|
موسم الهجرة إلى السماء
|
لقد رحل صورة الكون كما وصفوه حيث يكمن وراء مظهره الهادي الإعصار المحلي الذي صار كونياً . كل أرجاء المعمورة أحبته وأجلته وبكت على رحيله ، وعرفت قدره ، إلا نحن في السودان ، منعنا كتبه في الجامعة وتركناها للعامة . الطيب صالح مر من هنا خفيفاً ، جاء كالحلم يقف في منتصف الدنيا وتسلط عليه الأضواء . كما قال الأستاذ مامون فندي . ويذكر الكاتب مامون " كان الطيب يضحك من قلبه على من يتحدثون عنه ولا يعرفونه ، إذ حكى يوماً له ، عندما استوقفه ضابط الأمن في مطار القاهرة يوم كان السودانيون محل شبهة (ولا زال من عندي) ولما تململ الطيب من طول الانتظار ، قال الضابط أنت رجل مهم وسننهي اجراءاتك بسرعة " مش أنت صالح الطيب مؤلف الطيور المهاجرة " هكذا خلط الضابط اسم الكاتب واسم الرواية في الخلاطة ولم يكن ذلك يزعجه في شيء " . لقد كان الطيب صالح همزة وصل بين الثقافة العربية والأجنبية خاصة الانجليزية . وستظل درة أعماله موسم الهجرة للشمال التي رصد فيها منحنيات العلاقة بين الشرق والغرب وبين العناصر العربية ونظيرتها الغربيــة وهو في ذلك يقف في الخندق نفسه الذي وقف فيه سهيل ادريس في " الحي اللاتيني " ويحي حقي في " قنديل أم هاشم " وتوفيق الحكيم في " زهرة العمر " وهي الأعمال التي حاولت أن ترصد العلاقة بين الشرق والغرب ، تلك العلاقة الغامضة التي تراوح في فضاءاتها بين الصداقة والعداء . لقد أسس الطيب في روايته " موسم الهجرة للشمال " جزءً من تاريخ الصراع بين الشرق والغرب وتثبت الأحداث إلى الآن أن هذا الصراع ما زال قائماً رغم المقولات السهلة عن حوار الحضارات وتفاعل الثقافات ويشترك استاذنا الطيب مع الاستاذ يحي حقي في أن أعماله صمدت مع الزمن على الرغم من توقفه عن العمل الإبداعي إذ هو يؤمن بأن كتاباً واحداً جيداً أفضل من سبعين كتاباً متواضعاً . ففي روايته نجد أن الفعل الجنسي يبدأ من لحظة عناق مصطفى سعيد الطفل للمرأة الانجليزية التي اصطحبته إلى لندن عندما اشتم فيها رائحة أنثى مغايرة ومن هذه اللحظة ستبقى الروائح ذات دلالة جنسية حتى النهاية حيث ستصحب معاشرته الانتقامية للمرأة الأخيرة التي قتلها في سريره . غير أنه على خلاف معظم الروايات التي عالجت موضوع الصدام الحضاري التي انتهت به إلى المصالحة الحضارية فإنه وحده قد إنفرد بالحكم بإستحالة ذلك ، فأزمة مصطفى سعيد في الغرب ظلت معه عندما عاد لموطنه ليموت ميتة دالة فقد سبح الى منتصف النهر ولم يستطع الإكمال إلى الضفة الغربية منه كما لم يستطع العودة إلى الضفة الشرقية التي انطلق منها . وترجع فرادة موسم الهجرة التي اعتبرها الكثيرون واحدة من أفضل مائة رواية في القرن العشرين إلى ثلاث عوامل ، هي الطابع الوطني الذي وسم الرواية والثاني هو كسر التابو الجنسي باعتباره واحداً من المحرمات التي يمتنع الحديث فيها وعنها مع (السياسة والدين) والثالث هو لؤلؤة الجرأة في معالجة القضايا بين الشرق والغرب . ألا رحم الله الطيب صالح ونأمل من كتابنا وأدبائنا الحراك بدل التقوقع والإنفعالات الوقتية وتقديم نقد هادف وتوثيقي عن أدبه وحواراته ولقاءاته حتى يشب أطفالنا وشبابنا وفي يدهم شيء يفاخرون ويباهون به العالم أجمع . وداعاً نيلنا الرابع وهرمنا الساطع وسدنا المانع .
|
|
|
|
|
|