|
Re: منسي إنسان نادر على طريقته .. والطيب صالح مبدع متفرد على طبيعته (Re: عاطف عبدالله)
|
Quote: في طريقنا إلى مقر اتحاد طلبة جامعة لندن, سألني منسي عن قضية فلسطين. كانت جرأة كبيرة من اتحاد الطلبة أن يختار ذلك الموضوع , في تلك الأيام العصيبة أوائل الستينات... ولا أدري من الذي اختار منسي ليكون المدافع الرئيسي عن قضية فلسطين تلك الليلة, في مواجهة خصم قوي شديد المراس. ولكن لأنه كان يحب الجدل, ويحب الظهور والضوء فلا بد أنه بذل جهداً ليحصل على الدور. كان المتحدث الرئيسي المعارض له, هو مستر ريتشارد كوردسمان. " ريتشارد كوردسمان ؟
. وإيه يعني ؟" لكن ريتشارد كوردسمان لم يكن رجلاً سهلاً , في الواقع, ولو كان المعني بالأمر شخصاً غير منسي لحسب لمواجهته ألف حساب. كان من مفكري اليسار المعدودين, ومن المنظرين الكبار في حزب العمال. كان أستاذاً في جامعة أوكسفورد قبل أن يصبح نائباً في البرلمان. وقد صار فيما بعد وزيراً ومستشاراً أثيراً عند هارولد ولسن رئيس الوزراء. ولمّا ترك الوزارة أصبح رئيساً لتحرير مجلة الـ" نيو ستيتسمان" الواسعة النفوذ . وكان قد اشترك من قبل في لجنة كونتها الحكومة البريطانية لدراسة أوضاع العرب واليهود في فلسطين ورفع تقرير عن ذلك. وكان منحازاً تماماً لوجهة النظر الصهيونية. قال لي منسي ونحن في سيارته تلك في طريقنا إلى مقر لاتحاد, وقد بقي أقل من ساعة على بدء المناظرة: " اسمع قول لي بسرعة إيه حكاية فلسطين دي ". " الله يخيبك. تقصد سوف تواجه ريتشار كوردسمان وأنت لم تستعد؟ ألا تعرف من هو ريتشارد كوردسمان " ؟ " بلاش غلبة. بس انت قول لي بسرعة إية حكاية وعد بلفور ومش عارف إيه وشغل الحلبسة دا ؟ " " يا ابني دا مش لعب. هذه مناظرة مهمة جداً... فرصة نادرة لن تتكرر. الله يخرب بيتك. انت مين اختارك لتكون ناطقاً باسم العرب ؟" " ما لكش دعوة. بس اديني شوية معلومات وما تخفش عليّ. قال ريتشارد كوردسمان.
! وإيه يعني ؟" انتابني قلق حقيقي. امتلأت القاعة بالخلق, واللذين لم يجدوا أماكن وقفوا في الطرقات والرّدهات. سفراء عرب وأجانب, وأعضاء في البرلمان وصحافيون ومصورون. وراديو وتلفزيون. كان واضحاً أن كلاً من الجانبين قد بذل جهداً كبيراً لحشد الناس. لا غرابة فإن المناظرات التي تعقدها اتحادات الطلبة في الجامعات, خاصة في أوكسفورد ولندن, لها تأثير ووزن معنوي كبير, ودائماً تحضى باهتمام وسائل الإعلام. لحسن الحظ كان مع منسي فريق قوي, كان أحدهم, على ما أذكر "أرسكن شلدرز" الكاتب الصحفي الذي دافع ببسالة عن العرب وقضية فلسطين بالذات, ثم لما ازداد عليه العنت والضغط, ألقى السلاح واختفى من الساحة تماماً. حين خطا منسي إلى المنصة بقامته القصيرة, وجسمه الذي كانت نتوءاته قد بدت تتضح من وراء ومن أمام هبت في وجهه عاصفة قوية من الشجيع والهتاف من الجانب العربي, زادته جرأة على جرأته. تكلم بجنان ثابت ولغة إنجليزية فصيحة. لكنه لم يقل شيئاً يجذب الاهتمام وقد حاول أن يغطي جهله بقوله, أنه سوف يترك التفاصيل للفريق المساند له. كل واحد من هؤلاء كان على بينة من أمره فتحدثوا كلهم حديثاً مفيدً مليئاً بالحقائق الدامغة. ثم أعطى الرئيس الكلمة لريتشارد كوردسمان, فخطا نحو المنصة بقامته المديدة, وسط زوبعة من التأييد ضمت كثيرين لم يكونوا مع العرب أو اليهود, ولكنهم كانوا يعرفون من هو ريتشارد كوردسمان. تحدث بصوت أجش تميز به, وأسلوب جمع فيه بين وقار أستاذ سابق في جامعة أوكسفورد, ودهاء سياسي متمرس تعلم الصنعة في مؤتمرات حزب العمال,...حيث واجه خصوماً ضخاماً من وزن ونستون تشرشل, وأنتوني إيدن. ماذا يصنع حامي حمى العروبة, فارسنا المسكين منسي في مواجهة هذا العلج الجبار؟ ولما فرغ ريتشارد كوردسمان تأكد لي أن قضية فلسطين قد خُذِِلة تلك الليلة في تلك الساحة. بعد ذلك حدث أمر عجيب لا أذكر بوضوح كيف حدث, ولكنني أذكر علج الصهيونية الجبار, وقد تقلص وصغر, يفتح فمه ويغلقه كأنه فقد القدرة على الكلام, وقد احمر وجهه وسال العرق على جبينه, وفارسنا منسي قد تحول إلى سبع كاسر, يجري غادياً رائحاً من آخر القاعة إلى المنصة يشير بيديه, ويشب في حلق الرجل ويكاد يضع إصبعه في عينه ويلح عليه في السؤال: " قل لي هل أنت بريطاني أم إسرائيلي ؟" يزداد وجه ريتشارد كوردسمان احمراراً, وصاحبنا منسي يرمح كالغزال إلى آخر القاعة ثم يمرق كالسهم إلى المنصة, يمد كرشه إلى أمام ومؤخرته إلى وراء ويدير عينيه اللتين زادتا اتساعاً في القاعة, وقد حلت عليه طاقة لا أدري من أين جاء بها. " نحن نعلم أنك يهودي... لا اعتراض لنا على ذلك. من حق كل انسان أن يكون كما يشاء... نحن لسنا ضد اليهود... لكن نريد أن نفهم ...ولاؤك لمن ؟ مع بريطانيا أم مع إسرائيل؟" لم يكن ريتشارد كوردسمان يهودياً حسب علمي ولكنه كان من الواضح أن منسي أراد أن يزعزع الثقة في مصداقيته ويمزق ثوب الوقار والاحترام الذي يكسوه. وقد نجح في ذلك تماماً. حوّل المناظرة إلى مهزلة وحوّل خصمه إلى شيء يثير الضحك. ولما عدت الأصوات, انتصر, ويا للعجب, الاقتراح دافع عنه فارسنا "التعبان": وهو لا يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرف راعي الابل في بادية كردفان. وكان ذلك النصر دليلاً آخر أضافه منسي إلى ذخيرته, أن الصدق والمنطق واتباع الأصول, لا يجدي, إنما الذي يجدي في الحياة وفي قضية فلسطين وفي كل شئ. هو " الأونطة" و " شغل الحلبسة" |
| |
|
|
|
|