفريد روزنبرج“، مُنظِّر وفيلسُوف النازيَّة الشهير، والتي تقول: «إذا كانت القسوة لازمة فلم لا نستخدمها لإرادتنا الوطنيَّة؟».. وفى ذلك توثيقٌ لحديث أدلى به د. حسن الترابي، أثناء المُناقشات التي كانت تلتئم في سجن كوبر بعد الانقلاب، قال فيه: «إن الشعب السُوداني لن يسلك الطريق القويم إلا بالقَهْرِ»!! وعندما اعترض أحدهم بأن القتل يولِّد الانفِجَار، كان ردُ الترابي: «دَعكَ مِن هذا، فإنَّ القهرَ قد يبدو شاذاً وغريباً في أيامه الأولى، ولكن سُرعانَ ما يَعتاد الناسُ عليه»!! ذلك بالطبع حديثٌ دعم وطوَّر ورسَّخ عملياً نظرِيَّة روزنبرج في الواقع السُوداني.
من المُسَلم به، أن عُنف السُلطة الوطنِيَّة تجاه شعبها، مُمثلاً في مُمارسات الأنظمة الديكتاتوريَّة الثلاثة، يُعدُّ انتهاكاً أخلاقياً فظيعاً, ولا مناص من أن تكراره واستنساخه استند على زيف الواقع فيما سُمِّي بـ”التسامُح السياسٍي السُوداني“.. فأن تكافئ المُجرم على تلك الانتهاكات، عِوَضاً عنِ المُحاسبة، بذريعة ”التسامُح“ نفسه, يِكونُ الوَضعُ آنئذْ ”تسيُّباً سياسِياً“.. فالذي حدث في مُجرَيات الواقع أن ”الشرعيَّة الثوريَّة“، التي اقتلعت الديكتاتوريَّة الأولى في العام 1964، لم تجرؤ على مُحاكمة الذين انتهكوا الدُستور، سواءٌ مَنْ تواطأ على تسليم السُلطة, أو مَنْ استلمَها طائِعاً، أو مُجبراً.. مثلما أنها لم تجرؤ على مُحاسبة مَن ارتكب الجرائم الجنائيَّة.. بل على العكس من ذلك، ذهبوا جميعاً، عسكريِّين ومدنيِّين، لمُواصلَة حياتهِم العاديَّة.. فمنهم من قضي نحبه، ومنهم من ينتظر.. والأمر نفسُه تكرَّر في الانتفاضة التي وضعت حداً للديكتاتوريَّة الثانية في العام 1985, إذ سوَّفت قضيَّة رئيسها المخلوع، ووضعت كل أوزارها في مُحاكماتٍ صُوريَّة لرُموزٍ لم يتعدُّوا أصابع اليد الواحدة، تمَّت مُحاكمتهم بالسجن لفتراتٍ مُختلفة, ورغم بؤس المُحَصِّلة، إلاَّ أنَّ المُدهش فيها جاء به قادة النظامِ الديمقراطي، الوليدُ الشرعي لتلك الانتفاضة, فكان أولُ إنجازاتهم إطلاق سراح أحدهم -”شريف التهامي“- قبل اكتمال التحقيقات في سلسلَة تجاوُزاته الماليَّة, وكان ذلك لأسباب شخصيَّة، بل أسريَّة، نسبة لانتمائه إلى طائفة ”الأنصار“.. وبالطبع استغلت مزاعم ”التسامُح السِياسِي“.. أمَّا العسكريُّون الأربعة، فقد تصالحت ديكتاتوريَّتهم المُنقرضة مع أخرى مُستحدثة.. فبَعدَ أن دانت السُلطة لنظامِ الإنقاذ، عَمَدَ مُباشرة إلى إطلاق سراحهم، مُتعللاً بـ”مَنطِقٍ أخلاقِي“, كما زَعَمَ رئيسُ الانقِلاب فيما ورد ذِكرُه مِن قبل.. والمُفارقَة، أن المنطق الأخلاقيُّ هذا - مع علاَّته- سُرعان ما تضَعْضَعَ في اختبار آخر.. ففي الوقت الذي قامت الديكتاتوريَّة المُستحدَثة بِإطلاق سَراحِهِم, أقدمت في نَفس الوقت على إعدام [28] ضابِطاً، في حركة أبريل ”رمضان“ 1990!! وجريمتهِم كانت أنهم أرادُوا استلام السُلطة بنفس الآليَّة التي اتبعها مُنفِّذو انقلاب الإنقاذ, واستوجبت عفوهم لرُموز الديكتاتوريَّة الثانية!! كذلك تصالحت الديكتاتوريَّتان من بعد، عندما سمح نظامُ الإنقاذ بعودة الرئيس المَخلوُع نميري, ولم يكن مرجُواً أن يقوم بمُحاكمته, لكن إمعاناً في إذلال مشاعر أهل السُودان، شرع في مُمارسة نشاط سياسي تحت مظلة ”تحالُف قوى الشَّعبِ العامِلَة“، وخاض مع الخائضين مهزلة ما سُمِّي بـ”انتخابات رئاسة الجُمهوريَّة“!! وبدافع الحنين، ما زال يُمني النفس باسترجاعِ عقاربُ الساعة للوراء.. ثُم اندمج أخيراً في حزب المُؤتمر الوطنِي الحاكِم!!؟؟
حدث كلُّ هذا في السُودان، الذي كاد أن يكون البلد الفريد الذي يُكافئ المُجرم بِتكريمه, والمُسِيء بالإحسان إليه.. علماً بأن انتهاكات حُقوقِ الإنسان مِن الجرائم التي لا تسقط بالتقادُم, فضلاً عَن أنها أصبحت قضيَّةٌ كونِيَّة لا تَخصُّ شعباً بعينه، أو جنساً مُعيَّناً, وكلنا يَعلمُ أن ثمَّة حُكاماً فاسدين ومُفسدين سيقوا تحت بصر العالم أجمع لمحاكم دوليَّة وإقليميَّة.. مِنهُم سلوبُودان ميلوسِيفتش، وكِبَارُ أركان نِظامِه.. بينوشيه ”شيلي“.. مُحاكمة القادة الرُوانديِّين في تنزَانِيا.. صدَّام حسين ومسؤولين بعثيين.. كل هؤلاء، بغضِّ النظر عن الآلِية التي اقتلعتهم من جُذور السُلطة.
ولأننا قومٌ جُبلنا على تكرار أخطائنا، فالشواهد المَاثِلة تشيرُ إلى أنها في الديكتاتوريَّة الثالثة، رغمَ الفظائع التي ارتكبتها على مدى عقد ونصف, فإن الملف في طريقه لتوسُّد أضابير الأرشيف, بذريعة ”عَفَا الله عَمَّا سَلف“.. المقولَة التي ظلت تغذي باستمرار وهم ”التسَامُحِ السِياسِي“ المزعوم.. وقد مَهَّدَ قادة الإنقاذ لَها بتغيير خطابهم وألسنتهم.. فعلى سبيل المثال، دعا د. نافِع علي نافِع في يوم 28/7/2005 المُثقفين والمُبدعينَ إلى: «المُحافَظة على قيم الأمة السُودانِيَّة ومَوْرُوثاتِهَا الدَاعِمَة لِمُجتمَعِ الحَقِّ والفَضِيلَة»!! وقد جاء حديثه هذا في رَهطٍ مِن المُثقفين والمُبدعِين في احتفالٍ بوزارة الثقافة.. ومَن يتأمَّل المُناسبة، والحُضُور، والمكان يستطيعُ أن يتنبأ بمآل الذين ثبت تورُّطهم فعلاً في ارتِكابِ الجَرائِم المُتعدِّدة في عَهدِ نظام الإنقاذ، وفي طليعتهِم دَاعِيَة ”المُحافَظَةِ على قيمِ الأمَّة“!! المُفارقة أيضاً، أن الإيحاء بتغيير السُلوك والخطابُ واللسان، لا يراعي أحياناً مقتضيات الزمان والمكان، ولا يضعُ اعتباراً لمشاعر البشر.. ففي ذروة الأزمة الإنسانيَّة، التي فتحت فيها ”دارفور“ أبواب جُهنم على نظام الإنقاذ، وجذبت أنظار العالم كله, احتفلت جامعة كردُفان بتخريج 3700 طالب وطالبة في 25/6/2005، وفي تلك المُناسبة، التي حضرها نائبُ الرئيس علي عثمان محمد طه، تمَّ تكريمه بمنحه دكتوراه فخرية في الآداب، ومُنِحَ درع السلام كذلك!!
ليست الأنظمة الديكتاتوريَّة وحدها، فالتخليط في المفهوم وجد أيضاً رواجاً في ظلِّ الأنظمة الديمقراطيَّة، مع قلة فتراتها.. فبالرغم من أن المُمارسة السياسيَّة خلالها ابتعدت عن ثقافَة القهر والعُنفِ, إلاَّ أن المفهوم اتخذ أشكالاً أخرى، أقرَبُ إلى ”الاستِغفالُ السِياسِي“ والسذاجة, حَيثُ تَعرَّضت الحُقوقُ الأساسيَّة للمُزايدات والتآمُر, وطغت المصالح الشخصيَّة على المصالح الوطنيَّة, وبهذا المعنى فلنتأمَّل رُؤى النخَبُ السياسيَّة في توصيفِ عِلاقتها حينما تتبدَّل الأمكنة وتتغيَّر كراسِي السُلطة.
بعد أن أصبَحَ سِجنُ كوبَر نزلاً جديداً لمُعظم القيادات السياسيَّة والنقابِيَّة والعسكريَّة، بعد انقلاب الثَلاثين مِن يونيو/حزيران 1989, وجدت هذه القيادات نفسها تتنفَّسُ ”حَميميَّة“ المُعتقل، وتعيشُ حياة أخرى، بعد أن أدْبَرَت السُلطة عن بعضها.. فبعد شُهورٍ قضوها في السجن، أفصحوا عن انطباعاتهِم حول تلك الفترة بأحاديث تفجَّرت فيها العواطف أنهاراً.. ففي أوَّل حِوارٍ له، قال السيد الصادق المهدي: «السيد الميرغني جمعتني بِه ظروفٌ ما كان مُمكناً أن تحدُث إلاَّ في الظُروف التي حدثت, وبقينا معاً ستة أشهُر في غُرفة واحدَة, مما أتاح لنا فُرصة نادرة ونحنُ آتون من خلفيات عدائية ذات مَرارَات تارِيِخية وأوهام, أتاحت لنا الفرصة إزالة كلِّ المَراراتِ والأوهام التاريخية.. أعتقِدُ أن هذا اللقاء بصورته التي تَمت من أكثر الإيجابيات التي حدثت في الحياة العامة».. ومن جانبه، كان السيد مُحَمَّد عُثمان الميرغني قد سبقه إلى ذلك، في أوَّل حديث له أيضاً: «قَد كانت فترة السجن التي أمضيناها معاً (أي مَع المَهدِي) ومعنا السيِّد مُحَمَّد إبراهيم نُقد، وسيد أحمَد الحُسين، وكلُّ القيادات السياسية والنقابية فَترة مُفاكرة ومُراجعة ودراسة».. وبعد سنين من هذا الانطباع، قال أيضاً: «القواسم المُشتركة بيننا والصادق المهدي كثيرة، تعددت منذ اعتقالنا في سجن كوبر بواسطة سلطات الجبهة الترابية, ولقد كان لإقامتنا في غرفة واحدة على مدى أكثر من خمسة أشهُر داخل السجن أثرٌ كبيرٌ، حيث أتيحت لنا فُرصة بحث قَضايا الوطن، والاتفاق حول الرؤى المُستقبلية للبلاد»..
