|
بينى... و بين محمد عمر بشير... فاروق كدودة... و جامعة أم درمان الأهلية
|
خواطر من زمن الإنتفاضة (15)
بيني ... وبين محمد عمر بشير... فاروق كدودة ... وجامعة أم درمان الأهلية
د. إبراهيم الكرسنى
بعد أن غفلت راجعاً إلى السودان ، بعد أن أنهيت دراستي العليا ببريطانيا ، في منتصف عام 1982 م ، وبعد أن تم تعييني محاضراً بقسم الإقتصاد جامعة الخرطوم ، أخبرني أستاذي الجليل وصديقي الوفي البروفيسور محمد عمر بشير ، عليه رحمة الله ورضوانه ، بأنه يريد مقابلتي وذلك لأمر هام . كان هذا الاتصال بعد قدومي إلى السودان بفترة وجيزة ، كنت حينها مشغولاً بتدبير شؤوني العلمية والأكاديمية والأسرية للاستقرار كواحد من ناشئة الأساتذة في ذلك الوقت .
كنت ألتقى بروفيسور محمد كثيراً وبصورة متكررة ، ولم يكن قد نال تلك المرتبة العلمية الرفيعة بعد ، على الرغم من إستحقاقه لها ، ولكنه كان يشغل منصباً هاماً ورفيعاً داخل معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية ، الذى ما ذكر، إلا وذكر إسم البروفيسور محمد عمر بشير وكذلك إسم أستاذنا الجليل البروفيسور يوسف فضل حسن ، أطال الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية ليواصل عطاؤه المتميزفى مجال الدراسات السودانية بمختلف فروعها ، وبالأخص في مجال التاريخ . إن " التأصيل " الحقيقي لمنهج وأسلوب البحث ،في جزء منه ، وبالأخص في مجالي التعليم والتاريخ السوداني، قد أستند على جهد هذين الرجلين ، بروفيسور محمد عمر بشير فى التعليم وبروفيسور يوسف فضل حسن في التاريخ . ما كنت ألتقي بروفيسور محمد إلا وأجد الجديد عنده ، إما مشروع بحث ، أو فكرة مشروع ، أو حتى مجرد كتاب أو مقالة في دورية علمية ... فتأمل !! لقد كان بالفعل رجل رؤى مستقبلية من الطراز الأول . وهو فوق هذا وذاك مهموم بأمهات القضايا الوطنية وبحقوق الإنسان . من هنا أتى إرتباطه بحركة اليسار ، وهو في ريعان الشباب ، وكذلك تم إختياره كأول رئيس للمنظمة السودانية لحقوق الإنسان بعد الإنتفاضة . إن الإهتمام بالإنسان عند البروفيسور محمد لم يقتصر على المدن والمناطق الحضرية فقط ، بل في حقيقة الأمر لقد بدأ ونما من رحم إهتمامه بقضايا من أصبحوا يعرفون حالياً ب " المهمشين " !! لقد إهتم البروفيسور بقضية جنوب السودان حتى أصبح أحد مراجعها المهمة، كما أصدر حولها العديد من المؤلفات ، بل كان سكرتيراً لمؤتمر المائدة المستديرة الذى إنعقد حول مشكلة جنوب السودان فى عام 1965 م . لم يقتصر إهتمامه على قضايا الجنوب وحده ، بل شمل " المهمشين" في جميع أنحاء البلاد . سأروى لكم حادثة بسيطة للإستدلال على ما أقول و لتدل كذلك على مدى بعد نظر هذا الرجل ومدى إهتمامه بقضايا " المهمشين ".
