|
عندما التقيت بالطيب صالح الإنسان
|
عندما التقيت بالطيب صالح الإنسان
قرأت "موسم الهجرة الى الشمال" وأنا في بداية مرحلة المراهقة، لذا كان أكثر ما يدهشني وابناء جيلي هو كلام "بت مجذوب" غير المتحرج في الجنس والكوميدي في نفس الوقت، كذلك وصف " مصطفى سعيد" لعلاقاته مع البيضاوات بنات الانجليز اللاتي أصابهن المرض منذ الف عام، قرأتها بشغف في أوائل السبعيات وكنت في المرحلة الدراسية المتوسطة، وقرأت بقية درر العقد، "دومة ود حامد" و "عرس الزين" وبعد سنوات ظهرت "ضو البيت" ثم "مريود" .. وكلما قرأت واحدة من تلك الدرر رجعت فقرأت واسطة العقد ودرته الكبرى "موسم الهجرة الى الشمال" .. ولولا مشاغل الحياة والأسرة لقرأتها للمرة العاشرة ولكن حتما لن تكون العاشرة هي الأخيرة، بل ستكون الأولى بعمق آخر .. فما قرأت "موسم الهجرة الى الشمال" تكرارا ، بل كرواية جديدة ، نعم ، ففي كل قراءة أغوص في عمق جديد واكتشف معنى أعمق وأحس بمتعة أكثر وأجمع لاليء أبدع، انها ليست مجرد رواية ، ولكن ماذا هي إذاً؟ وأعجز عن معرفة ماهيتها وأكتفي بمتعة قراءتها.
حكيت له عن صديقي المغربي طالب الطب الذي قرأ "ضوء البيت" وأكمل قراءتها عند منتصف ليل الرباط فلم يستطع الصبر حتى الصباح فجاءني يستنجد بي - لكوني سوداني - ويقول "الحقني" فأجبته بأنني أنا نفسي أبحث عمن "يلحقني"، فقد اندمج في الرواية حتى دار رأسه مع غموض أحداثها وميتافيزيقيتها، ولم أشف غليل صديقي مصطفى محفوظ إذ لم أجد أنا ما يشفي غليلي حتى تلك اللحظه، حكيت تلك الواقعة للطيب صالح فشفى من غليلي القليل إذ أوضح أن الذي "أصابنا بالدوار" في الرواية هو اختلاط الواقع بالخيال .
وكان الطيب صالح في زيارة عمل للرباط في أغسطس 1976م قادما من مقر عمله بدولة قطر، وكنت طالبا بكلية الحقوق بالرباط، فسمعنا بوجوده بالمغرب وتوصلنا لمكان اقامته الذي كان هيلتون الرباط وذهبنا إليه يحدونا الشوق الى "مصطفى سعيد" ، وجاء الينا في بهو الفندق، ورغم انها كانت المرة الأولى التي نلتقيه إلا أنه جعلنا بأسلوبه المميز وسودانيته التي لم تؤثر عليها سنوات الغربة في بريطانيا وغيرها، جعلنا نحس أننا نتعارف منذ أمد بعيد، وسألته بلا تردد ان كان مصطفى سعيد هو الطيب صالح فنفى ذلك، وحاصرناه بالأسئلة أنا وزميلي فأجاب ولكنه كان يحاول ألا يتكلم عن أعماله ولا عن نفسه ولما ازداد حصارنا له قال لنا انه يريد ان يسمع منا ويسألنا عن حياتنا وعن دراستنا وعن المغرب - وكان يزورها للمرة الأولى في حياته - وكانت دردشة سودانية في ليلة رباطية وأوصلنا الى دارنا بالسيارة التي خصصت له ونزل من السيارة ليصافحنا مودعا على أمل اللقاء مساء اليوم التالي لتناول العشاء معه بالفندق بناء على دعوته - وكان الأولى أن ندعوه نحن فهو كان ضيفا على المغرب وكنا نحن مقيمين ولكن ضيق ذات اليد حبسنا عن تقديم واجب الضيافة - واستجبنا لدعوته لحرصنا على الاستماع إليه وحصاره بالاسئلة.
والتقيناه ثانية في اليوم التالي - وكان معي زميلي عمر الامام النور ومحمد عثمان الخليفه- وكان كريما معنا في الكلام أيضا وصحح لنا بعض نطقنا لأسماء أبطال رواياته وسألنا هو عن نشاطاتنا وهواياتنا واستنكر عدم وجود نشاطات ابداعية أو أدبية لدينا واستحثنا على الكتابة- وقد آتت نصيحته أكلها فيما بعد- وعند الافتراق لم أجد ما أقدمه له هدية تذكارية غير بطاقة بريدية كنت أحتفظ بها من مدة عليها منظر طبيعي لاحدى مدن المغرب، فأمسكها بكلتا يديه متمعنا فيها متمتما بعبارات الشكر والثناء لي وبالاعجاب بالمنظر، ما رأيت تواضعا وأدبا أكثر من تواضع وأدب ذلك الرجل.. وعندما غادر المغرب ترك لي رسالة : (لقد سعدت بمقابلتك أنت وزميليك، أسمح لي أن أترك لك هذه الهدية البسيطة) ولم تكن بسيطة فقد حلت لي مشكلة مادية ملحه، ولكن كلماته تلك كانت الهدية الأكبر مع أتوقراف خطه علي نسختي من (الأعمال االكاملة - الطيب صالح) وهي مجلد يضم رواياته الأربعه، وكان يرى هذا المجلد لأول مرة رغم انه على علم بصدوره.