ونظر السيِّد مُحَمَّد إبراهيم نُقد لتلك الفترة بمنظورٍ تَشخِيصِي, ففي أوَّل حديث لهُ - كذلك- قال: «كان السيد محمد عثمان الميرغني يتنقل بزياراته الودودة بين المُعتقلين ببساطَة نادرَة, وكان السيد الصادق المهدي كَثير القراءة, كثير الكتابة - كعادته- وكَثير النشاط الرياضي والسياسي أيضاً».. وبعد أن تسرَّبت إعلامياً أنباءُ زيارة ”غريبة“ - على حدِّ وصفِ الصَحيفَة- قام بها د. حسن الترابي إلى منزل السيد مُحَمَّد إبراهيم نُقد، قالَ عنها الأخير: «إن زِيارة الترابي لمنزله هي الثانية مُنذُ عام 1950، تَاريخ تَخرجهما مِن مدرسة حنتوب الثانوِية, إن الزيارة الأولى كانت العام قبل الماضي, إذ إن الترابِي كان من أوائل المُهنئين له بخروجه من المُعتَقل في 30/4/1991».. ودونما أدنى حاجة للوغَريثمات السياسة, تشاءُ تصاريف القدر، والسياسة السُودانيَّة، أن تتغيَّر المُعادلات, إذ أصبح السجَّان سجيناً, وتوارى فيها السَجينُ السابق عن الأنظار، وسجن نفسه بنفسه - أيا كانت المُبرِّرات- فقام السيِّد نُقد برَدِّ تلك الزيارة ”الغريبة“ بزيارة ”يتيمة“ بعد عقد ونصفُ العقد من الزمن في 10/7/2005، وزار الترابي في منزله لتَهنئته بإطلاق سراحه من السجن!! وكذلك فعل السيد الصَادِق، وإن لم تخضَع زيارته للعدِّ والإحصاء, ومن على البُعدِ وجَّه الميرغني مَن ينوبُ عنه!! وكما ذكرنا مِن قبل، فإن اعتقال الميرغني في كوبر، وهو الأوَّل في حياته، كان قد أوغر صدره بمشاعر سالبة تجاه الترابي تحديداً، لقناعته بأنه هو مَن أوصَى بسَجنِه, وقد عبَّر عن ذلك غامِزاً ذات مرَّة: «الترابي يرفض ويُعادي كل شيء أكبر منه».. وهو كثيراً ما ذَكر ذلك صراحة لبعض خاصَّته في الصَوالين المُغلقة.. ومع كلِّ ذلك، ففترة السجن تلك قد أحدثت تحولاً حقيقِياً في حياته, وبموجبها زجَّ بنفسه في أتون النشاط السِياسِي المُباشر، وبشكله التنظيمي الذي لَم يألفه قبلاً.
أما في جانب رُموز السُلطة، التي اغتصبت الحُكم من أولَئك, فلا يكتفي الفَريقُ البشير بسجنهم, وإنما بالإمعانِ في الإساءة إليهم وتجريحهم.. انظر إلى قوله مثلاً حَولَ مُلابسات تلك الفترة: «تَعاملنا بشكل جيِّد مع القيادات الشمالية منذ البداية, وأقَدِّمُ مثالاً مُحَمَّد عُثمان الميرغني، حين قامت الثورة توجهت وحدة أمنية لتفتيش بيِته, ورغم علمهم أنه في القسم النسائي، لم يدخلوا البيت, وإنما طلبنا بعد أيام من المُقربينَ أن يخرُج من هذا القسم, ونقَلته سيارة إلى سجن كوبر, الذي تم تركيب مكيفات داخله، للمرة الأولى في تاريخه, وكان ذلك في شهر يوليو الحار».. وفى واقع الأمر، الرئيس المذكور ضرب رقماً قياسياً من بين أهل الإنقاذ في الاغترافِ مِن قاموس الإساءة، إلى حدُّ التجريح.. فعلى سبيلُ المثال، عند افتتاحه مصفاة ”بشائر“ في 29/8/1999، دعا المُعارضين إلى: «الاغتسال في مياه البحرِ الأحمر، لإزالة ”نجاستهم“ من الخُمور التي يَحتسُونها في حاناتِ أسمرا وفَنادقها».. مثلما دعاهم من قبل للمُنازلة بالبُندقِيَّة إن أرادوا السُلطَة!!؟؟ لكن خطاب الإساءة ذاك، لم يقتصر على مُعارضيه, فَقد شَمِل حتى الذي أوصَله للسُلطة، وجَعَلهُ حاكِماً.. ففي مشهد اقشعرَّ له البدن، ويندر أن يقوم به رئيسُ دولة ”مُنتخب“, مَدَّ البشير يده نحو نحره وهو يُخاطبُ جمعاً من الناس، بعد اعتقال الترابي بتهمة التخطيط لانقلابٍ، وقالَ إنه: «يستاهل الضبح وليس الاعتقال».. أي الذبح باللهجة السُودانِيَّة العامِّية!! الترابي من جانبه قال، في مؤتمرٍ صحفي عقده يوم 2/7/2005، بعد إطلاقِ سَراحِه, وقدَّم فيه ”جَرْداً“ للعلاقة بينه والآخرين، بعد المُفاصَلة المَعرُوفَة، فقال: «أحَدَهُما قابَلتُه في مُناسَبات اجتِماعِيَّة، ونَتصافَحُ (يَقصِدُ البَشير)، أما الآخَر (ويَقصِدُ به علي عُثمان طه) فيتحاشَى، أو رُبما يتحاشى كلانا الآخر, ربما هُو يتحاشاني حَيَاءً مِما فعَلَ, فَقَد كانَ قَريباً مِني لدرجة لصيقَة».
في محور آخر، اختصَّ بزُمرة المُثقفين والإعلاميِّين، طلائِع حملة تنوير المُجتمع, فقد ظلوا أيضاً يُروِّجون لبدعة ”التسامُح السِياسِي“، في الوقت الذي كانت فيه أقلامهم تنهشُ في لَحمه, وترَضرِض في عظامه، في معارك - بكل ما تعني الكلمة مِن فظاظة لغويَّة- نشبت بين بعضهم.. كانَ مُفترضاً أن تكرَّس لاحترام الرأي، والرأي الآخر, وتؤكد مبدأ الحوار الديمقراطي الحُر, وتنتجُ فكراً مُثمراً.. لكنها كانت على عكس ذلك, ودونما أدنى تعسُّفٍ بأحكامٍ مُسبَّقة.. ولعلَّ شواهد الواقع تزكي د. مَنصُور خَالِد في هذا المِضمار، ليسَ لتعدُّد خلافاته أو - إن شِئتَ- ”معاركه“ مع الآخرين, ولكن نظراً لمُغالاته في تسفيه آراء غيره، إن لم توافق هواه.. ولأنه مسكونٌ بـ”فوبيا“ التآمُر على شخصه, ولمُكابَرته في نفي سلبيَّاته، وإلقائها على الآخرين، فكثيراً ما أفقد قلمه وقاره، وشَارَكَ سابقيه في الاغتِرافِ مِن قامُوس الإساءة.. وآخر نماذجه في هذا الصدد، ما دار بينه وبين د. إبراهيم الشُوش، على صفحات صحيفة ”الرأي العام“ 3/7/2004، فقد زاد على التهكم من المذكور, بالإساءة والتجريح، الذي شمل حتى العُيوب الخِلقِيَّة التي يَبتلِي بها رَبُّ العالمينَ بَعضُ خَلقه، فكتب: «لعلَ الذي قرأ ما كتبناه بعقل مفتوح، وعين بصيرة, لا بعقل مَسدود، وعَيْن مُطفأة...» إلخ.. وشَمِلَ أيضاً وسْمَاً مَطرُوحاً على خَدِّ المَذكور: «البلوى أن يكون أبوسُفيان مشلخاً..», وهو يَعلمُ بأنَّ حَامِله، وآخرين مِثلُه مِن أهل ”السُودان القديم“، لم يكونوا مُخيَّرين فيه, وكان مُحتملاً أن تطبع على خَدَّيهِ هو أيضاً!؟ لكن المُهم، أن هذا وذاك ليس له أدنى صلَة بالرَأي الذي طرحه د. الشُوش, والذي جاراه أيضاً بذاتِ الأسلوب, إذ تركَ جوهر الموضوع، وانشغل مثله بسفاسف الأمُور، في السُخرية من خلقه، فوصفه بـ”القرد الأمرَد“ وأشياء أُخَر (الرأي العام 6/7/2004).. وعلى ذاك النحو تسابق المُتهاترون، حملة لواء التغيير في المُجتمَع، نحو قيم الحُريَّة والديمقراطِيَّة وحُقوقِ الإنسان.. وكأنا بهم أرادُوا التأكيد على مقولَة أنَّ ”فاقِدُ الشَيء لا يُعطِيه“.
في المجال الإعلامي، كان يُمكِن الاكتفاء بنَماذِج السُوء في الفترَة الديمقراطِيَّة الأخيرة, أي صُحُف الجبهة الإسلامِيَّة الصفراء, وخاصَّة ”ألوان“ و”الرَايَة“ وما شابههما.. لكِن ما كتبه مُحَمَّد طَهَ مُحَمَّد أحمَد قد اختصر الطريق في النموذج، وفاقَ كل تصوُّر، ليس لأن مَن سَمَحَ بنشره هو نِظامُ دولة ”المشروعُ الحَضارِي“، كما ظلوا يُردِّدون, ولكن لأن كاتبه كان ذاتَ يومٍ أحدُ الحَواريِّين المُطيعينَ لمُرشِد الحركة الإسلامِيَّة نفسها, وكانَ مِن الوَلاء لهُ لدَرَجة أنه لو قال لهُ وقتها: ”إرمِ بنفسك في البحر“، لفَعَلَ دُون أن يَسألَ عَن الأسباب.. عِلماً بأن العبارات التي ذكرها في صحيفته، وتحايل عليها بوضع فراغات، وقال إن مُتظاهِرينَ حانِقينَ على د. الترابِي ردَّدوها في تظاهرة بعد المُفاصلة, هي كلِمات يعفُّ القلمُ عن إعادة تسطيرها, وتأبَى النفسُ السويَّة عن ترديدها، الأمر الذي حدا بابنِ الترابي -”عِصام“- إلى أن يقود لواء الثأر لوالده، بطريقته الخاصَّة, فذهب إلى الصحيفة مُتأبِّطاً مُسدَّسهُ، وبِِصُحبة حَرَسِه الخاص, وأوسَعَ ”طهَ“ ضَرباً، حتى كادَ أن يُزهِقَ رُوحه!! وفى مِثلِ هذه الحالات، يَسودَنَّ ”التسامُحِ السياسِي“, عبر طريقة ”الأجاويد“ السُودانية المعروفة, وهم - كما نَعلمُ- الوُسطاء الذين يُوقظونَ المفهوم النائم مِن مَرقدِه، كلما أظلمت ليالي حدث ما.. لكن الأمر، لو كانوا يعلمون، أصبح أبعد مِن دائرة صانعيه, فقد طالَ شَرف المهنة, ومسَّ الضوابط الأخلاقيَّة للمُجتمع, وأصابَ بدعَة ”التسامُح السِياسِي“ في مقتل.
هبْ أنَّ ما كتبه ”طهَ“ قد حَدَثَ في عَهدٍ ديمقراطي, هل كانَ يُمكن لناشطٍ شيوعي أن يثأرَ لتاريخ حزبه, ويُطالبُ بإقصاء الجَبهَة الإسلامِيَّة مِن الحياة السياسيَّة، بدواعٍ أخلاقِيَّة, مثلما فَعَلت هي ذاتَ يوم عندما حاكت لهُ حادثة طالبِ اتحاد المُعلمين ”شَوقي“، وقادَت حملة إقصائه من الحياة السياسيَّة بدَواعٍ دينِيَّة؟! تِلكَ مُجَرَّد خاطرةٍ في تاريخنا الذي تتشابه أحداثه, وإذا قلنا إنها تتكرَّر، فلن نكون قد أتينا بجديد!!
