|
قراءة في استراتيجية المعنى المكان في القصة السودانية الحديثة
|
معاوية البلال
ومن ثم انتبه للمكان كوعاء يحتوي الزمن وكمركزية يمكن للخيال والذاكرة الانطلاق منهما للامساك بتلك اللحظات الغامضة التي تتشظى فيها الذات وتتصدع في سعيها لامتلاك الوعي بالعالم والأشياء ومجمل العلاقات الانطولوجية التي تتشابك في النسيج الجمالي.
وبما هو كذلك أصبح المكان بحيرة بركانية تقذف من بواطنها المعاني. وبالتالي انزاح المكان من استخدامه المألوف في النصوص الإبداعية. باعتباره مجرد جغرافيا للمشاهد السر دية. يتحرك بين أشيائها الانسان ضمن علاقة ساكنة وسلبية. لا تعني شيئا سوى وظيفتها. ونهضت علاقات اكثر عمقا بين الانسان والمكان. علاقات نفسية ووجودية وتاريخية وايمائية، في نسيج لامتناهي للنص الجمالي. علاقة تؤسس للامركزية الانسان في العالم وأن الانسان لم يعد وحده امبراطور الأشياء، وتثبت أن للأشياء فعلها الحيوي واشاراتها النابضة بالمعنى، لاحظ هذا المقطع من قصة (المكان) لمعاوية نور. نوفمبر 1931م.
"استجاش احساسه بالمكان، فذكر أن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله واحساسه، واستولى عليه شعور قوي. يدفع به لتدوين ما يحسه تجده المكان. لكنه شعر أن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه. كيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله).
هكذا استطاع معاوية نور الإمساك بالظاهرة المكانية وادراك فعاليتها والكيفية التي بها يمارس المكان حضوره وقوته المعرفية. وقد أبان هذا النص القصصي مدى التشظي الذي أصاب الذات المبدعة وهي تسعي للسيطرة على الظاهرة. والظاهرة عصية ومتمردة.
وهكذا ينبغي أن تتفتت الذاكرة التي ارتبطت بأفق الإنسان المسيطر ولتأسيس ذاكرة جديدة (قادمة من المستقبل) لتعيد انتاج العلاقة داخل الصورة. ولتصبح السيادة للعلاقات المتعددة والمتشابكة بين الأشياء والظواهر. ومن هذا الأفق المعرفي انطلقت المفاهيم المركزية لمعاوية نور والذي بها ر.ى العالم كفضاء اتصال هائل من الشفرات والعلامات والإشارات المتباينة والمتداخلة. والمتشابكة والتي ينبغي للمبدع أن يشعل خياله الخاص ليضيئها.
ويمكن للدراسة أن تستمر في مزيد من الكشف والتحليل وإضاءة المفاهيم المعرفية التي انطق منها معاوية نور. في تأسيس منهجه النقدي وأسلوبه الإبداعي باعتباره أول من لفت الانتباه للصورة الجمالية للمكان ورائدا حقيقيا للحداثة الأدبية العربية.
يقول معاوية نور في مقدمته التحليلية لقصة (المكان): (هذا النوع من الفن القمي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الاحساس والعطف القوي على الخلائق. وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلا- الداخلية في عملية الاحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص. ويربه كل ذلك بموسيقى الروع واتجاه الوعر. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة. ويشير من طريق اتجاه الى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. كما أنه يصور ما يثيره انه شره تافه من ملابسات الحياة فر عملية الوعى وتداعى الخواطر وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية). هذه النظرة النقدية تحمل في أحشائها ثلاثة مفاهيم مركزية انطق منها معاوية نور لتأسيس منهجية نقدية وابداعية تتطابق ومفاهيم المنهج الظاهراتي الحاشر وتتسامى بها أساليب الكتابة الأكثر حداثة. وقد لخصها الأستاذ غالب هلسا في عدة محاور (1): أولا: التأكيد على عزل الصورة الجمالية من بعدها الاجتماعي الآلي المباشر والتركيز على التجربة الوجودية والفومينولجية التي ترتبط بالوعي المفارق (وهو الوعي المستقل الذي يسعى لإدراك الوجود الأنطلوجي بالحدس المتجاوز للحواس والعقل القصدي)(2).
ثانيا: الانتباه للقوة الكامنة في الأشياء العادية والمألوفة ودعوة الى ضرورة تفجير طاقتها الساكنة باتجاه الأبعاد الجمالية القصية. اي اخراجها من عاديتها وابتذالها الى شعريتها، والتسامي بروحها المندغمة في نسيج العالم. كسياق تتبدى فيه العلاقات كمركزية تسود بين الأشياء. حيث تكمن في نسيجها القيم الخالدة. أو كما اسماها معاوية نور شعر الحياة ومسائلها الكبري.
ثالثا: الإشارة الى الخيال باعتباره طاقة مركزية محايثة تنهض بالممارسة الابداعية كتجليات للمفاهيم الفكرية. وتثبيت لوعي الأنا بتصدعها. وانشطارها الى ذات وموضوع. حيث الذات تدرك ذاتها في الكتابة وبها بوصفها وعيا وموضوعا معا. حيث يقول معاوية نور في ذات السياق (وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الاحساسات وإضطراب الميمول والأفكار وتضادها في لحظمة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص) وهذا ما يمكن تسميته بوعي التصدع الذي ينتج المأساة من خلال ثنائية الانفصال والالتئام. حيث تغدو الكتابة امتدادا للذات وتجاوزا لها في نفس الحين.
