دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: مناقشات حول روايات الكاتب السوداني القدير الطيب صالح الثلاثاء 28/11 باستراحة النخيل بالفريا (Re: ghariba)
|
المنسي ... ذاكرة في الحاضر محمد زكريا السقال
المنسي عمل أدبي للطيب صالح صدر عن دار الريس للنشر عام 2004، هو سرد يتناول الذاكرة والسيرة الذاتية. يلقي الضوء على مرحلة من حياة الكاتب، عبر شخصية تمتاز بالملاحة والظرف وهو المنسي أو الدكتور مكايل أو لا هم، فبطل العمل حالة ذات تتميز، تتفرد وتتعمم. بذلك تكون أمام نموذج للشخصية العربية في محاولة للالمام بها من جميع جوانبها وفي سياق ظروفها.
الطيب صالح، القامة الروائية العربية العالية، صاحب موسم الهجرة الى الشمال ودومة ود حامد وضو البيت وعرس الزين، لا يقدم عملا روائياً في المنسي، بل يقدم سرداً قصصياً جميلاً يتناول فيه نموذج للشخصية العربية باعتبارها ذاتٌ تتفاعل مع واقعها المليء بالتعقيدات والهزائم، شخصية تتميز بالقدرة على الشطارة والقدرة على الأونطة، بعدم الجاهزية وانتفاء التخطيط. المنسي يُقدم على الوقائع التي تواجهه معتمدا على الفهلوية وسياسة الحلبسة كما يطلق عليها المنسي بطل الرواية.
يحقق المنسي انتصارات بهذه السياسة ويصاب بانكسارات، تدخله في القضايا العامة وتجعله يخوض مواجهات في الندوات ومحافل الحوار من على منابر مهمة، ومحطات ذات قيمة في المجتمع الدولي. فينقض ليدافع. يبرع ببعض القضايا لكنه لا يراكم، وينهزم في كثير من الأحيان، لكنه لا يعتبر. ورغم ذلك يمتلك القدرة على الإبحار بنفس العقلية والحيوية والنشاط. الدين حالة تفاعل إيجابي للتعايش والتفاعل. لا فوارق تبرز في هذا التعايش بل حالة من التماهي التام. قد يكون المنفى ؟ الغربة ؟ فليس هناك حالة نفي في الرواية إلا إذا لعب المكان والثقافة محورا في تجسيد دوائر للنفي السيكولوجي بمعنى الشعور الباطني بعدم الاندماج في الجديد. وهذه لا تبرز لدى المنسي، بل على العكس فهو مغرق بحالة الاندماج، حالة تتجلى في الندية بالتصدى للآخر، إلا أن هذه الندية خليط من الادعاء وشعور خفي بالدونية. تتجسد هذه الحالة بارتداء الأقنعة. أقنعة كثيرة، لا تبدأ بالتظاهر الخارجي على شكل اللباس، ولا تنتهي بالمعرفة السطحية كأن يردد أسماء المشاهير وأسماء كتبهم. المسيحي يتحول لداعية إسلامي، والمنسي ... ليس انتهازيا. المنسي ... حالة الشعور البيئي المشبع بالذاكرة المبنية على التفاعل والتعايش، وهذا يبرز في المنفى دائما. فالعرب يتفاعلون مع بعضهم بحميمية ظاهرة، حميمية ترجع الدين للماوراء تلغيه وتهمله، بانتظار بيئته وثقافته. المنسي هنا إسراف في التوغل بالحياة لإثبات الذات بالفطرة غير المتساوقة مع العصر، لذا فهي تتطاول وتتداخل بعفوية تامة، لا تعبأ كثيراً عندما ينكشف زيفها ولا تتردد من المغامرة ثانية وثالثة.
الكاتب هنا منحاز للمنسي، منحاز للإنسان في المنسي، للقدرة على الحياة والغرف منها. منحاز لتبسيط الأمور لدى بطله، حيث يدرك تماما الجوهر الكامن فيه. يتسامح معه رغم شدة المقالب والإحراجات التي يوقعه فيها، يحنق عليه ويثور إلا أنه لا يفتأ أن يغفر له ويدخل بالدور الذي يرسمه المنسي له ليلعبه راضياً راضخاً ومندمجاً. حالة الغضب والحنق تذوب وتتلاشى مع أول محطة يجلسان بها ويتناولان طعاما أو شراب.