كنا قد ذكرنا مِن قبل أن سُلطة الإنقاذ حطمت صنمها الذي صنعته بيدها، والمُسمَّى بـ”المشروعُ الحَضَارِي“, وقد ابتدرت التحطيم ببدعةٍ أخرى، سمَّتها ”هامِش الحُريَّات“.. ورغم ضيق المُسمَّى لغوِياً وواقعياً, إلاَّ أن سُلطة الإنقاذِ استغلته لنفسها، واستلزم ذلك تغييراً في الخطابِ السياسي والإعلامي, دُونما اكتراث، لتضادِّه مع الخطاب القديم، وتخلل ذلك دعوة مُكثفة لمُعارِضيها للعَودة إلى رِحَابِ الوطن, ومُمَارَسة كافة حقوقهم السياسيَّة مِن الداخل, ولكنها لم تجهر بشرطٍ كانَ يقفُ مِن وَراء تلك التنازُلات, وهو ضَرورَة ”نِسيانِ“ كل مُمارساتها السابقة، بما في ذلك الانتهاكات المُتعدِّدة, تحت مظلة الشعار المُضَلل ”عَفا اللهُ عَمَّا سَلَفْ“.. ولَم يكن الذين أدمنوا الطِواف حول كعبة ”التسامُح السياسِي“ المزعوم في حاجة لتذكيرهِم بذلك, فَهَرَعوا مُسرِعين نحو الدَاعِي، بَحثاً عَن مَجدٍ مُرتجَى، شخصياً كانَ أم حِزبِياً، وغيَّروا مِن مُفرَدات لغة خطابهم بسُرعة البَرق.. وآخَرين استبدلوا أحْبَارَ أقلامهم الحَمراءَ، بأخرَى خَضراء, وطفقوا يَتحدَّثون عَن محاسِن نظامٍ كالوا لهُ بالأمس القريب أطناناً مِن النقدِ والتقريع, وبَعدئذٍ ”اكتشفوا“ جميعاً أن المسرحيَّة لَم تكن سوى طلاء جديد على وجه صَدِئ.. ولهذا، لم يُباِح صدى صَوتهم المسافة بين حناجرهم وطِبالُ آذانهم.. وبذا كسب الجَاني الجَولة، بعد أن أوقعهُم في حبائله.
سَواءٌُ لإغراء هامشِ الحُريَّات المذكور، أو لأسبابٍ أخرى, كان حزبُ الأمَّة سبَّاقاً في مُغادَرَة حَظيرة المُعارضة، والاتجاه نحو الخُرطوم.. والمُفارقَة، أنه قبيل ذَلك التحوُّل، كان السيد الصَادِق المهدِي، رئيس الحزب، قد هيأ المناخ لدعمِ الشرط الذي لم يقلهُ أهلُ الإنقاذ، في ضرورة ”نِسيان“ مُمارساتهم البَشِعَة, فاقترح في إحدى مَنحُوتاته اللغويَّة ما أسماهُ بـ”العَفوِ المُتبادَل“، وقد أثار التعبير حفيظة كثير مِن المُراقبين، لَيسَ لأنه ساوَى بين الضحيَّة والجَلاَّد, ولكن لأنه جاء مُعمَّماً، دون تفصيلٍ، أو توضيحٍ, ورسَّخ انطباعاً بأنه يقدِّم لأهل الإنقاذ طوقُ نجاةٍ بمقايضة بائسة.. وبالطبع لم يجد التعبير سنداً، ولا رواجاً، ودخل دائرة النسيان، شأنه في ذلك شأنُ الكثير من المنحُوتات اللغويَّة التي ظلَّ السيد الصَادِق يُتحِفُ بها الساحة السياسيَّة، لأكثر مِن أربعة عقودٍ زمنيَّة.. ولعله لا يَعلمُ بأنه نفسه سببُ كسادها, ذلك لأن أي مقترح له يجُبُّ ما قبلهُ, فأصبَحَ الأمرُ لا يعدو أن يكون إبرازاً لملكاته الثقافيَّة, أكثر من كونه تعبيراً حقيقياً لمكنوناته، ومواقفه، ومبادئه السياسيَّة.
لأسبابٍ لا تخفى على أحدٍ، يُعتبرُ السيد مُحَمَّد عُثمان الميرغني أقل اجتهاداً في نحت مثل تلك المُقترحات الجدليَّة, لغوِياً وسياسياً.. غَيرَ أنه حينما فَعَلها مَرَّة، في خِضَم اشتدادِ الصِراع المُسَلح بَينَ النظامٍ ومُعارِضيه، الذين يَرأسُ كيانهم التنظيمي, استنهض الظاهرة فيه بصُورتها السلبِيَّة.. ففي كلمته التي افتتحَ بها اجتماعُ هيئة القيادة في أسمرا مارس/آذار1997، وجَّه رسالة مُختصرة للنظام في الخُرطوم، بقوله: «سَلِّمْ تَسْلَمْ», ويبدو أن السيد الميرغني اعتبر أن عبارته السحريَّة تلك تنطوي على لغز حل الأزمة المُستحكمة, فظلَّ يُردِّدها في كل محفلٍ, ولم يجد في ”مُستشاريه“ من يقول لهُ: يا مَولاي.. لقد جئتَ شيئاً إدَّا، إذ أن قولك هذا خرق الميثاقُ الذي وقعنا عَلَيْهِ لِلتوِّ في مُقرَّرات أسمرا، قبل أن يجف حبرها.. ومِن ضِمنِها: «مُحاسبة ومُحاكمة كل مَن تسببَ في تقويض النِظامُ الديمقراطي القَائم حتى 29 يونيو/حزيران 1989، أو عمل على تمكين واستمرار النظام العسكري, وذلك أمَامَ القضاء المُستقل“».. بل لم يجد من بين الحُلَفاء من يقول لهُ: «إن حربُنا التي نخُوضُها ضد النظامِ هي ”استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى“».. مثلما قالها الجنرال الألماني الشهير ”كارل فون كلاوزوفينتر“.. بالتالي، فإن قامُوسها لا يحتملُ مثل ذلك السَجع, لأن أقوالنا ستناقضُ أفعالنا.. المُفارقة - التي سنتعرَّضُ لها في المحاورُ القادمة- أنه عندما لَم يستجب النظامُ لدعوة الميرغني, آثرَ أن يُطبقها على نفسه، وفي معيَّته الكيانُ المُعارِض برُمَّته، ليس مُستسلماً فحَسْب، وإنما مُشارِكاً النظام الذي طالبه هو قبلاً بالتسليمِ!! وليس في الأمر عَجَبٌ، فتلك من تجليات النخبة السياسيَّة, التي تجعلُ من ”المُمكِن“ مُستحيلاً, ومِنَ ”المُستحيل“ مُمكِناً.. فهي تتدثر ببدعة ما أسمتهُ بـ”التسامُحِ السياسِي“ السُودانِي, وتمارسه كيفما اتفق.
بَيْدَ أنَّ هنالك مَن اجتهد، ورَغِبَ في تحطيمِ تلك الأسطورة, وَوَضْعِها في إطارٍ إيجابِي، كاختبارٍ حقيقي لمفهومِ ”التسامُح السياسِي“, وجرت مُلابسات ذَلك في الظروفِ التي ذكرنا فيها أن النظام، لدَواعٍ خاصَّة، ابتدَعَ ما أسماه بـ”هامِشِ الحُرِيَّات“، وبدأ يدعُو مُعارِضيه للعودة، ومُمارسة أنشطتهم السياسيَّة مِن داخل البلاد، تحت مظلة ما أسمَاهُ أيضاً بـ”الوِفاقُ الوَطنِي“.. بناء على ذلك، تقدَّم ”د. فاروق محمد إبراهيم“ بمقترحٍ، ولأسبابٍ سيكتشفها القارِئ بنفسه، لَم يَجرُؤ نِظامُ الإنقاذِ عَلى قبول مقترحه، رغماً عن معقوليته.. وللذين لا يعلمون، فإن د. فاروق أستاذ للعُلوم بجامعة الخُرطوم، وكان من أوائل الذين استهدفهُم النِظامُ في بواكير عهده بتعذيبٍ مُهين.. والأنكى، أن تلميذه - وزميله في الجامعة من بعد- د. نافِع علي نافِع، كان ثاني اثنين قاما بذلك الفعل القبيح!! أقدما على تنفِيذه بوعيٍ كامِل، لعِلمِهم بالشخصِ المَعني, وهو مُرَبٍ في المقامِ الأوَّل, عَلى يَدِه تعلمت وتخرَّجت أجيالٌ, وقد ظلَّ طوال حياته - وما فتئ- يُمارس السياسة بزُهد المُتصوِّفة.. مثالٌ للتجرُّد والطهر وعفة اللسانِ, مُتصالحاً مع أفكاره ومبادئه.. إن خالفك الرأي، احترم وجهة نظرك, وإن اتَّفقَ مَعَكَ استصوَبَ رأيك.. ويبدو أن هذه الصفاتُ مُجتمعة هي التي استثارَت د. نَافِع في الإقدامِ على تنفيذ فعلته!! وفيما يلي نوردُ النص الكامل لمُذكرته التي أرسلها من مقرِّه في القاهرة، إلى رئيس نظام الإنقاذ.. وترجعُ أهميَّة هذه الوثيقة إلى أنها احتوَت على كل البيِّناتِ القانونِيَّة والسياسيَّة والأخلاقِيَّة التي تَجعل منها نموذجاً في الأدَبِ السياسي, وفَيْصَلاً مثالِياً لقضيَّة يتوقفُ عليها استقامة المُمارسة السياسيَّة السُودانِيَّة, وتعدُّ أيضاً اختباراً حقيقياً لمفهومِ ”التسَامُحِ“، إن رَغِبَ أهلُ السُودان، وسَاسته بصفة خاصَّة، في استمرار العيشِ في ظله.. كذلك فإن المُذكرة، بذات القدر الذي قدَّمت فيه خيارات لتبرئَة جراح ضحايا نظام الإنقاذ, أعطت الجاني فرصة للتطهُّر من جرائمه بأفعالٍ حقيقيَّة، أدناها الاعترافُ بفداحة جُرمِه.. وما لا نشُك فيه مُطلقاً، أن فرائص القارِئ حتماً سترتعدُ وهو يُتابعُ وقائع الجُرمِ، خِلالَ سُطورِ هذه المُذكرة, رغم أن طولِ الجرح يُغري بالتناسي، على حد قول الشَاعِر!!
القاهرة 13/11/2000م
السيد الفريق/ عمر حسن البشير رئيس الجمهورية ـ رئيس حزب المؤتمر الوطني بواسطة السيد/ أحمد عبدالحليم ـ سفير السودان بالقاهرة المحترمين
تحية طيبة وبعد
الموضوع: تسوية حالات التعذيب تمهيداً للوفاق بمبدأ ”الحقيقة والتعافي“ على غرار جنوب أفريقيا ـ حالة اختبارية ـ
على الرغم من أن الإشارات المتعارضة الصادرة عنكم بصدد الوفاق الوطني ودعوتكم المعارضين للعودة وممارسة كافة حقوقهم السياسية من داخل أرض الوطن, فإنني أستجيب لتلك الدعوة بمنتهى الجدية, وأسعى لاستكمالها بحيث يتاح المناخ الصحي الملائم لي وللآلاف من ضحايا التعذيب داخل الوطن وخارجه أن يستجيبوا لها, ولن يكون ذلك طبعا إلا على أساس العدل والحق وحكم القانون.