أذكر أنني كنت جالساً معه ذات يوم بمكتبه بالمعهد، فدخلت علينا شابة كان يبدو عليها أنها فى مقتبل حياتها العملية . قام البروف بتحيتها ومن ثم قدمها لي ، بزهو واضح ، باسمها – ولكن ما كان يود تأكيده بالفعل هي أنها تنحدر من منطقة المناصير . لم يستغرق لقاؤها مع البروف وقتاً طويلاً ، حيث إتفقا على لقاء آخر ، ثم انصرفت . توجه البروف نحوى بعد إنصرافها ، وبأسلوبه العفوي المعروف خاطبني قائلاً ، " تصور يا إبراهيم الشابة دى من منطقة المناصير ... جاية عايزة تعمل دبلوم عالي ... والله أول ما جات.. فاجأتني.. لأني لم أكن أتوقع إنو في بت من المناصير وصلت مرحلة التعليم العالي !! والله يا إبراهيم لو القوانين بتسمح الواحد يديها الدبلوم طوالى، بس لأنها منحدرة من منطقة ’مجدوعة’ زى دى ، الواحد ما يصدق إنها قرت جامعة ، ناهيك عن إنها عايزة تعمل دراسات عليا " !! ، تأملوا هذا الحديث جيداً ... ما كان يقصده البروف في حينها هو إشارة ذكية ولماحة منه لما كان يعانى منه أهلنا المناصير من تهميش . تدل هذه الحادثة عن مدى إهتمام البروف بحقوق الإنسان ، وبالأخص حقوق المرأة، منذ وقت بعيد . للأسف الشديد لا أذكر إسم تلك الشابة ولكنني آمل أن تكون ضمن الكوادر المصادمة دفاعاً عن حقوق أهلنا المناصير. اختصارا كان البروف يشير إلى أن التعليم والعنصر البشرى المتعلم والمدرب هو مفتاح الحل بالنسبة لقضايا المناطق المهمشة ... تأملوا معي بعد نظر هذا الرجل واستقراؤه الصحيح للقضايا والإشكاليات التى تواجه السودان بأطرافه المترامية .
لم يكن غريباً على الإطلاق أن تأتى فكرة تأسيس " جامعة أم درمان الأهلية " من قبل هذا الرجل الفذ . أدرك البروف بنظرته المستقبلية الثاقبة أهمية مشاركة القطاع الأهلي ، أو ما أصبح يعرف لاحقاً بمنظمات المجتمع المدني ، فى تطوير عملية التعليم فى السودان . لقد عرف عن القطاع الأهلي دوره المشهود فى نشر التعليم العام في البلاد فيما كان يعرف وقتها بالمدارس الأهلية ، لكن على المستوى الجامعي ، فلم يسبق الجامعة الأهلية ، في مجال التعليم العالي ، سوى كلية الأحفاد الجامعية ، التى أقتصر دورها ، ولا يزال ، في تعليم المرأة . وجدت الفكرة قبولاً وسط " تجار " أم درمان ، وتحمسوا لها حماساً منقطع النظير، إلى أن نجحوا فى تحويلها إلى صرح علمي شامخ يشار إليه بالبنان .
بعد أن استقريت نسبياً في جامعة الخرطوم، ذهبت يوماً إلى البروفيسور محمد في مكتبه مستدعياً رغبته في مقابلتي لأمر هام. طرح على البروف فكرة الجامعة ، شارحاً لفلسفتها والمراحل التى قطعها ، بالتعاون مع بقية الأطراف ذات العلاقة ، في تنفيذ الفكرة . تناقشنا كثيراً حول مبدأ الجامعة الأهلية نفسه. كان لي تحفظات كثيرة حول مدى تأثير " التجار " على المستوى العلمي والأكاديمي للجامعة. لكن بعد نقاش مستفيض اقتنعت بفكرة البروف حول جدوى تأسيس الجامعة . عندها طرح علىٌ فكرة قيامي برئاسة وتأسيس قسم الإقتصاد بالجامعة . أبديت له بعض التحفظات، يأتي في مقدمتها عدم توفر الوقت لتحمل مسؤولية مثل هذا العمل الضخم . منذ أن تعرفت على البروفيسور محمد ، لم يكن يوجد في قاموسه شيء إسمه المستحيل. لذلك فقد دفعني ، تحدوه رغبة جامحة في ضرورة قيامي بهذه المهمة ، إلى قبول مبدأ الفكرة والعمل مع الفريق المكلف بتنفيذ المشروع ، كل فى مجال تخصصه . شكرته شكراً جزيلاً على ثقته الغالية ، ثم غادرت مكتبه وأنا مشحون بحماس دافق جراء الجرعة المعنوية العالية التى منحنى إياها .
قمت بإنجاز وكتابة مشروع تأسيس قسم الإقتصاد بالجامعة الأهلية في فترة وجيزة للغاية ، وأنا مدفوع بحماس الشباب، وذلك الدعم المعنوي الأخاذ من قبل البروف ، ومن ثم ذهبت به إليه في مكتبه لأخذ رأيه حول الأفكار الواردة به . رحب بي البروف ، كعادته ترحيباً حاراً ، وبعد أن أطلع على ما كتبت ، بدأنا مناقشة المشروع خطوة بعد الأخرى ، وكنت أدون حينها ملاحظاته القيمة حول مراحل تأسيس القسم وإحتياجاته المادية والمالية والبشرية . بعد إنتهاء المناقشة إقترح علىٌ البروف أن أعيد صياغة مشروع تأسيس القسم ، ومن ثم طباعته ، وذلك إستعداداً لمناقشته مع البروفيسور عبد الرحمن أبو زيد ، عليه رحمة الله ورضوانه ، توطئة لإعتماده ومن ثم الشروع في تنفيذه .