إن هذا العقل الفذ الذي يسمى معاوية نور أمس هذه المفاهيم الحداثية تنظيرا وإبداعا منذ أواخر العشرينات من هذا القرن. وقد حقق قطيعة جمالية ومعرفية في شكل الخطاب الثقافي الذي كان سائدا وقتها. فطه حسين اهتم بالمنهى العقلاني في بحثه عن الحقيقة، وجبران التس ذلك بالتأمل والاستبصار. كذلك العقاد وعلي عبدالرازق. وجميع هؤلاء الرواد ومفكري النهضة العربية وقتها اهتموا بمركزية الانسان وقدرته على صنع التأرين. إلا ان معاوية استطاع أن يتمايز ويختلف بإمساكه الخيط السري الذي يربط السو سيولجي بالاستيهامي (قوة الخيال) والتأريخ بالسيمولوجيا (علم الاشارات) ومعنى أكثر من ذلك ليؤسس لشعرية الأشياء من خلال وعى قصدي وموقف فومنيولوجي يعمل على تأكيد التجربة الذاتية التي ترتبط بتصور الانسان لهويته وموقعه من العالم. وادراك المفاهيم الأنطلوجية الشاملة بالمدمر المتجاوز للحواس والعقل. يقول ادونيس في معرض حديثه عن الصوفية بوصفها تجميد الرؤية ابداعية حداثية (3) (لا تعني " الصوفية " هنا، الانفصال من الواقع. إنما هي انفصال عن ظاهره المباشر. من أجل الاتصال بعمقه الكلى. والغوص في أبعاده الداخلية. فيما يتجاوز الغامر الى الباطن. ثانيا تشير العبارة هنا الى التجربة الحية. الى التجريد النفرو. فالصوفية هنا تتجاوز العقلانية ونغامها الى الحياة وحدوسها، لنقل بتعبير آخر، إن كانت الفلسفة تحاكم الحدس. التجربة، بالعقل. المنطق، فإن الصوفية علو العكر تحاكم العقل. المنطق. بالتجربة. الحدس. إن الابداع في هذه الصوفية تلتاني. إنه كما تصفه العبارات الصوفية نفسها. إملاء أو فيض. أو شطح خارج كل رقابة عقلانية، إنه الابد او الذي يصدر عن طور يتجاوز طور العقل).
ان هذا التطابق الأكيد بين مفاهيم معاوية نور المنهجية في العشرينات ومفاهيم أدونيس عن الحداثة الا بداهية في التسعينات هو ليسر بالأمر المدهش. وخاصة إذا عرفنا اتصال معاوية نور بالجزر المعرفي لمفاهيم الحداثة الفكرية والأدبية في منبعها الغربي وهي في بداياتها التكوينية. حيث يقول (4) اهذا النوع من القصص انتشر في أوروبا وعرف منذ عشر سنوات تقريبا حينما أخرج مارسيل بروس الفرنسي روائحه القصصية. كما انه عرف في أتمه واحسنه عند كاترين مانسفيلد وفرجينيا ولف. من كتاب الانجليز. ونور ولا شك أن يكتب وان يعرف في وادي النيل).
إن هذه العبارة الأخيرة هي التي تكشف طرافة هذه المفاهيم المنهجية وجدتها على الواقع الأدبي العربي وقتذاك. وهي التي انبثق منها الأسلوب السردي المعروف بتيار الوعي. والذي فيه تتكثف العبارات بطاقة تعبيرية وايمائية فذة. تجعل قراءتها مفتوحة الاحتمالات. وفيه تتشظى الذات من خلال تقنية ضمير المتكلم الى تعددية الأصوات. ويقوم السرد على المحور التزامني ويغلب على السياق التعاقبي. وهو الأسلوب الذي انتهجه الطيب صالح في كتابة رائعته (موسم الهجرة الى الشمال) وغسان كنفاني واسماعيل فهد فيما بعد منتصف الستينات.
في بداية الستينات (1963) أصدر المفكر الظاهراتي الفرنسي جاستن باشلار كتابه (جماليات المكان) والذي أصبح المرجع الأكثر أهمية عندما يأتي الحديث عن ظاهرة المكان في الأدب. والفلسفة على حد سواء. والذي أوضح فيه ان للمادة خيالها الخاص وان للأشياء قوى معرفية ولدت لدى الانسان احساسا ما بمنطلقات كبيرة كالماوى والدفء والأمان والحكاية واحلام اليقظة. كما أوضح.ن للأشياء احساسا بالوجود يوازي احساسنا به يقول (5) ران نوعا من الانجذاب نحو الصور يركزها. أي القيم. في البيت. فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها، والبيوت التي حلمنا أن نسكنها، فهل نستطيع أن نعزل ونستنبط جوهرا حميما، ومحددا يبرر القيمة غير الشائعة لكل الصور المتعلقة بالالفة المحمية).
ورغم أن جاستون باشلار استطاع تطوير منهج خاص به ومتوسع في اللغة التي ينتجها الخيال. انطلاقا من مبادئ هوسرل في الظاهراتية (فومينولوجيا) الا أن معاوية نور استطاع الامساك بهذا الجزر المفاهيمي ووظفه في اكتشاف الأهمية الجمالية للمكان، بما هو موقع تتنامى فيه موسيقى الروح وتتفجر به تفاعلات الوعي والخيال في مطلع الثلاثينات من هذا القرن. لاحظ يقول معاوية نور (وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، لكن الالفة او الايناس الذي يشعر به نحو تلك الأمكنة ومنعرجاتها يخيل اليه أنه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن. فالحقيقة الباقية كي "المكان " وأننا أحياء من أوائل الأزمان الى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة. كلها لها حظ من "الوعي" يختلف ضعفا وقوة باختلاف الأفراد والأشياء وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة السماء والا شجار وعي واحساس من نوع وعينا واحساسنا. الا أنه قليل من الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة).