إنني أرفق صورة الشكوى التي بعثت بها لسيادتكم من داخل السجن العمومي بالخرطوم بحري بتاريخ 29/1/1990, وهى تحوي تفاصيل بعض ما تعرضت له من تعذيب وأسماء بعض من قاموا به, مطالبا بإطلاق سراحي وإجراء التحقيق اللازم, ومحاكمة من تثبت إدانتهم بممارسة تلك الجريمة المنافية للعرف والأخلاق والدين والقانون. تلك المذكرة التي قمت بتسريبها في نفس الوقت لزملائي أساتذة جامعة الخرطوم وأبنائي الطلبة الذين قاموا بنشرها في ذات الوقت على النطاقين الوطني والعالمي, ما أدى لحملة تضامن واسعة أطلق سراحي إثرها, بينما أغفل أمر التحقيق الذي طالبت به تماما. وهكذا ظل مرتكبو تلك الجريمة طليقي السراح, وتوالى سقوط ضحايا التعذيب بأيديهم وتحت إمرتهم, منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, فلا يعقل والحال على هذا المنوال أن يطلب مني ومن الألوف الذين استبيحت أموالهم وأعراضهم ودماؤهم وأرواح ذويهم, هكذا ببساطة أن يعودوا لممارسة ”كافة“حقوقهم السياسية وكأن شيئا لم يكن.
إن ما يميز تجربة التعذيب الذي تعرضت له في الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر 1989م ببيت الأشباح رقم واحد الذي أقيم في المقر السابق للجنة الانتخابات أن الذين قاموا به ليسوا فقط أشخاصا ملثمين بلا هوية تخفوا بالأقنعة, وإنما كان على رأسهم اللواء بكري حسن صالح وزير الدفاع الراهن ورئيس جهاز الأمن حينئذ, والدكتور نافع علي نافع الوزير ورئيس جهاز حزب المؤتمر الوطني الحاكم اليوم ومدير جهاز الأمن حينئذ, وكما ذكرت في الشكوى المرفقة التي تقدمت لكم بها بتاريخ 29 يناير 1990 من داخل السجن العمومي وأرفقت نسخة منها لعناية اللواء بكري, فقد جابهني اللواء بكري شخصياً وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي, ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم, كما قام حارسه بضربي في وجوده, ولم يتجشم الدكتور نافع, تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم, عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الجمعية العمومية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم, وعن زمان ومكان انعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة, ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص - كما ورد في مذكرتي- وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة. على أي حال فإن المكانة الرفيعة التي يحتلها هذان السيدان في النظام من ناحية, وثبات تلك التهم من ناحية ثانية, يجعل حالة التعذيب هذه من الوضوح بحيث تصلح أنموذجا يتم على نسقه العمل لتسوية قضايا التعذيب, على غرار ما فعلته لجنة الحقيقة والوفاق الخاصة بجرائم النظام العنصري في جنوب أفريقيا.
قبل الاسترسال فإنني أورد بعض الأدلة التي لا يمكن دحضها تأكيدا لما سلف ذكره:- • أولاً: تم تسليم صورة من الشكوى التي تقدمت لسيادتكم بها للمسئولين المذكورة أسماؤهم بها, وعلى رأسهم اللواء بكري حسن صالح. وقد أفرج عني بعد أقل من شهر من تاريخ المذكرة. ولو كان هناك أدنى شك في صحة ما ورد فيها - خاصة عن السيد بكري شخصياً- لما حدث ذلك, ولكنت أنا موضع الاتهام, لا هو. • ثانيا: أحال مدير السجن العمومي مجموعة الثمانية عشر القادمة معي من بيت الأشباح رقم واحد بتاريخ 12 ديسمبر 1989 إلى طبيب السجن الذي كتب تقريرا مفصلاً عن حالة كل واحد منا, تحصَّلت عليه وقامت بنشره منظمة العفو الدولية في حينه. وقد أبدى طبيب السجن ومديره وغيرهم من الضباط استياءهم واستنكارهم الشديد لذلك المشهد الذي لا يكاد يصدق. وكان من بين أفراد تلك المجموعة كما جاء في الشكوى نائب رئيس اتحاد العمال الأستاذ محجوب الزبير وسكرتير نقابة المحامين الأستاذ صادق شامي الموجودان حاليا بالخرطوم, ونقيب المهندسين الأستاذ هاشم محمد أحمد الموجود حاليا ببريطانيا, والدكتور طارق إسماعيل الأستاذ بكلية الطب بجامعة الخرطوم, وغيرهم ممن تعرضوا لتجارب مماثلة, وهم شهود على كل ما جرى بما خبروه وشاهدوه وسمعوه. • ثالثا: إن جميع قادة المعارضة الذين كانوا في السجن حينئذ, السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع الوطني الديمقراطي والسيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة والسيد سيد أحمد الحسين زعيم الحزب الاتحادي والسيدان محمد إبراهيم نُقُد والتيجاني الطيب زعيما الشيوعي وغيرهم, كلهم شهود بنفس القدر, وكما يعلم الجميع فقد تعرض السيدان الصادق المهدي وسيد أحمد الحسين وغيرهم من قادة المعارضة لنفس التعذيب على أيدي نفس الأشخاص أو بأمرهم وكتبوا شكاوى مماثلة. • رابعا: قام بزيارتي في السجن العمومي بالخرطوم بحري بعد انتقالي إليه مباشرة الفريق إسحق إبراهيم عمر رئيس الأركان وقتها بصحبة نوابه, فشاهد آثار التعذيب واستمع لروايتي كاملة, كذلك فعل كثيرون غيره. • خامسا: تم اعتقال مراسل الفاينانشيال تايمز السيد بيتر أوزين الذي كان خطابي بحوزته, فكتب صفحة كاملة دامغة في صحيفته العالمية المرموقة عن ما تعرضت له وتعرض له غيري من تعذيب, وعن محادثته الدامغة مع المسئولين عن تلك الانتهاكات وعن تجربته الشخصية.
إنني أكتفي فيما يخص حالتي بهذا القدر من الأدلة الدامغة, ومع أن هذا الخطاب يقتصر كما يدل عنوانه على تجربتي كحالة اختبارية, إلا أن الواجب يقتضي أن أدرج حالة موظف وزارة الإسكان السابق المهندس بدر الدين إدريس التي كنت شاهدا عليها, وكما جاء في ردي على دعوة نائب رئيس المجلس الوطني المنحل الأستاذ عبدالعزيز شدو للمشاركة في حوار التوالي السياسي بتاريخ 18 أكتوبر 1998 (مرفق), فقد تعرض ذلك الشاب لتعذيب لا أخلاقي شديد البشاعة, ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فقد عقله وقام بذبح زوجته ووالدها وآخرين من أسرته. كان في ثبات وصمود ذلك الشاب الهاش الباش الوسيم الأسمر الفارع الطول تجسيد لكرامة وفحولة وعزة أهل السودان. وكان أحد الجنود الأشد قسوة - لا أدري إن كان اسم حماد الذي أطلق عليه حقيقياً- يدير كرباجه على رقبتينا وجسدينا نحن الاثنين في شبق. وفي إحدى المرات اخرج بدرالدين من بيننا ثم أعيد لنا بعد ساعات مذهولاً أبكم مكتئبا محطما كسير القلب. ولم تتأكد لي المأساة التي حلت بِبَدرالدين منذ أن رأيته ليلة مغادرتنا لبيت الأشباح منتصف ليلة 12 ديسمبر 1989 إلا عند اطلاعي على إحدى نشرات المجموعة السودانية لضحايا التعذيب هذا الأسبوع, ويقتضي الواجب أن أسرد تلك اللحظات من حياته وأنقلها لمن تبقى من أسرته, فكيف بالله نتداول حول الوفاق الوطني بينما تبقى مثل هذه الأحداث معلقة هكذا بلا مساءلة.
أعود لمبدأ تسوية حالات التعذيب على أساس النموذج الجنوب أفريقي, وأطرح ثلاثة خيارات متاحة لي للتسوية.
الخيار الأول الحقيقة أولا, ثم الاعتذار و”التعافي المتبادل“ بتعبير السيد الصادق المهدي
هذا النموذج الذي تم تطبيقه في جنوب أفريقيا. إن المفهوم الديني والأخلاقي للعفو هو الأساس الذي تتم بموجبه التسوية, ويختلط لدى الكثيرين مبدأ العفو مع مبدأ سريان حكم القانون ومع التعافي المتبادل. فكما ذكرت في خطابي المرفق للسيد عبدالعزيز شدو فإنني أعفو بالمعنى الديني والأخلاقي عن كل من ارتكب جرما في حقي, بما في ذلك السيدان بكري ونافع, بمعنى أنني لا أبادلهما الكراهية والحقد, ولا أدعو لهما إلا بالهداية, ولا أسعى للانتقام والثأر منهما, ولا أطلب لشخصي أو لهم إلا العدل وحكم القانون. وأشهد أن هذا الموقف الذي قلبنا كل جوانبه في لحظات الصدق بين الحياة والموت كان موقف كل الزملاء الذين كانوا معي في بيت الأشباح رقم واحد, تقبلوه وآمنوا به برغم المعاناة وفى ذروة لحظات التعذيب. إن العفو لا يتحدد بموقف الجلاد ولا بمدى بشاعة الجرم المرتكب, وإنما يتعلق بكرامة وإنسانية من يتسامى ويرفض الانحدار لمستنقع الجلادين, فيتميز تميزا خلقيا ودينيا تاما عنهم. فإذا ما استيقظ ضمير الجلاد وأبدى ندما حقيقيا على ما ارتكب من إثم, واعتذر اعتذارا صادقا عن جرمه, فإن الذي يتسامى يكون أقرب إلى الاكتفاء بذلك وإلى التنازل عن الحق المدني القانوني وعن المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به, بهذا يتحقق التعافي المتبادل. هذا هو الأساس الذي تمت بموجبه تسوية معظم حالات التعذيب والجرائم التي ارتكبها عنصريو جنوب أفريقيا ضد مواطنيهم.
إنني انطلاقا من نفس المفهوم أدعو السيدين بكري ونافع ألا تأخذهما العزة بالإثم, أن يعترفا ويعلنا حقيقة ما اقترفاه بحقي وبحق المهندس بدرالدين إدريس في بيت الأشباح رقم واحد, وأن يبديا ندما وأسفا حقيقيا, أن يعتذرا اعتذارا بينا معلنا في أجهزة الإعلام, وأن يضربا المثل والقدوة لمن غرروا بهم وشاركوهم ممارسة التعذيب, وائتمروا بأمرهم. حين ذلك فقط يتحقق التعافي وأتنازل عن كافة حقوقي, ولا يكون هناك داعيا للجوء للمحاكم المدنية, ويصبح ملف التعذيب المتعلق بشخصي مغلقا تماما. ولنأمل أن يتقبل أولياء الدم في حالة المهندس بدر الدين إدريس بالحل على نفس المنوال.
لقد أعلن السيد إبراهيم السنوسي مؤخرا اعترافه بممارسة التعذيب طالبا لمغفرة الله. وهذا بالطبع لا يفي ولا يفيد. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, ولا يليق أن يصبح أمر التعذيب الذي انقلب على من أدخلوه وبرروه أن يكون موضوعا للمزايدة والمكايدة الحزبية. إن الصدق مع النفس ومع الآخرين والاعتذار المعلن بكل الصدق لكل من أسيء إليه وامتهنت كرامته, وطلب العفو والغفران, هو الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق بكرامة, فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله. وإن طريق التعافي المتبادل هو الأقرب إلى التقوى. فإذا ما خلصت النيات وسار جناحا المؤتمر الوطني والشعبي لخلاص وإنقاذ أنفسهم من خطيئة ولعنة التعذيب الذي مارسوه فسيكون الطريق ممهدا تماما لوفاق وطني حقيقي صادق وناجز.