تفاجأت تماماً بإسم عبد الرحمن أبو زيد . لم يذكر لي البروف محمد هذا الإسم طيلة لقاءاتنا السابقة ، لذلك كان سؤالي للبروف ، وكانت تعلو وجهي دهشة لم أستطع إخفائها : " وما علاقة عبد الرحمن أبو زيد بهذا المشروع ؟ "، فرد على " ياخى دا ما المديرالتنفيذى للجامعة " . لقد صدمت بالفعل من رد البروف ، ثم صمت برهة ، وطلبت بعدها من البروف ، وبأدب جم ، بضرورة إعفائي من هذه المهمة . صدم هو الآخر وكست وجهه دهشة لم يستطع إخفاؤها كذلك ، ثم سألني ، " لماذا ؟ ... ما الذى أستجد فى الموضوع لتقرر فجأة إعتذارك عن القيام بهذه المهمة ؟ "، فأجبته ، " والله يا بروف ما عندي أدنى إستعداد للعمل مع هذا الرجل !!" ، سألني البروف " هل قابلت عبد الرحمن قبل ذلك وهل تعرفه معرفة شخصية ؟ " ، أجبته بالنفي . حينها إزدادت دهشته ثم أردف قائلاً ، " والله دى حاجة غريبة ، طيب مالك معاهو ؟ " ، سألته بدوري ، " الراجل دا مش الأمين العام للجنة التنفيذية للإتحاد الإشتراكى ؟ " . أجابني البروف بالإيجاب . حينها قلت له في لهجة قاطعة ، مع كامل الإحترام لمقامه ، " والله يا أستاذ أنا ما عندي أي إستعداد للعمل مع أي إنسان مايوي ، ناهيك من إنو يكون في موقع قيادي زى دا ، وفي التنظيم السياسي كمان " !!
ذهل البروفيسور من موقفي تماماً ، ثم قال لي ، " كدي يا إبراهيم شيل الورق بتاعك دا وفكر في الموضوع شوية وخلينا نتلاقى بعد داك"، وكأن لسان حاله يقول ... "ياخى ما دا براه ... ودا براه " !! خرجت من مكتبه متكدراً بعض الشيء، فكرت في الموضوع كثيراً، لكن موقفي لم يتزحزح قيد أنمله. عندما رجعت إليه بعد ذلك بأيام أكدت له إعتذارى عن المهمة . لقد صدم البروف بالفعل ، كما شعرت بأنه قد أصيب بخيبة أمل من موقفي هذا . ولكيما أخفف عليه وقع هذا الموقف العجيب ، من وجهة نظره ، قلت له ، " والله يا بروف أنا عندي واحد زميل ممكن يؤدى هذه المهمة، كما هو مطلوب وعلى أكمل وجه . " سألني مباشرة ، "من هو ؟" فأجبته " دكتور فاروق كدودة" . ثم أعطيته نبذة بسيطة عن الدكتور فاروق ، رحب البروف بالفكرة وطلب منى الإتصال به وأخذ رأيه ومن ثم ترتيب إمكانية اللقاء به .
كان الأخ العزيز د. فاروق كدودة ، له التحية والإعزاز ، وقتها مفصولاً من جامعة جوبا لأسباب سياسية ، حينما كان مديرها أحد الكوادر الطبية ل " الجماعة " ، وأعتقد أن إسمه بروفيسور عبد العال . ذهبت إلى الأخ فاروق وطرحت عليه فكرة تأسيس قسم الإقتصاد بجامعة أم درمان الأهلية، ورغبة البروف محمد عمر بشير أن يتولى هو تلك المسؤولية . تحمس الأخ فاروق للفكرة وقبلها من ناحية مبدئية إلى أن يتم مناقشتها وإقرارها مع البروفيسور محمد عمر بشير. أخبرت البروف بموافقة الأخ فاروق المبدئية للفكرة . لقد فرح لهذا النبأ، وطلب منى الإتفاق على موعد لمقابلته . بالفعل تم هذا اللقاء ، الذى آمل أن يتطرق له الأخ فاروق ، إن أسعفه الوقت والذاكرة لسرد تفاصيله .
