دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الطيب صالح يرسم زينب تحت ضوء المصابيح
|
الطيب صالح _____
الذين حضروا ايام الانجليز من المخضرمين امثالي، يذكرون ان في المديرية الشمالية، كانوا يشقون قنوات على ضفتي النيل على طول امتداده في ذلك الاقليم. كان لذلك فائدتان..حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات، فيسيل الماء على الضفتين، فتمتص الارض الظمأى فائض الماء على الضفتين، فلا يحدث الخراب والدمار الذي يحدثه اذا لم يجد له متنفساً. وقد كان ذلك في ظني هوالهدف الاهم من فتح تلك القنوات. الفائدة الثانية هي ان ماء الفيضان يصل الى اماكن لا يصلها عادة، فتكون زراعات ومراعي اغنام وغابات طلح وسيال وعشر، وغير ذلك. كل ذلك كان يثبت الارض الرملية ويقي من رياح السموم، ويبسط الظل على عدوتي النيل. وكان في بلدنا غابة كبيرة من اشجار الطلح يسقيها النيل من تلك القنوات من عام الى عام. وقد نمت وازدهرت لان الحكومة كان تمنع منعاً باتاً قطع اي شجرة إلا باذن خاص وفي حالات نادرة. من تلك الحالات النادرة، قطع طلحة العرس، فقد كان من طقوسهم في الاعراس، انهم يمشون الى الغابة في زفة عظيمة، فيقطعون شجرة طلح ويعودون بها الى دار العروس. اذكر وانا صبي في الاربعينات عرساً كانت له شنة ورنة، من تلك الاعراس التي يؤرخ بها، وتظل اصداؤها تتردد زمناً طويلاً. كان العريس اسماعيل ودصبير، وكانت العروس ابنة المرحوم عبدالله عباس، الذي كان يومئذ من كبار موظفي الجمارك، وكان من اوائل خريجي كلية غردون، من اهلنا اضافة الى ان ام العروس كانت ابنة عبدالحليم فضل عمدة العفاض. انما الذي اعطى العروس بهاءه ورونقه واصداءه البعيدة فوق ذلك كله، ان اخت العريس، زينب بت صبير، عملت لاخيها سيرة لم يحدث مثلها من قبل ولا من بعد. كانت شابة وضيئة الحسن، متزوجة ولكن لا أظن ان سنها كانت تزيد على خمسة وعشرين عاماً. اذكر لونها العسلي وثغرها البراق ووقفتها النبيلة، وصوتها العجيب الذي تعجز الكلمات عن وصفه، بدت لي تحت ضوء المصابيح، ولابد انها ظهرت كذلك لاهل البلد كلهم، كأنها طيف ملائكي حل علينا من كوكب آخر. سرنا معها كالمسحورين يحدونا صوتها الاسطوري، من دار العروس في «كرمكول» شاقين البلد من الغرب الى الشرق، حتى وصلنا الغابة عند «دبة الفقراء» ظلت تغني كأنها ترتجل حتى قطعنا الطلحة وعدنا بها الى كرمكول.. ربما اكثر من ثلاث ساعات، وربما اربع، وصوتها يزداد عمقاً ومدى وجاذبية، والصور والمعاني تصل الى وجداننا منها مثل رفيف اجنحة القطا: جيد لي انا، جيد لي بي ذاته يا نمر الخلا الفارد سلاحاته حين صرت اكبر سنا واكثر ادراكا، فهمت ان زينب بت صبير صنعت «فنا» عظيما في تلك الليلة، خلقت اسطورة لاخيها، فاذا هو اجمل واكرم واشجع واغنى..وادخلت اهل البلدة قاطبة في نسيج عالمها الاسطوري، فاذا بلدنا كما نعرفها وزيادة، واذا نحن جميعاً كما نعرف انفسنا واكثر.. كذلك يصنع الفن العظيم. إنما الحياة كانت بالفعل حلوة في تلك الايام..حلوة حلاوة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، فماذا كان عندنا يومئذ ولم يعد عندنا اليوم؟ لم يمهل القدر زينب بت صبير.. بعد أشهر معدودات من تلك الليلة المشهودة اختطفها الموت فجأة دون علة واضحة، رحمها الله، كأنها كانت حقيقة طيفاً ألم بالبلد ثم عاد من حيث أتى. لا توجد اليوم اعراس كالعروس الذي غنت فيه زينب، في اي من قرى شمال السودان، فقد فرغت القرى من اهليها الذين تفرقوا ايدي سبأ... اختفت الغابات على الضفتين وهاجرت القماري بشجوها. النيل الرحيم الودود عادة، ظل في العهود الاخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار، كأنه يريد ان يقول شيئاً.. كأنه ضاق بحبسه بن الضفتين .. فمتى تفتح القوات للنهر وللبشر؟ ومتى تهدأ ثورة النيل؟ ومتى تعود القماري بشجوها؟
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الطيب صالح يرسم زينب تحت ضوء المصابيح (Re: Osman Musa)
|
Quote: النيل الرحيم الودود عادة، ظل في العهود الاخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار، كأنه يريد ان يقول شيئاً.. |
في عصرنا هذا اخي عثمان, حتى النيل اصبح يتحرك وفق تعليمات العسكر, فهو لايتمتع بكامل حريته كما كان يتجاسر على الناس ويقاومهم ويقاوموه, ويهدا ليصالحهم ويصالحوه. ليس في مقدوره ان يقل شئ, او ان يعبر عما تجيش به دواخله...
النيل اخي عثمان ليس عليه لوم فقد اصبح مغلوب على امره...
| |
|
|
|
|
|
|
|