الخيار الثاني التقاضي أمام المحاكم الوطنية
إذا ما تعذر التعافي المتبادل بسبب إنكار تهمة التعذيب أو لأي سبب آخر, فلا يكون هنالك بديل عن التقاضي أمام المحاكم, ذلك في حالة جدية المسعى للوفاق الوطني على غرار ما جرى في جنوب أفريقيا. غير أن حكومتكم فيما علمت سنت من التشريعات ما يحمي أعضاءها وموظفيها والعاملين في أجهزتها الأمنية من المقاضاة. فالجرائم ضد الإنسانية وحقوق الإنسان كالتعذيب, لا تسقط بالتقادم ولا المرض ولا تقدم السن ولا لأي سبب من الأسباب, كما شهدنا جميعا في شيلى وإندونيسيا والبلقان وغيرها. كما أن هذا الموقف لا يستقيم مع دعوتكم للوفاق ولعودة المعارضين الذين تعرضوا لأبشع جرائم التعذيب. وليس هنالك, كما قال المتنبي العظيم, ألم أشد مضاضة من تحمل الأذى ورؤية جانيه, وإنني مستعد للحضور للخرطوم لممارسة كامل حقوقي الوطنية, بما في ذلك مقاضاة من تم تعذيبي بأيديهم, فور إخطاري بالسماح لي بحقي الطبيعي. ذلك إذا ما اقتنعت مجموعة المحامين التي سأوكل إليها هذه المهمة بتوفر الشروط الأساسية لمحاكمة عادلة.
الخيار الثالث التقاضي أمام المحاكم الدولية لحقوق الإنسان
ولا يكون أمامي في حالة رفض التعافي المتبادل ورفض التقاضي أمام المحاكم الوطنية سوى اللجوء للمحاكم في البلدان التي تجيز قوانينها محاكمة أفراد من غير مواطنيها وربما من خارج حدودها, للطبيعة العالمية للجرائم ضد الإنسانية التي يجري الآن إنشاء محكمة عالمية خاصة بها. إنني لا أقبل على مثل هذا الحل إلا اضطرارا, لأنه أكرم لنا كسودانيين أن نعمل على حل قضايانا بأنفسنا. وكما علمت سيادتكم فقد قمت مضطرا بفتح بلاغ مع آخرين ضد الدكتور نافع في لندن العام الماضي, وشرعت السلطات القضائية البريطانية في اتخاذ إجراءات أمر الاعتقال الذي تنبه له الدكتور نافع واستبقه بمغادرة بريطانيا. وبالطبع تنتفي الحاجة لمثل تلك المقاضاة فيما لو أتيحت لي ولغيري المقاضاة أمام محاكم وطنية عادلة, أو لو تحققت شروط التعافي المتبادل الذي هو أقرب للتقوى. وإنني آمل مخلصا أن تسيروا على طريق الوفاق الوطني بالجدية التي تتيح لكل المواطنين الذين تشردوا في أصقاع العالم بسبب القهر السياسي لنظام ”الإنقاذ“ أن يعودوا أحرارا يشاركون في بناء وطنهم.
وفقنا الله وإياكم لما فيه خير البلاد والعباد. فاروق محمد إبراهيم الأستاذ بكلية العلوم ـ جامعة الخرطوم (سابقا) [صورة طبق الأصل]
بالطبع لم يتلقَّ د. فاروق رداً مُباشراً, لكن أحد مُعذِّبيه ردَّ عليه، وعلى ضحاياه الآخرين، عَبرَ صحيفة عربية أجرت معه حواراً.. ففي سؤالٍ حول مُمارسات جهاز الأمن في الفترة التي تولي فيها رئاسته (1989-1995)، قال د. نافع علي نافع: «ما كان ينبغي لي أن أفعل غير ذلك, أنا مقتنع بأنني عملت جهدي والعبرة عند الله سبحانه وتعالى بالجهد, وأرجو أن أكون قد نلت الدرجة الكاملة في الأجر»!! ويُضيفُ مُزيِّناً صورة الصفوة المُنتقاة، التي كانت تأتمرُ بإمرته: «أحسن ما في الجهاز كان فيه مجموعة من البشر متجردة, كانت تري أن مراعاة حق الله تعالى وحق عباده أهم لها».. وعليه، ما على كاتب المُذكرة وغيره، إلأّ أن يعتبروا ما حدث لهم هو حالة من حالات مُراعاة حق الله فيهم.. وأما المُذكرة نفسها، فليس لدينا أدنى تعليقٌ عليها، غير أننا نعتقد بأن أولئك الضحايا هم الأقدر بالوُصول بتلك الدعوة إلى نهاياتها المنطقيَّة, ذلك رُبَّما أضاءَ أملاً في تحطيمِ بدعة ”التسَامُح السِلبي“ التي نخرت عظام المُمارسة السياسيَّة، وأورثتنا التخبط، وعدم الاستقرار، الذي نعيشُه منذ الاستقلال.
في واقع الأمر، حينما نستعرض هذه الأمثلة، في إطارِ هذا المبحث, سواءٌ على مُستوى الأنظمة المُختلفة، أو على صعيد النخبة السياسيَّة, لا نفعلُ ذلك مِن بابِ الغلُوِّ في الوطنيَّة، أو الشوفينية“Chauvinism” .. ولا حتى لتجريد الواقع من ما يعتبره البعضُ ظاهرة مُميِّزة للسُودانيِّين في مُمارساتهم السياسيَّة.. ولكننا نهدفُ حقاً إلى تعرية ذلك الواقع، وكشف زيف ذلك المفهوم، بتأمل الباطن، واستقراء الظاهر في المُمارسة السياسيَّة، وطبيعة العلائق بين النخب.. ونعيدُ القول، مرة أخرى، بأنه لا وُجود لظاهرة ”التسَامُحِ السياسي“ في المُجتمعاتِ البشريَّة, التي عرفت فقط مِن التسَامُح شِقيهِ ”الدِينِي“ و”الاجتِماعِي“.. ونكرِّر أيضاً، بأن ما ُيسَمَّى بـ”التسَامُح السِياسِي السُودانِي“ لم يكن سوى بدعةٌ من إنتاج النخبة، استغلتها في ظروفٍ استثنائيَّة، لتغطية عَجزِها وفَشَلِها في مُواجهة قضايا الواقِع المصيريَّة والمُتشعِّبَة, واستند عليها آخرون هروباً مِن المُساءلَة والمُحاسبة، ولمُواراةِ جرائِمِهِم وفَسادِهِم في السُلطَة, الأمر الذي كان سبباً رئيسياً في إعادة إنتاجِ الأزمة، وتجذير الفشل, وهو الطقسُ الذي استولدت فيه الجبهة الإسلامِيَّة انقلاب الثلاثين مِن يونيو/حزيران 1989.. وهل ثمَّة شيء يُمكنُ أن يقال في تلك البدعة، بعد الانتهاكاتِ الفظيعة التي تدحرجت، على مَدى عقد ونِصفُ العقدِ في السُلطَة؟! الهوامش:
| |
|
|
|
|
|
|
Re: المَشْهَدُ الخَامِس: سُوَّاسُ الأحْصِنَة (Re: بكرى ابوبكر)
|
مرحبا بسقوط الاقنعة قال الكاتب(من المؤكد أن الأنظمة الديكتاتورية، حينما تتخذ الانقلابات العسكرية وسيلة، مستترة أو علنية, تلجأ مباشرة إلى نشر حبائلها حول النخبُ ذوي الهويَّات السياسية المُختلفة، وإغوائهم في مشاركتها, وتَهدف من وراء ذلك إلى توطيد دعائم سُلْطاتها، وتكريس ”شرعية“ الأمر الواقع.. ومن جهة أخرى، فإنَّ استجابة النخب دائماً ما تأتي بدوافع الطموحات الشخصية, وغالباً ما تغلفُ بستار ”تحقيق أهداف وطنية نبيلة“, ومن أعيته الحيلة في التبرير، يلجأ إلى أسلوب المُفاضلة بين سوءتين, خاصة من قبل الذين كانوا يوماً من حُماة الأنظمة الديمقراطية وسُداتها, رغم التبايُن بين النظامين.) انتهى الاقتباس ...........................
وهل كان هناك نظام ديموقراطي في السودان القديم؟ وهل يجدي اسقاط وعي اليوم على السودان القديم في زمن كان نصف العالم شمولي وزمن الايدولجيات(النظام العالمي القديم) ********************************
اليك هذا النوع الجديد من سقوط الاقنعة ايضا من كتاب ديباجة الدستور/الاستاذ محمود محمد طه 1984(لم يطبع حتى الان) وهذا عرض قدمه المفكر الراحل الاستاذ محمود فى ديباجة الدستور..وصاحب العقل يميز
كلمة "الديمقراطية" كلمة يونانية و هي كلمة يدل بها علي: حكم الشعب بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب .. و لقد تطور مدلول هذه الكلمة بتطور مدلول كلمة الشعب .. فان كلمة الشعب كانت تضيق ، علي عهد اليونان ، فلا تشمل النساء ، و لا العبيد .. ثم اخذ معناها يتسع ، علي مر الزمان ، بفضل الله ، ثم بفضل يقظة المستضعفين في الأرض ، حتى اصبح ، في آخر القرن الماضي ، يشمل المواطنين جميعا من الرجال البالغـين سن الرشد .. ثــم تداعـي التطور بكلمة الشعب هذه حتى أصبـح، في القـرن الحاضـر، عند البــلاد التي تــمارس الديمقراطية، يعني كل المواطنين، من رجال، ونساء منذ يبلغون سن الرشد ..