فهل لاحظت محي أيها القارئ العزيز، هذا الوعي الفومينولوجي ( الظاهراتي) المبكر؟ والذي اجتر حه مفاهيميا معاوية نور قبل أكفر من ستين عاما. ونستطيع القول. ومن غير مجازفة. أن كل ما جاء في المتن الحداثي من مفاهيم و.نساق فيما بعد الستينات واخترقت بنية الثقافة العربية. كانت بمثابة التأكيد للحظة الفكرية والنقدية التي بث مفاهيمها الشاب معاوية نور في الثلاثينات من هذا القرن. ومضى. بل وكأن الحداثة الأدبية قوس كبير يمسك احد أطرافه الشاب معاوية نور في مطلع الثلاثينات. ويمسك بطرفه الآخر رموز الحداثة الأدبية في التسعينات. والحيز الزماني الذي يمثله انبعاج القوس، هو اشكالية التوتر والتجريب والاضطراب الذي يتميز بها زمن الإنتقال من مفاهيم سائدة الى مفاهيم جديدة تسعي لت كيد ذاتها وتثبيت رؤيتها للعالم. انها لحظة الحداثة التي استطاع معاوية نور امساك خيطها السري الذي ينسج خلايا التاريخ الثقافي وبها تميز خطابه واختلف عن جيل رواد النهضة. وهذا الخيط السري لا يمكن الامساك به الا من خلال المثوف والرؤية المخترقة واشتغال الحدس الذي يعمل على سبر غور اللحظة القادمة واستحضار غيابها واخراج باطنها ولا مرئيها.
كان ينبغي للقمة السودانية وحتى فيما بعد منتصف الستينات أن ترتبط بمفاهيم المدرسة الواقعية. تلك المدرسة التي جعلت من النص مرآة تعكس الواقع وتمثله بشكل استنساخي زائف كما هو في ذهنية المبدع. وليس الواقع كما هو. والنص عبارة عن وسيلة تعبر عن التزام كاتبه الاجتماعي والأيديولوجي، من شو صارت اللغة أداة وصف وتقرير عن حالات الوقائع بشكلها السطحي. واصبحت الدوال تشير آليا الى دلالات مباشرة. وكل مفردة تتطابق بالمعنى الواحد المقصود. وانسحب هذا الحديث على المكان. الذي يرد في فضاء النصوص فلا تجد غير هذا الوصف التقريري الذي لا يحيل القارئ الا الى نفسه فقط. وإذا كانت هناك حالات دلالية. فلا تتجاوز ذات الأبعاد الاجتماعية الوقائعية الذي انطلق منها الكاتب بقصد ايصالها مباشرة الي القارئ. حيث ان القارئ لهذه النصوص (الواقعية) مفترضا فيه أن يكون متلقيا سلبيا للنص. والكاتب هو المعلم الذي يرشد الى أبواب الحكمة والحقيقة الذي يمتلكها هو فقط. والدراسة هنا لا تريد ~ن تقلل من شرن القصة (الواقعية) التي سادت خلال ثلاثة عقود. بل تعترف الدراسة أنها (القصة الواقعية) كان لها دور لا يمكن تجاهله في تثبيت القصة القصيرة كجنس أدبي وتركيزها في بلادنا بتراكمها الكمي والنوعي. الا انها عبت بخيال أقل. والدراسة تعترف أنها كانت المرحلة التي من خلالها تم تجاوز المفاهيم الأيديولوجية والقيمية التي فت تشد الإبداع الى سلطتها لكي تحاكمه بمعاييرها الجاهزة.
حيث انبثثت مفاهيم الحداثة الأدبية فيما بعد منتصف السبعينات وتحرر الإبداع القصصي من قيوده الثقيلة. وأصبح النص اللغوي عالما قائما بذاته موازيا للعالم القائم. وصارت اللغة تتفتح على آفاق الكتابة التي لا تحدها حدود. بدلالاتها المفتوحة على كل الاحتمالات. وأصبح النص السردي ينبثق من المخيلة التي ترتبط بالوقائعي وتنفصل عن الواقع في ذات الحين. وغدت القصة القصيرة ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا من صراع وحيرة وتمزق وانهزام وتعدد في الرؤية. وطموح الى احتضان الجوهري من الأشياء. ولم يعد الواقع بمفهومه الاستنساخي التبسيطي هو ما يثير اهتمام المبدعين المجددين. وإنما أصبح الواقع يعني.يضا المحسوس والمتخيل والمتذكر. ويعني الوقح والمألوف، والمتطرف من الأحداث والمواقف. ويعني الذات الموزعة والمشتتة والظروف الحياتية القاسية. كما يعني احتمال تصوير الأمور على غير ما تسير عليه وبافتراضات واسعة لا حدود لها. كما لاحظ الناقد المغربي محمد براءة.
اذن أن المكان كبنية انو جدت داخل المتن القصصي الحديث له ابعاد ومعان عميقة تحتاج لتفكيكها دلاليا. لاكتشاف ما توارى خلفه. حيث انه يتجلى بأشكال مختلفة من خلال لغة تتماهى مع الشعري تارة وترتبط بالوصف تارة أخرى. ومن خلال فضاء سردي يرتبط بالأسطوي حينا وبالوقائعي حينا آخر وبالكوني الصوفي مرة وبالانساني الأرضي مرة أخرى.
هكذا ودونما سابق تنويه او إشارة. تجد الدراسة نفسها قد انحازت للقمة الحديثة. وبدات تتحمس أبواب الأخون لعالمها الغامض المثير والثري في محاولة أخرى للامساك باستراتيجية معنى المكان فيها. باعتباران للمكان معاي أخرى عميقة تقع خلف المعاني الدانية. وكل ذلك بسبب أن كتابتنا النقدية تتحرك داخل فضاء واسع للمفاهيم المنهجية الحديثة والتي بها تحررت الكتابة من قيودها الأكاديمية والتصنيفية وتمضي لمعالجة النصوص الحداثية لاستنباط المفاهيم التي انكتبت بها وعبرها برزت المعاني الخفية من تربة الكلمات.