وأذكر أنني سألته عن ذريته، فقال لي أن لدي ثلاث بنات، فقلت له كم أعمارهن، فقال لي كبراهن تبلغ الرابعة عشر.. ثم سكت لثوانٍ ثم أردف قائلاً: (صغيرة مش كده؟) فقلت على الفور: (لا .. عز الطلب) فانفجر ضاحكاً .. ألم أقل لكم أنك تحس بالألفة في أول لقاء معه وكأنك تعرفه منذ أمد بعيد!!
في ديسمبر 1992م استضافه نادي جدة الأدبي في ندوة أدبيه، وانتهزت الفرصة وزرته في مقر اقامته فرأيته أصغر سنا مما رأيته أول مرة في الرباط منذ ستة عشر عاما، وأبديت له تلك الملاحظة مقرونة ب(ماشاء الله) ويبدو أن تواضعه وبساطته وحب الناس له وحبه لهم وراء ذلك، فمازال الرجل كما عرفته أول مرة، متواضعا بلا تكلف، يكره أن يتكلم عن نفسه وعن أعماله، سودانيا رغم امتداد سنوات الغربة الى باريس وبلاد أخرى.
ثم كانت أصيلة الأصيلة، وكان تكريم الرواية العربية ، وتكريم الروائي العالمي العربي السوداني الطيب صالح، وقرأت أوراق أصيلة على صفحات "الشرق الأوسط" وأبدع محي الدين اللاذقاني في عموده طواحين الكلام عن عرس الطيب وأفاض في وصف "الجلابية السودانية" وأنه "يشع كالأبنوس" ووصف "العمامة الثلجية البيضاء" مما أثلج صدورنا نحن السودانيون، ولخص حفل العرس حاتم البطيوي وعلي انوزلا، ولاتعليق لي على أوراق كبار الأدباء فقد أكفوا وأوفو.. ومن أصيلة عرفت أن "موسم الهجرة الى الشمال" قد ترجمت الى ثلاثين لغة.. وكانت آخر معلوماتي أنها ترجمت الى ثمان لغات كانت ثامنتها الى اللغة العبرية، وأذكر أنني سمعت وقتها أن الطيب صالح طلب تحويل حقوق التأليف الى صالح صندوق القضية الفلسطينية!
ووددت لو أن مقالات الدكتور معجب الزهراني الأستاذ بالجامعات السعودية والمنشورة في جريدة "الرياض" أضيفت لأوراق أصيلة، فقد كتب الدكتور الزهراني ثلاث مقالات مطولة ومسلسلة في ثلاثة أعداد من صفحة الثقافة في الجريدة المذكورة وعلى كامل الصفحة وبخط ذو بنط صغير، كتب عن ثلاثة أشياء في رواية "موسم الهجرة الى الشمال" هي "السواد والبياض والموت" هذا البحث في تلك الجزئيات الثلاث - الذي يمكن أن يكون كتيبا صغيرا - كان يمكن أن يكون أحد أوراق أصيلة الهامة ، فلم أقرأ دراسة نقدية أبدع من دراسة الدكتور الزهراني وكم تمنيت أن يتكرم الطيب صالح باعطاء المقالات الثلاثة المذكورة للجنة المهرجان - إذ كنت قد أعطيته اياها ابان زيارته لجدة في ديسمبر 1992م وأنا على يقين من أن اللجنة كانت ستدرجها ضمن أوراقها.. التحية موصولة لاصيلة الأصيلة ولأهلها خاصة ولأهلي المغاربة ذوي الكرم والضيافة والأصاله عامة.
كان هذا المقال قد نشر في جريدة الشرق الأوسط منذ زمن طويل، وقد وددت أن اشارك به في هذا التأبين المفتوح للفقيد والشهيد الطيب صالح الكاتب والقاص والإنسان، له الرحمة والمغفرة، ولا نقول إلا ما يرضي الله.. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والعزاء موصول لأرملته ولبناته ولشقيقه مولانا بشير ولأبناء شقيقته علويه ولكل اهل كرمكول والدبة ولكل اصدقائه وأحبائه ومعجبيه وقرائه وزملائه وكل الشعب السوداني وكل الأمة العربية وكل مثقفي وأدباء العالم أجمع..
ملاحظة: اليوم بالصدفة وجدت هذا المقال منشور في موقع (مكتوب) بتاريخ 18/2/2009م، وقد اشاروا الى أن النقل تم من موقع (ود مدني)، وبالفعل كنت قد نشرته في الموقع بعد نشره بجريدة الشرق الأوسط بسنوات.
عمر حسن غلام الله [email protected]
|
|
|
|
|
|