ولما كان حكم الشعب ، بواسطة الشعب ، من الناحية العملية، مستحيلا، فقد جاء الحكم النيابي، ونشأت الأحزاب السياسية .. و في الحكم النيابي قلة قليلة جدا هي التي تباشر، نيابة عن الشعب، السلطة التشريعيـة، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية.. والمفترض أن الشعب يراقب هذه القلة حتى يطمئن إلى أنها، إنما تدير دولاب السلطة لمصلحته هو، لا لمصلحتها هي .. و هذا يقتضي وعي الشعب، و يقتضي وعي القلة التي تباشر السلطة أيضا.. وليس هناك شعب من الشعــوب، إلى وقتنا الحاضر، استطاع أن يكون في مستوي الوعي الذي يمكنـه من مراقـبة أداء من يتولـون، نيابة عنه، إدارة مرافقه بصورة تقرب، و لو من بعيد من مستوي الحكم الديمقراطي بمعني هذه الكلمة.. و ليست هناك، إلى وقتنا الحاضر، قلــة، في شعب من شعوب الأرض، استطاعت أن ترتفع فوق مطامعها، و أنانيتها، و جهلـها، لتحكم شعبهـا حكمـا ديمقراطيـا صحيحا.. فالقلة إنما تحكم الشعب لمصلحتها هي، لا لمصلحته هو.. و يصدق في كل قلـــة حاكمــة اليوم ما قاله أبو العلاء المعري منذ وقت طويل ] مُـلّ المقـامُ ، فكم أعاشر أمـة أمرت بغير صلاحــها، أمراؤهـا ظلموا الرعية و استباحوا كيدها و عَدوْا مصالحها، و هم أجـراؤها
أما نحن السودانيين فقد بلونا أسوأ ألوان الحكم النيابي، في محاولتنـا الأولي، في بدء الحكــم الوطني، و في محاولتنـا الثانيــة، بعـد ثورة أكتوبر 1964.. فقد كانت أحزابنا السياسية طائفية الولاء، طائفيـة الممارسـة، فهي لم تكن تملك مذهبيــة في الـحكم .. و الطائفية نقيض الديمقراطية .. ففي حين تقوم الديمقراطية علي توسيـع وعي المواطنين، تقوم الطائفية علي تجميد وعيهم .. و في حين أن الديمقـراطية في خدمة مصلحة الشعب، فان الطائفية في خدمة مصلحتها، هي، ضد مصلحـة الشعب .. و من ههنا جاء فساد الحكم النيابي الأول عندنا .. فكانت أصوات الناخبين توجه بالإشارة من زعيم الطائفة، كما كانت تشتري!! و كـان النـواب يشترون أيضا!! وذلك في جـو مـن الصـراع الحزبي الطاحن علي السلطة أدي إلي تهديد سيادة البلاد واستقلالها .. فقد كانت الحكومة ائتلافية بين حزب الأمة، و حزب الشعب - حزبـي الطائفتين ذواتي الخصومة التقليدية، طائفة الأنصار، و طائفة الختمية .. ودخلت البلاد في أزمة سياسية من جراء عدم الانسجام في الوزارة، وبروز الاتجاه للالتقاء بين الحزب الوطني الاتحادي، الذي كان في المعارضة، وحزب الشعب، عن طريق وساطة مصر .. فسافر رئيسا الحزبين، السيد إسماعيل الأزهري، والسيد علي عبد الرحمن، إلي مصر، لهذا الغرض .. و لقد نسب لرئيس الوطني الاتحادي تصريح ، بمصر، يعترف فيه باتفاقية 1929، التي كانت حكومة السودان الشرعية قــد ألغتها .. (وهي الاتفاقية التي أُبرمت في الماضي بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا، و مصر، بينما كان السودان غائبا، تحت الاستعمار، فأعطت السودان نصيبا مجحفا من مياه النيل، بالنسبة لنصيب مصر..) و كان ذلك الاعتراف بالاتفاقية بمثابة مساومة مع مصر لتعين الحزب علي العودة للحكم. كما صرح رئيس حزب الشعب، بمصر، بأن حزبه يقف في المعارضة ! ! (أنباء السودان 15/11/1958، الرأي العام 9/11/195 .. في هــذا الجو السيـاسي الذي يهدد استقـلال البلاد، و سيادتـها، بالتدخـل الأجنبي، سلم السيد عبد الله خليل رئيس الـوزراء، الحكــم للجيش.. (أقوال الفريق عبود في التحقيق الجنائي حـول الانقــلاب بعد ثورة أكتوبر 1964، (( التجـربة الديمقراطية، وتطور الحكم في السودان)) للدكتور إبراهيم محمد حاج) .. فكان انقلاب 17 نوفمبر 58 بمثابة إنقاذ للبلاد.. وحكم الحكم العسكـري ست سنوات، صادر فيها الحريات الديمقراطية .. و برغم انه حقق شيئا من التنمية الاقتصادية، إلا انه آل إلى صور من العجز عن الإصلاح، وفي الفساد، أدت إلى قيام ثورة 21 أكتوبر 1964 .. و لقد تمثل في تلـــك الثــورة الشعبيـة، السلمية، إجماع الشعب السوداني الكامل علي الرغبة في التغيير، وإن لم يكن يملك المعرفة بطريقة التغيير.. فتخطي الشعب الولاءات الطائفية، وهو ينادي بعدم العودة لماضي الحزبية الطائفية.. و لكـن سرعان ما أجهضت الأحزاب الطائفية تـلك الثورة، و صفـــت مكتسباتها .. فقــد ضغطت، بالإرهـاب السياسي، علي رئيس حكومة أكتوبر الثورية حتى استقال، و شكل حكومة حزبيـة برئاستـه .. ثم عادت الأحزاب الطائفية للسلطة، عن طريق الأغلبية الميكانيكيـة الطائفيـة فـي الانتخابات .. وقامت حكومة ائتلافية من حزب الأمة والوطني الاتحادي.. و تعرضت الديمقراطية في هذه التجربة النيابية الثانية ! لأسـوأ صـــور المسـخ، عــلاوة علــي المسـخ الذي تعرضت له الديمقراطيـة من جراء فسـاد القلة، ومـن جراء قصــور وعـي الشعب .. فقد عُدل الدستور مرتين للتمكين للحكم الطائفي في الاستمرار: مرة ليتمكن أزهري من أن يكون رئيسا دائما لمجلس السيادة، في إطار الاتفاق بين الحزبين علي اقتسام السلطة .. و مرة أخري لحل الحزب الشيوعي، و طرد نوابه من الجمعية التأسيسية.. فقد عدلت الجمعية التأسيسية المادة 5/2 من الدستور، و التي تعد بمثابة روح الدستور.. و هي المادة التي تنص علي الحقوق الأساسية، كحق التعبير، وحق التنظيم.. و لما حكمت المحكمة العليـا بعدم دستورية ذلك التعديــل (مجلة الأحكام القضائية 196 أعلن رئيس الوزراء آنذاك، السيد الصادق المهدي، ((أن الحكومة غير ملزمـة بأن تأخذ بالحـكم القضائـي الـخاص بالقضيــة الدستورية)). (الرأي العام 13/7/1966).. ليتعرض القضاء السوداني بذلك لصـورة مـن التحقيـر لم يتعـرض لـها في تاريخه قط!! و لما رفعت الهيئة القضائية مذكرة إلى مجلس السيادة تطلب فيها تصحيح الوضع بما يعيد للهيئة مكانتها (الرأي العام 27/12/1966) وصف مجلـس السيادة حكم المحكمة العليا بالخطأ القانوني (الأيام 20/4/1967) فاستقال رئيس القضاء السيد بابكر عوض الله، و قد جاء في الاستقالة: ((إنني لم أشهد في كل حياتي القضائية اتجاها نحو التحقير من شأن القضاء، و النيل من استقلاله كما أري اليوم.. إنني أعلم بكل أسف تلـك الاتجاهات الخطـيرة عنـد قــادة الحكم اليـوم، لا للحـد مـن سلطـات القضـاء في الدستـور فحسب، بل لوضعـه تحت إشـراف الهيئة التنفيذية)) الكتاب المشار إليه آنفا.. هذه صورة لفشل التجربة الديمقراطية النيابية في بلادنا، مما حولها إلى دكتاتورية مدنية، فهدد الاستقرار السياسي، حتى جاءت ثورة مايو بمثابة إنقاذ للبلاد!! إن قصور تجربتنا الديمقراطية مرده الأساسي إلى قصور الوعي- وعي الشعب، ووعي القلة التي تحكم الشعب، مما أفرغ مدلول كلمة الديمقراطية من محتواها - هذا وفشل الديمقراطية في ظل البلاد المتخلفة أدي إلي الانقلابات العسكرية، في كل مكان، في النصف الأخير من هذا القرن و ليس في الانقلابات العسكرية حل.. )))) انتهى الاقتباس
ومن هنا نجد المبرر الذى يجعل القوى المستنيرة تركب قطار الانقلاب رغم ان الانقلاب ليس الحل وانتقال كل دول العالم الي ديموقراطية حقيقية يتم عبر مرحلة الانظمة الدكتاتورية الرشيدة كما حدث في تنزانيا ودول اوربا الشرقية وامريكا الجنوبية اما ادمان الفشل في السودان فهو الذى جعل نميري يعيد انتاج الازمة بتحالفه مع الهوس الديني والطائفية المتحالفة معا(الجبهة الوطنية 1978 )..لتعود الحلقة الشريرة...(وديموقراطية الجداد غمت) التي تتباكي عليها الجبهة الوطنية 2006 وبراعمها في هذا البورد *************** قال الكاتب(مثلما أنه أيضاً لم يُكلف نفسه بتصحيح معلومة أساسية، حول انتفاضة أبريل: «لم تكُن سوى انقلاب دُبِّر في الخارج، بموافقة ومشاركة النميري، ونفذه جنرالات النميري في الداخل»!! ويبدو جلياً أن ذلك الخطأ الإستراتيجي في التحليل، هو الذي بنت عليه الحركة موقفها السِّلبي, عندما أخذتها العِزَّة بالإثم، واعتبرت التغيير الذي حدث لا يعنِيها في كبير شيء.. ولرُبَّما تصحيحه ساعتئذٍ كان يُمكن أن يغيِّر أشياء كثيرة.. ولم يكن تجاهله من باب الهفوة، ولكن لأنه أمرٌ صادف هوىً في نفسِ مَن كانَ يُرجى منه تصحيحاً, أو على الأقل تلك صفحةٌ من كتاب يتمنى د. منصور أن يمزِّقها، لا أن يصحِّحها!! وقد ذكرنا من قبل، أنه ساهم بعدئذٍ في تعميق تلك الفجوة المفاهيمية, وكان مثيراً للمراقبين أن الحركة الشعبية، التي جَهَرَت برأيها في جنرالات نميري, أصبح أحد سدنة ذات النظام مُستشاراً سياسياً مُعيَّناً لقائدها.. وجميعهم في تلك الحظيرة سواء.) انتهى الاقتباس ********************* في هذا الامر استخفاف بالمرحوم قرنق ومنصور خالد...وهل جون قرنق سائح فرنسي حتى يعجز عن تحليل اوضاع السودان بعد سقوط نميري مثلا وهل استمرت الحركة الشعبية في تعنتها...ام وقعت اتفاق سلام حقيقى مع الحزب الاتحادي الديموقراطي يضمن دعوة لمؤتمر وطني دستوري يعقد يوم 30 يوليو اجهضه انقلاب عمر البشير وكانةالانقلاب الخطا في الزمن الخطا والسبب ايضا (الجبهة الوطنية (1989)
************************ ختام: هذا الكتاب ركز عل تعرية افراد وهذا امر مهم ولكنه لم يحلل اوضاع قادت لتلك التراكمات المريعة من الفشل...والسودان دولة من دول العالم الثالث تتاثر بمحيطها الاقليمي العربي الافريقي والدولي والسؤال مرة اخرى للمرة المليون هل كان هناك يوما ما نظام ديموقراطي في السودان؟؟؟ الديموقراطية ليست اطار زائف بل وعي وسلوك و ثقافة مجتمع مدني واحزاب سياسية وليست دينية ولازالت تبعد الالاف السنوات الضوئية عن السودان وعن هذا البورد تحديدا الماضي مشين والحاضر مضطرب والرهان فقط علي المستقبل...وليس هذا الكاتب وحده من اسقط الاقنعة...بل الواقع نفسه عرى نفسه في زمن ثورة المعلومات
سامعني ولي اقول كمان
(عدل بواسطة adil amin on 08-10-2006, 01:26 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: خالد عبد الله محمود)
|
Quote: هذا كتاب لا نطالب فحسب بدخوله السودان، وإنما التداعي لمناقشته مناقشات مستفيضة، بل وحتى محاكمات سياسية تطال الجميع، لأن فيه معلومات غزيرة عن تواطؤ وتقاعس وفشل وتبريرات ومؤامرات ووقائع إما أن يكذبها اصحابها وبالأدلة القاطعة أو يتم التأكيد عليها، فالمسألة مسألة وطن |
شكــرا للأستـاذ خالـد عويس،
وهـذا ما ظللنـا نقولـه.. العلم المسبق.. فأحتج علينـا الأحباب والحبيبـات هنا، وطلبوا منا الدليل.. وهـذا الكتاب أكبـر دليل حتى الأن على العلم المسبق بالإنقلاب، أكثـر من هـذا، فإن هناك دلائل واضحـة على تأمـر جنائى، منهـا إهمال معلومـات جاءت متواتـرة من أكثـر من مصـدر.. ومنهـا معلومـات محـددة باليوم والتأريخ.. مما يشكل بينـات كافيـة للتحـرى مع السيـد الصـادق المهـدى.