فضاء النبل. مثلا فك خذ نصا قصصيا للأديب الطيب صالح بعنوان (يوم مبارك على شاطئ أم باب) الذي يحيلك أولا الى نص آخر لنغص الكاتب هو قصة (دومة ود حامد) ففي دومة ود حامد. تتموضع البنية الدلالية الكلية للنيل. باعتباره مكانا واسعا يتحمل كل المتناقضات (الأمر الذي فات على هؤلاء جميعا أن المكان يتسع كل هذه الأشياء) حيث ين للنيل كموقع ومكان أن يتسع لمحطة الباخرة. ولوابىالماء ليسقي المبثروع الزراعي وأيضا للدومة المباركة. هكذا يمكننا الارتفاع أكثر بدلالة النيل. ليكون بؤرة تلتقي وتتوحد عندها المتناقضات. ويمكنها ان تتجاوز بسلام وامن. باعتبارها جزاء من مشهد كوني أوسع.
فالنيل هنا ليسر موقعا جغرافيا فحسب بل يتحول داخل النص الي فضاء كوني مشحون بالمعاني المطلقة. بدلالة الاتساع والشمول بصرف النظر عن المعنى المألوف للنيل كرمز للخير والعطاء. ان هذا الاتساع وحده القادر على توحيد الثراء المشتت والمبعثر. أو بمعنى آخر هو الذي يؤس علاقة الواحد بالمتعدد.
وعندما نطالع قصة (يوم مبارك على شاطئ أم باب) نقف أمام مشهد فذ ومدهش (ليس الصوت الذي يتكلم به الموج، بل الصوت الذي يصدر من البحر ذاته، اذ لا هبوب ولا موج. وبدأت الشمس تنزل معارج السماء خطوة. خطوة. ومع كل خطوة تفتح نافورة من ضوء بحت. كسا السماء والأرض والبحر. وأخمد نيران آبار البترول... بغتة هب الرجل واقفا وقامت الغلة وقامت المرأة. دخلوا البحر في وهج الضوء المحض. فقد كان الضوء كأنه يمتصهم الى جوفه. ظلوا كذلك حتى كادوا يدخلون في معارج السماء.).
هكذا نلاحظ امتلاء المشهد بالكلمات التي ارتبطت بفكرة الاتساع. أي بمعنى آخر لها علاقات رمزية ودلالية بالمعلق مثل. الضوء البحت. الضوء المحض. الماء. البحر. الأرض. معارج السماء. نيران الجوف. انها الكلمات عندما تعبر عن المعاني اللانهائية ذات الوقع الصوفي. والصوفية كمفهوم تؤكد على أن المعنى العميق للانسان في كونه يقطع باستمرار الى ما لا ينتهي. عبر وحدة الوجود التي تؤالف بين الأطراف المتناقضة. حيث توحد بين الحلم والواقع. الليل والنهار. الوجود والعدم. وتتحرك باتجاه المجهول في سعيها المستمر للكشف عن طفولة العالم وصفائه.
هكذا استطاع الكاتب المبدع، تحقيق انزياح كامل للمعني المتداول والمالوف للنيل كمكان باعتباره رمزا للعطاء والخير. وتسامى بهذا المكان ليتطابق بالمعاني الكونية المعلقة وكمركز للوجود والذي به وفيه تتوحد أشياء العالم المتناقضة والمتصارعة، وهذا ما يجعلنا نؤكد على المفاهيم الصوفية التي تتلبس رؤيا العالم لدى الأديب الطيب صالح. والتجربة الصوفية تفصح عن أسرارها كتابة واللفة الايمائية وسيلتها في معرفة الكون وتجليا ته. فالأشياء في الرؤيا الصوفية متماهية ومتباينة. مؤتلفة ومختلفة. وبكل ذلك تكون عالما داخل العالم تتعانق فيه الأزمنة في حاضر ديناميكي وتنمو باتجاه الآفاق القصية.
والنيل كفضاء وبنية اشارية دالة على الكوني نجدها بذات المستوى الدلالي في قصة (حالة انعدام وزن) للقاص أحمد الفضل احمد. حيث يرصد النص السردي حالة انسان اعتزل عالما كنير النفاق وقليل النقاء. يتجه بكل جدية نحو النيل فيحادثه ويشكو له سوء العالم وضنه. حوار يتم كحوار اب مع ابنه. الذي ينتهي في اند غام الجسد بالماء.
(فاجأني النيل وكنت قد نسيت بالفعل لهجته تلك العطوفة والأبوية السحيقة، مرحبا وأهلا يا ولداه لماذا الخصام كل هذا الزمان أنسيت ميلادك في أحشائي سقيتك وأطعمتك وطهرتك).
قلت. العفو أيها التليد السرمدي العتيق قال في رحمة. ما فات مات. أدن قليلا يا ولدي وستري قلت ممتنا. ألم تخرج قليلا عن التقريرية والابتذال..؟
وقلت وقد عادني شك الألم في جنبي "حتما سأخرج من نطاق جاذبيتهم هناك أشياء لا يمكن مصالحتها حيث لا جدوى ولا ملاذ.. لن أعود لمألوفهم الفارغ).
وبعد هذا الحوار الأبوي الحميم بين بطر القصة الرافض لقيم 0 المجتمع السلبية والنيل. نجده قد قفز الى الماء وأفنى روحه فيه. هكذا تبين وتتضح فكرة اند غام الجسد في الماء باعتبارها نفسر فكرة فناء الذات في المحبوب التي ترجع الى مفهوم الرجوع الى الأصل زي النقاء المطلق. وعلى مستوى آخر صار النيل كمكان وكد لالة ملجأ وملاذ أمان. أو بيت يحمي الانسان من شوور العالم المتوحش القاهر. وبالرؤيا الصوفية التي بها تصير الكلمة لها عمق آخر. باطنا بعيد الغور يعمل على كشف ونقد الأمس التي يستند الواقع عليها. وبها يعمل على تغييب الانسان وقهره. وغاية الرؤيا الصوفية وعلى المستوى الإبداعي هي تخطي الجاهز المسبق والمالوف. من اجل خلق عالم جديد او واقع أسمى.أو من أجل (الا كشاف المنظم لأعماق الذات) كما يقول ادونيس.