ما المميز في هذه الشخصية التي لازمت كاتبنا الطيب صالح ؟ ولماذا سكنت الطيب وألحت عليه وشكلت له قلق الكتابة ؟ لاشك أن الطيب صالح مشغول بشخصية المنسي، ولكنه مسكون أيضا بالعام فيها، العام الذي يؤرخ للزمن وللسياق الذي تشغله الشخصيات. فالبطلان يواكبان النهوض القومي ونكسة حزيران وأحداث لبنان من زاوية الإعلام، فالشخصيتان تعملان لمحطة إذاعية بريطانية، ويتفاعلان مع الخارج ونظرته للداخل، والداخل وتصديه لقضاياه.
الطيب صالح لا يقدم هنا زوربا عربي، بقدر ما يقدم عقلية، تتعامل بالشطارة والفهلوة في التعبير عن وجودها، بتبسيط الأمور، بالقفز عن الواقع، بالتطفل على الموضوعي المحكوم بالقوة، القوة التي تحدد تجاوز الواقع، ثورة العقل وتطور الصناعة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها.
كل هذا امام "الحلبسة". سياسة "الحلبسة" العربية، التعبير المحبب لبطل الطيب صالح، ثقافة مبنية على التسلق والقفز الغير متسق والغير عقلاني، قد تصل إلا أنها لا تنجز أثراً.
المنسي ينتهي كأي برجوازي طفيلي، يمتلك مزارع وشركات في أمريكا ولندن. لكنه ذو جذور من قش في منطقته. روح المرح والتفاعل مع الأصدقاء والطيب صالح منهم، وقد أكون أنا منهم وغيري ممن يعيشون المنفى. وقد يكون أكثر من منسي في دوائرنا. منسي نأنس له ونتفاعل معه ونحن إليه، ولكنه لا ينقذ دارفور، ولا يوصل طريقاً حراً وكريماً إلى دمشق.
قد أكون حملت رواية الطيب صالح أكثر مما ينبغي، وقد أكون قولته ما لا يريد، والطيب صالح له في نفسي ووجداني الكثير. وكم فرحت عندما التقيته في إحدى الأماسي ببرلين، ممتنا بذلك لصديقي الطيب الذي أحب، الدكتور حامد فضل الله، الذي عرفني على الكثير من السودانيين الطيبين. أقول قد أكون حملت العمل قراءة قد لا تكون في وارد الطيب، إلا أن الأعمال الأدبية الممتازة هي التي تحمل أكثر من تأويل وأكثر من اجتهاد، وعمله المميز موسم الهجرة الى الشمال ما زال في متناول البحث والنقد والسبر وهذا ما جعلني أتجرأ في تناول المنسي. عودنا الطيب صالح على إدخال أسلوبه السلس الصافي المتسق مع الحدث بجمالية في سبك الفكرة، فأنت لا تقف على الكلمة بقدر ما تنساق مع الحدث، وبذلك تكون الصياغة عمل تناسبي معجون بروح الحدث.
وبهذا يبقى عمل المنسي للطيب صالح من الأعمال الجميلة، تتمازج السيرة الذاتية فيه مع إفصاحها عن البيئة وتعرية الذات من أجل الالتصاق بالآخر والدخول إليه، قدمها الطيب صالح لنا بجهد مبذول وبسلاسة عالية وانسجام في الفكرة والأسلوب. وبالتأكيد وكما في كل كتابات الطيب صالح، تغادرها وتبقى آثار المتعة متلصقة بخلاياك منها، تفاجئ بالبساطة لكنها تدخلك الى العميق العميق. حقيقة كم من مرة راودتني بعض التفاصيل وضحكت في سري وشاهدت هذا المنسي يتجسد بكثير من الشخصيات التي حولي وبي في بعض الأحيان. لذا وكي أصل وتصل أنت الى نتيجة لابد من قراءة العمل ثانية وثالثة للاحاطة به.
برلين / 04 / 10 / 2006
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مناقشات حول روايات الكاتب السوداني القدير الطيب صالح الثلاثاء 28/11 باستراحة النخيل بالفريا (Re: ghariba)
|
مأمون فندي
واحدة من مشكلات العرب اليوم هي اعتماد الفهلوة بديلا عن التحضير والعمل الجاد، خصوصا فيما يتعلق بقضايا مصيرية كثيرة، فهلوة الصوت العالي لا تحل أي قضية وإنما تعقدها، ولننظر إلى حديث فاروق الشرع أمام مجلس الأمن الدولي، ومقارنته علاقة سورية بلبنان بعلاقة الحكومات الأميركية والأسبانية والإنجليزية فيما يخص الأحداث الإرهابية في تلك البلدان. هذه المقارنة قد تجد آذانا صاغية في عالمنا العربي وتبدو مقنعة هناك، ولكن الناظر إلى رد جاك سترو، وردة فعل الحاضرين يدرك أن فاروق الشرع قد كسب الجولة في شوارع دمشق وخسرها في مجلس الأمن الدولي الذي يناط به مصير سورية الآن.