شكــرا للمهنـدس بكـرى أبو بكـر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: خالد عمار)
|
في إتصال مع الأخ فتحى الضو أكد لى أن الإفراج عن الكتاب تمّ يوم أمس الأول, وقد ظل الكتاب محتجزاً فى المطار منذ يوم 27/5 والغريب فى الأمر أنه أحضره بناءا على تصريح من ما يسمى مجلس المصنفات الفنية والأدبية, منحه له بعد زيارته الأخيرة للسودان, والتى جاءت بعد أكثر من 17 عاما من الغياب, وبعد وصول الكتاب تبرأ المجلس المذكور من فعلته, عندها إستلم أساطين الأمن الموضوع, وبدأت المطاولات بدعوى قراءته حتى غادر صاحبه أرض الوطن والغريب فى الموضوع, أن أمر الإفراج جاء بطريقة إبتزازية حيث إشترطت الجهات المعنية دفع ما يناهز الأربعة ملايين جنية رسوم أرضية !؟ لكأنما الكتاب كان فى نزهة, وهى على العموم إحدى طرق الجباية التى أرهقت الإنقاذ بها كاهل المواطنين, الطريف فى الأمر تعليق الأخ فتحى على ذلك حيث قال لى ( إن هذه الطريقة تذكرنى بما كان يفعله نظام مانغستو هيلاماريام مع معارضيه , فبعد أن يعدم أحدهم يذهب إلى أهله ويطالبهم بثمن الرصاصة ) عموما تتشابه الأنظمة والفعل واحد, وتكفى إشارات السعادة التى لمستها من الصديق فتحى, مقارنة بمشاعره إبان فترة (إعتقال) الكتاب, لاسيما وأنا من المتابعين لهذا العمل منذ أن كان نطفة, قبل سنوات, وحتى لحظة ولادته... التى لم تر النور حقيقة إلأ الآن!؟ منتصر أباصالح
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: بكرى ابوبكر)
|
أتصل بعض الأخوه يسألون عن المؤلف تعميماً للفائدة رأيت من جانبى كصديق للمؤلف أن ألقى بعض الضوء على سيرته ومسيرته الصحفية والوطنية إلتحق الأخ فتحى الضو بالصحافة الكويتية (جريدة الوطن) فى أوائل الثمانينات, وسخّر قلمه لمناهضة نظام نميرى (مايو) وكان ثانى ثلاثة من الصحفيين الذين دأبوا على نقد النظام فى الخارج وتعريته,ويومذاك لسبب لا أعرفه عزّت الأقلام وجفت الصحف!! ولعل البعض يذكر مقالاته فى هذا الصدد, وكلفه ذلك حظراً من دخول الوطن, وفى العام 1983 بعد الإعلان عن قوانين سبتمبر, كان ضمن قائمة ضمت نحو 20 ناشطاً سياسياً طالب النظام السلطات الكويتية بتسليمهم له, وأذكر من بينهم كان د.مصطفى خوجلى (شيوعى), ود. محمد إبراهيم خليل (حزب أمة), والدكتور الراحل محمد الخاتم يوسف (إتحادى ديمقراطى), إلى جانب الصحفيان الراحل بابكر حسن مكى, وبدر الدين حسن على, وبالطبع لم تستجيب السلطات الكويتية إلى ان سقط النظام فى العام 1985 واصل الأخ فتحى دوره الصحفى والوطنى فى الكويت حتى الغزو العراقى فى العام0 ولكن قبلها واجه محنة الحظر مرة أخرى, بعد ثلاثة أشهر من إنقلاب الإنقاذ فى العام 1989 وأخطرته السفارة السودانية فى الكويت بسحب جواز سفره ولم تستحى فى تسليمه مذكرة بهذا الخصوص, كأول سودانى معارض تسلبه سلطة الانقاذ هويته, وتبادلته المنافى المختلفة حتى عاد فى مايو الماضى بعد 17 عاما من الغياب إستقر فى القاهرة بعد الغزو العراقى وعمل فى مكتب الصحيفة نفسها, وكانت تلك هى البدايات التى شهدت معاصرته تكوين العمل المعارض تحت لواء التجمع الوطنى, وفى العام 1993 كتب كتابه الأول (محنة النخبة السودانية) ثم غادر القاهرة إلى منطقة القرن الأفريقى حيث أوفدته صحيفته لتأسيس مكتب لها فى المنطقة, وأختار الإقامة فى العاصمة الإرتيرية أسمرا بعد أن نالت إستقلالها مباشرة, حيث توافدت بعده التنظيمات المعارضه وفق ما هو معروف, وفى هذه الفترة تمكن الأخ فتحى من تغطية الحرب الأهلية فى الصومال, والسجال العسكرى بين النظام والتنظيمات المعارضة, إلى جانب أنه كان الصحفى الوحيد الذى يعمل مع مطبوعه عربية فى تغطية الحرب الإثيوبية الإريترية منذ لحظة إندلاعها وحتى توقفها حيث أصدر بعدها كتابه الثانى فى العام 2001 (حوار البندقية/ الأجندة الخفية فى الحرب الإثيوبية الإريترية) وفى العام 2002 غادر إلى القاهرة مرة أخرى وإنتقل فى بداية العام 2003 إلى أمريكيا حيث يقيم حالياً وأسرته ووفق ما أعلم منه شرع فور وصوله مباشرة فى كتابة كتابه الأخير هذا بعنوانه الرئيسى (السودان/ سقوط الأقنعة), وعنوانه الفرعى (سنوات الخيبة والأمل)!! موضع الجدل الحالى هذه إضاءة كما ذكرت لمن يود معرفة من خلف السطور؟ أو ما وراء السطور, أما الكتاب فقد أجمع من إطلع عليه بأنه يشرح سطوره بسطوره مع ودى , منتصر
| |
|
|
|
|
|
|
مذبحة الديموقراطية (Re: بكرى ابوبكر)
|
لا أود أن أقمط المؤلف حقه ولكن لدي إحساس بأن أجزاء كبيرة من الكتاب، وخاصة الروايات المتعلقة بالصادق المهدي، منقولة (ربما بالمسطرة) من كتاب قديم صدر في منتصف التسعينات بعنوان "مذبحة الديموقراطية في السودان"، وهو من تأليف صحفي شاب استقر بالولايات المتحدة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: hassan bashir)
|
Quote: هذا كتاب لا نطالب فحسب بدخوله السودان، وإنما التداعي لمناقشته مناقشات مستفيضة، بل وحتى محاكمات سياسية تطال الجميع، لأن فيه معلومات غزيرة عن تواطؤ وتقاعس وفشل وتبريرات ومؤامرات ووقائع إما أن يكذبها اصحابها وبالأدلة القاطعة أو يتم التأكيد عليها، فالمسألة مسألة وطن |
Thanks Khalid
This what should happen! But some people will work hard NOT to learn the lesson as it is in their interest to repeat the tagedy again and again
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: رأفت ميلاد)
|
الاخ بكري الف تحية و شكر لافراد هذه المساحة الرحبة للفصل الآول لهذا الكتاب التوثيقي. واتمني ان يجد القراء متسعا من الوقت لقراءته لانه اضافة نوعية للمكتبة السودانية وقيمة وثائقية لاحداث و تاريخ متشابك. وردة الفعل دون شك مختلفة بين قبول ما ورد بالكتاب او رفض بعض مما جاء فيه تقاطعا أو تصادما‘او احساسا بسعادة‘ كل حسب دوره وفعله وسلوكه وعطائه ويبقي الذين يتمرغون علي سطح صفيح ساخن هذه الايام بعد فك الكتاب عن الاسر يغالبون الصبر علي الشدائدويتمنون لو ان عقارب الساعة تراجعت للوراء لتمكنهم من اعادة عكس الفعل وصياغته بصورة تختلف ليحصلوا علي مرتبة افضل في سرد الاحداث. مرة ثانية الف شكر يا بكري علي السبق الصحفي الذي انفردت به
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: سعدية عبد الرحيم الخليفة)
|
فى تعليق بسيط لما أورده الزميل حسن بشير يبدو لى أنه مصيب ومخطىء فى آن معاً. أولاً مصيب لانه قارىء متابع, فهو على الأقل لم يتشابه عليه (بقر) الأحداث, فثمة فقرة أو فقرتان مقتبستان من كتاب الصحفى أيضا عبد الرحمن الأمين والمسمى (ساعة الصفر/ مذبحة الديمقراطية الثالثة فى السودان), وثانيا أخطأفى التعميم وبسرعة أحكامه التى أصدرهافى إتهامه للمؤلف لعمل لم يقرأه مكتملاً , فالفصل الأول الذى تكرم الأخ بكرى بنشره يبدو أنه لأسباب فنية أغفل نشر الهوامش التى تكمل القراءة على النحو المنهجى, وهو أمر لم ينتبه له صاحب التعليق فوقع فى الفخ, وأربأ به بذلك, فآفة الأحداث رواتهاكما يقولون, وآفتنا فى السودان سرعة الأحكام. على كل أحيى فى الأخ حسن روح المتابعة وأقتنص سانحة الرد هذه للتذكير بأن الكتاب المذكور يحتوى على 700 صفحة من الحجم الكبير, فى نحو عشر فصول, وكما سلف فهو بحوزتنا على الهاتف المذكور وبريدى الإلكترونى أدناه [email protected]
منتصر أباصالح
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: Elmontasir Abasalih)
|
Quote: أغفل نشر الهوامش التى تكمل القراءة على النحو المنهجى |
شكراً أخي منتصر على التوضيح وأعبر عن أسفي عن أي لبس أحدثته ملاحظتي
الشيء الذي أود التأكيد عليه أنني لم أرمي أبداً للتشكيك في مقدرات المؤلف أو تبخيس الجهد الذي بذله في إخراج هذا الكتاب فقد استمتعت مثل غيري (هل هناك تفسير لظاهرة الاستمتاع بكتاب ما وفي نفس الوقت الإحساس بالمرارة إزاء ما يكشف عنه ذلك الكتاب عن أولئك الذين اتخذوا من الوطن فأراً لتجاربهم المجنونة؟) من القراء بالاطلاع عليه. وكلنا يعرف أن الاقتباس من مصادر أخرى لدعم ما كتب وإيراد هوامش بتلك المصادر هو أمر شائع وشرعي بل واجب في بعض الأحيان.
لا شك أن كل كتاب يكمل الآخر فيما يروي عن تلك الحقبة، وإن كنت أحبذ الانتظار للحصول على نسخة من "سقوط الأقنعة" فأنا متيقن أنه يتناول أيضاً الحقبة التي تلت صدور كتاب "ساعة الصفر" وتحديداً ما عرف بـ"فترة التمكين" والتي ذاق خلالها الشعب السوداني الأمرين.
أعتذر مرة أخرى وأتمنى أن أتمكن من الحصول على نسخة من الكتاب في أقرب فرصة
ولك التحية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: Elmontasir Abasalih)
|
شكرا بكري علي هذا السفر القيم
منتصر ابا صالح ..
تحياتي ومبروك علي الانضمام للبورد..رجحت انك المنتصر ’’زولي‘‘للاسم المميز+امريكا+single ..وربنا يحلك من حالة’’السنقلة‘‘دي..