فالنيل كمكان. في الرؤيا الصوفية. استخدم من خلال صورتين عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد. وكل صورة تعبر عن واحد من المفاهيم الصوفية الأساسية. ففي دومة ود حامد عبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم الذات التي تتوحد في مركزها المتناقضات. وهي ذات اتساع لانهائي. ويحتمل اتساعها هذا كل أشياء العالم (الواحد المتعدد). أما في (حالة انعدام وزن) فعبرت صورة النيل شعريا عن مفهوم فكرة الفناء الكونية في ذات الحبيب. والصورة في الابداع الصوفي تقوم اساسا على المجاز. حيث تكمن شعرية المجاز في لامرجعيته. أي بوصفه طاقة فذة لتوليد الأسئلة والصور. مما يتطلب بالمقابل طاقة فذة للقراءة وتوليد المعاني. حتى تواكب القراءة حركية الابداع. وهكذا احتشدت بنية المكان كصورة جمالية بالمعاني المفارقة لتلك المفاهيم الوصفية السطحية. وصارت بنية المكان في النص الابداعي مركزا لفريا وجماليا لتوليد المعانى المتجددة.
ومن جهة أخرى يمكننا ان نرى النيل كبنية دالة تتمحور حول مفهوم التطهر والخلاص الروحي. عند القاصة أغنيس لاكودو في قصتها (الربيبة) والتي ترى فيها تلك المرأة تخرج من السجن بعد ادانتها بقتل زوجها القاسي. نواها وهى تعتلي مركبا خشبيا في عرض النيل. حيث رأت وشاهدت وجهها منعكسا على صفحة الماء. ثم بدأت احداث تاريخها الشخصي تتري امام ناظريها في مرأة الماء. وعند نهاية الأحداث. تلقي بجسدها في الماء. هكذا صار للنيل دلالة أخرى في الوقت التي تتجاوز فيه رمزية النيل المعطاء واهب الخير المألوفة. وتختلف عن الصورة الجمالية للنيل كما تبين في الرؤيا الصوفية عند الطيب صالح واحمد الفضل احمد.. وتبرز دلالة النيل هنا وصورته الجمالية كمرموز للتطهر والاغتسال من الذنوب عند أفنيس لاكودو. حيث ترتبط الصورة بالشفافية والنقاء.
ورغم الاستخدامات الجمالية العديدة للنيل كمكان يشحن بالمعاني الكبيرة يظل يعبر عن فكرة قديمة وجدت في البناء الأسطوري. تقدم النيل كمقدس. فإذا رصدنا قيمة النيل في الأدب السوداني عموما شعرا كان أم نثرا. قلما نجد نصا أدبيا يخلو من هذه القيمة. وباستخدامات مختلفة وعديدة تشكل في مجملها مرموزا اسطو ري الدلالة. يوظف كعلامة مرجعية للوعي الجمحي، تستجير به من الانعطافات التاريخية القاهرة. وكمقدس في ذاته في المثيولوجيا أو كتجل للمقدس في الرؤيا الصوفية. بوصفها تجسيدا لرؤية جمالية تمسك العالم من خلال عمقه الكلي وتغوص في أبعاده الداخلية فيما يتجاوز الظاهر الي الباطن. والحاضر الى الغائب.
فإذا رجعنا الى معاوية نور في (الموت والقمر) نجد ان الأفق الظاهراتي قد عزل النيل عن كل احتشاد للمعني الماورائي فيه. وثبته كظاهرة مكانية تقع بين مكانين مختلفين. وهو حلقة وصل وفصل بينهما. طريق الاتصال والانفصال في ذات الحين. وبما هو موقع يحتل موقع البين بين. حيث التوتر والاضطراب والاستقرار. حيث يندلع صراع الأنا مع أناها وصراعها مع الآخر. أي أنه الموقع الذي تواجه فيه الأنا الوجود. باعتباره ليسر مكانا رحميا(من رحم) تمتلكه الأنا وتحتمي به. كالغرفة مثلا حتى تلك اللوحة الجميلة التي ترسمها أشعة الشمس العسجدية على سطح الماء. وتلك الخضرة الكثيفة التي تؤطر اللوحة، لا تثير في النفس أحلام اليقظة ومتعة الذكريات. بقدر ما تثير الأشجان ذات الحزن الشفيق وعواطف التشتت. هذا إذا كان المرء ناظرا اليه أو جالسا حوله. اما ان تكون على سطح مائه ومستخدمه كطريق عبور. فهو لا شك موقع لتوترات الأزمة وتفجر الأسئلة المصيرية كأي طريق آخر.
الغرفه. الفضاء المغلق. واضح أن الدراسة صعب عليها أن تفصح بما لديها من غير أن تبدا بتلك الغرفة التي أسسها مصطفى سعيد في (عمق الغرب) وحشد فيها كل مرموزيات الشرق ويسحره باعتبارها الشرق الساحر الغامض الخرافي. غرزها كخنجر أسطوري في قلب الغرب العقلاني الديكارتي وقتها. وبالمقابل بنى مصطفى سعيد غرفة محدودبة السطح (كظهر الثور) مثل بيوت الريف الانجليزي. بنى هذه الغرفة في قرية شرقية بسيطة تقع على منحنى النيل (النيل مرة أخرى يا له من أفعى ملتو) وحشد فيها الكتب والصور وكل مرموزيات الغرب العقلاني. هكذا لم يجد هذا الكاتب المبدع غير الغرفة كصورة جمالية تستوعب استراتيجية المعنى الذي يريده ويراه. انها تضمر المعاني كقلب الانسان تماما... مكمن للأسرار والخصوصية. ففي طب الغرب ينوجد شرق يضخ دما ساحرا وبالمقابل في قلب المشرق ينوجد غرب حاد.