بعد هذا اللقاء إنقطعت صلتي العملية بجامعة أم درمان الأهلية ، وكنت أعرف أخبار مراحل تطورها من البروف حينما ألتقيه ، وبدأت علاقة الدكتور فاروق كدودة بها وإستمرت حتى وقتنا الراهن ، حيث أصبحت جامعة أم درمان الأهلية صرحاً أكاديمياً يشار إليه بالبنان ، تلتزم بالمعايير الأكاديمية الصارمة وتخرج طلاباً مؤهلين في مختلف التخصصات ، بما في ذلك علم الإقتصاد . لم التقى البروفيسور عبد الرحمن أبو زيد إلا بعد ذلك بكثير في أحد " جلسات " البروف بمنزله العامر بضاحية المنشية ، وقد وجدته رجلاً طيباً ومهذباً للغاية . ثم بعد ذلك تعرفت على زوجته ، السيدة " كارن "، حينما كنت أجرى دراسات ميدانية عن اللاجئين الإرتريين بمحافظة كسلا ، وكانت هي تعمل بمكتب شؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة في الخرطوم . ظللت أتأمل موقفي ذلك ، وأسأل نفسي دائماً إن كنت مخطئاً أم مصيباً في إتخاذه ؟! لقد توصلت وبعد مرور كل هذه السنين إلى حقيقة أنه كان موقفاً خاطئاً تماماً . أقنعتني التجربة التاريخية بمدى بعد نظر البروف في هذا الشأن وصحة موقفه الذى لخصه في " دا براه ... ودا براه " !! ولكنني " كفرت " عن هذه " الخطيئة "لاحقاً حينما قمت بإهداء مكتبتي الخاصة ، قبل سنوات قلائل ، وبأكملها لمكتبة مركز محمد عمر بشير بجامعة أم درمان الأهلية، وفاءاً لروح هذا الرجل الفذ . آمل أن أكون بهذا قد رديت جزءاً ، ولو يسيراً ، من دين وأفضال الرجل على شخصي الضعيف، منذ أن تعرفت عليه وإلى أن رحل عن دنيانا الفانية . كما أتعهد بأن أهدى ما يتبقى لدى من مكتبة خاصة إلى ذلك المركز الذى يحمل إسم هذا الرجل العظيم، حينما يحين موعد عودتى النهائية للسودان؟!!
اللهم أرحم البروفيسور محمد عمر بشير والبروفيسور عبد الرحمن أبو زيد رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناتك ، والتحايا والتقدير لأخي العزيز دكتور فاروق كدودة ، والتحية لجامعة أم درمان الأهلية ، هذا الصرح التعليمي العظيم، متمنياً لها دوام التقدم والازدهار، لتكون في مصاف الجامعات العالمية المشهود لها بالتميز و الكفاءة والتفرد .
25/4/2007
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: بينى... و بين محمد عمر بشير... فاروق كدودة... و جامعة أم درمان الأهلية (Re: Yasir Elsharif)
|
أسأل الله أن يسكن البروفيسور الجليل محمد عمر بشير أعالي الجنان ..
قبل فتره الدكتور تمتعت بالإستماع لفاروق كدوده وعلمت أنه يسافر كل ستة أسابيع للعلاج بالخارج أسأل الله أن يمتعه بالصحه والعافيه فالرجلان يستحقان كل التقدير والإحترام ...
من الطرائف أنه لم يستسغ كدوده ولكنه طلب نطقها (كدوده) بضم الكاف والدال الأولى ًٌَُُوهي الطريقه التي ينطق بها الحلفاويون الكلمه
مؤونة عام من الود
| |
|
|
|
|
|
|
Re: بينى... و بين محمد عمر بشير... فاروق كدودة... و جامعة أم درمان الأهلية (Re: ابراهيم الكرسنى)
|
اللهم أرحمهما وأسكنهما فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء من عبادك
بفضل المرحوم بإذن الله بروفسور محمد عمر بشير و بروفسور عبد الرحمن أبو زيد وبفضلكم طبعا قضينا أجمل ربعة سنوات من عمرنا في جامعة أمدرمان الأهلية ... وكنا أول دفعة تتخرج من مقر الجامعة الدائم في حمد النيل... حقا لقد كانت أيام جميلة تمكنا فيهاحيث كانت الجامعة كغيرها من الجامعات سودان مصغر...
لقد تخرجت من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية عندما كان البروفسور ربيع عمر بشير هو رئيس المجلس الأكاديمي والمرحوم أستاذ بيومي، عميدا للكلية وكانت هنالك كوكبة من الاساتذة أمثال آدم الدين، زهير، د. صديق ، ريك بايندر وقد تميزت بالجودة في العطاء الأكاديمي ولم يبخلوا علينا بشيء.
يا د. إبراهيم نتمنى أن يمد الله في عمركم ويوفقكم لما فيه خير للسودان لأن البلاد في حاجة إلى أمثالك وشكرا على هذا البوست الرائع.
| |
|
|
|
|
|
|
|