الشخصية الفهلوية التي تجلب الخسائر لقضيتها، قدم لها أستاذنا الروائي العظيم الطيب صالح في كتابه المعروف بـ «المنسي». في هذا الكتاب قدم لنا الطيب صالح شخصية «المنسي»، وهو رجل من صعيد مصر مارس الفهلوة طيلة حياته في بريطانيا، خذ على ذلك مثلا عندما ذهب المنسي برفقة الطيب صالح وآخرين للاستماع إلى محاضرة المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي في جامعة اكسفورد عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكان المنسي بين الحضور لكنه كان يغط في النوم ولم يسمع من محاضرة توينبي شيئا، ولما جاء وقت السؤال والجواب، وقف المنسي معنفا ذلك المحاضر العظيم متهما إياه بالصهيونية_، رغم أن المحاضرة كانت متعاطفة مع العرب، وداعية كلا من العرب واليهود للخروج من تلك الحلقة الجهنمية من العنف، وسرد أسبابا عدة منها استغرابه من اضطهاد اليهود الإسرائيليين للفلسطينيين وهم الذين عانوا الاضطهاد في أوروبا، فكيف للضحية أن تجلد ضحية أخرى، لكن المنسي فاجأ البروفسور توينبي بأن اتهمه بالانحياز لليهود، ولم يصدق الحاضرون ما قاله المنسي لأنه عكس ما قاله المحاضر، ومع ذلك هب المنسي قائلا للأستاذ: إن فلسطين عربية منذ ثلاثة آلاف عام، ولما شده الطيب حتى يجلس ولا يفضح نفسه، قال للطيب: «أمال كام؟»، فقال له ربما سبعة آلاف عام أو أكثر، فرد المنسي «وهي الثلاثة تلاف سنة دي شوية يا راجل!».
المنسي كان جاهلا، ولكنه كان جسورا وخفيف الظل، وقد دخل على مجلس الملكة إليزابيث كرئيس للوفد المصري، وكانت العادة أن يسلم عليها السفراء ويرحلون بسرعة، لكنه أمسك بيدها وبدأ بالثرثرة، سائلا اياها في أي مدرسة تعلم ابنها تشارلز، وان كانت لا تمل من هذه المراسم الاحتفالية التي تمارسها طيلة الوقت..
هذه الجرأة في شخصية المنسي مدفوعة بالجهل، لأن العلم في معظم الأحيان لجام لصاحبه، يحدد له أصول اللباقة ويمنعه من التمادي. مغامرة أخرى للمنسي في كتاب الطيب صالح مع أستاذ أكسفورد السابق ريتشارد كروسمان ذلك الرجل الذي أصبح وزيرا في حكومة العمال فيما بعد، وكان من المقربين من رئيس الوزراء ويسلون وأصبح رئيس تحرير مجلة النيوستيتمان، أي أنه مثقف حقيقي وصهيوني عن علم، ولما ذهب المنسي إلى مناظرة كروسمان، وكان كروسمان رجلا طويل القامة شديد الاحترام، والمنسي قصير القامة وغير ملتزم، وقف المنسي وقال لكروسمان «هو أنت يهودي ولا إيه؟!».. انقلبت المعايير ولم يعد للتأصيل الفكري للأمور موقع، تحول الموضوع إلى تهريج، وهوم المفكر في المناظرة ضد منسي الفهلوي.
العالم العربي اليوم مليء بالمنسي وبالفهلوة، وبنهاية المعايير الموضوعية، المهم في هذا العالم هو العلاقات الاجتماعية والفهلوة.
مناسبة هذا الحديث، هو أن أستاذنا الطيب صالح حدثني بعد يوم العيد وفي صوته مرارة، وقال لي بأنه كان يكتب في إحدى المجلات العربية لفترة بعدها أوقفت تلك المجلة كتاباته دونما إشعار.
«كنت أتمنى أن يقال لي على الأقل شكرا على ما قدمت».
رجل بقامة الطيب صالح الثقافية والفكرية نادر الحدوث في عالمنا العربي، فهو رجل متمكن من ثقافتين، يحادثك عن الإنجليز وكأنه منهم، ويحادثك عن التراث العربي وعن المتنبي وكأنه عاش عصره، أبدع في كل رواياته تقريبا من عرس الزين إلى دومة ود حامد إلى تلك الرواية التي سمع بها الكثيرون ولم يقرأوها، وهي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، تلك الرواية العالمية التي تدرس في كبريات جامعات الغرب. وقد حدثني الطيب ذات مرة عن موقف جرى معه في مطار القاهرة، عندما ادعى مسؤول الأمن أنه يعرفه قائلا بصوت جهوري في صالة المطار «أهلا بصالح الطيب، صاحب رواية الطيور المهاجرة»، الضابط لم يقلب اسم الطيب فحسب وإنما أضاف للرواية طيورا. وماذا بيد الطيب، فلا حول ولا قوة له في مواجهة ضابط المطار الآمر الناهي في مكانه، فلا يستطيع أن يصحح له اسمه أو حتى عنوان روايته، القوة والسلطة والفهلوة هي الحاكم والحكم في الأمر.