كذلك فاجأتني تلك الغرفة ذات الجدران الخضراء (الأخضر بمستوياته اللونية) التي استطاع عادل حسن القصاص في قصته الرائعة (ذات صفاء... ذات نهار سادس أخضر) تجسيد صورتها الجمالية بلغة شاعرية هامسة. وهذا الهمس هو الذي ساهم في استحضار ذاك الحوار الداخلي المحموم بين الشاب الهامشي (بطل القصة ل وذاته. وهذا الحوار الذاتي يستحضر علاقته بالجدران تارة وتارة أخرى بصفاء. في علاقة تبادلية مريرة. حيث ان صفاء هي الحلم النائي والذي يتراءى بحضور كنيف من ثم تجئ الجدران كملاذ آمن، كحصان تشخوف. منغلق على صمت سرمدي إلا أنه اخضر حميم. فكيف تتفكك علاقة الجدران بالحبيبة وكلاهما سامت. وقد احالتهما الذات المنشطرة بشوق لافح الى حالة دف ء مر تجئ. فلماذا لا نقول أن هذه العمورة الجمالية خلقها البحث عن ملاذ هادئ وريف ؟وما لهدوء الو ريف الا جدران وامرأة. تكسوهما الخضرة بمستوياتها المتعددة. فكيف السبيل اليهما وكلاهما يمتلكهما الآخر الاجتماعي السلطوي. هكذا أسئلة الهم الاجتماعي لا نستطيع الفكاك منها. وخاصة عندما تأتي متوارية خلف حلم جارح. حيث تستطيل حواجز العزلة بيننا وبين الآخرين (أحباب وأعداء،) انها أشبه بمن يسجن في العراء. أن تسجن خارج الأسرار يعني أن تقذف في التيه. وفي هذه الحالة فقط تصبح ضرورة أن تستدعي جدرانا او خيمة لتضمك اليها. وتلتف حولك وتنتمي اليك. كأم أو حبيبة. لحظتها تستطيع أن تحلم احلام اليقظة التي تنتجها الغرفة الدفيئة. وليمة كوابيس الألم المر التي تنتجها العزلة والتيه.
وفي حالة أخرى تبدو الغرفة كمأوى لحديث العزلة. او كملاذ ينقصا الدف ء بغرفة ذات جدران تحتاج للمسات آخر حميم يفك عتمتها. مثل تلك التي صورها جماليا القاص احمد شريف في قصته (منطقة الصفر) يقول النص: (بغباء وعصبية حادين. يرف مصدرهما جيدا. أوشك أن يقذف حذاءه علو حمامة دخلت حجرته ولكنه تراجع فجأة. حيث رأى الحمامة وقد شرعت تلتقط من علو الأرض فتات الخبز وحبوب الغول الصغيرة المتبقية من الليلة الماضية. تصلب في مكانه بشكل مضحك ولكنه قد فقد القدرة على الابتسام ثم أنزل الحذاء برفق الى جواره في الفراش ويدا يعود الى حاله الأول في به، كالمريض حتى تمدد تماما ودون أن يحرد ساكنا خوف أن تطير الحمامة بعيدا وتتركه وحيدا. فكان ذلك من ابرز النجاحات التي حققها في الفترة الأخيرة.) انها الغرفة المثالية لأحلام اليقظة وكأن المأوى لا يجدي مع الوحدة والاستيحاش، فالمأوى يحتاج الى آخر خاص (أنثى) تفك برودة الوحشة. هذا الرجل يحول كل الأشياء التي حوله الى اشارة تحيله الى علاقات الأنثى. (الحمامة الوديعة وصوت الحذاء) هذه الغرفة تضعنا امام مغزى المأوى الحقيقي باعتباره مفهوما انسانيا متكامل الوجود في نسيجه. فالماوى ليست جدرانا فحسب تحمي الانسان من الرياح والصقيع والأمطار والحرارة. إنما ترتبط بوجود الأنثى والإلفة. والأنثى هي أصل المأوى حيث هي التي يرجع اليها تاسيس ول مأوى في تاريخ البشرية.
وفي ذات السياق نجد كوخ الذكريات العاصفة، ذلك الكوخ الشر الذي صوره جماليا القاص يا كوب جل أكول في قصته الرائعة (عودة العاصفة) والذي تسكنه امرأة عجوز وحيدة. تجتر ذكريات حياتها المريرة. تاريخها الشخصي. الذي حاولت فيه أن تصنع بعض النجاحات السعيدة خارج النظام الاجتماعي. ولكنها فشلت. وذهب العمر وصارت ضعيفة ومنهكة. تفترش هذا الكوخ المتهالك الأي يقع في طرف المدينة (جوبا) وهي ترقد على طرف الحياة. ولا أود هنا أن أشير الى ان هناك تشابها بين حالة المرأة العجوز وكوخها المتهالك. ولكن أود أن أربط الحديث بتلك الدلالة الكلية للمأوى والذي لكي يتكامل مفهومه انسانيا لابد من جدران أخرى للمرء، جدران تصنعها حول الانسان علاقته بالآخر الحميم. فكأن الانسان يحتاج لحمايته من الطبيعة لجدران صما، ويحتاج لحمايته من صقيع العزلة النفسية والاجتماعية لجدران عاطفية من لحم ودم واحساس تحتوي شوقه وحرارة أنفاسه. انها جدلية الخارج والداخل. التي تتساوى فيها غرفة أحمد شريف وكوخ يا كوب جل أكول. رغم ان الكوخ يرتبط بدلالات أخرى ضمن شبكة العلاقات التي انتجها النص ولكن در استنا هذه تنطلق من البحث في الصور الجمالية وتحاول اكتشاف معان أخرى للمكان باعتباره ظاهرة ارتبطت بالانسان في سياقه الاجتماعي والتاريخي والرمزي ان شئنا الدقة. فكل انسان يشبه كوخه (أرى كوخك أي غرفتك اقل لكن من أنت) فهجمن يا كوب جل أكول تشبه كوخها المتهالك المعزول. وعندما هبت العاصفة للمرة الثانية بعد ثلاثين عاما دمر الكوخ والعجوز معا. لذا أطلقت عليه كوخ الذكريات العاصفة. باعتباره ماوى للكهولة والعجز. بيت هش المفاصل. فعل فيه الزمن ما فعلت به الطبيعة بعواصفها وأمطارها.. فيصير الكوخ كالانسان تماما هشا متهالكا أيلا للسقوط. لا يقوى على الصراع. فاقدا أهم خصائصه التي وجد من أجلها وهي الحماية. وبدون ذلك يكون مجرد أثر للماضي كتلك العجوز التي سارت بفعل الزمن لا تقوى على الفعل الانساني ماديا ومعنويا. فصارت تجتر الذكريات وتستدعي الأثر. فهناك علاقة خفية ومضمرة بين المكان والانسان فحينما تحل الكارثة بشروطها القاسية وتصيب روح المكان. فإن الخلل سرعان ما يدب في الانسان الذي يحيل فيه كنتيجة لهذا الارتباط فيتبدى المكان كشخصية محورية يدور حولها الوعى المركزي. حيث ينشأ بينهما وحدة تاريخ ووجود.