لكما مودتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مذبحة الديموقراطية (Re: saif khalil)
|
Dear Saif I`m Sorry to write in English but I don`t have arabic at work, and I can not wait to go home to reply to you, First I m not Single, My Daughter will turn 10 years old very soon my wife now get angry about you, salaam Katieer to the all brothers in the U A E specialy Omer Aldegair and I will try to call you soon Brother Saif you have to have a copy of this book it is very interesting book
It is documentry for the last 17 horrible years in the history of our beloved country
Yours Montasir
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: عبد الخالق عابد)
|
Thanks Bakry Abubakar I almost finished reading the book. It is an effort that should be appreciated and praise has to be forwarded to Ustaz Fathi, I hope he and his family are doing well.
Technically, I think the book is important step towards documenting this period of the modern political history of the Sudan. It is very informative and written in a sarcastic language. However, I believe the book lacks the depth and the comprehension in its analysis.
As someone who was in Asmara and witnessed, in person, great deal of the time, which the book is a serious attempt to document, I observed that there are some serious untrue incidences and flawed public statements as well.
I urge Ustaz Fathi to think about conducting more investigation and try to correct these matters in the second copy. To have controversy on the analysis is a healthy indicator, but in the facts is not preferable for quite valid reasons. I meant by “facts” is the way some incidences happened not in the way we perceive these incidences, although I am a ware of how it is complicated to separate our perception from the way we see things.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: Bakry Eljack)
|
الأخ بكرى الجاك كل الود والتحايا
المطلوب هو أولآ قراءه متأنيه للكتاب ثم نقده نقدا موضوعياوجريئا جرأة الكاتب نفسه فى تناول الأحداث ثانيا ان اطلاق الكلام على عواهنه والأحكام جزافابأن الكتاب مليئ بالأخطاء شيئ مرفوض وغير مجدى ولذلك وبما أنك من المتابعين بل والمشاركين فى كثير من تلك الأحداث نتمنى ان تعمل يراعك فى نقد وتفنيد هذا السفر العظيم(من وجهة نظرى ) وليس لأن فتحى صديقى وأتمنى أن يكون النقدباللغه العربيه لفائدة القراء......
لك كل الود والتقدير
منتصر أباصالح
| |
|
|
|
|
|
|
Re: س.اونلاين.كم تنشر الفصل الأول من سقوط الأقنعة بعدما ظلّ محتجزا بمطار الخرطوم وممنوعاً من ال (Re: خالد عمار)
|
here The article that wrote by ( Ameera Al Tahawy ) an Egyptian writer about the book
Montasir
+سقوط الأقنعة عن عشرين عاماً من معارضة نظام الخرطوم أميرة الطحاوي إننا بصدد عمل مرجعي هام، فكتاب فتحي الضو محمد الصادر مؤخراً بالقاهرة "السودان سقوط الأقنعة" وبعنوانه الفرعي الذي لا يخلو من دلالة "سنوات الخيبة و الأمل" يحمل بين دفتيه الكثير من المعلومات و الجدل؛حيث تناول فترة معاصرة حرجة من تاريخ السودان(1989-2005) بعد وصول نظام البشير-الترابي لحكم الخرطوم بانقلاب عسكري ارتدى عمامة دينية، وبالإضافة لما حواه من شهادات و وثائق فإن الكتاب الذي يقترب من الـ 700 صفحة، و المصنف لتسعة أبواب تضم 33 فصلا بعناوين بليغة، يصدر الآن في هذه الفترة الفاصلة من تاريخ السودان؛ فلا المعارضة أسقطت النظام كما خططت وروجت، ولا الأخير نجح في تطبيق أوتسويق ما سماه بالمشروع الحضاري الإسلامي، لا المعارضة قامت بنقد ذاتي كافٍ لتجنب عثراتها السابقة ولا النظام أقر بحصيلة سنوات القمع الدموي الذي لم يزل يمارسه حتى الآن، كما يوثق الكتاب بأمثلةعديدة لحالات شخصنة العمل السياسي(حكومة و معارضة) كما حالات الفساد و التربح من معاناة الناس(يحلل الفصل الأخير المعنون بتلازم الخيبة و الأمل دور المال في إفساد النخبة والعناصر السياسية صغيرة أو كبيرة) أو التجارة بأحلامهم المشروعة وبيعهم الوعود الخيالية بين مزايا ثورة للمهمشين و الفقراء لم تحدث أبداً، أو حوريات في الجنة لمن يسقط أثناء قتله شقيقه السوداني"المعارض" وفق دعاوى الجهاد التي لازالت تصدر من الخرطوم. يرى المؤلف سُودان اليوم في مساره التاريخي نتاجاً لم يَكتمِل بعد لصيرورةٍ تاريخيةٍ طويلة ومُعقدة، شهدت تفاعُلات وتمازجات وتحوُّلات مُجتمعيَّة كثيرة، أدت لتغيير هويَّته شكلاً ومضموناً، وخلقت في الوقت نفسه نسيجاً مُتنوعاً، إثنياً ودينياً ولغوياً..ازدَهرَت واندَثرَت به حضاراتٌ على مرِّ القرون، وفي فترة مابعد الاستقلال عندما تسلمتها أنظمة نخبوية،استهلكت نفسها بصراعات سياسية واجتماعية، أفضت لعجز الدولة فابتعدت عن مفاهيم الدول الحديثة، حتى أصبحت أكثر تهيؤاً واستسلاماً للحُلول الخارجيَّة، وربما في التدخلات الأخيرة إقليميا ودولياً، خيراً وشراً، أمثلة على كيف خدم المناخ العام بالبلاد الحل الخارجي أكثر من الوطني. ويسأل المؤلف متى تضع هذه الحتمية التاريخية أوزارها ليستفيد السودان من تجارب و خبرات بشرية مختلفة، كما يشخص صراع سنوات ما بعد الاستقلال 1956 بأنه أبداً لم يكن صراع أفكار بل صراع سلطة، ومع الخيبات المتوالية تحول إلى "أزمة في الانتماء و الوطنية" وفي العقدين الأخيرين من منتصف الثمانينات والتي يطلق عليها المؤلف"عُقود الرِدّة" تظهر أكثر من 30 حركة وتنظيم مُسلَّح، توحَّدت جميعها لإسقاط النظام الذي اختل توازنه مرات، و فقد نفوذه و سيادته أحياناً لحد أن أصبح يدير "دولة هشَّة" لا تقوم بالحد الأدنى من المهام الموكلة لها،مما نبه الأطراف الدولية لسرعة التدخل في أكثر من جبهة كالجنوب و الغرب مثلا، و أصبح الشأن السوداني مثارا في العديد من العواصم الإقليمية و العالمية(أديس أبابا، نيروبي، أبوجا، هراري، جوهانسبرج، إنجمينا، واشنطن، لندن، باريس، جنيف، أوسلو، لوكسمبيرج... الخ) كما تناولته المنظمات الإقليمية(الإيجاد، شركاء إيجاد، الاتحاد الأفريقي،تجمع الساحل والصحراء، الجامعة العربية)كذلك منظمات أخرى غير حكومية حتى وصل للأمم المتحدة(ويفرد المؤلف الفصلين الخامس والسادس لدور ومبادرات هذه القوى والمنظمات)ويقر المؤلف أن تدخلات الخارج أثرت أحيانا بالسلب على التطور المتوقع لمسار الصراع، لكنه أمر واقع لا مفر منه، و قد يدفع في اتجاه حلول دائمة لا أنصاف حلول تتفاقم عبر السنوات لتخلق أزمات جديدة. باسلوب السرد المتعدد المستويات يبدأ الفصل الأول "اتكاءة على ظهر التاريخ" بمشاهده الستة عن السودان القديم و الحديث و خطط انقلاب الثلاثين من يونيو الذي كان يتنبأ به كثيرون وراء الحدود في حين لم يكن النظام وقتها يتوقعه من الجيش بل من مجموعة من المايويين (أنصار الرئيس المخلوع جعفر نميري) ويستمر في يوميات الانقلاب وكيف بدأ الصدع مبكراً بين الترابي و رفاقه. وفي الفصل الثاني يقص بدايات تشكل التجمع المعارض حتى وصل الأمر لصراع الضعفاء حسب عنوان الفصل الثالث حيث كل من طرفي النزاع (حكومة ومعارضة)غير قادر على حسمه، متندراً في الفصل الرابع المعنون بالحوار المسلح على نماذج أوردها من تصريحات عنترية أغلبها عسكري أطلقت باعتبارها ميدانية في حين كان أصحابها يستلقون بفنادق مكيفة بعيداً عن جبهة المعركة بأميال. كما يلفت الكتاب نظرنا لتصاعد نبرة الاستعلاء على أساس الدين أو العنصر أو اللون في السنوات الأخيرة، عكس ما عرف عن السودان المعاصر من"تسامح نسبي"و يرى أن هناك من استفاد من هذا المناخ الرديء منبهاً لضرورة تبني شرعة حقوق الإنسان كمخرج لهذه السلوكيات. يتحدث المؤلف عن مشاهداته في بداية التسعينات مستفيداً من قربه في العاصمتين المصرية و الإرترية من فصائل المعارضة الشمالية،التجمُّع الوطني الديمقراطي،مؤتمر البجا،الحركة الشعبية لتحرير السودانSPLM،كما يورد رصده الميداني لأول عملية لقوات التحالفSAF وأنه كتب أول بيان عن هذه العملية و وصف مهمته بأنها "تكليف و تشريف" فهل كان المؤلف منضوياً تحت لواء هذا الفصيل؟ إذ من الملاحظ أن كثيراً من وثائق الكتاب مصدرها أعضاء كانوا بهذا التنظيم بأجنحته المختلفة. ورغم اعتماد المؤلف على إحالات مرجعية من مصادر مختلفة لكن بعضها خاصة الروايات المنقولة و الشفهية غير قابل لتثبيته أو دحضه، ولولا ثقة في ضمير لكان التعامل مع هذه النصوص أكثر حرجاً، بالإضافة لتعلقها بأحياء شخوصاً و حركات، بعضهم ربما آثر الصمت حرصا على رأب الصدع أو خشية من تثبيتها أومواجهته بالمزيد. يصف الكاتب محتوى عمله بأنه أقرب لغضب نبيل، دونما شماتة سياسية، أو استحقار فكري، والحقيقة أن غضبا نحتاجه جميعاً، غضبا بناءً و رؤية نقدية و وقفة لمراجعة كم قطعنا من طرق و لم لم نصل للنهاية المرجوة؟، ومن الهام التوقف عند هذه الجزئية ربما استفادت شعوب أخرى من هذه التجربة على ما فيها من أخطاء و ما حققته من نجاح جزئي. ويرجع المؤلف شبه استسلام النظام الحالي و حتى المعارضة للتدخل الخارجي لكون السلاح أصبح حَكَمَاً، عِوَضاً عن الحِوار، والإقصاء مَنهَجاً بدلاً من احترام الآخر، لكنه لم يفسر لنا لماذا يعلو صوت البشير بين حين وآخر ضد التدخل الأممي بدارفور عكس موقف نائبه القوي علي عثمان طه، أهو تقسيم أدوار أم شقاق حقيقي في أمر ليس بالهين. الكتاب بغلافه المميز للفنان السوداني المعروف"حسان علي" طبع على نفقة المؤلف و يوزعه بالقاهرة مركز الدراسات السودانية و بالخرطوم دار آفاق جديدة، وللمؤلف كتابان سابقان هما "محنة النخبة السودانية" القاهرة1993، و"حوار البندقية: الأجندة الخفية في الحروب الإثيوبية الإرترية" القاهرة2000 ويبدو أن تعرض الكتاب بالنقد لكل من تجربة الحكومة و المعارضة جعل قرار هيئة المصنفات الفنية والأدبية السودانية بمنع دخوله البلاد لا يجد من يعارضه.
| |
|
|
|
|
|
|