عالمنا العربي مليء بتلك المخازن الثقافية على غرار الطيب صالح، ولكن في عالم تغيب المعايير فيه طفت على السطح أسماء لا علاقة لها بالثقافة، وأنا هنا لست من الذين يبكون على القديم كمن يقول بأن أغنية أم كلثوم أو فيروز أفضل من الأغنية الحديثة، رغم أنني أرى ذلك، فأنا أفضل المنافسة بين القديم والجديد شريطة أن نتيجة هذه المنافسة تكون مبنية على المعايير الواضحة فلا يكتب في صفحات الثقافة والأدب من هو أقل من الطيب صالح. والشباب الذي نريده بعد جيل الطيب صالح هو ذلك الذي قرأ الطيب صالح ويعرف أكثر من الطيب ويرى أبعد منه، ذلك لأن الطيب هو ذلك الذي يعرفه، أبعد منه ببساطة لأنه واقف على كتفيه، وما الطيب بمتفرد في هذا المقام، فهناك كثيرون من الأساتذة في العالم العربي وقامات ثقافية توارت لأن الساحة الآن تكاد تكون مملوكة لأصحاب الفهلوة.
وفي هذا السياق، أذكر مجموعة من الأسماء الهامة التي لا يعرف عنها الجيل الجديد الكثير والتي انزوت وربما غابت عن الأنظار. وبالانزواء لا أعني الاختفاء التام، فلبعضهم عمود هنا أو مقال هناك ولكن هذه الأعمدة أو المقالات أو المقابلات لا تعكس غنى أو تعدد أبعاد تلك القامات الثقافية في عالمنا. فهناك في مصر مثلا أسماء هامة أعرفها قراءة رغم أنني لم أقابل أيا منهم، مثل جابر عصفور ورجاء النقاش، وأحمد عبد المعطي حجازي، وحسين أحمد أمين، وآخرين. أعرف أن بعضا منهم له مساحات للكتابة في مصر ولكن لماذا لا نرى هذه الأقلام في كل الصحف والمجلات العربية؟ هناك أيضا أسماء أخرى من بلاد الشام مثل سعد الله ونوس، وحنا مينا، وزكريا تامر، ومحمد الماغوط،، وعبد السلام العجيلي وآخرين لا تعلمونهم ولكن الله يعلمهم. مهم هنا أن نعرف أن عبد السلام العجيلي ذلك الرجل التسعيني ما زال يعيش في قريته المعروفة بالرقة، هذا أمر مساو لمعيشتي في قريتي في صعيد مصر، وأعترف أنني لو عشت هناك لما تعلمت الكثير وما كتبت ما يرقى إلى مستوى العجيلي، وهناك حالة حنا مينا ذلك الرجل الذي بدأ حياته عاملا وبحارا ووصل إلى ما وصل وكتب عن ذلك في روايته المعروفة بالسفينة.
هناك أيضا تلك الكاتبة المتميزة والمعروف عنها توليد علاقات لغوية جديدة وهي السيدة غادة السمان، أما المغرب ففيه محمود المسعدي في موريتانيا، وفيه عبد الله العروي والجابري، وهناك كتاب وشعراء وأساتذة من أطراف العالم العربي، كذلك اللبناني الجنوبي شوقي بزيغ، وهناك في السعودية شاعرات وشعراء متميزون مثل غازي القصيبي وأشجان الهندي وآخرين يملأون المملكة، ولكن العلاقات العامة تغطي على وجودهم.
لقد آن الأوان لعالم الفهلوة أن ينتهي من عالمنا العربي وننتبه إلى القامات الحقيقية. الكتاب العرب المبدعون هم جماعة متفرقة لا يمثلون »لوبي« أو حركة ولكنهم منسيون، أما المنسي الفهلوي الذي كتب عنه الطيب فهو المسيطر على الساحة. واقعنا العربي نسي الطيب واحتضن المنسي وأصحاب الفهلوة، فهل من عودة إلى معايير صارمة تفرز لنا الغث من السمين في ثقافتنا العربية، حتى نتسلح بالعلم لا بالفهلوة لحل قضايانا المصيرية والتي أظن أنها قضايا وجود في المقام الأول؟.
*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية
| |
|
|
|
|
|
|
|