وغرفة الذكريات هذه تبدأ في تقمص هذه الحالة عندما يبدا انسانها الذي تأويه في فقدان أحلام يقظته الحميمة. وقد تقادم عليه العمر وصار العالم حوله مجرد ذكريات يجسدها خياله الفج. والفجاجة هنا يخلقها الفرض الذي من أجله استدعيت هذه الذكريات. والتي تحضر مجسدة كبديل معادل لحالة فقدان القدرة على الفعل والتاثير الانسانيين في العالم. كغرفة مريم في قصة (الملكة والعرش) لعيسى الحلو التي تمثل مسرح أحداث الماضي التي يعاد تجسيدها بكامل ديكوراتها.
(كان المساء قد بدا.. حينما أنهت مريم زينتها، واتجهت للحائط الغربي في الصالون.. حيث تنزل الستائر الثقيلة، ذات الحافات البيضاء وهي تتهدل. داكنة على خيطان الصالون. فهو بهو شرقي كبير تتوسطه نافورة مزينة بالقيشاني اللامع الملون.. وهو بني خصيما لتستقبل فيه مريم زوارها.. الساعة الكبيرة الثابتة معلقة. في الوسط باقة ورد ندية. ورصت أدوات وأواني العشاء. سرفيس كامل من الخزف الصيني المورد.. ملاعق وشوك وسكاكين وكؤوس مذهبة الأطراف. وكان بخور الند والصندل يتصاعد في الصالون زكيا فواحا).
هكذا هيأت مريم العجوز نفسها وهيأت المسرح (الصالون) للبده في مسرحية كل مساء. في انتظار زوار وهميين لا يأتون. كانوا يملأون حياتها. بالزهو أيام شبابها النضر.
هناك أيضا الغرف المعادية. تلك الغرف التي تحدث عنها الناقد الروسي (مخاييل باختين) كغرف التحقيق والزنارين والغرف النية ذات الجدران السوداء الداكنة.
كذلك هناك غرف كاملة الدفء والعاطفة ترفل بالانسانية. كغرفة محمود وعروسه في أعلى جبل فرتيت. في قصة (الخريف) للقاص زهاء الطاهر. وهي الغرفة التي شهدت حمى التفاصيل الحميمة والنزق الحر بين محمود وعروسته وهما يقضيان شهر العسل. وهذه الغرفة بالضد تماما عن الغرفة التي صورها القاص أحمد عثمان عمر في قصته (تخمة الحوت البرئ) والتي اغتصب فيها الطفيلي الثري بملامحه الشريرة براءة البنت التي اشتواها بماله من أبيها كزوجة له. وهي تشبه في عداوتها غرفة المأساة التي شهدت قتل ود الريس على يد حسنة بنت محمود ثم قتلت نفسها وفاضت الغرفة بالدماء الحارة المسكوية على فراش ليلة الدخلة. هي الغرفة التي يقتحمها الآخر المعادي الذي يريد أن يفرض وجوده بالقوة والقهر ويغتصب عاطفة وجسدا ليسا له.
الشارع. الفضاء المفتوح.
الشارع هو الفضاء المفتوح، المكان الذي يمر به الجميع. والذي توجد فيه الأنا متحفزة ومتوترة بوجود الآخرين. حيث تتضارب وتتقاطع الانفعالات والأهواء. وتحتد المشاعر بتوترات الأسئلة المصيرية وصراع الإرادات والمصالح والمطامع. فتبدو الأنا في حالة هذيان وتداع. تلتقط تفاصيل الشارع وأشياءه وهي في حالة حوار مرير مع ذاتها. فالشارع مصنع للأحداث الكبيرة ومسرح لها. وهو الضمير الجمعي الذي يضر الرؤى والتصورات الجماعية وفي ذات الوقت يتجلى على سطحه تناقضات الفئات والجماعات المختلفة وتبين اشاراتها بعمق آخر يمور تحت المجاري السرية التي تتفاعل لتشكل صيرورة التاريخ.
ففي قصة ( وردة حمراء من أجل مريم) للقاص عيسى الحلو. يمكننا أن نفهم جليا امكانيات الشارع في محمولاته الدلالية. ليكون موقعا لصراع الإرادات بل مسرحا تتجلى فيه التناقضات الاجتماعية (ومنذ الصباح حتى المساء تجرى على الشارع الرئيسي المرصوف بالأسفلت. والذي تحيطه أشجار اللبخ الضخمة، تجرى مسرعة حافلات النقل العام والباصات. وعلى طرفيه يجلس باعة 0فواكه وباعة البطيخ حول الأكوام الخضراء وفي المساء حين تغمض الرؤية.. يختبئ العشاق وبائعو الدولارات والمخدرات. وتجئ سيارات صغيرة.. تبطئ. عند منعرج الشارع مطفأة المصابيح، تندس فيها فتيات مجهولات في بواكير المساء. تنزل من الباصات الأهلية. الهالكة عجائز النساء. وهن يحملن سلالهن المحملة بالخضار واللحوم من السوق الكبير)
مما لا شك فيه أنها صورة سينمائية تبين ملامح شارع كبير في مدينة الخرطوم وحركة الناس فيه. وما يحمله من أسرار طوال اليوم. إذ أنه يفصل بين عالمين متناقضين. (عالم الأغنياء وعالم الفقراء) أما الشارع نفسه فهو مسرح يبين تجليات هذا التناقض التاريخي في أشكاله وصوره الأولية. فهو يبدو كوعاء أنطلوجي لتمظهرات الوجود في سياق سيرورة التاريخ.
ويمكن أن نلمس هذه الصورة في شكلها المأساوي في قصة (كرسي القماش) للقاص علي المك. حيث الشارع مسرح للمآسي الانسانية. فالمشارح كان شاهدا على اغتيال الطفولة والبراءة. وشاهدا كذلك على اختلاط الأصوات وفوضاها.حيث اختلفت الآراء وكل من موقع له أبدى وجهات النظر تجاه هذا الحدث المأساة (وتحمل الكرسي ثم تضعه على جدار الحجرة بعناية. كأنما قصدت أن يصيب راحة من بعد عناء. وترقد على السرير، والنهار صامت بد أن تغذى بدم فتاة. وقد تطل عليك زوجك بعد حين: أيها الجحيم ؟ الشارع أم البيت ؟ فلننتظر قدوم يومك الثاني في حياتك الجديدة !!).
وفي القصة الحديثة في الثمانينات، برز الشارع. كخلفية أساسية للمشهد السردي. حيث تبلور من خلال تقنية الكتابة، كأنه الشخصية الرئيسية التي تظهر بعمقها غير المحدود الذي يحتوي كل التناقضات ويتفجر بالأسئلة المصيرية. كعلامة للبطل الذي يحي الهم الجماعي والذي بدوره يحيل الأنا الى النحن. وبالتالي يستحضر الهناك الى الهنا. وبما هو كذلك يصير وعاء شاملا للزمن. أي الثابت الذي يصنع المتغير. وضمن هذا النسيب المتشابك من علاقات المعنى وجدليتها. يتأكد الشارع باعتباره الأمل المرتجئ وبه وفيه تتبلور آفاق المستقبل المختلف عن الحاضر المقيت. ففي بعض النماذج القصصية المتطورة لقصة الثمانينات نجد أن الروائي في حالة هذيان وتداع محموم وهو يقتحم الشارع. كأنه يندغم فيه وتتوحد ذات الراوي بذات الشارع في حوار محموم تارة وحميم تارة أخري، ويتحرك الراوي باتجاه الأشياء في الوقت الذي يعكس فيها ارتجاجه الصاخب وأسئلته المريرة. وتستمر جدلية هذه المرأيا المتعاكسة باتجاه لا ينتهي أواره. لاحظ هذا المقطع من قصة (القداس) للقاص محمد خلف الله سليمان: (جاءت بتنورة حمراء ولما لم أجد رغبة منها في الاجابة، توكلت على الله، وتركت شارع النهر وتخطيته الى سوق (العصافير) ومكتبات شارع المتنبي. وبذلك استطعت أن أسقط كل الاستثناءات العارضة عن تاريخي الشخصي.
تتشابك أزمتي. يتواصل ايقاع طبل متوتر. وصوت ناي، خرجت من الماء فارغا، سمعت صهيلا، وزغاريد نساء، غير أني لم أر خيلا، أو.... فأقمت وحدي عند عزلتي الحميمة.تأتي السيارات، وترش الشوارع بالماء، فينبت العشب فوق الاسفلت وتقذف الشمس الطالعة على ظلال البنايات خضرة لامعة).
كذلك يمكن أن نلاحظ مقطعا آخر من قصة (كائنات) للقاص الشاب هاشم ميرغني الحاج: (كنت مصلوبا على رمل الشارع، واقفا كالصوت على جسد الظهيرة. منتظرا طيف حافلة تقلني الى أم درمان، عندما عبرت الشارع لأستعيده، كان قد أكمل دورته في الظل الآخر واناغم هناك. غافلني ظلي في منتصف الوقت وصار لها ظلان). ان قصة الثمانينات وما بعدها يمكن أن توصف بدقة بأنها قصة الشارع، القصة ذات الكيان اللغوي الهزياني، الذي يكشف ويعري تناقضات العالم القاهر من خلال مسرح المواجهات الخفية، حيث تتوحد الذات بأرضها لتتعارك ضد قيم التشيؤ التي تحاول ابتلاعها وضد قيم الاستهلاك التي تقصيها. فيكشف الراوي عن تفاصيل أزمته وضعفه وانهزامه، ففي ذات الوقت الذي تلهب فيه هذه اللغة المحمومة التداعي. بأصوات التحدي. تبث قيم الارتكاز على الوعي الجمعي وتحاول الكشف عن المغيب والموارى لتخرجه لفضاء الشمس والريح والتعري. فضاء الشارع. وهو الفضاء الذي يهرع اليه كل انسان يعاني العزلة. العزلة بمفهومها الانطلوجي.حيث تعني الارتداد الى الذات البدائية والتي هي بالضرورة ذات جماعية. لا تحتفل بعزلتها وهامشيتها الا في الفضاءات المفتوحة. باعتبارها عزلة تؤسس للانعطاف التاريخي عزلة تترابط خيوطها جماعيا من خلال تصورات وأحلام جديدة للعالم. عكس العزلة المريضة السلبية التي تلجأ الى الغرف المغلقة الكئيبة لتجتر جراحاتها.. في انتظار موت متكلس.
اهوامش 1- غاستون باشلار. جماليات المكان، ت غالب هلسا 1982م
2- محمد برادة دراسات في القصة العربية. مؤسسة الأبحاث العربية ص 14، بيروت1986م.
3- أدونيس. السريالية والصوفية.
4. مؤلفات معاوية نور. دار نشر جامعة الخرطوم.
5- دومة ود حامد، الطيب صالح، دار العودة بيروت1984م، ص 52
|
|
|
|
|
|
|
|
|